تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الشعراء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ طسۤمۤ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } * { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } * { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } * { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } * { فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ٱئْتَ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } * { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ } * { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } * { قَالَ كَلاَّ فَٱذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } * { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } * { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } * { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } * { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } * { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } * { قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } * { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } * { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } * { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } * { قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } * { قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } * { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } * { قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } * { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } * { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } * { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } * { قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } * { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } * { فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } * { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } * { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ } * { فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } * { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } * { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } * { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ } * { فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } * { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } * { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } * { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } * { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } * { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } * { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } * { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } * { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } * { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } * { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } * { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } * { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } * { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } * { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } * { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ } * { وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } * { ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } * { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } * { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } * { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } * { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } * { قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } * { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } * { أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ } * { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } * { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } * { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } * { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } * { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } * { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } * { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } * { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } * { وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ } * { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } * { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } * { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } * { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } * { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } * { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } * { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ } * { مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } * { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ } * { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } * { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } * { تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ ٱلْمُجْرِمُونَ } * { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } * { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } * { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }[عدل]

الشرذمة: الجمع القليل المحتقر، وشرذمة كل شيء: بقيته الخسيسة: وأنشد أبو عبيدة

:في شــراذم البغــال    

وقال آخر

:جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منه    

وقال الجوهري: الشرذمة: الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء، وثوب شراذم: أي قطع. انتهى. وقيل: السفلة من الناس.كبكبه: قلب بعضه على بعض، وحروفه كلها أصول عند جمهور البصريين. وقال الزمخشري: الكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظدليلاً على التكرير في المعنى. وقال ابن عطية: كبكب مضاعف من كب، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح، لأن معناهما واحد،والتضعيف في الفعل نحو: صر وصرصر. انتهى. وقول الزمخشري وابن عطية هو قول الزجاج، وهو أنه يزعم أن نحو كبكبهمما يفهم المعنى بسقوط ثالثه، هو مما ضوعف فيه الباء. وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني، فكانأصله كبب، فأبدل من الباء الثانية كاف، الحميم: الولي القريب، وحامة الرجل: خاصته. وقال الزمخشري: الحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام،وهو الذي يهمه ما أهمك؛ أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخالص. {طسم تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ *لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ ٱلسَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـٰقُهُمْ لَهَا خَـٰضِعِينَ * وَمَايَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَـٰؤُا مَا كَانُواْ بِهِ * يَسْتَهْزِءونَ* أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ إِلَى ٱلاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَاكَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ * وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ٱئْتَ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ * قَوْمَفِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَىٰ * هَـٰرُونَ* وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَٱذْهَبَا بِـئَايَـٰتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّارَسُولُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ }. هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربعآيات من: {وَٱلشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } إلى آخر السورة، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة. وقال مقاتل: {أَوَّلُ * لَمْ يَكُنلَّهُمْ ءايَةً }، الآية مدنية. ومناسبة أولها الآخر ما قبلها أنه قال تعالى:

{ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }

كذر تلهف رسول الله على كونهم لم يؤمنوا، وكونهم كذبوا بالحق، لما جاءهم. ولما أوعدهم فيآخر السورة بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }، أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم {أَنْبَاء مَاكَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ }. وتلك إشارة إلى آيات السورة، أو آيات القرآن. وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي، وأبو بكر وباقيالسبعة: بالفتح؛ وحمزة بإظهار نون سين، وباقي السبعة بإدغامها؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي القصص، وجاء كذلك عننافع. وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع، وهي قراءة أبي جعفر. وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغزوالأحاجي، فتركت نقهل، إذ لا دليل على شيء مما قالوه. {وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ }: هو القرآن، هو بين في نفسهومبين غيره من الأحكام والشرائع وسائر ما اشتمل عليه، أو مبىن إعجازه وصحة أنه من عند الله. وتقدم تفسير {بَـٰخِعٌنَّفْسَكَ } في أول الكهل. {أَلاَّ يَكُونُواْ }: أي لئلا يؤمنوا، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وقرأ قتادة وزيد بنعلي: باخع نفسك على الإضافة. {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ }، دخلت إن على نشأ وإن للممكن، أو المحقق المنبهم زمانه. قالابن عطية: ما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حزينا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لاينزل عليهم آية اضطرار، وإنما جعل الله آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر، ليهتدي من سبق في علمههداه، ويضل من سبق ضلاله، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا إذ لو كانت.انتهى. ومعنى آية: أي ملجئة إلى الإيمان يقهر عليه. وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه: إن يشأ ينزل علىالغيبة، أي إن يشأ الله ينزل، وفي المصاحف: لو شئنا لأنزلنا. وقرأ الجمهور: فظلت، ماضياً بمعنى المستقبل، لأنه معطوف علىينزل. وقرأ طلحة: فتظلل، وأعناقهم. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبراً عن الأعناق؟ قلت؛ أصل الكلام: فظلوالها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخشوع، وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة، كان الأهل غير مذكور. انتهى.وقال مجاهد، وابن زيد، والأخفش: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي جماعة، ومنه قول الشاعر

: إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا©†    

وقيل: أعناق الناس: رؤساؤهم، ومقدموهم شبهوا بالأعناق، كما قيل

:     لهـم الـرؤوس والنـواصي والصـدور©†

قال الشاعر

في مجفل من نواصي الخيل مشهود    

وقيل: أريد الجارحة. فقال ابن عبسى: هو على حذف مضاف، أي أصحاب للأعناق. وروعيهذا المحذوف في قوله: {خَـٰضِعِينَ }، حيث جاء جمعاً للمذكر العاقل، أولاً حذف، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه،فأخبر عنه إخباره، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو

:كما شرقت صدر القناة من الدم    

أولاً حذف، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع، جمعت جمعه كما جاء:

{ أَتَيْنَا طَائِعِينَ }

وقرأ عيسى، وابن أبي عبلة: خاضعة. وعن ابن عباس: فنزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية،ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل أعناقهم بعد معاوية، ويلحقهم هوان بعد عز. {وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ }.تقدم تفسيره في الأنبياء. {إِلاَّ كَانُواْ }: جملة حالية، أي إلا يكونوا عنها. وكان يدل ذلك أن ديدنهم وعادتهم الإعراضعن ذكر الله. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهو الإعراض؟ قلت: كان قبل حين أعرضواعن الذكر، فقد كذبوا به، وحين كذبوا به، فقد خف عليهم قدره وصار عرضه الاستهزاء بالسخرية، لأن من كان قابلاًللتحق مقبلاً عليه، كان مصدقاً به لا محالة، ولم يظن به التكذيب. ومن كان مصدقاً به، كان موقراً له. انتهى.{فَسَيَأْتِيهِمْ }: وعيد بعذاب الدنيا، كيوم بدر، وعذاب الآخرة. ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود، وتكذيب ماجاءتهم به رسله من أعظم الكفر، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة، نبه تعالى على قدرته، وأنه الخالق المنشيء الذي يستحق العبادةبقوله: {أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ إِلَى ٱلاْرْضِ }؟ والزوج: النوع. وقيل: الشيء وشكله. وقيل: أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض.وقال الفراء: الزوج: اللون. والكريم: الحسن، قاله مجاهد وقتادة. وقيل: ما يأكله الناس والبهائم. وقيل: الكثير المنفعة. وقيل: الكريم صفةلكل ما يرضى ويحمد. وجه كريم: مرضي في حسنه وجماله؛ وكتاب كريم: مرضي في معانيه وفوائده. وقال: حتى يشق الصفوفمن كرمه، أي من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور، والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلكالحيوان لأنه عن اثنين. قال تعالى:

{ وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ نَبَاتاً }

قال الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمنصار إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فبضد ذلك. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الجمع بينكم وكل؟ ولو قيل: {أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } قلت: دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيلالتفصيل، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة؟ فهذا معنى الجمع، وبه نبه على كمال قدرته. انتهى. وأفرد {لآيَةً}، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج، وهو كم، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج، لأن المشارإليه واحد، وهو الإنبات، وإن اختلفت متعلقاته، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْمُّؤْمِنِينَ }: تسجيل على أكثرهم بالكفر. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }: أي الغالب القاهر. ولما كان الموضع موضع بيانالقدرة، قدم صفة العزة على صفة الرحمة. فالرحمة إذا كانت عن قدرة، كانت أعظم وقعاً، والمعنى: أنه عز في نقمتهمن الكفار ورحم مؤمني كل أمة. ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه، ذكر قصة موسى عليهالسلام، وما قاسى مع فرعون وقومه، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه الصلاة والسلام من كفار قريش. وإذ كانتقريش. وإذ كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلٰهاً، وكان أتباع ملة موسىعليه السلام هم المجاورون من آمن بالرسول ، بدأ بقصة موسى، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتيذكره من القصص. والعامل في قال الزجاج، اتل مضمرة، أي اتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى، ودليل ذلك

{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرٰهِيمَ }

إذ. وقيل: العامل اذكر، وهو مثل واتل، ومعنى نادى: دعا. وقيل: أمر. وأن: يجوز أنتكون مصدرية، وأن تكون تفسيرية، وسجل عليهم بالظلم، لظلم أنفسهم بالكفر، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد، وذبح الأولاد، و{قَوْمِ فِرْعَونَ }،وقيل: بدل من {ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحدعطف البيان، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحد عطف البيان، وسوغه مستقلبالإسناد. ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك، أتى عطف البيان بإزالته، إذ هو أشهر. وقرأ الجمهور: ألا يتقون، بالياء علىالغيبة. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وشقيق بن سلمة، وحماد بن سلمة، وأبو قلابة: بتاء الخطاب، على طريقةالالتفات إليهم إنكاراً وغضباً عليهم، وإن لم يكونوا حاضرين، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم. قال ابن عطية: معناه قل لهم، فجمعفي هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: {أَلا يَتَّقُونَ}؟ قلت: هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهمالتي سعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالاًمن الضمير في الظالمين، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. انتهى. وهذا الاحتمال الذي أوردهخطأ فاحش لأنه جعله حالاً من الضمير في الظالمين، وقد أعرب هو {قَوْمِ فِرْعَونَ } عطف بيان، فصار فيه الفصلبين العامل والمعمول بأجنبي بينهما، لأن قوم فرعون معمول لقوله: {ٱئْتَ } والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين، وذلكلا يجوز أيضاً لو لم يفصل بينهما بقوله: قوم فرعون. لم يجز أن تكون الجملة حالاً، لأن ما بعد الهمزةيمتنع أن يكون معمولاً لما قبلها. وقولك: جئت أمسرعاً؟ على أن يكون أمسرعاً حالاً من الضمير في جئت لا يجوز،فلو أضمرت عاملاً بعد الهمزة جاز. وقرىء: بفتح النون وكسرها، التقدير: أفلا يتقونني؟ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين، وياء المتكلماكتفاء بالكسرة. وقال الزمخشري: في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون،كقوله:

{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ }

. انتهى. يعني: وحذف ألف ياخطاً ونطقاً لالتقاء الساكنين، وهذا تخريج بعيد. والظاهر أن ألاللعرض المضمن الحض على التقوى، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح، وكذلك قول الزمخشري: إنها للنفي دخلت عليها همزةالإنكار. ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلٰهية، كثير المهابة، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصاً من كانمن بني إسرائيل، قال موسى عليه السلام: {إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ }. وقرأ الجمهور: ويضيق، ولا ينطلق}، بالرفع فيهما عطفاًعلى أخاف. فالمعنى: إنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى، وزيد بنعليّ، وأبو حيوة، وزائدة، عن الأعمش، ويعقوب: بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. وحكى أبوعمرو الداني، عن الأعرج: أنه قرأ بنصب: ويضيق، ورفع: ولا ينطلق، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيقالصدر، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان. وقال ابن عطية: وقد يكون عدم انطلاق اللسانبالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر، لم ينطلق اللسان. فأرسلإلى هارون}: معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دالعليه. انتهى. وقال الزمخشري: ومعنى {*}، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف. فالمعنى: إنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر،وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى، وزيد بن عليّ، وأبو حيوة، وزائدة، عن الأعمش، ويعقوب: بالنصب فيهما عطفاً علىيكذبون، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. وحكى أبو عمرو الداني، عن الأعرج: أنه قرأ بنصب: ويضيق، ورفع: ولا ينطلق،وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصودالإنسان. وقال ابن عطية: وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذافي وقت ضيق الصدر، لم ينطلق اللسان. فأرسل إلى هارون}: معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسعالصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دال عليه. انتهى. وقال الزمخشري: ومعنى {*}: معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارونعليه السلام فصيحاً واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دال عليه. انتهى. وقال الزمخشري: ومعنى {فَأَرْسِلْ إِلَىٰهَـٰرُونَ }: أرسل إليه جبريل عليه السلام، واجعله نبياً، وأزرني به، واشدد به عضدي؛ وهذا كلام مختصر، وقد أحسن فيالاختصار حيث قال: {فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَـٰرُونَ }، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء. وقوله: {إِنّى أَخَافُ } إلى آخره، بعد أنأمره الله بأن يأتي القوم الظالمين، ليس توقفاً فيما أمره الله تعالى به، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه،حتى يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى، وتبليغ رسالته، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب. وطلب العون دليل على القبوللا على التوقف والتعلل، ومفعول أرسل محذوف. فقيل جبريل، كما تقدم ذكره، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون،وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبياً بالشام. قال السدي: سار بأهله إلى مصر، فالتقى بهارون وهو لا يعرفهفقال: أنا موسى، فتعارفا؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة، فصاحت أمهما لخوفهما عليه، فذهبا إليه. {وَلَهُمْ عَلَىَّذَنبٌ }: أي قبلي قود ذنب، أو عقوبة، وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها، أو سمى تبعةالذنب ذنباً، كما سمى جزاء السيئة سيئة. وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة، بل قال ذلك استدفاعاً لمايتوقعه منهم من القتل، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة، ويدل على ذلك قوله: كلا، وهي كلمة الردع، ثم وعدهتعالى بالكلاءة والدفع. وكلا رد لقوله: {إِنّى أَخَافُ }، أي لا تخف ذلك، فإني قضيت بنصرك وظهورك. وقوله: {فَٱذْهَبَا }،أمر لهما بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكنه قال لموسى:

{ ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ }

قالالزمخشري: جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله: {كَلاَّ فَٱذْهَبَا }، لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمسالمؤازرة بأخيه، فأجابه بقوله: اذهب، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون. فإن قلت: علام عطف قوله اذهبا؟ قلت: على الفعلالذي يدل عليه كلا، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت وهارون بآياتنا، يعم جميع ما بعثهما اللهبه، وأعظم ذلك العصا، وبها وقع العجز. قال ابن عطية: ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوةوكلفها، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له ووزيراً. انتهى. ومعكم، قيل: من وضع الجمع موضع المثنى، أي معكما. وقيل:هو على ظاهره من الجمع، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه. وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أنيكون أريد بصورة الجمع المثنى، والخطاب لموسى وهارون فقط، قال: لأن لفظة مع تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقالالله معه. وعلى أنه أريد بالجمع التثنية، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع،إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته. قال ابن عطية: {مُّسْتَمِعُونَ } اهتبالاً، ليس في صيغةسامعون، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهم ليعظم أنس موسى، أو يكون الملائكة بأمر اللهإياها تستمع. وقال الزمخشري: {مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } من مجاز الكلام، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضرواستمع ما يجري بينكما وبينه، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه. انتهى. ويجوز أن يكون معه متعلقاً بمستمعون، وأن يكونخبراً ومستمعون خبر ثان. والمعية هنا مجاز، وكذلك الاستماع، لأنه بمعنى الإصغاء، ولا يلزم من الاستماع السماع، تقول: أسمع إليه،فما سمع واستمع إليه، فسمع كما قال:

{ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا }

وأفرد رسول هناولم يثن، كما في قوله:

{ إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ }

إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة، فجاز أن يقع مفرداً خبرالمفرد فما فوقه، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة، فكأنهما رسول واحد. وأريد بقوله: أنا أوكل واحد منا رسول. {وَرَسُولٌ* رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيه رد عليه، وأنه مربوب لله تعالى، بادهه بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية، ولذلكأنكر فقال: وما رب العالمين والمعنى إليك، {وَأَنْ * أُرْسِلَ }: يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنىالقول، وأن تكون مصدرية، وأرسل بمعنى أطلق وسرح، كما تقول: أرسلت الحجر من يدي، وأرسلت لصقر. وكان موسى مبعوثاً إلىفرعون في أمرين: إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كانإلى فلسطين، وكانت مسكن موسى وهارون. {قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّىحُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرٰءيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ *قَالَ رَبّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْوَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلاْوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْتَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ * قَالَ أُوْحِى * لَوْ * جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ *قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ * فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءلِلنَّـٰظِرِينَ }. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون، ولم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعمأنه رسول رب العالمين، فقال له: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له: {أَلَمْ نُرَبّكَفِينَا وَلِيداً } وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتيا فرعون، فقالا له ذلك. ولما بادهه موسى بأنه رسولرب العالمين، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده، ويذكره بحالة الصغروالمنّ عليه بالتربية. والوليد الصبي، وهو فعيل بمعنى مفعول، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة. وقرأ أبو عمرو في رواية:من عمرك، بإسكان الميم، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه. وقرأ الجمهور: فعلتك، بفتح الفاء، إذ كانتوكزة واحدة، والشعبي: بكسر الفاء، يريد الهيئة، لأن الوكزة نوع من القتل. عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال،حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي، وعظم ذلك بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَٱلَّتِى فَعَلْتَ }، لأن هذا الإبهام، بكونه لم يصرح أنها القتل، تهويل للواقعة وتعظيم شأن. {وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ }: يجوزأن يكون حالاً، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهمالسلام معصومون. ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربيةوالإحسان، قاله ابن زيد؛ أو من الكافرين بي في أنني إلٰهك، قاله الحسن؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معناعلى ديننا هذا الذي تعيبه الآن، قاله السدي. {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً }: إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل،إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية، لأنه فيه إزهاق النفس. قال ابن عطية: إذن صلةفي الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة، بل هي حرف معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قولهتفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري: فإن قلت: إذاً جوابوجزاء معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ } فيه معنى: إنك جازيت نعمتيبما فعلت؛ فقال له موسى: نعم فعلتها، مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلكالجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكونجواباً وجزاء معاً، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء. فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء. وحملواقوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً } من المواضع التي جاءت فيها جواباً بالآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً،وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هوالصحيح، ولا قول الأكثرين. {وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ }، قال ابن زيد: معناه من الجاهلين، بأن وكزني إياه تأتي علىنفسه. وقال أبو عبيدة: من الناسين، ونزع لقوله:

{ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا }

وفي قراءة عبد الله، وابن عباس: وأنامن الجاهلين، ويظهر أنه تفسير للضالين، لا قراءة مروية عن الرسول . وقال الزمخشري: من الفاعلين فعلأولي الجهل، كما قال يوسف لإخوته:

{ إِذْ أَنتُمْ جَـٰهِلُونَ }

أو المخلصين، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل،أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى. وقيل: من الضالين، يعني عن النبوة، ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس علىفيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. ومن غريب ما شرح به أن معنى {وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ }، أي من المحبينلله، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله. قيل: والضلال يطلق ويراد به المحبة، كما في قوله:

{ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ }

أي في محبتك القديمة. وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في: تمنها وعبدت، لأنالخوف والفرار لم يكونا منه وحده، وإنما منه ومن ملته المذكورين قبل {أَنِ ٱئْتَ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ * قَوْمِ فِرْعَونَ }،وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله. ألا ترى إلى قوله:

{ إِنَّ ٱلْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ }

وقرأ الجمهور: لماحرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفاً بمعنى حين، على مذهب الفارسي. وقرأ حمزة في رواية: لما بكسر اللام وتخفيفالميم، أي يخوفكم. وقرأ عيسى: حكماً بضم الكاف؛ والجمهور: بالإسكان. والحكم: النبوة. {وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }: درجة ثانية للنبوة، فربنبي ليس برسول. وقيل: الحكم: العلم والفهم. {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ }: وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله:{أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً }؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به فرعون في قوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ * بِكَ }.والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول: وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيريوتركتني واتخذتني ولداً، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري. وقال قتادة: هذا منه على جهةالإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه يقول: أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمتبني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك.وقرأ الضحاك: وتلك نعمة ماألك أن تمنها، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله.والقول الأول فيه إنصاف واعتراف. وقال الأخفش: والفراء: قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار، وحذفت لدلالة المعنى عليها، وردهالنحاس بأنها لا تحذف، لأنها حرف يحدث معها معنى، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلاشيئاً، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك، وحكى: ترى زيداً منطلقاً، بمعنى: ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغريقول: أخذه من ألفاظ العامة. وقال الضحاك: الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم يقتلبني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به. وقيل: اتخاذك بنيإسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها. وقال الزمخشري: وأبي، يعني موسى عليه السلام، أن يسمي نعمته أن لا نعمة،حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنهامتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت. وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيداً، يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبداً، قال الشاعر

: علام يعبدني قومي وقد كثرت     فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان

فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لايدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى:

{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ }

والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضعنصب، المعنى أنها صارت نعمة عليّ، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم.انتهى. وقال الحوفي: {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرٰءيلَ } في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء: بدل، ولما أخبرموسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول: {وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }؟ بل أخذ في المداهاة وتذكارالتربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله: رسولرب العالمين دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسولمن عنده. والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة، وكان عالماً بالله. ويدل عليه:

{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * بَصَائِرَ }

ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهمبما استفهاماً عن مجهول من الأشياء. قال مكي: كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر،ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله:

{ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ }

ولما سأله فرعون، وكان السؤال بماالتي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها،وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما. وقال الزمخشري: وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التيشوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شاهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنهشيء مخالف لجميع الأشياء،

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء }

وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقةالخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعالهالخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنهمتعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه،ألا نرى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدعّ الإلٰهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنهلم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنهكان مقراً بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا } على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين:جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله

:بيـن رمـاحي مـالك ونهشـل    

اعتباراً للجنسين: وقالأبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال: كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة. وقد ذكر تعالىفي كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله، وهو قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء } الآية. ويحتمل أنهكان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنهبمنزلة إلٰه لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن يقال: كان على مذهب الحلولية القائلين: بأن ذاتالإلٰه تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإلٰه سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمينفسه إلٰهاً. انتهى. ومعنى: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذاالجواب، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورةمن فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد. {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ }: هم أشراف قومه. قيل:كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة. {إِلا * تَسْمَعُونَ }: أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء بهوتعجباً، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية: والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارناإلى اليوم بقية. انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلٰهية، وأقامواملوكاً بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاض، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بنأيوب بن شاري رضي الله عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها: فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحلالشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم. {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلاْوَّلِينَ }: نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم، وجاء فيقوله: الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطلدعوى فرعون الإلٰهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلٰهاً هم.{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ }. قال أبو عبد الله الرازي: التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسىعليه السلام من الكلام الأول إليه، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجودلذواتهم، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم، وعدمهم بعد وجودهم، فعند ذلك قال فرعون: ما قال يعني أن المقصودمن سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنونلا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام: {رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}: فعدل إلى طرق أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد بالمشرق: طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب: غروب الشمس وزوالالنهار. وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام معنمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلاْوَّلِينَ }، فأجابهنمروذ بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى }، فقال:

{ إِنَّ ٱللَّهَ * يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ * فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ }

وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: {رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}: أي إن كنتم من العقلاء، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقالابن عطية: زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرةعليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك معصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد، وحميد،والأعرج: أرسل إليكم، على بناء الفاعل، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله، وأصحابه، والأعمش: رب المشارق والمغارب، على الجمعفيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج، رجع إلى الاستعلاء والغلب، وهذا أبين علامات الانقطاع، فتوعد موسى بالسجن حين أعياهخطابه: {قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ }. وقال الزمخشري: لما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه منجوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وظنن به، حيث سماه رسولهم، فلما ثلثاحتد واحتدم، وقال: {لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى }. فإن قلت: كيف قال: أولاً: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }، وآخراً: {إِنْكُنتُمْ تَعْقِلُونَ }؟ قلت: لأين أولاً، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج، خاشن وعارض إنرسولكم لمجنون بقوله: {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }. فإن قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من {لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } ومؤدّياً مؤدّاه؟قلت: أما أخصر فنعم، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا، لأن معناه: لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادتهأن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً، لا يبصر فيها ولا يسمع، فكانذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون،قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: {أَوْ * لَوْ * جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ }، أي يوضح لكصدقي، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري: أو لو جئتك، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام، معناه: أتفعل بي ذلك ولو جئتكبشيء مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله:

{ أَوْ * لَّوْ كَانَ * لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ }

فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي: واو العطف دخلتعليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟. ولماسمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ }، إنلك رباً بعثك رسولاً إلينا. قال الزمخشري: وفي قوله: {إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } دليل على أنه لا يأتي بالمعجزةإلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة، والحكيم لا صدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعونلم يخف عليه مثل هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبينبالمعجزات. انتهى. وتقديره: إن كنت من الصادقين فأئت به، حذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري: إن كنتمن الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقوله: أنت ظالمإن فعلت، تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي: إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه،وجاز تقديم الجواب، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فائت به. وقولالزمخشري: حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ماكان خارقاً للعادة، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي،أو على سبيل الإرهاص لنبي. {فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ }: رماها من يده، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام. والثعبان:أعظم ما يكون من الحيات. ومعنى {مُّبِينٌ }: ظاهر الثعبانية، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر. {وَنَزَعَ يَدَهُ }من جيبه، فإذا هي تلألأ كأنها قطعة من الشمس. ومعنى {لِلنَّـٰظِرِينَ }: أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجهعن العادة، وكان بياضاً نورانياً. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده، فقال: ما هذه؟ قال:يدك، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق. {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌعَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِى ٱلْمَدَائِنِ حَـٰشِرِينَ * يَأْتُوكَبِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِنكَانُواْ هُمُ ٱلْغَـٰلِبِينَ * فَلَمَّا جَاء ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ * أَإِنَّ لَنَا لاَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَـٰلِبِينَ * قَالَ نَعَمْوَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَـٰلَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّالَنَحْنُ ٱلْغَـٰلِبُونَ * فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَـٰهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ* رَبّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ * قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاقَطّعَنَّأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ }. قال ابن عطية: وانتصب حوله على الظرف، وهو في موضع الحال، أي كائنين حوله،فالعامل فيه محذوف، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له، قال: لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر،نحو: مررت بهند ضاحكة. والكوفيون يجعلون الملأ موصولاً، فكأنه قيل: قال للذي حوله، فلا موضع للعامل في الظرف، لأنه وقعصلة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعاملفي النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، وذلك استقروا حوله، وهذا يقدر في جميع الظروف، والعامل في النصب المحلي، وهوالنصب على الحال. انتهى. وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية. ولما رأى فرعون أمرالعصا واليد، وما ظهر فيهما من الآيات، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر. وطمع لغلبةعلم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثَمّ من يقاومه، أو كان علم صحة المعجزة. وعمى تلك الحجة على قومه،برميه بالسحر، وبأنه {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ }، ليقوي تنفيرهم عنه، وابتغاؤهم الغوائل له، وأن لا يقبلوا قوله؛إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه، ثم استأمرهم فيما يفعل معه، وذلك لما حل بهمن التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه، فصار مأموراًبعد أن كان آمراً. وتقدم الكلام في {مَاذَا * تَأْمُرُونَ } وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف، فأغنىعن إعادته. ولما قال: {إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌ }، عارضوا بقوله: {بِكُلّ سَحَّارٍ }، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة،لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب. وقرأ الأعمش، وعاصم في رواية: بكل ساحر. واليوم المعلوم: يوم الزينة، وتقدم الكلامعليه في سورة طه. وقوله: {هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ }، استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم، كما يقول الرجل لغلامه:هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف،ومنه قول تأبط شراً

: هل أنت باعث ديناراً لحاجتنا أو عند رب أخا عون بن مخراق    

يريد: ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطىء به. وترجوا اتباع السحرة، أي في دينهم، إنغلبوا موسى عليه السلام، ولا يتبعون موسى في دينه. وساقوا الكلام سياق الكناية، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليهالسلام. ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها، وهي جواب وجزاء. {قَالَ فِرْعَوْنُ }: الظاهر أن الباء للقسم، والذي تتعلقبه الباء محذوف، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً، كما يقال للملوك: أمروا رضي الله عنهم بكذا، فيخبر عنهإخبار الغائب، وهذا من نوع إيمان الجاهلية. وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية،لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف، فحينذ يستوثق منه. وقال ابن عطية:بعد أن ذكر أنه قسم قال: والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه، إذ كانوا يعبدونه؛ كما تقول إذاابتدأت بعمل شيء: بسم الله، وعلى بركة الله، ونحو هذا. وبين قوله: {قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ }، وقوله: {لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ }،كلام محذوف، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى. قال الزمخشري: فإن قلت: فاعل الإلقاءما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزةالباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلاً، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى. وهذا القول الآخر ليس بشيء. لا يمكن أنيبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه، أما أنه لا يقدر فاعل، فقولذاهب عن الصواب. وقال ابن عطية: قرأ البزي، وابن فليح، عن ابن كثير: بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزمعلى هذه القراءة إذا ابتدأ أن حذف همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل علىأسماء الفاعلين. انتهى. كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، وليس ذلك بلازم كثيراً ما يكونالوصل مخالفاً للوقف، والوقف مخالفاً للوصل، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك. {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ }: أي لاضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه. يقال:ضاره يضيره ضيراً، وضاره يضوره ضوراً. إنا إلى ربنا: أي إلى عظيم ثوابه، أو: لا ضير علينا، إذ انقلابنا إلىالله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه. وقال أبو عبد الله الرازي: لما آمنوا بأجمعهم، لم يأمن فرعون أنيقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون، فبالغ في التنفير من جهة قوله:{قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ } موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل. وبقوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ }،صرح بما رمزه أولاً من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم، وبقوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }، حيث أوعدهم وعيداً مطلقاً، وبتصريحه بماهددهم به من العذاب، فأجابوا بأن ذلك إن وقع، لن يضير، وفي قولهم: {إِنَّا إِلَى * رَبَّكَ * مُنقَلِبُونَ }،نكتة شريفة، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته.انتهى ملخصاً. ويدفع هذا الأخير قولهم: {إِنَّا نَطْمَعُ }إلى آخره، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا. والظاهر بقاءالطمع على بابه كقوله:

{ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّـٰلِحِينَ }

وقيل: يحتمل اليقين. قيل: كقول إبراهيم عليهالسلام:

{ وَٱلَّذِى أَطْمَعُ }

وقرأ الجمهور: {أَن كُنَّا }، بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم. وقرأ أبان بن تغلب،وأبومعاذ: إن كنا، بكسر الهمزة. قال صاحب اللوامح على الشرط: وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره: {أَن كُنَّاأَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريجعلى مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجوابمثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري: هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته،وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوفني حقي، ومنه قوله تعالى:

{ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَٱبْتِغَاء مَرْضَاتِى }

مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطيةبمعنى: أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقةلدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير: إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث: إن كان رسول الله يحب العسل أي ليحب. وقال الشاعر

