تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة المزمل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } * { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } * { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } * { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } * { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } * { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } * { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } * { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } * { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } * { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } * { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } * { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } * { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } * { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } * { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } * { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } * { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } * { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } * { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تزمّل في ثوبه: التف، وزمّل: لف. قال امرؤ القيس:

كبيـر أنـاس فـي بجـاد مزمّـل    

وقال ذو الرمّة:

وكائن تخطت ناقتي من مفازة     ومن نائم عن ليلها متزمّل

تبتل إلى كذا: انقطع إليه، ومنه هبة بتلة، وطلقة بتلة، والبتول وبتل الحبل. قال الليث: البتل تمييز الشيء من الشيء،والبتول المرأة المنقطعة عن الرّجال لا شهوة لها ولا حاجة لها فيهم، والتبتل: ترك النكاح والزهد فيه، ومنه قول امرىءالقيس:

تضيء الظلام بالعشاء كأنها     منارة ممسى راهب متبتل

ومنه النهي عنالتبتل: أي عن الانقطاع عن التزويج. ومنه قيل للراهب متبتل، لانقطاعه عن الناس وانفراده للعبادة. والغصة: الشجي، وهو ما ينشببالحلق من عظم أو غيره، وجمعها غصص، والفعل غصصت، فأنت غاص وغصان، قال:

كنـت كالغصـان بالمـاء اعتصـاري    

الكثيب: الرمل المجتمع،وجمعه كثب وكثبان في الكثرة، وأكثبة في القلة. قال ذو الرمّة:

فقلت لها لا إن أهلي جيرة     لا كثبة الدهنا جميعاً ومالياً

المهيل: الذي يمر تحت الرجل، وهلت عليه التراب: صببته. وقال الكلبي: المهيل: الذي إذاوطئته القدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال، وأهلت لغة في هلت. الشيب: جمع أشيب. {عَدَداً يأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُقُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ ٱلْقُرْءانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاًإِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِى ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاًرَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِى وَٱلْمُكَذّبِينَ أُوْلِى ٱلنَّعْمَةِوَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلاْرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً إِنَّاأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَـٰهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَـٰهُ أَخْذاً وَبِيلاً }. هذه السورةمكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: {وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }والتي تليها، ذكره الماوردي. وقال الجمهور: هي مكية إلا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ } الخ، فإنه نزل بالمدينة.وسبب نزولها فيما ذكر الجمهور: أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره، رجع إلىخديجة فقال: «زملوني زملوني»، فنزلت: { يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ } ، وعلى هذا نزلت: {عَدَداً يأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ }. قالت عائشة والنخعي وجماعة:ونودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملاً بكساء. وقال قتادة: كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد. فنودي علىمعنى: يا أيها المستعد للعبادة. وقال عكرمة: معناه المزمل للنبوة وأعبائها، أي المشمر المجد، فعلى هذا يكون التزمل مجازاً، وعلىما سبق يكون حقيقة. وما رووا أن عائشة رضي الله عنها سئلت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطاً طوله أربععشرة ذراعاً، نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه عليه، إلى آخر الرواية؛ كذب صراح، لأن نزول {عَدَداً يأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ } بمكةفي أوائل مبعثة، وتزويجه عائشة كان بالمدينة. ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أن في آخر ما قبلها { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } الآيات، فأتبعه بقوله: {عَدَداً يأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ }، إعلاماً بأنه ممن ارتضاه من الرسل وخصه بخصائصوكفاه شر أعدائه. وقرأ الجمهور: {ٱلْمُزَّمّلُ }، بشد الزاي وكسر الميم، أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي. وقرأ أبي:المتزمل على الأصل؛ وعكرمة: بتخفيف الزاي. أي المزمل جسمه أو نفسه. وقرأ بعض السلف: بتخفيف الزاي وفتح الميم، أي الذيلف. وللزمخشري في كيفية نداء الله له بهذا الوصف كلام ضربت عن ذكره صفحاً، فلم أذكره في كتابي. وقال السهيلي:ليس المزمل باسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالةالخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى اللهعليه وسلم لعليّ كرم الله وجهه وقد نام ولصق بجنبه التراب: «قم أبا تراب»، إشعاراً بأنه ملاطف له، فقوله: {عَدَداًيأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ } فيه تأنيس وملاطفة. وقرأ الجمهور: {قُمِ ٱلَّيْلَ }، بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين؛ وأبو السمال:بضمها اتباعا للحركة من القاف. وقرىء: بفتحها طلباً للتخفيف. قال ابن جني: الغرض بالحركة الهروب من التقاء الساكنين، فبأي حركةتحرك الحرف حصل الغرض، وقم طلب. فقال الجمهور: هو على جهة الندب، وقيل: كان فرضاً على الرسول خاصة، وقيل: عليهوعلى الجميع. قال قتادة: ودام عاماً أو عامين. وقالت عائشة: ثمانية أشهر، ثم رحمهم الله نزلت: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ }الآيات، فخفف عنهم {قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً }. بين الاستثناء أن القيام المأمور به يستغرق جميع الليل، ولذلك صح الاستثناءمنه، إذ لو كان غير مستغرق، لم يصح الاستثناء منه، واستغراق جميعه بالقيام على الدوام غير ممكن، لذلك استثى منهلراحة الجسد؛ وهذا عند البصريين منصوب على الظرف، وإن استغرقه الفعل؛ وهو عند الكوفيين مفعول به. وفي قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار، كقوله: { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } في قراءة من نصب { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ } . قال وهب بن منبه: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: الثلث.وقيل: ما دون النصف، وجوزوا في نصفه أن يكون بدلاً من الليل ومن قليلاً. فإذا كان بدلاً من الليل، كانالاستثناء منه، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلاً منه. والضمير في منه وعليه عائد على النصف، فيصير المعنى: قمنصف الليل إلا قليلاً، أو انقص من نصف الليل قليلاً، أو زد على نصف الليل، فيكون قوله: أو انقص مننصف الليل قليًلا، تكراراً لقوله: إلا قليلاً من نصف الليل، وذلك تركيب غير فصيح ينزه القرآن عنه. قال الزمخشري: نصفهبدل من الليل، وإلا قليلاً استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل. والضمير في منه وعليه للنصف،والمعنى: التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما النقصانمن النصف والزيادة عليه. انتهى. فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول، لأنه على تقديره: قم أقل من نصفالليل كان قوله، أو انقص من نصف الليل