تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الرحمن
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ } * { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } * { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } * { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } * { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } * { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } * { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } * { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } * { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } * { فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } * { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } * { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } * { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ } * { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } * { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } * { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مُدْهَآمَّتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } * { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } النجم: النبات الذي لا ساق له، من نجم: أي ظهر وطلع. الأنام: الحيوان.العصف: ورق الزرع. الريحان: كل مشموم طيب الريح من النبات. المرجان: الخرز الأحمر، وقيل: صغار الدر، واللؤلؤ كباره، واللؤلؤ بناءغريب. قيل: لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة؛ اللؤلؤ، والجؤجؤ، والدؤدؤ، واليؤيؤ طائر، والبؤبؤ. والنفوذ: الخروج منالشيء بسرعة. الشواظ: اللهب الخالص بغير دخان. وقال حسان:
هجوتك فاختضعت لها بذل | بقافية تأجج كالشواظ |
وقال رؤبة:
ونـار حـرب تسعـر الشواظـا |
وتضم شينه وتكسر. النحاس، قال الخليل: والنحاس هو الدخان الذي لا لهبله، وهو معروف في كلام العرب. قال نابغة بني جعدة:
تضيء كضوء سراج السليط | لم يجعل الله فيه نحاساً |
وقال الكسائي: النحاس هو النار الذي له ريح شديد، وقيل: الصفر المذاب، وتضم نونه وتكسر.الوردة: الشديدة الحمرة، يقال: فرد ورد، وحجرة وردة. الدهان: الجلد الأحمر. أنشد القاضي منذر بن سعد، رحمه الله:
تبعن الدهان الحمر كل عشية | بموسم بدر أو بسوق عكاظ |
الناصية: مقدم الرأس. آن: نهاية في الحر. الأفنان،جمع فنن: وهو الغصن، أو جمع فن: وهو النوع. قال الشاعر:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبى | لهوت به والعيش أخضر ناضر |
وقال نابغة بني ذبيان:
بكاء حمامة تدعو هديلا | مفجعة على فنن تغني |
الجني: ما يقطف من الثمرة، وهو فعل بمعنى مفعول، كالقبض بمعنى مقبوض. قاصراتالطرف: قصرت ألحاظهن على أزواجهنّ. قال الشاعر:
من القاصرات الطرف لو دب محول | من الذر فوق الأثب منها لأثرا |
الطمث: دم الحيض ودم الافتضاض. الياقوت: حجر معروف، وقيل: لا تؤثر فيه النار، قال الشاعر:
وطالما أصلى الياقوت جمر غضى | ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت |
الادهمام: السواد. النضح: فوران الماء. المقصورة:المحبوسة، ويقال: قصيرة وقصورة: أي مخدرة. وقال كثير:
وأنت التي حببت كل قصيرة | إليّ ولم تشعر بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد |
الخيمةمعروفة، وهي بيت المرتحل من خشب وتمام وسائر الحشيش، وإذا كان من شعر فهو بيت، ولا يقال له خيمة، ويجمععلى خيام وخيم. قال جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح | سقيت الغيث أيتها الخيام |
الرفرف: ما يدلى من الأسرة من غالي الثياب. وقال الجوهري: ثياب خضر تتخذ منها المجالس، الواحدة رفرفة، واشتقاقه من رفإذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر لتحريك جناحيه وارتفاعه في الهواء، وسمي الطائر رفرافاً، ورفرف جناحيه: حركهما ليقع على الشيء، ورفرفالسحاب: هسد به. العبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه بلد الجن، فينسبون إليه كل شيء عجيب. قال زهير:
بخيل عليها جنة عبقرية | جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا |
وقال امرؤ القيس:
كأن صليل المرء حين يشذه | صليل زيوف ينتقدن بعبقرا |
وقال ذو الرمة:
حي كأن رياض العف ألبسها | من وشي عبقر تحليل وتنجيد |
وقال الخليل: العبقري: كل جليل نفيس من الرجال والنساء وغيرهم. الجلال: العظمة. قال الشاعر:
خبر ما قد جاءنا مستعمل | جل حتى دق فيه الأجل |
{الرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَٱلْقُرْءانَ * خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ * ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَٱلسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ* أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى ٱلْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ * وَٱلاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ * فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُذَاتُ ٱلاْكْمَامِ * وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَٱلْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ* مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ *فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاْعْلَـٰمِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَافَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ* كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }. هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنيةفي قول ابن مسعود. وعن ابن عباس: القولان، وعنه: سوى آية هي مدنية، وهي: {يَسْأَلُهُ مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} الآية. وسبب نزولها فيما قال مقاتل: أنه لما نزل { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ } الآية، قالوا: ما نعرفالرحمن، فنزلت: {ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ }. وقيل: لما قالوا { إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } ، أكذبهم الله تعالى وقال: {ٱلرَّحْمَـٰنُ *عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ }. وقيل: مدنية نزلت، إذ أبى سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح: {بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}. ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما ذكر مقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر، ذكر شيئاًمن آيات الملك وآثار القدرة، ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب، إذ كان في آخر السورة ذكره على جهةالاختصار والإيجاز. ولما ذكر قوله: { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } ، فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير، فكأنه قيل: من المتصف بذلك؟ فقال:{ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ }، فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة، وهو تعلىم القرآن الذي هو شفاء للقلوب. والظاهر أن{ٱلرَّحْمَـٰنُ } مرفوع على الابتداء، {وَعَلَّمَ * ٱلْقُرْءانَ } خبره. وقيل: {ٱلرَّحْمَـٰنُ } آية بمضمر، أي الله الرحمن، أو الرحمنربنا، وذلك آية؛ و{عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ } استئناف إخبار. ولما عدّد نعمه تعالى، بدأ من نعمه بما هو أعلى رتبها، وهوتعليم القرآن، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به. ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلم، ذكره بعدفي قوله: {خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ }، ليعلم أنه المقصود بالتعليم. ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن، كان كالسبب فيخلقه تقدّم على خلقه. ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإنسان من المنطق المفصح عن الضمير، والذي به يمكنقبول التعليم، وهو البيان. ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئاً مما يدرك بالنطق؟ وعلم متعدّية إلى اثنين،حذف أولهما لدلالة المعنى عليه، وهو جبريل، أو محمد عليهما الصلاة والسلام، أو الإنسان، أقوال. وتوهم أبو عبد الله الرازيأن المحذوف هو المفعول الثاني، قال: فإن قيل: لم ترك المفعول الثاني؟ وأجاب بأن النعمة في التعليم، لا في تعليمشخص دون شخص، كما يقال: فلان يطعم الطعام، إشارة إلى كرمه، ولا يبين من يطعمه. انتهى. والمفعول الأول هو الذيكان فاعلاً قبل النقل بالتضعيف أو الهمزة في علم وأطعم. وأبعد من ذهب إلى أن معنى {عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ }:جعله علامة وآية يعتبر بها، وهذه جمل مترادفة، أخبار كلها عن الرحمن، جعلت مستقلة لم تعطف، إذ هي تعداد لنعمهتعالى. كما تقول: زيد أحسن إليك، خوّلك: أشار بذكرك، والإنسان اسم جنس. وقال قتادة الإنسان: آدم عليه السلام. وقال ابنكيسان: محمد ﷺ. وقال ابن زيد والجمهور: {ٱلبَيَانَ }: المنطق، والفهم: الإبانة، وهو الذي فضل به الإنسانعلى سائر الحيوان. وقال قتادة: هو بيان الحلال والشرائع، وهذا جزء من البيان العام. وقال محمد بن كعب: ما يقولوما يقال له. وقال الضحاك: الخير والشر. وقال ابن جريج: الهدى. وقال يمان: الكتابة. ومن قال: الإنسان آدم، فالبيان أسماءكل شيء، أو التكلم بلغات كثيرة أفضلها العربية، أو الكلام بعد أن خلقه، أو علم الدنيا والآخرة، أو الاسم الأعظمالذي علم به كل شيء، أقوال، آخرها منسوب لجعفر الصادق. ولما ذكر تعالى ما أنعم به على الإنسان منتعليمه البيان، ذكر ما امتن به من وجود الشمس والقمر، وما فيهما من المنافع العظيمة للإنسان، إذ هما يجريان علىحساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما. والحسبان مصدر كالغفران، وهو بمعنى الحساب، قاله قتادة. وقال الضحاك وأبو عبيدة: جمعحساب، كشهاب وشهبان. قال ابن عباس وأبو مالك وقتادة: لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج، وغير ذلك حسبانات شتى. وقالابن زيد: لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً يريد من مقادير الزمان. وقال مجاهد: الحسبان: الفلك المستدير،شبهه بحسبان الرحى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة. وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان، فأما على حذف، أيجري الشمس والقمر كائن بحسبان. وقيل: الخبر محذوف، أي يجريان بحسبان، وبحسبان متعلق بيجريان، وعلى قول مجاهد: تكون الباء فيبحسبان ظرفية، لأن الحسبان عنده الفلك. ولما ذكر تعالى ما أنعم به من منفعة الشمس والقمر، وكان ذلك منالآيات العلوية، ذكر في مقابلتهما من الآثار السفلية النجم والشجر، إذ كانا رزقاً للإنسان، وأخبر أنهما جاريان على ما أرادالله بهما، من تسخيرهما وكينونتهما على ما اقتضته حكمته تعالى. ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن، ذكرما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق، وكان تقديم النجم، وهو مالا ساق له، لأنه أصل القوت، والذيله ساق ثمره يتفكه به غالباً. والظاهر أن النجم هو الذي شرحناه، ويدل عليه اقترانه بالشجر. وقال مجاهد وقتادة والحسن:النجم: اسم الجنس من نجوم السماء. وسجودهما، قال مجاهد والحسن: ذلك في النجم بالغروب ونحوه، وفي الشجر بالظل واستدارته. وقالمجاهد أيضاً: والسجود تجوز، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل. والجمل الأول فيها ضمير يربطها بالمبتدأ، وأما في هاتين الجملتين فاكتفىبالوصل المعنوي عن الوصل اللفظي، إذ معلوم أن الحسبان هو حسبانه، وأن السجود له لا لغيره، فكأنه قيل: بحسبانه ويسجدانله. ولما أوردت هذه الجمل مورد تعديد النعم، رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله، والتناسب الذي بينهاتين الجملتين ظاهر، لأن الشمس والقمر علويان، والنجم والشجر سفليان. {وَٱلسَّمَاء رَفَعَهَا }: أي خلقها مرفوعة، حيث جعلها مصدرقضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه. وقرأ الجمهور: {وَٱلسَّمَاء }، بالنصب علىالاشتغال، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي {يَسْجُدَانِ }. وقرأ أبو السمال: والسماء بالرفع، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية. وقرأ الجمهور:{وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ }، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان، أي أقره وأثبته. وقرأ إبراهيم: ووضع الميزان، بالخفض وإسكان الضاد. والظاهر أنه كلما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها، وإن اختلفت الآلات، قال معناه ابن عباس والحسن وقتادة، جعله تعالى حاكماً بالسوية فيالأخذ والإعطاء. وقال مجاهد والطبري والأكثرون: الميزان: العدل، وتكون الآلات من بعض ما يندرج في العدل. بدأ أولاً بالعلم، فذكرما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن؛ ثم ذكر ما به التعديل في الأمور، وهو الميزان، كقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَوَٱلْمِيزَانَ }، ليعلموا الكتاب ويفعلوا ما يأمرهم به الكتاب. {أَن لا * تَطْغَوْاْ فِى ٱلْمِيزَانِ }: أي لأن لا تطغوا،فتطغوا منصوب بأن. وقال الزمخشري: أو هي أن المفسرة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون أن مفسرة، فيكون تطغوا جزماًبالنهي. انتهى، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة، لأنه فات أحد شرطيها، وهو أن يكون ما قبلها جملةفيها معنى القول. {وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } جملة ليس فيها معنى القول. والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد، وأما مالايقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه. ولما كانت التسوية مطلوبة جداً، أمر الله تعالى فقال: {وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ }.وقرأ الجمهور: {وَلاَ تُخْسِرُواْ }، من أخسر: أي أفسد ونقص، كقوله: { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } ؛ أي ينقصون. وبلالبن أبي بردة وزيد بن علي: تخسر بفتح التاء، يقال: خسر يخسر، وأخسر يخسر بمعنى واحد، كجبر وأجبر. وحكى ابنجني وصاحب اللوامح، عن بلال: فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير: في الميزان،فحذف الجار ونصب، ولا يحتاج إلى هذا التخريج. ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى: { خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } ، و { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةَ } ؟ وقرىء أيضاً: تخسروا، بفتح التاء وضم السين. لما منع من الزيادة، وهي الطغيان، نهى عن الخسران الذيهو نقصان، وكرر لفظ الميزان، تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه. ولما ذكر السماء، ذكر مقابلتها فقال:{وَٱلاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ }: أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها. وقرأ الجمهور: والأرض بالنصب؛ وأبو السمال: بالرفع. والأنام، قالابن عباس: بنو آدم فقط. وقال أيضاً هو وقتادة وابن زيد والشعبي: الحيوان كله. وقال الحسن: الثقلان، الجن والإنس. {فِيهَافَـٰكِهَةٌ }: ضروب مما يتفكه به. وبدأ بقوله: {فَـٰكِهَةٍ }، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى، ونكرلفظها، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها. ثم ثنى بالنخل، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها، وهو الثمر لكثرةالانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر. ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثرالأقاليم، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه، ووصفه بقوله: {ذُو ٱلْعَصْفِ } تنبيهاً على إنعامهعليهم بما يقوتهم من الحب، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن. وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم، وبينهما النخل والحب، ليحصلما به يتفكه، وما به يتقوت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة. وذكر النخل باسمها، والفاكهة دون شجرها، لعظمالمنفعة بالنخل من جهات متعددة، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخلومن الفاكهة دون شجرتها. وقرأ الجمهور: {وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ }، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله؛ وابن عامروأبو حيوة وابن أبي عبلة: بنصب الثلاثة، أي وخلق الحب. وجوزوا أن يكون {وَٱلرَّيْحَانُ } حالة الرفع وحالة النصب علىحذف مضاف، أي وذو الريحان حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ وحمزة والكسائي والأصمعي، عن أبي عمرو: والريحان بالجر، والمعنى:والحب ذو العصف الذي هو علف البهائم، والريحان الذي هو مطعم الناس، ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر، وريحان منذوات الواو. وأجاز أبو علي أن يكون اسماً، ووضع موضع المصدر، وأن يكون مصدراً على وزن فعلان كاللبان. وأبدلت الواوياء، كما أبدلوا الياء واواً في أشاوى، أو مصدراً شاذاً في المعتل، كما شذ كبنونة وبينونة، فأصله ريوحان، قلبت الواوياء وأدغمت في الياء فصار ريحان، ثم حذفت عين الكلمة، كما قالوا: ميت وهين. ولما عدد تعالى نعمه، خاطبالثقلين بقوله: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }، أي أن نعمه كثيرة لا تحصى، فبأيها تكذبان؟ أي من هذه نعمه لايمكن أن يكذب بها. وكان هذا الخطاب للثقلين، لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال. ولقوله: {خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ }، و{خُلِقَ* ٱلْجَانَّ }؛ ولقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ }، وقد أبعد من جعله خطاباً للذكر والأنثى من بني آدم. وأبعدمن هذا قول من قال: إنه خطاب على حد قوله: { أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ } ، ويا حرسيّ اضربا عنقه، يعني أنهخطاب للواحد بصورة الاثنين، فبأي منوناً في جميع السورة، كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه {رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } بدلمعرفة من نكرة، وآلاء تقدم في الأعراف أنها النعم، واحدها إلى وألا وإلى وألى. {خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ }: لما ذكرالعالم الأكبر من السماء والأرض وما أوجد فيها من النعم، ذكر مبدأ من خلقت له هذه النعم، والإنسان هو آدم،وهو قول الجمهور. وقيل: للجنس، وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق من الصلصال. وإذا أريد بالإنسان آدم، فقد جاءت غايات لهمختلفة، وذلك بتنقل أصله؛ فكان أولاً تراباً، ثم طيناً، ثم حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً، فناسب أن ينسب خلقه لكل واحدمنها. والجان هو أبو الجن، وهو إبليس، قاله الحسن. وقال مجاهد: هو أبو الجن، وليس بإبليس. وقيل: الجان اسم جنس،والمارج: ما اختلط من أصفر وأحمر وأخضر، أو اللهب، أو الخالص، أو الحمرة في طرف النار، أو المختلط بسواد، أوالمضطرب بلا دخان، أقوال، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية في {مّن نَّارٍ } للتبعيض. وقيل للبيان والتكرار في هذه الفواصل:للتأكيد والتنبيه والتحريك، وهي موجودة في مواضع من القرآن. وذهب قوم منهم ابن قتيبة إلى أن هذا التكرار إنما هولاختلاف النعم، فكرر التوقيف في كل واحد منها. وقرأ الجمهور: {رَبّ }، و{رَبّ } بالرفع، أي هو رب؛ وأبوحيوة وابن أبي عبلة: بالخفض بدلاً من ربكما، وثنى المضاف إليه لأنهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما، قاله مجاهد. وقيل: مشرقاالشمس والقمر ومغرباهما. وعن ابن عباس: للشمس مشرق في الصيف مصعد، ومشرق في الشتاء منحدر، تنتقل فيهما مصعدة ومنحدرة. انتهى.فالمشرقان والمغربان للشمس. وقيل: المشرقان: مطلع الفجر ومطلع الشمس، والمغربان مغرب الشفق ومغرب الشمس. ولسهل التستري كلام في المشرقين والمغربينشبيه بكلام الباطنية المحرفين مدلول كلام الله، ضربنا عن ذكره صفحاً. وكذلك ما وقفنا عليه من كلام الغلاة الذين ينسبونللصوفية، لأنا لا نستحل نقل شيء منه. وقد أولغ صاحب كتاب التحرير والتحبير بحسب ما قاله هؤلاء الغلاة في كلآية آية، ويسمي ذلك الحقائق، وأرباب القلوب وما ادعوا فهمه في القرآن فأغلوا فيه، لم يفهمه عربي قط، ولا أرادهالله تعالى بتلك الألفاظ، نعوذ بالله من ذلك. مرج البحرين: تقدم الكلام على ذلك في الفرقان. قال ابن عطية:وذكر الثعلبي في مرج البحرين ألغازاً وأقوالاً باطنة لا يلتفت إلى شيء منها. انتهى، والظاهر التقاؤهما، أي يتجاوزان، فلا فصلبين الماءين في رؤية العين. وقيل: يلتقيان في كل سنة مرة. وقيل: معدان للالتقاء، فحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ بينهما.{بَرْزَخٌ }: أي حاجز من قدرة الله تعالى، {لاَّ يَبْغِيَانِ }: لا يتجاوزان حدهما، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممارجة.وقيل: البرزخ: أجرام الأرض، قاله قتادة؛ وقيل: لا يبغيان: أي على الناس والعمران، وعلى هذا والذي قبله يكون من البغي.وقيل: هو من بغى، أي طلب، فالمعنى: لا يبغيان حالاً غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها. وقيل: ماء الأنهارلا يختلط بالماء الملح، بل هو بذاته باق فيه. وقال ابن عطية: والعيان لا يقتضيه. انتهى، يعني أنه يشاهدالماء العذب يختلط بالملح فيبقي كله ملحاً، وقد يقال: إنه بالاختلاط تتغير أجرام العذب حتى لا تظهر، فإذا ذاق الإنسانمن الملح المنبث فيه تلك الأجزاء الدقيقة لم يحس إلا الملوحة، والمعقول يشهد بذلك، لأن تداخل الأجسام غير ممكن، لكنالتفرق والالتقاء ممكن. وأنشد القاضي منذر بن سعيد البلوطي، رحمه الله تعالى:
وممزوجة الأمواه لا العذب غالب | على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب |
وقرأ الجمهور: {يَخْرُجُ } مبنياً للفاعل؛ ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة: مبنياً للمفعول؛ والجعفي،عن أبي عمرو: بالياء مضمومة وكسر الراء، أي يخرج الله؛ وعنه وعن أبي عمرو، وعن ابن مقسم: بالنون. واللؤلؤ والمرجاننصب في هاتين القراءتين. والظاهر في {مِنْهُمَا } أن ذلك يخرج من الملح والعذب. وقال بذلك قوم، حكاه الأخفش. وردالناس هذا القول، قالوا: والحس يخالفه، إذ لا يخرج إلا من الملح، وعابوا قول الشاعر:
فجاء بها ما شئت من لطيمة | على وجهها ماء الفرات يموج |
وقال الجمهور: إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقعفيها الأنهار والمياه العذبة، فناسب إسناد ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين. وقال ابن عباس وعكرمة: تكون هذه الأشياء فيالبحر بنزول المطر، لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر، فلذلك قال {مِنْهُمَا }. وقال أبو عبيدة: إنما يخرج من الملح،لكنه قال {مِنْهُمَا } تجوزاً. وقال الرماني: العذب فيها كاللقاح للملح، فهو كما يقال؛ الولد يخرج من الذكر والأنثى. وقالابن عطية، وتبع الزجاج من حيث هما نوع واحد، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما، وإن كانت تختص عند التفصيلالمبالغ بأحدهما، كما قال: { سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ * طِبَاقاً * وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } ، وإنما هو في إحداهن، وهي الدنياإلى الأرض. وقال الزمخشري نحواً من قول ابن عطية، قال: فإن قلت: لم قال {مِنْهُمَا }، وإنما يخرجان من الملحقلت: لما التقيا وصارا كالشيء الواحد، جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميعالبحر، ولكن من بعضه. وتقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلة من محالة، بل من دار واحدة من دوره.وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب. انتهى. وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف، والتقدير: يخرجمن أحدهما، كقوله تعالى: { عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } : أي من إحدى القريتين. وقيل: هما بحران، يخرج من أحدهمااللؤلؤ ومن الآخر المرجان. وقال أبو عبد الله الرازي: كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس، ومن أعلمأن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب، وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح. ولكن لم قلتم إن الصدفلا يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء الملح وكيف يمكن الجزم به والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجارالذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد، فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم؟ واللؤلؤ، قال ابن عباس والضحاك وقتادة:كبار الجوهر؛ والمرجان صغاره. وعن ابن عباس أيضاً، وعلي ومرة الهمداني عكس هذا. وقال أبو عبد الله وأبو مالك: المرجان:الحجر الأحمر. وقال الزجاج: حجر شديد البياض. وحكي القاضي أبو يعلى أنه ضرب من اللؤلؤ، كالقضبان، والمرجان: اسم أعجميّ معرب.قال ابن دريد: لم أسمع فيه نقل متصرف، وقال الأعشى:
من كل مرجانة في البحر أحرزها | تيارها ووقاها طينها الصدف |
قيل: أراد اللؤلؤة الكبيرة. وقرأ طلحة: اللؤلؤ بكسر اللام الثالثة، وهي لغة. وعبد اللولي: تقلب الهمزةالمتطرفة ياء ساكنة بعد كسرة ما قبلها، وهي لغة، قاله أبو الفضل الرازي. {وَلَهُ }: خص تعالى الجواري بأنها له،وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن، لأنهم لما كانوا هم منشئيها، أسندها تعالى إليه، إذ كان تمام منفعتهاإنما هو منه تعالى، فهو في الحقيقة مالكها. والجواري: السفن. وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث، عن أبي عمرو: بضمالراء، كما قالوا في شاك شاك. وقرأ الجمهور؛ {*المنشآت} بفتح الشين، اسم مفعول: أي أنشأها الله، أو الناس، أو المرفوعاتالشراع. وقال مجاهد: ما له شراع من المنشآت، وما لم يرفع له شراع، فليس من المنشآت. والشراع: القلع. والأعمش وحمزةوزيد بن علي وطلحة وأبو بكر: بخلاف عنه، بكسر الشين: أي الرافعات الشراع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو التيتنشىء السفر إقبالاً وإدباراً. وشدد الشين ابن أبي عبلة والحسن المنشأة، وحد الصفة، ودل على الجمع الموصوف، كقوله: { فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ } ، وقلب الهمزة ألفاً على حد قوله:
إن السبـاع لتهـدي فـي مرابـضها |
يريد: لتهدأ، التاء لتأنيث الصفة، كتبت تاءعلى لفظها في الوصل. {كَٱلاْعْلَـٰمِ }: أي كالجبال والآكام، وهذا يدل على كبر السفن حيث شبهها بالجبال، وإن كانت المنشآتتنطلق على السفينة الكبيرة والصغيرة. وعبر بمن في قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا } تغليباً لمن يعقل، والضمير في {عَلَيْهَا }قليل عائد على الأرض في قوله: {وَٱلاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ }، فعاد الضمير عليها، وإن كان بعد لفظها. والفناء عبارة عنإعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره، والوجه يعبر به عن حقيقة الشيء، والجارجة منتفية عن الله تعالى، ونحو كل شيءهالك إلا وجهه. وتقول صعاليك مكة: أين وجه عربي كريم يجود عليّ؟ وقرأ الجمهور: ذو بالواو، وصفة للوجه؛ وأبي وعبدالله: ذي بالياء، صفة للرب. والظاهر أن الخطاب في قوله: {وَجْهُ رَبّكَ } للرسول، وفيه تشريف عظيم له صلى اللهعليه وسلم. وقيل: الخطاب لكل سامع. ومعنى {ذُو ٱلْجَلْـٰلِ }: الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم، أو الذييتعجب من جلاله، أو الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده. {يَسْأَلُهُ مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }: أيحوائجهم، وهو ما يتعلق بمن في السموات من أمر الدين وما استعبدوا به، ومن في الأرض من أمر دينهم ودنياهم.وقال أبو صالح: من في السموات: الرحمة، وسن في الأرض: المغفرة والرزق. وقال ابن جريج: الملائكة الرزق لأهل الأرض، والمغفرةوأهل الأرض يسألونهما جميعاً. والظاهر أن قوله: يسأله استئناف إخبار. وقيل: حال من الوجه، والعامل فيه يبقى، أي هو دائمفي هذه الحال. انتهى، وفيه بعد. ومن لا يسأل، فحاله تقتضي السؤال، فيصح إسناد السؤال إلى الجميع باعتبار القدر المشترك،وهو الافتقار إليه تعالى. {كُلَّ يَوْمٍ }: أي كل ساعة ولحظة، وذكر اليوم لأن الساعات واللحظات في ضمنه. {هُوَفِى شَأْنٍ }، قال ابن عباس: في شأن يمضيه من الخلق والرزق والإحياء والإماتة. وقال عبيد بن عمير: يجيب داعياً،ويفك عانياً، ويتوب على قوم، ويغفر لقوم. وقال سويد بن غفلة: يعتق رقاباً، ويعطي رغاماً ويقحم عقاباً. وقال ابن عيينة:الدهر عند الله يومان، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه الأمر والنهى والإمانة والإحياء؛ والثاني الذي هو يومالقيامة، فشأنه فيه الجزاء والحساب. وعن مقاتل: نزلت في اليهود، فقالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً. وقال الحسينبن الفضل، وقد سأله عبد الله بن طاهر عن قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ }: وقد صح أن القلمجف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال: شؤون يبديها، لا شؤون يبتديها. وقال ابن بحر: هو في يوم الدنيافي الابتلاء، وفي يوم القيامة في الجزاء. وانتصب {كُلَّ يَوْمٍ } على الظرف، والعامل فيه العامل في قوله: {فِى شَأْنٍ}، وهو مستقر المحذوف، نحو: يوم الجمعة زيد قائم. قوله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ * فَبِأَىّ ءالاءرَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * تُكَذّبَانِ * يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ وَٱلإنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَـٰرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّبِسُلْطَـٰنٍ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ* فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدّهَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْـئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَجَانٌّ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلاْقْدَامِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * هَـٰذِهِجَهَنَّمُ ٱلَّتِى يُكَذّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَرَبّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ *فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلّ فَـٰكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَامِنْ إِسْتَبْرَقٍ }. لما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم وخلق الإنسان والسماء والأرض وما أودع فيهماوفناء ما على الأرض، ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة الجزاء وقال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ }: أي ننظر في أموركم يوم القيامة،لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ منه. وجرى على هذا كلام العرب في أن المعنى: سيقصد لحسابكم، فهو استعارةمن قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما شغلني عنه حتى لا يكون ليشغل سواه، والمراد التوفر على الانتقام منه. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا، والأول أبين. انتهى،يعني: أن يكون ذلك يوم القيامة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلقالتي أرادها بقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ }، فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغاً لهمعلى طريق المثل. انتهى. والذي عليه أئمة اللغة أن فرغ تستعمل عند انقضاء الشغل الذي كان الإنسان مشتغلاً به، فلذلكاحتاج قوله إلى التأويل على أنه قد قد قيل: إن فرغ يكون بمعنى قصد واهتم، واستدل على ذلك بما أنشدهابن الأنباري لجرير:
الآن وقد فرغت إلى نمير | فهذا حين كنت لهم عذابا |
أي:قصدت. وأنشد النحاس:
فـرغـت إلـى العبـد المقيـد فـي الحجـل |
وفي الحديث: فرغ ربك من أربع ، وفيه: لأتفرغن إليك يا خبيث ، يخاطببه رسول الله ﷺ إرب العقبة يوم بيعتها: أي لأقصدن إبطال أمرك، نقل هذا عن الخليل والكسائيوالفراء. وقرأ الجمهور: سنفرغ بنون العظمة وضم الراء، من فرغ بفتح الراء، وهي لغة الحجاز؛ وحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيدبن علي: بياء الغيبة؛ وقتادة والأعرج: بالنون وفتح الراء، مضارع فرغ بكسرها، وهي تميمية؛ وأبو السمال وعيسى: بكسر النون وفتحالراء. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر؛ والأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما؛ وابن أبي عبلة والزعفراني: بضم الياء وفتحالراء، مبنياً للمفعول؛ وعيسى أيضاً: بفتح النون وكسر الراء؛ والأعراج أيضاً: بفتح الياء والراء، وهي رواية يونس والجعفي وعبد الوارثعن أبي عمرو. والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض، أو لكونهما مثقلين بالذنوب، أو لثقل الإنس.وسمي الجن ثقلاً لمجاورة الإنس، والثقل: الأمر العظيم. وفي الحديث: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، سميا بذلك لعظمهماوشرفهما. والظاهر أن قوله: {*يا معشر} الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة، { أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } . وقيل:يقال لهم ذلك. قال الضحاك: يفرون في أقطار الأرض لما يرون من الهول، فيجدون الملائكة قد أحاطت بالأرض، فيرجعون منحيث جاءوا، فحينئذ يقال لهم ذلك. وقيل: هو خطاب في الدنيا، والمعنى: إن استطعتم الفرار من الموت. وقال ابن عباس:{إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } بأذهانكم وفكركم، {أَن تَنفُذُواْ }، فتعلمون علم {أَقْطَـٰرِ }: أي جهات {ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }. قال الزمخشري: {وَمَاخَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ }، كالترجمة لقوله: {أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ }، {إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } أن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من ملكوتي ومنسمائي وأرضي فافعلوا؛ ثم قال: لا تقدرون على النفوذ {إِلاَّ بِسُلْطَـٰنٍ }، يعني: بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك، ونحوه: { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } . انتهى. {فَٱنفُذُواْ }: أمر تعجيز. وقال قتادة: السلطان هنا الملك، وليسلهم ملك. وقال الضحاك أيضاً: بينما الناس في أسواقهم، انفتحت السماء ونزلت الملائكة، فتهرب الجن والإنس، فتحدق بهم الملائكة. وقرأزيد بن علي: إن استطعتما، على خطاب تثنية الثقلين ومراعاة الجن والإنس؛ والجمهور: على خطاب الجماعة إن استطعتم، لأن كلاًمنهما تحته أفراد كثيرة، كقوله: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } . {يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ * شُوَاظٌ }، قال ابن عباس:إذا خرجوا من قبورهم، ساقهم شواظ إلى المحشر. والشواظ: لهب النار. وقال مجاهد: اللهب الأحمر المنقطع. وقال الضحاك: الدخان الذييخرج من اللهب. وقرأ الجمهور: شواظ، بضم الشين؛ وعيسى وابن كثير وشبل: بكسرها. والجمهور؛ {وَنُحَاسٌ }: بالرفع؛ وابن أبي إسحاقوالنخعي وابن كثير وأبو عمرو: بالجر؛ والكلبي وطلحة ومجاهد: بكسر نون نحاس والسين. وقرأ ابن جبير: ونحس، كما تقول: يومنحس. وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضاً: ونحس مضارعاً، وماضيه حسه، أي قتله، أي ويحس بالعذاب.وعن ابن أبي إسحاق أيضاً: ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير؛ وحنظلة بن نعمان: ونحس بفتح النون وكسر السين؛والحسن وإسماعيل: ونحس بضمتين والكسر. وقرأ زيد بن علي: نرسل بالنون، عليكما شواظاً بالنصب، من نار ونحاساً بالنصب عطفاً علىشواظاً. قال ابن عباس وابن جبير والنحاس: الدخان؛ وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد: هو الصفر المعروف، والمعنى: يعجز الجن والإنس،أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا، فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه. {فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاء }: جوابإذا محذوف، أي فما أعظم الهول، وانشقاقها: انفطارها يوم القيامة. {فَكَانَتْ وَرْدَةً }: أي محمرة كالورد. قال ابن عباس وأبوصالح: هي من لون الفرس الورد، فأنث لكون السماء مؤنثة. وقال قتادة: هي اليوم زرقاء، ويومئذ تغلب عليها الحمرة كلونالورد، وهي النوار المعروف، قاله الزجاج، ويريد كلون الورد، وقال الشاعر:
فلو كانت ورداً لونه لعشقتني | ولكن ربي شانني بسواديا |
وقال أبو الجوزاء: وردة صفراء. وقال: أما سمعت العرب تسمي الخيل الورد؟ قال الفراء:أراد لون الفرس الورد، يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحمرة، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة، فشبه تلونالسماء بتلون الوردة من الخيل، وهذا قول الكلبي. {كَٱلدّهَانِ }، قال ابن عباس: الأديم الأحمر، ومنه قول الأعشى:
وأجرد من كرام الخير طرف | كأن على شواكله دهاناً |
وقال الشاعر: كالدهان المختلفة، لأنها تتلون ألواناً.وقال الضحاك: كالدهان خالصة، جمع دهن، كقرط وقراط. وقيل: تصير حمراء من حرارة جهنم، ومثل الدهن لذوبها ودورانها. وقيل: شبهتبالدهان في لمعانها. وقال الزمخشري: {كَٱلدّهَانِ }: كدهن الزيت، كما قال: { كَٱلْمُهْلِ } ، وهو دردي الزيت، وهو جمع دهن، أواسم ما يدهن به، كالحرام والأدام، قال الشاعر:
كأنهما مزادتا متعجل | فريان لما سلعا بدهان |
وقرأ عبيد بن عمير: وردة بالرفع بمعنى: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد، كقوله:
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة | نحو المغانم أو يموت كريم |
انتهى. {فَيَوْمَئِذٍ }: التنوين فيه للعوضمن الجملة المحذوفة، والتقدير: فيوم إذ انشقت السماء، والناصب ليومئذ {لاَ يُسْأَلُ }، ودل هذا على انتفاء السؤال، و: { وقفوهم أنهم مسئولون } وغيره من الآيات على وقوع السؤال. فقال عكرمة وقتادة: هي مواطن يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: حيث ذكرالسؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير، وحيث نفي فهي استخبار محض عن الذنب، والله تعالى أعلم بكل شيء. وقال قتادة أيضاً:كانت مسألة، ثم ختم على الأفواه وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون. وقال أبو العالية وقتادة: لا يسأل غير المجرمعن ذنب المجرم. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: ولا جأن بالهمز، فراراً من التقاء الساكنين، وإن كان التقاؤهما على حده.وقرأ حماد بن أبي سليمان: بسيمائهم؛ والجمهور: {بِسِيمَـٰهُمْ }، وسيما المجرمين: سواد الوجوه وزرقة العيون، قاله الحسن، ويجوز أن يكونغير هذا من التشويهات، كالعمى والبكم والصمم. {فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلاْقْدَامِ }، قال ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فيوطأ، ويجمع كالحطب،ويلقى كذلك في النار. وقال الضحاك: يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره. وقيل: تسحبهم الملائكة، تارة تأخذ بالنواصي، وتارةبالأقدام. وقيل: بعضهم سحباً، بالناصية، وبعضهم سحباً بالقدم؛ ويؤخذ متعد إلى مفعول بنفسه، وحذف هذا الفاعل والمفعول، وأقيم الجار والمجرورمقام الفاعل مضمناً معنى ما يعدى بالباء، أي فيسحب بالنواصي والأقدام، وأل فيهما على مذهب الكوفيين عوض من الضمير، أيبنواصيهم وأقدامهم، وعلى مذهب البصريين الضمير محذوف، أي بالنواصي والأقدام منهم. {هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ }: أي يقال لهم ذلك علىطريق التوبيخ والتقريع. {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا }: أي يتردّدون بين نارها وبين ما غلى فيها من مائع عذابها. وقال قتادة: الحميميغلي منذ خلق الله جهنم، وآن: أي منتهى الحر والنضج، فيعاقب بينهم وبين تصلية النار، وبين شرب الحميم. وقيل: إذااستغاثوا من النار، جعل غياثهم الحميم. وقيل: يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم، ثميخرجون منه، وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً. وقرأ علي والسلمي: يطافون؛ والأعمش وطلحة وابن مقسم: يطوفون بضم الياء وفتحالطاء وكسر الواو مشددة. وقرىء: يطوفون، أي يتطوفون؛ والجمهور: يطوفون مضارع طاف. قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ}، قال ابن الزبير: نزلت في أبي بكر. {مَقَامَ رَبّهِ } مصدر، فاحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل، أي قيامربه عليه، وهو مروي عن مجاهد، قال: من قوله: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } ، أي حافظمهيمن، فالعبد يراقب ذلك، فلا يجسر على المعصية. وقيل: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، فالمعنى أنه يخاف مقامه الذي يقف فيهالعباد للحساب، من قوله: { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ، وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف. وقيل: مقام مقحم،والمعنى: ولمن خاف ربه، كما تقول: أخاف جانب فلان يعني فلاناً. والظاهر أن لكل فرد فرد من الخائفين {جَنَّتَانِ }،قيل: إحداهما منزله، والأخرى لأزواجه وخدمه. وقال مقاتل: جنة عدن، وجنة نعيم. وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفردواعي لذته وتظهر ثمار كرامته. وقيل: هما للخائفين؛ والخطاب للثقلين، فجنة للخائف الجني، وجنة للخائف الإنسي. وقال أبو موسى الأشعري:جنة من ذهب للسابقين، وجنة من فضة للتابعين. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، لأنالتكليف دائر عليهما. وأن يقال: جنة يبات بها، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل لقوله وزيادة؛ وخص الأفنان بالذكر جمعفنن، وهي الغصون التي تتشعب عن فروع الشجر، لأنها التي تورق وتثمر، ومنها تمتد الظلال، ومنها تجنى الثمار. وقيل: الأفنانجمع فن، وهي ألوان النعم وأنواعها، وهي قول ابن عباس، والأول قال قريباً منه مجاهد وعكرمة، وهو أولى، لأن أفعالاًفي فعل أكثر منه في فعل بسكون العين، وفن يجمع على فنون. {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ }، قال ابن عباس:هما عينان مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة. وقال: تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة. وقال الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما التسنيم،والأخرى السلسبيل. وقال ابن عطية: إحداهما من ماء، والأخرى من خمر. وقيل: تجريان في الأعالي والأسافل من جبل من مسك.{زَوْجَانِ }، قال ابن عباس: ما في الدنيا من شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة، حتى شجر الحنظل،إلا أنه حلواً. انتهى. ومعنى زوجان: رطب ويابس، لا يقصر هذا عن ذاك في الطيب واللذة. وقيل: صنفان، صنف معروف،وصنف غريب. وجاء الفصل بين قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } وبين قوله: {فِيهِمَا مِن كُلّ فَـٰكِهَةٍ } بقوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}. والأفنان عليها الفواكه، لأن الداخل إلى البستان لا يقدم إلا للتفرج بلذة ما فيه بالنظر إلى خضرة الشجر وجريالأنهار، ثم بعد يأخذ في اجتناء الثمار للأكل. وانتصب {مُتَّكِئِينَ } على الحال من قوله: {وَلِمَنْ خَافَ }، وحمل جمعاًعلى معنى من. وقيل: العامل محذوف، أي يتنعمون متكئين. وقال الزمخشري: أي نصب على المدح، والاتكاء من صفات المتنعم الدالةعلى صحة الجسم وفراغ القلب، والمعنى: {مُتَّكِئِينَ } في منازلهم {عَلَى فُرُشٍ }. وقرأ الجمهور: وفرش بضمتين؛ وأبو حيوة: بسكونالراء. وفي الحديث: قيل لرسول لله ﷺ هذه البطائن من استبرق، كيف الظهائر؟ قال: هي من نور يتلألأ ، ولو صح هذا لم يجز أن يفسر بغيره. وقيل: من سندس. قال الحسن والفراء: البطائن هي الظهائر. وروي عنقتادة، وقال الفراء: قد تكون البطانة الظهارة، والظهارة البطانة، لأن كلاً منهما يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا وجه السماء، وهذابطن السماء. قوله عز وجل: {وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِنَّ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّإِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * هَلْجَزَاء ٱلإحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإحْسَـٰنُ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَىّ الاء * تُكَذّبَانِ * تُكَذّبَانِ* مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِمَا فَـٰكِهَةٌ وَنَخْلٌوَرُمَّانٌ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرٰتٌ حِسَانٌ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورٰتٌ فِى ٱلْخِيَامِ* فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰرَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ ذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلإكْرَامِ }. قال ابنعباس: تجتنيه قائماً وقاعداً ومضطجعاً، لا يرد يده بعد ولا شوك وقرأ عيسى: بفتح الجيم وكسر النون، كأنه أمال النون،وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ، كما أمال أبو عمرو { حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ } . وقرىء: وجنى بكسر الجيم. والضميرفي {فِيهِنَّ } عائد على الجنان الدال عليهن جنتان، إذ كل فرد فرد له جنتان، فصح أنها جنان كثيرة، وإنكان الجنتان أريد بهما حقيقة التثنية، وأن لكل جنس من الجن والإنس جنة واحدة، فالضمير يعود على ما اشتملت عليهالجنة من المجالس والقصور والمنازل. وقيل: يعود على الفرش، أي فيهن معدات للاستماع، وهو قول حسن قريب المأخذ. وقال الزمخشري:فيهن في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والجنى. انتهى، وفيه بعد. وقال الفراء: كل موضع من الجنة جنة،فلذلك قال: {فِيهِنَّ }، والطرف أصله مصدر، فلذلك وحد. والظاهر أنهن اللواتي يقصرون أعينهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم.قال ابن زيد: تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك. وقيل: الطرف طرف غيرهن، أي قصرن عينيمن ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ }، قال ابن عباس: لم يفتضهن قبل أزواجهن. وقيل: لميطأهن على أي وجه. كان الوطء من افتضاض أو غيره، وهو قول عكرمة. والضمير في {قَبْلَهُمْ } عائد على منعاد عليه الضمير في {مُتَّكِئِينَ }. وقرأ الجمهور: بكسر ميم يطمثهن في الموضعين؛ وطلحة وعيسى وأصحاب عبد الله وعليّ: بالضم.وقرأ ناس: بضم الأول وكسر الثاني، وناس بالعكس، وناس بالتخيير، والجحدري: بفتح الميم فيهما، ونفي وطئهن عن الإنس ظاهر وأماعن الجن، فقال مجاهد والحسن: قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن، إذ لم يذكر الزوج الله تعالى، فنفى هنا جميعالمجامعين. وقال ضمرة بن حبيب: الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فنفي الافتضاض عن البشريات والجنيات. قالقتادة: {كَأَنَّهُنَّ } على صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلت في الياقوت سلكاً، ثم نظرت إليه، لرأيته من ورائه. انتهى.وفي الترمذي: أن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة مخها. وقال ابن عطية: الياقوت والمرجانمن الأشياء التى يرتاح بحسنها، فشبه بهما فيما يحسن التشبيه به، فالياقوت في إملاسه وشفوفه، والمرجان في إملاسه وجمال منظره،وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بذلك، كدرة بنت أبي لهب، ومرجانة أم سعيد. انتهى. {هَلْ جَزَاء ٱلإحْسَـٰنِ} في العمل، {إِلاَّ ٱلإحْسَـٰنُ } في الثواب؟ وقيل: هل جزاء التوحيد إلا الجنة؟ وقرأ ابن أبي إسحاق: إلا الحسانيعني: بالحسان الحور العين. {وَمِن دُونِهِمَا }: أي من دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر، {جَنَّتَانِ } لأصحاب اليمين، والأوليانهما للسابقين، قاله ابن زيد والأكثرون. وقال الحسن: الأوليان للسابقين، والأخريان للتابعين. وقال ابن عباس: {وَمِن دُونِهِمَا } في القربللمنعمين، والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين. يدل على ذلك أنه وصف عيني هاتين بالنضخ، وتينك بالجري فقط؛ وهاتين بالدهمة منشدة النعمة، وتينك بالأفنان، وكل جنة ذات أفنان. ورجح الزمخشري هذا القول فقال: للمقربين جنتان من دونهم من أصحاب اليمينادهامتا من شدة الخضرة، ورجح غيره القول الأول بذكر جري العينين والنضخ دون الجري، وبقوله فيهما: {مِن كُلّ فَـٰكِهَةٍ }،وفي المتأخرتين: {فِيهِمَا فَـٰكِهَةٌ }، وبالاتكاء على ما بطائنه من ديباج وهو الفرش، وفي المتأخرتين الاتكاء على الرفرف، وهو كسرالخباء، والفرش المعدة للاتكاء أفضل، والعبقري: الوشي، والديباج أعلى منه، والمشبه بالياقوت والمرجان أفضل في الوصف من خيرات حسان، والظاهرالنضخ بالماء، وقال ابن جبير: بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة، كما ينضخ رش المطر. وعنه أيضاً بأنواع الفواكهوالماء. {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } عطف فاكهة، فاقتضى العطف أن لا يندرجا في الفاكهة، قاله بعضهم. وقال يونس بن حبيب وغيره:كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما وإشارة بهما، كما قال تعالى: { وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ } . وقيل: لأن النخلثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه. {فِيهِنَّ خَيْرٰتٌ }، جمع خيرة: وصف بني على فعلة منالخير، كما بنوا من الشر فقالوا: شرة. وقيل: مخفف من خيرة، وبه قرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابنمقسم، أي بشدّ الياء. وروي عن أبي عمرو بفتح الياء، كإنه جمع خايرة، جمع على فعلة، وفسر الرسول صلى اللهعليه وسلم لأم سلمة ذلك فقال: { خيرات الأخلاق حسان الوجوه } . {حُورٌ مَّقْصُورٰتٌ }: أي قصرن في أماكنهن، والنساء تمدح بذلك،إذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن، كما قال قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها فيزرنها | وتغفل عن أبياتهن فتعذر |
قال الحسن: لسن بطوافات في الطرق، وخيام الجنة: بيوت اللؤلؤ. وقال عمر بنالخطاب: هي در مجوف، ورواه عبد الله عن النبي ﷺ. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ }: أي قبلأصحاب الجنتين، ودل عليهم ذكر الجنتين. {مُتَّكِئِينَ }، قال الزمخشري: نصب على الاختصاص. {عَلَىٰ رَفْرَفٍ }، قال ابن عباس وغيره:فضول المجلس والبسط. وقال ابن جبير: رياض الجنة من رف البيت تنعم وحسن. وقال ابن عيينة: الزرابي. وقال الحسن وابنكيسان: المرافق. وقرأ الفراء وابن قتيبة: المجالس. وعبقري، قال الحسن: بسط حسان فيها صور وغير ذلك يصنع بعبقر. وقال ابنعباس: الزرابي. وقال مجاهد: الديباج الغليظ. وقال ابن زيد: الطنافس. قال الفراء: الثخان منها. وقرأ الجمهور: {عَلَىٰ رَفْرَفٍ }، ووصفبالجمع لأنه اسم جنس، الواحد منها رفرفة، واسم الجنس يجوز فيه أن يفرد نعته وأن يجمع لقوله: { وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ } ،وحسن جمعه هنا مقابلته لحسان الذي هو فاصلة. وقال صاحب اللوامح، وقرأ عثمان بن عفان، ونصر بن عاصم، والجحدري، ومالكبن دينار، وابن محيصن، وزهير العرقبي وغيره: رفارف جمع لا ينصرف، خضر بسكون الضاد، وعباقري بكسر القاف وفتح الياء مشددة؛وعنهم أيضاً: ضم الضاد؛ وعنهم أيضاً: فتح القاف. قال: فأما منع الصرف من عباقري، وهي الثياب المنسوبة إلى عبقر، وهوموضع تجلب منه الثياب على قديم الأزمان، فإن لم يكن بمجاورتها، وإلا فلا يكون يمنع التصرف من ياءي النسب وجهإلا في ضرورة الشعر. انتهى. وقال ابن خالويه: على رفارف خضر، وعباقري النبي ﷺ والجحدري وابن محيصن.وقد روي عمن ذكرنا على رفارف خضر وعباقري بالصرف، وكذلك روي عن مالك بن دينار. وقرأ أبو محمد المروزي، وكاننحوياً: على رفارف خضار، يعني: على وزن فعال. وقال صاحب الكامل: رفارف جمع، عن ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن،واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني، وهو الاختيار لقوله: {خُضْرٍ }، وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين، ابن مقسموابن محيصن، وروي عنهما التنوين. وقال ابن عطية، وقرأ زهير العرقبي: رفارف بالجمع والصرف، وعنه: عباقري بفتح القاف والياء، علىأن اسم الموضع عباقر بفتح القاف، والصحيح في اسم الموضع عبقر. انتهى. وقال الزمخشري، وروى أبو حاتم: عباقري بفتح القافومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته. انتهى. وقد يقال: لما منع الصرف رفارف، شاكله في عباقري، كما قد ينون مالا ينصرف للمشاكلة، يمنع من الصرف للمشاكلة. وقرأ ابن هرمز: خضر بضم الضاد. قال صاحب اللوامح: وهي لغة قليلة. انتهى،ومنه قول طرفة:
أيها الفتيان في مجلسنا | جردوا منها وراداً وشقر |
وقال آخر:
وما انتميت إلى خور ولا كسف | ولا لئام غداة الروع أوزاع |
فشقر جمع أشقر، وكسف جمع أكسف.وقرأ الجمهور: {ذِى ٱلْجَلَـٰلِ }: صفة لربك؛ وابن عامر وأهل الشام: ذو صفة للاسم، وفي حرف. أبي عبد الله وأبيّ:ذي الجلال، كقراءتهما في الموضع الأول، والمراد هنا بالاسم المسمى. وقيل: اسم مقحم، كالوجه في {وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ }، ويدلعليه إسناد {تَبَـٰرَكَ } لغير الاسم في مواضع، كقوله: { تَبَارَكَ ٱللَّهُ * أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ } { تَبَارَكَ ٱلَّذِى إِن شَاء }،{تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ }. وقد صح الإسناد إلى الاسم لأنه بمعنى العلو، فإذا علا الاسم، فما ظنك بالمسمى؟ولما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله: {وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ }، ختم نعم الآخرة بقوله: {تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلإكْرَامِ } وناسب هنالك ذكر البقاء والديمومة له تعالى، إذ ذكر فناء العالم؛ وناسب هنا ذكر ما اشتقمن البركة، وهي النمو والزيادة، إذ جاء ذلك عقب ما امتن به على المؤمنين، وما آتاهم في دار كرامته منالخير وزيادته وديمومته، ويا ذا الجلال والإكرام من الصفات التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها، قال ﷺ: ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام