انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الطور

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ وَٱلطُّورِ } * { وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ } * { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } * { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } * { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } * { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } * { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } * { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } * { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } * { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } * { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } * { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } * { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } * { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } * { ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } * { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } * { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } * { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } * { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } * { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } * { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } * { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } * { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } * { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } * { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } * { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } * { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } * { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } * { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } * { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } * { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } * { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } * { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُسَيْطِرُونَ } * { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } * { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } * { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } * { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } * { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } * { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } * { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } * { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } * { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } * { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } الرق، بالفتح والكسر: جلد رقيق يكتب فيه، وجمعه رموق. والرق بالكسر: المملوك. مارالشيء: ذهب وجاء. وقال الأخفش: وأبو عبيدة: تكفأ، وأنشد الأعشى:

كأن مشيتها من بين جارتها     مر السحابة لا ريث ولا عجل

ويروى: مرو السحابة. الدع: الدفع في الضيق بشدّة وإهانة. السموم: الريح الحارة التي تدخل المسام،ويقال: سم يومنا فهو مسموم، والجمع سمائم. وقال ثعلب: شدّة الحر، أو شدّة البرد في النهار. وقال أبو عبيدة: السمومبالنهار، وقد يكون بالليل؛ والحرور بالليل، وقد يكون بالنهار. وقد يستعمل السموم في لفح البرد، وهو في لفح الحر والشمسأكثر. المنون: الدهر، وريبه: حوادثه. وقيل: اسم للموت. المسيطر: المتسلط. وحكى أبو عبيدة: سطرت عليّ، إذا اتخذتني خولاً، ولم يأتفي كلام العرب اسم على مفيعل إلا خمسة: مهيمن ومحيمر ومبيطر ومسيطر ومبيقر. فالمحيمر اسم جبل، والبواقي أسماء فاعلين، واللهتعالى أعلم. {وَٱلطُّورِ * وَكِتَـٰبٍ مُّسْطُورٍ * فِى رَقّ مَّنْشُورٍ * وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ * وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ * وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ* إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَاء مَوْراً * وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً *فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِىكُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَعِيمٍ * فَـٰكِهِينَ بِمَا ءاتَـٰهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * كُلُواْوَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَـٰهُم بِحُورٍ عِينٍ * وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـٰنٍ أَلْحَقْنَابِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـٰهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ٱمْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ }. هذه السورة مكية. ومناسبتها لآخرما قبلها ظاهرة، إذ في آخر تلك: { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَـٰبِهِمْ } ، وقال هنا: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَلَوَاقِعٌ }. الطور: الجبل، والظاهر أنه اسم جنس، لا جبل معين، وفي الشأم جبل يسمى الطور، وهو طور سيناء.فقال نوف البكالي: إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال. قيل: وهو الذي كلم الله عليه موسى، عليه الصلاةوالسلام. والكتاب المسطور: القرآن، أو المنتسخ من اللوح المحفوظ، أو التوراة، أو هي الإنجيل والزبور، أو الكتاب الذي فيه أعمالالخلق، أو الصحف التي تعطى يوم القيامة بالإيمان والشمائل، أقوال آخرها للفراء، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعيين،إنما تورد على الاحتمال. وقرأ أبو السمال: في رِق، بكسر الراء، {مَّنْشُورٍ }: أي مبسوط. وقيل: مفتوح لا ختم عليه.وقيل: منشور لائح. وعن ابن عباس: منشور ما بين المشرق والمغرب. {وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ }، قال علي وابن عباس وعكرمة:هو بيت في السماء مسامت الكعبة يقال له الضراح، والضريح أيضاً، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء، قال جبريل: هذاالبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد:في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك. وسأل ابن الكوا علياً، رضي الله تعالى عنه فقال: بيت فوقسبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وقال الحسن: البيت المعمور: الكعبة، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجزمن الناس أتمه الله بالملائكة. {وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ }: السماء، قال ابن عباس: هو العرش، وهو سقف الجنة. {وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ}، قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخف5: هو البحر الموقد ناراً. وروي أن البحر هو جهنم.وقال قتادة: البحر المسجور: المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورجحه الطبري بوجود ماء البحر كذلك، ولا ينافي ما قاله مجاهد،لأن سجرت التنور معناه: ملأته بما يحترق. وقال ابن عباس: المسجور: الذي ذهب ماؤه. وروى ذو الرمة الشاعر، عن ابنعباس قال: خرجت أمة لتستقي، فقالت: إن الحوض مسجور: أي فارغ، وليس لذي الرمة حديث إلا هذا، فيكون من الأضداد.ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة. وقال ابن عباس أيضاً: المسجور: المحبوس، ومنه ساجور الكلب: وهي القلادة من عودأو حديد تمسكه، ولولا أن البحر يمسك، لفاض على الأرض. وقال الربيع: المسجور: المختلط العذب بالملح. وقيل: المفجور، ويدل عليه: { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجّرَتْ } . والجمهور: على أن البحر المقسم به هو بحر الدنيا، ويؤيده: { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجّرَتْ } . وعن عليوابن عمر: أنه في السماء تحت العرش فيه ماء غليظ يقال له بحر الحياة، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولىأربعين صباحاً، فينبتون في قبورهم. وقال قتيبة بن سعيد: هو جهنم، وسماها بحراً لسعتها وتموجها. كما جاء في الفرس: وإنوجدناه لبحراً. قيل: ويحتمل أن تكون الجملة في القسم بالطور والبحر والبيت، لكونها أماكن خلوة مع الله تعالى، خاطب منهاربهم رسله. فالطور، قال فيه موسى: { أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } ، والبيت المعمور لمحمد ، والبحر المسجورليونس، قال: { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ } ، فشرفت هذه الأماكن بهذه الأسباب. والقسم بكتاب مسطور، لأن الأنبياء عليهم الصلاةوالسلام كان لهم مع الله في هذه الأماكن كلام. واقترانه بالطور دل على ذلك. والقسم بالسقف المرفوع لبيان رفعة البيتالمعمور. انتهى. ونكر وكتاب، لأنه شامل لكل كتاب أنزله الله شمول البدل، ويحتمل أن يكون شمول العموم، كقوله: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } . وكونه في رق، يدل على ثبوته، وأنه لا يتخطى الرؤوس. ووصفه بمنشور يدل على وضوحه، فليس كالكتابالمطوي الذي لا يعلم ما انطوى عليه، والمنشور يعلم ما فيه، ولا يمنع من مطالعة ما تضمنه؛ والواو الأولى واوالقسم، وما بعدها للعطف. والجملة المقسم عليها هي قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ }. وفي إضافة العذاب لقوله: {رَبَّكَ }لطيفة، إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد. فبالإضافة إلى الرب، وإضافته لكاف الخطاب أمان له ؛وإن العذاب لواقع هو بمن كذابه، ولواقع على الشدة، وهو أدل عليها من لكائن. ألا ترى إلى قوله: { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } ، وقوله: { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } ، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به؟ وعن جبير بنمطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب: {وَٱلطُّورِ }إلى {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ }، فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب، وماكنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقرأ زيد بن علي: واقع بغير لام. قال قتادة: يريدعذاب الآخرة للكفار، أي لواقع بالكفار. ومن غريب ما يحكى أن شخصاً رأى في النوم في كفه مكتوباً خمسواوات، فعبر له بخير، فسأل ابن سيرين، فقال: تهيأ لما لا يسر، فقال له: من أين أخذت هذا؟ فقال: منقوله تعالى: {وَٱلطُّورِ } إلى {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ }، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص. وانتصبيوم بدافع، قاله الحوفي، وقال مكي: لا يعمل فيه واقع، ولم يذكر دليل المنع. وقيل: هو منصوب بقوله: {لَوَاقِعٌ }،وينبغي أن يكون {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول. قال ابن عباس: {تَمُورُ }:تضطرب. وقال أيضاً: تشقق. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. وقال مجاهد: تدور. {وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً }، هذا في أولالأمر، ثم تنسف حتى تصير آخراً { كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } . {فَوَيْلٌ }: عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده، والخوض: التخبطفي الباطل، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل. {يَوْمَ يُدَعُّونَ }، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلىأعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم. وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيدبن علي: يدعون، بسكون الدال وفتح العين: من الدعاء، أي يقال لهم: هلموا إلى النار، وادخلوها {دَعًّا }: مدعوعين، يقاللهم: {هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ }. لما قيل لهم ذلك، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار،وهي: إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال، فأمرهم بصليها على جهة التقريع.ثم قيل لهم على قطع رجائهم: {فَٱصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ }: عذابكم حتم، فسواء صبركم وجزعكم لا بدمن جزاء أعمالكم، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: {أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا }، يعني كنتم تقولون للوحي: هذا سحر.. {أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا}، يريد: أهذا المصداق أيضاً سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى. {أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ }: كما كنتم لا تبصرون فيالدنيا، يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه، كما كنتم عمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم. فإن قلت: لم عللاستواء الصبر وعدمه بقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }؟ قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعهفي العاقبة، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة،فلا مزية له على الجزع. انتهى. وسحر: خبر مقدم، وهذا: مبتدأ، وسواء: مبتدأ، والخبر محذوف، أي الصبر والجزع. وقال أبوالبقاء: خبر مبتدأ محذوف، أي صبركم وتركه سواء. ولما ذكر حال الكفار، ذكر حال المؤمنين، ليقع الترهيب والترغيب، وهوإخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين، أخبروا بذلك. ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار، إذ ذلك زيادة فيغمهم وتنكيد لهم، والأول أظهر. وقرأ الجمهور: فكهين، نصباً على الحال، والخبر في {جَنَّـٰتٍ وَنَعِيمٍ }. وقرأ خالد: بالرفع علىأنه خبر إن، وفي جنات متعلق به. ومن أجاز تعداد الخبر، أجاز أن يكونا خبرين. {وَوَقَـٰهُمْ } معطوف على {فِيجَنَّـٰتِ }، إذ المعنى: استقروا في جنات، أو على {ءاتَـٰهُمُ }، وما مصدرية، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذابالجحيم. وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال، ومن شرط قد في الماضي، قال: هي هنا مضمرة، أي وقدوقاهم. وقرأ أبو حيوة: ووقاهم، بتشديد القاف. {كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } على إضمار القول: أي يقال لهم: {هَنِيئَاً }. قال الزمخشري:أكلاً وشرباً هنيئاً، أو طعاماً وشراباً هنيئاً، وهو الذي لا تنغيص فيه. ويجوز أن يكون مثله في قوله:

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر     لعزة من أعراضنا ما استحلت

أعني: صفة استعملت استعمال المصدر القائممقام الفعل، مرتفعاً به ما استحلت، كما يرتفع بالفعل، كأنه قيل: هنا عزة المستحل من أعراضنا. وكذلك معنى هنيئاً ههنا:هنأكم الأكل والشرب، أو هنأكم ما كنتم تعملون، أي جزاء ما كنتم تعملون، والباء مزيدة كما في: {كَفَىٰ بِٱللَّهِ }،والباء متعلقة بكلوا واشربوا، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. انتهى. وتقدم لنا الكلام مشبعاً على {هَنِيئَاً } في سورة النساء.وأما تجويزه زيادة الباء، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها؛ فتجويز زيادتها في الفاعلهنا لا يسوغ. وأما قوله: إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا، فلا يصح إلا على الأعمال، فهي تتعلق بأحدهما. وانتصب {مُتَّكِئِينَ} على الحال. قال أبو البقاء: من الضمير في {كُلُواْ }، أو من الضمير في {وَوَقَـٰهُمْ }، أو من الضميرفي {ءاتَـٰهُمُ }، أو من الضمير في {فَـٰكِهِينَ }، أو من الضمير في الظرف. انتهى. والظاهر أنه حال من الظرف،وهو قوله: {فِي جَنَّـٰتِ }. وقرأ أبو السمال: على سرر، بفتح الراء، وهي لغة لكلب في المضعف، فراراً من تواليضمتين مع التضعيف. وقرأ عكرمة: {بِحُورٍ عِينٍ } على الإضافة. والظاهر أن قوله: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } مبتدأ، وخبره {*ألحقناه}.وأجاز أبو البقاء أن يكون {مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ } في موضع نصب على تقدير: وأكرمنا الذين آمنوا. ومعنى الآية، قال الجمهوروابن عباس وابن جبير وغيرهما: أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم، وإن لم يكونوا فيالتقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم. فبإيمان متعلق بقوله: { وَأَتْبَعْنَـٰهُم } . وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه ثم قرأ الآية. وقال ابن عباس والضحاك: إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباءالمؤمنين. انتهى. فيكون بإيمان متعلقاً بألحقنا، أي ألحقنا بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف،فهم في الجنة مع آبائهم، وإذا كان أبناء الكفار، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة، كما ثبت في صحيحالبخاري، فأحرى أولاد المؤمنين. وقال الحسن: الآية في الكبار من الذرية. وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا فيالكبار. وعن ابن عباس أيضاً: الذين آمنوا: المهاجرون والأنصار، والذرية: التابعون. وعنه أيضاً: إن كان الآباء أرفع درجة، رفع اللهالأبناء إليهم، فالآباء داخلون في اسم الذرية. وقال النخعي: المعنى: أعطيناهم أجورهم من غير نقص، وجعلنا ذريتهم كذلك. وقالالزمخشري: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }، معطوف على حور عين. أي قرناهم بالحور العين؛ وبالذين آمنوا: أي بالرفقاء والجلساء منهم، كقوله تعالى: { إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } ، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين، وأتبعناهم ذرياتهم. ثم ذكر حديث ابن عباس،ثم قال: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم.ثم قال: بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم: أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم، وإن كانوالا يستأهلونها، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم. فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت: معناه الدلالة علىأنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجةالآباء ألحقناهم بهم. انتهى. ولا يتخيل أحد أن {وَٱلَّذِينَ } معطوف على {بِحُورٍ عِينٍ } غير هذا الرجل، وهوتخيل أعجميّ مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره. والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس، ويعضده الحديث الذي رواه،لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى هل الجنة. وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء.ولفظة {أَلْحَقْنَا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال. وقرأ أبو عمرو: وأتبعناهم؛ وباقي السبعة: واتبعتهم؛ وأبو عمرو: وذرياتهمجمعاً نصباً؛ وابن عامر: جمعاً رفعاً؛ وباقي السبعة: مفرداً؛ وابن جبير: وأتبعناهم ذريتهم، بالمدّ والهمز. وقرأ الجمهور: {أَلَتْنَـٰهُمْ }،بفتح اللام، من ألات؛ والحسن وابن كثير: بكسرها؛ وابن هرمز: آلتناهم، بالمد من آلت، على وزن أفعل؛ وابن مسعود وأبي:لتناهم من لات، وهي قراءة طلحة والأعمش؛ ورويت عن شبل وابن كثير، وعن طلحة والأعمش أيضاً: لتناهم بفتح اللام. قالسهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال، وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد، وقال: لا يروى عن أحد، ولا يدلعليها تفسير ولا عربية، وليس كما ذكر، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد، كما قرأ ابن هرمز. وقرىء: وماولتناهم، ذكره ابن هارون. قال ابن خالويه: فيكون هنا الحرف من لات يليت، وولت يلت، وألت يألت، وألات يليت، ويؤلت،وكلها بمعنى نقص. ويقال: ألت بمعنى غلظ. وقام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه، فقال رجل: لا تألت أميرالمؤمنين، أي لا تغلظ عليه. والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين. والمعنى: أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن، ولاينقص المحسن من أجر شيئاً، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور. وقال أبي زيد: الضمير عائد على الأبناء. {مّنْعَمَلِهِم }: أي الحسن والقبيح، ويحسن هذا الاحتمال قوله: {كُلُّ ٱمْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ }: أي مرتهن وفيه، {وَأَمْدَدْنَـٰهُم }:أي يسرنا لهم شيئاً فشيئاً حتى يكر ولا ينقطع. {يَتَنَـٰزَعُونَ فِيهَا } أي يتعاطون، قال الأخطل:

نازعته طيب الراح الشمول وقد     صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

أو يتنازعون: يتجاذبون تجاذب ملاعبة، إذ أهل الدنيالهم في ذلك لذة، وكذلك في الجنة. وقرأ الجمهور: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ }، برفعهما؛ وابن كثير، وأبو عمرو:بفتحهما، واللغو: السقط من الكلام، كما يجري بين شراب الخمر في الدنيا. والتأثيم: الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا.{غِلْمَانٌ لَّهُمْ }: أي مماليك. {مَّكْنُونٌ }: أي في الصدف، لم تنله الأيدي، قاله ابن جبير، وهو إذ ذاك رطب،فهو أحسن وأصفى. ويجوز أن يراد بمكنون: مخزون، لأنه لا يخزن إلا الغالي الثمن. والظاهر أن التساؤل هو في الجنة،إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض، أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم؛ ويدل عليه {فَمَنَّ ٱللَّهُعَلَيْنَا }: أي بهذا النعيم الذي نحن فيه. وقال ابن عباس: تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية، حكاه الطبري عنه.{مُشْفِقِينَ }: رقيقي القلوب، خاشعين لله. وقرأ أبو حيوة: ووقانا بتشديد القاف، والسموم هنا النار؛ وقال الحسن: اسم من أسماءجهنم. {مِن قَبْلُ }: أي من قبل لقاء الله والمصير إليه. {نَدْعُوهُ } نعبده ونسأله الوقاية من عذابه، {إِنَّهُ هُوَٱلْبَرُّ }: المحسن، {ٱلرَّجِيمِ }: الكثير الرحمة، إذا عبد أثاب، وإذا سئل أجاب. أو {نَدْعُوهُ } من الدعاء. وقرأ الحسنوأبو جعفر ونافع والكسائي: أنه بفتح الهمزة، أي لأنه، وباقي السبعة: إنه بكسر الهمزة، وهي قراءة الأعرج وجماعة، وفيها معنىالتعليل. قوله عز وجل: {فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَـٰهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَٱلْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ ٱلْمُتَرَبّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـٰمُهُمْ بِهَـٰذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَتَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَـٰدِقِينَ * أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء أَمْ هُمُ ٱلْخَـٰلِقُونَ* أَمْ خَلَقُواْ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُسَيْطِرُونَ * أَمْلَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ * أَمْ لَهُ ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ * أَمْ تَسْـئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّنمَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌغَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ ٱلسَّمَاء سَـٰقِطاً يَقُولُواْ سَحَـٰبٌ مَّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْيَوْمَهُمُ ٱلَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبّحْهُوَإِدْبَـٰرَ ٱلنُّجُومِ }. لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين، أمره بالتذكير،إنذاراً للكافر، وتبشيراً للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانةوالجنون، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات، وكان للجن بهما ملابسة للإنس. وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بنربيعة، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط. وقال الزمخشري: {فَذَكّرْ } فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولايثبطنك قولهم كاهن أو مجنون، ولا تبال به، فإنه قول باطل متناقض. فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقةنظر، والمجنون مغطى على عقله؛ وما أنت، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل، أحد هذين. انتهى. وقالالحوفي: {بِنِعْمَةِ رَبّكَ } متعلق بما دل عليه الكلام، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها، والتقدير: ما أنت في حالإذكارك بنعمة ربك بكاهن. قال أبو البقاء: الباء في موضع الحال، والعامل في بكاهن أو مجنون، والتقدير: ما أنت كاهناًولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. انتهى. وتكون حالاً لازمة لا منتقلة، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه.وقيل: {بِنِعْمَةِ رَبّكَ } مقسم بها، كأنه قيل: ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون، فتوسط المقسم به بين الاسموالخبر، كما تقول: ما زيد والله بقائم. ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه، ذكر نوعاًآخر مما كانوا يقولونه. روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة، وكثرت آراؤهم فيه ، حتىقال قائل منهم، وهم بنو عبد الدار، قاله الضحاك: تربصوا به ريب المنون، فإنه شاعر سيهلك، كما هلك زهير والنابغةوالأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك. وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدركالشعر، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار، ولا شك أن بعضهم كانيدرك ذلك، إذ كان فيهم شعراء، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم: هو شاعر، حجداً الآيات الله بعداستيقانها. وقرأ زيد بن علي: يتربص بالياء مبنياً للمفعول به، {رَيْبَ }: مرفوع، وريب المنون: حوادث الدهر، فإنه لا يدومعلى حال، قال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها     تطلق يوماً أو يموت حليلها

وقال الهندي:

أمن المنون وريبها تتوجع     والدهر ليس بمعتب من يجزع

{قُلْ تَرَبَّصُواْ }:هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم، كما تتربصون هلاكي. {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـٰمُهُمْ }: عقولهم بهذا، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون،وهو قول متناقض، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهمالله تعالى بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها التوفيق. {أَمْ تَأْمُرُهُمْ }، قيل: أم بمعنى الهمزة، أيأتأمرهم؟ وقدرها مجاهد ببل، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة. {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }: أي مجاوزون الحدّ في العنادمع ظهور الحق. وقرأ مجاهد: بل هم، مكان: {أَمْ هُمُ }، وكون الأحلام آمرة مجازاً لما أدت إلى ذلك، جعلتآمرة كقوله: { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } . وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال: كل ما في سورة والطورمن أم فاستفهام وليس بعطف. تقوله: اختلقه من قبل نفسه، كما قال: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلاْقَاوِيلِ } . وقال ابن عطية:تقوله معناه: قال عن الغير أنه قاله، فهو عبارة عن كذب مخصوص. انتهى. {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ }: أي لكفرهم وعنادهم،ثم عجزهم بقوله تعالى: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَـٰدِقِينَ }: أي مماثل للقرآن في نظمه ورصفه من البلاغة، وصحةالمعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله، فليقولوا هم مثله، إذ هو واحد منهم،فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل. فقرأ الجحدري وأبو السمّال: {بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ }، على الإضافة: أي بحديث رجل مثلالرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحداً منهم، فلا يجوزأن يكون مثله في العرب فصاحة، فليأت بمثل ما أتى به، ولن يقدر على ذلك أبداً. {أَمْ خُلِقُواْ مِنْغَيْرِ شَىْء }: أي من غير شيء حي كالجماد، فهم لا يؤمرون ولا ينهون، كما هي الجمادات عليه، قاله الطبري.وقيل: {مِنْ غَيْرِ شَىْء }: أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون، وهذاكما تقول: فعلت كذا وكذا من غير علة: أي لغير علة، فمن للسبب، وفي القول الأول لابتداء الغاية. وقال الزمخشري:{أَمْ خَلَقُواْ }: أم أحدثوا؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم؛ {مِنْ غَيْرِ شَىْء }: من غير مقدر، أم هم الذينخلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق؟ {بَل لاَّ يُوقِنُونَ }: أي إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا: الله،وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون. أم خلقوا من غير رب ولا خالق؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غيرإله يبرزهم وينشئهم؟ {أَمْ هُمُ ٱلْخَـٰلِقُونَ } لأنفسهم، فلا يعبدون الله، ولا يأتمرون بأوامره، ولا ينتهون عن مناهيه. والقسمان باطلان،وهم يعترفون بذلك، فدل على بطلانهم. وقال ابن عطية: ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم، أهم الذين خلقوا الأشياءفهم لذلك يتكبرون؟ ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنونولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ }، قال الزمخشري: خزائن الرزق، حتى يرزقوا النبوة منشاءوا، أو: أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ {أَمْ هُمُ ٱلْمُسَيْطِرُونَ }: الأرباب الغالبون حتى يدبرونأمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم. وقال ابن عطية: أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور، لأن المالوالصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى. وقال الزهراوي: وقيل يريد بالخزائن: العلم، وهذا قول حسنإذا تؤمل وبسط. وقال الرماني: خزائنه تعالى: مقدوراته. انتهى. والمسيطر، قال ابن عباس: المسلط القاهر. وقرأ الجمهور: المصيطرون بالصاد؛ وهشاموقنبل وحفص: بخلاف عنه بالسين، وهو الأصل؛ ومن أبدلها صاداً، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلق عن حمزة، وخلادعنه بخلاف عنه الزاي. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } منصوب إلى السماء، {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ }: أي عليه أو منه، إذحروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض، وقدره الزمخشري: صاعدين فيه، ومفعول يستمعون محذوف تقديره: الخبر بصحة ما يدعونه، وقدرهالزمخشري: ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم فيالعاقبة دونه كما يزعمون. {بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ }: أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم، {أَمْ تَسْـئَلُهُمْ أَجْراً } على الإيمان باللهوتوحيده واتباع شرعه، {فَهُمُ } من ذلك المغرم الثقيل اللام {مُّثْقَلُونَ }، فاقتضى زهدهم في اتباعك. {أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ}: أي اللوح المحفوظ، {فَهُمْ يَكْتُبُونَ }: أي يثبتون ذلك للناس شرع، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك منسيرهم. وقيل: المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد الذي يتربصون به، ويكتبون بمعنى: يحكمون. وقال ابنعباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون. {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً }: أي بك وبشرعك، وهو كيدهمبه في دار الندوة، {فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: أي فهم، وأبرز الظاهر تنبيهاً على العلة، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه،{هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ }: أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم، ويحيق بهم مكرهم، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر، وسمى غلبتهم كيداً،إذ كانت عقوبة الكيد. {أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم، ثم نزه تعالى نفسه،{عَمَّا يُشْرِكُونَ } به من الأصنام والأوثان. {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ ٱلسَّمَاء }: كانت قريش قد اقترحت على رسولالله ، فيما اقترحت من قولهم: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، فأخبر تعالى أنهم لورأوا ذلك عياناً، حسب اقتراحهم، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه، وقالوا: هو سحاب مركوم، تراكم بعضهعلى بعض ممطرنا، وليس بكسف ساقط للعذاب. {فَذَرْهُمْ }: أمر موادعة منسوخ بآية السيف. وقرأ الجمهور: {حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ }؛ وأبوحيوة: حتى يلقوا، مضارع لقي، {يَوْمَهُمُ }: أي يوم موتهم واحداً واحداً، والصعق: العذاب، أو يوم بدر، لأنهم عذبوا فيه،أو يوم القيامة، أقوال، ثالثها قول الجمهور، لأن صعقته تعم جميع الخلائق. وقرأ الجمهور: يصعقون، بفتح الياء. وقرأ عاصم وابنعامر وزيد بن عليّ وأهل مكة: في قول شبل بن عبادة، وفتحها أهل مكة، كالجمهور في قول إسماعيل. وقرأ السلمي:بضم الياء وكسر العين، من أصعق رباعياً. {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ }: أي لهؤلاء الظلمة، {عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ }: أيدون يوم القيامة وقبله، وهو يوم بدر والفتح، قاله ابن عباس وغيره. وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً: هوعذاب القبر. وقال الحسن وابن زيد: مصائبهم في الدنيا. وقال مجاهد: هو الجوع والقحط، سبع سنين. {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }: عبارةعن الحفظ والكلاءة، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة، وحين كان الضمير مفرداً، أفرد العين، قال تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِى } .وقرأ أبو السمال: بأعيننا، بنون واحدة مشدّدة. {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ }، قال أبو الأحوص عوف بن مالك: هو التسبيح المعروف،وهو قول سبحان الله عند كل قيام. وقال عطاء: حين تقوم من كل مجلس، وهو قول ابن جبير ومجاهد. وقالابن عباس: حين تقوم من منامك. وقيل: هو صلاة التطوع. وقيل: الفريضة. وقال الضحاك: حين تقوم إلى الصلاة تقول: سبحانكاللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك. وقال زيد بن أسلم: حين تقوم من القائلة والتسبيح، إذ ذاكهو صلاة الظهر. وقال ابن السائب: اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة. {وَمِنَ ٱلَّيْلِفَسَبّحْهُ }: قبل صلاة المغرب والعشاء. {وَإِدْبَـٰرَ ٱلنُّجُومِ }: صلاة الصبح. وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن: إنها النوافل، {وَإِدْبَـٰرَٱلنُّجُومِ }: ركعتا الفجر. وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب: وأدبار، بفتح الهمزة، بمعنى: وأعقاب النجوم.