انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الفرقان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } * { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } * { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } * { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } * { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } * { أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } * { ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } * { تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } * { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً } * { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } * { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } * { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } * { قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } * { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } هذه السورة مكية في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة: إلاّ ثلاثآيات نزلت بالمدينة وهي { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ } ـ إلى قوله ـ { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } وقال الضحاك مدنية إلا من أولها إلى قوله { وَلاَ نُشُوراً } فهو مكي. ومناسبة أول هذهالسورة لآخر ما قبلها أنه لما ذكر وجوب مبايعة المؤمنين للرسول وأنهم إذا كانوا معه في أمر مهم توقف انفصالواحد منهم على إذنه وحذر من يخالف أمره وذكر أن له ملك السموات والأرض وأنه تعالى عالم بما هم عليهومجازيهم على ذلك، فكان ذلك غاية في التحذير والإنذار ناسب أن يفتتح هذه السورة بأنه تعالى منزه في صفاته عنالنقائص كثير الخير، ومن خيره أنه {نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ } على رسوله منذراً لهم فكان في ذلك اطماع في خيره وتحذيرهمن عقابه. و {تَبَـٰرَكَ } تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منهمضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر. وقال الطرماح

[عدل]
: تباركت لا معط لشيء منعته     وليس لما أعطيت يا رب مانع

قال ابن عباس: لم يزل ولا يزول. وقال الخليل: تمجد. وقال الضحاك: تعظم. وحكىالأصمعي تبارك عليكم من قول عربي صعد رابية فقال لأصحابه ذلك، أي تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات.وقال ابن عباس أيضاً والحسن والنخعي: هو من البركة وهي التزايد في الخير من قبله، فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر،وعلى هذا يكون صفة فعل وجاء الفعل مسنداً إلى {ٱلَّذِى } وهم وإن كانوا لا يقرون بأنه تعالى هو الذينزل الفرقان فقد قام الدليل على إعجازه فصارت الصلة معلومة بحسب الدليل، وإن كانوا منكرين لذلك. وتقدّم في آل عمرانلمَ سمي القرآن فرقاناً. وقرأ الجمهور {عَلَىٰ عَبْدِهِ } وهو الرسول محمد . وقرأ ابن الزبيرعلى عباده أي الرسول وأمته كما قال { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ } { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } ويبعد أن يرادبالقرآن الكتب المنزلة، وبعبده من نزلت عليهم فيكون اسم جنس كقوله { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } والضميرفي {لِيَكُونَ }. قال ابن زيد: عائد على {عَبْدِهِ } ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالىكقوله { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } والظاهر أن {نَذِيراً } بمعن منذر. وجوز أن يكون مصدراً بمعنى لإنذر كالنكير بمعنىالإنكار، ومنه { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } و {لّلْعَـٰلَمِينَ } عام للإنس والجن، ممن عاصره أو جاء بعده وهذامعلوم من الحديث المتواتر وظواهر الآيات. وقرأ ابن الزبير {لّلْعَـٰلَمِينَ } للجن والإنس وهو تفسير {لّلْعَـٰلَمِينَ }. ولما سبقفي أواخر السورة لا إن لله ما في السموات والأرض فكان إخباراً بأن ما فيهما ملك له، أخبر هنا أنهله ملكهما أي قهرهما وقهر ما فيهما، فاجتمع له الملك والملك لهما. ولما فيهما، والذي مقطوع للمدح رفعاً أو نصباًأو نعت أو بد من {ٱلَّذِى نَزَّلَ } وما بعد {نَزَّلَ } من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلاًبين النعت أو البدل ومتبوعه. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } الظاهر نفي الاتخاذ أي لم ينزل أحداً منزلة الولد. وقيل:المعنى لم يكن له ولد بمعنى قوله لم يلد لأن التوالد مستحيل عليه. وفي ذلك رد على مشركي قريش وعلىالنصارى واليهود الناسبين لله الولد. {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى ٱلْمُلْكِ } تأكيد لقوله {لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } وردعلى من جعل لله شريكاً. {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } عام في خلق الذوات وأفعالها. قيل: وفي الكلام حذف تقديره{وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } مما يصح خلقه لتخرج عنه ذاته وصفاته القديمة انتهى. ولا يحتاج إلى هذا المحذوف لأن منقال: أكرمت كل رجل لا يدخل هو في العموم فكذلك لم يدخل في عموم {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } ذاته تعالىولا صفاته القديمة. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } إن كان الخلق بمعنى التقدير، فكيف جاء {فَقَدَّرَهُ } إذ يصير المعنى وقدر كلشيء يقدره {تَقْدِيراً }. فقال الزمخشري: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلحله، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت. فإذا قيل:خلق الله كذا فهو بمنزلة إحداث الله وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدرهفي إيجاده متفاوتاً. وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه {فَقَدَّرَهُ } للبقاء إلى أمد معلوم. وقال ابن عطية: تقدير الأشياءهو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والاتقان انتهى. {وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } الضمير في {وَٱتَّخَذُواْ } عائد علىما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ } دلالة على ذلك لمينف إلاّ وقد قيل به. وقال الكرماني: الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله {لّلْعَـٰلَمِينَ }. وقيل: لفظ {نَذِيراً }ينبىء عنهم لأنهم المنذرون ويندرج في {وَٱتَّخَذُواْ } كل من ادعى إلهاً غير الله، ولا يختص ذلك بعباد الأوثان وعبادالكواكب. وقال القاضي: يبعد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع. والأقرب أن المرادبه عبَدة الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لعبادها كثرة انتهى. ولا يلزم ما قال لأن {وَٱتَّخَذُواْ} جمع و {ءالِهَةً } جمع، وإذا قوبل الجمع بالجمع تقابل الفرد بالفرد، ولا يلزم أن يقابل الجمع بالجمع فيندرجمعبود النصارى في لفظ {ءالِهَةً }. ثم وصف الآلهة بانتفاء إنشائهم شيئاً من الأشياء إشارة إلى انتفاء القدرة بالكلية،ثم بأنهم مخلوقون لله ذاتاً أو مصنوعون بالنحت والتصوير على شكل مخصوص، وهذا أبلغ في الخساسة ونسبة الخلق للبشر تجوز.ومنه قول زهير

: ولأنت تفري ما خلقت وبعض     القوم يخلق ثم لا يفري

وقالالزمخشري: الخلق بمعنى الافتعال كما في قوله { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } والمعنى أنهم آثروا على عبادته عبادة آلهة لا عجزأبَيْنَ من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا أفعال العباد حيث لا يفتعلون شيئاً وهم يفتعلون لأنعبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير {وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ } دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها، وهم يستطيعون وإذا عجزوا عنالافتعال ودفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلاّ اللهأعجز. {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }. قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث وأتباعه، والإفك أسوأ لكذب. {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْإِنْ }، قال مجاهد: قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه. وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار مولىالعلاء بن الحضرمي، وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول يتعهدهم. وقال ابن عباس: أشاروا إلى قومعبيد كانوا للعرب من الفرس أبو فكيهة مولى الحضرميين. وجبر ويسار وعداس وغيرهم. وقال الضحاك: عنوا أبا فكيهة الرومي. وقالالمبرد: عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلاّ من جنس الأول انتهى. وما قاله لا يلزم للاشتراك فيجنس الإنسان، ولا يلزم الاشتراك في الوصف. ألا ترى إلى قوله { فِئَةٌ تُقَـٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ } فقد اشتركتا في مطلق الفئة، واختلفتا في الوصف. والظاهر أن الضمير في {فَقَدْ } عائد على {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلماً كما تقول: جئت المكان فيكون جاء متعدياً بنفسه قاله الكسائي، ويجوز أن يحذفالجار أي بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه. وقال الزجاج: إذا جاء يستعمل بهذين الاستعمالين وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن منالعجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور إن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه. وقيل: الضمير عائدعلى قوم آخرين وهو من كلام الكفار، والضمير في {وَقَالُواْ } للكفار وتقدم الكلام على {أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ } {ٱكْتَتَبَهَا }أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليهوهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه أي سكبه وصبه. ويكون لفظ افتعل مشعراً بالتكلف والاعتمال أو بمعنىأمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك. {فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاءعلى المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب. و {أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ } خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه {أَسَـٰطِيرُ }و {ٱكْتَتَبَهَا } خبر ثان، ويجوز أن يكون {أَسَـٰطِيرُ } مبتدأ و {ٱكْتَتَبَهَا } الخبر. وقرأ الجمهور {ٱكْتَتَبَهَا } مبنياًللفاعل. وقراءة طلحة مبنياً للمفعول والمعنى {ٱكْتَتَبَهَا } كاتب له لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه،ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار {ٱكْتَتَبَهَا } إياه كاتب كقوله { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } ثم بنىالفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار {ٱكْتَتَبَهَا} كما ترى انتهى. وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن {ٱكْتَتَبَهَا } له كاتبوصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام. وثم اتسع في الفعل فحذفحرف الجر فصار {ٱكْتَتَبَهَا } إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما يتوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراًلا المسرح لفظاً المقيد تقديراً، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا {ٱكْتَتَبَهَا } وعلى هذا الذي قلناه جاء السماععن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظاً وتقديراً والآخر مسرح لفظاً لا تقديراً. قال الشاعر وهوالفرزدق

: ومنا الذي اختير الرجال سماحة     وجوداً إذا هب الرياح الزعازع

ولو جاءعلى ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذتقديره اختير من الرجال. والظاهر أن قوله {ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } من تمام قول الكفار. وعن الحسنأنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في {ٱكْتَتَبَهَا } للاستفهام الذي في معنى الإنكار، ووجههأن يكون نحو قوله

: أفرح إن أرزأ الكرام وإن     آخذ ذوداً شصايصاً نبلا

وحق للحسن أن يقف على الأولين. والظهير تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين الإيواء إلى مساكنهم وهما البكرة والأصيل، أويكونان عبارة عن الديمومة. وقرأ طلحة وعيسى فهي تتلى بالتاء بدل الميم. {قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ } أيكل سر خفي، ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلاّ من علام بكلالمعلومات لما احتوى عليه من إعجاز التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد، ولو استعان بالعالم كلهم ولاشتماله على مصالحالعالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى أن يتعلق علمه به، أو {يَعْلَمْ } ما تسرونمن الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما تقولون فهو مجازيكم {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } إطماع في أنهم إذا تابواغفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم. أو {غَفُوراً رَّحِيماً } في كونه أمهلكم ولم يعاجلكم على ما استوجبتموه منالعقاب بسبب مكابرتكم، أو لما تقدم ما يدل على العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن المتصف بالغفران والرحمةقادر على أن يعاقب. {وَقَالُواْ } الضمير لكفار قريش، وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره ابن إسحاق فيالسير فقال عتبة وغيره: إن كنت تحب الرئاسة ولَّيناك علينا أو المال جمعنا لك، فلما أبي عليهم اجتمعوا عليه فقالوا:مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق لالتماس الرزق سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك، أويلقي إليك كنزاً تنفق منه، أو يرد لك جبال مكة ذهباً وتزال الجبال، ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه وأشاعواهذه المحاجة فنزلت الآية. وكتب في المصحف لام الجر مفصولة من {هَـٰذَا } و {هَـٰذَا } استفهام يصحبه استهزاء أي{مَّالِ * هَـٰذَا } الذي يزعم أنه رسول أنكروا عليه ما هو عادة للرسل كما قال { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى ٱلاْسْوَاقِ } أي حاله كحالنا أي كان يجب أن يكون مستغنياً عنالأكل والتعيش، ثم قالوا: وهب أنه بشر فهلا أرفد بملك ينذر معه أو يلقى إليه كنز من السماء يستظهر بهولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم اقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق كالمياسير. وقرىء فتكون بالرفع حكاه أبومعاذ عطفاً على {أَنَزلَ } لأن {أَنَزلَ } في موضع رفع وهو ماض وقع موقع المضارع، أي هلا ينزل إليهملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو، أي فهو يكون. وقراءة الجمهور بالنصب على جواب التحضيض. وقوله {أَوْ يُلْقَىٰ} {أَوْ } يكون عطف على {أَنَزلَ } أي لو لا ينزل فيكون المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها باعتباراختلاف القائلين، ولا يجوز النصب في {أَوْ يُلْقَىٰ } ولا في {أَوْ تَكُونَ } عطفاً على {فَيَكُونُ } لأنهما فيحكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله {لَوْ * لا * أَنَزلَ }. وقرأ قتادة والأعمش: أو يكون بالياءمن تحت. وقرأ {يَأْكُلُ } بياء الغيبة أي الرسول، وزيد بن عليّ وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش بنون الجمعأي يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. {وَقَالَ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي للمؤمنين. قال الزمخشري: وأرادبالظالمين إياهم بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوه انتهى. وتركيبه وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم ليس تركيباًسائغاً بل التركيب العربي أن يقول: وأرادهم بأعيانهم بالظالمين {مَّسْحُورًا } غلب على عقله السحر وهذا أظهر، أو ذا سحروهو الرئة، أو يسحر بالطعام وبالشراب أي يُغذي، أو أصيب سحره كما تقول رأسته أصبت رأسه. وقيل {مَّسْحُورًا } ساحراًعنوا به أنه بشر مثلهم لا ملك. وتقدم تفسيره في الإسراء وبهذين القولين قيل: والقائلون ذلك النضر بن الحارث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم. {ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلاْمْثَالَ } أي قالوا فيك تلكالأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك وإلقاء كنز عليك وغير ذلك فبقوا متحيرينضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه، أي فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً له. وقيل: {ضَرَبُواْ لَكَ ٱلاْمْثَالَ } بالمسحوروالكاهن والشاعر وغيره {فُضّلُواْ } أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم بضده من الضلال. وقيل {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَسَبِيلاً } إلى حجة وبرهان على ما يقولون، فمرة يقولون هو بليغ فصيح يتقول القرآن من نفسه ويفتريه ومرة مجنونومرة ساحر ومرة مسحور. وقال ابن عباس: شبه لك هؤلاء المشركون الأشباه بقولهم هو مسحور فضلوا بذلك عن قصد السبيل،فلا يجدون طريقاً إلى الحق الذي بعثك به. وقال مجاهد: لا يجدون مخرجاً يخرجهم عن الأمثال التي {ضَرَبُواْ لَكَ }.ومعناه أنهم {ضَرَبُواْ لَكَ } هذه ليتوصلوا بها إلى تكذيبك {فُضّلُواْ } عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا.وقال بو عبد الله الرازي؛ {ٱنْظُرْ كَيْفَ } اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لماضلوا وأرادوا القدح في نبوتك، لم يجدوا إلى القدح سبيلاً إذا لطعن عليه إنما يكون فيما يقدح في المعجزات التيادعاها لا بهذا الجنس من القول. وقال الفراء: لا يستطيعون في أمرك حيلة. وقال السدي {سَبِيلاً } إلى الطعن.ولما قال المشركون ما قالوا قيل: فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها، ولم يعط ذلك أحد قبلكولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئاً، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال: يجمع لي ذلكفي الآخرة فنزل {تَبَارَكَ ٱلَّذِى }. وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال: عرض على جبريل عليه السلام بطحاء مكةذهباً فقلت: بل شبعة وثلاث جوعات، وذلك أكثر لذكري ومسألتي. قال الزمخشري في {تَبَـٰرَكَ } أي تكاثر خيراً {ٱلَّذِى إِنشَاء } وهب لك في الدنيا {خَيْرًا } مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة منالجنات والقصور انتهى. والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في الدنيا قاله مجاهد. ويبعد تأويلابن عباس أنه إشاة إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءهالله. وقيل: في الآخرة ودخلت إن على المشيئة تنبيهاً أنه لا ينال ذلك إلاّ برحمته وأنه معلق على محض مشيئتهليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة. والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم.قال ابن عطية: ويرده قوله بعد ذلك {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ } انتهى. ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطفعلى ما حكى عنهم يقول: بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة. وقرأ الجمهور {وَيَجْعَلَ } بالجزم قالواعطفاً على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام {لَكَ } لكنذلك لا يعرف إلاّ من مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالجزم من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو، وليس منمذهب الثلاثة إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا. وقرأ مجاهد وابن عامر وابنكثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع. قال ابن عطية: والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله {جَعَلَ} لأن جواب الشرط هو موضع استئناف. ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط؟ وقالالحوفي من رفع جعله مستأنفاً منقطعاً مما قبله انتهى. وقال أبو البقاء وبالرفع على الاستئناف. وقال الزمخشري: وقرىء {وَيَجْعَلَ }بالرفع عطفاً على {جَعَلَ } لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله

: وإن أتاه خليل يوم مسألة     يقول لا غائب مالي ولا حرم

انتهى. وهذا الذي ذهب إليهالزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً جاز في جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه، إذ مذهب سيبويه أن الجوابمحذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به التقديم، ولكون الجواب محذوفاً لا يكون فعل الشرط إلاّ بصيغة الماضي. وذهب الكوفيونوالمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاءولا على التقديم، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعلالجواب فلم تعمل فيه، وبقي مرفوعاً وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام. وقال بعض أصحابنا:هو ضرورة إذ لم يجىء إلاّ في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام في هذه المذاهب مذكور في علم النحو.وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان {وَيَجْعَلَ } بالنصب على إضمار أن. وقال أبو الفتح هي على جوابالشرط بالواو، وهي قراءة ضعيفة انتهى. ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة

: فإن يهلك أبو قابوس يهلك     ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش

يروىبجرم نأخذ ورفعه ونصبه. {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ } قال الكرماني: المعنى ما منعهم من الإيمان أكلك الطعام ولا مشيك فيالسوق، بل منعهم تكذيبهم بالساعة. وقيل: ليس ما تعلقوا به شبهة بل الحامل على تكذبيك تكذبيهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها.وقيل: يجوز أن يكون متصلاً بما يليه كأنه قال {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ } فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقونبتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة انتهى. وبل لترك اللفظ المتقدم من غير إبطال لمعناه. وأخذفي لفظ آخر {وَأَعْتَدْنَا } جعلناه معداً. {سَعِيراً } ناراً كبيرة الإيقاد. وعن الحسن: اسم من أسماء جهنم. {إِذَا رَأَتْهُمْ} قيل هو حقيقة وإن لجهنم عينين وروي في ذلك أثر فإن صح كان هو القول الصحيح. وإلاّ كانمجازاً، أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد كقولهم: دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل، ومنه: لا تتراءى ناراهما.وقال قوم: النار اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغير ويزفر حكاه الكرماني، وقيل: هو على حذف مضاف أي رأتهمجزنتها من مكان بعيد، قيل: مسيرة خمسمائة عام. وقيل: مائة سنة. وقيل: سنة {سَمِعُواْ لَهَا } صوت تغيظ لأن التغيظلا يسمع، وإذا كان على حذف المضاف كان المعنى تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم. وقيل {سَمِعُواْ }صوت لهيبها واشتعالها وقيل هو مثل قول الشاعر

: فيا ليت زوجك قد غدا     متقلداً سيفاً ورمحاً

وهذا مخرج على تخريجين أحدهما الحذف أي ومعتقلاً رمحاً. والثاني تضمين ضمن متقلداً معنى متسلحاً فكذلك الآية أي{سَمِعُواْ لَهَا } ورأوا {تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } وعاد كل واحد إلى ما يناسبه. أو ضمن {سَمِعُواْ } معنى أدركوا فيشملالتغيظ والزفير. وانتصب {مَكَاناً } على الظرف أي في مكان ضيق. وعن ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزج في الرمحمقرنين قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. وقرأ ابن كثيروعبيد عن أبي عمر وضيقاً. قال ابن عطية: وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة،والوجه قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير {أَلْقَوْاْ } بدلنكرة من معرفة ونصب على الحال، والظاهر دعاء الثبور وهي الهلاك فيقولون: واثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك. وقيل:المدعو محذوف تقديره دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبوراً. والثبور قال ابن عباس: هو الويل، وقال الضحاك: هو الهلاكومنه قول ابن الزبعري

: إذ يجاري الشيطان في سنن الغي     ومن مال ميله مثبور{

لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ } يقول لهم {لاَّ تَدْعُواْ } أو هم أحق أن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناكقول، أي لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزناً كثيراً وكثرته إما لديمومة العذاب فهو متجدداً دائماً، وإما لأنهأنواع وكل نوع يكون منه ثبور لشدته وفظاعته. وقرأ عمرو بن محمد {ثُبُوراً } بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتحالواو في المصادر قليل نحو البتول. وحكى عليّ بن عيسى: ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك. كأنهمدعوا بما فعلوا فقالوا: واصرفاه عن طاعة الله كما تقول: واندامتاه. روي أن أول ما ينادي بذلك إبليس يقول: واثبوراهحتى يكسى حلة من جهنم يضعها على جبينه ويسحبها من خلفه، ثم يتبعه في القول أتباعه فيقول لهم خزان جهنم{لاَّ تَدْعُواْ }. وقيل: نزلت في ابن خطل وأصحابه. والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها. وقيل إلى الجنةوالكنز في قولهم. وقيل إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة و {خَيْرٌ } هنا ليست تدل علىالأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله

:¤شع فشركما لخيركما الفداء©†    

وكقول العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وكقوله { ٱلسّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ } وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ. قال ابن عطية: ومن حيث كان الكلام استفهاماً جاز فيه مجيءلفظه للتفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبهبالصواب أو بالخطأ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبراً لأن فيه مخالفة، وأما إذا كان استفهاماًفذلك سائغ انتهى. وما ذكره يخالفه قوله

: فشركما لخيركما الفداء    

وقوله {ٱلسّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ} فإن هذا خبر. وكذلك قولهم: العسل أحلى من الخل إلاّ إن تقيد الخبر بأنه إذا كان واضحاً الحكم فيهللسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد أيهما أفضل فإنه يجوز. وضمير {ٱلَّتِى } محذوف أي وعدها وضمير {مَايَشَآءونَ } كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤنه دليل على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون ألاّ فيالجنة. وشمل قوله {جَزَاء وَمَصِيراً } الثواب ومحله كما قال { نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } وفي ضده { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا } لأنه بطيب المكان يتضاعف النعيم، كما أنه برداءته يتضاعف العذاب {وَعْداً } أي موعوداً {مَسْؤُولاً }سألته الملائكة في قولهم { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدْتَّهُمْ } قاله محمد بن كعب والناس في قولهم { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلاْخِرَةِ حَسَنَةً } وقال معناه ابنعباس وابن زيد. وقال الفراء: {وَعْداً * مَسْؤُولاً } أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً، وإنلم يسأل. قيل: وما قاله الفراء محال انتهى. وليس محالاً إذ يكون المعنى أنه ينبغي أن يسأل هذا الوعد الذيوعدته أو بصدد أن يسأل أي من حقه أن يكون مسؤولاً. و{عَلَىٰ رَبِّكَ } أي بسبب الوعد صار لا بدمنه. وقال الزمخشري: كان ذلك موعوداً واجباً على ربك انجازه حقيقاً أن يسأل. ويطلب لأنه جزاء وأجر مستحق، وهذا علىمذهب المعتزلة.

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } * { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } * { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } * { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } * { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } * { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }

[عدل]

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ * وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَـؤُلاَءأَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْحَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذّكْرَ وَكَانُواْ }. قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص {يَحْشُرُهُمْ } و{فَيَقُولُ } بالياء فيهما. وقرأالحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما. وقرأ باقي السبعة في نحشرهم بالنون وفي {فَيَقُولُ } بالياء. وقرأ الأعرج {يَحْشُرُهُمْ }بكسر الشين. قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكونمن اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي. وقال ابن عطية: وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعلبكسر العين المتعدي أقيس من يفعل بضم العين انتهى. وهذا ليس كما ذكر ابل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذالم يكن للمبالغة ولا حلقى عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيراً، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلاّفالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعاً للكلمة أو لم يسمعا. {وَمَا يَعْبُدُونَ } قال الضحاك وعكرمة: الأصنامالتي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب. وقال الكلبي: يحيـي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها. وقال الجمهور:من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر كقوله {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى } وما بعده منالمحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلاّ من العقلاء، وجاء ما يشبه ذلك منصوصاً في قوله

{ ثُمَّ * تَقُولَ * لِلْمَلَـٰئِكَةِ أَهَـؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ }

{ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ }

وسؤاله تعالىوهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحةأولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً للمكلفين. وجاء الاستفهام مقدماً فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب {*أأضللتم} ولاأضلوا لأن كلاً من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله. وتقدم نظير هذا في

{ قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِـئَالِهَتِنَا * إِبْرَاهِيمَ }

وقال الزمخشري: وفيه كسر بيِّن لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيثيقول للمعبودين من دونه {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى } أم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون: بلأنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سببالكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال الذي هو عمل الشياطين إليهمواستعاذوا منهم فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيهاً منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها. وأسندوانسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله

{ يُضِلُّ مَن يَشَاء }

ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتم انتهى. وهو على طريقةالمعتزلة. والمعنى {أَءنتُمْ } أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق، أم {ضَلُّواْ } بأنفسهم عنه. ضل أصلهأن يتعدى بعن كقوله

{ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ }

ثم أتسع فحذف، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدىبإلى ثم يحذف ويضل مطاوع أضل كما تقول: أقعدته فقعد. و{سُبْحَـٰنَكَ } تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادةأحد أو يفرد بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون، أن يكون أحد منهم نداً وهو المنزهعن الند والنظير. وقال الزمخشري: {سُبْحَـٰنَكَ } تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضرلالذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى. وقرأ علقمة ما ىنبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهمأخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه. وقرأ أبو عيسى الأسود القاري {يَنبَغِى لَنَا } مبنياًللمفعول. وقال ابن خالويه: زعم سيبويه أن ينبغي لغة. وقرأ الجمهور: {أَن نَّتَّخِذَ } مبنياً للفاعل و{مِنْ أَوْلِيَاء }مفعول على زيادة {مِنْ } وحسن زيادتها انسحاب النفي على {نَّتَّخِذَ } لأنه معمول لينبغي. وإذا انتفى الابتغاء لزم منهانتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله. ونظيره

{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ }

أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك،فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. وقال أبو مسلم {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا } أن نكونأمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار قال

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ }

وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبورجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبوبشر والزعفراني أن يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله

{ أَمِ ٱتَّخَذُواْ الِهَةً مّنَ ٱلاْرْضِ }

وعليهقراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }

فقيل: هذه القراءة منه فالأول الضمير في{نَّتَّخِذَ } والثاني {مِنْ أَوْلِيَاء } و{مِنْ } للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري. وقال ابنعطية: ويضعف هذه القراءة دخول {مِنْ } في قوله {مِنْ أَوْلِيَاء } اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره. وقال أبوالفتح {مِنْ أَوْلِيَاء } في موضع الحال ودخلت {مِنْ } زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول: ما اتخذت زيداً منوكيل. وقيل {مِنْ أَوْلِيَاء } هو الثاني على زيادة {مِنْ } وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولهازائدة على المفعول الأول بشرطه. وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصماً فقال: مقت المخدّج أو ما علمأن فيها {مِنْ } ولما تضمن قولهم {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء } أنّا لمنضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهموكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل، فكان ذلك سبباً للإعراض عن ذكر الله. قيل: ولكن متعتهم كالرمزإلى ما صرح به موسى من قوله

{ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ }

أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنياحتى صاروا غرقى في بحر الشهوات فكان صارفاً لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و{ٱلذّكْرِ } ما ذكر بهالناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن. والبور: قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع. وقيل: جمع بائر كعائذوعوذ. قيل: معناه هلكى. وقيل: فدى وهي لغة الأزد يقولون: أمر بائر أي فاسد، وبارت البضاعة: فسدت. وقال الحسن: لاخير فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات فيها. وقيل {بُوراً } عمياً عن الحق. {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة، فالاحتجاج والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وهو علىإضمار القول كقوله

{ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَـٰفِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ }

أي فقلنا قد جاءكم. وقول الشاعر

: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا     ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي فقلناقد جئنا وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار أي قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنامبقولهم {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا } وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير عليهم السلام، وهو الظاهر لتناسقالخطاب مع قوله {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى } أي كذبكم المعبودون {بِمَا تَقُولُونَ } أي بقولهم أنكم أضللتموهم، وزعمهم أنكم أولياؤهم مندون الله. ومن قرأ {بِمَا تَقُولُونَ } بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي {سُبْحَـٰنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَمِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء }. وقيل: الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب. {سُبْحَـٰنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِىلَنَا } أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة التوبيخ والتقريع. وقيل: هو خطاب للمؤمنين في الدنياأي قد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع. وقرأ الجمهور {بِمَا تَقُولُونَ } بالتاء منفوق. وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من تحت. وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش وطلحة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ }بتاء الخطاب، ويؤيد هذه القراءة أن الخطاب في {كَذَّبُوكُمْ } للكفار العابدين. وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآبما يقولون فما يستطيعون بالياء فيهما أي هم. {صَرْفاً } أي صرف العذاب أو توبة أو حيلة من قولهم إنهليتصرف أي يحتال، هذا إن كان الخطاب في {كَذَّبُوكُمْ } للكفار فالتاء جارية على ذلك، والياء التفات وإن كان للمعبودينفالتاء التفات. والياء جارية على ضمير {كَذَّبُوكُمْ } المرفوع وإن كان الخطاب للمؤمنين أمّة الرسول عليه السلام في قوله {فَقَدْكَذَّبُوكُمْ } فالمعنى أنهم شديد والشكيمة في التكذيب {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ } أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك. وبالياء فمايستطيعون {صَرْفاً } لأنفسهم عما هم عليه. أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه. {وَلاَ نَصْراً } لأنفسهممن البلاء الذي استوجبوه بتكذبيهم. {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ } الظاهر أنه عام. وقيل: خطاب للمؤمنين. وقيل: خطاب للكافرين. والظلمهنا الشرك قاله ابن عباس والحسن وابن جريج، ويحتمل دخول المعاصي غير الشرك في الظلم. وقال الزمخشري: العذاب الكبير لاحق لكل من ظلم والكافر ظالم لقوله

{ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

والفاسق ظالم لقوله

{ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ }

انتهى وفيه دسيسة الاعتزال. وقرىء: يذقه بياء الغيبة أي الله وهو الظاهر. وقيل: هو أي الظلموهو المصدر المفهوم من قوله {يَظْلِمُ } أي يذقه الظلم. ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي فيالأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل رسالة ومفعول {أَرْسَلْنَا } عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحداً.وقدره ابن عطية رجالاً أو رسلاً. وعاد الضمير في {أَنَّهُمْ } على ذلك المحذوف كقوله

{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ }

أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله {أَلاَ إِنَّهُمْ } كأنه قال إلاّ آكلين وماشين.وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلاّ أي إلاّ من. {أَنَّهُمْ } والضمير عائد على {مِنْ } علىمعناها فيكون استثناء مفرغاً وقيل: إنهم قبله قول محذوف أي {إِلا } قيل {أَنَّهُمْ } وهذان القولان مرجوحان في العربية.وقال ابن الأنباري: التقدير إلاّ وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار. قد ردّ على من قال إن مابعد إلاّ قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضاً أبو البقاء قال: وقيل لولم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلاّ وهم يأكلون. وقرىء {أَنَّهُمْ } بالفتح على زيادة اللام وإنمصدرية التقدير إلاّ أنهم يأكلون أي ما جعلناهم رسلاً إلى الناس إلاّ لكونهم مثلهم. وقرأ الجمهور: {وَيَمْشُونَ } مضارع مشىخفيفاً. وقرأ عليّ وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله {يَمْشُونَ } مشدداً مبنياً للمفعول، أي يمشيهم حوائجهم والناس. قالالزمخشري: ولو قريء {يَمْشُونَ } لكان أوجه لولا الرواية انتهى. وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشدد مبنياً للفاعل،وهي بمعنى {يَمْشُونَ } قراءة الجمهور. قال الشاعر

: ومشى بأعطان المباءة وابتغى     قلائص منها صعبة وركوب {

وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ }. قال ابن عطية: هو عام للمؤن والكافر،فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوّة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره،وكذلك العلماء وحكام العدل. وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى. وروي قريب من هذه عن ابنعباس والحسن. قال ابن عطية: والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمّة محمد ، كأنه جعل إمهالالكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم. هل تصبرون أم لا؟ ثم أعرب قوله {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } عن الوعدللصابرين والوعيد للعاصين. وقال الزمخشري: {فِتْنَةً } أي محنة وبلاء، وهذا تصبر لرسول الله علىما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في اوسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل يقول: جرت عادتي وموجب حكمتي علىابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواعأذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه

{ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً }

الآية وموقع {أَتَصْبِرُونَ } بعد ذكر الفتنة موقع {أَيُّكُمْ } بعد الابتلاء في قوله

{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }

{بَصِيراً } عالماً بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة،وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا

{ أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ }

وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء.وقيل: جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا،وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دينوي. وقيل: كان أبو جهل والوليدبن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان فرفعواعلينا إدلالاً بالسابقة فهو افتتان بعضهم ببعض انتهى. وفيه تكثير وهذا القول الأخير قول الكلبي والفراء والزجاج. والأولى أن قوله{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } يشمل معاني هذه الألفاظ كلها لأن بين الجميع قدراً مشتركاً. وقيل: في قوله {أَتَصْبِرُونَ }أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا، والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا علىالطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به. وقال أبو عبيدة وقوم: معناه لا يخافون. وقال الفراء: لا يرجون نشوراً لايخافون، وهذه الكلمة تهامية وهي أيضاً من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف. فتقول:فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه، ومن ذلك

{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً }

أي لاتخافون لله عظمة وإذا قالوا: فلان يرجو ربه فهذا معنى الرجاء لا على الخوف. وقال الشاعر

: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها     وحالفها في بيت نوب عوامل

وقال آخر

: لا ترجى حين تلاقي الذائذاأسبعة لاقت معاً أم واحداً    

انتهى. ومن لازم الرجاء للثواب الخوف من العقاب، ومنكان مكذباً بالبعث لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولاالانفكاك عنها. فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله فتأويله ممكن لكن الفراء وغيره نقلوا ذلك لغة لهذيل فيالنفي والشاعر هذلي، فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على لغته. {لَوْ * لا * أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـئِكَةُ} فتخبرنا أنك رسول حقاً {أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } فيخبرنا بذلك قاله ابن جريج وغيره. وهذه كما قالت اليهود

{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً }

وكقولهم أعني المشركين

{ أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَـئِكَةِ قَبِيلاً }

وهذا كلهفي سبيل التعنت، وإلاّ فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا. {لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ } أي تكبروا {فِى أَنفُسِهِمْ }أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله، وهم ليسوا بأهل لها. والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهممن الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم كما قال

{ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ }

واللام في لقد جواب قسم محذوف و{عَتَوْاْ } تجاوزوا الحد في الظلمووصفه بكبير مبالغة في إفراطه أي لم يجسروا على هذا القول العظيم إلاّ لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو. وجاءهنا {عَتَوْاْ } على الأصل وفي مريم

{ عِتِيّاً }

على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل. قال ابن عباس{عَتَوْاْ } كفروا أشد الكفر وأفحشوا. وقال عكرمة: تجبروا. وقال ابن سلام: عصوا. وقال ابن عيسى: أسرفوا. قال الزمخشري: هذهالجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها. ونحوه قول القائل

: وجارة جساس أبأنا بنابها     كليباً غلت ناب كليب بواؤها

في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترىأن المعنى ما أشدّ استكبارهم وما أكثر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب. {يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلَـئِكَةَ } {يَوْمٍ }منصوب بـ(اذكر) وهو أقرب أو بفعل يدل عليه {لا } أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه {ٱلْمَلَـئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ }لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الداخلة على الأسماء عاملةعمل ليس، ودخول {لا } على {بُشْرىً } لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله بعد {وَقَدِمْنَاإِلَىٰ مَا عَمِلُواْ } وعن ابن عباس: عند الموت والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول الملائكة لا يعرفون ما يكونلهم إذا رأوهم من الشر وانتفاء البشارة وحصول الخسار والمكروه. واحتمل {بُشْرىً } أن يكون مبنياً مع {لا } واحتملأن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنياً مع {لا } احتمل أنيكون الخبر {يَوْمَئِذٍ } خبر بعد خبر أو نعت لبشرى، أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون {فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} صفة لبشرى، والخبر {لّلْمُجْرِمِينَ } ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس {لا } أو الخبر للمبتدأ الذي هومجموع {لا } وما بني معها؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون {يَوْمَئِذٍ } معمولاً لبشرى،وأن يكون صفة، والخبر من الخبر. وأجاز أن يكون {يَوْمَئِذٍ } و{لّلْمُجْرِمِينَ } خبر وجاز أن يكون {يَوْمَئِذٍ } خبراًو{لّلْمُجْرِمِينَ } صفة، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس لا بإجماع. وقال الزمخشري: و{يَوْمَئِذٍ } للتكرير وتبعه أبوالبقاء، ولا يجوز أن يكون تكريراً سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البدل، لأن {يَوْمٍ } منصوب بماتقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد {لا } العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلهاوعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلاّ والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم. قيل: ويجوز أن يكون منوضع الظاهر موضع الضمير، والظاهر أن الضمير في {وَيَقُولُونَ } عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة،ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلاّ بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عندلقاء العدو ونزول الشدة وقال معناه مجاهد قال {حِجْراً } عواذاً يستعيذون من الملائكة. وقال مجاهد وابن جريج: كانت العربإذا كرهت شيئاً قالوا حجراً. وقال أبو عبيدة: هاتان اللفظتان عوذة للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو فيشهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة انتهى. ومنه قول المتلمس

: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها     حجر حرام ألا تلك الدهايس

أي هذا الذي حننت إليه هو ممنوع، وذكر سيبويه {حِجْراً } فيالمصادر المنصوبة غير المتصرفة. وقال بعض الرجاز

: قالت وفيها حيرة وذعرعوذ يرى منكم وحجر    

وأنه واجب إضمار ناصبها. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجراً وهي من حجره إذا منعه لأنالمتسعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه. وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك {حِجْراً } بضم الحاء. وقيل:الضمير في {وَيَقُولُونَ } عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين {حِجْراً مَّحْجُوراً } عليكم البشرى و{مَّحْجُوراً } صفة يؤكدمعنى {حِجْراً } كما قالوا: موت مائت، وذيل ذائل، والقدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمهبذلك وإنفاذه. قيل: أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره، وحسنت لفظة {*قدمنا}لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب، فمثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها فيكفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف، ومنّ علي أسير. وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصدإلى ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثراً، وفي أمثالهم أقل من الهباء و{هَبَاء مَّنثُوراً } صفة للهباءشبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به، ثم وصفه بمنثوراً لأن الهباء تراه منتظماً مع الضوء فإذا حركته الريح رأيتهقد تناثر وذهب. وقال الزمخشري: أو جعله يعني {مَّنثُوراً } مفعولاً ثالثاً لجعلناه أي {فَجَعَلْنَـٰهُ } جامعاً لحقارة الهباء والتناثر.كقوله

{ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ }

أي جامعين للمسخ والخسء انتهى. وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكونلكان خبران وأزيد. وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث. وقال ابن عباس: الهباء المنثورما تسفي به الرياح وتبثه. وعنه أيضاً: الهباء الماء المهراق والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات. والمقيل المكان الذي يأوونإليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع، ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور {مَقِيلاً } على طريق التشبيهإذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب المواضع. وفي لفظ {أَحْسَنُ } رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوهوملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين. و{خَيْرٌ } قيل: ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية فيلزم منذلك خير في مستقر أهل النار، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلكفيه. فالمعنى {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } في الآخرة من أولئك فيالدنيا. وقيل: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } منهم لو كان لهم مستقر، فيكون التقدير وجود مستقر لهم فيه خير. وعن ابن مسعودوابن عباس والنخعي وابن جبير وابن جريج ومقاتل: إن الحساب يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ويقيل أهلالجنة في الجنة وأهل النار في النار.

