تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الغاشية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ } * { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } * { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } * { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } * { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } * { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } * { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } * { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } * { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } * { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } * { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } * { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } * { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } * { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } * { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } * { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } * { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } * { وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ } * { وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } * { وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } * { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } * { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } * { إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } * { فَيْعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلأَكْبَرَ } * { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } * { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }

الضريع، قال أبو حنيفة وأظنه صاحب النبات، الضريع: الشبرق، وهو مرعى سوء لاتعقد السائمة عليه شحماً ولا لحماً، ومنه قول ابن عزارة الهذلي:

وحبسن في هزم الضريع فكلها     حدباء دامية اليدين حرود

وقال أبو ذؤيب:

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى     وصار ضريعاً بان عنه النحائص

وقال بعض اللغويين: يبيس العرفج إذا تحطم. وقال الزجاج: هو نبت كالعوسج. وقال الخليل:نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر. النمارق: الوسائد، واحدها نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما. وقال زهير:

كهولاً وشباناً حساناً وجوههم     على سرر مصفوفة ونمارق

الزرابي: بسط عراض فاخرة. وقال الفراء:هي الطنافس المخملة، وواحدها زريبة بكسر الزاي وبفتحها. سطحت الأرض: بسطت ووطئت. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَـٰشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍخَـٰشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ* لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّتَسْمَعُ فِيهَا لَـٰغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ* أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى ٱلسَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى ٱلاْرْضِكَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيْعَذّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَٱلاْكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }. هي مكية. ولما ذكر فيما قبلها

{ فَذَكّرْ }

،وذكر النار والآخرة، قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَـٰشِيَةِ }. والغاشية: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يوم القيامة، قاله سفيان والجمهور.وقال ابن جبير ومحمد بن كعب: النار، قال تعالى:

{ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ }

. وقال:

{ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ }

، فهي تغشىسكانها. وهذا الاستفهام توقيف، وفائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر. وقيل: المعنى هل كان هذا من عملك لولا ماعلمناك؟ وفي هذا تعديد النعمة. وقيل: هل بمعنى قد. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ }: أي يوم إذ غشيت، والتنوين عوض من الجملة،ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضاً منها، لكن لما تقدّم لفظ الغاشية، وأل موصولة باسم الفاعل، فتنحل للتيغشيت، أي للداهية التي غشيت. فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها، وإلى الموصول الذي هو التي.{خَـٰشِعَةٌ }: ذليلة. {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ }، قال ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة: {عَامِلَةٌ } في النار، {نَّاصِبَةٌ } تعبةفيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا. قيل. وعملها في النار جر السلاسل والأغلال، وخوضها في النار كما تخوض الإبلفي الوحل، وارتقاؤها دائبة في صعود نار وهبوطها في حدور منها. وقال ابن عباس أيضاً وزيد بن أسلم وابن جبير:عاملة في الدنيا ناصبة فيها لأنها على غير هدى، فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار؛ والآية في القسيسين وعبادالأوثان وكل مجتهد في كفره. وقال عكرمة والسدي: عاملة ناصبة بالنصب على الذم، والجمهور برفعهما. وقرأ: {تَصْلَىٰ } بفتحالتاء؛ وأبو رجاء وابن محيصن والأبوان: بضمها؛ وخارجة: بضم التاء وفتح الصاد مشدّد اللام، وقد حكاها أبو عمرو بن العلاء{حَامِيَةً }: مسعرة آنية قد انتهى حرها، كقوله:

{ وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ }

، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. وقال ابن زيد:حاضرة لهم من قولهم: آنى الشيء حضر. والضريع، قال ابن عباس: شجر من نار. وقال الحسين: وجماعة الزقوم. وقال ابنجبير: حجارة من نار. وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعكرمة ومجاهد: شبرق النار. وقيل: العبشرق. وقيل: رطب العرفج، وتقدم ماقيل فيه في المفردات. وقيل: واد في جهنم. والضريع، إن كان الغسلين والزقوم، فظاهر ولا يتنافى الحصر في

{ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ }

، و{إِلاَّ مَنْ } ضريع. وإن كانت أغياراً مختلفة، والجمع بأن الزقوم لطائفة، والغسلين لطائفة، والضريع لطائفة. وقالالزمخشري: {لاَّ يُسْمِنُ } مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع، يعني أن طعامهم من شيء ليس منمطاعم الإنس وإنما هو شوك، والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به، وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه، ومنفعتا الغذاءمنتفيتان عنه، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة، والسمن في البدن، انتهى. فقوله: مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أوضريع. أما جره على وصفه لضريع فيصح، لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع. وأما رفعه على وصفه لطعامفلا يصح، لأن الطعام منفي ولا يسمن، منفي فلا يصح تركيبه، إذ يصير التقدير: ليس لهم طعام لا يسمن ولايغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى: أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير ضريع، كما تقول:ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه أن له مالاً ينتفع به من غير مال عمرو.ولو قيل: الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في {إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } كان صحيحاً، لأنه في موضع رفععلى أنه بدل من اسم ليس، أي ليس لهم طعام إلا كائن من ضريع، إذ الإطعام من ضريع غير مسمنولا مغن من جوع، وهذا تركيب صحيح ومعنى واضح، وقال الزمخشري: أو أريد أن لا طعام لهم أصلاً، لأن الضريعليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس، لأن الطعام ما أشبع وأسمن، وهو منهما بمعزل. كما تقول: ليس لفلان ظل إلاالشمس، تريد نفي الظل على التوكيد. انتهى. فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، إذ لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظةطعام، إذ ليس بطعام. والظاهر الاتصال فيه. وفي قوله:

{ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ }

، لأن الطعام هو ما يتطعمهالإنسان، وهذا قدر مشترك بين المستلذ والمكروه وما لا يستلذ ولا يستكره. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ }: صح الابتداء فيهذا وفي قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌ } بالنكرة لوجود مسوغ ذلك وهو التفصيل، ناعمة لحسنها ونضارتها أو متنعمة. {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}: أي لعملها في الدنيا بالطاعة، راضية إذا كان ذلك العمل جزاؤه الجنة. {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ }: أي مكاناً ومكانة.وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم. {لاَ تُسْمِعُ } مبنياً للمفعول، {لَـٰغِيَةً }: رفع،أي كلمة لاغية، أو جماعة لاغية، أو لغو، فيكون مصدراً كالعاقبة، ثلاثة أقوال، الثالث لأبي عبيدة وابن محيصن وعيسى وابنكثير وأبو عمرو كذلك، إلا أنهم قرأوا بالياء لمجاز التأنيث، والفضل والجحدري كذلك، إلا أنه نصب لاغية على معنى لايسمع فيها، أي أحد من قولك: أسمعت زيداً؛ والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة وابن سيرين ونافع في رواية خارجةوأبو عمرو بخلاف عنه؛ وباقي السبعة: لا تسمع بتاء الخطاب عموماً، أو للرسول عليه الصلاة والسلام، أو الفاعل الوجود. لاغية:بالنصب، {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ }: عين اسم جنس، أي عيون، أو مخصوصة ذكرت تشريفاً لها. {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ }: منرفعة المنزلة أو رفعة المكان ليرى ما خوله ربه من الملك والنعيم، أو مخبوءة من رفعت لك هذا، أي خبأته.{وأكواب موضوعة}: أي بأشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء، أو موضوعة بين أيديهم، أو موضوعة على حافات العيون. {وَنَمَارِقُمَصْفُوفَةٌ }: أي وسائد صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها. {وَزَرَابِيُّ مبثوثة}: متفرقة هنا وهنا في المجالس.ولما ذكر تعالى أمر القيامة وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء، وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطةالصانع الحكيم، أتبع ذلك بذكره هذه الدلائل، وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائماً فقال: {مَبْثُوثَةٌ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإبِلِ كَيْفَخُلِقَتْ }، وهي الجمال، فإنه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها، من أكل لحمها، وشرب لبنها، والحمل عليها،والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة، وعيشها بأي نبات أكلته، وصبرها على العطش حتى أن فيها ما يرد الماء لعشر، وطواعيتهالمن يقودها، ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال، وكثرة جنينها، وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها، وهي لا شيء من الحيوانجميع هذه الخصال غيرها. وقد أبان تعالى امتنانه عليهم بقوله:

{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـٰماً }

، الآيات. ولكونها أفضل ما عند الغرب، جعلوها دية القتل، ووهبوا المائة منها من يقصدهم ومن أرادوا إكرامه، وذكرها الشعراءفي مدح من وهبها، كما قال:

أعطوا هنيـدة تحـدوهـا ثمـانيـة    

وقال آخر:

الواهب المـائـة الهجـان برمتهـا    

وناسب التنبيه بالنظر إليهاوإلى ما حوت من عجائب الصفات، ما ذكر معها من السماء والجبال والأرض لانتظام هذه الأشياء في نظر العرب فيأوديتهم وبواديهم، وليدل على الاستدلال على إثبات الصانع، وأنه ليس مختصاً بنوع دون نوع، بل هو عام في كل موجوداته،كما قيل:

وفي كل شيء له آية     تدل على أنه واحد

وقالأبو العباس: المبرد: الإبل هنا السحاب، لأن العرب قد تسميها بذلك، إذ تأتي إرسالاً كالإبل، وتزجى كما تزجى الإبل، وهيفي هيئتها أحياناً تشبه الإبل والنعام، ومنه قوله:

كأن السحاب ذوين السما     ء نعام تعلق بالأجل

وقال الزمخشري: ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة، ولعله لميرد أن الإبل من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل كثيراً في أشعارهم،فجوّز أن يراد بها السحاب على طريقة التشبيه والمجاز، انتهى. وقرأ الجمهور: {ٱلإِبِلِ } بكسر الباء وتخفيف اللام؛ والأصمعي عنأبي عمرو: بإسكان الباء؛ وعليّ وابن عباس: بشد اللام. ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا: إنها السحاب، عنقوم من أهل اللغة. وقال الحسن: خص الإبل بالذكر لأنها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن، فقيل له: الفيل أعظم فيالأعجوبة، وقال العرب: بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره ولا يحلب دره. والإبل لاواحد له من لفظه وهو مؤنث، ولذلك إذا صغر دخلته التاء فقالوا: أبيلة، وقالوا في الجمع: آبال. وقد اشتقوا منلفظه فقالوا: تأبل الرجل، وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا: ما آبل زيداً. وإبل اسم جاء على فعل،ولم يحفظ سيبويه مما جاء على هذا الوزن غيره. وكيف خلقت: جملة استفهامية في موضع البدل من الإبل، وينظرون: تعدىإلى الإبل بواسطة إلى، وإلى كيف خلقت على سبيل التعليق، وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم:عرفت زيداً أبو من هو على أصح الأقوال، على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف، فحكى أنهم قالوا: انظرإلى كيف يصنع. وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت، وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام، لم يبق الاستفهامعلى حقيقته، وقد بينا ذلك في كتابنا المسمى بالتذكرة وفي غيره. وقرأ الجمهور: {خُلِقَتْ }: رفعت، {نُصِبَتْ } سطحتبتاء التأنيث مبنياً للمفعول؛ وعليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بتاء المتكلم مبنياً للفاعل، والمفعول محذوف، أي خلقتها، رفعتها، نصبتها؛رفعت رفعاً بعيد المدى بلا عمد، نصبت نصباً ثابتاً لا تميل ولا تزول؛ سطحت سطحاً حتى صارت كالمهاد للمتقلب عليها.وقرأ الجمهور: {سُطِحَتْ } خفيفة الطاء؛ والحسن وهارون: بشدّها. ولما حضهم على النظر، أمر رسوله بتذكيرهمفقال: {فَذَكّرْ } ولا يهمنك كونهم لا ينظرون. {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ }، كقوله تعالى:

{ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ }

. {لَّسْتَعَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ }: أي بمسلط، كقوله:

{ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ }

. وقرأ الجمهور: بالصاد وكسر الطاء، وابن عامر في رواية،ونطبق عن قنبل، وزرعان عن حفص: بالسين؛ وحمزة في رواية: بإشمام الزاي؛ وهارون: بفتح الطاء، وهي لغة تميم. وسيطر متعدعندهم ويدل عليه فعل المطاوعة وهو تسطر، وليس في الكلام على هذا الوزن إلا مسيطر ومهيمن ومبيطر ومبيقر، وهي أسماءفاعلين من سيطر وهيمن وبيطر. وجاء مجيمر اسم واد ومديبر، ويمكن أن يكون أصلهما مدبر ومجمر فصغراً. وقرأ الجمهور: إلاحرف استثناء فقيل متصل، أي فأنت مسيطر عليه. وقيل: متصل من فذكر، أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانهوتولى فاستحق العذاب الأكبر، وما بينهما اعتراض. وقيل: منقطع، وهي آية موادعة نسخت بآية السيف. وقرأ ابن عباس وزيد بنعليّ وقتادة وزيد بن أسلم: ألا حرف تنبيه واستفتاح، والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم. وقرأ الجمهور: {إِيَابَهُمْ } بتخفيفالياء مصدر آب؛ وأبو جعفر وشيبة: بشدّها مصدراً لفعيل من آب على وزن فيعال، أو مصدراً كفوعل كحوقل على وزنفيعال أيضاً كحيقال، أو مصدر الفعول كجهور على وزن فعوال كجهوار فأصله أوواب فقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ماقبلها؛ واجتمع في هذا البناء والبناءين قبله واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغم ولم يمنع الإدغام منالقلب لأن الواو والياء ليستا عينين من الفعل، بل الياء في فيعل والواو في فعول زائدتان. وقال صاحب اللوامح، وتبعهالزمخشري: يكون أصله إواباً مصدر أوّب، نحو كذّب كذاباً، ثم قيل إواباً فقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها. قالالزمخشري: كديوان في دوان، ثم فعل به ما فعل بسيد، يعني أنه اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواوياء وأدغمت الياء في الواو، فأما كونه مصدر أوب فإنه لا يجوز، لأنهم نصوا على أن الواو الأولى إذا كانتموضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسوراً فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة، ومثلوا بأخرواط مصدر أخروّط، ومثلوا أيضاًبمصدر أوب نحو أوّب إواباً، فهذه وضعت على الإدغام، فحصنها من الإبدال ولم تتأثر للكسر. وأما تشبيه الزمخشري بديوانفليس بجيد لأنهم لم ينطقوا بها في الوضع مدغمة، فلم يقولوا دوّان، ولولا الجمع على دواوين لم يعلم أن أصلهذه الياء واو، وأيضاً فنصوا على شذوذ ديوان فلا يقاس عليه غيره. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون من أأوب،فيجيء إيواباً، سهلت الهمزة، وكان اللازم في الإدغام يردها إواباً، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس، انتهى. فقوله: وكاناللازم في الإدغام بردها إواباً ليس بصحيح، بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إياباً، لأنه قد اجتمعت ياء وهيالمبدلة من الهمزة بالتسهيل. وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة، فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إياباً. ولماكان من مذهب الزمخشري أن تقديم المعمول يفيد الحصر، قال معناه: أن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام،وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه تعالى، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير، ومعنى الوجوب: الوجوب في الحكمة، والله أعلم.