انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الزمر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينِ } * { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } * { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } * { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } * { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } * { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلأَلْبَابِ } * { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } * { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } * { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } * { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } * { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } * { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } * { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } * { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ } * { ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُو ٱلأَلْبَابِ } * { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ } * { لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ } * { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } * { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } * { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } * { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } * { فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } * { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } * { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }

[عدل]

التكوير: اللف واللي، يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها. خوله النعمة: أي أعطاهابتداء من غير مجازاة، ولا يقال في الجراء خول. قال زهير:

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا     ويروى يستخيلوا المال يخيلوا

وقال أبو النجم:

أعطى فلم يبخل ولم يبخل     كوم الذرى من خول المخول

هاج الزرع: ثار من منابته، وقيل: يبس. الحطام: الفتات بعد يبسه. القشعريرة: تقبض الجلد، يقال: اقشعر جلدهمن الخوف: وقف شعره، وهو مثل في شدة الخوف. الشكاسة: سوء الخلق وعسره. {تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدّينِ * أَلاَ لِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِأَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ }. هذه السورة مكية، وعن ابن عباس:إلا {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }، و{قُلْ يٰأَهْلَ * عِبَادِى * ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ }. وعن مقاتل: إلا {قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَأَسْرَفُواْ }، وقوله: {قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ }. وعن بعض السلف: إلا{قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ }، إلى قوله: {تَشْعُرُونَ }، ثلاث آيات. وعن بعضهم: إلا سبع آيات، من قوله: {قُلْ يٰعِبَادِىَٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ }. ومناسبتها لآخر ما قلبها أنه ختم السورة المتقدمة بقوله:

{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَـٰلَمِينَ }

، وبدأ هنا:{تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }. وقال الفراء والزجاج: {تَنزِيلَ } مبتدأ، و{مِنَ ٱللَّهِ } الخبر، أو خبر مبتدأمحذوف، أي هذا تنزيل، ومن الله متعلق بتنزيل؛ وأقول إنه خبر، والمبتدأ هو ليعود على قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌلِّلْعَـٰلَمِينَ }، كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو فقيل: هو تنزيل الكتاب. وقال الزمخشري: أو غير صلة، يعني من الله،كقولك: هذا الكتاب من فلان إلى فلان، وهو على هذا خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيلالكتاب. هذا من الله، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة. انتهى. ولا يجوز أن يكون حالاً عمل فيهامعنى الإشارة، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفاً، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله فيبيت الفرزذق:

وإذ مـا مثـلهم بشـر    

أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر، أي وأن ما في الوجود في حالمماثلتهم بشر. والكتاب يظهر أنه القرآن، وكرر في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } على جهة التفخيم والتعظيم، وكونه فيجملة غير السابقة ملحوظاً فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق. وقرأ ابن أبي عبلةوزيد بن علي وعيسى: تنزيل بالنصب، أي اقرأ والزم. وقال ابن عطية: قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن، ويظهرلي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب، وكأنه أخبر إخباراً مجرداً أن الكتاب الهادية الشارعةإنما تنزيلها من الله، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ }، والعزيز في قدرته، الحكيم فيابتداعه. والكتاب الثاني هو القرآن، لا يحتمل غير ذلك. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجهالأول أنه القرآن، وعلى الثاني أنه السورة. انتهى. وبالحق في موضع الحال، أي ملتبساً بالحق، وهو الصدق الثابت فيما أودعناهمن إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل، به أو يكون بالحق: بالدليل على أنهمن عند الله، وهو عجز الفصحاء عن معارضته. وقال ابن عطية: أي متضمناً الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره، أوبمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله. انتهى ملخصاً. ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتابعليه بالحق، وكان الحق إخلاص العبادة لله، أمره تعالى بعبادته فقال: {فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ }، وكأن هذا الأمر ناشىء عن إنزالالكتاب، فالفاء فيه للربط، كما تقول: أحسن إليك زيد فاشكره. {مُخْلِصاً }: أي ممحضاً، {لَّهُ ٱلدّينِ }: من الشرك والرياءوسائر ما يفسده. وقرأ الجمهور: الدين بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع فاعلاً بمخلصاً، والراجع لذي الحال محذوف على رأيالبصريين، أي الدين منك، أو يكون أل عوضاً من الضمير، أي دينك. وقال الزمخشري: وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاًبفتح اللام، كقوله تعالى:

{ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ }

، حتى يطابق قوله: {أَلاَ لِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ }، والخالص والمخلص واحد، إلاأن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي، كقولهم: شعر شاعر. وأما من جعل مخلصاً حالاً من العابد، وله الدينمبتدأ وخبر، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين، أي لله الدين الخالص. انتهى. وقد قدمنا تخريجهعلى أنه فاعل بمخلصاً، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء. {أَلاَلِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ }: أي من كل شائبة وكدر، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة، لاطلاعه على الغيوب والأسرار،ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم. قال الحسن: الدين الخالص: الإسلام؛ وقال قتادة: شهادة أن لا إلهإلا الله. {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ }: مبتدأ، والظاهر أنهم المشركون، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكى به قوله: {مَانَعْبُدُهُمْ }، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا: ما نعبد تلك الأولياء {إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }،واحتمل أن يكون الخبر: {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ }، وذلك القول المحذوف في موضع الحال، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم.وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ }، وقالوا: المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين، فلا يكون له موضعمن الإعراب، وكأنه من بدل الاشتمال. وفي مصحف عبد الله: قالوا ما نعبدهم، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابنجبير، وأجاز الزمخشري أن يكون {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } بمعنى المتخذين، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم، والضمير في اتخذوا عائدعلى الموصول محذوف تقديره: والذين اتخذهم المشركون أولياء، وأولياء مفعول ثان، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر، وهذه المقالة شائعة فيالعرب، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان. قال مجاهد: وقد قال ذلك قوم من اليهود فيعزيز، وقوم من النصارى في المسيح. وقرىء: ما نعبدهم بضم النون، اتباعاً لحركة الباء. {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ }:اقتصر في الرد على مجرد التهديد، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكةوعيسى عليه السلام الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون الله، يعذبهم بها، حيث يجعلهم وإياهاحصب جهنم. واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين لله. وقيل: الضمير في بينهم عائدعلى المشركين والمؤمنين، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى }، والحكم إذذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين. {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـٰذِبٌ كَـفَّارٌ }: كاذب في دعواهأن لله شريكاً، كفار لأنعم الله حيث، جعل مكان الشكر الكفر، والمعنى: لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفرفهو عام، والمعنى على الخصوص: فكم قد هدى من سبق منه الكذب والكفر. قال ابن عطية: لا يهدي الكاذب الكافرفي حال كذبه وكفره. وقال الزمخشري: المراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علمالله من الهالكين. انتهى، وهو على طريق الاعتزال. وقرأ أنس بن مالك، والجحدري، والحسن، والأعرج، وابن يعمر: كذاب كفار. وقرأزيد بن علي: كذوب وكفور. ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله، وعبدوها عقبه بقوله: {لَّوْأَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً }، تشريفاً له وتبنياً، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف، {لاَّصْطَفَىٰ}: أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله:

{ وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً }

، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني، والاصطفاء قوله: {مِمَّايَخْلُقُ }: أي من التي أنشأها واخترعها؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً فقال: {سُبْحَـٰنَهُ }، ثم وصف نفسه بالوحدانيةوالقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع، ولم يصح لكونه محالاً، ولم يتأت إلا أن يصطفىمن خلقه بعضهم، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتمأنهم أولاده جهلاً منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد، لم يزد على مافعل من اصطفاء ما شاء من خلقه، وهم الملائكة، فليس مفهوماً من قوله: {لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰمِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء }. ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر، ذكر ما دل على ذلك مناختراع العالم العلوي والسفلي بالحق، وتكوير الليل والنهار، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد، واتساق أمرهما على ما أراد إلىأجل مسمى، وهو يوم القيامة، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة، أووقت قوايسها كل شهر. والتكوير: تطويل منهما على الآخر، فكأنه الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس: يحمل الليلعلى النهار. وقال الضحاك: يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة: يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري:وفيه أوجه: منها أن الليل والنهار خلفة، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كمايلف على اللابس اللباس؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهرلف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامةبعضها على أثر بعض. انتهى. {أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ }: العزيز الذي لا يغالب، الغفار لمن تاب، أو الحليم الذيلا يعجل، سمى الحلم غفراناً مجازاً. ولما ذكر ما دل على واحدانيته وقهره، ذكر الإنسان، وهو الذي كلف بأعباءالتكاليف، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم،فقد صار خلقاً من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء،فعلى هذا كان خلقاً من آدم بغير واسطة. وجاءت على هذا القول على وضعها، ثم للمهلة في الزمان، وعلى القولالأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل: ثم كان من أمرهقبل ذلك أن جعل منها زوجها، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل: ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة، أيمن نفس وحدت، أي انفردت. {ثُمَّ جَعَلَ }، قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَازَوْجَهَا }، وما تعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها، دالاً على وحدانيته وقدرته. تشعبهذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربهاالعادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآيةالأولى، للدلالة على مباينتها فضلاً ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة،لا من التراخي في الوجود. انتهى. وأما {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أولسورة النساء، ووصف الأنعام بالإنزال مجازاً ما، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكونوأما لعيشها بالنبات والنبات ناشىء عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها، فيكون مثل قول الشاعر:

أسنمة الا بال في ربابه    

أي: في سحابه، وقال آخر:

صار الثريد في رؤوس العيدان    

وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها، فعلىهذا يكون إنزال أصولها حقيقة. والأنعام: الإبل والبقر والضأن والمعز، {ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ }، لأن كلاً منها ذكر وأنثى، والزوج ماكان معه آخر من جنسه، فاذا انفرد فهو فرد ووتر. وقال تعالى:

{ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلاْنثَىٰ }

. قالابن زيد: {خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ }: آخر من ظهر آدم وظهور الآباء. وقال عكرمة ومجاهد والسدي: رتبا {خَلْقاً مّنبَعْدِ خَلْقٍ } على المضغة والعلقة وغير ذلك. وأخذه الزمخشري فقال: حيواناً سوياً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعدعظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. انتهى. وقرأ عيسى وطلحة: يخلقكم، بإدغام القاف في الكاف،والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن. {ذٰلِكُمْ }: إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السمواتوما بعد ذلك من الأفعال. {فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ }: أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ {إِن تَكْفُرُواْ }،قال ابن عباس: خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وعباده: هم المؤمنون، ويؤيده قوله قبله: {فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ}، وهذا للكفار، فجاء {إِن تَكْفُرُواْ } خطاباً لهم، {فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ }، وعن عبادتكم، إذ لا يرجع إليهتعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مخاطباً لجميع الناس، لأنه تعالىغني عن جميعهم، وهم فقراء إليه. انتهى. ولفظ عباده عام، فقيل: المراد الخصوص، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن. والرضا بمعنىالإرادة، فعلى هذا صفة ذات. وقيل: المراد العموم، كما دل عليه اللفظ، والرضا مغاير للإرادة، عبر به عن الشكر والإثابة،أي لا يشكره لهم ديناً ولا يثيبهم به خيراً، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والأثابة. قال ابن عطية:وتأمل الإرادة، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع، واعتبر هذا فيآيات القرآن تجده، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا. وقال الزمخشري: ولقد تمحلبعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: هذا من العام الذى أريد به الخاص،وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله:

{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ }

، يريد المعصومين لقوله:

{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ }

، تعالى الله عما يقول الظالمون. انتهى. فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنةبعض الغواة، وأطلق عليهم اسم الظالمين، وذلك من سفهه وجرأته، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه:

ويشتم أعلام الأئمة ضلة     ولا سيما إن أو لجوه المضايقا

{وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ }، قالابن عباس: يضاعف لكم، وكأنه يريد ثواب الشكر؛ وقيل: يقبله منكم. قال صاحب التحرير: قوة الكلام تدل على أن معنىتشكروا: تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر، والله تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكراً في قوله:

{ ٱعْمَلُواْ ءالَ * دَاوُودُ * شَـٰكِراً }

. انتهى. وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ. وقرأ النحويان، وابن كثير: يرضه بوصل ضمة الهاء بواو؛وابن عامر وحفص: بضمة فقط؛ وأبو بكر: بسكون الهاء، قال أبو حاتم: وهو غلط لا يجوز. انتهى. وليس بغلط، بلذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل. وقوله: {وَلاَ تَزِرُ } إلى: {بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }، تقدم الكلام عليه. {وَإِذَا مَسَّٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِأَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماًيَحْذَرُ ٱلاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ * رَحْمَتِهِ * رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلاْلْبَـٰبِ *قُلْ يٰأَهْلَ * عِبَادِ * ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّىٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر، وقيل: معين، كعتبة بن ربيعة. ويدخل في الضرجميع المكاره في جسم أو أهل أو مال. {دَعَا رَبَّهُ }: استجار ربه وناداه، ولم يؤمل في كشف الضر سواه،{مُنِيباً إِلَيْهِ }: أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ }: أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضرعنه. وحقيقة خوله أن يكون من قولهم: هو خائله، قال: إذا كان متعهداً حسن القيام عليه، أو من خال يخول،إذا إختال وافتخر، وتقول العرب:

إن الغنـي طويـل الذيـل ميـاس    

{نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو }: أي ترك، والظاهر أن مابمعنى الذي، أي نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: ما بمعنى من، أي نسي ربه الذي كانيتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره. وقيل: ما مصدرية، أي نسي كونه يدعو. وقيل: تم الكلام عند قوله: {نَسِىَ }،أي نسي ما كان فيه من الضر. وما نافية، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله مقصوراً من قبلالضرر، وعلى الأقوال السابقة. {مِن قَبْلُ }: أي من قبل تخويل النعمة، وهو زمان الضرر. {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً }: أيأمثالاً يضاد بعضها بعضاً ويعارض. قال قتادة: أي من الرجال يطيعونهم في المعصية. وقال غيره: أوثاناً، وهذا من سخف عقولهم.حين مسى الضر دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به، فاللام لامالعلة، وقيل: لام العاقبة. وقرأ الجمهور: {لِيُضِلَّ }، بضم الياء: أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل. وقرأابن كثير، وأبو عمر، وعيسى: بفتحها، ثم أتى بصيغة الأمر فقال: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً }: أي تلذذوا صنع ما شئتقليلاً، أي عمراً قليلاً، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله. {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ }: أي من سكانها المخلدين فيها. وقالالزمخشري: وقوله {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ }، أي من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبل ما أمرت بهمن الإيمان والطاعة، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك. ويؤمر بتركه مبالغة خذلانه وتخليته وشأنه، لأنه لا مبالغةفي الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به، ونظيره في المعنى:

{ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }

.انتهى. ولما شرح تعالى شيئاً من أحوال الظالمين الضالين المشركين، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والأعمش، وعيسى، وشيبة، والحسن في رواية: أمن، بتخفيف الميم. والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير،ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ }؟ ويدل عليه قوله: {قُلْهَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }. ومن حذف المقائل قول الشاعر:

دعاني إليها القلب إني لأمرها     سميع فما أدري أرشد طلابها

تقديره: أم غيّ. وقال الفراء: الهمزة للنداء، كأنه قيل: يا من هو قانت،ويكون قوله قل خطابا له، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده. وضعف هذا القول أبو علي الفارسي، ولا التفاتلتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة. وقرأ باقي السبعة، والحسن، وقتادة، والأعرج، وأبو جعفر: أمّن، بتشديد الميم، وهي أم أدغمتميمها في ميم من، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره: أهذا الكافر خير أم من هو قانت؟قال معناه الأخفش، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب، وهو أن يحذف المعادل الأول. واحتملت أم أن تكونمنقطعة تتقدر ببل، والهمزة والتقدير: بل أم من هو قانت صفته كذا، كمن ليس كذلك. وقال النحاس: أم بمعنى بل،ومن بمعنى الذي، والتقدير: بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله. انتهى. ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذاأفضل، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة، يدل عليه مقابله: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ }. والقانت: المطيع، قاله ابن عباس،وتقدم الكلام في القنوت في البقرة. وقرأ الجمهور: {سَـٰجِداً وَقَائِماً }، بالنصب على الحال؛ والضحاك: برفعهما إما على النعتلقانت، وإما على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين. {يَحْذَرُ ٱلاْخِرَةَ }: أي عذاب الآخرة، {مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ}: أي حصولها، وقيل: نعيم الجنة، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف، قال مقاتل: عمار، وصهيب، وابن مسعود، وأبو ذر.وقال ابن عمر: عثمان. وقال ابن عباس في رواية الضحاك: أبو بكر وعمر. وقال يحيـى بن سلام: رسول الله صلىالله عليه وسلم. والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين. وفي الآية دليل على فضل قيام الليل، وأنهأرجح من قيام النهار. ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }،فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فكما لا يستوي هذان، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا:ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه. وقرأ: يذكر، بإدغام تاء يتذكر في الذال. {قُلْ يٰأَهْلَ * عِبَادِ* ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ }، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا عن الهجرة إلىأرض الحبشة، وعدهم تعالى فقال: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ }. والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا، وأن المحسنين فيالدنيا لهم في الآخرة حسنة، أي حسنة عظيمة، وهي الجنة، قاله مقاتل، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى، لأن من أحسنفي الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة. وقال السدي: في هذه من تمام حسنة، أي ولوتأخر لكان صفة، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا. فلما تقدم انتصب على الحال، والحسنة التي لهم فيالدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى. ثم حض على الهجرة فقال: {وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ }، كقوله:

{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا }

، أي لا عذر للمفرطين البتة، حتى لو اعتلوا بأوطانهم، وأنهم لا يتمكنون فيها منأعمال الطاعات، قيل لهم: إن بلاد الله كثيرة واسعة، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات. وقال عطاء: وأرض الله:المدينة للهجرة، قيل: فعلى هذا يكون أحسنوا: هاجروا، وحسنة: راحة من الأعداء. وقال قوم: أرض الله هنا: الجنة. قال ابنعطية: وهذا القول تحكم، لا دليل عليه. انتهى. وقال أبو مسلم: لا يمتنع ذلك، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى؛ ثمبين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله:

{ وَأَوْرَثَنَا ٱلاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء }

، وقوله:

{ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }

. ولما كانت رتبةالإحسان منتهى الرتب، كما جاء: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه. وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء،وخصوصاً من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة. ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب، أي لا يحاسبون فيالآخرة، كما يحاسب غيرهم؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة. {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُٱلدّينَ }: أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله، يخلصها من الشوائب، {وَأُمِرْتُ }: أي أمرتبما أمرت، لأكون أول من أسلم، أي انقاد لله تعالى، ويعني من أهل عصره أو من قومه، لأنه أول منحالف عباد الأصنام، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره،لأكون مقتدى بي قولاً وفعلاً، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية منأعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحدلاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء. وإذا اختلف وجهاالشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت، لأن أفعل لا تزاد إلامع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين فياسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله:

{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ * أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ }

. انتهى. ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون، فيكون قد حذفت اللام،والمأمور به محذوف، وهو المصرح به هنا {إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ }. {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَيَوْمٍ عَظِيمٍ }: تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس. لما أمره أولاً أن يخبر بأنهأمر بعبادة الله، أمر ثانياً أن يخبر بأنه يعبد الله وحده. وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد، وعند الزمخشرييدل على الاختصاص، قال: ولدلالته على ذلك، قدم المعبود على فعل العبادة، وأخره في الأول. فالكلام أولاً واقع في الفعلفي نفسه وإيجاده، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: {فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ }. والمراد بهذاالأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى. وقال غيره: {فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ }: صيغة أمر على جهةالتهديد لقوله:

{ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ }

. {قُلْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ }: أي حقيقة الخسران، {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ }: أي هم الذين خسرواأنفسهم، حيث صاروا من أهل النار، وأهليهم الذين كانوا معهم في الدنيا، حيث كانوا معهم في النار، فلم ينتفعوا منهمبشيء، وإن كان أهلوهم قد آمنوا، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة: كأن الله قدأعد لهم أهلاً في الجنة فخسروهم، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن: هي الحور العين، ثم ذكر ذلك الخسرانوبالغ فيه في التنبيه عليه أولاً، والإشارة إليه، وتأكيده بالفعل، وتعريفه بأل، ووصفه بأنه المبين: أي الواضح لمن تأمله أدنىتأمل. ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم، ذكر حالهم في جهنم، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحت أرجلهم ظلل، فيظهرأن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، وسمى ما تحتهم ظللاً لمقابلة ما فوقهم، كما قال: {يَوْمَ يَغْشَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنفَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }، وقال لهم:

{ مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ }

وقيل: هي ظلل للذين هم تحتهم،إذ النار طباق. وقيل: إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيراً.{ذٰلِكَ }: أي ذلك العذاب، يخوف الله به عباده: ليعلموا ما يخلصكم منه، ثم ناداهم وأمرهم فقال: {قَلِيلاً وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ}: أي اتقوا عذابي. {وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ * هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو ٱلاْلْبَـٰبِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُمَن فِى ٱلنَّارِ * لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ وَعْدَ ٱللَّهِلاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ }. قال ابن زيد: نزلت {وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ } في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمانوأبي ذر. وقال ابن إسحاق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، والزبير،وذلك أنه لما أسلم أبو بكر، سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا: أسلمت؟ قال: نعم، وذكرهم بالله، فآمنوا بأجمعهم، فنزلت فيهم، وهيمحكمة في الناس إلى يوم القيامة. والطاغوت: تقدم الكلام عليها في البقرة. وقرأ الحسن: الطواغيت جمعاً. {أَن يَعْبُدُوهَا }: أيعبادتها، وهو بدل اشتمال. {لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ }: أي من الله تعالى بالثواب. {فَبَشّرْ عِبَادِ }: هم المجتنبون الطاغوت إلى الله.وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم، وليترتب على الظاهر الوصف، وهو: {ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ }، وهو عام فيجميع الأقوال، {فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }: ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن، فإذا سمعوا قولاً تبصروه. قيل: وأحسن القول: القرآن ومايرجع إليه. وقيل: القول: القرآن، وأحسنه: ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك. وقال قتادة: أحسن القول طاعة الله.وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم، فيسمع الحديث فيه محاسن مساو، وفيحدث بأحسن ما سمع، ويكف عن ماسواه. و{ٱلَّذِينَ }: وصف لعباد. وقيل: الوقف على عباد، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده. {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُٱلْعَذَابِ }: قيل نزلت في أبي جهل، أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب. والظاهر أنها جملة مستقلة، ومن موصولة مبتدأ، والخبرمحذوف، فقيل تقديره: يتأسف عليه، وقيل: يتخلص منه. وقدره الزمخشري: فأنت تخلصه، قال: حذف لدلالة أفأنت تنفذ عليه؟ وقدر الزمخشريبين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها، فقال: التقدير: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليهكلمة العذاب، وهو قول انفرد به فيما علمناه. والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة، لكن الهمزة،لما كان لها صدر الكلام، قدمت، فالأصل عندهم: فأمن حق عليه، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله: {أَفَأَنتَ تُنقِذُمَن فِى ٱلنَّارِ }، استفهام توقيف، وقدم فيه الضمير إشعاراً بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار، بل لا يقدرعلى ذلك أحد إلا الله. وذهبت فرقة، منهم الحوفي والزمخشري، إلى أن من شرطية، وجواب الشرط أفأنت، فالفاء فاء الجوابدخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار، وهو ظاهر، موضع المضمر، إذ كانالأصل تنقذه، وإنما أظهر تشهيراً لحالهم وإظهاراً لخسة منازلهم. قال الحوفي: وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيداً، ولولا طوله،لم يجز الإتيان بها، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم، وألف أخرى في الجزاء. ومعنىالكلام: أفأنت تنقذه؟ انتهى. وعلى هذا القول، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر،فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس: هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط؟ وعلى تقدير الزمخشري: لم تدخلالهمزة على اسم الشرط، فلم يجتمع استفهام وشرط، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده، وهو: أأنت مالك أمرهم؟وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام، ونزل استحقاقهم العذاب، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهمالنار، ونزل اجتهاد الرسول عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان منزلة انقاذهم من النار. ولما ذكر حال الكفار فيالنار، وأن الخاسرين لهم ظلل، ذكر حال المؤمنين، وناسب الاستدراك هنا، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين، فقال: {لَكِنِ ٱلَّذِينَٱتَّقَوْاْ }. ففي ذلك حض على التقوى، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية، أي بناء المنازل التي سويت على الأرض.والضمير في {مِن تَحْتِهَا } عائد على الجمعين، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلهاوانتصب {وَعَدَ ٱللَّهُ } على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، إذ تضمنت معنى الوعد. {أَلَمْ تَرَ }: خطاب وتوقيف للسامععلى ما يعتبر به من أفعال الله الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها. {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ }: أي أدخله مسالك وعيوناً. والظاهرأن ماء العيون هو من ماء المطر، تحبسه الأرض ويخرج شيئاً فشيئاً. {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً }، ذكر منته تعالىعلينا بما تقوم به معيشتنا. {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ }: من أحمر وأبيض وأصفر، وشمل لفظ الزرع جميع ما يرزع من مقتاتوغيره، أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك. {ثُمَّ يَهِـيجُ }: يقارب الثمار، {فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً }: أي زالتخضرته ونضارته. وقرأ أبو بشر: ثم يجعله، بالنصب في اللام. قال صاحب الكامل وهو ضعيف. انتهى. {إِنَّ فِى ذَلِكَ }:أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة، الحطامية، {لِذِكْرِى }: أي لتذكرة وتنبيهاً على حكمةفاعل ذلك وقدرته. {أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ }: نزلت في حمزة، وعلى ومن مبتدأ، وخبره محذوف يدل عليه{فَوَيْلٌ لّلْقَـٰسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } تقديره: كالقاسي المعرض عن الإسلام، وأبو لهب وابنه كاتا من القاسية قلوبهم، وشرح الصدر استعارة عنقبوله للإيمان والخير والنور والهداية. وفي الحديث: كيف انشراح الصدور؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت . {فَوَيْلٌ لّلْقَـٰسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ٱللَّهِ}: أي من أجل ذكره، أي إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم. وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبةأعظم من قسوة قلب. {أُوْلَـٰئِكَ }: أي القاسية قلوبهم، {فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }: أي في حيرة واضحة، لا تخفى علىمن تأملها. {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْإِلَىٰ ذِكْرِ }. عن ابن عباس، أن قوماً من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حسان، وبأخبار الدهر،فنزل: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }. وعن ابن مسعود، أن الصحابة ملؤوا مكة، فقالوا له: حدثنا، فنزلت. والابتداء باسم الله،وإسناد نزل لضميره مبنياً عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه، كما تقول: الملك أكرم فلاناً، هو أفخم من: أكرم الملكفلاناً. وحكمة ذلك البداءة بالأشراف من تذكر ما تسند إليه، وهو كثير في القرآن، كقوله:

{ ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً }

/ و{*وكتاباً}بدل من {نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون حالاً. انتهى. وكان بناء على أن {أَحْسَنَٱلْحَدِيثِ } معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل، إذا أضيف إلى معرفة، فيه خلاف. فقيل: إضافته محضة، وقيل: غير محضة.و {مُّتَشَـٰبِهاً }: مطلق في مشابهة بعضه بعضاً. فمعانيه متشابهة، لا تناقض فيها ولا تعارض، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغةوالتناسب، بحيث أعجزت العظماء والبلغاء. وقرأ الجمهور: {مَّثَانِيَ }، بفتح الياء؛ وهشام، وابن عامر، وأبو بشر: بسكون الياء، فاحتمل أنيكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوباً، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال، لانكسار ماقبلها استثقالا للحركة عليها. ومثاني يظهر أنه جمع مثنى، ومعناه: موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد. وقيل: يثني فيالصلاة بمعنى: التكرير والأعادة. انتهى. ووصف المفرد بالجمع، لأن فيه تفاصيل، وتفاصيل الشيء جملته. ألا ترى أنك تقول: القرآن سوروآيات؟ فكذلك تقول: أحكام ومواعظ مكررات، وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وأجاز الزمخشري أن يكونمن باب برمة أعشار وثوب أخلاق، وأن يكون تمييزاً عن متشابهاً، فيكون منقولاً من الفاعل، أي متشابهاً مثانية. كما تقول:رأيت رجلاً حسناً شمائل، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة. والظاهر حملالقشعريرة على الحقيقة، إذ هو موجود عند الخشية، محسوس يدركه الإنسان من نفسه، وهو حاصل من التأثر القلبي. وقيل: هوتمثيل تصوير لإفراط خشيتهم، والمعنى: أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم.ثم إذا ذكروا لله ورحمته لانت جلودهم، أي زال عنها ذلك التقبض الناشىء عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها، وضمنتلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة، وقلوبهم راجية غير خاشية، ولذلك عداه بإلى. وكان في ذكر القلوب في هذهالجملة دليل على تأثرها عند السماع، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب. فلما ذكر اللينذكرهما، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله، كما كان في قوله:

{ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }

، دليل بقوله: {وَجِلَتْ } عن ذكر المحذوف، أي إذا ذكر وعيد الله وبطشه. وقال العباس بن عبد المطلب: قالالنبي عليه السلام: من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها . وقال ابنعمر: وقد رأى ساقطاً من سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقالتأسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب رسول الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيللها: إن قوماً اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال ابن سيرين:بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله،فإن رمى بنفسه فهو صادق. والإشارة بذلك إلى الكتاب، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين، أي أثر هدى الله.{أَفَمَن يَتَّقِى }: أي يستقبل، كما قال الشاعر:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه     فتناولته واتقتنا باليد

أي: استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقي في النار مغلولة يداهإلى رجليه مع عنقه، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه. قال مجاهد: يجر على وجهه في النار،ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة. وقيل: المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب، يتقيه أولاً بجوارحه، فيتزيد حتى يتقيهبوجهه الذي هو أشرف جوارحه، وفيه جواب، وهو غاية العذاب. قال ابن عطية: وهذا المعنى عندي أبين بلاغة. في هذاالمضمار يجري قول الشاعر:

يلقي السيوف بوجهه وبنحره     ويقيم هامته مقام المغفر

لأنه إنماأراد عظم جرأته عليها، فهو يلقاها بكل مجن، وبكل شيء عنه، حتى بوجهه وبنحره. انتهى. و{سُوء ٱلْعَذَابِ }: أشده، وخبرمن محذوف قدره الزمخشري: كمن أمن العذاب، وابن عطية: كالمنعمين في الجنة. {وَقِيلَ لِلظَّـلِمِينَ }: أي قال ذلك خزنة النار،{ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ }: أي وبال ما كنتم {تَكْسِبُونَ } من الأعمال السيئة. {كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }: تمثيل لقريشبالأمم الماضية، وما آل إليه أمرهم من الهلاك. {فَأَتَـٰهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }: من الجهة التي لا يشعرونأن العذاب يأتيهم من قبلها، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها. كانوا في أمن وغبطة وسرور، فإذا هم معذبونمخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي. ثم أخبر أن ما أعدلهم في الآخرة أعظم. وانتصب {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} على الحال، وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو عربياً، وقرآنا توطئة له. وقيل: انتصب على المدح، ونفى عنهالعوج، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض. وقال عثمان بن عفان: غير مضطرب. وقال ابن عباس: غير مختلف. وقال مجاهد:غير ذي لبس. وقال السدي: غير مخلوق. وقيل: غير ذي لحن. قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل مستقيماً أوغير معوج؟قلت: فيه فائدتان: إحدهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال:

{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا }

. والثاني: أن لفظالعوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس، وأنشد:

وقد أتاك يقيناً غير ذي عوج     من الإله وقول غير مكذوب

انتهى. ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن {مِن كُلّ مَثَلٍ }: أي محتاج إليه،ضرب هنا مثلاً لعابد آلهة كثيرة، ومن يعبد الله وحده، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق، فهو لايقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته علىالتمام، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم. ورجل آخر مملوك جمعيه لرجل واحد، فهو معني بشغله لايشغله عنه شيء، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه، فلا يلقى من سيده إلاإحساناً، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده. وقال الكسائي: انتصب رجلاً على إسقاط الخافض، أي مثلاً لرجل، أو فيرجل فيه، أي في رقه مشتركاً، وفيه صلة لشركاء. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والزهري، والحسن: بخلافعنه؛ والجحدري، وابن كثير وأبو عمرو: سالما اسم فاعل من سلم، أي خالصاً من الشركة. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة،وأبو رجاء، وطلحة، والحسن: بخلاف عنه؛ وباقي السبعة: سلما بفتح السين واللام. وقرأ ابن جبير: سلما بكسر السين وسكون اللام،وهما مصدر ان وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة. وقرىء: ورجل سالم، برفعهما. وقال الزمخشري: أي وهناك رجل سالملرجل. انتهى، فجعل الخبر هناك. ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ، لأنه موضع تفصيل، إذ قد تقدم ما يدل عليه، فيكونكقول امرىء القيس:

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له     بشقّ وشق عندنا لم يحوّل

وقال الزمخشري: وإنماجعله رجلاً ليكون أفطن لما شقى به أو سعد، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. وانتصب مثلاً على التمييزالمنقول من الفاعل، إذ التقدير: هل يستوي مثلهما؟ واقتصر في التمييز على الواحد، لأنه المقتصر عليه أو لا في قوله:{ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً }، ولبيان الجنس. وقرىء: مثلين، فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضميرفي يستويان للمثلين، لأن التقدير مثل رجل، والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية؟ كما يقول: كفى بهما رجلين. انتهى.والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين، فأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجلورجل، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير، إذ يصير التقدير: هل يستوي المثلان مثلين؟قل: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ }: أي الثناء والمدح لله لا لغيره، وهو الذي ثبتت وحدانيته، فهو الذي يجب أن يحمد، {بَلْأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }، فيشركون به غيره. ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله:

{ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

. ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه، وأناختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة، وهو الحكم العدل، فيتميز المحق من المبطل، وهو عليه السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفروالغلبة، والكافرون هم المبطلون. فالضمير في وإنك خطاب للرسول، وتدخل معه أمته في ذلك. والظاهر عود الضمير في {وَإِنَّهُمْ }على الكفار، وغلب ضمير الخطاب في {إِنَّكَ } على ضمير الغيبة في إنهم، ولذلك جاء {تَخْتَصِمُونَ } بالخطاب، فتحتج أنتعليهم بأنك قد بلغت، وكذبوا واجتهدت في الدعوة، ولجوا في العناد. وقال أبو العالية: هم أهل القبلة، يختصمون بينهم يومالقيامة في مظالمهم. وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان، وما جرى بين عليومعاوية بسبب ذلك، رضى الله عنهم. وقيل: يختصم الجميع، فالكفار يخاصم بعضهم بعضاً حتى يقال لهم: لا تختصموا لدي. والمؤمنونيتلقون الكافرين بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. وقرأ ابن الزبير، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وعيسى، واليماني، وابن أبيغوث، وابن أبي عبلة: إنك مائت وإنهم مائتون، وهي تشعر بحدوث الصفة؛ والجمهور: ميت وميتون، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } * { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } * { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } * { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } * { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } * { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } * { قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ } * { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } * { قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } * { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } * { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } * { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } * { أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } * { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } * { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } * { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } * { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } * { وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } * { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } * { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } * { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } * { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ } * { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } * { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } * { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

[عدل]

اشمأز، قال أبو زيد: زعر. قال غيره: تقبض كراهة ونفوراً. قال الشاعر:

إذا عض الثقات بها اشمأزت     وولته عشوزية زبونا

المقاليد: المفاتيح، قيل: لا واحد لها من لفظها، قالهالتبريزي. وقيل: واحدها مقليد، وقيل: مقلاد، ويقال: إقليد وأقاليد، والكلمة أصلها فارسية. الزمر: جمع زمرة، قال أبو عبيد والأخفش: جماعاتمتفرقة، بعضها إثر بعض. قال:

حتى احزألت زمر بعد زمر    

ويقال: تزمر. والحفوف: الإحداق بالشيء، قال الشاعر:

تحفه جانب ضيق ويتبعه     مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد

وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف، وهو الجانب، ومنه قول الشاعر:

له لحظات عن حفافي سريرهإذا كرها فيها عقاب ونائل    

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصّدْقِ إِذْ جَاءهُأَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَـٰفِرِينَ * وَٱلَّذِى جَاء بِٱلصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْذَلِكَ جَزَاء ٱلْمُحْسِنِينَ * لِيُكَـفّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِى كَـانُواْ يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍعَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ * لَهُ مِنْ هَـادٍ * وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّأَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى ٱنتِقَامٍ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـٰشِفَـٰتُ ضُرّهِ أَوْ }. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ }: هذاتفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين، والمعنى: لا أجد فيالمكذبين أظلم ممن افترى على الله، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك، وحرّم وحلل من غير أمر الله؛ {وَكَذَّبَ بِٱلصّدْقِ }:وهو ما جاء به رسول الله ؛ {إِذْ جَاءهُ }: أي وقت مجيئه، فاجأه بالتكذيب من غيرفكر ولا ارتياء ولا نظر، بل وقت مجيئه كذب به. ثم توعدهم توعداً فيه احتقارهم على جهة التوقيف، وللكافرين مماقام فيه الظاهر مقام المضمر، أي مثوى لهم، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم، وهو الكفر. {وَٱلَّذِى جَاء بِٱلصّدْقِ *ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ }. {وَصَدَّقَ بِهِ } مقابل لقوله: {وَكَذَّبَ بِٱلصّدْقِ }. والذي جنس، كأنه قال: والفريق الذي جاءبالصدق، ويدل عليه: {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }، فجمع. كما أن المراد بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ }، يراد به جمع، ولذلك قال{مَثْوًى لّلْكَـٰفِرِينَ }. وفي قراءة عبد الله: والذي جاؤا بالصدق وصدقوا به. وقيل: أراد والذين، فحذفت منه النون، وهذا ليسبصحيح، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون، لكان الضمير مجموعاً كقوله:

وإن الذي حانت بفلح دماؤهم    

ألا ترى أنهإذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى؟ كقوله:

أبني كليب أن عميّ اللذا     قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقيل: الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله . وقيل: الذي جاء بالصدق جبريل،والذي صدق به هو محمد . وقال عليّ، وأبو العالية، والكلبي، وجماعة: الذي جاء بالصدق هو الرسول،والذي صدق به هو أبو بكر. وقال أبو الأسود، ومجاهد، وجماعة: الذي صدق به وهو عليّ بن أبي طالب. وقالالزمخشري: والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله . جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياهومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }

، ولذلك قال: {أُوْلَـئِكَ هُمُٱلْمُتَّقُونَ }، إلا أن هذا في الصفة، وذلك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به،وهو الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. انتهى. وقوله: وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياهوقومه. استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه، وإنما هو متصل، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه، كما أراده بموسى وقومه: أيلعل قومه يهتدون، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ. فالمترجى هداية قومه، لا هدايته، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداًلا موجوداً. وقوله: ويجوز إلخ، فيه توزيع الصلة، والفوج هو الموصول، فهو كقوله: جاء الفريق الذي شرف وشرّف. والأظهر عدمالتوزيع، بل المعطوف على الصلة، صلة لمن له الصلة الأولى. وقرأ الجمهور: {وَصَدَقَ } مشدداً؛ وأبو صالح، وعكرمة بنسليمان، ومحمد بن جحازة: مخففاً. قال أبو صالح: وعمل به. وقيل: استحق به اسم الصدق. قال ابن عطية: فعلى هذاإسناد الأفعال كلها إلى محمد ، وكأن أمته في ضمن القول، وهو الذي يحسن {أُوْلَـٰئِكَ * ٱلْمُتَّقُونَ}. انتهى. وقال الزمخشري: أي صدق به الناس، ولم يكذبهم به، يعني: أداه إليهم، كما نزل عليه من غير تحريف.وقيل: معناه: وصار صادقاً به، أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريهاعلى يديه، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة. وقرىء: وصدق به. انتهى، يعني: مبنياً للمفعول مشدداً.وقال صاحب اللوامح: جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله، أي في قوله، أو في مجيئه، فاجتمع له الصفتان منالصدق: من صدقه من عند الله، وصدقه بنفسه، وذلك مبالغة في المدح. انتهى. {لَهُم مَّا يَشَاءونَ }: عام فيكل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم. و{لِيُكَـفّرَ }: متعلق بالمحسنين، أي الذين أحسنوا ليكفر، أو بمحذوف، أي يسر ذلكلهم ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير. و{أَسْوَأَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ }: هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهلالإسلام. والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه، فقيل:ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوابه. وقال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوي، وهذا قول المرجئة، يقولون:لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان. واحتج بهذه الآية، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين، أي ذلك جزاؤهم، فنبهبالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب. والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل، وبه قرأ الجمهور: وإذا كفر أسوأ أعمالهم، فتكفير ماهو دونه أحرى. وقيل: أفعل ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشج أعدل بني مروان، أي عادل، فكذلك هذا، أي سيء الذينعملوا. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم، وحامد بن يحيـى، عن ابن كثير: أسوأ هنا؛ وفي حم السجدة بألفبين الواو والهمزة جمع سوء، ولا تفضيل فيه. والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل: لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقيفي الجزاء على قياسه، وإن تخلف عنه بالتقصير. وقيل: بأحسن ثواب أعمالهم. وقيل: بأحسن من عملهم، وهو الجنة، وهذا ينبوعنه {بِأَحْسَنِ ٱلَّذِى }. وقال الزمخشري: أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهمالأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ، وحسنهم بالأحسن. انتهى،وهو على رأى المعتزلة، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله،وذلك توزيع في أفعل التفضيل، وهو خلاف الظاهر. قالت قريش: لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعيينا، لنسلطهاعليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء، فأنزل الله: {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ }: أي شر من يريده بشر، والهمزة الداخلة علىالنفي للتقرير، أي هو كاف عبده، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه. وقرأ الجمهور: عبده، وهو رسول الله صلى اللهعليه وسلم. وقرأ أبو جعفر، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي: عباده بالجمع، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين؛ {وَيُخَوّفُونَكَبِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ }: وهو الأصنام. ولما بعث خالداً إلى كسر العزى، قال له سادنها: إني أخاف عليك منها، فلهاقوة لا يقوم لها شيء. فأخذ خالد الفأس، فهشم به وجهها ثم انصرف. وفي قوله: {وَيُخَوّفُونَكَ }، تهكم بهم لأنهمخوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر. ونظير هذا التخويف قول قوم هو دله:

{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء }

. وقرىء: {عَلَىٰ عَبْدِهِ } على الإضافة، ويكافي عباده مضارع كفى، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة منالكفاية، كقولك: يجازي في يجزي، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظظ المبالغة، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى فيالقرآن، كقوله:

{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ }

. ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة، وهي المجازاة، أي يجزيهم أجرهم. ولما كان تعالىكافي عبده، كان التخويف بغيره عبثاً باطلاً. ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين، أخبر أن ذلك كله هو فاعله، ثمقال: {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ }: أي غالب منيع، {ذِى ٱنتِقَامٍ }: وفيه وعيد لقريش، ووعد للمؤمنين. ولما أقروا بالصانع، وهوالله، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد. فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشفضراً ولا تمسك رحمة، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك. وأرأيتم هنا جارية على وضعها، تعدت إلى مفعولها الأول،وهو ما يدعون. وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية، وفيها العائد على ما، وهو لفظ هن وأنث تحقيراً لها وتعجيزاً وتضعيفاً.وكان فيها من سمى تسمية الإناث، كالعزى ومناة واللات، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها، لأنهم خوفوه مضرتها،فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله. ثم استخبرهم عن أصنامهم، هل تدفع شرّاً وتجلب خيراً؟ وقرأ الجمهور: كاشفاتوممسكات على الإضافة؛ وشيبة، والأعرج، وعمرو بن عبيد، وعيسى: بخلاف عنه؛ وأبو عمرو، وأبو بكر؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما. ولماتقرر أنه تعالى كافية، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه، أي كافية.والجواب في هذا الاستخبار محذوف، والتقدير: فإنهم سيقولون: لا تقدر على شيء من ذلك. وقال مقاتل: استخبرهم فسكتوا. {قُلْ يٰأَهْلَ* قَوْمٌ * ٱعْمَلُواْ }: تقدم الكلام على نظيرها. {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَنضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ ٱللَّهُ }. لما كان عليه السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهمإلى ما أنزل الله تعالى عليه، سلاه تعالى عن ذلك، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن، مصحوباً بالحق، وهودين الإسلام، للناس: أي لأجلهم، إذ فيه تكاليفهم. {فَمَنُ ٱهْتَدَىٰ }: فثواب هدايته إنما هو له، {وَمَن ضَلَّ }: فعقابضلاله إنما هو عليه، {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }: أي فتجبرهم على الإيمان. قال قتادة: بوكيل: بحفيظ. وقال الزمخشري: للناس:لأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا. فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، فلا حاجة لي إلى ذلك، فأنا الغني. فمناختار الهدى، فقد نفع نفسه؛ ومن اختار الضلالة، فقد ضرها، وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى. فإن التكليف مبني علىالاختيار دون الإجبار. انتهى، وهو على مذهب المعتزلة. ولما ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب على رسوله بالحق للناس، نبهعلى أنه من آياته الكبرى يدل على الوحدانية، لا يشركه في ذلك صنم وعلى غيره، فقال: {ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلاْنفُسَ حِينَمِوْتِـهَا }، والأنفس هي الأرواح. وقيل: النفس غير الروح، قاله ابن عباس. فالروح لها تدبير عالم الحياة، والنفس لها تدبيهعالم الإحساس. وفرقت فرقة بين نفس التمييز ونفس التخييل. والذي يدل عليه الحديث واللغة أن النفس والروح مترادفان، وأن فراقذلك من الجسد هو الموت. ومعنى يتوفى النفس: يميتها، والتي: أي والأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حينتنام، تشبيهاً للنوام بالأموات. ومنه:

{ وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ }

. فبين الميت والنائم قدر مشترك، وهو كونهما لا يميزان ولايتصرفان. فيمسك من قضى عليها الموت الحقيقي، ولا يردها في وقتها حية؛ ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربه لموتها. وقيل:{يَتَوَفَّى ٱلاْنفُسَ }: يستوفيها ويقبضها، وهي الأنفس التي يكون معها الحياة والحركة. ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهيأنفس التمييز، قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معهاالنفس. والنائم يتنفس، وكون النفس تقبض، والروح في الجسد حالة النوم، بدليل أنه يتقلب ويتنفس، هو قول الأكثرين. ودل علىالتغاير وكونها شيئاً واحداً هو قول ابن جبير وأحد قولي ابن عباس؛ والخوض في هذا، وطلب إدراك ذلك على جليتهعناء ولا يوصل إلى ذلك. {إِنَّ فِى ذَلِكَ }: أي في توفي الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإسالها إلى أجل، {لاَيَاتٍ}: لعلامات دالة على قدرة الله وعلمه، {لِقَوْمٍ } يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرأ الجمهور: {قَضَى } مبنياً للفاعل، {ٱلْمَوْتُ}: نصباً؛ وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وعيسى، وحمزة، والكسائي: مبنياً للمفعول؛ الموت: رفعاً. فأم منقطعة تقدر ببل والهمزة، وهو تقريروتوبيخ. وكانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عندنا، والشفاعة إنما هي لمن ارتضاه الله وبإذنه تعالى، وهذا مفقود في آلهتهم. وأولو معناه:أيتخذونهم شفعاءهم بهذه المثابة من كونهم لا يعقلون ولا يملكون شيئاً، وذلك عام النقص، فكيف يشفع هؤلاء؟ وتقدم لنا الكلامفي أولو في سورة البقرة. وقال ابن عطية: متى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير.انتهى. وإذا كانوا لا يملكون شيئاً، فكيف يملكون الشفاعة؟ وقال الزمخشري: أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاًقط حتى يملكوا الشفاعة، ولا عقل لهم. انتهى. فأتى بقوله: قط، بعد قوله: لا يملكون، وليس بفعل ماض، وقط ظرفيستعمل مع الماضي لا مع غيره، وقد تكرر للزمخشري هذا الاستعمال، وليس باستعمال عربي. {قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَـٰعَةُ جَمِيعاً }:فهو مالكها، يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو: {لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }، فاندرج فيه ملك الشفاعة. ولماكانت الشفاعة من غيره موقوفة على إذنه، كانت الشفاعة كلها له. ولما أخبر أنه له ملك السموات والأرض، هددهم بقوله:{ثُمَّ إِلَيْهِ }، فيعلمون أنهم لا يشفعون، ويخيب سعيكم في عبادتهم. وقال الزمخشري: معناه له ملك السموات والأرض اليوم، ثمإليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك إلا له، فله ملك الدنيا والآخرة. {تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُوَحْدَهُ }: أي مفرداً بالذكر، ولم يذكر مع آلهتهم. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله، {وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِندُونِهِ }، وهي الأصنام. والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية، لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غماً وغيظاً، فيظهر أثره، وهو الانقباض في الوجه،والاستبشار: امتلاؤه سروراً، فيظهر أثره، وهو الانبساط، والتهلل في الوجه. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في وإذا ذكر؟ قلت:العامل في إذا الفجائية تقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار. وقال الحوفي: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }، إذا مضافةإلى الابتلاء والخبر، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، والتقدير: إذا كان ذلك هم يستبشرون، فيكون هم يستبشرون العاملفي إذا، المعنى: إذا كان ذلك استبشروا. انتهى. أما قول الزمخشري: فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو، وهو أنالظرفين معمولان لعامل واحد، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف، والثانية على المفعول به. وأما قول الحوفي فبعيد جدًّا عنالصواب، إذ جعل إذا ماضفة إلى الابتداء والخبر، ثم قال: وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، فكيف تكون مضافةإلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه، وقد تقدم لنا في مواضعإذا التي للمفاجأة جواباً لإذا الشرطية، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملةالتي تليها، وإن كان مذهب الأكثرين، وأنها ليست بمعمولة للجواب، وأقمنا الدليل على ذلك، بل هي معمولة للفعل الذي يليها،كسائر أسماء الشرطية الظرفية، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط، كالفاء؛ وهي معمولة لما بعدها. إن قلنا إنها ظرف،سواء كان زماناً أو مكاناً. ومن قال إنها حرف، فلا يعمل فيها شيء، فإذا الأولى معمولة لذكرهم، والثانية معمولة ليستبشرون.ولما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام، أمره أن يدعو بأسماء الله العظمى من القدرةوالعلم ونسبة الحكم إليه، إذ غيره لا قدرة له ولا علم تام ولا حكم، وفي ذلك وصف لحالهم السيىء ووعيدلهم وتسلية للرسول عليه السلام. وتقدم الكلام في {ٱللَّهُمَّ } في سورة آل عمران. {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ }:تقدم الكلام على تشبيهه في العقود. {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ }: أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة، حسب ضلالاتهم وتخيلاتهمفيما يعتقدونه. فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة، ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون، وما كان في حسابهم. وقال سفيان الثوري:ويل لأهل الرياء من هذه الآية. {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ }: أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا، يحتمل أنتكون بمعنى الذي، أي سيئات أعمالهم، وأن تكون مصدرية، أي سيئات كسبهم. والسيئات: أنواع، العذاب سميت سيئات، كما قال:

{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }

. {فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـٰهُ نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍبَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ }. تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى الله، مع اعتقادهمالأوثان وعبادتها. فإذا أصابتهم شدة، نبذوها ودعوا رب السموات والأرض، وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها. والإنسان جنس وضرمطلق، والنعمة عامة في جميع ما يسر، ومن ذلك إزالة الضر. وقيل: الإنسان معين، وهو حذيفة بن المغيرة. والظاهر أنما في إنما كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية، وذكر الضمير في {أُوتِيتُهُ }، وإن كان عائداً على النعمة،لأن معناها مذكر، وهو الأنعام أو المال، على قول من شرح النعمة بالمال، أو المعنى: شيئاً من النعمة، أو لأنهاتشتمل على مذكر ومؤنث، فغلب المذكر. وقيل: ما موصولة، والضمير عائد على ما، أي قال: إن الذي أوتيته على علممني، أي بوجه المكاسب والمتاجر، قاله قتادة، وفيه إعجاب بالنفس وتعاظم مفرط. أو على علم من الله فيّ واستحقاق جزائهعند الله، وفي هذا احتراز الله وعجز ومنّ على الله. أو على علم مني بأني سأعطاه لما فيّ من فضلواستحقاق، بل هي فتنة إضراب عن دعواه أنه إنما أوتي على علم، بل تلك النعمة فتنة وابتلاء. ذكر أولاً في{أُوتِيتُهُ } على المعنى، إذ كانت ما مهيئة، ثم عاد إلى اللفظ فأنث في قوله {بَلْ هِىَ }، أو تكونهي عادت على الإتيان، أي بل إتيانه النعمة فتنة. وكان العطف هنا بالفاء في فإذا، بالواو في أول السورة لأنهاوقعت مسببة عن قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ }، أي يشمئزون عند ذكر الله، ويستبشرون بذكر آلهتهم. فإذا مس أحدهم ضردعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره. ومناسبة السببية أنك تقول: زيد مؤمن، فإذا مسه الضر التجأ إلىالله. فالسبب هنا ظاهر، وزيد كافر، فإذا مسه الضر التجأ إليه، يقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً للالتجاء، يحكيعكس ما فيه الكافر. يقصد بذلك الإنكار والتعجب من فعله المتناقض، حيث كفر بالله ثم التجأ إليه في الشدائد.وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة، بل ناسبت ما قبلها، فعطفت عليه بالواو، وإذا كانت فإذا متصلة بقوله: {وَإِذَا ذُكِرَٱللَّهُ وَحْدَهُ }، كما قلنا، فما بينهما من الآي اعتراض يؤكد به ما بين المتصلين. فدعاء الرسول ربه بأمر منهوقوله: {أَنتَ تَحْكُمُ }، وتعقيبه الوعيد، تأكيد لاشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَظَلَمُواْ } يتناول لهم، أو لكل ظالم، إن جعل مطلقاً أو إياهم خاصة إن عنوا به. انتهى، وهو ملتقط أكثرهمن كلام الزمخشري، وهو متكلف في ربط هذه الآية بقوله: {وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ } مع بعدما بينهما منالفواصل. وإذا كان أبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين، فكيف يجيزه بهذه الجمل الكثيرة؟ والذي يظهر في الربط أنهلما قال: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } الآية، كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب، وأنه يظهر لهميوم القيامة من العذاب ما لم يكن في حسابهم، أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه، إذ كان إذا مسهدعا ربه، فإذا أحسن إليه، لم ينسب ذلك إليه. ثم إنه بعد وصف تلك النعمة أنها ابتلاء وفتنة، كما بداله في الآخرة من عمله الذي كان يظنه صالحاً ما لم يكن في حسابه من سوء العذاب المترتب على ذلكالعمل، ترتب الفتنة على تلك النعمة. {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }: أي إن ذلك استدراج وامتحان {قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَمِن قَبْلِهِمْ }: أي قال مثل مقالتهم {أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ }. والظاهر أن قائلي ذلك جماعة من الأمم الكافرة الماضية،كقارون في قوله:

{ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِى }

. وقيل: الذين من قبلهم هم قارون وقومه، إذ رضوا بمقالته،فنسب القول إليهم جميعاً. وقرىء: قد قاله، أي قال القول أو الكلام. {فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ }: يجوز أن تكون مانافية، وهو الظاهر. وأن تكون استفهامية، فيها معنى النفي. {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }: أي من الأموال. {وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـؤُلاَء}: إشارة إلى مشركي قريش، {سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ }: جاء بسين الاستقبال التي هي أقل تنفيساً في الزمان منسوف، وهو خبر غيب، أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره. قتل رؤساءهم، وحبس عنه الرزق، فلم يمطروا سبع سنين؛ ثمبسط لهم، فمطروا سبع سنين، فقيل لهم: ألم تعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله تعالى؟. {قُلْ يٰأَهْلَ* عِبَادِى * ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ }: نزلت في وحشي قاتل حمزة، قاله عطاء؛ أو في قوم آمنوا عياش بن ربيعةوالوليد بن الوليد ونفر معهما، ففتنتهم قريش، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم، فكتب عمر لهم بهذه الآية، قاله عمروالسدي وقتادة وابن إسحاق. وقيل: في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا: وما ينفعنا الإسلام وقد زنينا وقتلنا النف وأتيناكل كبيرة؟ ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب، وأنهم لو كانلأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمنالعبد ورجع إلى الله. وكثيراً تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف. وهذه الآية عام في كل كافريتوب، ومؤمن عاص يتوب، تمحو الذنب توبته. وقال عبد الله، وعلي، وابن عامر: هذه أرجى آية في كتاب الله. وتقدمالخلاف في قراءة {لاَ تَقْنَطُواْ } في الحجر. {إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً }: عام يراد به ما سوىالشرك، فهو مقيد أيضاً بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة. وفي قوله: {فِى عِبَادِى }، بإضافتهم إليه وندائهم، إقبال وتشريف. و{أَسْرَفُواْعَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }: أي بالمعاصي، والمعنى: إن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء،وإضافة الرحمة إلى الله التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب، لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلىالله الذي هو أعظم الأسماء، لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء. ثم أعاد الاسم الأعظم، وأكد الجملة بأن مبالغةفي الوعد بالغفران، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة، وأكد بلفظ هو المقتضي عندبعضهم الحصر. وقال الزمخشري: {إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً }، شرط التوبة. وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكانذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه، لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض.انتهى، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة. ولما كانت هذه الآيةفيها فسحة عظيمة للمسرف، أتبعها بأن الإنابة، وهي الرجوع، مطلوبة مأمور بها. ثم توعد من لم يتب بالعذاب، حتى لايبقى المرء كالممل من الطاعة والمتكل على العفران دون إنابة. وقال الزمخشري: وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة، لئلا يطمعطامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.{وَٱتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُـمْ }، مثل قوله: {ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }، وهو القرآن، وليس المعنىأن بعضاً أحسن من بعض، بل كله حسن. {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً }، أي فجأة، {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}: أي وأنتم غافلون عن حلوله بكم، فيكون ذلك أشد في عذابكم. {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَىٰ يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَافَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِى لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ * أَوْتَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ * بَلَىٰ قَدْ جَاءتْكَ ءايَـٰتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَمِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ * وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ * وَيُنَجّى ٱللَّهُٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُـلّ شَىْء وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء وَكِيلٌ *لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ }. روي أنه كان في بني إسرائيل عالمترك علمه وفسق، أتاه إبليس فقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور. فأتاه ملك الموتفي ألذ ما كان، فقال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ }، وذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي،فندم حين لا ينفعه، فأنزل الله خبره. {أَن تَقُولَ }: مفعول من أجله، فقدره ابن عطية: أي أنيبوا من أجلأن تقول. وقال الزمخشري: كراهة أن تقول، والحوفي: أنذرناكم مخافة أن تقول، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس، وهينفس الكافر، أو أريد الكثير، كما قال الأعشى:

ورب نفيع لو هتفت لنحوه     أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا

يريد أفواجاً من الكرام ينصرونه، لا كريماً واحداً؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديدفي الكفر، أو بعذاب عظيم. قال هذه المحتملات الزمخشري، والظاهر الأول. وقرأ الجمهور: يا حسرتا، بإبدال ياء المتكلم ألفاً، وأبوجعفر: يا حسرتا، بياء الإضافة، وعنه: يا حسرتي، بالألف والياء جمعاً بين العوض والمعوض، والياء مفتوحة أو سانة. وقال أبوالفضل الرازي في تصنيفه (كتاب اللوامح): ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك، لأن معناهما لب بعدلب وسعد بعد سعد، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة، لكثرة حسراتهم يومئذ؛ أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخولالنار، لكان مذهباً، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب. انتهى. وقرأ ابن كثير في الوقف:يا حسرتاه، بهاء السكت. قال سيبويه: ومعنى نداء الحسرة والويل: هذا وقتك فاحضري. والجنب: الجانب، ومستحيل على الله الجارحة، فإضافةالجنب إليه مجاز. قال مجاهد، والسدي: في أمر الله. وقال الضحاك: في ذكره، يعني القرآن والعمل به. وقيل: في جهةطاعته، والجنب: الجهة، وقال الشاعر:

أفي جنب تكنى قطعتني ملامة     سليمى لقد كانت ملامتها ثناء

وقال الراجز:

النـاس جنب والأميـر جنب    

ويقال: أنا في جننب فلان وجانبه وناحيته؛ وفلان لين الجنب والجانب. ثم قالوا:فرط في جنبه، يريدون حقه. قال سابق البربري:

أما تتقين الله في جنب عاشق     له كبد حرى عليك تقطع

وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه.ألا ترى إلى قوله:

إن السماحة والمروءة والندى     في قبة ضربت على ابن الحشرج

ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك، وكذلك فعلت هذا من جهتك. وما في ما فرطت مصدرية، أي علىتفريطي في طاعة الله. {وَإِن كُنتَ مِن * ٱلسَّـٰخِرِينَ }، قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخرمن أهلها. وقال الزمخشري: ومحل وإن كنت النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي فرطت في حال سخريتي.انتهى. ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا، لا حال. {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِى}: أي خلق في الهداية بالإلجاء، وهو خارج عن الحكمة، أو بالألطاف، ولم يكن من أهلها فيلطف به، أو بالوحي،فقد كان، ولكنه أعرض، ولم يتبعه حتى يهتدي. وإنما يقول هذا تحيراً في أمره، وتعللاً بما يجدي عليه. كما حكىعنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحوه: لو هدانا الله لهديناكم. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وانتصب {فَأَكُونَ } على جوابالتمني الدال عليه لو، أو على كرة، إذ هو مصدر، فيكون مثل قوله:

فما لك منها غير ذكرى وحسرة     وتسأل عن ركبانها أين يمموا

وقول الآخر:

للبس عباءة وتقر عيني     أحب إليّ من لبس الشفوف

والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني، كانت أن واجبة الإضمار،وكان الكون مترتباً على حصول المتمني، لا متمني. وإذا كانت للعطف على كرة، جاز إظهار أن وإضمارها، وكان الكون متمني.{بَلَىٰ }: هو حرف جواب لمنفي، أو لداخل عليه همزة التقرير. ولما كان قوله: {لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِى } وجوابهمتضمناً نفي الهداية، كأنه قال: ما هداني الله، فقيل له: {بَلَىٰ قَدْ جَاءتْكَ ءايَـٰتِى } مرشدة لك، فكذبت. وقال الزمخشري:رد من الله عليه ومعناه: بلى قد هديت بالوحي. انتهى، جرياً على قواعد المعتزلة. وقال ابن عطية: وحق بلى أنتجيء بعد نفي عليه تقرير، وقوله: {بَلَىٰ } جواب لنفي مقدر، كأن النفس قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر،أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا. انتهى. وليس حق بلى ما ذكر، بل حقها أنتكون جواب نفي. ثم حمل التقرير على النفي، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب، وأجابه بنعم، ووقع ذلك أيضاً فيكلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعاً لبعض العرب. وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جوابله، وهو قوله: {لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِى }، ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو، إما أن يقدم علىأخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى. فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بينالقرائن؛ وأما الثاني، فلما فيه من نقض الترتيب، وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية. ثم تمنىالرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضىالجواب. انتهى، وهو كلام حسن. وقرأ الجمهور: {قَدْ جَاءتْكَ }، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها، خطاباً للكافر ذيالنفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري، وأبو حيوة، والزعفراني، وابن مقسم، ومسعود بن صالح، والشافعي عن ابن كثير، ومحمد بن عيسىفي اختياره وعن نصير، والعبسي: بكسر الكاف والتاء، خطاب للنفس، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة، رضي الله عنهما،وروتهما أم سلمة عن النبي/ . وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: جأتك، بالهمز من غير مد، بوزن بعتك،وهو مقلوب من جاءتك، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف، كما سقطت في رمت وعرب. ولما ذكر مقالة الكافر،ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبة، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه، عليه السلام. والرؤية هنا من رؤيةالبصر، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد، وشرعهم ما لم يأذن به الله. والظاهر أنه عام في المكذبين علىالله، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين. وقال الحسن: هم القدرية يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وقالالقاضي: يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وقال القاضي:يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفياً وإثباتاً، فأضاف إليهما يجب أن لا يضاف إليه، فالكل كذبوا على الله؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز. وقالالزمخشري: {كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ }: وصفوه بما لا يجوز عليه، وهو متعال عنه، فأضافوا إليه الولد والشريك، وقالوا:

{ شُفَعَـٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } ، وقالوا: { لَوْ شَاء ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَـٰهُمْ } ، وقالوا: { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } ، قوم يسفهونه بفعل القبائح. ويجوز أنيخلق خلقاً لا لغرض، وقوله: لا لغرض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئياً مدركاً بالحاسة، ويثبتون له يداًوقدماً وجنباً مستترين بالبلكفة، ويجعلون له أنداداً بإثباتهم معه قدماً. انتهى، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة. والظاهر أن الرؤيةمن رؤية البصر، وأن {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } جملة في موضع الحال، وفيها رد على الزمخشري، إذ زعم أن حذف الواومن الجملة الاسمية في موضع المفعول الثاني، وهو بعيد، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب.وقرىء: وجوههم مسودّة بنصبهما، فوجوههم بدل بعض من كل. وقرأ أبي: أجوههم، بإبدال الواو همزة، والظاهر أن الاسوداد حقيقة، كمامر في قوله: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } . وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عنارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم. ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين، أي الكذب علىالله وغيره، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى. قال السدي:{بِمَفَازَتِهِمْ }: بفلاحهم، يقال: فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده، وتفسير المفازة قوله: {لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، كأنه قيل: وما مفازتهم؟ قيل: لا يمسهم السوء، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم، أو بسبب منجاتهم منقوله تعالى: { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَابِ }، أي بمنجاة منه، لأن النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح،ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه المفازة: بالأعمال الحسنة؛ ويجوز بسبب فلاحهم، لأن العمل الصالح سبب الفلاح، وهو دخولالجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة، لأنه سببها. فإن قلت: {لاَ يَمَسُّهُمُ }، ما محله من الإعراب علىالتفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأول فلا محل له، لأنه كلام مستأنف، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال. انتهى.وقرأ الجمهور: بمفازتهم على الإفراد، والسلمي، والحسن، والأعرج، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: على الجمع، من حيث النجاة أنواع، والأسبابمختلفة. قال أبو علي: المصادر تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله: { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } . وقال الفراء: كلا القراءتين صواب، تقول:قد تبين أمر الناس وأمور الناس. ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد، عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد، فذكر أنه خالق كلشيء، فدل على أعمال العباد لاندراجها في عموم كل شيء، وأنه على كل الأشياء قائم لحفظها وتدبيرها. {لَّهُ مَقَالِيدُ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }: قال ابن عباس: مفاتيح، وهذه استعارة، كما تقول: بيد فلان مفتاح هذا الأمر. وعن رسول الله: أن المقاليد لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيـي ويميت، وهو على كل شيء قدير . وتأويله علىهذا: أن لله هذه الكلمات، يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصاب. {وَٱلَّذِينَكَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ } وكلماته توحيده وتمجيده، {أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ }. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ}؟ قلت: بقوله: {وَيُنَجّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ * وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ * هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } واعترض بينهما: بأن خالق الأشياءكلها، وهو مهيمن عليها، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء، وأن {لَّهُ مَقَالِيدُ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا عندي ضعيف من وجهين: الأول: أن وقوع الفاصل الكثير بينالمعطوف والمعطوف عليه بعيد. والثاني: أن قوله تعالى: {وَيُنَجّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ }: جملة فعلية، وقوله: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: جملةاسمية، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، والأقرب عندي أن يقال: إنه لما وصف بصفات الإلهية والجلالة، وهوكونه خالق الأشياء كلها، وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض، وقال: الذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة هم الخاسرون. انتهى، وليسبفاصل كثير. وقوله: وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، كلام من لم يتأمل لسان العرب، ولا نظر فيأبواب الاشتغال. وأما قوله: والأقرب عندي فهو مأخوذ من قول الزمخشري، وقد جعل متصلاً بما يليه، على أن كل شيءفي السموات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك {أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ }. {قُلْأَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَـٰهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَٱلْخَـٰسِرِينَ * بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ * وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلاْرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ *وَٱلسَّمَـٰوٰتُ مَطْوِيَّـٰتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ إِلاَّ مَنشَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ ٱلاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ وَجِـىء بِٱلنَّبِيّيْنَ وَٱلشُّهَدَاءوَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } روي أنهقال للرسول عليه السلام: المشركون استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، وغير منصوب بأعبد.قال الأخفش : تأمروني ملغاة، وعنه أيضاً: أفغيرنصب بتأمروني لا بأعبد، لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها، إذ الموصول منه حذف فرفع، كما في قوله:

ألا أيهـا ذا الزاجري احضر الوغى    

والصلة مع الموصول في موضع النصب بدلاً منه، أي أفغير الله تأمرونني عبادته؟ والمعنى: أتأمرونني بعبادةغير الله؟ وقال الزمخشري: أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله: {تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ }، لأنه في معنى تعبدون وتقولون لي:اعبده، وأفغير الله تقولون لي اعبد، فكذلك أفغير الله تقولون لي أن اعبده، وأفغير الله تأمروني أن أعبد. والدليل علىصحة هذا الوجه قراءات من قرأ أعبد بالنصب، يعني: بنصب الدال بإضمار أن. وقرأ الجمهور: تأمروني، بإدغام النون في نونالوقاية وسكون الياء؛ وفتحها ابن كثير. وقرأ ابن عامر: تأمرنني، بنونين على الأصل؛ ونافع: تأمرني، بنون واحدة مكسورة وفتح الياء.قال ابن عطية: وهذا على حذف النون الواحدة، وهي الموطئة لياء المتكلم، ولا يجوز حذف النون الأولى، وهو لحن، لأنهاعلامة رفع الفعل. انتهى. وفي المسألة خلاف، منهم من يقول: المحذوفة نون الرفع، ومنهم من يقول: نون الوقاية، وليس بلحن،لأن التركيب متفق عليه، والخلاف جرى في أيهما حذف، وختار أنها نون الرفع. ولما كان الأمر بعبادة غير اللهلا يصدر إلا من غبي جاهل، نادهم بالوصف المقتضي ذلك فقال: {أَيُّهَا ٱلْجَـٰهِلُونَ }. ولما كان الإشراك مستحيلاً على منعصمه الله، وجب تأويل قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ } أيها السامع، ومضى الخطاب على هذا التأويل. ويدل على هذا التأويل أنهليس براجع الخطاب للرسول، إفراداً لخطاب في {لَئِنْ أَشْرَكْتَ }، إذ لو كان هو المخاطب، لكان التركيب: لئن أشركتما، فيشملضمير هو ضمير الذين من قبله، ويغلب الخطاب. وقال الزمخشري: فإن قلت: المومى إليهم جماعة، فكيف قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ }على التوحيد؟ قلت معناه: لئن أوحى إليك، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ * وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ * مّثْلِهِ }، وأوحىإليك وإلى كل واحد منهم {لَئِنْ أَشْرَكْتَ }، كما تقول: كسانا حلة، أي كل واحد منا. فإن قلت: كيف يصحهذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض والمحالات يصحفرضها ثم ذكر كلاماً يوقف عليه في كتابه. ويستدل بهذه الآية على حبوط عمل المرتد من صلاة وغيرها. وأوحى: مبنيللمفعول، ويظهر أن الوحي هو هذه الجمل: من قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ * إِلَىَّ مِنْ * ٱلْخَـٰسِرِينَ } وهذا لا يجوزعلى مذهب البصريين، لأن الجمل لا تكون فاعلة، فلا تقوم مقام الفاعل. وقال مقاتل: أوحى إليك بالتوحيد، والتوحيد محذوف. ثمقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }، والخطاب للنبي عليه السلام خاصة. انتهى. فيكون الذي أقيم مقام الفاعل هو الجار والمجرور،وهو إليك، وبالتوحيد فضلة يجوز حذفها لدلالة ما قبلها عليها. وقرأ الجمهور: {لَيَحْبَطَنَّ } مبنياً للفاعل، {عَمَلُكَ }: رفع به.وقرىء: ليحبطن بالياء، من أحبط عمله بالنصب، أي ليحبطن الله عملك، أو الإشراك عملك. وقرىء بالنون أي: لنحبطن عملك بالنصب،والجلالة منصوبة بقوله: فاعبد على حدّ قولهم: زيد فاضرب، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء. وقال الفراء: إنشئت نصبه بفعل مضمر قبله، كأنه يقدر: اعبد الله فاعبده. وقال الزمخشري: {بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ }، لما أمروه بهمن استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلاً فاعبد الله، فحذف الشرط وجعلتقدم المفعول عوضاً منه. انتهى. ولا يكون تقدم المفعول عوضاً من الشرط لجواز أن يجيء: زيد فعمراً اضرب. فلو كانعوضاً، لم يجز الجمع بينهما. {وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } لأنعمه التي أعظمها الهداية لدين الله. وقرأ عيسى: بل الله بالرفع،والجمهور: بالنصب. {وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }: أي ما عرفوه حق معرفته، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره، إذأشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة. وقرأ الأعمش: حق قدره بفتح الدال؛ وقرأ الحسن، وعيسى، وأبونوفل، وأبو حيوة: وما قدروا بتشديد الدال، حق قدره: بفتح الدال، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه. والضمير في قدروا، قالابن عباس: في كفار قريش، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردًّا عليهم. وقيل: نزلت في قوم من اليهود تكلموافي صفات الله وجلاله، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط. وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا. ولما أخبرأنهم ما عرفوه حق معرفته، نبههم على عظمته وجلاله شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال: {وَٱلاْرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِوَٱلسَّمَـٰوٰتُ مَطْوِيَّـٰتٌ بِيَمِينِهِ }. وقال الزمخشري: والغرض من هذا الكلام، إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعة تصوير عظمته والتوقيف علىكنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. انتهى. ويعني: أو جهةمجاز معين، والإخبار: التصوير، والتخييل هو من المجاز. وقال غيره: الأصل في الكلام حمله على حقيقته، فإن قام دليل منفصلعلى تعذر حمله عليها، تعين صرفه إلى المجاز. فلفظ القبضة واليمين حقيقة في الجارحة، والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوتالأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب الحمل على المجاز، وذلك أنه يقال: فلان في قبضة فلان، إذا كان تحت تدبيره وتسخيره،ومنه:

{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ }

، فالمراد كونه مملوكاً لهم، وهذه الدار في يد فلان، وقبض فلان كذا، وصار فيقبضته، يريدون خلوص ملكه، وهذا كله مجاز مستفيض مستعمل. وقال ابن عطية: اليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة، وما اختلجفي الصدر من غير ذلك باطل. وما ذهب إليه القاضي، يعني ابن الطيب، من أنها صفات زائدة على صفات الذات،قول ضعيف، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحصها العلم. قال عز وجل: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }:أي منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. انتهى. وقال القفال: هذا كقول القائل: وما قدرني حق قدري، وأناالذي فعلت كذا وكذا، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، وجب أن لا تخطىء عن قدري ومنزلتي،ونظيره:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }

، أي كيف تكفرون من هذه صفته وحال ملكه؟ فكذا هنا، {وَمَا قَدَرُواْٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }: أي زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى، مع أن الأرض والسموات فيقبضة قدرته. انتهى. {وٱلاْرْضِ }: أي والأرضون السبع، ولذلك أكد بقوله: {جَمِيعاً }، وعطف عليه {*والسموات}، وهو جمع، والموضع موضعتفخيم، فهو مقتض المبالغة. والقبضة: المرة الواحدة من القبض، وبالضم: المقدار المقبوض بالكف، ويقال في المقدار: قبضته بالفتح، تسمية لهبالقدر، فاحتمل هنا هذا المعنى. واحتمل أن يراد المصدر على حذف مضاف، أي ذوات قبضة، أي يقبضهن قبضة واحدة، فالأرضونمع سعتها وبسطتها لا يبلغن إلا قبضة كف، وانتصب جميعاً على الحال. قال الحوفي: والعامل في الحال ما دل عليهقبضته انتهى. ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته، سواء كان مصدراً، أم أريد به المقدار. وقال الزمخشري: ومع القصد إلىالجمع يعني في الأرض، وأنه أريد بها الجمع قال: وتأكيده بالجميع، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر، ليعلم أولالأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضي كلهن. انتهى. ولم يذكر العامل في الحال،ويوم القيامة معمول لقبضته. وقرأ الحسن: قبضته بالنصب. قال ابن خالويه: بتقدير في قبضته، هذا قول الكوفيين. وأما أهل البصرةفلا يجيزون ذلك، كما لا يقال: زيد داراً انتهى. وقال الزمخشري: جعلها ظرفاً مشبهاً للوقت بالمبهم. وقرأ عيسى، والجحدري: مطوياتبالنصب على الحال، وعطف والسموات على الأرض، فهي داخلة في حيز والأرض، فالجميع قبضته. وقد استدل بهذه القراءة الأخفش علىجواز: زيد قائماً في الدار، إذ أعرب والسموات مبتدأ، وبيمينه الخبر، وتقدمت الحال والمجرور، ولا حجة فيه، إذ يكون والسمواتمعطوفاً على والأرض، كما قلنا، وبيمينه متعلق بمطويات، ومطويات: من الطي الذي هو ضد النشر، كما قال تعالى:

{ يَوْمَ نَطْوِى ٱلسَّمَاء كَطَىّ ٱلسّجِلّ للكتب }

وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه. وقيل: قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع، وبيمينه: وبقدرته.قال الزمخشري: وقيل: مطويات بيمينه: مفنيات بقسمه، لأنه أقسم أن يفنيها؛ ثم أخذ ينحي على من تأول هذا التأويل بمايوقف عليه في كتابه، وإنما قدر عظمته بما سبق إردافه أيضاً بما يناسب من ذلك، إذ كان فيما تقدم ذكرحال الأرض والسموات يوم القيامة، فقال: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ }، وهل النفخ في الصور ثلاث مرات أو نفختان؟ قول الجمهور:فنفخة الفزع هي نفخة الصعق، والصعق هنا الموت، أي فمات من في السموات ومن في الأرض. قال ابن عطية: والصورهنا: القرن، ولا يتصور هنا غير هذا. ومن يقول: الصور جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث. وروي أنبين النفختين أربعين. انتهى، ولم يعين. وقراءة قتادة، وزيد بن عليّ هنا: في الصور، بفتح الواو جمع صورة، يعكر علىقول ابن عطية، لأنه لا يتصور هنا إلا أن يكون القرن، بل يكون هذا النفخ في الصور مجازاً عن مشارفةالموت وخروج الروح. وقرىء: فصعق بضم الصاد، والظاهر أن الاستثناء معناه: {إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ }، فلم يصعق: أي لميمت، والمستثنون: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، أو رضوان خازن الجنة، والحور، ومالك، والزبانية؛ أو المستثنى الله، أقوال آخرها للحسن،وما قبله للضحاك. وقيل: الاستثناء يرجع إلى من مات قبل الصعقة الأولى، أي يموت من في السموات والأرض إلا منسبق موته، لأنهم كانوا قد ماتوا، وهذا نظير:

{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلاْولَىٰ }

ثم نفخ فيه أخرى،واحتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، كما أقيم في اوول، وأن يكون فيموضع رفع مقاماً مقام الفاعل، كما صرح به في قوله:

{ فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وٰحِدَةٌ }

{ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }

: أي أحياء قد أعيدت لهم الأبدان والأرواح، {يُنظَرُونَ }: أي ينتظرون ما يؤمرون، أو ينتظرون ماذا يفعلبهم، أو يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. والظاهر قيامهم الذي هو ضد القعود لأجل استيلاءالذهن عليهم. وقرأ زيد بن علي: قياماً بالنصب على الحال، وخبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية، وهي حال لابد منها، إذ هي محط الفائدة، إلا أن يقدر الخبر محذوفاً، أي فإذا هم مبعوثون، أي موجودون قياماً. وأن نصبتقياماً على الحال، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف. إن قلنا الخبر محذوف، وأن لا عامل، فالعامل هو العامل في الظرف،إن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه، فتقديره: فبالحضرة هم قياماً؛ وإن كان ظرف زمان، كما ذهبإليه الرياشي، فتقديره: ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه، هم أي وجودهم، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمانلا يكون خبراً عن الجثة؛ وإن كانت إذا حرفاً، كما زعم الكوفيون، فلا بد من تقدير الخبر، إلا أن اعتقدأن ينظرون هو الخبر، ويكون ينظرون عاملاً في الحال. وقرأ الجمهور: {وَأَشْرَقَتِ } مبنياً للفاعل، أي أضاءت؛ وابن عباس،وعبيد بن عمير، وأبو الجوزاء: مبنياً للمفعول من شرقت بالضوء تشرق، إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله، كما تقول: ملأالأرض عدلاً وطبقها عدلاً، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: وهذا إنما يترتب على فعل يتعدى، فهذا على أن يقال: أشرقالبيت وأشرقه السراج، فيكون الفعل مجاوزاً وغير مجاوز، كرجع ورجعته ووقف ووقفته. والأرض في هذه الآية: الأرض المبدلة من الأرضالمعروفة، ومعنى أشرقت: أضاءت وعظم نورها. انتهى. وقال صاحب اللوامح: وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولاً من شرقتالشمس إذا طلعت، فيصير متعدياً بالفعل بمعنى: أذهبت ظلمة الأرض، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت، فإن ذلكلازم، وهذا قد تعدى إلى الأرض لما لم يذكر الفاعل، وأقيمت الأرض مقامه؛ وهذا على معنى ما ذهب إليه بعضالمتأخرين من غير أن يتقدم في ذلك، لأن من الأفعال ما يكون متعدياً لازماً معاً على مثال واحد. انتهى.وفي الحديث الصحيح: يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس بها علم لأحد بنور ربها . قيل: يخلق اللهنوراً يوم القيامة، فيلبسه وجه الأرض، فتشرق الأرض به، وقال ابن عباس: النور هنا ليس من نور الشمس والقمر، بلهو نور يخلقه الله فيضيء الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة، والمعنى: أشرقت بنور خلقه الله تعالى، أضافه إليهإضافة الملك إلى الملك. وقال الزمخشري: استعار الله النور للحق، والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذلك. والمعنى:وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل، وبسط من القسط في الحسنات، ووزن الحسنات والسيئات، وينادي عليه بأنه مستعارإضافته إلى اسمه، لأنه هو الحق العدل، وإضافة اسمه إلى الأرض، لأنه يزينها حين ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازينقسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه، ويقولون للملك العادل: أشرقت الآفاقبعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. وقال رسول الله : الظلم ظلمات يوم القيامة ، وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم. {وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ }: أي صحائف الأعمال ووحد، لأنه اسم جنس،وكل أحد له كتاب على حدة، وأبعد من قال: الكتاب هنا اللوح المحفوظ. وروي ذلك عن ابن عباس، ولعله لايصح، وقد ضعف بأن الآية سيقت مقام التهديد في سياق الخير. {وَجِـىء بِٱلنَّبِيّيْنَ } ليشهدوا على أممهم، {وَٱلشُّهَدَاء }، قيل:جمع شاهد، وهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. وقيل: هم الرسل من الأنبياء. وقيل: أمة محمد ،يشهدون للرسل. وقال عطاء، ومقاتل، وابن زيد: الحفظة. وقال ابن زيد أيضاً: النبيون، والملائكة، وأمة محمد عليه السلام، والجوارح. وقالقتادة: الشهداء جمع شهيد، وليس فيه توعد، وهو مقصود الآية. {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ }: أي بين العالم، ولذلك قسموا بعد إلىقسمين: أهل النار وأهل الجنة، {بِٱلْحَقّ }: أي بالعدل. {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ }: أي جوزيت مكملاً. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}، فلا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد، وفي ذلك وعيد وزيادة تهديد. {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىإِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَتْلُونَ }. ولما ذكر أشياء من أحوال يومالقيامة على سبيل الإجمال، بين بعد كيفية أحوال الفريقين وما أفضى إليه كل واحد منهما فقال: {وَسِيقَ }، والسوق يقتضيالحث على المسير بعنف، وهو الغالب فيه. وجواب إذا: {فُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا }، ودل ذلك على أنه لا يفتح إلا إذاجاءت؛ كسائر أبواب السجون، فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فيفتح ثم يغلق عليهم. وتقدمذكر قراءة التخفيف والتشديد في فتحت وأبوابها سبعة، كما ذكر في سورة الحجر. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا }، على سبيل التقريعوالتوبيخ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ }: أي من جنسكم، تفهمون ما ينبئونكم به، وسهل عليكم مراجعتهم. وقرأ ابن هرمز: تأتكمبتاء التأنيث؛ والجمهور: بالياء. {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَـٰتِ رَبّكُمْ }: أي الكتب المنزلة للتبشير والنذارة، {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا }: وهويوم القيامة، وما يلقى فيه المسمى من العذاب، {قَالُواْ بَلَىٰ } أي قد جاءتنا، وتلوا وأنذروا، وهذا اعتراف بقيام الحجةعليهم، {وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ } أي قوله تعالى:

{ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ }

. {عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }: وضع الظاهر موضع المضمر، أيعلينا، صرحوا بالوصف الموجب لهم العقاب. ولما فرغت محاورتهم مع الملائكة، أمروا بدخول النار. {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْإِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً }: عبر عن الإسراع بهم إلى الجنة مكرمين بالسوق، والمسوق دوابهم، لأنهم لا يذهبون إليها إلا راكبين.ولمقابلة قسيمهم ساغ لفظ السوق، إذ لو لم يتقدم لفظ وسيق لعبر بأسرع، وإذا شرطية وجوابها قال الكوفيون: وفتحت، والواوزائدة؛ وقال غيره محذوف. قال الزمخشري: وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل على أنه شيء لا يحيطبه الوصف، وحق موقعه ما بعد خالدين. انتهى. وقدره المبرد بعد خالدين سعدوا. وقيل الجواب: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا }، علىزيادة الواو، قيل: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا }. ومن جعل الجواب محذوفاً، أو جعله: {وَقَالَ لَهُمْ }، على زيادةالواو؛ وجعل قوله: وفتحت جملة حالية، أي وقد فتحت أبوابها لقوله:

{ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلاْبْوَابُ }

. وناسب كونها حالاًأن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها، بخلاف أبواب السجود. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـٰمٌ عَلَيْكُـمْ }: يحتمل أنيكون تحية منهم عند ملاقاتهم، وأن كون خبراً بمعنى السلامة والأمن. {طِبْتُمْ }: أي أعمالاً ومعتقداً ومستقراً وجزاء. {فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ}: أي مقدرين الخلود. {وَقَالُواْ }، أي الداخلون، الجنة {ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلاْرْضَ }: أي ملكناهانتصرف فيها كما نشاء، تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه. وقيل: ورثوها من أهل النار، وهي أرض الجنة، ويبعد قولمن قال هي أرض الدنيا، قاله قتادة وابن زيد والسدي. {نَتَبَوَّأُ } منها، {حَيْثُ نَشَاء }: أي نتخذ أمكنة ومساكن.والظاهر أن قوله: {فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ }: أي بطاعة الله هذا الأجر من كلام الداخلين. وقال مقاتل: هو من كلامالله تعالى. {وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ }: الخطاب للرسول حافين. قال الأخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا يفرد. وقيل: لأن الواحدلا يكون حافاً، إذ الحفوف: الإحداق بالشيء من حول العرش. قال الأخفش: من زائدة، أي حافين حول العرش؛ وقيل: هيلابتداء الغاية. والظاهر عود الضمير من بينهم على الملائكة، إذ ثوابهم، وإن كانوا معصومين، يكون على حسب تفاضل مراتبهم. فذلكهو القضاء بينهم بالحق؛ وقيل: ضمير {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }. الظاهر أن قائل ذلك هم من ذوات بينهم المخاطبةمن الداخلين الجنة ومن خزنتها، ومن الملائكة الحافين حول العرش، إذ هم في نعم سرمدي منجاة من عذاب الله. وقالالزمخشري: المقضي بينهم، إما جميع العباد، وإما الملائكة، كأنه قيل: {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقّ }. وقالوا: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }على إفضاله وقضائه بيننا بالحق، وأنزل كل منا منزلته التي هي حقه. وقال ابن عطية: وقيل: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} خاتمة المجالس المجتمعات في العلم.