تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الكافرون
{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } * { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } * { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } * { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } * { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } * { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }
{قُلْ يٰأَهْلَ * أَيُّهَا * ٱلْكَـٰفِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَأَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَدِينِ }. هذه مكية في قول الجمهور. وروي عن قتادة أنها مدنية. وذكروا من أسباب نزولها أنهم قالوا لهعليه الصلاة والسلام: دع ما أنت فيه ونحن نموّلك ونزوجك من شئت من كرائمنا، ونملكك علينا؛ وإن لم تفعل هذافلتعبد آلهتنا ونحن نعبد إلهك حتى نشترك، فحيث كان الخير نلناه جميعاً. ولما كان أكثر شانئه قريشاً، وطلبوا منه أنيعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، أنزل الله تعالى هذه السورة تبرياً منهم وإخباراً لا شك فيه أن ذلك لايكون. وفي قوله: {قُلْ } دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم،ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يباليبهم. والكافرون ناس مخصوصون، وهم الذين قالوا له تلك المقالة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميةوأبيّ ابنا خلف، وأبو جهل، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم، ووافى على الكفر تصديقاً للإخبار في قوله: {وَلاَ أَنتُمْعَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ }. وللمفسرين في هذه الجمل أقوال: أحدها: أنها للتوكيد. فقوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ }توكيداً لقوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ }، وقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ثانياً تأكيد لقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَمَا أَعْبُدُ } أولاً. والتوكيد في لسان العرب كثير جداً، وحكوا من ذلك نظماً ونثراً ما لا يكاد يحصر. وفائدةهذا التوكيد قطع أطماع الكفار، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً. والثاني: أنه ليس للتوكيد، واختلفوا.فقال الأخفش: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ماعبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيد، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير. وقال أبومسلم: ما في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود. وما في الأخريين مصدرية، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وتركالنظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين. وقال ابن عطية: لما كان قوله: {لاَ أَعْبُدُ } محتملاً أنيراد به الآن، ويبقى المستأنف منتظراً ما يكون فيه، جاء البيان بقوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أبداً وماحييت. ثم جاء قوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون به أبداً، كالذي كشفالغيب. فهذا كما قيل لنوح عليه السلام:
{ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ من قد آمن }
. أما أن هذافي معينين، وقوم نوح عموا بذلك، فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط، بل فيهما ذكرته، انتهى. وقال الزمخشري: {لاَ أَعْبُدُ }، أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن لا لا تدخل إلا علىمضارع في معنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، والمعنى: لا أفعل في المستقبلما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي. {وَلا أَنَا عَابِدٌمَّا عَبَدتُّمْ }: أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني: لم تعهد مني عبادة صنم فيالجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام؟ {وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ }: أي وما عبدتم في وقت ما أنا علىعبادته. فإن قلت: فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم؟ قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث، وهو لميكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت، انتهى. أما حصره في قوله: لأن لا لا تدخل، وفي قوله: ما لاتدخل، فليس بصيح، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم. وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخولما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر،إنما قال: وتكون لا نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل. وقال: وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كانفي حال الفعل، فذكر الغالب فيهما. وأما قوله: في قوله {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ }: أي وما كنتقط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن عابداً اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي،إنما يفسر بالحال أو الاستقبال؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضياً. وأما قوله:{وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ }: أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته، فعابدون قد أعمله فيما أعبد،فلا يفسر بالماضي. وأما قوله، وهو لم يكن إلى آخره، فسوء أدب منه على منصب النبوة، وهو أيضاً غير صحيح،لأنه ﷺ لم يزل موحداً لله عز وجل منزهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله، مجتنباًلأصنامهم بحج بيت الله، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وهذه عبادة لله تعالى، وأي عبادة أعظم من توحيد اللهتعالى ونبذ أصنامهم والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات، قال تعالى:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }
. قال المفسرون:معناه ليعرفون. فسمى الله تعالى المعرفة به عباده. والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولاً: نفى عبادته في المستقبل،لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل، قيل: ثم عطف عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } نفياً للمستقبل على سبيلالمقابلة؛ ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } نفياً للحال، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال؛ثم عطف عليه {وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى أنه صلى الله عليهوسلم لا يعبد ما يعبدون، لا حالاً ولا مستقبلاً، وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر. ولما قال:{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ }، فأطلق ما على الأصنام، قابل الكلام بما في قوله: {مَا أَعْبُدُ }، وإن كانت يرادبها الله تعالى، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد، وهذا على مذهب من يقول: إن ما لاتقع على آحاد من يعلم. أما من جوّز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل. وقيل: مامصدرية في قوله: {مَا أَعْبُدُ }. وقيل: فيها جميعها. وقال الزمخشري: المراد الصفة، كأنه قيل: لا أعبد الباطل، ولا تعبدونالحق. {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ }: أي لكم شرككم ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ. ولما كان الأهم انتفاءهعليه الصلاة والسلام من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه. ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله:{لَكُمْ دِينَكُمْ } على سبيل المهادنة، وهي منسوخة بآية السيف. وقرأ سلام: ديني بياء وصلاً ووقفاً، وحذفها القراء السبعة، واللهتعالى أعلم.