تكراراً. وإذا كان {نّصْفَهُ }بدلاً من قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً }، فالضمير فينصفه إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى منه وهو الليل، لا جائز أن يعود على المبدل منه،لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير إلا قليلاً نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى البتة. وإن عادالضمير على الليل، فلا فائدة في الاستثناء من الليل، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس أن يكون التركيبقم الليل نصفه. وقد أبطلنا قول من قال: إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه، وأن التقدير: قم الليل نصفهإلا قليلاً منه، أي من النصف. وأيضاً ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليًلا، والضمير في نصفه عائد علىالليل، إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير: إلا نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لاتقومه، وأزد عليه النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصح، وليس المراد من الآية قطعاً. وقال الزمخشري: وإنشئت جعلت نصفه بدلاً من قليلاً، وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيامالزائد عليه؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل. وإن شئت قلت: لما كان معنى {قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *نّصْفَهُ }: إذا أبدلت النصف من الليل، قم أقل من نصف الليل، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل منالنصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل، وقم أنقص من ذلك إلا قل أو أزيد منه قليلاً، فيكون التخييرفيما وراء النصف بينه وبين الثلث، ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصفالنصف وهو الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع نصف الربع، كأنهقيل: أو زد عليه قليلاً نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع.انتهى. وما أوسع خيال هذا الرجل، فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد، والقرآن لا ينبغي، بل لا يجوز أن يحملإلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب، كما ذكرناه في خطبة هذا الكتاب. وممن نص على جواز أنيكون نصفه بدلاً من الليل أو من قليلاً الزمخشري، كما ذكرنا عنه. وابن عطية أورده مورد الاحتمال، وأبو البقاء، وقال:أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً من قليلاً، أو زد عليه، والهاء فيهما للنصف. فلو كان الاستثناء من النصف لصارالتقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه قليلاً. والقليل المستثنى غير مقدر، فالنقصان منه لا يتحصل. انتهى. وأماالحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل، ولم يذكر غيره. قال ابن عطية: وقد يحتمل عندي قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} أنه استثناء من القيام، فيجعل الليل اسم جنس. ثم قال: {إِلاَّ قَلِيلاً }، أي الليالي التي تخل بقيامها عندالعذر البين ونحوه، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب. انتهى، وهذا خلاف الظاهر. وقيل: المعنى أو نصفه، كما تقول: أعطهدرهماً درهمين ثلاثة، تريد: أو درهمين، أو ثلاثة. انتهى، وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه. وقال التبريزي: الأمربالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل، لأن الثلث الأول وقت العتمة، والاستثناء وارد على المأموربه، فكأنه قال: قم ثلثي الليل إلا قليلاً، ثم جعل نصفه بدلاً من قليلاً، فصار القليل مفسراً بالنصف من الثلثين،وهو قليل من الكل. فقوله: {أَوْ * نَقُصُّ * مِنْهُ }: أي من المأمور به، وهو قيام الثلث، {قَلِيلاً }:أي ما دون نصفه، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ }، أي على الثلثين، فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين. وقالأبو عبد الله الرازي: قد أكثر الناس في تفسيره هذه الآية، وعندي فيه وجهان ملخصان، وذكر كلاماً طويلاً ملفقاً يوقفعليه من كتابه. وتقدّم تفسير الترتيل في آخر الإسراء. {قَوْلاً ثَقِيلاً }: هو القرآن، وثقله بما اشتمل عليه منالتكاليف الشاقة، كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة. قال الحسن: إن الهذ خفيف، ولكن العمل ثقيل. وقال أبو العالية: والقرطبي: ثقله علىالكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده. وقيل: ثقله ما كان يحل بجسمه حالة تلقيه الوحي، حتى كانت ناقتهتبرك به ذلك الوقت، وحتى كادت رأسه الكريمة أن ترض فخذ زيد بن ثابت. وقيل: كلام له وزن ورجحان ليسبالسفساني. قال ابن عباس: كلاماً عظيماً. وقيل: ثقيل في الميزان يوم القيامة، وهو إشارة إلى العمل به. وقيل: كناية عنبقائه على وجه الدهر، لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه. {ءانٍ * قُمِ ٱلَّيْلَ }، قال ابنعمر وأنس ابن مالك وعليّ بن الحسين: هي ما بين المغرب والعشاء. وقالت عائشة ومجاهد: هي القيام بعد اليوم، ومنقام أول الليل قبل اليوم، فلم يقم ناشئة الليل. وقال ابن جبير وابن زيد: هي لفظة حبشية، نشأ الرجل: قاممن الليل، فناشئة على هذا جمع ناشىء، أي قائم. وقال ابن جبير وابن زيد أيضاً وجماعة: ناشئة الليل: ساعاته، لأنهاتنشأ شيئاً بعد شيء. وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن وأبو مجلز: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة، وما كانقبلها فليس بناشئة. قال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل، وقال هو وابن الزبير: الليل كله ناشئة. وقال الكسائي: ناشئةالليل أوله. وقال الزمخشري: ناشئة الليل: النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي تنهض وترتفع من نشأتالسحابة إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض. قال الشاعر:

نشأنا إلى خوص برى فيها السرى     وألصق منها مشرفات القماحد

أو: قيام الليل، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعله كالعاقبة.انتهى. وقرأ الجمهور: وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدوداً. وقرأ قتادة وشبل، عن أهل مكة: بكسر الواو وسكون الطاء والهمزةمقصورة. وقرأ ابن محيصن: بفتح الواو ممدوداً، والمعنى أنها أشد مواطأة، أي يواطىء القلب فيها اللسان، أو أشد موافقة لمايراد من الخشوع والإخلاص. ومن قرأ {وَطْأً }: أي أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل، أو أثقل وأغلظ على المصليمن صلاة النهار، كما جاء: «اللهم اشدد وطأتك على مضر». وقال الأخفش: أشد قياماً. وقال الفراء: أثبت قراءة وقياماً. وقالالكلبي: أشد نشاطاً للمصلي لأنه في زمان راحته. وقيل: أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت فراغ،فالعبادة تدوم. {وَأَقْوَمُ قِيلاً }: أي أشد استقامة على الصواب، لأن الأصوات هادئة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قالقتادة ومجاهد: أصوب للقراءة وأثبت للقول، لأنه زمان التفهم. وقال عكرمة: أتم نشاطاً وإخلاصاً وبركة. وحكى ابن شجرة: أعجل إجابةللدعاء. وقال زيد بن أسلم: أجدر أن يتفقه فيها القارىء. وقرأ الجمهور: {سَبْحاً }: أي تصرّفاً وتقلباً في المهمات، كمايتردّد السابح في الماء. قال الشاعر:

أبا حوالكم شرق البلاد وغربها     ففيها لكم يا صاح سبح من السبح

وقيل: سبحاً سبحة، أي نافلة. وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة: سبخاً بالخاء المنقوطة ومعناه: خفة من التكاليف، والتسبيخ:التخفيف، وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه، فمعناه: انتشار الهمة وتفرّق الخاطر بالشواغل. وقيل: فراغاً وسعة لنومكوتصرّفك في حوائجك. وقيل: المعنى إن فات حزب الليل بنوم أو عذر. فليخلف بالنهار، فإن فيه سبحاً طويلاً. قال صاحباللوامح: وفسر ابن يعمر وعكرمة سبخاً بالخاء معجمة. وقال: نوماً، أي تنام بالنهار لتستعين به على قيام الليل. وقد تحتملهذه القراءة غير هذا المعنى، لكنهما فسراها، فلا يجاوز عنه. انتهى. وفي الحديث: لا تسبخي بدعائك ، أي لا تخففي. وقالالشاعر:

فسبخ عليك الهم واعلم بأنه     إذا قدّر الرحمن شيئاً فكائن

وقال الأصمعي: يقالسبح الله عنك الحمى، أي خففها. وقيل: السبخ: المد، يقال: سبخي قطنك: أي مديه، ويقال لقطع القطن سبائخ، الواحدة سبيخة،ومنه قول الأخطل:

فأرسلوهنّ يذرين التراب كما     يذري سبائخ قطن ندف أوتار

{وَٱذْكُرِ ٱسْمَرَبّكَ }: أي دم على ذكره، وهو يتناول كل ذكر من تسبيح وتهليل وغيرهما، وانتصب {تَبْتِيلاً } على أنه مصدرعلى غير الصدر، وحسن ذلك كونه فاصلة. وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: رب بالخفض على البدل من ربك؛وباقي السبعة: بالرفع؛ وزيد بن عليّ: بالنصب؛ والجمهور: المشرق والمغرب موحدين؛ وعبد الله وأصحابه وابن عباس: بجمعهما. وقال الزمخشري، وعنابن عباس: على القسم، يعني: خفض رب بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: لا إله إلا هو، كما تقول:والله لا أحد في الدار إلا زيد. انتهى. ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس، إذ فيه إضمار الجارفي القسم، ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الله، ولا يقاس عليه. ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذاكانت اسمية فلا تنفيء إلا بما وحدها، ولا تنفي بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً وبماض في معناه قليلاً، نحوقول الشاعر:

ردوا فوالله لا زرناكم أبدا     ما دام في مائنا ورد لورّاد

والزمخشري أورد ذلكعلى سبيل التجويز والتسليم، والذي ذكره النحويون هو نفيها بما نحو قوله:

لعمرك ما سعد بخلة آثم     ولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر

{فَٱتَّخِذُوهُ * وَكِيلاً }، لأن من انفرد بالألوهية لم يتخذ وكيلاً إلا هو.{وَٱصْبِرْ }، {وَٱهْجُرْهُمْ }: قيل منسوخ بآية السيف. {وَذَرْنِى وَٱلْمُكَذّبِينَ }: قيل نزلت في صناديد قريش، وقيل: في المطعمين يومبدر، وتقدّمت أسماؤهم في سورة الأنفال، وتقدّم شرح مثل هذا في { فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } . {أُوْلِى ٱلنَّعْمَةِ }:أي غضارة العيش وكثرة المال والولد، والنعمة بالفتح: التنعم، وبالكسر: الأنعام وما ينعم به، وبالضم: المسرّة، يقال: نعم ونعمة عين.{وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً }: وعيد لهم بسرعة الانتقام منهم، والقليل: موافاة آجالهم. وقيل: وقعة بدر. {إِنَّ لَدَيْنَا }: أي ما يضادنعمتهم، {أَنكَالاً }: قيوداً في أرجلهم. قال الشعبي: لم تجعل في أرجلهم خوفاً من هروبهم، ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوااستقلت بهم. وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال، والأول أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء:

دعاك فقطعت أنكاله     وقد كن قبلك لا تقطع

{وَجَحِيماً }: ناراً شديدة الايقاد. {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ }، قال ابن عباس: شوكمن نار يعترض في حلوقهم، لا يخرج ولا ينزل. وقال مجاهد وغيره: شجرة الزقوم. وقيل: الضريع وشجرة الزقوم. {يَوْمٍ }منصوب بالعامل في الدنيا، وقيل: بذرني، {تَرْجُفُ }: تضطرب. وقرأ الجمهور: {تَرْجُفُ } بفتح التاء مبنياً للفاعل؛ وزيد بن علي:بضمها مبنياً للمفعول، {كَثِيباً }: أي رملاً مجتمعاً، {مَّهِيلاً }: أي رخواً ليناً. قيل: ويقال: مهيل ومهيول، وكيل ومكيول، ومدينومديون، الإتمام في ذوات الياء لغة تميم، والحذف لأكثر العرب. ولما هدد المكذبين بأهوال القيامة، ذكرهم بحال فرعون وكيفأخذه الله تعالى، إذ كذب موسى عليه السلام، وأنه إن دام تكذيبهم أهلكهم الله تعالى فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ }،والخطاب عام للأسود والأحمر. وقيل: لأهل مكة، {رَسُولاً شَـٰهِداً عَلَيْكُمْ }، كما قال: { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـؤُلآء } . وشبهإرساله إلى أهل مكة بإرسال موسى إلى فرعون على التعيين، لأن كلاً منهما ربا في قومه واستحقروا بهما، وكان عندهمعلم بما جرى من غرق فرعون، فناسب أن يشبه الإرسال بالإرسال. وقيل: الرسول بلام التعريف، لأنه تقدم ذكره فأحيل عليه.كما تقول: لقيت رجلاً فضربت الرجل، لأن المضروب هو الملقى، والوبيل: الرديء العقبى، من قولهم: كلأ وبيل: أي وخيم لايستمرأ لثقله، أي لا ينزل في المريء. قوله عز وجل: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدٰنَ شِيباً *السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً * إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً * إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُأَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ }. {يَوْماً }منصوب بتتقون، منصوب نصب المفعول به على المجاز، أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا؟ والضميرفي {يَجْعَلْ } لليوم، أسند إليه الجعل لما كان واقعاً له على سبيل المجاز. وقال الزمخشري: {يَوْماً } مفعول به،أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً؟ انتهى. وتتقون مضارع اتقى،واتقى ليس بمعنى وقى حتى يفسره به، واتقى يتعدى إلى واحد، ووقى يتعدى إلى اثنين. قال تعالى: {وَوَقَـٰهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ}، ولذلك قدره الزمخشري: تقون أنفسكم يوم القيامة، لكنه ليس تتقون بمعنى تقون، فلا يتعدى بعديته، ودس في قوله: ولمتؤمنوا وتعملوا صالحاً الاعتزال. قال: ويجوز أن يكون ظرفاً، أي فيكف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟قال: ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة؟ والجزاء لأن تقوىالله خوف عقابه. انتهى. وقرأ الجمهور: {يَوْماً } منوناً، {يَجْعَلْ } بالياء؛ والجملة من قوله: {يَجْعَلْ } صفة ليوم، فإنكان الضمير في {يَجْعَلْ } عائداً على اليوم فواضح وهو الظاهر؛ وإن عاد على الله، كما قال بعضهم، فلا بدمن حذف ضمير يعود إلى اليوم، أي يجعل فيه كقوله: {يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ }. وقرأ زيد بن عليّ: بغيرتنوين: نجعل بالنون، فالظرف مضاف إلى الجملة، والشيب مفعول ثان ليجعل، أي يصير الصبيان شيوخاً، وهو كناية عن شدة ذلكاليوم. ويقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، والأصل فيه أن الهموم إذا تفاقمت أسرعت بالشيب. قال المتنبي:

والهم يخترم الجسيم نحافة     ويشيب ناصية الصبي ويهرم

وقال قوم: ذلك حقيقة تشيبرؤوسهم من شدة الهول، كما قد يرى الشيب في الدنيا من الهم المفرط، كهول البحر ونحوه. وقال الزمخشري: ويجوز أنيوصف اليوم بالطول، وأن الاطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة. وقال السدي: الولدان: أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين، والظاهر العموم، أييشيب الصغير من غير كبر، وذلك حين يقال لآدم: يا آدم قم فابعث بعث النار. وقيل: هذا وقت الفزع قبلأن ينفخ في الصور نفخة الصعق. {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ }، قال الفراء: يعني المظلة تذكر وتؤنث، فجاء منفطر على التذكير،ومنه قول الشاعر:

فلو رفع السماء إليه قوما     لحقنا بالسماء وبالسحاب

وعلى القول بالتأنيث،فقال أبو علي الفارسي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، وأعجاز نخل منقعر. انتهى، يعني أنها من باب اسمالجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماء، واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث، فجاء منفطر على التذكير.وقال أبو عمرو بن العلاء، وأبو عبيدة والكسائي، وتبعهم القاضي منذر بن سعيد: مجازها السقف، فجاء عليه منفطر، ولم يقلمنفطرة. وقال أبو علي أيضاً: التقدير ذات انفطار كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات رضاع، فجرى على طريق التسبب. وقال الزمخشري:أو السماء شيء منفطر، فجعل منفطر صفة لخبر محذوف مقدر بمذكر وهو شيء، والانفطار: التصدع والانشقاق؛ والضمير في به الظاهرأنه يعود على اليوم، والباء للسبب، أي بسبب شدة ذلك اليوم، أو ظرفية، أي فيه. وقال مجاهد: يعود على الله،أي بأمره وسلطانه. والظاهر أن الضمير في {وَعْدَهُ } عائد على اليوم، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي أنهتعالى وعد عباده هذا اليوم، وهو يوم القيامة، فلا بد من إنجازه. ويجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، فيكونمن إضافة المصدر إلى الفاعل، وإن لم يجر له ذكر قريب، لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو الله تعالى.{إِنَّ هَـٰذِهِ }: أي السورة، أو الأنكال وما عطف عليه، والأخذ الوبيل، أو آيات القرآن المتضمنة شدة القيامة، {تَذْكِرَةٌ}: أي موعظة، {فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً } بالتقرب إليه بالطاعة، ومفعول شاء محذوف يدل عليه الشرط، لأنمن شرطية، أي فمن شاء أن يتخذ سبيلاً اتخذه إلى ربه، وليست المشيئة هنا على معنى الإباحة، بل تتضمن معنىالوعد والوعيد. {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ }: تصلي، كقوله: {قُمِ ٱلَّيْلَ }. لما كان أكثر أحوال الصلاة القيامعبر به عنها، وهذه الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمرار استعماله من أمر قيام الليل، إما على الوجوب، وإما علىالندب، على الخلاف الذي سبق؛ {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ }: أي زماناً هو أقل من ثلثي الليل، واستعير الأدنى، وهوالأقرب للأول، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك. وقرأ الجمهور: {مِنثُلُثَىِ } بضم اللام؛ والحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السميفع وهشام وابن مجاهد، عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل: بإسكانها،وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح. وقرأ العربيان ونافع: ونصفه وثلثه، بجرهما عطفاً على {إِنَّ رَبَّكَ}؛ وباقي السبعة وزيد بن علي: بالنصب عطفاً على {أَدْنَىٰ }، لأنه منصوب على الظرف، أي وقتاً أدنى من ثلثيالليل. فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أول السورة، لأنه إذا قام الليل إلا قليلاً صدق عليه {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُأَنَّكَ }، لأن الزمان الذي لم يقم فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثين، فيصدق عليه قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً }. وأماقوله: {وَنِصْفَهُ } فهو مطابق لقوله أولاً: {نّصْفَهُ }. وأما ثلثه فإن قوله: {أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } قد ينتهيالنقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلث الليل. وأما قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ }، فإنه إذا زاد على النصفقليلاً، كان الوقت أقل من الثلثين، فيكون قد طابق قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ }، ويكون قوله تعالى: {نّصْفَهُ أَوِٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } شرحاً لمبهم ما دل عليه قوله: {قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً }، وعلى قراءة النصب. قالالحسن وابن جبير: معنى تحصوه: تطيقوه، أي قدر تعالى أنهم يقدرون الزمان على ما مر في أول السورة، فلم يطيقواقيامه لكثرته وشدته، فخفف تعالى عنهم فضلاً منه، لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات. وأما قراءة الجر، فالمعنى أنه قياممختلف؛ مرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من النصف، ومرة أدنى من الثلث، وذلك لتعذر معرته البشر مقادير الزمان مععذر النوم. وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى، والبشر لا يحصون ذلك، أي لا يطيقون مقادير ذلك، فتاب عليهم،أي رجع بهم من الثقل إلى الخفة وأمرهم بقيام ما تيسر. وعلى القراءتين يكون علمه تعالى بذلك على حسب الوقوعمنهم، لأنهم قاموا تلك المقادير في أوقات مختلفة قاموا أدنى من الثلثين ونصفاً وثلثاً، وقاموا أدنى من النصف وأدنى منالثلث، فلا تنافي بين القراءتين. وقرأ الجمهور: {وَثُلُثَهُ } بضم اللام؛ وابن كثير في رواية شبل: بإسكانها؛ وطائفة: معطوف علىالضمير المستكن في {تَقُومُ }، وحسنة الفصل بينهما. وقوله: {وَطَائِفَةٌ مّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } دليل على أنه لم يكن فرضاًعلى الجميع، إذ لو كان فرضاً، لكان التركيب: والذين معك، إلا إن اعتقد أنهم كان منهم من يقوم في بيته،ومنهم من يقوم معه، فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع. {وَٱللَّهُ يُقَدّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ }: أي هو وحدهتعالى العالم بمقادير الساعات. قال الزمخشري: وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير.انتهى. وهذا مذهبه، وإنما استفيد الاختصاص من سياق الكلام لا من تقديم المبتدأ. لو قلت: زيد يحفظ القرآن أو يتفقهفي كتاب سيبويه، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص. وأن مخففة من الثقيلة، والضمير في {*نحصوه}، الظاهر أنه عائد علىالمصدر المفهوم من يقدر، أي أن لن تحصوا تقدير ساعات الليل والنهار، لا تحيطوا بها على الحقيقة. وقيل: الضمير يعودعلى القيام المفهوم من قوله: {بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }. قيل: فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ماأمر به. وقيل: رجع بكم من ثقل إلى خف، ومن عسر إلى عسر، ورخص لكم في ترك القيام المقدر. {فَٱقْرَءواْمَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ }: عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود، أي فصلواما تيسر عليكم من صلاة الليل. وقيل: وهذا ناسخ للأول، ثم نسخاً جميعاً بالصلوات الخمس. وهذا الأمر بقوله: {*فاقرؤا}، قالالجمهور: أمر إباحة، وقال ابن جبير وجماعة: هو فرض لا بد منه، ولو خمسين آية. وقال الحسن وابن سيرين: قيامالليل فرض، ولو قدر حلب شاة. وقيل: هو أمر بقراءة القرآن بعينها، لا كناية عن الصلاة. وإذا كان المراد: فاقرؤافي الصلاة ما تيسر، فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ، بل إذا قرأ ما تيسر له وسهل عليه أجزأه وقدره،وأبو حنيفة بآية، حكاه عنه الماوردي؛ وبثلاث. حكاه ابن العربي؛ وعين مالك والشافعي ما تيسر، قالا: هو فاتحة الكتاب، لايعدل عنها ولا يقتصر على بعضها. {ٱلْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ }: بيان لحكمة النسخ، وهي تعذر القيامعلى المرضى، والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله، {فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }، كرر ذلك على سبيل التوكيد.ثم أمر بعمودي الإسلام البدني والمالي، ثم قال: {وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }: العطف يشعر بالتغاير، فقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا }أمر بأداء الواجب، {وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ }: أمر بأداء الصدقات التي يتطوع بها. وقرأ الجمهور: {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } بنصبهما،واحتمل هو أن يكون فصلاً، وأن يكون تأكيداً لضمير النصب في {تَجِدُوهُ }. ولم يذكر الزمخشري والحوفي وابن عطية فيإعراب هو إلا الفصل. وقال أبو البقاء: هو فصل، أو بدل، أو تأكيد. فقوله: أو بدل، وهم لو كان بدلاًلطابق في النصب فكان يكون إياه. وقرأ أبو السمال وابن السميفع: هو خير وأعظم، برفعهما على الابتداء أو الخبر. قالأبو زيد: هو لغة بني تميم، يرفعون ما بعد الفاصلة، يقولون: كان زيد هو العاقل بالرفع، وهذا البيت لقيس بنذريح وهو:

نحن إلى ليلى وأنت تركتها     وكنت عليها بالملا أنت أقدر

قال أبوعمرو الجرمي: أنشد سيبويه هذا البيت شاهداً للرفع والقوافي مرفوعة. ويروى: أقدر. وقال الزمخشري: وهو فصل وجاز وإن لم يقعبين معرفتين، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. انتهى. وليس ما ذكر متفقاً عليه. ومنهم منأجازه، وليس أفعل من أحكام الفصل ومسائله، والخلاف الوارد فيها كثير جداً، وقد جمعنا فيه كتاباً سميناه بالقول الفصل فيأحكام الفصل، وأودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا.