تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة القلم
{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } * { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } * { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } * { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } * { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } * { بِأَيِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } * { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } * { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } * { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } * { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } * { هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ } * { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } * { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } * { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } * { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } * { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } * { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } * { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } * { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } * { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } * { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } * { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } * { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } * { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } * { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ } * { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } * { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } * { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } * { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } * { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } * { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } * { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } * { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } * { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } * { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } * { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } * { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } * { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } * { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } * { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } * { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } * { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } * { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } * { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } * { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } * { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } * { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } * { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } * { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } المهين، قال الرماني: الوضيع لإكثاره من القبائح، من المهانة، وهي القلة. الهمز: أصلهفي اللغة الضرب طعناً باليد أو بالعصا أو نحوها، ثم استعير للذي ينال بلسانه. قال القاضي منذر بن سعيد: وبعينهوإشارته. النميم والنميمة: مصدران لنمّ، وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس. وقيل: النميم جمع نميمة، يريدون به اسمالجنس. العتل، قال الكلبي والفرّاء: الشديد الخصومة بالباطل. وقال معمر: هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر:
بعتلّ من الرّجال زنيم | غير ذي نجدة وغير كريم |
وقيل: الذي يعتل الناس: أي يجرّهم إلى حبس أو عذاب،ومنه: {خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ }. قال ابن السكيت: عتلته وعتنته باللام والنون. الزنيم: الدعي. قال حسان:
زنيم تداعاه الرّجال زيادة | كما زيد في عرض الأديم الأكارع |
وقال أيضاً:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد |
والزنيم من الزنمة، وهي الهنة من جلد الماعز، تقطع فتخلى معلقة في حلقة، سمي الدعي بذلكلأنه زيادة معلقة بغير أهله. وسمه: جعل له سمة، وهي العلامة تدل على شيء. قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي | وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل |
الخرطوم: الأنف، والخرطوم من صفات الخمر، قال الشاعر:
قد أشهد الشرب فيهم مزهر زنم | والقوم تصرعهم صهباء خرطوم |
قال الشمنتري: الخرطوم أول خروجها منالدّن، ويقال لها الأنف أيضاً، وذلك أصفى لها وأرق. وقال النضر بن شميل: الخرطوم: الخمر، وأنشد للأعرج المغني:
تظل يومك في لهو وفي لعب | وأنت بالليل شراب الخراطيم |
الصرام: جداد النخل. الجرد: المنع، من قولهم: حاردتالإبل إذا قلت ألبانها، وحاردت السنة: قلّ مطرها وخيرها، قاله أبو عبيد والقتبي، والحرد: الغضب. قال أبو نضر أحمد بنحاتم صاحب الأصمعي: وهو مخفف، وأنشد:
إذا جياد الخيل جاءت تردي | مملوءة من غضب وحرد |
وقال الأشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفية | تساقوا على حرد دماء الأساود |
وقال ابن السكيت: وقد يحرك، تقول: حرد بالكسر حرداً فهو حردان، ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد، والحرد: الانفراد، حرديحرد حروداً: تنحى عن قومه ونزل منفرداً ولم يخالطهم، وكوكب حرود: معتزل عن الكواكب. وقال الأصمعي: المنحرد: المنفرد في لغةهذيل. انتهى. والحرد: القصد، حرد يحرد بالكسر: قصد، ومنه حردت حردك: أي قصدت قصدك. ومنه قول الشاعر:
وجاء سيل كان من أمر الله | يحرد حرد الجنة المغله |
{ن وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَبِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُقَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَأَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُٱلرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـٰتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ * وَمَنيَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَـٰهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى ٱلاْخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * إِذْ قَالَلَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـٰبَنِىَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدّينَ فَلاَتَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْنَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْوَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْـئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }. هذه السورة مكية. قال ابن عطية: ولا خلاف فيها بينأحد من أهل التأويل. انتهى. ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل. ومناسبتها لما قبلها: أنه فيما قبلها ذكرأشياء من أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصباً.وكان ما أخبر تعالى به هو ما تلقفه رسول الله ﷺ بالوحي، وكان الكفار ينسبونه مرة إلىالشعر، ومرة إلى السحر، ومرة إلى الجنون؛ فبدأ سبحانه وتعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون، وتعظيمأجره على صبره على أذاهم، وبالثناء على خلقه العظيم. {ن }: حرف من حروف المعجم، نحو ص وق، وهوغير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل والحكم على موضعها بالإعراب تخرص. وما يروى عن ابنعباس ومجاهد: أنه اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع. وعن ابن عباس أيضاً والحسن وقتادة والضحاك: أنه اسم الدواة.وعن معاوية بن قرة: يرفعه أنه لوح من نور. وعن ابن عباس أيضاً: أنه آخر حرف من حروف الرحمن. وعنجعفر الصادق: أنه نهر من أنهار الجنة، لعله لا يصح شيء من ذلك. وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري فيتفسيره: ن حرف من حروف المعجم، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذن حرف هجاء كما فيسائر مفاتيح السور. انتهى. ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم، فإن كان علماً فينبغيأن يجر، فإن كان مؤنثاً منع الصرف، أو مذكراً صرف، وإن كان جنساً أعرب، ونون وليس فيه شيء من ذلكفضعف القول به. وقال ابن عطية: إذا كان اسماً للدواة، فإما أن يكون لغة لبعض العرب، أو لفظة أعجمية عربت،قال الشاعر:
إذا ما الشوق برّح بي إليهم | ألقت النون بالدمع السجوم |
فمن جعله البهموت، جعلالقلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات، وجعل الضمير في {يَسْطُرُونَ } للملائكة. ومن قال: هو اسم، جعله القلمالمتعارف بأيدي الناس؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في {يَسْطُرُونَ } للناس، فجاء القسم على هذا المجموع أمرالكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة. انتهى. وقرأ الجمهور: {ن} بسكون النون وإدغامها في واو {وَٱلْقَلَمِ } بغنة وقوم بغير غنة، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص.وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال: بكسر النون لالتقاء الساكنين؛ وسعيد بن جبير وعيسى: بخلاف عنه بفتحها،فاحتمل أن تكون حركة إعراب، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث، ويكون {وَٱلْقَلَمِ} معطوفاً عليه. واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين، وأوثر الفتح تخفيفاً كأين، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية، والضمير في{يَسْطُرُونَ } عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم، فإما أن يراد بهم الحفظة، وإما أن يراد كل كاتب. وقال الزمخشري:ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في {يَسْطُرُونَ } لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم. انتهى. فيكونكقوله: { كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ } : أي وكذي ظلمات، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله: { يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ } . وجوابالقسم: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ }. ويظهر أن {بِنِعْمَةِ رَبّكَ } قسم اعترض به بين المحكوم علىه والحكم علىسبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه ﷺ. وقال ابن عطية: {بِنِعْمَةِ رَبّكَ } اعتراض،كما تقول للإنسان: أنت بحمد الله فاضل. انتهى. ولم يبين ما تتعلق به الباء في {بِنِعْمَتِ }. وقال الزمخشري: يتعلق{بِمَجْنُونٍ } منفياً، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك: أنت بنعمة الله عاقل، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما فيقولك: ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال، كأنه قال:ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي، والمعنى: استبعادما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيلللنبوة بمنزلة. انتهى. وما ذهب إليه الزمخشري من أن {بِنِعْمَةِ رَبّكَ } متعلق {بِمَجْنُونٍ }، وأنه في موضع الحال،يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان: أحدهما: أن النفييتسلط على ذلك المعمول فقط، والآخر: أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك، تقول: ما زيدقائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع. والوجه الآخر أنه انتفى قيامهفانتفى إسراعه، أي لا قيام فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه، بل يؤدي إلى مالايجوز أن ينطق به في حق المعصوم ﷺ. وقيل معناه: ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم: سبحانكاللهم وبحمدك، أي والحمد لله، ومنه قول لبيد:
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي | وفارقني جار بأربد نافع |
أي: وهو أربد. انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وفي المنتخب ما ملخصه المعنى: انتفى عنك الجنون بنعمةربك، أي حصول الصفة المحمودة، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك. ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطععلى صحتها، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكلمكرمة، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم: إنه مجنون. {وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً } في احتمالطعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله. {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }: هذاكالتفسير لما تقدم من قوله: {بِنِعْمَةِ رَبّكَ }، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ، وأن من كان بتلك الأخلاقالمرضية لا يضاف الجنون إليه، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء. انتهى. {وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً }: أي على ما تحملت منأثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب، {غَيْرُ مَمْنُونٍ }: أي غير مقطوع،مننت الحبل: قطعته، وقال الشاعر:
عبس كـواسب لا يمـن طعـامهـا |
أي لا يقطع. وقال مجاهد: غير محسوب. وقال الحسن: غيرمكدر بالمن. وقال الضحاك: بغير عمل. وقيل: غير مقدر، وهو معنى قول مجاهد. وقال الزمخشري: أو غير ممنون عليك، لأنثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰخُلُقٍ عَظِيمٍ }، قال ابن عباس ومجاهد: دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه. وقالت عائشة: إن خلقهكان القرآن. وقال علي: هو أدب القرآن. وقال قتادة: ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى. وقيل: سمي عظيماًلاجتماع مكارم الأخلاق فيه، من كرم السجية، ونزاهة القريحة، والملكة الجميلة، وجودة الضرائب؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك، وقال: إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ، ووصى أبا ذر فقال: وخالق الناس بخلق حسن . وعنه ﷺ: ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن . وقال: أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقاً . والظاهر تعلق {بِأَيّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ} بما قبله. وقال عثمان المازني: تم الكلام في قوله {وَيُبْصِرُونَ }، ثم استأنف قوله: {بِأَيّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ }. انتهى. فيكونقوله: {بِأَيّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } استفهاماً يراد به الترداد بين أمرين، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما، ويعينه الوجود، وهو المؤمن، ليسبمفتون ولا به فتون. وإذا كان متعلقاً بما قبله، وهو قول الجمهور، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر: الباء زائدة، والمعنى:أيكم المفتون؟ وزيدت الباء في المبتدأ، كما زيدت فيه في قوله: بحسبك درهم، أي حسبك. وقال الحسن والضحاك والأخفش: الباءليست بزائدة، والمفتون بمعنى الفتنة، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً؟ وقال الأخفش أيضاً: بأيكم فتن المفتون، حذفالمضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف. وقالمجاهد والفراء: الباء بمعنى في، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون؟ انتهى. فالباء ظرفية، نحو: زيد بالبصرة، أي فيالبصرة، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية، بل هي سببية. وقال الزمخشري: المفتون: المجنون لأنهفتن، أي محن بالجنون، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن، وهم الفتان للفتاك منهم. انتهى. وقرأ ابن أبيعبلة: في أيكم المفتون. {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ }: وعيد للضال، وهم المجانين على الحقيقة، حيث كانت لهم عقوللم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين. {فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذّبِينَ }:أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيمآلهتهم. {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ }: لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن، أي ودوا ادهانكم، وتقدم الكلام في ذلكفي قوله تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } ، ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف، أي ودوا ادهانكم، وحذفلدلالة ما بعده عليه، ولو باقية على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف تقديره لسروابذلك. وقال ابن عباس والضحاك وعطية والسدي: لو تدهن: لو تكفر، فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضاً: لو ترخصلهم فيرخصون لك. وقال قتادة: لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. وقال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعوك فيدينهم. وقال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقونك ويراؤونك. وقال الربيع بن أنس: لو تكذب فيكذبون. وقال أبو جعفر:لو تضعف فيضعون. وقال الكلبي والفراء: لو تلين فيلينون. وقال أبان بن ثعلب: لو تحابي فيحابون، وقالوا غير هذه الأقوال.وقال الفراء: الدهان: التليين. وقال المفضل: النفاق وترك المناصحة، وهذا نقل أهل اللغة، وما قالوه لا يخرج عن ذلك لأنما خالف ذلك هو تفسير باللازم، وفيدهنون عطف على تدهن. وقال الزمخشري: عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعلخبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون كقوله: { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ } ، بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ،أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك. انتهى. وجمهور المصاحف على إثبات النون. وقال هارون: إنه في بعضالمصاحف فيدهنوا، ولنصبه وجهان: أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن، أي ودواأن تدهن فيدهنوا، فيكون عطفاً على التوهم، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن.{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ }: تقدّم تفسير مهين وما بعده في المفردات، وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة، ونوسبفيها فجاء {حَلاَّفٍ } وبعده {مُّهِينٌ }، لأن النون فيها مع الميم تواخ. ثم جاء: {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } بصفتيالمبالغة، ثم جاء: {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ }، فمناع وأثيم صفتا مبالغة، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيمايطلق عليه خير. وقيل: الخير هنا المال، يريد مناع للمال عبر به عن الشح، معناه: متجاوز الحد في الظلم. وفيحديث شداد بن أوس قلت: يعني لرسول الله ﷺ. وما العتل الزنيم؟ قال: الرحيب الجوف، الوتير الخلق،الأكول الشروب، الغشوم الظلوم. وقرأ الحسن: عتل برفع اللام، والجمهور: بجرها بعد ذلك. وقال الزمخشري: جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه،لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها،ومن ثم قال رسول الله ﷺ: لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ، وبعدذلك نظير ثم في قوله: { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } . وقرأ الحسن: عتل رفعاً على الذم، وهذه القراءة تقويةلما يدل عليه بعد ذلك. انتهى. وقال ابن عطية: {بَعْدَ ذَلِكَ }: أي بعد أن وصفناه به، فهذا الترتيب إنماهو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلاً هو قبل كونه صاحب خبر يمنعه.انتهى. والزنيم: الملصق في القوم وليس منهم، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: الزنيم: المريب القبيح الأفعال، وعن ابن عباس أيضاً:الزنيم: الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته. انتهى. وروي أنالأخفش بن شريف كان بهذه الصفة، كان له زنمة. وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرفبالشر، كما تعرف الشاة بالزنمة. وعنه أيضاً: أنه المعروف بالابنة. وعنه أيضاً: أنه الظلوم. وعن عكرمة: هو اللئيم. وعن مجاهدوعكرمة وابن المسيب: أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم، ادعاه أبوهبعد ثمان عشرة من مولده. وقال مجاهد: كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام أصبع زائدة، والذي يظهرأن هذه الأوصاف ليست لمعين. ألا ترى إلى قوله: {كُلَّ حَلاَّفٍ }، وقوله: {إِنَّا بَلَوْنَـٰهُمْ }؟ فإنما وقع النهي عنطواعية من هو بهذه الصفات. قال ابن عطية ما ملخصه، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة: {إِن كَانَ }على الخبر؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر: على الاستفهام؛ وحقق الهمزتين حمزة، وسهل الثانية باقيهم. فأما علىالخبر، فقال أبو علي الفارسي: يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف. انتهى، وهذا قول كوفي، ولا يجوزذلك عند البصريين. وقيل: {زَنِيمٍ } لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال. وقال الزمخشري: متعلق بقوله: {وَلاَ تُطِعِ}، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب، {لاِنْ * كَانَ ذَا مَالٍ }: أي ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أنيتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين، كذب آياتنا ولا يعمل فيه، قال الذي هو جواب إذا، لأنما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. انتهى. وأما على الاستفهام، فيحتملأن يفسر عامل يدل عليه ما قبله، أي أيكون طواعية لأن كان؟ وقدره الزمخشري: أتطيعه لأن كان؟ أو عامل يدلعليه ما قبله، أي أكذب أو جحد لأن كان؟ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه: إن كان بكسر الهمزة. قالالزمخشري: والشرط للمخاطب، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى،ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله: {لَعَلَّهُ * يُذْكَرِ }. انتهى. وأقوال: إن كان شرط، وإذاتتلى شرط، فهو مما اجتمع فيه شرطان، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع، فالمتأخر لفظاً هو المتقدم، والمتقدم لفظاً هو شرطفي الثاني، كقوله:
فإن عثرت بعدها إن والت | نفسي من هاء تاء فقولا لها لها |
لأن الحامل علىترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين، فهو مشغول القلب، فذلك غافل عن النظر والفكر، قد استولت عليه الدنياوأبطرته. وقرأ الحسن: أئذا على الاستفهام، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آياته الله.ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }، والسمة: العلامة. ولماكان الوجه أشرف ما في الإنسان، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفةوقالوا: حميّ الأنف شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه. وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلو، قال:{سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف، وإذاكان الوسم في الوجه شيناً، فكيف به على أكرم عضو فيه؟ وقد قيل: الجمال في الأنف، وقال بعض الأدباء:
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل | فكيف إذا ما الخال كان له حليا |
وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه.وقال ابن عباس: هو الضرب بالسيف، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه، فيجيء ذلك كالوسم على الانف، وحل به ذلكيوم بدر. وقال المبرد: ذلك في عذاب الآخرة في جهنم، وهو تعذيب بنار على أنوفهم. وقال آخرون: ذلك يوم القيامة،أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال قتادة وغيره: معناه سنفعل به في الدنيا من الذموالمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً، كما تقول: سأطوقك طوقالحمامة: أي أثبت لك الأمر بيناً فيك، ونحو هذا أراد جرير بقوله:
لمـا وضـعت عـلى الفـرزدق ميسمـي |
وفي الوسم علىالأنف تشويه، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّاً. قال ابن عطية: وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه، وما ثبت لهمفي الدنيا من سوء الأخروية، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم. انتهى. وقال أبو العالية ومقاتل، واختاره الفراء: يسود وجههقبل دخول النار، وذكر الخرطوم، والمراد الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض. وقال أبو عبد الله الرازي: إنما بالغالكافر في عداوة الرسول ﷺ بسبب الأنفة والحمية، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية، عبر عنهذا الاختصاص بقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }. انتهى كلامه. وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف، لأن حقيقة الخرطوم هوللسباع. وتلخص من هذا أن قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }، أهو حقيقة أم مجاز؟ وإذا كان حقيقة، فهل ذلك فيالدنيا أو في الآخرة؟ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر، وأن معناه سنحده على شربها. ولما ذكرالمتصف بتلك الأوصاف الذميمة، وهم كفار قريش، أخبر تعالى بما حل بهم من الابتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلىالله عليه وسلم: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف الحديث، كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرهاعندهم. كانت بأرض اليمين بالقرب منهم قريباً من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها، فمات فصارت إلى ولده، فمنعواالناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى، فأهلكها الله تعالى من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بهم. وقيل: كانت بصورانعلى فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام، وكان صاحبها ينزل للمساكنين ما أخطأه المنجل وما في أسفلالأكراس وما أخطاه القطاف من العنب وما بقي على السباط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم شيء كثير. فلمامات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } فيالسدف خفية من المساكين، ولم يستثنوا في يمينهم؛ والكاف في {كَمَا بَلَوْنَا } في موضع نصب، وما مصدرية. وقيل: بمعنىالذي، وإذ معمول لبلوناهم ليصرمنها جواب القسم لا على منطوقهم، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصرمنها بنون المتكلمين، والمعنى:ليجدن ثمرها إذا دخلوا في الصباح قبل خروج المساكين إلى عادتهم مع أبيهم. {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ }: أي ولا ينثنون عنما عزموا عليه من منع المساكين. وقال مجاهد: معناه: لا يقولون إن شاء الله، بل عزموا على ذلك عزم منيملك أمره. وقال الزمخشري، متبعاً قول مجاهد: ولا يقولون إن شاء الله. فإن قلت: لم سمي استثناء، وإنما هو شرط؟قلت: لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء اللهواحد. انتهى. {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ }، قرأ النخعي: طيف. قال الفراء: والطائف: الأمر الذي يأتي بالليل، ورد عليه بقوله: { إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } ، فلم يتخصص بالليل، وطائف مبهم. فقيل: هو جبريل عليه السلام، اقتلعها وطاف بها حولالبيت، ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت بالطائف، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها.وقال ابن عباس: طائف من أمر ربك. وقال قتادة: عذاب من ربك. وقال ابن جرير: عنق خرج من وادي جهنم.{فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ }، قال ابن عباس: كالرماد الأسود، والصريم: الرماد الأسود بلغة خزيمة، وعنه أيضاً: الصريم رملة باليمن معروفة لاتنبت، فشبه جنتهم بها. وقال الحسن: صرم عنها الخير، أي قطع. فالصريم بمعنى مصروم. وقال الثوري: كالصبح من حيث ابيضتكالزرع المحصود. وقال مورج: كالرملة انصرمت من معظم الرمل، والرملة لا تنبت شيئاً ينفع. وقال الأخفش: كالصبح انصرم من الليل.وقال المبرد: كالنهار فلا شيء فيها. وقال شمر: الصريم: الليل، والصريم: النهار، أي ينصرم هذا عن ذاك، وذاك عن هذا.وقال الفراء والقاضي منذر بن سعيد وجماعة: الصريم: الليل من حيث اسودت جنتهم. {فَتَنَادَوْاْ }: دعا بعضهم بعضاً إلى المضيإلى ميعادهم، {أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ }. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل {ٱغْدُواْ * إِلَىٰ *حَرْثِكُمْ }، وما معنىعلى؟ قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه، كما تقول: غدا عليهم العدو. ويجوز أن يضمن الغدومعنى الإقبال، كقولهم: يغدي عليه بالجفنة ويراح، أي فاقبلوا على حرثكم باكرين. انتهى. واستسلف الزمخشري أن غداً يتعدى بإلى، ويحتاجذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلاً فيه ويتأول ما خالفه، والذي في حفظي أنه معدى بعلى، كقول الشاعر:
بكرت عليه غدوة فرأيته | قعوداً عليه بالصريم عواذله |
{إِن كُنتُمْ صَـٰرِمِينَ }:الظاهر أنه من صرام النحل. قيل: ويحتمل أن يريد: إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم، من قولك: سيف صارم.{يَتَخَـٰفَتُونَ }: يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين. {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا }: أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لايدخلنها، وأن مصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة: لا يدخلنها، بإسقاط أن على إضمار يقولون،أو على إجراء يتخافتون مجرى القول، إذ معناه: يسارون القول والنهي عن الدخول. نهى عن التمكين منه، أي لا تمكنوهممن الدخول فيدخلوا. {وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَـٰدِرِينَ }: أي على قصد وقدوة في أنفسهم، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قالمعناه ابن عباس، أي قاصدين إلى جنتهم بسرعة، قادرين عند أنفسهم على صرامها. قال أبو عبيدة والقتبي: {عَلَىٰ حَرْدٍ }:على منع، أي قادرين في أنفسهم على منع المساكين من خيرها، فجزاهم الله بأن منعهم خيراً. وقال الحسن: {عَلَىٰ حَرْدٍ}، أي حاجة وفاقة. وقال السدي وسفيان: {عَلَىٰ حَرْدٍ }: على غضب، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهمعلى بعض. وقيل: {عَلَىٰ حَرْدٍ }: على انفراد، أي انفردوا دون المساكين. وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم. وقال السدي: اسمجنتهم، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام. قيل:ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ، أي مضيقين على المساكين، إذ حرموهمما كان أبوهم ينيلهم منها. {فَلَمَّا رَأَوْهَا }: أي على الحالة التي كانوا غدوها عليها، من هلاكها وذهاب مافيها من الخير، {قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ }: أي عن الطريق إليها، قاله قتادة. وذلك في أول وصولهم أنكروا أنها هي،واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق إليها، ثم وضح لهم أنها هي، وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها. وقيل: لضالونعن الصواب في غدونا على نية منع المساكين، فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } خيرها بخيانتنا على أنفسنا. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ }:أي أفضلهم وأرجحهم عقلاً، {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ }: أنبهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله،أي ذكره وتنزيهه عن السوء، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفوا سنة أبيهمفي ذلك. فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين، ابتلاهم الله، وهذا يدل على أن أوسطهم كانقد تقدم إليهم وحرضهم على ذكر الله تعالى. وقال مجاهد وأبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله. قال النحاس: جعل مجاهدالتسبيح موضع إن شاء الله، لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الزمخشري: لالتقائهما في معنى التعظيملله، لأن الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم له. وقيل: {لَوْلاَ تُسَبّحُونَ }: تستغفرون.ولما انبهم، رجعوا إلى ذكر الله تعالى، واعترفوا على أنفسهم بالظلم، وبادروا إلى تسبح الله تعالى فقالوا: {سُبْحَانَ رَبّنَا}. قال ابن عباس: أي نستغفر الله من ذنبنا. ولما أقروا بظلمهم، لام بعضهم بعضاً، وجعل اللوم في حيز غيره،إذ كان منهم من زين، ومنهم من قبل، ومنهم من أمر بالكف، ومنهم من عصى الأمر. ومنهم من سكت علىرضا منه. ثم اعترفوا بأنهم طغوا، وترجوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيراً من تلك الجنة، {عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا}: أي بهذه الجنة، {خَيْرٌ مّنْهَا }: وتقدم الكلام في الكهف، والخلاف في تخفيف يبدلنا، وتثقيلها منسوباً إلى القراء. {إِنَّاإِلَىٰ رَبّنَا رٰغِبُونَ }: أي طالبون إيصال الخير إلينا منه. والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا.وقيل: كانوا من أهل الكتاب. وقال عبد الله بن مسعود: بلغني أن القوم دعوا الله وأخلصوا، وعلم الله منهم الصدقفأبدلهم بها جنة، وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وعن مجاهد: تابوا فأبدوا خيراً منها. وقال القشيري: المعظم يقولون أنهمتابوا وأخلصوا. انتهى. وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال: أكان قولهم: {إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا رٰغِبُونَ } إيماناً، أو على حدما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؟. {كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ }: هذا خطاب للرسول ﷺ في أمرقريش. قال ابن عطية: والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي {كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ }: أي الذي نزل بقريش بغتة،ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا. وقال كثير من المفسرين: العذاب النازل بقريش الممائل لأمر الجنةهو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود. انتهى. وقال الزمخشري: مثل ذلك العذاب الذي بلونا بهأهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا. {وَلَعَذَابُ ٱلاْخِرَةِ } أشد وأعظم منه. انتهى. وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هوأن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم. وأن قريشاً حين خرجوا إلى بدرحلفوا على قتل الرسول ﷺ وأصحابه، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فقلبالله عليهم بأن قتلوا وأسروا. ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال: {وَلَعَذَابُ ٱلاْخِرَةِ أَكْبَرُ }. قوله عز وجل: {إِنَّلّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبّهِمْ جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَـٰبٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ* إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَـٰنٌ عَلَيْنَا بَـٰلِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ *سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذٰلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صَـٰدِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَىٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَـٰلِمُونَ * فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَـٰذَاٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ * أَمْ تَسْـئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ* أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَـٰحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَّوْلاَأَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْلَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـٰرِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ }. لما ذكر تعالى أنهبلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون، فقال: {إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ }: أي الكفر، {جَنَّـٰتِٱلنَّعِيمِ }: أضافها إلى النعيم، لأن النعيم لا يفارقها، إذ ليس فيها إلا هو، فلا يشوبه كدر كما يشوب جناتالدنيا. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش: إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ، فنزلت: {أَفَنَجْعَلُٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ }. وقال مقاتل: قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة، وإلا فالمشاركة، فأجاب تعالى:{أَفَنَجْعَلُ }: أي لا يتساوى المطيع والعاصي، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ. ثم التفت إليهم فقال:{مَا لَكُمْ }، أي: أي شيء لكم فيما تزعمون؟ وهو استفهام إنكار عليهم. ثم قال: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ }، وهو استفهامثالث على سبيل الإنكار عليهم، استفهم عن هيئة حكمهم. ففي قوله: {مَا لَكُمْ } استفهام عن كينونة مبهمة، وفي {كَيْفَتَحْكُمُونَ } استفهام عن هيئة حكمهم. ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال:{أَمْ لَكُمْ }، أي: بل ألكم؟ {كِتَابٌ }، أي من عند الله، {تَدْرُسُونَ } أن ما تختارونه يكون لكم. وقرأالجمهور: {إِنَّ لَكُمْ } بكسر الهمزة، فقيل هو استئناف قول على معنى: إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل: أنمعمولة لتدرسون، أي تدرسون في الكتاب أن لكم، {لَمَا تَخَيَّرُونَ }: أي تختارون من النعيم، وكسرت الهمزة من أن لدخولاللام في الخبر، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة، قاله الزمخشري وبدأ به وقال: ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو،كقوله: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلاْخِرِينَ * سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ } . انتهى. وقرأ طلحة والضحاك: أن لكم بفتح الهمزة، واللام فيلما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج: أإن لكم على الاستفهام.{أَمْ لَكُمْ أَيْمَـٰنٌ }: أي أقسام علينا، {بَـٰلِغَةٌ }: أي متناهية في التوكيد. يقال: لفلان عليّ يمين إذا حلفتله على الوفاء بما حلفت عليه، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم، أي ثابتة لكم إلىيوم القيامة، أو ببالغة: أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إلىه. وقرأ الجمهور: {بَـٰلِغَةٌ } بالرفع على الصفة، والحسن وزيدبن علي: بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا. وقال ابن عطية: حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً. {إِنَّلَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ }: جواب القسم، لأن معنى {أَمْ لَكُمْ أَيْمَـٰنٌ عَلَيْنَا }: أم أقسمنا لكم، قاله الزمخشري. وقرأ الأعرج:أإن لكم عليّ، كالتي قبلها على الاستفهام. {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذٰلِكَ زَعِيمٌ }: أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته، وسل معلقةعن مطلوبها الثاني، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء،كما قال تعالى: { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } ، وقال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني | عليم بأدواء النساء طبيب |
ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء، كما تقول: سل زيداً عن من ينظرفي كذا، ولكنه علق سلهم، فالجملة في موضع نصب. وقرأ الجمهور: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ }؛ وعبد الله وابنأبي عبلة: فليأتوا بشركهم، قيل: والمراد في القراءتين الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه، أي لا أحد يقولبقولهم، كما أنه لا كتاب لهم، ولا عهد من الله، ولا زعيم بذلك، {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ }: هذا استدعاء وتوقيف. قيل:في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا. وقيل: في الآخرة، على أن يأتوابهم. {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ }: وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا. وقيل: اذكر، وقيل التقدير: يوم يكشف عنساق كان كيت وكيت، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث؛ والظاهر وقول الجمهور: إن هذا اليوم هو يومالقيامة. وقال أبو مسلم: هذا اليوم هو في الدنيا لأنه قال: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ }، ويوم القيامة ليس فيه تعبدولا تكليف، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه لقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلَـئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ } ، ثم يرىالناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها، فلا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفساً إيمانها؛ وإما حالالمرض والهرم والمعجزة. {وَقَدْ كَانُواْ } قبل ذلك اليوم، {يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَـٰلِمُونَ } مما بهم الآن. فذلك إمالشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، وإما من العجز والهرم. وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس علىسبيل التكليف، بل على سبيل التقريع والتخجيل. وعند ما يدعون إلى السجود، سلبوا القدرة عليه، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتىيزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمون الأطراف والمفاصل. وقرأ الجمهور: {يُكْشَفُ } بالياء مبنياًللمفعول. وقرأ عبد الله بن أبي عبلة: بفتح الياء مبنياً للفاعل؛ وابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن هرمز: بالنون؛ وابنعباس: يكشف بفتح الياء منبياً للفاعل؛ وعنه أيضاً بالياء مضمومة مبنياً للمفعول. وقرىء: يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين، من أكشفإذا دخل في الكشف، ومنه أكشف الرجل: انقلبت شفته العليا، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه. قال مجاهد: هيأول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها. ومما جاء في الحديث من قوله: فيكشف لهم عن ساق ، محمول أيضاً علىالشدة في ذلك اليوم، وهو مجاز شائع في لسان العرب. قال حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها | وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا |
وقال الراجز:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها | ومن طرادي الخيل عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها |
وقال الراجز:
قد شمرت عن ساقها فشدوا | وجدّت الحرب بكم فجدوا |
وقال آخر:
صبراً امام إن شرباق | وقامت الحرب بنا على ساق |
وقال الشاعر:
كشفت لهم عن ساقها | وبدا من الشر البوا |