: ونحن أباة الضيم من آل مالك     وإن مالك كانت كرام المعادن

أي: وإن مالك لكانت كرام المعادن، وأول يعنيأول المؤمنين من القبط، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع. وقال الزمخشري: وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم،وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة. {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ* فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى ٱلْمَدَائِنِ حَـٰشِرِينَ * إِنَّ هَـؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ *فَأَخْرَجْنَـٰهُمْ مّن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِى إِسْرٰءيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءا ٱلْجَمْعَانِقَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَفَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلاْخَرِينَ * ٱلاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ *إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }. تقدم الخلاف في {أَسَرَّ }،وأنه قرىء بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود. وقرأ اليماني: أن سر، أمر من سار يسير. أمر الله موسى عليهالسلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر إلى تجاه البحر، وأخبره أنهم سيتبعون. فخرج سحراً، جاعلاً طريق الشام علىيساره، وتوجه نحو البحر، فيقال له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل،فخرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر. وذكروا أعداداً في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل، الله أعلم بصحةذلك. {إِنَّ هَـؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ }: أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلاً، جمع السلامالذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل، والظاهر تقليل العدد. قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة،ولا يريد قلة العدد، والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم، ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحنقوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره، وهذه معاذير اعتذربها إلى أهل المدائن، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. انتهى. قال أبو حاتم: وقرأ من لا يؤخذعنه: {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ }، وليست هذه موقوفة. انتهى. يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله. وقيل: {لَغَائِظُونَ }: أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها، وخرجوا هاربين. وقرأ الكوفيون، وابنذكوان، وزيد بن علي: {حَـٰذِرُونَ }، بالألف، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره، وحذر متعد. قال تعالى:

{ يَحْذَرُ ٱلاْخِرَةَ }

وقال العباس بن مرداس

: وإني حاذر أنمي سلاحي     إلى أوصال ذيال صنيع

وقرأ باقي السبعة: بغير ألف وهو المتيقظ. وقال الزجاج: مؤذن، أي ذوو أدوات وسلاح،أي متسلحين. وقيل: حذرون في الحال، وحادرون في المآل. وقال الفراء: الحاذر: الخائف ما يرى، والحذر: المخلوق حذراً. وقال أبوعبيدة: رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد. وذهب سيبويه إلى أن حذراً يكون للمبالغة، وأنه يعمل كما يعمل حاذر، فينصبالمفعول به، وأنشد

: حذر أموراً لا تضير وآمن     ما ليس منجيه من الأقدار

وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن الفراء أيضاً، والكسائي: رجل حذر، إذاكان الحذر في خلقته، فهو متيقظ منتبه. وقرأ سميط بن عجلان، وابن أبي عمار، وابن السميفع: حاذرون، بالدال المهملة منقولهم: عين حدرة، أي عظيمة، والحادر: المتوارم. قال ابن عطية: فالمعنى ممتلئون غيظاً وأنفة. وقال ابن خالوية: الحادر: السمين القويالشديد، يقال غلام حدر بدر. وقال صاحب اللوامح: حدر الرجل: قوي بأسه، يقال: منه رجل حد بدر، إذا كان شديدالبأس في الحرب، ويقال: رجل حدر، بضم الدال للمبالغة، مثل يقظ. وقال الشاعر

: أحب الصبي السوء من أجل أمّة     وأبغضه من بغضها وهو حادر

أي سمين قوي. وقيل: مدجّجون في السلاح.{فَأَخْرَجْنَـٰهُمْ }: الضمير عائد على القبط. {مّن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ }: بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد، قاله ابن عمر وغيره،والجمهور: على أنها عيون الماء. وقال ابن جبير: المراد عيون الذهب. {وَكُنُوزٍ }: هي الأموال التي خربوها. قال مجاهد: سماهاكنوزاً لأنه لم ينفق في طاعة الله قط. وقال الضحاك: الكنوز: الأنهار. قال صاحب التحبير: وهذا فيه نظر، لأن العيونتشملهما. وقيل: هي كنوز للقطم ومطالبة. قال ابن عطية: هي باقية إلى اليوم. انتهى. وأهل مصر في زماننا فيغاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة، ويبلغونفي العمق إلى أقصى غاية، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه، وأي مغربي يردعليهم سألوه عن علم المطالب. فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا أموال المصريين بالباطل، ولا يزال الرجل منهم يذهبماله في ذلك حتى يفتقر، وهو لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يموت. وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابةهذه الأسطر، نحواً من خمسة وأربعين عاماً، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير الفقر؛ وكذلك رأيهم فيتغوير الماء. يزعمون أن ثمر آباراً، وأنه يكتب أسماء في شقفة، فتلقى في البئر، فيغور الماء وينزل إلى باب فيالبئر، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهباً وفضة وجوهراً وياقوتاً. فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلكالأسماء التي تكتب في الشفقة، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالاً جزيلاً، ويستأكلونهم، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم، ولهمأشياء من نحو هذه الخرافات، يركنون إليها ويقولون إليها ويقولون بها، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل.وقوله تعالى: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ }. قال ابن لهيعة: هو الفيوم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: هو المنابر للخطباء. وقيل:الأسرة في الكلل. وقيل: مجالس الأمراء والأشراف والحكام. وقال النقاش: المساكن الحسان. وقيل: مرابط الخيل، حكاه الماوردي. وقرأ قتادة، والأعرج:ومقام، بضم الميم من أقام كذلك. قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجرعلى أنه وصف لمقام، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أيالأمر كذلك. انتهى. فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني، لأن المقام الذي كانلهم هو المقام الكريم، ولا يشبه الشيء بنفسه. والظاهر أن قوله: {وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِى إِسْرٰءيلَ }، أنهم ملكوا ديار مصربعد غرق فرعون وقومه، لأنه اعتقب قوله: {وَأَوْرَثْنَـٰهَا }: قوله: {*وأخرجناهم}، وقاله الحسن؛ قال: كما عبروا النهر، رجعوا وورثوا ديارهموأموالهم. وقيل: ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان. وقرأ الجمهور: {إِسْرٰءيلَ فَأَتْبَعُوهُم }: أي فلحقوهم. وقرأ الحسن، والذماري: فاتبعوهم،بوصل الألف وشد التاء. {*مشرفين}: داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقاً، إذا طلعت، كأصبح: دخل في وقت الصباح،وأمسى: دخل في وقت المساء. وقال أبو عبيدة: فاتبعوهم نحو الشرق، كأنجد: إذا قصد نحو نجد. والظاهر أن مشرقين حالمن الفاعل. وقيل: مشرقين: أي في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر،فعلى هذا يكون مشرقين حالاً من المفعول. فلما تراءى الجمعان}: أي رأى أحدهما الآخر، {*}: أي رأى أحدهما الآخر،{ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }: أي ملحقون، قالوا ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم والبحر أمامهم، وساءت ظنونهم.وقرأ الأعمش: وابن وثاب: تراي الجمعان، بغير همز، على مذهب التخفيف بين بين، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين،إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء، والثانية اللام المعتلة من الفعل. فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة، وذلك ممالا يكون أبداً، قاله أبو الفضل الرازي. وقال ابن عطية: وقرأ حمزة: تريء، بكسر الراء ويمد ثم يهمز؛ وروى مثلهعن عاصم، وروي عنه أيضاً مفتوحاً ممدوداً، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى، وهذا هو الصواب، لأنه تفاعل. وقال أبو حاتم:وقراءة حمزة هذا الحرف محال، وحمل عليه، قال: وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ. انتهى. وقال الأستاذ أبو جعفرأحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، هو ابن الباذش، في كتاب الإقناع من تأليفه: تراءىالجمعان في الشعراء إذا وقف عليها حمزة والكسائي، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلاًووقفاً لإمالة الألف المنقلبة؛ ففي قراءته إمالة الإمالة. وفي هذا الفعل، وفي راءى، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة،حذف السبب وإبقاء المسبب، كما قالوا: صعقى في النسب إلى الصعق. وقرأ الجمهور: لمدركون، بإسكان الدال؛ والأعرج، وعبيد بن عمير:بفتح الدال مشددة وكسر الراء، على وزن مفتعلون، وهو لازم، بمعنى الفناء والاضمحلال. يقال: منه ادّرك الشيء بنفسه، إذا فنيتتابعاً، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة؛ نص على كسرها أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح)، والزمخشري في (كشافه) وغيرهما.وقال أبو الفضل الرازي: وقد يكون ادّرك على افتعل بمعنى أفعل متعدياً، فلو كانت القراءة من ذلك، لوجب فتح الراء،ولم يبلغني ذلك عنهما، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير. قال الزمخشري: المعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتىلا يبقى منا أحد، ومنه بيت الحماسة

: أبعد بني أمي الذين تتابعوا     أرجى الحياة أم من الموت أجزع {

قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ }: زجرهم وردعهم بحرفالردع وهو كلا، والمعنى: لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريقالنجاة ويعرفنيه. وقيل: سيكفيني أمرهم. ولما انتهى موسى إلى البحر، قال له مؤمن آل فرعون، وكان بين يدي موسى: أينأمرت، وهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر، ولا يدري موسى ما يصنع. ورويت هذه المقالة عنيوشع، قالها لموسى عليه السلام، فأوحى الله إليه {أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ }، فحاض يوشع الماء. وضرب موسى بعصاه، فصارفيه اثنا عشر طريقاً، لكل سبط طريق. أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله، ولكنه بقدرةالله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا، وتقدّم الخلاف فيمكان هذا البحر. {فَٱنفَلَقَ }: ثم محذوف تقديره: فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوفهو ضرب، وفاء انفلق. والفاء في انفلق هي فاء ضرب، فأبقى من كل ما يدل على المحذوف، أبقيت الفاء منفضرب واتصلت بانفلق، ليدل على ضرب المحذوفة، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه. وهذا قول شبيه بقول صاحب البرسام،ويحتاج إلى وحي يسفر عن هذا القول. وإذا نظرت القرآن وجدت جملاً كثيرة محذوفة، وفيها الفاء نحو قوله:

{ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصّدِيقُ }

أي فأرسلوه، فقال يوسف أيها الصديق، والفرق الجزء المفصل. والطود: الجبل العظيم المنطاد في السماء.وحكى يعقوب عن بعض القراء، أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء. {وَأَزْلَفْنَا }: أي قربنا، {ثُمَّ }: أيهناك، وثم ظرف مكان للبعد. {ٱلاْخَرِينَ }: أي قوم فرعون، أي قربناهم، ولم يذكر من قربوا منه، فاحتمل أن يكونالمعنى: قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل، أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد، أو قربناهم منالبحر. وقرأ الحسن، وأبو حيوة: وزلفنا بغير ألف. وقرأ أبي، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث: وأزلقنا بالقاف عوض الفاء،أي أزللنا، قاله صاحب اللوامح. قيل: من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه، ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة، فالآخرونهم موسى وأصحابه، أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة. انتهى، وفي الكلام حذف تقديره: ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر وأنجينا. قيل:دخلوا البحر بالطول، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لاتسلك. {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً }: أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها. قال الزمخشري: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}: أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا. وبنو إسرائيل، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء، قد سألوه بقرة يعبدونها،واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة. انتهى. والذي يظهر أن قوله: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ }: أي أكثر قوم فرعون،وهم القبط، إذ قد آمن السحرة، وآمنت آسية امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وعجوز اسمها مريم، دلت موسى على قبريوسف عليه السلام، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر. {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرٰهِيمَ * إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِمَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَـٰكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ ٱلاْقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّلِى إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ * قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ ٱلاْقْدَمُونَ *فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ * وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَيَشْفِينِ * وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ * وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ * رَبّ هَبْ لِى حُكْماًوَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ * وَٱجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلاْخِرِينَ * وَٱجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ * وَٱغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَمِنَ ٱلضَّالّينَ * وَلاَ تَحْزَنِى * يَوْمِ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَبِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ * أَيْنَمَا * كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِندُونِ ٱللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ* تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ ٱلْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَامِن شَـٰفِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ * ٱلْمُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةًوَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }. لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام،أمر الله نبيه أن يتلو عليهم قصصه، وما جرى له مع قومه. ولم يأت في قصةمن قصص هذه السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه، وإذ: العامل فيه. قال الحوفي: أتل، ولا يتصورما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلاً من نبا، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد. وقال أبوالبقاء: العامل في إذ نبأ. والظاهر أن الضمير في {وَقَوْمِهِ } عائد على إبراهيم. وقيل: على أبيه، أي وقوم أبيه،كما قال:

{ إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }

وما: استفهام بمعنى التحقير والتقرير. وقد كان إبراهيم عليه السلاميعلم أنهم عبدة أصنام، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقاً للعبادة، لما ترتب على جوابهم من أوصافمعبوداتهم التي هي منافية للعبادة. ولما سألهم عن الذي يعبدونه، ولم يقتصروا على ذكره فقط، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وماعطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم، فقالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَـٰكِفِينَ }: على سبيل الابتهاج والافتخار، فأتوا بقصتهممعهم كاملة، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم: أصناماً، كما جاء:

{ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا }

{ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ }

ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم: {فَنَظَلُّ }. قال: كما تقول لرئيس: ما تلبس؟ فقال:ألبس مطرف الخز فاجر ذيوله، يريد الجواب: وحاله مع ملبوسه. وقالوا: فنظل، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل. ولما أجابواإبراهيم، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى. وقرأ الجمهور:{يَسْمَعُونَكُمْ }، من سمع؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد، نحو: سمعت كلام زيد، وإن دخلت على غيرمسموع، فذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع، نحو: سمعت زيداً يقرأ والصحيح أنهاتتعدى إلى واحد، وذلك الفعل في موضع الحال، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وهنا لم تدخل إلا على واحد،ولكنه بمسموع، فتأولوه على حذف مضاف تقديره: هل يسمعوانكم، تدعون؟ وقيل: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } بمعنى: يجيبونكم. وقرأ قتادة، ويحيـى بنيعمر: بضم الياء وكسر الميم من أسمع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: الجواب، أو الكلام. وإذ: ظرف لما مضى، فإما أنيتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي، فيكون التقدير: هل سمعوكم هذدعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إلى جملة مصدرة بالمضارع، ومثلوا بقوله:

{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }

أي وإذ قلت. وقال الزمخشري: وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحالالماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا: هل سمعوا، أو اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. انتهى. وقرىء: بإظهار ذال إذوبإدغامها في تاء تدعونن. قال ابن عطية: ويجوز فيه قياس مذكر، ولم يقرأ به أحد؛ والقياس أن يكون اللفظ به،إذ إتدعون. فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل، فكثرة المتماثلات. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه يجوزفيه قياس مذكر لا يجوز، لأن ذلك الإبدال، وهو إبدال التاء دالاً، لا يكون إلا في افتعل، مما فاؤه ذالأو زاي أو دال، نحو: إذذكر، وازدجر، وادهن، أصله: اذتكر، وازتجر، وادتهن؛ أو جيم شذوذ، قالوا: اجد مع في اجتمع،ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت: فزد، وفي جلدت: جلدّ، ومن تاء تولجشذوذاً قالوا: دولج، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا، فلا تبدل تاءه. وقول ابن عطية: والذي منع من هذا اللفظإلى آخره، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء، المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها، فكنت تقول: إذ تخرج: ادّخرج،وذلك لا يقوله أحد، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء، فتقول: اتخرج. {أَوْيَنفَعُونَكُمْ * إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } بترك عبادتكم إياهم، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا، فما معنىعبادتكم لها؟ {قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا } هذه حيدة عن جواب الاستفهام، لأنهم لو قالوا: يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا، فضحوا أنفسهم بالكذبالذي لا يمتري فيه، ولو قالوا: يسمعوننا ولا يضروننا، لسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم فيعبادتها من غير برهان ولا حجة. والكاف في موضع نصب بيفعلون، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعلالذي يفعله، وهو عبادتهم؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة. وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ فيشيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز. {أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ }: وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادهم الأصنامفيهم، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام، فزمان من بعده؟ وعدو: يكون للمفرد والجمع، كما قال:

{ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ }

قيل: شبه بالمصدر، كالقبول والولوع. قال الزمخشري: وإنما قال: عدو لي، تصوراً للمسألة في نفسه علىمعنى: أي فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنهانصيحة نصح بها نفسه أولاً، وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا ويقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وماأراد لنا إلا ما أرادو لروحه، ليكون أدنى لهم إلى القبول، وأبعث على استماع منه. ولو قال: فإنه عدو لكم،لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنضوح. ما لا يبلغ التصريح، لأنه ربمايتأمل فيه، فربما قاده التأميل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه، أن رجلاً واجهه بشيء فقال:لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال: ما هو بيتي ولا بيتكم. انتهى.وهو كلام فيه تكثير على عادته، وذهاب من ذهب إلى أن قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى }، من المقلوب والأصل: فإنيعدو لهم، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جماداً، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. ألا ترىإلى قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَـٰدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً }، فهذا معنى العداوة، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان، وهو الشيطان.وقيل: لأنه تعالى يحيـي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم. وقيل: هو على حذف، أي: فإن عبادهمعدولي. والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير. وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكمالأقدمون إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي، وإلا: بمعنى دون وسوى. انتهى. فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون، ولا حاجةإلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى }. وجعله جماعة منهم الفراء، واتبعه الزمخشري استثناءمنقطعاً، أي لكن رب العالمين، لأنهم فهموا من قوله: ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام. وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاًعلى أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، وأجازوا في {ٱلَّذِى خَلَقَنِى }النصب على الصفة لرب العالمين، أو بإضمار، أعني: والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون{ٱلَّذِى خَلَقَنِى } رفعاً بالابتداء، {فَهُوَ يَهْدِينِ }: ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي، ودخلت الفاء لما في الكلاممن معنى الشرط. انتهى. وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص، ولا يتخيل فيه العموم، فليس نظير: الذييأتيني فله درهم، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم. وتابع أبو البقاءالحوفي في إعرابه هذا، لكنه لم يقل: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. فإن كان أراد ذلك، فليسبجيد لما ذكرناه، وإن لم يرده، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء، على مذهب الأخفش في نحو: زيد فاضربه؛الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته. وقيل: إلى جنته. وقال الزمخشري: فهو يهدين، يريد أنه حين أتم خلقه، ونفخفيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم فيالبطن امتصاصاً؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الإرتضاع؟ إلى غير ذلك منهدايات المعاش والمعاذ. انتهى. والظاهر أن قوله: {يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ }: الطعام المعروف المعهود، والسقي المعهود، وفيه تعديد نعمة الرزق. وقالأبو بكر الوراق: يطعمني بلا طعام، ويسيني بلا شراب، كما جاء أني أبيت يطمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لايمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها.والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله: {فَهُوَ يَهْدِينِ * وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى }، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ماتدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق، وهو الغذاء والشرب. ولما كان ذلك سبباً لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادةالغذاء أو نقصانه، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته، بإزالة ما حدث من السقم، وأضاف المرض إلى نفسه، ولم يأت التركيب:وإذا أمر ضني، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرضمكروه. ولما لم يكن المرض منها، لم يضفه إلى الله. وعن جعفر الصادق، ولعله لا يصح: وإذا مرضت بالذنوب شفانيبالتوبة. وقال الزمخشري: وإنما قال: مرضت دون أمر ضني، لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمهومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم، ولما كان الشفاء قديعزى إلى الطيب، وإلى الدواء على سبيل المجاز؛ كما قال:

{ فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ }

أكد بقوله: {فَهُوَ يَشْفِينِ }:أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره. ولما كانت الإماتة بعد البعث، لا يمكن إسنادها إلاإلى الله، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ لإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة، وكذلك لم يحتج إلىتأكيد في: {وَٱلَّذِى أَطْمَعُ }. وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده، وهي رواية عن نافع. والطمععبارة عن الرجاء، وإبراهيم عليه السلام كان جازماً بالمغفرة. فقال الزمخشري: لم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفاًبهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى. ورده الرازي قال: لأن حاصله يرجع إلى أنه،ونطق بكلمة لا أذكرها، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة، وهو باطل قطعاً. وقال الجبائي: أراد به سائر المؤمنين، لأنهمالذين يطمعون ولا يقطعون. ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره، مما يبطل نظم الكلام. وقال الحسن: المرادبالطمع اليقين. وقال الرازي: لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا، حيث قلنا: إنه لا يجب على الله شيء، وإنه يحسنمنه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله. وقال ابن عطية: أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع فيالمغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته. وقرأ الجمهور: خطيئتي على الإفراد، والحسن: خطاياي على الجمع، وذهبالأكثرون إلى أنها قوله:

{ إِنّى سَقِيمٌ }

و

{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ }

وهي أختي في سارة. وقالتفرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، قدرها في كل أمره من غير تعيين. قال ابن عطية: وهذا أظهر عندي، لأن تلكالثكلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض. وقال الزمخشري: المراد ما يندر منه في بعض الصغائر، لأن الأنبياء عليهمالصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض، كلام وتخيلات للكفرة، وليستبخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر، وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئةأو خطايا، وطمع أن يغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليهقوله: اطمع، ولم يجزم القول. انتهى. و{يَوْمِ ٱلدّينِ }: ظرف، والعامل فيه يعفر، والغفران، وإن كان في الدنيا، فأثره لايتبين إلا يوم الجزاء، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى. وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئةعلى تلك الثلاث، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز، وحمله على سبيل التواضع قال: لأنه إن طابقفي هذا الموضع زال الإشكال، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، لأجل تنزيهه عن المعصية. قال:والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى خطأ. فإن من باع جوهرة تساوي ألفاً بدينار، قيل: أخطأ،وترك الأولى على الأنبياء جائز. انتهى، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة. وقدم إبراهيم عليهالسلام الثناء على الله تعالى، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته، ثم سأله تعالى فقال: {رَبّ هَبْ لِى حُكْماً}، فدل على أن تقديم الثناء على المسلة من المهمات. والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق. وقيل: الحكم:الحكمة والنبوة، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة، لأن النبي ذو حكمة وحكم بين الناس. وقال أبو عبد الله الرازي: لايجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة، إما عين الحاصلة أو غيرها. والأول محال، لأن تحصيلالحاصل محال، والثاني محال، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوةالعملية، وذلك بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به. انتهى. وقال ابن عطية: وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة، قال: ودعاؤهعليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام. وإلحاقه بالصالحين: توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهمفي الجنة. وقد أجابه تعالى حيث قال:

{ وَإِنَّهُ فِى ٱلاْخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ }

قال أبو عبد الله الرازي:وإنما قدّم قوله: {هَبْ لِى حُكْماً } على قوله: {وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ }، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية، لأنهيمكنه أن يعلم الحق، وإن لم يعمل به، وعكسه غير ممكن، لأن العلم صفة الروح، والعمل صفة البدن، وكما أنالروح أشرف من البدن، كذلك العلم أفضل من الإصلاح. انتهى. ولسان الصدق، قال ابن عطية: هو الثناء وتخليد المكانة بإجماعمن المفسرين. وكذلك أجاب الله دعوته، فكل ملة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى اللهعليه وسلم. قال مكي: وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت الدعوة فيمحمد عليه السلام، وهذا معنى حسن، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. انتهى. ولما طلب سعادةالدنيا، طلب سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة،وقال تعالى:

{ تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }

ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرةلنفسه، طلب لأشد الناس التصاقاً به، وهو أصله الذي كان ناشئاً عنه، وهو أبوه، فقال: {وَٱغْفِرْ لاِبِى }، وطلبه المغفرةمشروط بالإسلام، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط، فحاصله أنه دعا بالإسلام. وكان وعده ذلك يوضحه قوله:

{ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ * ٱللَّهِ }

أي الموافاة على الكفر تبرأمنه. وقيل: كان قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً، تقية وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمركذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه: {وَٱغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّالّينَ }. فلولااعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك. {وَلاَ تَحْزَنِى }: إما من الخزي، وهو الهوان، وإما من الخزاية،وهي الحياء. والضمير في {يُبْعَثُونَ }ضمير العباد، لأنه معلوم، أو ضمير {ٱلضَّالّينَ }، ويكون من جملة الاستغفار، لأنه يكون المعنى:يوم يبعث الضالون. وأتى فيهم: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } بدل من: {يَوْمِ يُبْعَثُونَ }. {مَالٌ وَلاَ بَنُونَ }: أي كماينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه. وقيل: المراد بالبنين جميع الأعوان. وقيل: المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنياومحاسنها، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا. والظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكنمن أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه. قال الزمخشري: ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً، ولا بد لك مع ذلكمن تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها السلامة، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنينلا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى حذفمضاف، كما ذكر، إذ قدرناه، لكن {مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ينفعه ذلك، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهمتصلاً بتأويل قال: إلا من أتى الله: لا حال من أتى الله بقلب سليم، وهو من قوله

:تحيــة بينهــم ضــرب وجيــع    

وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال: هل لزيد مال وبنون؟ فيقول: ماله وبنوهسلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى،وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأنغنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى. وجعله بعضهم استثناء مفرغاً، ف(من) مفعول،والتقدير: لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر،وبنوه الصلحاء، إذ كان أنفقه في طاعة الله، وأرشد بنيه إلى الدين، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب، خلوصه من الشرك والمعاصي،وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين. وقال سفيان: هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره، وهذايقتضي عمومه اللفظ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم. وقال الجنيد: بقلب لديغ من خشية الله، والسليم: اللديغ. وقال الزمخشري:هو من بدع التفاسير وصدق. {وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ }: قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها. {وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ }: أظهرت وكشفتبحيث كانت بمرأى منهم كقوله:

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ * لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ }

وذلك على سبيل التوبيخ. هل ينفعونكم بنصرهم إياكم، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها، إذهم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش: فبرزت بالفاء، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه، وذلك لأن الواو للجمع، فيمكنأن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر، وهو من تقديم الرحمة على العذاب، وهو حسن، لو أن رسم المصحفبالواو. وقرأ مالك بن دينار: {وَبُرّزَتِ } بالفتح والتخفيف؛ {ٱلْجَحِيمِ }بالرفع، بإسناد الفعل إليها اتساعاً. ولما وبخهم وقرعهم، أخبر عنحال يوم القيامة، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت. وقيل: {فَكُبْكِبُواْ }، لتحقق وقوع ذلك، وإنكان لم يقع. والضمير في: فكبكبوا عائد على الأصنام، أجريت مجرى من يعقل. قال الكرماني: فكبكبوا: قذفوا فيها. وقيل: جمعوا.وقيل: هدروا. وقيل: نكسوا على رؤوسهم بموج بعضهم في بعض. وقيل: ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروافي قعرها. {وَٱلْغَاوُونَ }: هم الكفرة الذين شملتهم الغواية. وقيل: الضمير يعود على الكفار، والغاوون: الشياطين. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ }: قبيلة،وكل من تبعه فهو جند له وعون. وقال السدّي: هم مشركو العرب، والغاوون: سائر المشركين. وقيل: هم القادة والسفلة، قالوا:أي عباد الأصنام، والجملة بعده حال، والمقول جملة القسم ومتعلقه، والخطاب في {نُسَوّيكُمْ } للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق.قال ابن عطية: أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى، الذي هو ربالعالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى. وقوله: إن كنا إلا ضالين، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد أن هنا نافية،واللام في لفي بمعنى إلا، فليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هيالمخففة من الثقيلة، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة. {وَمَا أَضَلَّنَاإِلاَّ ٱلْمُجْرِمُونَ }: أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم:

{ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ }

وقال السدي: هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وقيل: المجرمون: الشياطين، وقيل: من دعاهم إلى عبادة الأصناممن الجن والإنس. وقال ابن جريج: إبليس وابن آدم القاتل، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وحين رأوا شفاعةالملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة، قالوا على جهة التلهف والتأسف، {فَمَا لَنَا مِنشَـٰفِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ }. وقال ابن جريج: شافعين من الملائكة وصديق من الناس. ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانةعند المشفوع عنده، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء. والصديقيحتمل أن يكون نفياً لوجودهم إذ ذاك، وهم موجودون للمؤمنين، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون، كما قال: الأخلاء يومئذ بعضهملبعض عدوّ إلا المتقين، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وأن لهم أصدقاء من الإنسوالشياطين، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع، لأن ما لا ينفع، حكمه حكم المعدوم، فصار المعنى: فما لنامن نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة. ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع فيورطة من لا يعرفه، وأفرد الصديق لقلته، وأريد به الجمع؟ إذ يقال: هم صديق، أي أصدقاء، كما يقال: هم عدو،أي أعداء. والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني، وفتكون الجواب، كأنه قيل: يا ليت لنا كرة فنكون. وقيل: هيالخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره، فيكون قوله: {فَنَكُونَ } معطوفاً على كرة، أي فكونا من المؤمنين، وجواب لومحذوف، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء، أو لخلصنا من العذاب. والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم، أخبر بماأعلمه الله من أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من حال قومه. وقال ابن عطية: وهذه الآيات من قوله:{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام، وهي إخبار من الله عزوجل، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه. انتهى. وكان ابنعطية قد أعرب {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } بدلاً من {يَوْمِ يُبْعَثُونَ }، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره منتفكيك الكلام، وجعل بعضه من كلام إبراهيم، وبعضه من كلام الله، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخرمنلفظ الأول، أو الأول. وعلى كلا التقديرين، لا يصح أن يكون من كلام الله، إذ يصير التقدير: ولا تخزني يوملا ينفع مال ولا بنون. والإشارة بقوله {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه. {وَمَاكَانَ أَكْثَرُهُمْ }: أي أكثر قوم إبراهيم. بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدلبها إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك مسلاة للرسول في تكذيب قومه إياه عليه السلام.