{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } * { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً } * { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً } * { يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } * { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } * { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً } * { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } * { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } * { ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً }

[عدل]

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاء بِٱلْغَمَـٰمِ وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ تَنزِيلاً * ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَيَوْماً عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى * لَيْتَنِى * ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً *ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً * يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِخَذُولاً * وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبّ إِنَّ قَوْمِى ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰبِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً *وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً * ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}. قرأ الحرميان وابن عامر {تَشَقَّقُ } بإدغام التاء من تتشقق في الشين هنا. وفي ق وباقي السبعة بحذفتلك التاء ويعني يوم القيامة كقوله

{ السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ }

وقرأ الجمهور: {وَنُزّلَ } ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول، وابنمسعود وأبو رجاء {وَنُزّلَ } ماضياً مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً وأنزل مبنياً للفاعل وجاء مصدره {تَنْزِيلاً } وقياسه إنزالاً إلاّأنه لما كان معنى أنزل ونزَّل واحداً جاز مجيء مصدر أحدما للآخر كما قال الشاعر

:حتى تطوّيت انطواء الخصب    

كأنه قال: حتى انطويت. وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضياً رباعياً مبنياً للمفعولمضارعه ينزل. وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو {وَنُزّلَ } ثلاثىاً مخففاً مبنياً للفاعل، وهارون عن أبي عمرووتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو {وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } بضم النونوشد الزاي، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل. ونسبها ابن عطية لابنكثير وحده قال: وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو. وعن أبيّ أيضاً وتنزلت. وقرأ أبيّ ونزلت ماضياً مشدداًمبنياً للمفعول بتاء التأنيث. وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو: {وَنُزّلَ } مخففاً مبنياً للمفعول {ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } رفعاً،فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره: ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى{ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازمللمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى. وقال أبو الفتح: وهذا غير معروف لأن {نَزَّلَ } لا يتعدىإلى مفعول فيبني هنا للملائكة، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلاّ أزكمه الله وأجنه. وهذاباب سماع لا قياس انتهى. فهذه إحدى عشرة قراءة. والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود. وقيل هو الله في قوله

{ فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ }

وقال ابن جريج: الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا. وقال الحسن: سترةبين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا. وقيل: غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبنيإسرائيل في تيههم، والظاهر أن {ٱلسَّمَاء } هي المظلة لنا. وقيل: تتشقق سماء سماءى قاله مقاتل. والباء باء الحال أيمتغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشقبها ونظيره قوله {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ } أو بمعنى عن أقوال ثلاثة. والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عنكذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له. {وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب. و{ٱلْحَقّ} صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل، ولا يبقى إلاّ ملكه تعالى وخبر {ٱلْمَلِكُ } {يَوْمَئِذٍ }.و{ٱلرَّحْمَـٰنُ } متعلق بالحق أو للبيان أعني {لِلرَّحْمَـٰنِ }. وقيل: الخبر {لِلرَّحْمَـٰنِ } و{يَوْمَئِذٍ } معمول للملك. وقيل: الخبر {ٱلْحَقّ} و{لِلرَّحْمَـٰنِ } متعلق به أو للبيان، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف.ودل قوله {عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه منصلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والظاهر عموم الظالم إذ اللام فيه للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء، وقالا: فلان هو كنايةعن الشيطان. وقال ابن عباس وجماعة: {ٱلظَّـٰلِمِ } هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى الإسلام وأبيّبن خلف هو المكني عنه بفلان، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه. وعن ابن عباس أيضاً. عكس هذاالقول. قيل وسبب نزولها هو عقبة وأبي. وقيل: كان عقبة خليلاً لأمية فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرامإن بايعت محمداً فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت قاله الشعبي. وذكر من إساءة عقبة على الرسول ما كان سبب أنقال له الرسول عليه السلام: لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فقتل عقبة يوم بدرصبراً أمر علياً فضرب عنقه، وقتل أبيّ بن خلف يوم أحد في المبارزة. والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالموتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص بهيعبر عنه بفلان. والظاهر أن {ٱلظَّـٰلِمِ } {يَعَضُّ عَلَىٰ يَدَيْهِ } فعل النادم المتفجع. وقال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفقثم تنبت، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. وقيل: هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ونقل أئمةاللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندماً وقال الشاعر

: لطمت خدها بحمر لطاف     نلن منها عذاب بيض عذاب فتشكى العناب نور إقاح

وفي المثل: يأكل يديه ندماً ويسيل دمعه دماً. وقال الزمخشري: عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد وأكل البنانوحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها فتذكر الرادفة. ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام بهفي طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه انتهى. وقالالشاعر في حرق الناب

: أبى الضيم والنعمان يحرق نابه     عليه فأفضى والسيوف معاقله {

يِقُولُ } في موضع الحال أي قائلاً {يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى } فان كانت اللام للعهدفالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبيّ وسلك طريق الحق، وإن كانت اللام للجنس فالمعنىأنه تمنى. سلوك طريق الرسول وهو الإيمان، ويكون الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتّباع ما جاء به رسولمن الله إلى أن جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به. ثمينادي بالويل والحسرة يقول {*يا ويلتي} أي يا هلكاه كقوله

{ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ }

وقرأ الحسن وابن قطيب {يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى } بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكتهيقول لها تعالي فهذا أوانك. وقرأت فرقة بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرةفتحة والياء ألفاً فراراً من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولاً. وفلان كناية عن العلم وهو متصرفوقل كناية عن نكرة الإنسان نحو: يا رجل وهو مختص بالنداء، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ولام فل ياء أوواو وليس مرخماً من فلان خلافاً للفراء. ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلمكفلان. وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب. و{ٱلذّكْرِ } ذكر الله أو القرآن أو الموعظة، والظاهر حملالشيطان على ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطاناً لأنه يضل كما يضل الشيطان ثمخذ له ولم ينفعه في العاقبة. وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم، ويحتمل أن تكون إخباراً منكلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ. وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليسالصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير. والظاهر أن دعاء رسول الله ربه وإخباره بهجر قومه قريشالقرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسلياً مؤانساً بقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ} وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه. وقالتفرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليه السلام في الآخرة كقوله

{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً }

والظاهر أن {مَهْجُوراً } بمعنى متروكاً من الإيمان به مبعداً مقصياً من الهجر بفتح الهاء.وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه. وقيل: من الهجر والتقدير {مَهْجُوراً } فيه بمعنى أنه باطل. وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروافيه كقوله

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }

قال الزمخشري: ويجوز أن يكونالمهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول، والمعنى اتخذوه هجراً والعد ويجوز أن يكون واحداً وجمعاً انتهى. وانتصب {هَادِياً } و{نَصِيراً} على الحال أو على التمييز. وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق. قال الزمخشري:{نَزَّلَ } ههنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلاّ كان متدافعاً انتهى. وإنما قال أن {نَزَّلَ } بمعنىأنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو. وقوله{جُمْلَةً وٰحِدَةً } وقد قررنا أنا {نَزَّلَ } لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة. وقد بيّنا ذلكفي أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا: لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراةوالإنجيل. وقيل: قائلو ذلك اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدةأو مفرقاً بل الإعجاز في نزوله مفرقاً أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثلما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور. فقيل: هو من كلام الكفاروأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلاً مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى {لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } تعليلاً لمحذوفأي فرقناه في أوقات {لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }. وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم، ولما تضمنكلامهم معنى لمَ أُنْزِلَ مفرقاً أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي {كَذٰلِكَ } أنزل مفرقاً. قال الزمخشري: والحكمة فيهأن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزأ عقيبجزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليه السلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى عليهمالسلام حيث كان أمياً لا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجماًفي عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين سنة وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجواب السائلين، ولأن بعضه منسوخ وبعضهناسخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرقاً انتهى. واللام في {لِنُثَبّتَ بِهِ } لام العلة. وقال أبو حاتم:هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى. وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهبالأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح. وقرأ عبد الله ليثبت بالياءأي ليثبت الله {وَرَتَّلْنَاهُ } أي فصلناه. وقيل: بيناه. وقيل: فسرناه. {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } يضربونه على جهة المعارضةمنهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل الإحاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بياناً وتفصيلاً. وقال الزمخشري: {وَلاَ يَأْتُونَكَبِمَثَلٍ } بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنهوبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا:تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل معناه كذا أو {وَلاَ يَأْتُونَكَ } بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت هذهصفتك وحالك نحو إن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز أو تكون لك جنة أو ينزل عليكالقرآن جملة إلاّ أعطيناك ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالةعلى صحته انتهى. وقيل: {وَلاَ يَأْتُونَكَ } بشبهة في إبطال أمرك إلاّ جئناك بالحق الذي يدحض شبهة أهل الجهل ويبطلكلام أهل الزيغ، والمفضل عليه محذوف أي {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } من مثلهم ومثلهم قولهم {لَوْ * لا * أُنزِلَ عَلَيْهِ* وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }. و{ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ }. قال الكرماني: متصل بقوله {أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ } الآية. قيل: ويجوزأن يكون متصلاً بقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ } انتهى. والذي يظهر أنهم لم اعترضوا في حديثالقرآن وإنزاله مفرقاً كان في ضمن كلامهم أنهم ذو ورشد وخير، وأنهم على طريق مستقيم ولذلك اعتراضوا فأخبر تعالى بحالهموما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم {شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً } والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحبعلى وجهه. وفي الحديث إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم وهذا قول الجمهور. وقيل:هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي. وقيل: هو من قول العرب مر فلان على وجه إذا لم يدر أين ذهب.ويقال: مضى على وجهه إذا أسرع متوجهاً لقصده و{شَرُّ } و{أَضَلَّ } ليسا على بابهما من الدلالة على التفضيل. وقوله{شَرٌّ مَّكَاناً } أي مستقراً وهو مقابل لقوله {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } ويحتمل أن يراد بالمكان المكانة والشرف لا المستقر.وأعربوا {ٱلَّذِينَ } مبتدأ والجملة من {أُوْلَـٰئِكَ } في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون {ٱلَّذِينَ } خبر مبتدأ محذوفلما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعاداً لهم وتسميعاً بما يؤول إليه حالهم هم {ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ } ثم استأنفإخباراً أخبر عنهم فقال {أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً }

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً } * { فَقُلْنَا ٱذْهَبَآ إِلَى ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } * { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً } * { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ ٱلرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } * { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } * { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِيۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } * { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } * { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } * { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } * { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }

[عدل]

لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله صلى اللهعليه وسلم ذكر تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاكالاستئصال لما كذبوا رسلهم، فناسب أن ذكر أولاً من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلكهؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى. و{ٱلْكِتَـٰبِ } هنا التوراة و{هَـٰرُونَ } بدلأو عطف بيان، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا. وأن يكون {وَزِيراً } والوزارة لا تنافي النبوة فقد كانفي الزمان الواحد أنبياء يوازر بعضهم بعضاً، والمذهوب إليهم القبط وفرعون. وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما {فَدَمَّرْنَـٰهُمْ} والتدمير أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه. وقصة موسة ومن أرسل إليه ذكرت منتهية فيغير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وقرأعليّ والحسن ومسلمة بن محارب: فدمراهم على الأمر لموسى وهارون، وعن عليّ أيضاً:إلاّ أنه مؤكد بالنون الشديدة. وعنه أيضاً فدمراأمراً لهما بهم بباء الجر، ومعنى الأمر كوناً سبب تدميرهم. وانتصب {وَقَوْمَ نُوحٍ } على الاشتغال وكان النصب أرجحلتق/م الجمل الفعلية قبل ذلك، ويكون {لَّمّاً } في هذا الإعراب ظرفاً على مذهب الفارسي. وأما إن كانت حرف وجوبلوجوب فالظاهر أن {أَغْرَقْنَـٰهُمْ } جواب لما فلا يفسر ناصباً لقوم فيكون معطوفاً على المفعول في {فَدَمَّرْنَـٰهُمْ } أو منصوباًعلى مضمر تقديره اذكر. وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي. {لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ } كذبوا نوحاً ومن قبله أو جعلتكذيبهم لنوح تكذيباً للجميع، أو لم يروا بعثه الرسل كالبراهمة والظاهر عطف {وَعَاداً } على و{قَوْمٌ }. وقال أبو إسحاق:يكون معطوفاً على الهاء والميم في {وَجَعَلْنَـٰهُمْ لِلنَّاسِ ءايَةً }. قال: ويجوز أن يكون معطوفاً على {ٱلْظَّـٰلِمِينَ } لأن التأويلوعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا {عَاداً * وَثَمُودَاْ * وِقْراً * عَبْدُ ٱللَّهِ * بَلْدَةً مَّيْتاً كَذٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْقَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـٰبُ ٱلرَّسّ }. قال ابن عباس: هم قوم ثمود ويبعده عطفه على ثمود لأن العطف يقتضي التغاير. وقالقتادة: أهل قرية من اليمامة يقال ها الرس والفلج. قيل: قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح. وقال كعبومقاتل والسدي بئر بإنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار. وقيل: قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوهفيه. وقال وهب الكلبي {أَصْحَـٰبُ * ٱلرَّسّ } وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب أرسل إلى أصحاب الرس وكانواقوماً من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش، فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس وهيالبئر غير المطوية. وعن أبي عبيدة انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم. وقال عليّ فيما نقله الثعلبي: قوم عبدوا شجرة صنوبريقال لها شاه درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل. وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليهوسلم حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهمالذي يقال له فج وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلواحنظلة فأهلكوا. وقيل: الرس هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود. وقال ابن عباس: الرس بئر أذربيجان. وقيل: الرس ما بيننجران إلى اليمن ألى حضرموت. وقيل: قوم بعث الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر. وقيل: قوم بعث إليهمنبي فأكلوه. وقيل: قوم نساؤهم سواحق. وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل: الرس نهر من بلاد المشرق بعث اللهإليهم نبياً من إولاد يهوذا ابن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زماناً فشكا إلى الله منهم فحفروا له بئراً وأرسلوه فيها،وقالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا فكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأضلتهم سحابة سوداءأذابتهم كما يذوب الرصاص. وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي أن أهل الرس أخذوا نبيهم فرسّوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلها فيعطيه ما يغذيه به. ثم يرد الصخة، إلى أن ضرب الله يوماً على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل. قال الطبري: فيمكن أنهم كفروابعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية وكثر الاختلاف في أصحاب الرس، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن كعبكان هو القول الذي لا يمكن خلافه وملخص هذه الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله بتكذيب من أرسل إليهم. {وَقُرُوناًبَيْنَ ذٰلِكَ } هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلاّ الله {ذٰلِكَ } إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسندخول {بَيْنَ } عليه من غير أن يعطف عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة. ثميشير إليها. وانتصب {كَلاَّ } الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلاً أو حذرنا كلاً والثاني على أنه مفعول بتبرنا لأنهلم يأخذ مفعولا وهذا من واضح الإعراب. ومعنى ضرب الأمثال أي بين لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهمما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال فلم يهتدوا وأبعد من جعل الضمير في{لَهُ } لرسول قال: والمعنى وكل الأمثال ضربنا للرسول وعلى هذا و{كَلاَّ } منصوب بضربنا و{ٱلاْمْثَالَ }بدل من {كَلاَّ } والضمير في {وَلَقَدْ أَتَوْا } لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في متاجرهمإلى الشام وكانت قرى خمسة أهلك الله منها أربعاً وبقيت واحدة وهي زغر لم يكن أهلها يعملون ذلك العمل قالهابن عباس و{مَطَرَ ٱلسَّوْء } الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا. وكان إبراهيم عليه السلام ينادي نصيحة لكم: ياسدوم يوم لكم من الله عز وجل أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله، ومعنى {أَتَوْا } مروا فلذلك عداه بعلى.وأفراد لفظ القرية وإن كانت قرى لأن سدوم هي أم تلك القرى وأعظمها. وقال مكي: الضمير في {أَتَوْا }عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجوارً انتهى. وهم قريش وانتصب {مَطَرَ } على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت،أو على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء. {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } أن ينظرون إلى ما فيها من العبروالآثار الدالة على ما حل بها من النقم كما قال

{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيْلِ }

وقال

{ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ }

وهو استفهام معناه التعجب ومع ذلك فلم يعتبروا برؤيتها أن يحل بهم في الدنيا ما حلبأولئك، بل كانوا كفرة لا يؤمنون بالبعث فلم يتوقعوا عذاب الآخرة وضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما بتوقع العاقبة منيؤمن، فمن ثم لم ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم، أو لا يأملون {نُشُوراً } كما يأمله المؤمنونلطمعهم إلى ثواب أعمالهم أو لا يخافون على اللغة التهامية. وقرأ زيد بن عليّ مطرت ثلاثي مبنياً للمفعول ومطر متعد.قال الشاعر

: كمن بواديه بعد المحل ممطور    

وقرأ أبو السماك {مَطَرَ ٱلسَّوْء } بضم السين.{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وترك الإيمانبه، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء والاحتقار. حتى يقول بعبضهم لبعض {أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } و{ءانٍ } نافيةجواب {إِذَا } وانفردت {إِذَا } بأنه إذا كان جوابها منفياً بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرطغيرها فلا بد من الفاء مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذافلا بد من الفاء كما النافية ومعنى {*هزؤاً} موضع هزء أو مهزواً به {هُزُواً أَهَـٰذَا } قبله قول محذوف أييقولون وقال: جواب {إِذَا } ما أضمر من القول أي {وَإِذَا رَأَوْكَ } قالوا {أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً }و{إِن يَتَّخِذُونَكَ * جِمَـٰلَةٌ * مِن قَبْلِكُمْ إِذَا } وجوابها. قيل: ونزلت في أبي جهل كان إذا رأى الرسولعليه الصلاة والسلام قال: {أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً }؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيماً لقبح صنعه أو لكون جماعة معهقالوا ذلك: والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة وهذا الاستفهام استصغار واحتقار منهم أخرجوه بقولهم بعث الله رسولا في معرضالتسليم والإقرار وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث منعند الله رسولاً. وقولهم {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } دليل على فرط مجاهدة رسول الله فيدعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلاملولا فرط لاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم. و{لَوْلاَ } في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث اللفظمجرى التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري. وقال أبو عبد الله الرازي: الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفةفلا يمكن لأن الصفة التي تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقةهم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة والستهزؤوا بالرسول عليه الصلاة والسلام انتهى. قيل: وتدل الآية علىأنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة والسلام عليهم كالمجانين استهزؤوا به أولاً ثم إنهم وصفوه بأنه {كَادَ لَيُضِلُّنَا }عن مذهبنا {لَوْلاَ } أنا قابلناه بالجمود والإصرار فهذا يدل على أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل، فكونهم جمعوابين الاستهزاء وبين هذه الكيدودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليقإلاّ بالعالم الكامل. {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال فلا بد للوعيدأن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير، ولما قالوا {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } جاء قوله {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } أي سيظهر لهممن المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه. والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضعمفعول {يَعْلَمُونَ } إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين، ويجوز أن تكون{مِنْ } موصولة مفعولة بيعلمون و{أَضَلَّ } خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلتفي قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء. {أَرَءيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } هذا يأس عن إيمانهموإشارة إليه عليه السلام أن لا يتأسف عليهم، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ثمذكر أنهم {أَضَلُّ سَبِيلاً } من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله. والأنعام لاسبيل لها إلى فهم المصالح. و{أَرَأَيْتَ } استفهام تعجب من جهل من هذه الحالة و{إِلَـٰهَهُ } المفعول الأول لاتخذ، و{هَوَاهُ} الثاني أي أقام مقام الأله الذي يعبده هواه فهو حار على ما يكون في {هَوَاهُ } والمعنى أنه لميتخذ إلهاً إلا هواه وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلامفينزه كلام الله عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن. قيل: نزلت في الحارثبن قيس السهمي، كان إذا هوى شيئاً عبده، والهوى ميل القلب إلى الشيء أفأنت تجبره على ترك هواه، أو أفأنتتحفظه من عظيم جهله. وقرأ بعض أهل المدينة من اتخذ آلهةً منونة على الجمع، وفيه تقديم جعل هواه أنواعاً أسماءلأجناس مختلفة فجعل كل جنس من هواه إلهاً آخر. وقرأ ابن هرمز: إلاهة على وزن فعالة وفيه أيضاً تقديم أيهواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة. فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت. وقيل: بل الإلاهة الشمس ويقال لها أُلاهة بضمالهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كانفيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح. ومفعول {أَرَأَيْتَ } الأول هو {مِنْ }والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. وتقدم الكلام في {أَرَأَيْتَ } في أوائل الأنعام ومعنى {وَكِيلاً } أي هل تستطيعأن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام. و{أَمْ } منقطعة تتقدّر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال:بل أتحسب كان هذه المذمّة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو كونها مسلوبي الأسماع والعقول لأنهملا يلقون إلى استماع الحق أذناً إلى تدبره عقلاً، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة، ونفى ذلك عنأكثرهم لأن فيهم من سبقت له السعادة فأسلم، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إليها ممنيسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرّتها وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها، وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبونفي الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولا يهتدون للحق.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } * { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } * { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } * { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } * { لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } * { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } * { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } * { فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً } * { وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } * { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } * { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ ٱلْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً } * { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } * { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } * { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } * { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }

[عدل]

{أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَاٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَـٰهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَنُشُوراً * وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ * بُشْرًاَ بَيْنَ * يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُوراً * لّنُحْيِىَ بِهِبَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـٰماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَلَوْشِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَجَـٰهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً * وَهُوَ ٱلَّذِى مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَاعَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ مِنَ ٱلْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراًوَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ ٱلْكَـٰفِرُ عَلَىٰ رَبّهِ ظَهِيراً * وَمَاأَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ مُبَشّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً *وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَىّ ٱلَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً * ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَافِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُأَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }. لما بيِّن تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعاً منالدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه، فبدأ بحال الظل فيزيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن ذلك جار على مشيئته. وتقدم الكلام على {أَلَمْ تَرَ } في البقرةفي قصة الذي حاج إبراهيم. والمعنى {أَلَمْ تَرَ إِلَى } صنع {رَبَّكَ } وقدرته. و{كَيْفَ } سؤال عن حال فيموضع نصب بمد. والجملة في موضع متعلق {أَلَمْ تَرَ } لأن {تَرَ } معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنهافعل القلب ليس باقي على حقيقة الاستفهام. فالمعنى ألم تر إلى مد ربك الظل. وقال الجمهور: {ٱلظّلّ } هنامن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل ممدود لا شمس فيه ولا ظلمة. واعترض بأنه في غيرالنهار بل في بقايا الليل ولا يسمى ظلاً. وقيل: {ٱلظّلّ } الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها. وقيل:من غيبوبة الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا. وقيل: ظلال الأشياء كلها كقوله

{ أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء * يَتَفَيَّأُ ظِلَـٰلُهُ }

وقال أبو عبيدة: {ٱلظّلّ } بالغداة والفيءبالعشي. وقال ابن السكيت: {ٱلظّلّ } ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وقيل: ما لم تكن عليه الشمس ظلوما كانت عليه فزالت فيء. {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: كظل الجنة الذيلا شمس تذهبه. وقال مجاهد: لا تصيبه ولا تزول. وقال الحسن: {لَوْ شَاء } لتركه ظلاً كما هو. وقيل: لأدامهأبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو النقصانفي الظل، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادتها ونقصه، وكلما علت الشمس نقص الظل،وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله

{ ثُمَّ قَبَضْنَـٰهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً }

يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقصالظل نقصاناً يسيراً بعد يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيراً بعد يسير حتى يعم الأرض. كلها فأما زوالالظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت. وقال الزمخشري: ومعنى {مَدَّ ٱلظّلَّ } أن جعله يمتد وينبسطفينتفع به الناس. {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلمينتفع به أحد، سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً ومعنى كون الشمس دليلاً أن الناس يستدلون بالشمسوبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان وزائلاً ومتسعاً ومتقلصاً فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنهعلى حسب ذلك. وقبضه إلىه أن ينسخه بظل الشمس {يَسِيراً } أي على مهل وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعدشيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً فإن قلت:ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها البيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم منالثاني تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حينبنى السماء كالقبة المضروبة ودحاً الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير. {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً }مستقراً على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلاً متبوعاً لهم كما يتبع الدليلفي الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص، ثم نسخه بها قبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير، ويحتمل أن يريدقبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءهبإنشاء أسبابه وقوله {قَبَضْنَـٰهُ إِلَيْنَا } يدل عليه وكذلك قوله {يَسِيراً } كما قال

{ ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ }

انتهى وقوله: سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه لم يسم الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله: ويحتمل أنيريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال {مَدَّ ٱلظّلَّ }وعطف عليه ماضياً مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور كونه ماضياً مستداماً أمثاله.وقال ابن عطية: {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي ثابتاً غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه بطردهاله من موضع إلى موضع دليلاً عليه مبيناً لوجوده ولوجه العبرة فيه. وحكى الطبري: أنه لولا الشمس لم يعلم أنالظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها. وقال ابن عباس: {يَسِيراً } معجلاً. وقال مجاهد لطيفاً أي شيئاً بعد شيء،ويحتمل أن يريد سهلاً قريب التناول. وقال أبو عبد الله الرازي: أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيهاإلى وجهين. الأول: أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلكالكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحيرالحس البصري ويحدث السخونة القوية وهي مؤذية، ولهذا قيل في الجنة

{ وَظِلّ مَّمْدُودٍ }

والناظر إلى الجسم الملون كأنهيشاهد بالظل شيئاً سوى الجسم وسوى اللون والظل ليس أمراً ثالثاً ولا معرفة به إلاّ إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤهاعلى الجسم ثم مال عرف للظل وجود وماهية، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها، فظهر للعقل أن الظل كيفيةزائدة على الجسم واللون ولذلك قال {ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } أي جعلنا الظل أولاً بما فيه من المنافعواللذات، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلاً على وجود الظل. {ثُمَّ قَبَضْنَـٰهُ } أي أزلناهلا دفعة بل {يَسِيراً } يسيراً كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل من جانب المغرب، ولما كانت الحركات المكانيةلا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً كان زوال الأظلال كذلك. والثاني: أنه لما خلق السماء والأرض وقع السماء علىالأرض فجعل الشمس دليلاً لأنه بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما، فبمقدار ما يزداد أحدهماينقص الآخر، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة للأضواء، ولذلك جعل الشمس دليلاً عليه انتهى. ملخصاًوهو مأخوذ من كلام الزمخشري، ومحسن بعض تحسين. والآية في غاية الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير. وقال أيضاً:{ٱلظّلّ } ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلام، فهو أمر وجودي وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتبالعقلية انتهى. والآية في غاية الوضوح ولا تحتاج إلى هذا التكثير وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمسإليه الحاجة. {جَعَلَ ٱلَّيْلَ * لِبَاساً } تشبيهاً بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل يستر الأشياء. والسبات: ضربمن الإغماء يعتري اليقظان مرضاً فشبه النوم به، والسبت الإقامة في المكان فكان السبات سكوناً تاماً والنشور هنا الإحياء شبهاليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة اللذين يتضمنهما النوم والسبات انتهى. ومن كلام ابن عطية وقال غيره: السبات الراحة جعل{نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أي سبب راحة. وقال الزمخشري: السبات الموت وهو كقوله

{ وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ }

فإنقلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه انتهى. ولا يأباه إلاّ لو تعين تفسير خبر مبتدأ محذوف، و{ٱلرَّحْمَـٰنُ } صفة له. أو يكون {ٱلَّذِى } منصوباً على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون {ٱلرَّحْمَـٰنُ }مبتدأ. و {فَاسْأَلِ } خبره تخريجه على حد قول الشاعر

: وقائلة خولان فانكح فتاتهم©†    

وجوزواأيضاً في {ٱلرَّحْمَـٰنُ } أن يكون بدلاً من الضمير المستكن في {ٱسْتَوَىٰ }. والظاهر تعلق به بقوله {فَاسْأَلِ } وبقاءالباء غير مضمنة معنى عن. و {خَبِيراً } من صفات الله كما تقول: لقيت بزيد أسداً ولقيت بزيد البحر، تريدأنه هو الأسد شجاعة، والبحر كرماً. والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير والمعنى {فَاسْأَلِ } الله الخبير بالأشياء العالم بحقائقها.وقال ابن عطية: و {خَبِيراً } على هذا منصوب إما بوقوع السؤال، وإما على الحال المؤكدة. كما قال

{ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدّقًا }

وليست هذه الحال منتقلة إذا الصفة العلية لا تتغير انتهى. وبني هذا الإعراب على أنه كما تقول:لو لقيت فلاناً للقيت به البحر كرماً أي لقيت منه. والمعنى {فَاسْأَلِ * ٱللَّهِ } عن كل أمر وكونه منصوباًعلى الحال المؤكدة على هذا التقدير لا يصح إنما يصح أن يكون مفعولاً به، ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن،أي {فَاسْأَلِ } عنه {خَبِيراً } كما قال الشاعر

فإن تسألوني بالنساء فإنني     بصير بأدواء النساء طبيب

وهو قول الأخفش والزجاج. ويكون {خَبِيراً } ليس من صفات الله هنا، كأنه قيل:اسأل عن الرحمن الخبراء جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة، وإن جعلت {بِهِ } متعلقاً بخبيراً كان المعنى {فَاسْأَلِ } عنالله الخبراء به. وقال الكلبي معناه {فَاسْأَلِ } خبيراً به و {بِهِ } يعود إلى ما ذكر من خلق السمواتوالأرض والاستواء على العرش، وذلك الخبير هو الله تعالى لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق ذلك فلا يعلمهاإلاّ الله. وعن ابن عباس: الخبير جبريل وقدم لرؤوس الآي. وقال الزمخشري: الباء في {بِهِ } صلة سل كقوله

{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ }

كما يكون عن صلته في نحو

{ ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ }

أو صلة{خَبِيراً } به فتجعل {خَبِيراً } مفعولاً أي، فسل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته، أو فسل رجلاً خبيراً به وبرحمته،أو فسل بسؤاله خبيراً. كقولك، رأيت به أسداً أي رأيت برؤيته، والمعنى إن سألته وجدته خبيراً بجعله حالاً عن بهتريد فسل عنه عالماً بكل شيء. وقيل: {ٱلرَّحْمَـٰنُ } اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوايعرفونه. فقيل: فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره ومن ثم كانوا يقولون: ما نعرفالرحمن إلاّ الذي في اليمامة يعنون مسيلمة، وكان يقال له رحمن اليمامة انتهى. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ }وكانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله غالطت قريش بذلك فقالت: إن محمداً يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة نزلت {وَإِذَاقِيلَ لَهُمْ } و {مَا } سؤال عن المجهول، فيجوز أن يكون سؤالاً عن المسمى به لأنهم ما كانوا يعرفونهبهذا الاسم، ويجوز أن يكون سؤالاً عن معناه لأنه لم يكن مستعملاً في كلامهم كما يستعمل الرحيم والرحوم والراحم، أولأنهم أنكروا إطلاقه على الله قاله الزمخشري. والذي يظهر أنهم لما قيل لهم {ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ } فذكرت الصفة المقتضية للمبالغةفي الرحمة والكلمة عربية لا ينكر وضعها، أظهروا التجاهل بهذه الصفة التي لله مغالطة منهم ووقاحة فقالوا: {وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ }وهم عارفون به وبصفته الرحمانية، وهذا كما قال فروعون

{ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

حين قال له موسى:

{ إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

على سبيل المناكرة وهو عالم برب العالمين. كما قال موسى

{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * بَصَائِرَ }

فكذلك كفار قريش استفهموا عن {ٱلرَّحْمَـٰنُ } استفهام من يجهله وهمعالمون به، فعلى قول من قال: لم يكونوا يعرفون {ٱلرَّحْمَـٰنُ } إلاّ مسيلمة وعلى قول من قال: من لا يعرفونالرحمن إلاّ مسيلمة. فالمعنى أنسجد لمسيلمة وعلى قول من قال: لا يعرفون {ٱلرَّحْمَـٰنُ } بالكلية فالمعنى {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا }من غير علم ببيانه. والقائل {ٱسْجُدُواْ } الرسول أو الله على لسان رسوله. وقرأ ابن مسعود والأسود بن يزيدوحمزة والكسائي يأمر بالياء من تحت أي يأمرنا محمد، والكناية عنه أو المسمى {ٱلرَّحْمَـٰنُ } ولا نعرفه. وقرأ باقي السبعةبالتاء خطاباً للرسول. ومفعول {تَأْمُرُنَا } الثاني محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره يأمرنا سجوده نحو قولهم: أمرتك الخير. النشوربالحياة. وقال أبو مسلم {نُشُوراً } هو بمعنى الانتشار والحركة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرقلطلب المعاش وابتغاء فضل الله. و{ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم، وهذه الآية مع دلالتهاعلى قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس فوائد دينية ودنيوية.وقال الشاعر

: وكم لظلام الليل عندي من يد     تخبر أن المانوية تكذب

والنومواليقظة وشبههما بالموت والحياة أي عبرة فيهما لمن اعتبر. وعن لقمان أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ فكذلكتموت فتنشر. وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة. قال ابن عطية: وقراءة الجمع أوجه لأن عرفالريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح لأن ريح المطر تتشعبوتتداءب وتتفرّق وتأتي لينة ومن ههنا وههنا وشيئاً اثر شيء، وريح العذاب خرجت لاتتداءب وإنما تأتي جسداً واحداً. ألا ترىأنها تحطم ما تجد وتهدمه. قال الرماني: جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح: الجنوب، والصبا، والشمال. وأفردت ريح العذاب لأنهاواحدة لا تلقح وهي الدبور. قال ـ أي ابن عطية ـ: يرد هذا قول النبيّ : إذاهبت الريح: اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً انتهى. ولا يسوغ أن يقال: هذه القراءة أوجه لأنه كلاًمن القراءتين متواتر والألف واللام في الريح للجنس فتعم، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنهيجوز أن يريد بقوله عليه السلام: رياحاً الثلاثة اللواقح وبقوله ولا تجعلها ريحاً الدبور. فيكون ماقاله الرماني مطابقاً للحديث على هذا المفهوم. وتقدم الخلاف في قراءة {نَشْراً } وفي مدلوله في الأعراف {بَيْنَ يَدَىْرَحْمَتِهِ } استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلماً به. والطهور فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر،وإما أن يكون اسماً لما يتطهر به كالسحور والفطور، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه. والظاهر فيقوله {مَاء طَهُوراً } أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرضونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر. وقال ثعلب:هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، فإن كان ما قاله شرحاً لمبالغته في الطهارة كان سديداً ويعضده

{ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ٱلسَّمَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ }

وإلاّ ففعول لا يكون بمعنى مفعل، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى

{ وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }

وقال الشاعر

: إلى رحج الأكفال غيد من الظبا     عذاب الثنايا ريقهنّ طهور

وقرأ عيسى وأبو جعفر {مَيْتًا } بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون فيمعنى البلد في قوله

{ فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيّتٍ }

ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلاً من المصادر، فكما وصفالمذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلاً من حيث قبوله للثاء إلاّ فيما خص المؤنث نحوطامث. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما {وَنُسْقِيَهِ } بفتح النونورويت عن عمر بن الخطاب. وقرأ يحيـى بن الحارث الذماري {وَأَنَاسِىَّ } بتخفيف الياء. ورويت عن الكسائي {وَأَنَاسِىَّ } جمعإنسان في مذهب سيبويه. وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد والزجاج، والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة. وحكي أناسينفي جمع إنسان كسرحان وسراحين، ووصف الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي لأنه لما كان الأناسي من جملة ما أنزلله الماء وصف بالطهور وإكراماً له وتتميماً للنعمة عليه، والتعليل يقتضي أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول: حملنيالأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياةأنعامهم، فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم. ونكر الأنعام والأناسي ووصفابالكثرة لأن كثيراً منهم لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر، وكذلك {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } يريد بعضبلاد هؤلاء المتباعدين عن مظانّ الماء بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون فهم غنيون غالباً عن سقيماء المطر، وخص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزهاالشرب بخلاف الأنعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم. والضمير في {صَرَّفْنَـٰهُ} عائد على الماء المنزل من السماء، أي جعلنا إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض وهوفي كل عام بمقدار واحد قاله الجمهور منهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، فعلى هذا التأويل {إِلاَّ كُفُورًا } هوقولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة. وقيل {كَفُورًا } على الإطلاق لما تركوا التذكر. وقال ابن عباس أيضاً: عائد على القرآنوإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضده

{ وَجَـٰهِدْهُمْ بِهِ }

لتوافق الضمائر، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن.وقال أبو مسلم: راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة. وقال الزمخشري: صرفنا هذا القول بينالناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفواحق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الأكتراث بها. وقيل: صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفةوالأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور. وأن يقولوا مطرنا بنوء كذاولا يذكروا رحمته وصنعته. وعن ابن عباس: ما من عام أقل مطراً من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عبادهعلى ما يشاء وتلا هذه الآية. ويروى أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف، ولكنيختلف في البلاد وينتزع من ههنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي كأنه قال: ليحي به بعض البلاد الميتة، ونسقيهبعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير انتهى. وقرأ عكرمة {صَرَّفْنَـٰهُ } بتخفيف الراء. {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍنَّذِيراً } لما علم تعالى ما كابده الرسول من أذى قومه أعلمه أنه تعالى لو أراد لبعث في كل قريةنذيراً فيخفف عنك الأمر ولكنه أعظم أجرك وأجلك إذ جعل إنذارك عاماً للناس كلهم، وخصك بذلك ليكثر ثوابك لأنه علىكثرة المجاهدة يكون الثواب، وليجمع لك حسنات من آمن بك إذ أنت مؤسسها. {فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } يعنى كفار قريشفإنهم كانوا استمعوا إليه ورغبوا أن يرجع إلى دين آبائهم ويملكونه عليهم ويجمعون له مالاً عظيماً فنهاه تعالى عن طاعتهمحتى يظهر لهم أنه لا رغبة له في شيء من ذلك، لكن رغبته في الدعاء إلى الله والإيمان به. {وَجَـٰهِدْهُمْبِهِ } أي القرآن أو بالإسلام أو بالسيف أو بترك طاعتهم و{جِهَاداً } مصدر وصف بكبيراً لأنه يلزمه عليه السلاممجاهدة جميع العالم فهو جهاد كبير. و{مَرَجَ } خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال، والظاهرأنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح. وقيل: بحران معينان. فقيل: بحر فارس، وبحر الروم. وقيل: بحر السماءوبحر الأرض يلتقيان في كل عام قاله ابن عباس. وقال مجاهد: مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب منالقول الأول. قال ابن عطية: والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياهاًعذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيهويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج، والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض والسد قاله الحسن.ويتمشى هذا على قول من قال أن {مَرَجَ } بمعنى أجرى. وقيل: البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان إلاّ بزوال الحاجزيوم القيامة. قال الأكثرون: الحاجز مانع من قدرة الله. قال الزجاج: فهما مختلطان في مرائي العين منفصلان بقدرة الله، وسوادالبصرة ينحدر الماء العذب منه في دجلة نحو البحر، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط فماء البحر إلىالخضرة الشديدة، وماء دجلة إلى الحمرة، فالمستقي يغرف من ماء دجلة عندنا لا يخالطه شيء ونيل مصر في فيضه يشقالبحر المالح شقاً بحيث يبقى نهراً جارياً أحمر في وسط المالح ليستقي الناس منه، وترى المياه قطعاً في وسط البحرالمالح فيقولون: هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر. وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي {مِلْحٌ } بفتح الميموكسر اللام وكذا في فاطر. قال أبو حاتم وهذا منكر في القراءة. وقال أبو الفتح أراد مالحاً وحذف الألف كماحذفت من برد أي بارد. وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: هي لغة شاذة قليلة. وقيل: أراد مالح فقصرهبحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء يوجد في الضفيان بأن يكون مملوحاً من جهة غيره، ومالحاً لغيرهوإن كان من صفته أن يقال: ماء ملح موصوف بالمصدر أي ماء ذو ملح، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو منالصفات. قال الزمخشري: فإن قلت: {حِجْراً مَّحْجُوراً } ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهيههنا واقعة على سبيل المجاز، كان كل واحد من البحرين متعوذ من صاحبه ويقول له {حِجْراً مَّحْجُوراً } كما قال

{ لاَّ يَبْغِيَانِ }

أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثم كالتعوذ ههنا جعل كل واحد منهمافي صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة انتهى. والظاهر أن {حِجْراًمَّحْجُوراً } معطوف على {بَرْزَخاً } عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك علىإضمار القول المجازي أي، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه {حِجْراً مَّحْجُوراً }. والظاهر عموم البشر وهم بنو آدموالبشر ينطلق على الواحد والجمع. وقيل: المراد بالنسب آدم وبالصهر حواء. وقيل: النسب البنون والصهر البنات و{مِنَ ٱلْمَاء } إماالنطفة، وإما أنه أصل خلقة كل حي، والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين، فالنسب أن يجتمع مع آخر فيأب وأم قرب ذلك أو بعد، والصهر هو نواشج المناكحة. وقال عليّ بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحهوالصهر قرابة الرضاع. وعن طاوس: الرضاعة من الصهر. وعن عليّ: الصهر ما يحل نكاحه والنسب ما لا يحل نكاحه. وقالالضحاك: الصهر قرابة الرضاع. وقال ابن سيرين: نزلت في النبيّ وعليّ لأنه جمعه معه نسب وصهر.قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعينذكراً وأنثى. ولما ذكر دلائل قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه المستحق للعبادةلنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث يعبدون الأصنام. والظاهر أن {ٱلْكَـٰفِرُ } اسم جنس فيعم. وقيل: هو أبو جهلوالآية نزلت فيه. وقال عكرمة {ٱلْكَـٰفِرُ } هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين والمعاون قاله مجاهد والحسن وابن زيد، وفعيل بمعنىمفاعل كثير والمعنى أن {ٱلْكَـٰفِرُ } يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك. وقيل: معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهوعبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هيناً مهيناً من قولهم: ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفتإليه، وهذا نحو قوله

{ أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ }

الآية قاله الطبري. وقيل: {عَلَىٰ رَبّهِ } أي معيناً علىأولياء الله. وقيل: معيناً للمشركين على أن لا يوحد الله. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } سلى نبيه بذلكأي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإنما أنت رسول تبشر تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار، ولستبمطلوب بإيمانهم أجمعين. ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلاً لوجوه التهم بقوله {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }أي لا أطلب مالاً ولا نفعاً يختص بي. والضمير في {عَلَيْهِ } عائد على التبشير والإنذار، أو على القرآن، أوعلى إبلاغ الرسالة أقوال. والظاهر في {إِلاَّ مَن شَاء } أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور. فعلى هذا قيل بعباده {لَكِنِ* مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً } فليفعل. وقيل: لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهومسؤولي. وقيل: هو متصل على حذف مضاف تقديره: إلاّ أجر من اتخذ إلى ربه سبيلاً أي إلاّ أجر من آمنأي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله، لأنه تعالى يأجرني على ذلك. وقيل: إلاّ أجر من آمن منيعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجراً إلاّ الإنفاق في سبيل الله، فجعل الإنفاق أجراً. ولماأخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئاً أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهاردينه. ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله {ٱلْحَىّ ٱلَّذِى لاَ يَمُوتُ } لأن هذا المعنى يختص بهتعالى دون كل حي كما قال

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }

وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال: لايصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقروناً بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدحمحله اللسان الموافق للأعتقاد. وفي الحديث: من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان {وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } أراد أنهليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم. وفي هذه الجملة تسليةللرسول ووعيد للكافر. وفي بعض الأخبار كفى بك ظفراً أن يكون عدوك عاصياً وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول: كفىبالعلم جمالاً. وكفى بالأدب مالاً، أي حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم. ولماأمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة وهو إيجاد هذا العالم. وتقدم الكلام فينظير هذا الكلام واحتمل {ٱلَّذِى } أن يكون صفة للحي الذي لا يموت. ويتعين على قراءة زيد بن عليّ {ٱلرَّحْمَـٰنُ} بالجر وأما على قراءة الجمهور {ٱلرَّحْمَـٰنُ } بالرفع فإنه يحتمل أن يكون {ٱلَّذِى } صفة للحي و{ٱلرَّحْمَـٰنُ } خبرمبتدأ محذوف. ويحتمل أن يكون {ٱلَّذِى } مبتدأ و{ٱلرَّحْمَـٰنُ } خبره. وأن يكون {ٱلَّذِى } {وَزَادَهُمْ } أي هذاالقول وهو الأمر بالسجود للرحمن {زَادَهُمْ } ضلالاً يختص به مع ضلالهم السابق، وكان حقه أن يكون باعثاً على فعلىالسجود والقبول. وقال الضحاك: سجد أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعثمان بن مظعون وعمرو ابن غلسة، فرآهم المشركون فأخذوا فيناحية المسجد يستهزوؤن، فهذا المراد بقوله {وَزَادَهُمْ نُفُوراً } ومعنى {نُفُورًا } فراراً.

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } * { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } * { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } * { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } * { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } * { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } * { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } * { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } * { يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } * { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } * { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً } * { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } * { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } * { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } * { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } * { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } * { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }

[عدل]

{تَبَارَكَ ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً * وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاْرْضِ هَوْناًوَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً * وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّعَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً* وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ}. لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التيتعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما، ووصف نفسهبالرحمن، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن،ثم نبههم على مالهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها. والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عندالعرب وهي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. سميت بذلكلشبهها بما شبهت به. وسميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البرج من التبرج لظهوره.وقيل: البروج هنا القصور في الجنة. قال الأعمش. وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها {فِى ٱلسَّمَاء } قصوراً. وقال أبوصالح: البروج هنا الكواكب العظام. قال ابن عطية: والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه علىأشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل. والضمير في {فِيهَا } الظاهر أنه عائد على {ٱلسَّمَاء}. وقيل: على البروج، فالمعنى وجعل في جملتها {سِرَاجاً }. وقرأ الجمهور {سِرَاجاً } على الإفراد وهو الشمس. وقرأ عبدالله وعلقمة والأعمش والأخوان سُرُجاً بالجمع مضموم الراء وهو يجمع الأنوار، فيكون خص القمر بالذكر تشريفاً. وقرأ الأعمش أيضاً والنخعيوابن وثاب كذلك بسكون الراء. وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم {*وقُمر} بضم القاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغةفي القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب. وقيل: جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال: وذا قمر منير لأن الليلة تكونقمراء بالقمر، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان

:بردى يصفق بالرحيق السلسل    

يريد ماء بردى. فمنيراً وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت،ولو لم يراع المضاف لقال: تصفق بالتاء وقال {وَقَمَراً مُّنِيراً } أي مضيئاً ولم يجعله {سِرَاجاً } كالشمس لأنه لاتوقد له. وانتصب {خِلْفَةً } على الحال. فقيل: هو مصدر خلف خلفة. وقيل: هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالاًاسم الهيئة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر. والمعنىجعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه قوله

{ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }

ويقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير

:بها العيس والآرام يمشين خلفة    

وقول الآخريصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزلفي الصيف دأباً

: ولها بالما طرون إذا     أكل النمل الذي جمعا خلفة حتى إذا ارتفعت
سكنت من جلق بيعا في بيوت وسط دسكرة     حولها الزيتون قد ينعا

وقيل {خِلْفَةً } في الزيادة والنقصان. وقال مجاهد وقتادة والكسائي:هذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير. {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ }. قال عمر وابن عباس والحسن: معناه {لّمَنْأَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه. وقال مجاهد وغيره: أييعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال الزمخشري: وعن أبي بن كعب يتذكر والمعنى.لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال وتغيرهما من نافل ومغير، ويستدل بذلك علىعظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى:

{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }

وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى بهفي الآخر. وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن عليّ وطلحة وحمزة تذكر مضارع ذكر خفيفاً. ولما تقدم ذكر الكفاروذمهم جاء {لَّمّاً * أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال: {وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ }وهذه إضافة تشريف وتفضل، وهو جمع عبد. وقال ابن بحر: جمع عابد كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار، وراجل ورجال، أي الذينيعبدونه حق عبادته. والظاهر أن {وَعِبَادُ } مبتدأ و{ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ } الخبر. وقيل: أولئك الخبر و{ٱلَّذِينَ } صفة، وقوم منعبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب. وقيل: لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله. وقرأ اليماني:وعباد جمع عابد كضارب وضراب. وقرأ الحسن: وعُبَدُ بضم العين والباء. وقرأ السلمي واليماني {يَمْشُونَ } مبنياً للمفعول مشدداً. والهون:الرفق واللين. وانتصب {هَوْناً } على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال، أي يشمون هينين فيتؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق. وقالمجاهد: بالحلم والوقار. وقال ابن عباس: بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال ابن عطية{هَوْناً } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرةالناس وخلطتهم ثم قال {هَوْناً } بمعنى أمره هون أي ليس بخشن، وذهبت فرقة إلى أن {هَوْناً } مرتبط بقوله{يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاْرْضِ } أي إن المشي هو الهون، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي {هَوْناً} مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينا، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأن رب ماش{هَوْناً } رويداً وهو ذنب أطلس. وقد كان رسول الله يتكفأ في مشيه كأنما يمشي فيصبب. وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام: من مشى منكم في طمع فليمش رويداً أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قالفيهم الشاعر

: كلهم يمشي رويدا     كلهم يطلب صيداً

وقالالزهري: سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: أنهرأى في النوم من فسر له {ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاْرْضِ هَوْناً } بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض.وقال عياض بن موسى: كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعد وخطوة خلاف مشية المختال، ويقصد سمته وكلذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال: إنما ينحط من صبب وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفاً.{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ } أي مما لا يسوغ الخطاب به {قَالُواْ سَلاَماً } أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيمعليه السلام لأبيه

{ سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ }

قاله الأصم. وقال مجاهد: قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا. وقيل: هو على إضمارفعل تقديره سلمنا {سَلاَماً } فهو جزء من متعلق الجملة المحكية. قال ابن عطية: والذي أقوله أن {قَالُواْ } هوالعامل في {سَلاَماً } لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال الزمخشري: تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم. وقيل: قالوا سداداًمن القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله

: ألا لا يجهلن أحد علينا     فنجهل فوق جهل الجاهلينا

انتهى. وقال الكلبي: وأبو العالية نسختها آيةالقتال. وقال ابن عطية: وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلىيوم القيامة، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه. ورجح به أنه المراد السلامة لاالتسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة، والآية مكية فنسختها آية السيف. وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيمبن المهدي كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة، فقال له: إنماتَدَّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، وكان حكى ذلك للمأمون قال: فما رأيت له بلاغة في الجواب كمايذكر عنه فقال له المأمون: فما أجابك به؟ قال: كان يقول لي سلاماً سلاماً، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال:يا عم قد أجابك بأبلغ جواب. فخزي إبراهيم واستحيا، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية.والبيتوتة هو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم، وهو خلاف الظلول وبجبيلة وأزد السراة يقولون: بيات وسائر العرب يقولون:يبيت، ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه يعنى إحياء الليل بالصلاة أو أكثره.وقيل: من قرأ شيئاً من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجداً وقائماً. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب، والركعتان بعدالعشاء. وقيل: من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية. وفي هذه الآية حض على قيامالليل في الصلاة. وقدم السجود وإن كان متأخراً في الفعل لأجل الفواصل، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبدفيها من الله. وقرأ أبو البرهثيم: سجوداً على وزن قعوداً. ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيقإيمانهم بالبعث والجزاء. قال ابن عباس: {غَرَاماً } فظيعاً وجيعاً. وقال الخدري: لازماً ملحاً دائماً. قال الحسن: كل غريم يفارقغريمه إلاّ غريم جهنم. وقال السدّي: شديداً. وأنشدوا على أن {غَرَاماً } لازماً قوله الشاعر وهو بشر بن أبي خازم

: ويوم اليسار ويوم الجفار     كانا عذاباً وكانا غراماً

وقال الأعشى

. إن يعاقب يكن غراما     وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي

وصفهم بإحياء الليل ساجدينثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم. و{سَاءتْ } احتملأن يكون بمعنى بئست. والمخصوص بالذم محذوف وفي {سَاءتْ } ضمير مبهم ويتعين أن يكون {مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } تمييز. والتقدير{سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبراً لأن. ويجوز أن يكون {سَاءتْ } بمعنأحزنت فيكون المفعول محذوفاً أي ساءتهم. والفاعل ضمير جهنم وجاز في {مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالينقد عطف أحدهما على الآخر. والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولاً لزوم عذابها، وثانياً مساءة مكانها وهما متغايران وإنكان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان. وقيل: هما مترادفان، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم.وقيل: هو من كلام الله، ويظهر أن قوله {وَمُقَاماً } معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان. وقيل:المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون، والإقامة للكفار. وقرأت فرقة {وَمُقَاماً } بفتح الميم أي مكانقيام، والجمهور بالضم أي مكان إقامة. {لَمْ يُسْرِفُواْ } ولم يقتروا. قال أبو عبد الرحمن الجيلي: الإنفاق في غيرطاعة اسراف، والإمساك عن طاعة إقتار. وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وسمع رجل رجلاً يقول: لا خير فيالإسراف فقال: لا إسراف في الخير. وقال عون بن عبد الله بن عتبة: الإسراف أن تنفق مال غيرك. وقال النخعي:هو الذي لا يجيع ولا يُعَرِّي ولا ينفق نفقة يقول: الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذينلا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنتهفاطمة: ما نفقتك؟ قال له عمر: الحسنة بين السيئتين. ثم تلا الآية. والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذيهو نقيض الإسراف. وعن أنس في سنن ابن ماجة قال: قال رسول الله : إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته وقال الشاعر

: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد     كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال آخر

إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت     ولم ينهها تاقت إلى كل باطل وساقت إليه الإثم والعار بالذيدعته إليه من حلاوة عاجل

وقال حاتم

إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله     فرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقرأ الحسن وطلحةوالأعمش وحمزة والكسائي وعاصم: يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع، وابنعامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق. وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعياً هنا. وقال أقتر إذاافتقر. ومنه

{ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ }

وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره: من اقتر بمعنى ضيق، والقوام الاعتدال بينالحالتين. وقرأ حسان بن عبد الرحمن {قَوَاماً } بالكسر. فقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: بالكسر ما يقام به الشيءيقال: أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص. وقيل: {قَوَاماً } بالكسر مبلغاً وسداداً وملاكحال، و{بَيْنَ ذٰلِكَ } و{قَوَاماً } يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر {كَانَ } وأن يكون {بَيْنَ} هو الخبر و{قَوَاماً } حال مؤكدة، وأن يكون {قَوَاماً } خبراً و{بَيْنَ ذٰلِكَ } إما معمول لكان على مذهبمن يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف، وأن يكون حالاً من {قَوَاماً } لأنه لو تأخر لكان صفة، وأجازالفراء أن يكون {بَيْنَ ذٰلِكَ } اسم {كَانَ } وبُني لإضافته إلى مبني كقوله

{ وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ }

فيقراءة من فتح الميم و{قَوَاماً } الخبر. قال الزمخشري: وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليسبقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى. وصفهمتعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير، وبمثله خوطب الرسول بقوله

{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً }

الآية. {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ } الآية سأل ابن مسعود رسول الله أي الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديقها {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ } الآية. وقيل:أتى رسول الله مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فقالوا: إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن،أو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت إلى {غَفُوراً رَّحِيماً }. وقيل: نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل.قال الزمخشري: نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدفين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين منقريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقال ابن عطية: إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرةفي عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحاً انتهى. وتقدمتفسير نظير

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ }

في سورة الأنعام. وقرىء {يَلْقَ } بضم الياءوفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود وأبو رجاء يلقى بألف، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف. والآثامفي اللغة العقاب وهو جزاء الإثم. قال الشاعر

: جزى الله ابن عروة حيث أمسى     عقوق والعقوق له آثام

أي حد وعقوبة وبه فسره قتادة وابن زيد. وقال عبد الله بن عمرو ومجاهدوعكرمة وابن جبير: آثام واد في جهنم هذا اسمه جعله الله عقاباً للكفرة. وقال أبو مسلم: الآثام الإثم، ومعناه {يَلْقَ} جزاء آثام، فأطلق اسم الشيء على جزائه. وقال الحسن: الآثام اسم من أسماء جهنم. وقيل: بئر فيها. وقيل: جبل.وقرأ ابن مسعود: يلق أياماً جمع يوم يعني شدائد. يقال: يوم ذو أيام لليوم العصيب. وذلك في قوله {وَمَن يَفْعَلْذٰلِكَ } يظهر أنه إشارة إلى المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير حق والزنا، فيكون التضعيف مرتباً على مجموعهذه المعاصي، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها. ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم. وقرأنافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ } مبنياً للمفعول وبألف {وَيَخْلُدْ } مبنياً للفاعل. والحسن وأبو جعفر وابنكثير كذلك إلاّ أنهم شددوا العين وطرحوا الألف. وقرأ أبو جعفر أيضاً وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف بالنون مضمومة وكسرالعين مشددة {ٱلْعَذَابَ } نصب. وطلحة بن مصرف {يُضَـٰعِفُ } بالياء مبنياً للفاعل {ٱلْعَذَابَ } نصب. وقرأ طلحة بن سليمانوتخلد بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعاً أي وتخلد أيها الكافر. وقرأ أبو حيوة {وَيَخْلُدْ } مبنياً للمفعول مشدد اللام مجزوماً.ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففاً. وقرأ أبو بكر عن عاصم {يُضَـٰعِفُ } {وَيَخْلُدْ } بالرفع عنهما وكذا ابنعامر والمفضل عن عاصم {يُضَـٰعِفُ } {وَيَخْلُدْ } مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً. والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً. والأعمشبضم الياء مبنياً للمفعول مشدداً مرفوعاً فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من {يَلْقَ }. كما قال الشاعر

: متى تأتنا تلمم بنافي ديارنا     تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً

والضمير في{فِيهِ } عائد على العذاب، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس بغير حق مقبولة خلافاً لابن عباس، وتقدم ذلك فيالنساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو جعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس.وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة. وقال الزجاج: السيئة بعينها لاتصير حسنة، ولكن السيئة تُمْحَى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط عملة وتثبت عليه السيئات. وتأول ابن مسيب ومكحولأن ذلك يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو. وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة لهمن الموحدين بدل سيئات حسنات. وقالا تُمحى السيئة ويثبت بدلها حسنة. وقال القفال والقاضي: يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد مايستحق بهما. {إِلاَّ مَن تَابَ } استثناء متصل من الجنس، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه {يُضَـٰعَفْلَهُ ٱلْعَذَابُ } فيصير التقدير {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً } فلا يضاعف له العذاب. ولا يلزم منانتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعاً أي لكن من تاب وآمن عمل صالحاً {فَأُوْلَـئِكَيُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ } وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة و{سَيّئَاتِهِمْ } هو المفعول الثاني، وهو أصله أنيكون مقيداً بحرف الجر أي بسيئاتهم. و{حَسَنَـٰتٍ } هو المفعول الأول وهو المصرح كما قال تعالى

{ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ }

وقال الشاعر

: تضحك مني أخت ذات النحيين     أبد لك الله بلون لونين سواد وجه وبياض عينين

الظاهر أن {وَمَن تَابَ } أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى اللهأي يرجع إلى ثوابه وإحسانه. قال ابن عطية {وَمَن تَابَ } فإنه قد تمسك بأمر وثيق. كما تقول لمن يستحسنقوله في أمر: لقد قلت يا فلان قولاً فكذلك الآية معناها مدح المتاب، كأنه قال: فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيماً.وقال الزمخشري: ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإن بذلك تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين،ويفعل بهم ما يستوجبون، والله يحب التوّابين ويحب المتطهرين. وقيل: من عزم على التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر إليهاويتوجه بها إلى الله. وقيل {مَن تَابَ } من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عنالسيئات. وقيل: {وَمَن تَابَ } استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقاً عند الله. {وَٱلَّذِينَلاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } عاد إلى ذكر أوصاف {عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور،قاله عليّ والباقر فهو من الشهادة. وقيل: المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك والصنم أو الكذب أو آلة الغناءأو أعياد النصارى. أو لعبة كانت في الجاهلية أو النوح أو مجالس يعاب فيها الصالحون، أقوال. فالشرك قاله الضحاك وابنزيد، والغناء قاله مجاهد، والكذب قاله ابن جريج. وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعنمجاهد: أعياد المشركين و{ٱللَّغْوَ } كل ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح. والمعنى {وَإِذَا مَرُّواْ } بأهل اللغو {مَرُّواْ } معرضينعنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم. والخوض معهم لقوله

{ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ }

انتهى. {بآيَـٰتِ رَبّهِمْ} هي القرآن. {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخلعليه، وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أَكَبّوا عليها حرصاً علىاستماعها، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبينعليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر، وكانوا {صُمّاً وَعُمْيَاناً } حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها.قال ابن عطية: بل يكون خرورهم سجداً وبكياً كما تقول: لم يخرج زيد إلى الحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاًمعدماً، وكان المسمع المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام وترتيب، وإنكان قد أشبه الذي يَخّر ساجداً لكن أصله أنه على غير ترتيب انتهى. وقال السدّي {لَمْ يَخِرُّواْ } {صُمّاً وَعُمْيَاناً} هي صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك. وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يتمنى، وقام فلان يبكي،وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة. {قُرَّةِ أَعْيُنٍ } كناية عن السروروالفرح، وهو مأخوذ من القر وهو البرد. يقال: دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، ويقال: أقر الله عينك، وأسخن اللهعين العدو. وقال أبو تمام

: فأما عيون العاشقين فأسخنت     وأما عيون الشامتين فقرت

وقيل: مأخوذ من القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره. وقال أبو عمرو:وقرة العين النوم أي آمناً لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال، وقرة العين فيمن ذكروا رؤيتهم مطيعين للهقاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافروا والزوج والزوجة كافرة، وكانت قرة عيونهم فيإيمان أحبابهم. وقال ابن عباس: قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في الدنيا فيسروا بهم.وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم سرورهم انتهى. ويتضمن هذا القول الأول الذي هو فيالدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم في الدنيا. ومن الظاهر أنها لابتداء الغاية أي {هَبْ لَنَا } من جهتهم ما تقربهعيوننا من طاعة وصلاح، وجوز أن تكون للبيان قاله الزمخشري قال: كأنه قيل {هَبْ لَنَا } {قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ثمبينت القرة وفسرت بقوله {مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا } ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك: رأيت منك أسداًأي أنت أسد انتهى. وتقدم لنا أن {مِنْ } التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين. ثم يأتي بمنالبيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس. والصحيح أن هذا المعنى ليس بثابت لمن. وقرأ ابنعامر والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة قرات علىالجمع، والجمهور على الإفراد. ونكرت القرة لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وجاء {أَعْيُنِ } بصيغة جمعالقلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري.وليس بجيد لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جداًوإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد. وأفرد {إِمَاماً } إما اكتفاء بالواحدعن الجمع، وحسنه كونه فاصلة ويدل على الجنس ولا لبس، وأما لأن المعنى واجعل كل واحد {إِمَاماً } وإما أنيكون جمع آمّ كحال وحلال، وإما لاتحادهم واتفاق كلمتهم قالوا: واجعلنا إماماً واحد ادعوا الله أن يكونوا قدوة في الدينولم يطلبوا الرئاسة قاله النخعي. وقيل: في الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب. ونزلت فيالعشرة المبشرين بالجنة. {أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة. و{ٱلْغُرْفَةَ } اسم معرف بأل فيعم أي الغرفكما جاء

{ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ * ءامَنُون }

وهي العلالي. قال ابن عباس: وهي بيوت من زبرجد ودر وياقوت.وقيل {ٱلْغُرْفَةَ } من أسماء الجنة. وقيل: السماء السابعة غرفة. وقيل: هي أعلى منازل الجنة. وقيل: المراد العلو في الدرجاتوالباء في {بِمَا صَبَرُواْ } للسبب. وقيل: للبدل أي بدل صبرهم كما قال

:فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا    

أي فليت لي بدلهم قوماً ولم يذكر متعلق الصبر مخصصاً ليعم جميع متعلقاته. وقرأ الحسن وشيبةوأبو جعفر والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر {وَيُلَقَّوْنَ } بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة. وقرأ طلحة ومحمد اليماني وباقيالسبعة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة، أي تحييهم الملائكة أو يحيـي بعضهم بعضاً.وقيل: يحيون بالتحف جمع لهم بينهم المنافع والتعظيم. {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } معادل لقوله في جهنم {سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }.ولما وصف عباده العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله أن يصرح للناسبأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة والدعاء في قوله {لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } هو العبادة والظاهر أن {مَا} نفي أي ليس {يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي، أي عبءيعبأ بكم، و{دُعَاؤُكُمْ } مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأبتعذيبكم لولا دعاؤكم الأصنام آلهة. وقيل: أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته. والذي يظهر أن قوله {قُلْمَا يَعْبَؤُا بِكُمْ } خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما تأمرنا أي لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكمإياه في الشدائد. {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } بما جاء به الرسول ، فتستحقون العقاب {فَسَوْفَ يَكُونُ }العقاب وهو ما أنتجه تكذبيكم ونفس لهم في حلوله بلفظة {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي لازماً لهم لا ينفكون منه.وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير: فقد كذب الكافرون وهو محمول على أنه تفسير لا قرآن، والأكثرون على أناللزام هنا هو يوم بدر وهو قول ابن مسعود وأُبَيّ. وقيل: عذاب الآخرة. وقيل: الموت ولا يحمل على الموت المعتادبل القتل ببدر. وقيل: التقدير {فَسَوْفَ يَكُونُ } هو أي العذاب وقد صرح به من قرأ {فَسَوْفَ يَكُونُ } العذاب{لِزَاماً } والوجه أن يترك اسم كان غير منطوق به بعدما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام وتناول مالا يكتنهه الوصف. وعن ابن عباس {فَسَوْفَ يَكُونُ } هو أي التكذيب {لِزَاماً } أي لازماً لكم لا تعطون توبةذكره الزهراوي. قال الزمخشري: والخطاب إلى الناس على الإطلاق ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجد في جنسهم منالعبادة والتكذيب {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } يقول إذا أعلمتكم أن حكمي أنى لا أعتد إلاّ بعبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوفيلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن عصى عليه: إن من عادتي أنأحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك. وقرأ ابن جريج: فسوف تكونبتاء التأنيث أي فسوف تكون العاقبة، وقرأ الجمهور {لِزَاماً } بكسر اللام. وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب وأبو السمال بفتحهامصدر يقول لزم لزوماً ولزاماً، مثل ثبت ثبوتاً وثباتاً. وأنشد أبو عبيدة عليّ كسر اللام لصخر الغي

: فإما ينج من حتف أرض     فقد لقيا حتوفهما لزاماً

ونقل ابن خالويه عن أبي السمالأنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن اللزمة كفجار معدول عن الفجرة.