تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الماعون
{ أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ } * { فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } * { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } * { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } * { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } * { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ } * { وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ }
سها عن كذا يسهو سهوراً: لها عنه وتركه عن غفلة.
الماعون: فاعولمن المعن، وهو الشيء القليل. تقول العرب: ما له معن، أي شيء قليل، وقاله قطرب.
وقيل: أصله معونة والألف عوضمن الهاء، فوزنه مفعل في الأصل على مكرم، فتكون الميم زائدة، ووزنه بعد زيادة الألف عوضاً ما فعل.
وقيل: هواسم مفعول من أعان يعين، جاء على زنة مفعول، قلب فصارت عينه مكان الفاء فصار موعون، ثم قلبت الواو ألفاً،كما قالوا في بوب باب فصار ماعون، فوزنه على هذا مفعول.
وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد: الماعون في الجاهلية: كلما فيه منفعة حتى الفاس والدلو والقدر والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل أو كثير، وأنشدوا بيت الأعشى:
بأجود منه بماعونه | إذا ما سماءهم لم تغم |
وقالوا: المراد به في الإسلام الطاعة، وتأتي أقوال أهلالتفسير فيه إن شاء الله تعالى عز وجل. {أَرَءيْتَ ٱلَّذِى يُكَذّبُ بِٱلدّينِ * فَذَلِكَ ٱلَّذِى يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَيَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ * وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ}. هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول ابن عباس وقتادة. قال هبة الله المفسر الضرير: نزلنصفها بمكة في العاصي بن وائل، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق. ولما عدد تعالى نعمه على قريش،وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء، اتبع امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه. ونزلت في أبي جهل، أو الوليد بنالمغيرة، أو العاصي بن وائل، أو عمر بن عائذ، أو رجلين من المنافقين، أو أبي سفيان بن حرب، كان ينحرفي كل أسبوع جزوراً، فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصا، أقوال آخرها لابن جريج. والظاهر أن {أَرَأَيْتَ } هيالتي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الذي، والآخر محذوف، فقدره الحوفي: أليس مستحقاً عذاب الله، وقدره الزمخشري: من هو، ويدلعلى أنها بمعنى أخبرني. قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية. قال الحوفي: ويجوز أنتكون من رؤية البصر، فلا يكون في الكلام حذف، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذهالصفة. والدين: الجزاء بالثواب والعقاب. وقال الزمخشري: والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء؟ هو الذي {يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ }: أي يدفعهدفعاً عنيفاً بجفوة أو أذى، {وَلاَ يَحُضُّ }: أي ولا يبعث أهله على بذل الطعام للمسكين. جعل علم التكذيب بالجزاء،منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، انتهى. وقرأ الجمهور: {يَدُعُّ } بضم الدال وشد العين؛ وعليّ والحسن وأبو رجاء واليماني:بفتح الدال وخف العين، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه وبجفوه. وقرأ الجمهور: {وَلاَ يَحُضُّ } مضارع حض؛ وزيد بنعلي: يحاض مضارع حاضضت. وقال ابن عباس: {بِٱلدّينِ }: بحكم الله. وقال مجاهد: بالحساب، وقيل: بالجزاء، وقيل: بالقرآن. وقال إبراهيمابن عرفة: {يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ }: يدفعه عن حقه. وقال مجاهد: يدفعه عن حقه ولا يطعمه، وفي قوله: {وَلاَ يَحُضُّ }إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدره، وهذا من باب الأولى، لأنه إذا لم يحض غيره بخلاً، فلان يتركهو ذلك فعلاً أولى وأحرى، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه. ولما ذكر أولاً عمود الكفر،وهو التكذيب بالدين، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق، وهو عبادته بالصلاة، فقال: {فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ }. والظاهر أن المصلينهم غير المذكور. وقيل: هو داع اليتيم غير الحاض، وأن كلاً من الأوصاف الذميمة ناشىء عن التكذيب بالدين، فالمصلون هنا،والله أعلم، هم المنافقون، ثبت لهم الصلاة، وهي الهيئات التي يفعلونها. ثم قال: {ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ }، نظراًإلى أنهم لا يوقعونها، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى. وفي الحديث عن صلاتهم ساهون: يؤخرونها عن وقتها تهاوناً بها . قال مجاهد: تأخير ترك وإهمال. وقال إبراهيم: هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتاً.وقال قتادة: هو الترك لها، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل. وقال قطرب: هو الذيلا يقر ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس: المنافقون يتركون الصلاة سراً ويفعلونها علانية، { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } ، ويدل على أنها في المنافقين قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ }، وقاله ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس:ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين. وقال عطاء: الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم.وقال الزمخشري: بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن {فَذَلِكَ ٱلَّذِى يَدُعُّ } في موضع رفع،قال: وطريقة أخرى أن يكون {فَذَلِكَ } عطفاً على {ٱلَّذِى يُكَذّبُ }، إما عطف ذات على ذات، أو عطف صفةعلى صفة، ويكون جواب {أَرَأَيْتَ } محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، كأن قال: أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء، وفيمنيؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين، أنعم ما يصنع؟ ثم قال: {فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ }: أي إذا علم أنه مسيء، {فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ} على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم لأنهم كانوا مع التكذيب، وما أضيف إليهم ساهين عنالصلاة مرائين غير مزكين أموالهم. فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير {ٱلَّذِى يُكَذّبُ }، وهو واحد؟ قلت: معناهالجمع، لأن المراد به الجنس، انتهى. فجعل فذلك في موضع نصب عطفاً على المفعول، وهو تركيب غريب، كقولك: أكرمت الذييزورنا فذلك الذي يحسن إلينا، فالمتبادر إلى الذهن أن فذلك مرفوع بالابتداء، وعلى تقدير النصب يكون التقدير: أكرمت الذي يزورنافأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا. فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح، إذ لا حاجة إلىأن يشار إلى الذي يزورنا، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا. وأماقوله: إما عطف ذات على ذات فلا يصح، لأن فذلك إشارة إلى الذي يكذب، فليسا بذاتين، لأن المشار إليه بقوله:{فَذَلِكَ } هو واحد. وأما قوله: ويكون جواب {أَرَأَيْتَ } محذوفاً، فلا يسمى جواباً، بل هو في موضع المفعول الثانيلأرأيت. وأما قوله: أنعم ما يصنع، فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس، لأنهما إنشاء، والاستفهام لا يدخلإلى على الخبر. وأما وضعه المصلين موضع الضمير، وأن المصلين جمع، لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع، فتكلف واضح ولاينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليستبواضحة. وتقدّم الكلام في الرياء في سورة البقرة. وقرأ الجمهور: يراءون مضارع راأى، على وزن فاعل؛ وابن أبي إسحاقوالأشهب: مهموزة مقصورة مشدّدة الهمزة؛ وعن ابن أبي إسحاق: بغير شد في الهمزة. فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية،كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى: أرى، فقالوا: راأى، فجاء المضارع بأرى كيصلى، وجاء الجمع يروّون كيصلون، وتوجيه الثانية أناستثقل التضعيف في الهمزة فخففها، أو حذف الألف من يراءون حذفاً لا لسبب. {وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ }، قال ابن المسيب وابنشهاب: الماعون، بلغة قريش: المال. وقال الفرّاء عن بعض العرب: الماعون: الماء. وقال ابن مسعود وابن عباس وابن الحنفية والحسنوالضحاك وابن زيد: ما يتعاطاه الناس بينهم، كالفأس والدلو والآنية. وفي الحديث: سئل ﷺ عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال: الماء والملح والنار . وفي بعض الطرق: الإبرة والخمير. وقال عليّ وابن عمر وابن عباس أيضاً: الماعون:الزكاة، ومنه قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر | حنفاء نسجد بكرة وأصيلا عرب نرى لله من أموالنا | |
حق الزكاة منزلاً تنزيلا قوم على الإسلام لما يمنعوا | ما عونهم ويضيعوا التهليلا |
يعني بالماعون: الزكاة، وهذا القول يناسبهما ذكره قطرب من أن أصله من المعن، وهو الشيء القليل، فسميت الزكاة ماعوناً لأنها قليل من كثير، وكذلك الصدقةغيرها. وقال ابن عباس: هو العارية. وقال محمد بن كعب والكلبي: هو المعروف كله. وقال عبد الله بن عمر: منعالحق. وقيل: الماء والكلأ.