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } * { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } * { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } * { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } * { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } * { فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } * { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } * { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } * { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } * { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } * { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ } * { وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ } * { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } * { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ } * { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ } * { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } * { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَلاَ تُطِيعُوۤاْ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ } * { ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } * { قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } * { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ هَـٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } * { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } * { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ } * { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } * { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ } * { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ ٱلْقَالِينَ } * { رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } * { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } * { إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَابِرِينَ } * { ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلآخَرِينَ } * { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } * { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } * { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ } * { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } * { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } * { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ } * { قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } * { وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } * { عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } * { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } * { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ } * { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ } * { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } * { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } * { فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } * { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } * { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } * { ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } * { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } * { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } * { ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } * { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ } * { وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } * { إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } * { فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ } * { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } * { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } * { وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ } * { ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } * { وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ } * { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ } * { تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } * { يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } * { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } * { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } * { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }[عدل]

المشحون: المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل، يقال: شحنها عليها خيلاًورجالاً، الريع: بكسر الراء وفتحها: جمع ريعة، وهو المكان المرتفع. قال ذو الرمة

: طراق الخوافي مشرق فوق ريعه     بذي ليلة في ريشه يترقرق

وقال أبو عبيدة: الريع: الطريق. قال ابنالمسيب بن علس يصف ظعناً

: في الآل يخفضها ويرفعها     ريع يلوح كأنه سحل

الطلع: الكفري، وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته. وقالالزمخشري: الطلعة: هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه. شماريخ القنو، والقنو: اسم للخارج من الجذع، كما هوبعرجونه. الفراهة: جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه. وقيل: الكيس والنشاط. القالي: المبغض، قلى يقلي ويقلى، ومجيئه على يفعلبفتح العين شاذ. الجبلة: الخلق المتجسد الغليظ، مأخوذ من الجبل. قال الشاعر

: والموت أعظم حادث     مما يمر على الجبله

ويقال: بسكون الباء مثلث الجيم. وقال الهروي:الجبل والجبل والجبل، لغات، وهو الجمع الكثير العدد من الناس. انتهى. هام: ذهب على وجهه، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة:حاد عن القصد. {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌأَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ * خَـٰلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَؤُابِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً * طسم * تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَأَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ ٱلسَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـٰقُهُمْ لَهَا خَـٰضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍمّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَـٰؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٱلاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَلَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }. القوم: مؤنث مجازي التأنيث، ويصغر قويمة، فلذلك جاء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ }. ولما كان مدلولهأفراداً ذكوراً عقلاء، عاد الضمير عليه، كما يعود على جمع المذكر العاقل. وقيل: قوم مذكر، وأنث لأنه في معنى الأمةوالجماعة، وتقدم معنى تكذيب قوم نوح المرسلين، وإن كان المرسل إليهم واحداً في الفرقان في قوله:

{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَـٰهُمْ }

وإخوة نوح قيل: في النسب. وقيل: في المجانسة، كقوله

:يا أخيا تميم تريد يا واحد أمته    

وقال الشاعر

: لا يسألون أخاهم حين يندبهم     في النائبات على ما قال برهانا

ومتعلق التقوى محذوف، فقيل: ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم؟ وقيل: ألا تتقونمخالفة أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته، كونه مشهوراً في قومه بذلك، أو مؤتمناً على أداء رسالة الله؟ ولما عرضعليهم برفق تقوى الله فقال: {أَلاَ تَتَّقُونَ }، انتقل من العرض إلى الأمر فقال: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } في نصحيلكم، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة. {وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ }: أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه.وقيل: الضمير في عليه يعود على النصح، أو على التبليغ، والمعنى: لا أسئلكم عليه شيئاً من أموالكم. وقدم الأمر بتقوىالله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه السلام. ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة، ليؤكد عليهم ويقررذلك في نفوسهم، وإن اختلف التعليل، جعل الأول معلولاً لأمانته، والثاني لانتفاء أخذ الأجر. ثم لم ينظروا في أمر رسالته،ولا تفكروا فيما أمرهم به، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة، وهي التي تطبع على قلوبهم. فشرع أشرافهم فيتنقيص متبعيه، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له، كونه اتبعه الأرذلون. وقوله: {وَٱتَّبَعَكَ ٱلاْرْذَلُونَ }، جملة حالية، أي كيفنؤمن وقد اتبعك أراذلنا، فنتساوى معهم في اتباعك؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب. والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء،لأن أدهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء. وقرأ الجمهور: واتبعك فعلاً ماضياً. وقرأ عبدالله، وابن عباس، والأعمش، وأبو حيوة، والضحاك، وابن السميفع، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري، وطلحة، ويعقوب: واتباعك جمع تابع، كصاحبوأصحاب. وقيل: جمع تبيع، كشريف وأشراف. وقيل: . قيل: والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه، فعلى هذا لاتكون الرذالة دناءة المكاسب؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله:

{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا }

وأرادوا بذلكتنقيص نوح عليه السلام، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل، كما ورد في حديث هرقل. وهذا الذيأجابوا به في غاية السخافة، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى، ولا شرف المكاسبودناءتها. وقال ابن عطية: ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين، بتهجين أفعالهم لا النظرإلى صنائعهم، يدل على ذلك قول نوح: {وَمَا عِلْمِى } الآية، لأن معنى كلامه ليس في نظري، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهمفائدة، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزىء به، ثم حسابهم على الله تعالى، وهذا نحو ما قال رسول الله صلى الله عليهوسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلٰه إلا الله الحديث بجملته انتهى. وقال الكرماني: لا أطلبالعلم بما عملوه، إنما على أن أدعوهم. وقال الزمخشري: وما علمي، وأي شيء علمي، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم واطلاعهعلى سرائرهم؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنواهوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله: {ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } بادىء الرأي. ويجوز أن يتعالى لهم نوح عليهالسلام، فيفسر قولهم: الأرذلون، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم.ثم بنى جوابه على ذلك فيقول: ما عليّ إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كانلهم شيء، فالله محاسبهم ومجازيهم، وما أنا إلا منذر لا محاسب، ولا مجاز، لو تشعرون ذلك، ولكنكم تجهلون، فتنساقون معالجهل حيث سيركم. وقصد بذلك رد اعتقادكم، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً. فإن الغنىغنى الدين، والنسب نسب التقوى. انتهى. وهو تكثير. وقال الحوفي: وما علمي ماانا فيه، والباء متعلقة بعلمي. انتهى. وهذا التخريجيحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث، أردفه بقوله: {لَوْ تَشْعُرُونَ }،أي بأن المعاد حق، والحساب حق. وقرأ الجمهور: تشعرون بتاء الخطاب. وقرأ الأعرج، وأبو زرعة، وعيسى بن عمر الهمداني: بياءالغيبة. {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }: هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك، كما طلب رؤساء قريش منرسول الله أن يطرد من آمن من الضعفاء، فنزلت:

{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ }

الآية، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم. {إن أنا إلا نذير مبين: ما جئت به بالبرهان الصحيحالذي يميز به الحق من الباطل. ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم، دل ذلك على أنهم لمتثلج صدورهم للإيمان، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه، أخذوا في التهديد والوعيد. {قالوا لئنلم تنته يا نوح} عن تقبيح ما نحن عليه، وادعائك الرسالة من الله، {لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُرْجُومِينَ }،أي بالحجارة، وقيل :بالشتم وأيس إذ ذاك من فلاحهم ، فنادى ربه ـ وهو أعلم بحاله ـ فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني، ولكنلأجل دينك. {فَٱفْتَحْ }، أي فاحكم. ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة، وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه، أي: {وَنَجّنِى} مما يحل بهم. وقيل: ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة. والفلك واحد وجمع، وغالب استعماله جمعاً لقوله:

{ وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ }

{ والفلك التي تجري في البحر }

فحيث أتى في غير فاصلة، استعمل جمعاً، وحيث كانفاصلة، استعمل مفرداً لمراعاة الفواصل، كهذا الموضع. والذي في سورة يس، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعاً، أهو جمع تكسير،أم اسم جمع؟ والمشحون، قال ابن عباس: الموقر، وقال عطاء: المثقل. {*}، فحيث أتى في غير فاصلة، استعمل جمعاً، وحيثكان فاصلة، استعمل مفرداً لمراعاة الفواصل، كهذا الموضع. والذي في سورة يس، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعاً، أهو جمعتكسير، أم اسم جمع؟ والمشحون، قال ابن عباس: الموقر، وقال عطاء: المثقل. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ }: أي بعد نجاة نوحوالمؤمنين. {كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ * أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا *تَعْمَلُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَـٰمٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ * إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَأَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ ٱلْوٰعِظِينَ * إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلاْوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ إِنَّ فِىذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }. كان أخاهم من النسب، وكان تاجراًجميلاً، أشبه الخلق بآدم عليه السلام، عاش أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة، وبينه وبين ثمود مائة سنة. وكانت منازل عادما بين عمان إلى حضرموت. أمرع البلاد، فجعلها الله مفاوز ورمالاً. أمرهم أولاً أمر به نوح قومه، ثم نعى عليهممن سوء أعمالهم مع كفرهم فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ }؟ قال ابن عباس: هو رأس الزقاق. وقال مجاهد: فج بينجبلين. وقال عطاء: عيون فيها الماء. وقال ابن بحر: جبل. وقيل: الثنية الصغيرة. وقرأ الجمهور: ريع بكسر الراء، وابن أبيعبلة: بفتحها. قال ابن عباس: {ءايَةً }: علماً. وقال مجاهد: أبراج الحمام. وقال النقاش وغيره: القصور الطوال. وقيل: بيت عشار.وقيل: نادياً للتصلف. وقيل: أعلاماً طوالاً ليهتدوا بها في أسفارهم، عبثوا بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم. وقيل: علامة يجتمع إليهامن يعبث بالمار في الطريق. وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث، كما يفعل المترفون في الدنيا. والمصانع: جمع مصنعة.قيل: وهي البناء على الماء. وقيل: القصور المشيدة المحكمة. وقيل: الحصون. وقال قتادة: برك الماء. وقيل: بروج الحمام. وقيل: المنازل.واتخذ هنا بمعنى عمل، أي ويعملون مصانع، أي تبنون. وقال لبيد

:وتبقى جبـال بعـدنـا ومصـانع    

{لَعَلَّكُمْتَخْلُدُونَ }: الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء، وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاءللخلود ولا خلود. وفي قراءة عبد الله: كي تخلدون، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد، فلذلك بتيتم واتخذتم.وقال ابن زيد: معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم، أي هل أنتم تخلدون: وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي. وقالابن عباس: المعنى كأنكم خالدون، وفي حرف أبي: كأنكم تخلدون. وقرىء: كأنكم خالدون. وقرأ أبيّ، وعلقمة، وأبو العالية، مبنياً للمفعولمشدداً، كما قال الشاعر

: وهل ينعمن إلا سعيد مخلد     قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وإذا بطشتم: أي أردتم البطش، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه، كقوله

:متـى تبعثوهـا تبعثوهـا ذميمـة    

أي متى أردتم بعثها. قال الحسن: بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولافكر في العواقب. وقيل: المعنى أنكم كفار الغضب، لكم السطوات المفرطة والبوادر. فبناء الأبنية العالية تدل على حب العلو، واتخاذالمصانع رجاء الخلود يدل على البقاء، والجبارية تدل على التفرد بالعلو، وهذه صفات الإلٰهية، وهي ممتنعة الحصول للعبد. ودل ذلكعلى استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية، وحب الدنيا رأس كل خطيئة. ولما نبههم ووبخهم على أفعالهمالقبيحة، أمرهم ثانياً بتقوى الله وطاعة نبيه. ثم أمرهم ثالثاً بالتقوى تنبيهاً لهم على إحسانه تعالى إليهم، وسبوغ نعمته عليهم.وأبرز صلة {ٱلَّذِى } متعلقة بعلمهم، تنبيهاً لهم وتحريضاً على الطاعة والتقوى، إذ شكر المحسن واجب، وطاعته متعينة، ومشيراً إليهمبأن من أمد بالإحسان هو قادر على سلبه، وعلى تعذيب من لم يتقه، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم، وإنماهو من تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئاً بعد شيء. ولما أتى بذكر ما أمدهم به مجملاً محالاً علىعلمهم، أتى به مفصلاً. فبدأ بالأنعام، وهي التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا، والقوة على من عاداهم، والغنى هو السببفي حصول الذرية غالباً لوجده. وبحصول القوة أيضاً بالبنين، فلذلك قرنهم بالأنعام، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها. واتبعذلك بالبساتين والمياه المطردة، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة. {*وبأنعام}: ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله:{خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }، وأعيد العامل كقوله:

{ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ * ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْـئَلُكُمْ }

والأكثرون لا يجعلونمثل هذا بدلاً وإنما هو عندهم من تكرار الجمل، وإن كان المعنى واحداً، ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد عندهمالعامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به، نحو: مررت بزيد بأخيك، ثم حذرهم عذاب الله، وأبرز ذلك فيصورة الخوف لا على سبيل الجزم، إذ كان راجياً لإيمانهم، فكان من جوابهم أن قالوا: {سَوَاء عَلَيْنَا } وعظك وعدمه،وجعلوا قوله وعظاً، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذب فيما ادعاه، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدمالمبالاة بما خوفهم به. وقرأ الجمهور: وعظت، بإظهار الظاء. وروي عن أبي عمرو، والكسائي، وعاصم: إدغام الظاء في التاء. وبالإدغام،قرأ ابن محيصن، والأعمش، إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ: أوعظتنا. وينبغي أن يكون إخفاء، لأن الظاء مجهورة مطبقة،والتاء مهموسة منفتحة، فالظاء أقوى من التاء، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين، أو في المتقاربين، إذا كان الأول أنقص منالثاني. وأما إدغام الأقوى في الأضعف، فلا يحسن. على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات، فوجبقبولها، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس. وعادل {أَوَعَظْتَ } بقوله: {أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ ٱلْوٰعِظِينَ }، وإن كانقد يعادله: أم لم تعظ. كما قال:

{ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا }

لأجل الفاصلة، كما عادلت في قوله:

{ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـٰمِتُونَ }

ولم يأت التركيب أم صمتم، وكثيراً ما يحسن مع الفواصل ما لايحسن دونه. وقال الزمخشري: بينهما فرق، يعني بين ما جاء في الآية وهي: أم لم تعظ، قال: لأن المراد سواءعلينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشرته، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظمن قولك: أم لم تعظ. ولما لم يبالوا بما أمرهم به، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم، أجابوهبأن قالوا: {إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلاْوَّلِينَ }. وقرأ عبد الله، وعلقمة، والحسن، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي:خلق، بفتح الخاء وسكون اللام، فهو يحتمل أن يكون المعنى: إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا اختلاق الأولين من الكذبةقبلك، فأنت على مناهجهم. وروى علقمة عن عبد الله: أن هذا إلا اختلاق الأولين. ويحتمل أن يكون المعنى: ما هذهالبنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون، حياة وموت ولا بعث ولا تعذيب. وقرأ باقي السبعة: خلق، بضمتين؛وأبو قلابة، والأصمعي عن نافع: بضم الخاء وسكون اللام؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في خلق. {كَذَّبَتْ ثَمُودُٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَـٰلِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَاأَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ * فِيمَا * هَـٰهُنَا * ءامِنِينَ * فِىجَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَـٰرِهِينَ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُواْأَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ * ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌمّثْلُنَا فَأْتِ بِـئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ * قَالَ هَـٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلاَ تَمَسُّوهَابِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَـٰدِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }. {أَتُتْرَكُونَ }: يجوز أن يكون إنكاراً لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لايزولون عنه، وأن يكون تذكيراً بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات، وغير ذلك مع الأمن والدعة،قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: تخويف لهم، بمعنى: أتطمعون إن كفرتم في النعم على معاصيكم؟ وقيل: أتتركون؟ استفهام في معنىالتوبيخ، أي أيترككم ربكم؟ {فِيمَا * هَـٰهُنَا }: أي فيما أنتم عليه في الدنيا {ءامِنِينَ }: لا تخافون بطشه. انتهى.وما موصولة، وههنا إشارة إلى المكان الحاضر القريب، أي في الذي استقر في مكانكم هذا من النعيم. وفي جنات: بدلمن ما ههنا أجمل، ثم فصل، كما أجمل هود عليه السلام في قوله: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ }، ثم فصل فيقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَـٰمٍ وَبَنِينَ }، وكانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل. والهضيم، قال ابن عباس: إذا أينع وبلغ. وقالالزهري: الرخص اللطيف أول ما يخرج. وقال الزجاج: الذي رطبه بغير نوى. وقال الضحاك: المنضد بعضه على بعض. وقيل: الرطبالمذنب. وقيل: النضيج من الرطب. وقيل: الرطب المتفتت. وقيل: الحماض الطلع، ويقارب قشرته من الجانبين من قولهم: خصر هضيم. وقيل:العذق المتدلي. وقيل: الجمار الرخو. وجاء قوله: {وَنَخْلٍ } بعد قوله: {فِي جَنَّـٰتِ }، وإن كانت الجنة تتناول النخل أولشيء، ويطلقون الجنة، ولا يريدون بها إلا النخل، كما قال الشاعر

: كان عيني في غربي مقتلة     من النواضح تسقي جنة سحقا

أراد هنا النخل. والسحق جمع سحوق، وهي التي ذهبتبجردتها صعداً فطالت. فأفرد {وَنَخْلٍ } بالذكر بعد اندراجه في لفظ جنات، تنبيهاً على انفارده عن شجر الجنة بفضله. أوأراد بجنات غير النخل من الشجر، لأن اللفظ صالح لهذه الإرادة، ثم عطف عليه ونخل، ذكرهم تعالى في أن وهبلهم أجود النخل وأينعه، لأن الإناث ولادة التمر، وطلعها فيه لطف، والهضيم: اللطيف الضامر، والبرني ألطف من طلع اللون. ويحتملاللطف في الطلع أن يكون بسبب كثرة الحمل، فإنه متى كثر لطف فكان هضيماً، وإذا قل الحمل جاء التمر فاخراً.ولما كانت منابت النخل جيدة، وكان السقي لها كثيراً، أوسلمت من العاهة، كبر الحمل بلطف الحب. وقرأ الجمهور: {وَتَنْحِتُونَ }،بالتاء للخطاب وكسر الحاء؛ وأبو حيوة، وعيسى، والحسن: بفتحها، وتقدم ذكره، وعنه بألف بعد الحاء إشباعاً. وعن عبد الرحمن بنمحمد، عن أبيه: بالياء من أسفل وكسر الحاء. وعن أبي حيوة، والحسن أيضاً: بالياء من أسفل وفتح الحاء. وقرأ عبدالله، وابن عباس، وزيد بن علي، والكوفيون، وابن عامر: فارهين بألف، وباقي السبعة: بغير ألف؛ ومجاهد: متفرهين، اسم فاعل منتعزه، والمعنى: نشطين مهتمين، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: شرهين. وقال ابن زيد: أقوياء. وقال ابن عباس أيضاً، وأبو عمروبن العلاء: أشرين بطرين. وقال عبد الله بن شداد: بمعنى مستفرهين، أي مبالغين في استجادة المغارات ليحفظوا أموالهم فيها. وقالقتادة: آمنين. وقال الكلبي: متجبرين. وقال خصيف: معجبين. وقال عكرمة: ناعمين. وقال الضحاك: كيسين. وقال أبو صالح: حاذقين. وقال ابنبحر: قادرين. وقال أبو عبيدة: مرحين. وظاهر هذه الآيات أن الغالب على قوم هود: اللذات الخيالية من طلب الاستعلاءوالبقاء والتفرد والتجبر، وعلى قوم صالح: اللذات الحسية من المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة. {وَلاَ تُطِيعُواْ }: خطاب الجمهور قومه.والمسرفون: هم كبراؤهم وأعلامهم في الكفر والإضلال، وكانوا تسعة رهط. {يُفْسِدُونَ فِى ٱلاْرْضِ }: أي أرض ثمود. وقيل: في الأرضكلها، لأن بمعاصيهم امتناع الغيث. ولما كانوا يفسدون دلالته دلالة المطلق، أتى بقوله: {وَلاَ يُصْلِحُونَ }، فنفى عنهم الصلاح، وهونفي لمطلق الصلاح، فيلزم منه نفي الصلاح كائناً ما كان، فلا يحصل منهم صلاح ألبتة. والمسحر: الذي سحر كثيراً حتىغلب على عقله. وقيل: من السحر، وهو الرئة، أي أنت بشر لا تصلح للرسالة. ويضعف هذا القول قولهم بعد: {مَاأَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا }، إذ تكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها، والأصل التأسيس. ومثلنا: أي في الأكل والشرب وغيرذلك من صفات البشر، فلا اختصاص لك بالرسالة. {يَأْتِىَ بِـئَايَةٍ }: أي بعلامة على صحة دعواك، وفي الكلام حذفتقديره: قال آتي بها، قالوا: ما هي؟ {قَالَ هَـٰذِهِ نَاقَةٌ } روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من هذهالصخرة تلد سقباً. فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل عليه السلام: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل؛ فخرجت الناقة وبركتبين أيديهم، ونتجت سقباً مثلها في العظم. وتقدم في الأعراف طرف من قصة ثمود والناقة، والشرب النصيب المشروب من الماءنحو السقي. وقرأ ابن أبي عبلة: شرب، بضم الشين فيهما، وظاهر هذا العذب أنه في الدنيا، وكذا وقع ووصف بالعظملحلول العذاب فيه، ووصفه به أبلغ من وصف العذاب به، لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب، كان موقع العذاب منالعظم أشد. ونسب العقر إلى جميعهم، لكونهم راضين بذلك، حتى روي أنهم استرضوا المرأة في خدرها والصبيان، فرضوا جميعاً.{فَأَصْبَحُواْ نَـٰدِمِينَ }، لا ندم توبة، بل ندم خوف أن يحل بهم العذاب عاجلاً، وذلك عند معاينة العذاب في غيروقت التوبة. أصبحوا وقد تغيرت ألوانهم حسبما كان أخبرهم به صالح عليه السلام، وكان العذاب صيحة خمدت لها أبدانهم، وانشقتقلوبهم، وماتوا عن آخرهم، وصب عليهم حجارة خلال ذلك. وقيل: كانت ندامتهم على ترك عقر الولد، وهو قول بعيد. وألفي: {فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } للعهد في العذاب السابق، عذاب ذلك اليوم العظيم. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَلَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍإِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْوٰجِكُمْ بَلْأَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ * لُوطٍ * لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَٱلْقَـٰلِينَ * رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِى ٱلْغَـٰبِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلاْخَرِينَ* وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }. أتأتون: استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ؛ {*والذكران}: جمع ذكر، مقابل الأنثى. والإتيان: كناية عن وطء الرجال، وقدسماه تعالى بالفاحشة فقال:

{ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ٱلْعَـٰلَمِينَ }

هو مخصوص بذكران بنيآدم. وقيل: مخصوص بالغرباء. {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ }: ظاهر في كونهم لا يأتون النساء، إما البتة، وإما غلبة. {مَا خَلَقَلَكُمْ رَبُّكُمْ }: يدل على الإباحة بشرطها. {مّنْ أَزْوٰجِكُمْ }: أي من الإناث. ومن إما للتبيين لقوله: {مَا خَلَقَ }،وإما للتبعيض: أي العضو المخلوق للوطء، وهو الفرج، وهو على حذف مضاف، أي وتذرون إتيان. فإن كان ما خلق لايراد به العضو، فلا بد من تقدير مضاف آخر، أي وتذرون إتيان فروج ما خلق. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ }::أي متجاوزون الحد في الظلم، وهو إضراب بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكارعليهم وتقبيح أفعالهم واعتداؤهم؛ إما في المعاصي التي هذه المعصية من جملتها، أو من حيث ارتكاب هذه الفعلة الشنيعة. وجاءتصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيماً لقبح فعلهم وتنبيهاً على أنهم هم مختصون بذلك، كما تقول: أنت فعلت كذا، أي لاغيرك. ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه بالإخراج، وهو النفي من بلده الذي نشأ فيه، أي: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن دعواك النبوة، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكران، فننفينك كما نفينا من نهانا قبلك. ودل قوله: {مِنَٱلْمُخْرَجِينَ } على أنه سبق من نهاهم عن ذلك، فنفوه بسبب النهي، أو من المخرجين بسبب غير هذا السبب، كأنهمن خالفهم في شيء نفوه، سواء كان الخلاف في هذا الفعل الخاص، أم في غيره. {قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ }:أي للفاحشة التي أنتم تعملونها. ولعملكم يتعلق إما بالقالين، وإن كان فيه أل، لأنه يسوغ في المجرورات والظروف ما لايسوغ في غيرها، لاتساع العرب في تقديمها، حيث لا يتقدم غيرها؛ وإما بمحذوف دل عليه القالين وكونه بغض القالين يدلعلى أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره هو بعضهم، ونبه ذلك على أن هذا الفعل موجب للبغض حتى يبغضه الناس.ومن القالين أبلغ من قال لما ذكرنا من أن الناس يبغضونه، ولتضمنه أنه معدود ممن يبغضه. ألا ترى إن قولك:زيد من العلماء، أبلغ من: زيد عالم، لأن في ذلك شهادة بأنه معدود في زمرتهم. وقال أبو عبد الله الرازي:القلى: البغض الشديد، كأنه بغض فقلي الفؤاد والكبد. انتهى. ولا يكون قلى بمعنى أبغض. وقلا من الطبخ؛ والشيء من مادّةواحدة لاختلاف التركيب. فمادة قلا من الشيّ من ذوات الواو، وتقول: قلوت اللحم فهو مقلو. ومادّة قلى من البغض منذوات الياء، قليت الرجل، فهو مقلي. قال الشاعر

:ولست بمقلـي الخـلال ولا قـال    

ولما توعدوه بالإخراج،أخبرهم ببغض عملهم، ثم دعا ربه فقال: {رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ }: أي من عقوبة ما يعملو من المعاصي.ويحتمل أن يكون دعاء لأهله بالعصمة من أن يقع واحد منهم في مثل فعل قومه. ودل دعاؤه بالتنجية لأهله علىأنهم كانوا مؤمنين. ولما كانت زوجته مندرجة في الأهل، وكان ظاهر دعائه دخولها في التنجية، وكانت كافرة استثنيت في قوله:{فَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِى ٱلْغَـٰبِرِينَ }، ودل قوله: عجوزاً، على أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيهإلى أن صارت عجوزاً. ومن الغابرين صفة، أي من الباقين من لذاتها وأهل بيتها، قاله أبو عبيدة. وقال قتادة: منالباقين في العذاب النازل بهم. وتقدّم القول في غبر، وأنه يستعمل بمعنى بقي، وهو المشهور، وبمعنى مضى. ونجاته عليه السلامأن أمره تعالى بالرّحلة ليلاً، وكانت امرأته كافرة تعين عليه قومه، فأصابها حجر، فهلكت فيمن هلك. قال قتادة: أمطر اللهعلى شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وقال قتادة: أتبع الائتفاك مطراً من الحجارة. وساء: بمعنى بئس، والمخصوص بالذم محذوف،أي مطرهم. وقال مقاتل: خسف الله بقوم لوط، وأرسل الحجارة إلى من كان خارجاً من القربة، ولم يكن فيها مؤمنإلا بيت لوط. {كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ لْـئَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ * فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً * خَـٰلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَدُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً * طسم * تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ* إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ ٱلسَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـٰقُهُمْ لَهَا خَـٰضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍإِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَـٰؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَافِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ}. قرأ الحرميان وابن عامر: ليكة هنا، وفي {ص } بغير لام ممنوع الصرف. وقرأ باقي السبعة الأيكة، بلامالتعريف. فأما قراءة الفتح، فقال أبو عبيد: وجدنا في بعض التفسيران: ليكة: اسم للقرية، والأيكة: البلاد كلها، كمكة وبكة، ورأيتهافي الإمام مصحف عثمان في الحجر و{ق }: الأيكة، وفي الشعراء و{ص }: ليكة، واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد علىذلك ولم تختلف. انتهى. وقد طعن في هذه القراءة المبرد وابن قتيبة والزجاج وأبو عليّ الفارسي والنحاس، وتبعهم الزمخشري؛ ووهمواالقراء وقالوا: حملهم على ذلك كون الذي كتب في هذين الموضعين على اللفظ في من نقل حركة الهمزة إلى اللاموأسقط الهمزة، فتوهم أن اللام من بنية الكلمة ففتح الياء، وكان الصواب أن يخيز، ثم مادّة ل ي ك لميوجد منها تركيب، فهي مادّة مهملة. كما أهملوا مادّة خ ذ ج منقوطاً، وهذه نزغة اعتزالية، يعتقدون أن بعض القراءةبالرأي لا بالرواية، وهذه قراءة متواترة لا يمكن الطعن فيها، ويقرب إنكارها من الردّة، والعياذ بالله. أما نافع، فقرأ علىسبعين من التابعين، وهم عرب فصحاء، ثم قراءة أهل المدينة قاطبة. وأما ابن كثير، فقرأ على سادة التابعين ممن كانبمكة، كمجاهد وغيره، وقد قرأ عليه إمام البصرة أبو عمرو بن العلاء، وسأله بعض العلماء: أقرأت على ابن كثير؟ قال:نعم، ختمت على ابن كثير بعدما ختمت على مجاهد، وكان ابن كثير أعلم من مجاهد باللغة. قال أبو عمرو: ولميكن بين القراءتين كبير يعني خلافاً. وأما ابن عامر فهو إمام أهل الشام، وهو عربي قح، قد سبق اللحن، أخذعن عثمان، وعن أبي الدرداء وغيرهما. فهذه أمصار ثلاثة اجتمعت على هذه القراءة الحرمان مكة والمدينة والشام، وأما كون هذهالمادّة مفقودة في لسان العرب، فإن صح ذلك كانت الكلمة عجمية، ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب،فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث. وتقدم مدلول الأيكة في الحجر، وكان شعيب عليه السلام منأهل مدين، فلذلك جاء:

{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَـٰهُمْ شُعَيْباً }

ولم يكن من أهل الأيكة، فلذلك قال هنا: {إِذْ قَالَلَهُمْ شُعَيْبٌ }. ومن غريب النقل ما روي عن ابن عباس، أن {كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ } هم أصحاب مدين، وعن غيره،أن {كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ } هم أهل البادية، وأصحاب مدين هم الحاضرة. وروي في الحديث: أن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة، أمرهم بإيفاء الكيل، وهو الواجب، ونهاهم عن الإخسار، وهو التطفيف، ولم يذكر الزيادة على الواجب، لأن النفوس قد تشح بذلك فمن فعله فقد أحسن، ومن تركه فلا حرج وتقدم تفسير القسطاس في سورة الإسراء. وقالالزمخشري: إن كان من القسط، وهو العدل، وجعلت الغين مكررة، فوزنه فعلاء، وإلا فهو رباعي. انتهى. ولو تكرر ما يماثلالعين في النطق، لم يكن عند البصريين إلا رباعياً. وقال ابن عطية: هو مبالغة من القسط. انتهى. والظاهر أن قوله:{وَزِنُواْ }، هو أمر بالوزن، إذ عادل قوله: {أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ }، فشمل ما يكال وما يوزن مما هو معتاد فيهذلك. وقال ابن عباس ومجاهد: معناه عدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله لعباده. {وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}: الجملة والتي تليها تقدم الكلام عليهما. ولما تقدم أمره عليه السلام إياهم بتقوى الله، أمرهم ثانياً بتقوى من أوجدهموأوجد من قبلهم، تنبيهاً على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم. وعطف عليهم {وَٱلْجِبِلَّةَ } إيذاناً بذلك، فكأنهقيل: يصيركم إلى ما صار إليه أولوكم، فاتقوا الله الذي تصيرون إليه. وقرأ الجمهور: والجبلة بكسر الجيم والباء وشد اللام.وقرأ أبو حصين، والأعمش، والحسن: بخلاف عنه، بضمها والشد للام. وقرأ السلمي: والجبلة، بكسر الجيم وسكون الباء، وفي نسخة عنه:فتح الجيم وسكون الباء، وهي من جبلوا على كذا، أي خلقوا. قيل: وتشديد اللام في القراءتين في بناءين للمبالغة. وعنابن عباس: الجبلة: عشرة آلاف. {وَمَا أَنتَ }: جاء هنا بالواو، وفي قصة هود: {مَا أَنتَ }، بغير واو. فقالالزمخشري: إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان، كلاهما مخالف للرسالة عندهم، التسخير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحراً،ولا يجوز أن يكون بشراً، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحراً، ثم قرر بكونه بشراً.انتهى. {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ }: إن هي المخففة من الثقيلة، واللام في لمن هي الفارقة، خلافاً للكوفيين، فإنعندهم نافية واللام بمعنى إلا، وتقدم الخلاف في نحو ذلك في قوله:

{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً }

في البقرة. ثمطلبوا منه إسقاط كسف، من السماء عليهم، وليس له ذلك، فالمعنى: إن كنت صادقاً، فادفع الذي أرسلك أن يسقط عليناكسفاً، أي قطعة، أو قطعاً على حسب التسكين والتحريك. وقال الزمخشري: وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وشذر. وقيل: الكسف والكسفة،كالريع والريعة، وهي القطعة وكسفة: قطعة، والسماء: السحاب أو المظلة. ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب. ولما طلبوامنه ما طلبوا، أحال علم ذلك إلى الله تعالى، وأنه هو العالم بأعمالكم، وبما تستوجبون عليها من العقاب، فهو يعاقبكمبما شاء. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ }، وهو نحو مما اقترحوا. ولم يذكر الله كيفية عذاب يوم الظلة،حتى أن ابن عباس قال: من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب، وذكر في حديثها تطويلات. فروى أنه حبسعنهم الريح سبعاً، فابتلوا بحرّ عظيم يأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهمسحابة وجدوا لها برداً ونسيماً، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم ناراً فأحرقتهم. وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص، تنبيهاً علىأن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ورفض ما سواه، وأنهم ورسول الله صلىالله عليه وسلم مشتركون في ذلك، وأن ما جاء به هو ما جاءت به الرسل قبله،وتلك عادة الأنبياء. قال ابن عطية: وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها، إذ كانالإيمان المدعو إليه معنى واحداً بعينه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرهاما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلىبحق، إلى أن تفتتح بمثل ما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بمثل ذلك مما اختتمت به، ولأن التكرير تقرير للمعانيفي النفوس، وتثبيت لها في الصدور، ولأن هذه القصص طرقت بهذا آذان، وقر عن الأنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره،فأوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير. {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَمِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ ٱلاْوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءبَنِى إِسْرٰءيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلاْعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِٱلْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاْلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ* أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْيُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ }. الضمير في: {وَأَنَّهُ }عائد على القرآن، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر، بل هو من عند الله، وكأنه عاد أيضاً إلى ما افتتحبه السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وحفص: {نَزَّلَ } مخففاً،و{ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ }: مرفوعان؛ وباقي السبعة: بالتشديد ونصبهما. والروح هنا: جبريل عليه السلام، وقد تقدم في سورة مريم لم أطلقعليه الروح، وبه قال ابن عطية: في موضع الحال كقوله:

{ وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ }

انتهى.والظاهر تعلق على {قَلْبِكَ } و{لِتَكُونَ } بنزل، وخص القلب والمعنى عليك، لأنه محل الوعي والتثبيت، وليعلم أن المنزل علىقلبه عليه السلام محفوظ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها، لأن ذلكأزجر للسامع، وإن كان القرآن نزل للإنذار والتبشير. والظاهر تعلق {بِلِسَانٍ } بنزل، فكان يسمع من جبريل حروفاً عربية. قالابن عطية، وهو القول الصحيح: وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه. ويمكن أن يتعلق بقوله:{لِتَكُونَ }، وتمسك بهذا من رأى النبي ، كان يسمع أحياناً مثل صلصلة الجرس، يتفهم له منهالقرآن، وهو مردود. انتهى. وقال الزمخشري: {بِلِسَانٍ }، إما أن يتعلق بالمنذرين، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان،وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد وعليهم؛ وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسانالعربي المبين لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي، لتجافوا عنه أصلاً وقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذاربه. وفي هذا الوجه، إن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك، تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك.ولو كان أعجمياً، لكان نازلاً على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكونالرجل عارفاً بعده لغات، فإذا كلم بلغتها التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معانيتلك الكلم يتلقاها بقلبه، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت. وإن كلم بغير تلك اللغة، وإن كان ماهراً بمعرفتها، كاننظره أولاً في ألفاظها، ثم في معانيها. فهذا تقرير أنه أنزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين. انتهى. وفيه تطويل.وإنه، أي القرآن، {لَفِى زُبُرِ ٱلاْوَّلِينَ }: أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة، منبه عليه مشار إليه. وقيل: إنمعانيه فيها، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية،حيث قيل: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ ٱلاْوَّلِينَ }، لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير عائد على رسول الله ،أي إن ذكره ورسالته في الكتب الإلهية المتقدمة يكون التفاتاً، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله: {عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ} إلى ضمير الغيبة، وكذلك قبل في أن يعلمه، أي أن يعلم محمداً ، وتناسق الضمائر لشيءواحد أوضح. وقرأ الأعمش: لفي زبر، بسكون الباء، والأصل الضم، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره،كون علماء بني إسرائيل يعلمونه، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم بني إسرائيل به؟ إذ كانت قريشترجع في كثير من الأمور النقلية إلى بني إسرائيل، ويسألونهم عنها ويقولون: هم أصحاب الكتب الإلهية. وقد تهود كثير منالعرب وتنصر كثير، لاعتقادهم في صحة دينهم. وذكر الثعلبي، عن ابن عباس، أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهمعن النبي ، فقالوا: هذا زمانه، ووصفوا نعته، وخلطوا في أمر محمد عليه السلام، فنزلت الآية فيذلك، ويؤيد هذا كون الآية مكية. وقال مقاتل: هي مدنية. {مَعِىَ بَنِى إِسْرٰءيلَ }: عبد الله بن سلام ونحوه،قاله ابن عباس ومجاهد، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه السلام،قال تعالى:

{ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّنَا }

الآية. وقيل: علماؤهم من أسلم منهمومن لم يسلم. وقيل: أنبياؤهم، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانة. وقرأ الجمهور:

{ أَوَ لَمْ يَكُن }

بالياءمن تحت، {ءايَةً }: بالنصب، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن، و{أَن يَعْلَمَهُ }: هو الاسم. وقرأ ابن عامر،والجحدري: تكن بالتاء من فوق، آية: بالرفع. قال الزمخشري: جعلت آية اسماً، وأن يعلمه خبراً، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماًوالمعرفة خبراً، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل: في تكن ضمير القصة، وآية أن يعلمه جملة واقعةالخبر، ويجوز على هذا أن يكون لهم آية جملة الشأن، وأن يعلمه بدلاً من آية. انتهى. وقرأ ابن عباس: تكنبالتاء من فوق، آية بالنصب، كقراءة من قرأ: ثم {لَمْ تَكُنْ }، بتاء التأنيث، {فِتْنَتُهُمْ } بالنصب،

{ إلا أن قالوا }

وكقول لبيد

: فمضى وقدمها وكانت عادة     منه إذا هي عردت أقدامها

ودل ذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر، وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة، وتأويل {إِلاَّ أَنقَالُواْ } بالمقالة، وتأويل الإقدام بالإقدامة. وقرأ الجحدري: أن تعلمه بتاء التأنيث، كما قال الشاعر

: قالت بنو عامر خالوا بني أسد     يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام

وكتب في المصحف: علموابواو بين الميم والألف. قيل: على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو، كما كتبوا الصلوة والزكوة والربوا على تلكاللغة. قال الزمخشري: الأعجمي الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة واستعجام، والأعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء بالنسبة زيادةتوكيد. وقال ابن عطية: الأعجمون جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح، وإن كان عربي النسب يقال له أعجم، وذلك يقالللحيوانات والجمادات، ومنه قول النبي : جرح العجماء جبار وأسند الطبري، عن عبد الله بنمطيع أنه قال، حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة: جملي هذا أعجم، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون والعجمي هو الذي نسبته في العجم، وإن كان أفصح الناس. انتهى. وفي التحرير: {ٱلاْعْجَمِينَ }: جمع أعجم على التخفيف،ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة. قيل: والمعنى ولو نزلناه بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه علىالعرب، لم يؤمنوا به، حيث لم يفهموه، واستنكفوا من اتباعه. وقيل: ولو نزلنا القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأهعليهم، لم يؤمنوا، لعنادهم لقوله تعالى:

{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ }

الآية، وجمع جمع السلامة، لأنه وصف بالإنزالعليه والقراءة، وهو فعل العقلاء. وقيل: ولو نزل على بعض البهائم، فقرأه عليهم محمد ، لم تؤمنالبهائم، كذلك هؤلاء لأنهم:

{ كَٱلاْنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }

انتهى. ولما بين بما تقدم، من أن هذاالقرآن في كتب الأولين، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوّة رسول الله صلىالله عليه وسلم، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل. ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي، وسمعوهوفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعراً وتارة سحراً؟ ولو نزل على بعضالأعاجم الذي لا يحسن العربية، لكفروا به وتمحلوا بجحوده. وقال الفراء: الأعجمين جمع أعجم وأعجمي، على حذف ياء النسب، كماقالوا: الأشعرين، وواحدهم أشعري. وقال ابن الجهم: قال الكميت

: ولو جهزت قافية شرودا     لقد دخلت بيوت الأشعرينا

انتهى. وقرأ الحسن، وابن مقسم: الأعجمين، بياء النسب: جمع أعجمي. والضميرفي {سَلَكْنَاهُ }، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر. قيل: وهو القرآن، وقاله الرماني. والمعنى: مثل ذلك السلك،وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه. {سَلَكْنَاهُ }: أدخلناه ومكناه في {قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ }. والمعنى: ما ترتب على ذلك السلك منكونهم فهموه وأدركوه، ولم يزدهم ذلك إلا عناداً وجحوداً وكفرا به، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفربه والتكديب له، كما وضعناه فيها. فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود، كما قال:

{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ }

الآية. وقال الكرماني: أدخلناه فيها، فعرفوا معانيه، وعجزهم عن الأتيان الإيمان بمثله،ولم يؤمنوا به. وقال يحيـى بن سلام: الضمير في سلكناه يعود على التكذيب، فذلك الذي منعهم من الإيمان. انتهى. ويقويهقوله: {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ }. وقال الحسن: الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله: {مَّا كَانُوا بِهِمُؤْمِنِينَ }. انتهى. وهو قريب من القول الذي قبله. وقال عكرمة: سلكناه، أي القسوة، وأسند السلك تعالى إليه، لأنه هوموجد الأشياء حقيقة، وهو الهادي وخالق الضلال. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت:أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكين وأثبته، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه. ألا ترى إلىقولهم: هو مجبول على الشح؟ يريدون تمكن الشح فيه، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند تركالإيمان به إليهم على عقبه، وهو قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ } به. انتهى. وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين، يقتضيتغاير من حل به. والمعنى: مثل ذلك السلك في قلوب قريش، سلكناه في قلوب من أجرم، لاشتراكهما في علة السلكوهو الإحرام. قال ابن عطية: أراد بهم مجرمي كل أمّة، أي إن هذه عادة الله فيهم، أنهم لا يؤمنون حتىيروا العذاب، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم، وهذا على جهة المثال لقريش، أي هؤلاء كذلك، وكشف الغيب بماتضمنته الآية يوم بدر. قال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } من قوله: {سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِٱلْمُجْرِمِينَ }؟ قلت: موقعه منه موقع الموضح والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم، فاتبع بما يقرر هذا المعنىمن أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد، ويجوز أن يكون حالاً، أي سلكناه فيها غير مؤمنبه. انتهى. ورؤيتهم العذاب، قيل: في الدنيا، وقيل: يوم القيامة. وقرأ الجمهور: {فَيَأْتِيَهُم }، بياء، أي العذاب. وقرأ الحسن، وعيسى:بتاء التأنيث، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة، أي فتأتيهم العقوبة يوم القيامة، كما قال: أتته كتابي، فلما سئل قال:أو ليس بصحيفة؟ قال الزمخشري: فتأتيهم بالتاء، يعني الساعة. وقال أبو الفضل الرازي: أنث العذاب لاشتماله على الساعة، فاكتسى منهاالتأنيث، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيباً بها، فلذلك أنث. ولا يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثاً إلا إن كانمضافاً إليه نحو: اجتمعت أهل اليمامة، وقطعت بعض أصابعه، وشرقت صدر القناة، وليس كذلك. وقرأ الحسن: بغتة، بفتح الغين، فتأتيهمبالتاء من فوق، يعني الساعة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله: {فَتَأْتِيَهُمْ * بَغْتَةً } قلت:ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآنحتى تكون رؤيتهم العذاب مما هو أشد منها، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه، وهو سؤالهم النظرة. ومثلذلك أن تقول: إن أسأت مقتك الصالحون، فمتقك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقتالصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين. فما هو أشد منمقتهم؟ وهو مقت الله. ويرى، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب، فيحل موقعه. انتهى. {فَيَقُولُواْ }، أي كل أمّة معذبة:{هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ }: أي مؤخرون، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة. ثم رجع لفظ الآيةإلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفاً وغير ذلك، وقولهم للرسول: أين ما تعدنا به؟وقال الزمخشري: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ }، تبكيت لهم بإنكاره وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب فيه منجنس، ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال؟ طرفة عين فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ، يوبخونبه عند استنظارهم يومئذ، ويستعجلون هذا على الوجه، حكاية حال ماضية ووجه آخر متصل بما بعده، وذلك أن استعجالهم بالعذابإما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن. فقال عز وعلا: {أَفَبِعَذَابِنَايَسْتَعْجِلُونَ }؟ أشر أو بطر أو استهزاء واتكالاً على الأمل الطويل؟ ثم قال: وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهموتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك، ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم؟ انتهى. وقيل: اتبع قوله:فتأتيهم بغتة بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة. {فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ }، كما يستغيث إليه المرء عندتعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجاً، لكنهم يقولون ذلك استرواحاً. وقيل: يطلبون الرجعة حين يبغتهم عذاب الساعة،فلا يجابون إليها. {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ }: خطاب للرسول عليه السلام بإقامة الحجة عليهم، في أن مدة الإرجاءوالإمهال والإملاء لا تغني إذا نزل العذاب بعدها. وقال عكرمة: سنين، عمر الدنيا. انتهى. وتقرر في علم العربية أن أرأيتإذا كانت بمعنى أخبرني، تعدت إلى مفعولين، أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية. في الغالب تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في أوائل سورة الأنعام. وتقول هنا مفعول أرأيتمحذوف، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم. ويجوز أن يكون منصوباً بأرأيت على إعمالالأول، وأضمر الفاعل في جاءهم. والمفعول الثاني هو قوله: {مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ }، وما استفهامية، أي: أيّ شيء أغنى عنهمتمتعهم في تلك السنين التي متعوها؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول، أي: أيّ شيء أغنى عنهمتمتعهم حين حل، أي الموعود به، وهو العذاب؟ وظاهر ما فسر به المفسرون ما أغنى: أن تكون ما نافية، والاستفهامقد يأتي مضمناً معنى النفي كقوله:

{ هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ * ٱلْفَـٰسِقُونَ }

بعد قوله:

{ أَرَأَيْتُكُم }

فيسورة الأنعام، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون. وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاماً وننافية. وقرىء: يمتعون، بإسكانالميم وتخفيف التاء. ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذابالله، إن هي عصت ولم تؤمن، كما قال تعالى:

{ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }

وجمع منذرون، لأن{مِن قَرْيَةٍ } عام في القرى الظالمة، كأنه قيل: وما أهلكنا القرى الظالمة. والجملة من قوله: {لَهَا مُنذِرُونَ }، فيموضع الحال {مِن قَرْيَةٍ }، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائناً لها منذرون، فيكونمن مجيء الحال مفرداً لا جملة، ومجيء الحال من المنفي كقولك: ما مررت بأحد إلا قائماً، فصيح. وقال الزمخشري: فإنقلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنها في قوله:

{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَـٰبٌ مَّعْلُومٌ }

قلت: الأصل عزل الواو، لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله:

{ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ }

انتهى. ولو قدر نالها منذرون جملة، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا. ومذهب الجمهور،أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو: ما جاءني أحد إلا راكب. وإذا سمع مثل هذا،خرجوه على البدل، أي: إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول: ما مررت بأحد إلا قائماً،ولا يحفظ من كلامها: ما مررت بأحد إلا قائم. فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة، لو رد المفرد بعدإلا صفة لها. فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة، جاءت الصفة بعد إلا نحو: ما جاءني أحد إلا زيدخير من عمرو، التقدير: ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد. وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف،فغير معهود في كلام النحويين. لو قلت: جاءني رجل وعاقل، على أن يكون وعاقل صفة لرجل، لم يجز، وإنما تدخلالواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض، وتغاير مدلولها نحو: {*مررت} بزيد الكريم والشجاع والشاعر. وأما {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْكَلْبُهُمْ } فتقدم الكلام عليه في موضعه. {وَذِكْرَىٰ }: منصوب على الحال عند الكسائي، وعلى المصدر عند الزجاج. فعلىالحال، إما أن يقدر ذوي ذكرى، أو مذكرين. وعلى المصدر، فالعامل منذرون، لأنه في معنى مذكرون ذكرى، أي تذكرة. وأجازالزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولاً له، قال: على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنىمنذرون ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. وأجاز هو وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبرمبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية. قال الزمخشري: ووجه آخر، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له، والمعنى:وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم.{وَمَا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ }، فنهلك قوماً غير ظالمين، وهذا الوجه عليه المعول. انتهى. وهذا لا معوّل عليه، لأن مذهب الجمهورأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً له غير معتمدعلى الأداة نحو: ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو. والمفعول له ليس واحداً من هذه الثلاثة، فلا يجوزأن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته. {وَمَاتَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَـٰطِينُ * وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ * فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاًءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاْقْرَبِينَ * وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّىبَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * هَلْ أُنَبّئُكُمْ * مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـٰذِبُونَ* وَٱلشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }.كان مشركو قريش يقولون: إن لمحمد تابعاً من الجن يخبره كما يخبر الكهنة، فنزلت، والضمير في {بِهِ } يعود علىالقرآن، بل {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ }. وقرأ الحسن: الشياطون، وتقدمت في البقرة، وقد ردها أبو حاتم والقراء؛ قال أبوحاتم: هي غلط منه أو عليه. وقال النحاس: هو غلط عند جميع النحويين. وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية.وقال الفراء: غلط الشيخ، ظن أنها النون التي على هجائن. فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاجورؤية، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه، يريد محمد بن السميفع، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها إلاوقد سمعا فيه؟ وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابياً يقول: دخلت بساتين من ورائها بساتون، فقلت: ما أشبه هذا بقراءةالحسن. انتهى. ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين، فكما أجرى إعراب هذا على النون تارة وعلىما قبله تارة فقالوا: يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون؛ أجرى ذلك في الشياطين تشبيهاً به فقالوا: الشياطين والشياطون. وقال أبو فيدمؤرج السدوسي: إن كان اشتقاقه من شاط، أي احترق، يشيط شوطة، كان لقراء تهما وجه. قيل: ووجهها أن بناء المبالغةمنه شياط، وجمعه الشياطون، فخففا الياء، وقد روي عنهما التشديد، وقرأ به غيرهما. انتهى. وقرأ الأعمش: الشياطون، كما قرأه الحسنوابن السميفع. فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن، قرؤوا ذلك، ولا يمكن أن يقال غلطوا، لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان.وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل؛ نفى أولاً تنزيل الشياطين به، والنفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كانهنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له،ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفيالقدرة والاستطاعة، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب.ثم قال تعالى: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ }: والخطاب في الحقيقة للسامع، لأنه تعالى قد علم أنذلك لا يمكن أن يكون من الرسول ، ولذلك قال المفسرون: المعنى قل يا محمد لمن كفر:لا تدع مع الله إلهاً آخر. ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة، ونبه على العشيرة، وإنكان مأموراً بإنذار الناس كافة. كما قال:

{ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ }

لأن في إندارهم، وهم عشيرته، عدم محاباة ولطفبهم، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار. فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسانفي حقهم من الرأفة، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده، كماقال:

{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ ٱلْكُفَّارِ }

وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة: كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين، فأول ما أضعه ربا العباس، إذ العشيرة مظنة الطواعية، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم، وهم له أشد احتمالاً وامتثل ما أمره به ربه من إنذار عشيرته، فنادىالأقرب فالأقرب فخذاً. وروي عنه في ذلك أحاديث. {وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }: تقدم الكلام على هذه الجملفي آخر الحجر، وهو كناية عن التواضع. وقال بعض الشعراء

: وأنت الشهير بخفض الجناح     فلا تك في رفعه أجدلا

نهاه عن التكبر بعد التواضع. والأجدل: الصقر، ومنالمؤمنين عام في عشيرته وغيرهم. ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان، جاء التقسيم عليهما، فكان المعنى: أنمن اتبعك مؤمناً، فتواضع له؛ فلذلك جاء قسيمه: {فَإِنْ عَصَوْكَ } فتبرأ منهم ومن أعمالهم. وفي هذا موادعة نسختها آيةالسيف. والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك، على أن من أمر بإنذارهم، وهم العشيرة، والذي برىء منه هو عبادتهم الأصنامواتخاذهم إلهاً آخر. وقيل: الضمير يعود على من اتبعه من المؤمنين، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام،بعد تصديقك والإيمان بك، {فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ }، لا منكم، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم. ولوأمره بالبراءة منهم، ما بقي بعد هذا شفيعاً للعصاة، ثم أمره تعالى بالتوكل. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، وشيبة:فتوكل بالفاء، وباقي السبعة: بالواو. وناسب الوصف بالعزيز، وهو الذي لا يغالب، والرحيم، وهو الذي يرحمك. وهاتان الصفتان هما اللتانجاءتا في أواخر قصص هذه السورة. فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافية شر من بعضه من هؤلاء وغيرهم، فهويقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته. والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه. ثم وصف بأنه الذيأنت منه بمرأى، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته، وما تفعله من تهجدك. وأكثر المفسرين منهم ابن عباس، علىأن المعنى حين تقوم إلى الصلاة. وقرأ الجمهور: {وَتَقَلُّبَكَ } مضارع قلب مشدداً، عطفاً على {يَرَاكَ }. وقالمجاهد وقتادة: {فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ }: في المصلين. وقال ابن عباس: في أصلاب آدم ونوح وإبراهيم حتى خرجت. وقال عكرمة: يراكقائماً وساجداً. وقيل: معنى {تَقُومُ }: تخلو بنفسك. وعن مجاهد أيضاً: المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، كما قال: أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي وفي الوجيز لابن عطية: ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة، ويحتملأن يريد سائر التصرفات، وهو تأويل مجاهد وقتادة. وفي الساجدين: أي صلاتك مع المصلين، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما. وقالابن عباس أيضاً، وقتادة: أراد وتقلبك في المؤمنين، فعبر عنهم بالساجدين. وقال ابن جبير: أراد الأنبياء، أي تقلبك كما تقلبغيرك من الأنبياء. وقال الزمخشري: ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدينمن أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم. كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيامالليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات،فوجدها كبيوت الزنابير، لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بالساجدين: المصلون. وقيل: معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناسجماعة، وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل، أنه سأل أبا حنيفة رضيالله عنه: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية. ويحتمل أن لا يخفى على حالك كلما قمتوتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين. انتهى. {إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لما تقوله، {ٱلْعَلِيمُ } بما تنوبه وتعمله،وذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي كانوا مؤمنين، واستدلوا بقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ } قالوا:فاحتمل الوجوه التي ذكرت، واحتمل أن يكون المراد أنه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد، كما نقوله نحن. فإذااحتمل كل هذه الوجوه، وجب حمل الآية على الكل ضرورة، لأنه لا منافاة ولا رجحان. وبقوله عليه الصلاة والسلام: لم أزل أنقل من أصلال الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } فأما قوله تعالى:

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ }

فلفظ الأب قد يطلق على العم، كما قالواأبناء يعقوب له:

{ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ }

سموا إسماعيل أباً مع أنه كان عماً له.{قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ }: أي قل يا محمد: هل أخبركم؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير. وعلى من متعلق بتنزل، والجملةالمتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم، لأنه معلق، لأنه بمعنى أعلمكم، فإن قدرتها متعدية لاثنين، كانت سادة مسد المفعولالثاني؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة، كانت سادة مسد الاثنين. والاستفهام إذا علق عنه العامل، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهوالاستعلام، بل يؤول معناه إلى الخبر. ألا ترى أن قولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو، كان المعنى: علمت أحدهمافي الدار؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو، فالمعنىهنا: هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه؟ لا أنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه. ولما كانالمعنى هذا، جاء الإخبار بعده بقوله: {تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }، كأنه لما قال: هل أخبركم بكذا؟ قيل له:أخبر، فقال: {تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلّ أَفَّاكٍ }، وهو الكثير الإفك، وهو الكذب، أثيم: كثير الإثم. فأفاك أثيم: صيغتا مبالغة، والمرادالكهنة. والضمير في {يُلْقُون } يحتمل أن يعود إلى الشياطين، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم، ليسترقوا شيئاً مما يتكلم به الملائكة،حتى ينزلوا بها إلى الكهنة، أو: {يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ }: أي المسموع إلى من يتنزلون عليه. {وَأَكْثَرُهُمُ }: أي وأكثرالشياطين الملقين {كَـٰذِبُونَ }. فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف، واحتمل أن يكونحالاً من الشياطين، أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا. ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كلأفاك أثيم، وجمع الضمير، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد. واحتمل أن يكون المعنى: يلقون سمعهم إلى الشياطين، لينقلواعنهم ما يقررونه في أسماعهم، وأن يكون يلقون السمع، أي المسموع من الشياطين إلى الناس؛ وأكثرهم، أي أكثر الكهنة كاذبون.كما جاء أنهم يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء، فيخلطون معها مائة كذبة. فإذا صدقت تلك الكلمة،كانت سبب ضلالة لمن سمعها. وعلى كون الضمير عائداً على كل أفاك، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين،واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك، ولا تعارض بين قوله: {كُلّ أَفَّاكٍ }، وبين قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَـٰذِبُونَ }، لأن الأفاكهو الذي يكثر الكذب، ولا يدل ذلك على أنه لا ينطق إلا بالإفك، فالمعنى: أن الأفاكين من صدق منهم فيمايحكى عن الجني، فأكثرهم مغتر. قال الزمخشري: فإن قلت: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَـٰطِينُ *هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ }، لم فرق بينهن وبين إخوان؟ قلت: أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن،ليرجع إلى المجيء بهن، بطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه منالمعاني التي أسندت كراهة الله لهم، ومثاله: أن يحدث الرجل بحديث، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيدذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه. انتهى. ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم المقتضية، نفى كلام القرآن، إذ كان بعضالكفار قال في القرآن: إنه شعر، كما قالوا في الرسول: إنه كاهن، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة،كما قال تعالى:

{ وَمَا هُوَ * يِقُولُ * كَاهِنٍ }

وقال:

{ وما هو بقول شاعر }

فقال: {والشعراء يتبعهم الغاوون}. قيل: هي في أمية بن أبي الصلت، وأبي عزة، ومسافع الجمحي، وهبيرة بن أبي وهب، وأبيسفيان بن الحرث، وابن الزبعري. وقد أسلم ابن الزبعري وأبو سفيان. والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر، والمذموم من يهجوويمدح شهوة محرمة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعاً. وقرأ عيسى: والشعراء: نصباً على الاشتغال؛ والجمهور: رفعاً علىالابتداء والخبر. وقرأ السلمي، والحسن بخلاف عنه، ونافع يتبعهم مخففاً؛ وباقي السبعة مشدداً؛ وسكن العين: الحسن، وعبد الوارث، عن أبيعمرو. وروى هارون: نصبها عن بعضهم، وهو مشكل. {وَٱلْغَاوُونَ }، قال ابن عباس: الرواة، وقال أيضاً: المستحسنون لأشعارهم، المصاحبون لهم.وقال عكرمة: الرعاع الذين يتبعون الشاعر. وقال مجاهد، وقتادة: الشياطين. وقال عطية: السفهاء المشركون يتبعون شعراءهم. {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْفِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ }: تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق، ومجاوزة حدالقصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشجهم علي حاتم، ويبهتوا البريء، ويفسقوا النفي. وقال ابن عباس: هو تقبيحهمالحسن، وتحسينهم القبيح. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ }، وذلك لغلوهم في أفانين الكلام، ولهجهم بالفصاحة والمعاني اللطيفة، قد ينسبونلأنفسهم ما لا يقع منهم. وقد درأ الحد في الخمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النعمان بن عدي،في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه بهذه الآية، وكان قد ولاه بيسان، فعزله وأراد أن يحده والفرزدق، سليمان بنعبد الملك

: فبتن كأنهن مصرعات     وبت أفض أغلاق الختام

فقال له سليمان: لقد وجب عليك الحد، فقال: لقد درأ الله عني الجدّ بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَالاَ يَفْعَلُونَ }. أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حالا النبوة، إذ أمرهم، كما ذكر، من اتباع الغواة لهم،وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وذلك بخلاف حال النبوة، فإنها طريقة واحدة،لا يتبعها إلا الراشدون. ودعوة الأنبياء واحدة، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته، والترغيب في الآخرة والصدق. وهذا مع أنما جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من ظهور المعجز. ولما كان ما سبق ذماً للشعراء، واستثنى منهممن اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر؛ وإذا نظموا شعراً كان فيتوحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله وصحبه، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم، وكل ما يسوغالقول فيه شرعاً فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة. والشعر باب من الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح. وقالرجل علوي لعمرو بن عبيد: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: ما يمنعك منه فيما لا بأس به. وقيل: المراد بالمستثنين:حسان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، ومن كان ينافخ عن رسول الله صلى الله عليهوسلم، وقال عليه السلام لكعب بن مالك: اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل وقال لحسان: قل وروح القدس معك وهذا معنى قوله: {وَٱنتَصَرُواْ }: أي بالقول فيمن ظلمهم. وقال عطاء بن يسار وغيره:لما ذم الشعراء بقوله: {وَٱلشُّعَرَاء } الآية، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك، وذكروا ذلك للرسول عليهالصلاة والسلام، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة، وخص ابن زيد قوله: {وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً }، فقال: أي في شعرهم. وقال ابنعباس: صار خلقاً لهم وعادة، كما قال لبيد، حين طلب منه شعرة: إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيراً منه. ولماذكر: {وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ }، توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد وأبهم في قوله: {أَىَّ مُنقَلَبٍيَنقَلِبُونَ }. ولما عهد أبو بكر لعمر رضي الله عنهما، تلا عليه: {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }،وكان السلف الصالح يتواعظون بها. والمفهوم من الشريعة أن الذين ظلموا هم الكفار. وقال الزمخشري: وتفسير الظلم بالكفر تعليل، وكانذكر قبل أن الذين ظلموا مطلق، وهذا منه على طريق الاعتزال. وقرأ ابن عباس، وابن أرقم، عن الحسن: أي منفلتينفلتون، بفاء وتاءين، معناه: إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوهالانفلات، وهو النجاة. {وَسَيَعْلَمْ } هنا معلقة، وأي منقلب: استفهام، والناصب له ينقلبون، وهو مصدر. والجملة في موضع المفعول لسيعلم.وقال أبو البقاء: أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف، والعامل ينقلبون انقلاباً، أي منقلب، ولا يعمل فيه يعلم، لأن الاستفهاملا يعمل فيه ما قبله. انتهى. وهذا تخليط، لأن أياً، إذا وصف بها، لم تكن استفهاماً، بل أي الموصوف بهاقسم لأي المستفهم بها، لا قسم. برأسه فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة، ووصفاً على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو: مررتبأي معجب لك، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو: يا أيها الرجل. والأخفش يزعم أن التي فيالنداء موصولة. ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه، والصفة تقع حالاً من المعرفة، فهذه أقسام أي؛ فإذا قلت: قد علمت أيضرب تضرب، فهي استفهامية، لا صفة لمصدر محذوف.