ويروى: الصداح. وقال ابن عباس: يوم يكشف عن شدة.وقال أبو عبيدة: هذه كلمة تستعمل في الشدة، يقال: كشف عن ساقه إذا تشمر. قال: ومن هذا تقول العرب لسنةالجدب: كشفت ساقها، ونكر ساق للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة، خارج عن المألوف، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُو ٱلدَّاعِإِلَىٰ شَىْء نُّكُرٍ }، فكأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل. {وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ }: ظاهره أنهم يدعون،وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف. وقيل: الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين، فيريدون هم السجودفلا يستطيعونه، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله تعالى أنهم يقولون: أنت ربنا، ويخرون للسجود، فيسجد كل مؤمنوتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً، فلا يستطيعون سجوداً. انتهى. ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل علىأن لهم استطاعة في الدنيا، كما ذهب إليه الجبائي. و{خَـٰشِعَةٌ }: حال، وذو الحال الضمير في {يَدَّعُونَ }، وخص الأبصاربالخشوع، وإن كانت الجوارح كلها خاشعة، لأنه أبين فيه منه في كل جارحة، {تَرْهَقُهُمْ }: تغشاهم، {ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَإِلَى ٱلسُّجُودِ }. قيل: هو عبارة عن جميع الطاعات، وخص بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات، ومن حيث امتحنوا بهفي الآخرة. وقال النخعي والشعبي: أراد بالسجود: الصلوات المكتوبة. وقال ابن جبير: كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلايجيبون. {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ }، المعنى: خل بيني وبينه، فإني سأجازيه وليس ثم مانع. وهذا وعيد شديدلمن يكذب بما جاء به الرسول ﷺ من أمر الآخرة وغيره، وكان تعالى قدم أشياء من أحوالالسعداء والأشقياء. ومن في موضع نصب، إما عطفاً على الضمير في ذرني، وإما على أنه مفعول معه. {سَنَسْتَدْرِجُهُم } إلىقوله: {مَتِينٌ }: تكلم عليه في الأعراف. {أَمْ تَسْـئَلُهُمْ أَجْراً } إلى: {يَكْتُبُونَ }: تكلم عليه في الطور. روي أنهﷺ أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحُد حين اشتد بالمسلمين الأمر. وقيل: حين أراد أن يدعوعلى ثقيف، فنزلت: {فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ }: وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى،{وَلاَ تَكُن كَصَـٰحِبِ ٱلْحُوتِ }: هو يونس عليه السلام، {إِذْ نَادَىٰ }: أي في بطن الحوت، وهو قوله: { أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ } ، وليس النهي منصباً على الذوات، إنما المعنى: لا يكن حالك مثل حاله. {إِذْ نَادَىٰ }:فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت، {إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ }: مملوء غيظاً علىقومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم. وقال ذو الرمة:
وأنت من حب ميّ مضمر حزنا | عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم |
وتقدمت مادة كظم في قوله: { وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } . وقرأالجمهور: {تَدَارَكَهُ } ماضياً، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل. وقرأ عبد الله وابن عباس: تداركته بتاء التأنيث؛ وابن هرمزوالحسن والأعمش: بشد الدال. قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك، والأصل في ذلك تتداركه، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله.وقال بعض المتأخرين: هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية، أي لولا أن كان يقال تتداركه، ومعناه: لولا هذهالحال الموجودة كانت له من نعم الله {لَنُبِذَ بِٱلْعَرَاء }، ونحوه قوله: { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } ؛ وجواب {لَوْلاَ }قوله: {لَنُبِذَ بِٱلْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ }، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم، كما قال: { فَنَبَذْنَـٰهُ بِٱلْعَرَاء } ، والمعتمد فيه علىالحال لا على النبذ مطلقاً، بل بقيد الحال. وقيل: لنبذ بعراء القيامة مذموماً، ويدل عليه { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } . ثم أخبر تعالى أنه {ٱجْتَبَـٰهُ }: أي اصطفاه، {وَنَبِيّا مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ }: أيالأنبياء. وعن ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعة في قومه. ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاهعن ما نهاه، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال: {وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ }: أي ليزلقون قومك بنظرهمالحاد الدال على العداوة المفرطة، أو ليهلكونك من قولهم: نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظرهالصرع والأكل لفعله. وقال الشاعر:
يتعارضون إذا التقوا في موطن | نظراً يزل مواطن الأقدام |
وقال الكلبي: ليزلقونك: ليصرفونك. وقرأ الجمهور: {لَيُزْلِقُونَكَ } بضم الياء من أزلق؛ ونافع: بفتحها من زلقت الرجل، عدى بالفتحة منزلق الرجل بالكسر، نحو شترت عينه بالكسر، وشترها الله بالفتح. وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى: ليزهقونك. وقيل: معنى{لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـٰرِهِمْ }: ليأخذونك بالعين، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد. قال ابن الكلبي: كان رجل من العربيمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه،فما تذهب إلا قليلاً ثم تسقط طائفة أو عدة منها. قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فأجابهم، وأنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا | وأخال أنك سيد معيون |
أي:مصاب بالعين، فعصم الله نبيه ﷺ، وأنزل عليه هذه الآية. قال قتادة: نزلت لدفع العين حين أرادواأن يعينوه عليه الصلاة والسلام. وقال الحسن: دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية. وقال القشيري: الإصابة بالعين إنماتكون مع الاستحسان، لا مع الكراهة والبغض، وقال: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ }. وقال القرطبي: ولا يمنع كراهة الشيء من أنيصاب بالعين عداوة له حتى يهلك. انتهى. وقد يكون في المعين، وإن كان مبغضاً عند العائن صفة يستحسنها العائن، فيعينهمن تلك الصفة، لا سيما من تكون فيه صفات كمال. {لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِكْرَ }: من يقول لما ظرف يكون العاملفيه {لَيُزْلِقُونَكَ }، وإن كان حرف وجوب لوجوب، وهو الصحيح، كان الجواب محذوفاً لدلالة ما قبله عليه، أي لما سمعواالذكر كادوا يزلقونك، والذكر: القرآن. {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } تنفيراً عنه، وقد علموا أنه ﷺ أتمهم فضلاًوأرجحهم عقلاً. {وَمَا هُوَ }: أي القرآن، {إِلاَّ ذِكْرٌ }: عظة وعبرة، {لّلْعَـٰلَمِينَ }: أي للجن والإنس، فكيف ينسبون إلىالجن من جاء به؟.