انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الدخان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ حمۤ } * { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } * { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } * { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } * { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { رَبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } * { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } * { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } * { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } * { يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } * { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } * { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } * { إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } * { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } * { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } * { أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } * { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } * { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } * { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَٱعْتَزِلُونِ } * { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } * { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } * { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } * { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } * { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } * { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } * { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } * { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } * { مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } * { وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَآتَيْنَاهُم مِّنَ ٱلآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } * { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ } * { إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } * { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } * { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } * { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } * { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } * { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } * { إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ } * { طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } * { كَٱلْمُهْلِ يَغْلِي فِي ٱلْبُطُونِ } * { كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ } * { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } * { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ } * { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } * { إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } * { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } * { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ } * { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } * { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } * { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } * { فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ }

الدخان: معروف، وقال أبو عبيدة: والدخان: الجدب. قال القتبي: سمي دخاناً ليبس الأرضمنه، حتى يرتفع منها كالدخان، وقياس جمعه في القلة: أدخنة، وفي الكثرة: دخنان، نحو: غراب وأغربة وغربان. وشذوا في جمعهعلى فواعل فقالوا: دواخن، كأنه جمع داخنة تقديراً، كما شذوا في عثان قالوا: عواثن. رها البحر، يرهو رهواً: سكن. يقالجاءت الخيل رهواً: أي ساكنة. قال الشاعر:

والخيل تمزع رهواً في أعنتها     كالطير ينجو من الشرنوب ذي البرد

ويقال: افعل ذلك رهواً: أي ساكناً على هينتك. وقال ابن الأعرابي: رها في السير.

قال القطامي في نعت الركاب:

يمشين رهواً فلا الإعجاز خاذلة     ولا الصدور على الإعجاز تتكل

وقال الليث: عيش راه: وارع خافض. وقال غيره: الرهو والرهوة: المكانالمرتفع والمنخفض يجتمع فيه الماء، وهو من الأضداد؛ والجمع: رها. والرهو: المرأة الواسعة الهن، حكاه النضر بن شميل. والرهو: ضربمن الطير، يقال هو الكركي. وقال أبو عبيدة: رها الرجل يرهو رهواً: فتح بين رجليه. المهل: دردي الزيت وعكره. عتله:ساقه يعنف ودفع وإهانة. والمعتل: الجافي الغليظ. {حـم * وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ إِنَّا كُنَّامُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّهُ هُوَٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * رَبّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ * لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُرَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلاْوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ * فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَهَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّتَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ ٱللَّهِ * إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِنّى * بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * وَإِنّى * وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِنلَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَٱعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَرَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَـٰكِهِينَ *كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا قَوْماً ءاخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ }. هذه السورة مكية، قيل:إلا قوله: {إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ }. ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها:

{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ }

، فذكر يوماً غير معين، ولا موصوفاً. فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم،بوصف وصفه فقال: {فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ }، وأن العذاب يأتيهم من قبلك، ويحل بهم من الجدب والقحط،ويكون العذاب في الدنيا، وإن كان العذاب في الآخرة، فيكون يومهم الذي يوعدون يوم القيامة. والظاهر أن الكتاب المبين هوالقرآن، أقسم به تعالى. ويكون الضمير في أنزلناه عائداً عليه. قيل: ويجوز أن يراد به الكتب الإلهية المنزلة، وأن يرادبه اللوح المحفوظ، وجواب القسم. وقال الزمخشري وغيره: قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ }، على أن الكتاب هو القرآن، ويكون قد عظمهتعالى بالإقسام به. وقال ابن عطية: لا يحسن وقوع القسم عليه، أي على إنا أنزلناه، وهو اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب،ويكون الذي وقع عليه القسم {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }. انتهى. قال قتادة، وابن زيد، والحسن: الليلة المباركة: ليلة القدر. وقالوا:كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان؛ التوراة في أوله، والإنجيل في وسطه، والزبور في نحو ذلك، والقرآن في آخره،في ليلة القدر؛ ويعني ابتداء نزوله كان في ليلة القدر. وقيل: أنزل جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور، ومن هناككان جبريل يتلقاه. وقال عكرمة وغيره: هي ليلة النصف من شعبان، وقد أوردوا فيها أحاديث. وقال الحافظ أبو بكر بنالعربي: لا يصح فيها شيء، ولا في نسخ الآجال فيها. إنا كنا منذرين: أي مخوفين. قال الزمخشري: فإن قلت:{إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }، ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسربهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ }، كأنه قيل: أنزلناه، لأن من شأننا الإنذاروالتحذير من العقاب. وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً، لأن إنزال القرآن من الأمور المحكمة، وهذه الليلة مفرق كلأمر حكيم، والمباركة: الكثيرة الخير، لما ينتج الله فيها من الأمور التي تتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم، ولولم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده، لكفى به بركة. انتهى. وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: يفرق، بفتح الياء وضم الراء،كل: بالنصب، أي يفرق الله. وقرأ زيد بن علي، فيما ذكر الزمخشري: نفرق بالنون، كل بالنصب؛ وفيما ذكر أبو علىالأهوازي: عينه بفتح الياء وكسر الراء، ونصب كل، ورفع حكيم، على أنه الفاعل بيفرق. وقرأ الحسن: وزائدة عن الأعمش بالتشديدمبنياً للمفعول، أو معنى يفرق: يفصل من غيره ويلخص. ووصف أمر بحكيم، أي أمر ذي حكمة؛ وقد أبهم تعالى هذاالأمر. وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد: في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاقوالآجال وغير ذلك، ويكتب ذلك إلى مثلها من العام المقبل. وقال هلال بن أساف: كان يقال: انتظر والقضاء في رمضان.وقال عكرمة: لفضل الملائكة في ليلة النصف من شعبان. وجوزوا في أمراً أن يكون مفعولاً به بمنذرين لقوله: { لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا } . أو على الاختصاص، جعل كل أمر حكيم جزلاً فخماً، بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وفخامة نفسه بأنقال: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، كائناً من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا، كذا قال الزمخشري. وقال: وفيقراءة زيد بن علي: {أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا }، على هو أمراً، وهي نصب على الاختصاص ومقبولاً له، والعامل أنزلنا، أومنذرين، أو يفرق، ومصدراً من معنى يفرق، أي فرقاً من عندنا، أو من أمرنا محذوفاً وحالاً، قيل: من كل، والذيتلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر، لأنه وصف بحكيم، فحسنت الحال منه، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه،وهو ليس في موضع رفع ولا نصب، ولا يجوز. وقيل: من ضمير الفاعل في أنزلناه، أي أمرني. وقيل: من ضميرالمفعول في أنزلناه، أي في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل. والظاهر أن من عندنا صفة لأمراً،وقيل: يتعلق بيفرق. {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }: لما ذكر إنزال القرآن، ذكر المرسل، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد. فالجملةالمؤكدة مستأنفة. وقيل: يجوز أن يكون بدلاً من {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }. وجوزوا في رحمة أن يكون مصدراً، أي رحمنارحمة، وأن يكون مفعولاً له بأنزلناه، أو ليفرق، أو لأمراً من عندنا. وأن يكون مفعولاً بمرسلين؛ والرحمة توصف بالإرسال، كماوصفت به في قوله: { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } . والمعنى على هذا: أنا نفصل في هذه الليلةكل أمر، أو تصدر الأوامر من عندنا، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وقرأ زيد بن علي، والحسن: رحمة، بالرفع:أي تلك رحمة من ربك، التفاتاً من مضمر إلى ظاهر، إذ لو روعي ما قبله، لكان رحمة منا، لكنه وضعالظاهر موضع المضمر، إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين. وقرأ ابن محيصن، والأعمش، وأبو حيوة، والكوفيون: {رَبّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ}، بالخفض بدلاً من ربك؛ وباقي السبعة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وشيبة: بالرفع على القطع، أي هو رب.وقرأ الجمهور: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ }، برفعهما؛ وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وأبو حيوة، والزعفراني، وابن مقسم، والحسن، وأبو موسى عيسىبن سليمان، وصالح الناقط، كلاهما عن الكسائي: بالجر؛ وأحمد بن جبير الأنطاكي: ربكم ورب، بالنصب على المدح، وهم يخالفون بينالإعراب، الرفع والنصب، إذا طالت النعوت. وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }، تحريك لهم بأنكم تقرون بأنه تعالى خالق العالم، وأنهأنزل الكتب، وأرسل الرسل رحمة منه، وأن ذلك منكم من غير علم وإيقان. ولذلك جاء: {بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ}، أي في شك لا يزالون فيه يلعبون. فإقرارهم ليس عن حد ولا تيقن. {فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء بِدُخَانٍمُّبِينٍ }. قال علي بن طالب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد الخدري، وزيد بن علي، والحسن: هو دخان يجيء يومالقيامة، يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين، حتى تكون مصقلة حنيذة. وقال ابن مسعود، وأبو العالية، والنخعي:هو الدخان الذي رأته قريش. قيل لعبد الله: إن قاصاً عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذأنفاس الناس، فقال: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. ألا وسأحدثكم أن قريشاً لما استعصتعلى رسول الله ، دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ،فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، والعلهز. والعلهز: الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل. وفيه أيضاً: حتى أكلواالعظام. وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان. فمشى إليهأبو سفيان ونفر معه، وناشده الله والرحم، وواعدوه، إن دعا لهم وكشف عنهم، أن يؤمنوا. فلما كشف عنهم، رجعوا إلىشركهم. وفيه: فرحمهم النبي ، وبعث إليهم بصدقة ومال. وفيه: فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزلالله عز وجل: { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } ، قال: يعني يوم بدر. وقال عبد الرحمن: خمس قد مضين:الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم. وقال عبد الرحمن الأعرج: {يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء }، هو يوم فتح مكة، لما حجبت السماءالغبرة. وفي حديث حذيفة: أول الآيات خروج الدجال، والدخان، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن؛ وفيه قلت:يا نبي الله، وما الدخان على هذه الآية: {فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ }؟ وذكر بقية الحديث، واختصرناه بدخانمبين، أي ظاهر. لا شك أنه دخان {يَغْشَى ٱلنَّاسَ }: يشملهم. فإن كان هو الذي رأته قريش، فالناس خاص بالكفارمن أهل مكة، وقد مضى كما قال ابن مسعود؛ وإن كان من أشراط الساعة، أو يوم القيامة، فالناس عام فيمنأدركه وقت الأشراط، وعام بالناس يوم القيامة. {هَـٰذَا عَذَابٌ } إلى {مُؤْمِنُونَ } في موضع نصب بفعل القول محذوفاً، وهوفي موضع الحال، أي يقولون. ويجوز أن يكون إخباراً من الله، كأنه تعجب منه، كما قال في قصة الذبيح: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَء ٱلْمُبِينُ } . {إِنَّا مْؤْمِنُونَ }: وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، والإيمان واجب، كشف العذاب أولم يكشف. {أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذّكْرَىٰ }: أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، وقد جاءهمما هو أعظم؟ وأدخل في باب الادكار من كشف الدخان؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليهوسلم من الآيات والبينات، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا، وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاسا غلاماً أعجمياً لبعضثقيف هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون. وقرأ زر بن حبيش: معلم، بكسر اللام. {إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً }: إخبارعن إقامة الحجة عليهم، ومبالغة في الإملاء لهم. ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر. وقال قتادة: هو توعد بمعاد الآخرة:وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب، كان ظاهراً؛ وإن كان الدخان قبل يوم القيامة، فإذا أتت السماء بالعذاب،تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا: ربنا اكشف عنا العذاب، إنا مؤمنون. فيكشف عنهم، قيل: بعد أربعين يوماً؛ فحين يكشفه عنهم يرتدون.ويوم البطشة الكبرى على هذا: هو يوم القيامة، كقوله:

{ فَإِذَا جَاءتِ ٱلطَّامَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ }

. وكونه يوم القيامة، هو قول ابنعباس والحسن وقتادة. وكونه يوم بدر، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد. وانتصب يوم نبطش، قيل: بذكراهم، وقيل:بننتقم الدال عليه منتقمون، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل، وقيل: بمنتقمون. ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيماقبلها. وقرأ الجمهور: نبطش، بفتح النون وكسر الطاء؛ والحسن، وأبو جعفر: بضمها؛ والحسن أيضاً، وأبو رجاء، وطلحة: بضم النون وكسرالطاء، بمعنى: نسلط عليهم من يبطش بهم. والبطشة على هذه القراءة ليس منصوباً بنبطش، بل بمقدر، أي نبطش ذلك المسلطالبطشة، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة، فينتصب بنبطش. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ }: هذا كالمثال لقريش، ذكرتقصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام، فكذبوه، فأهلكهم الله. وقرىء: فتنا، بتشديد التاء، للمبالغة في الفعل، أو التكثير، متعلقة{وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ }: أي كريم عند الله وعند المؤمنين، قاله الفراء؛ أو كريم في نفسه، لأن الأنبياء إنما يبعثونمن سروات الناس، قاله أبو سليمان؛ أو كريم حسن الخلق، قاله مقاتل. {أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ ٱللَّهِ } يحتمل أنتكون أن تفسيرية، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول، وهو رسول كريم، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أوالناصبة للمضارع، فإنها توصل بالأمر. قال ابن عباس: أن أدوا إليّ الطاعة يا عباد الله: أي اتبعوني على ما أدعوكمإليه من الإيمان. وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل، كم قال: فأرسل معنا بنيإسرائيل ولا تعذبهم. فعلى ابن عباس: عباد الله: منادى، ومفعول أدوا محذوف؛ وعلى قول مجاهد ومن ذكر معه: عباد الله:مفعول أدوا. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ }: أي غير متهم، قد ائتمنني الله على وحيه ورسالته. {وَأَن لاَّ تَعْلُواْعَلَى ٱللَّهِ }: أي لا تستكبروا على عبادة الله، قاله يحيـي بن سلام. قال ابن جريح: لا تعظموا على الله.قيل: والفرق بينهما أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر، ذكره الماوردي، وأن هنا كان السابق في أوجهها الثلاثة. {وَأَنلاَّ تَعْلُواْ عَلَى }: أي بحجة واضحة في نفسها، وموضحة صدق دعواي. وقرأ الجمهور: إني، بكسر الهمزة، على سبيل الإخبار؛وقرأت فرقة: بفتح الهمزة. والمعنى: لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم، فهذا توبيخ لهم، كما تقول: أتغضب إنقال لك الحق؟ {وَإِنّى عُذْتُ }: أي استجرت {بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ }: كانوا قد توعدوه بالقتل، فاستعاذ من ذلك.وقرىء: عدت، بالإدغام. قال قتادة وغيره: الرجم هنا بالحجارة. وقال ابن عباس، وأبو صالح: بالشتم؛ وقول قتادة أظهر، لأنه قدوقع منهم في حقه ألفاظ لا تناسب؛ وهذه المعاذة كانت قبل أن يخبره تعالى بقوله:

{ فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا }

.{فَدَعَا رَبَّهُ }: أني مغلوب فانتصر، {إِنَّ هَـؤُلآء }: لفظ تحقير لهم. وقرأ الجمهور: أن هؤلاء، بفتح الهمزة، أي بأنهؤلاء. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى، والحسن في رواية، وزيد بن علي: بكسرها. {فَأَسْرِ بِعِبَادِى }: في الكلام حذف، أيفانتقم منهم، فقال له الله: أسر بعبادي، وهم بنوا إسرائيل ومن آمن به من القبط. وقال الزمخشري: فيه وجهان: إضمارالقول بعد الفاء، فقال: أسر بعبادي، وأن يكون جواباً بالشرط محذوف؛ كأنه قيل: قال إن كان الأمر كما تقول، فأسربعبادي. انتهى. وكثيراً ما يجيز هذا الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح؛ كأن يتقدمه الأمروما أشبهه مما ذكر في النحو، على خلاف في ذلك. {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ }: أي يتبعكم فرعون وجنوده، فتنجون ويغرق المتبعون.{وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً }: قال ابن عباس: ساكناً كما أجراه. وقال مجاهد وعكرمة: يبساً من قوله:

{ فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى ٱلْبَحْرِ يَبَساً }

. وقال الضحاك: دمثاً ليناً. وقال عكرمة: جدداً. وقال ابن زيد: سهلاً. وقال مجاهد أيضاً: منفرداً. قال قتادة:أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه، لما قطعه، حتى يلتئم؛ وخاف أن يتبعه فرعون، فقيل: لمه هذا؟ {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ}: أي فيه، لأنهم إذا رأوه ساكناً على حالته حين دخل فيه موسى وبنوا إسرائيل، أو مفتوحاً طريقاً يبساً، دخلوافيه، فيطبقه الله عليهم. {كَمْ تَرَكُواْ }: أي كثيراً تركوا. {مّن جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ }: تقدم تفسيرهما في الشعراء. وقرأالجمهور: {وَمَقَامٍ }، بفتح الميم. قال ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير: أراد المقام. وقرأ ابن هرمز، وقتادة، وابن السميفع، ونافع:في رواية خارجة بضمها. قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها. {وَنَعْمَةٍ }، بفتح النون: نضارة العيش ولذاذةالحياة. وقرأ أبو رجاء: {وَنَعْمَةٍ }، بالنصب، عطفاً على كم {كَانُواْ فِيهَا فَـٰكِهِينَ }. قرأ الجمهور: بألف، أي طيبي الأنفسوأصحاب فاكهة، كلابن، وتامر، وأبو رجاء، والحسن: بغير ألف. والفكه يستعمل كثيراً في المستخف المستهزىء، فكأنهم كانوا مستخفين بشكل النعمةالتي كانوا فيها. وقال الجوهري: فكه الرجل، بالكسر، فهو فكه إذا كان مزاجاً، والفكه أيضاً الأشر. وقال القشيري: فاكهين: لاهينكذلك. وقال الزجاج: والمعنى: الأمر كذلك، فيوقف على كذلك؛ والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف؛ وقيل: الكاف في موضعنصب، أي يفعل فعلاً كذلك، لمن يريد إهلاكه. وقال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني. وقال الحوفي: أهلكنا إهلاكاً، وانتقمنا انتقاماًكذلك. وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، {وَأَوْرَثَنَا * قَوْماً ءاخَرِينَ } ليسوا منهم، وهمبنوا إسرائيل. كانوا مستعبدين في يد القبط، فأهلك الله تعالى القبط على أيديهم وأورثهم ملكهم. وقال قتادة، وقال الحسن: إنبني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون، وضعف قول قتادة بأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيلرجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان، ولا ملكوها قط؛ إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلادالشأم. انتهى. ولا اعتبار بالتواريخ، فالكذب فيها كثير، وكلام الله صدق. قال تعالى في سورة الشعراء:

{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـٰهَا بَنِى إِسْرٰءيلَ }

وقيل: قوماً آخرين ممن ملك مصر بعد القبط من غير بني إسرائيل. {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضُ }: استعارةلتحقير أمرهم، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء. ويقال في التعظيم: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس.وقال زيد بن مفرغ:

الريح تبكي شجوه     والبرق يلمع في غمامه

وقالجرير:

فالشمس طالعة ليست بكاسفة     تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وقال النابغة:

بكى حادث الجولان من فقد ربه     وحوران منه خاشع متضائل

وقال جرير:

لما أتى الزهو تواضعت     سور المدينة والجبال الخشع

ويقول في التحقير: مات فلان، فما خشعت الجبال. ونسبة هذهالأشياء لما لا يعقل ولا يصير ذلك منه حقيقة، عبارة عن تأثر الناس له، أو عن عدمه. وقيل: هو علىحذف مضاف، أي: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الملائكة وأهل الأرض، وهم المؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. روي ذلكعن الحسن. وما روي عن علي، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير: إن المؤمن إذا مات، بكى عليه من الأرض موضععبادته أربعين صباحاً، وبكى عليه السماء موضع صعود عمله. قالوا: فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله تمثيل. {وَمَاكَانُواْ مُنظَرِينَ }: أي مؤخرين عن العذاب لما حان وقت هلاكهم، بل عجل الله لهم ذلك في الدنيا. {وَلَقَدْنَجَّيْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَـٰهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَىٱلْعَـٰلَمِينَ * وَءاتَيْنَـٰهُم مِنَ ٱلاْيَـٰتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ * إِنَّ هَـؤُلاَء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلاْوْلَىٰ وَمَانَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُواْ بِـئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَـٰهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْمُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَـٰتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَنرَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * ٱلاْثِيمِ * كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ * كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ* خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاء ٱلْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ* إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ * إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ * فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنسُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَـٰهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَـٰكِهَةٍ ءامِنِينَ * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّٱلْمَوْتَةَ ٱلاْولَىٰ وَوَقَـٰهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * فَضْلاً مّن رَّبّكَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـٰهُ بِلِسَـٰنِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ }. لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه، ذكر إحسانه لبني إسرائيل؛ فبدأ بدفع الضرر عنهم، وهونجاتهم مما كانوا فيه من العذاب. ثم ذكر اتصال النفع لهم، من اختيارهم على العالمين، وإيتائهم الآيات والعذاب المهين: قتلأبنائهم، واستخدامهم في الأعمال الشاقة. وقرأ عبد الله: {مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ }: وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كبقلة الحمقاء.و{مِن فِرْعَوْنَ }: بدل {مّنَ ٱلْعَذَابِ }، على حذف مضاف، أي من عذاب فرعون. أولاً حذف جعل فرعون نفسه هوالعذاب مبالغة. وقيل: يتعلق بمحذوف، أي كائناً وصادراً من فرعون. وقرأ ابن عباس: {مِن فِرْعَوْنَ }، من: استفهام مبتدأ، وفرعونخبره. لما وصف فرعون بالشدة والفظاعة قال: من فرعون؟ على معنى: هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته؟ ثم عرفحاله في ذلك بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ }: أي مرتفعاً على العالم، أو متكبراً مسرفاً من المسرفين.{وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَـٰهُمْ }: أي اصطفيناهم وشرفناهم. {عَلَىٰ عِلْمٍ } علم مصدر لم يذكر فاعله، فقيل: على علم منهم، وفضل فيهم،فاخترناهم للنبوات والرسالات. وقيل: على علم منا، أي عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا. وقيل: على علم منا بمايصدر من العدل والإحسان والعلم والإيمان، بأنهم يزيفون، وتفرط منهم الهنات في بعض الأموال. وقيل: اخترناهم بهذا الإنجاء وهذه النعمعلى سابق علم لنا فيهم، وخصصناهم بذلك دون العالم. {عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ }: أي عالمي زمانهم، لأن أمة محمد صلى اللهعليه وسلم مفضلة عليهم. وقيل: على العالمين عام لكثرة الأنبياء فيهم، وهذا خاص بهم ليس لغيرهم. وكان الاختيار من هذهالجهة، لأن أمة محمد أفضل. وعلى، في قوله: {عَلَىٰ عِلْمٍ }، ليس معناها معنى على في قوله: {عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ }،ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول، كقوله:

ويوماً على ظهر الكتيب تعذرت     عليّ وآلت حلفة لم يحلل

فعلى علم: حال، إما من الفاعل، أو من المفعول. وعلى ظهر: حال من الفاعل في تعذرت،والعامل في ذي الحال. {وَءاتَيْنَـٰهُم مِنَ ٱلاْيَـٰتِ }: أي المعجزات الظاهرة في قوم فرعون، وما ابتلوا به؛ وفي بني إسرائيلمما أنعم به عليهم من تظليل الغمام والمنّ والسلوى، وغير ذلك مما لم يظهرها لغيرهم. {مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ }: أياختبار بالنعم ظاهر، أو الابتلاء بالنعم كقوله:

{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ }

. {إِنَّ هَـؤُلآء }: يعني قريشاً، وفي اسم الإشارة تحقيرلهم. {لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلاْوْلَىٰ }: أي ما الموتة إلا محصورة في موتتنا الأولى. وكان قد قالتعالى:

{ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }

، فذكر موتتين، أولى وثانية، فأنكروا هم أن يكون لهم موتة ثانية.والمعنى: ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا. فيتضمن قولهم هذا إنكار البعث، ثم صرحوا بما تضمنه قولهم، فقالوا:{وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ }: أي بمبعوثين بحياة دائمة يقع فيها حساب وثواب وعقاب؛ وكان قولهم ذلك في معنى قولهم:

{ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }

. {فَأْتُواْ بِـئَابَائِنَا }: خطاب لرسول الله ، وللمؤمنينالذين كانوا يعدونهم بالبعث، أي إن صدقتم فيما تقولون، فأحيوا لنا من مات من أبنائنا، بسؤالكم ربكم، حتى يكون ذلكدليلاً على البعث في الآخرة. قيل: طلبوا من الرسول أن يدعوا الله فيحيـى لهم قصي بن كلاب، ليشاوروه في صحةالنبوة والبعث، إذ كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل. {أَهُمْ }: أي قريش، {خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ }؟ الظاهر أن تبعاًهو شخص معروف، وقع التفاضل بين قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام. وإن كان لفظ تبع يطلق على كل منملك العرب، كما يطلق كسرى على من ملك الفرس، وقيصر على من ملك الروم؛ قيل: واسمه أسعد الحميري، وكنى أباكرب؛ وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي قبل أن يبعث بسبعمائة سنة. وروي أنه لماآمن بالمدينة، كتب كتاباً ونظم شعراً. أما الشعر فهو:

شهدت على أحمد أنه     رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره

وأماالكتاب، فروى ابن اسحاق وغيره أنه كان فيه: أما بعد: فإني آمنت بك، وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينكوسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإنلم أدركك، فاشفع لي، ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين، وتابعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيكإبراهيم عليه السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه: لله الأمر من قبل ومن بعد. وكتب عنوانه: إلى محمد بن عبدالله، نبي الله ورسوله، خاتم النبيين، ورسول رب العالمين ، من تبع الأول. ويقال: كان الكتاب والشعرعند أبي أيوب، خالد بن زيد، فلم يزل عنده حتى بعث النبي ، وكانوا يتوارثونه كابراً عنكابر، حتى أدّوه للنبي . وعن ابن عباس: كان تبع نبياً، وعنه لما أقبل تبع منالشرق، بعد أن حير الحيرة وسمرقند، قصد المدينة، وكان قد خلف بها حين سافر، فقتل غيلة، فأجمع على خرابها واستئصالأهلها. فجمعوا له الأنصار، وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل. فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام، إذ جاءه كعبوأسد، ابنا عم من قريظة جيران، وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد، فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد،ومولده بمكة، فثناه قولهما عما كان يريد. ثم دعواه إلى دينهما، فاتبعهما وأكرمهما. وانصرفوا عن المدينة، ومعهم نفر من اليهود،فقال له في الطريق نفر من هذيل: يدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة بمكة، وأرادت هذيل هلاكه،لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك. فذكر ذلك للحبرين، فقالوا: ما نعلم الله بيتاً في الأرض غيرهذا، فاتخذه مسجداً، وانسك عنده، واحلق رأسك، وما أراد القوم إلا هلاكك. فأكرمه وكساه، وهو أول من كسا البيت؛ وقطعأيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم، وسمر أعينهم وصلبهم. وقال قوم: ليس المراد بتبع رجلاً واحداً، إنما المراد ملوكاليمن، وكانوا يسمون التتابعة. والذي يظهر أنه أراد واحداً من هؤلاء، تعرفه العرب بهذا الاسم أكثر من معرفة غيره به.وفي الحديث: لا تسبوا تبعاً فإنه كان مؤمناً ، فهذا يدل على أنه واحد بعينه. قال الجوهري: التتابعة ملوك اليمن، والتبع:الظل، والتبع: ضرب من الطير. وقال أبو القاسم السهيلي: تبع لكل ملك اليمن، والشحر حضرموت، وملك اليمن وحده لا يسمىتبعاً، قاله المسعودي. والخيرية الواقعة فيها التفاضل، وكلا الصنفين لا خير فهم، هي بالنسبة للقوة والمنعة، كما قال:

{ أَكُفَّـٰرُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ }

؟ بعد ذكر آل فرعون في تفسير ابن عباس: أهم أشد أم قوم تبع؟ وإضافة قوم إلى تبعدليل على أنه لم يكن مذهبهم. {أَهْلَكْنَـٰهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }: إخبار عما فعل تعالى بهم، وتنبيه على أن علةالإهلاك هي الإجرام، وفي ذلك وعيد لقريش، وتهديد أن يفعل بهم ما فعل بقوم تبع ومن قبلهم من مكذبي الرسللإجرامهم، ثم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث، وهو خلق العالم بالحق. وقرأ الجمهور: {وَمَا بَيْنَهُمَا } من الجنسين،وعبيد بن عميس: وما بينهن لاعبين. قال مقاتل: عابثين. {مَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ }: أي بالعدل، يجازي المحسن والمسيءبما أراد تعالى من ثواب وعقاب. {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه تعالى خلق ذلك، فهم لا يخافون عقاباً ولايرجون ثواباً. وقرىء: ميقاتهم، بالنصب، على أنه اسم إن، والخبر يوم الفصل، أي: إن يوم الفصل ميعادهم وجزاؤهم، {يَوْمَ لاَيُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } يعم جميع الموالي من القرابة والعتاقة والصلة شيئاً من إغناء، أي قليلاً منه: {وَلاَهُمْ يُنصَرُونَ }: جمع، لأن عن مولى في سياق النفي فيعم، فعاد على المعنى، لا على اللفظ. {إِلاَّ مَن رَّحِمَٱللَّهُ }، قال الكسائي: من رحم: منصوب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم ما يحتاجون فيهمن لعنهم من المخلوقين. قيل: ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذنلهم في شفاعة بعضهم لبعض. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون بدلاً من مولى المرفوع، ويكون يغني بمعنى ينفع. وقال الزمخشري:{مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ }، في محل الرفع على البدل من الواو في {يُنصَرُونَ }، أي لا يمنع من العذاب إلامن رحم الله؛ وقاله الحوفي قبله. {إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }: لا ينصر من عصاه، الرحيم لمن أطاعه ومن عفاعنه. {إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ }: قرىء بكسر الشين، وتقدم الكلام فيها في سورة الصافات. {طَعَامُ ٱلاْثِيمِ }: صفة مبالغة،وهو الكثير الآثام، ويقال له: أثوم، صفة مبالغة أيضاً، وفسر بالمشرك. وقال يحيـى بن سلام: المكتسب للإثم. وعن ابن زيدان:الأثيم هنا هو أبو جهل، وقيل: الوليد. {كَٱلْمُهْلِ }: هو دردي الزيت، أو مذاب الفضة، أو مذاب النحاس، أو عكرالقطران، أو الصديد؛ أولها لابن عمر وابن عباس، وآخرها لابن عباس. وقال الحسن: كالمهل، بفتح الميم: لغة فيه. وعن ابنمسعود، وابن عباس أيضاً: المهل: ما أذيب من ذهب، أو فضة، أو حديد، أو رصاص. وقرأ مجاهد، وقتادة، والحسن، والابنان،وحفص: يغلي، بالياء، أي الطعام. وعمرو بن ميمون، وأبو رزين، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، وطلحة، والحسن: في رواية،وباقي السبعة: تغلي بالتاء، أي الشجرة. {كَغَلْىِ }: وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه. {فَخُذُوهُ * فَٱعْتِلُوهُ }، يقالللزبانية: خذوه فاعتلوه، أي سوقوه بعنف وجذب. وقال الأعمش: معنى اتعلوه: اقصفوه كما يقصف الحطب إلى سواء الجحيم. قال ابنعباس: وسطها. وقال الحسن: معظمها. وقرأ الجمهور: فاعتلوه، بكسر التاء، وزيد بن علي، والابنان، ونافع: بضمها؛ والخلاف عن الحسن، وقتادة،والأعرج، وأبي عمرو. {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ }: وفي الحج يصيب من فوق رؤوسهم الحميم، والمصبوبفي الحقيقة هو الحميم، فتارة اعتبرت الحقيقة، وتارة اعتبرت الاستعارة، لأنه أذم من الحميم، فقد صب ما تولد عنه منالآلام والعذاب، فعبر بالمسبب عن السبب، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم، ولفظة العذاب أهول وأهيب. {ذُقْ }: أي العذاب،{إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ }، وهذا على سبيل التهكم والهزء لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه. وعن قتادة، أنه لمانزلت: {إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلاْثِيمِ }، قال أبو جهل: أتهددني يا محمد؟ وإن ما بين لابتيها أعز منيولا أكرم، فنزلت هذه الآية، وفي آخرها: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ }، أي على قولك، وهذا كما قال جرير:

ألم تكن في رسوم قد رسمت بها     من كان موعظة يا زهرة اليمن

يقولها لشاعر سمى نفسه بهفي قوله:

أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها     إني الأعز وإني زهرة اليمن

فجاء بهجرير على جهة الهزء. وقرىء: إنك، بكسر الهمزة. وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر، والكسائي بفتحها. {إِنَّهَذَا }: أي الأمر، أو العذاب، {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }: أي تشكون. ولما ذكر حال الكفار أعقبه بحال المؤمنينفقال: {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ }. وقرأ عبد الله بن عمر، وزيد بن علي، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، والحسن،وقتادة، ونافع، وابن عامر: في مقام، بضم الميم؛ وأبو رجاء، وعيسى، ويحيـى، والأعمش، وباقي السبعة: بفتحها؛ ووصف المقام بالأمين، أييؤمن فيه من الغير، فكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون فيه، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: الأمين، من قولك: أمنالرجل أمانة، فهو أمين، وهو ضد الخائن؛ فوصف به المكان استعارة، لأن المكان المخيف كان يخوف صاحبه بما يلقى فيهمن المكاره. وتقدم شرح السندس والإستبرق. وقرأ ابن محيصن: {وَإِسْتَبْرَقٍ }، جعله فعلاً ماضياً. {مُّتَقَـٰبِلِينَ }: وصف لمجالس أهل الجنة،لا يستدبر بعضهم بعضاً في المجالس. {كَذٰلِكَ }: أي الأمر كذلك. وقرأ الجمهور: {بِحُورٍ }، وعكرمة: بغير تنوين، لأن العينتقسمن إلى حور وغير حور، فهؤلاء من حور العين، لا من شهلن مثلاً. {فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا }: أي الخدم والمتصرفينعليهم، {بِكلّ فَـٰكِهَةٍ }أرادوا إحضارها لديهم، {ءامِنِينَ } من الأمراض والتخم. {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ }. وقرأ عبيد بنعمير: لا يذاقون، مبنياً للمفعول. {إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلاْولَىٰ }: هذا استثناء منقطع، أي لكن الموتة الأولى ذاقوها في الدنيا، وذلكتنبيه على ما أنعم به عليهم من الخلود السرمدي، وتذكير لهم بمفارقة الدنيا الفانية إلى هذه الدار الباقية. وقال الزمخشري:فإن قلت: كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي؟ قلت: أريد أن يقال: لا يذوقون فيهاالموت البتة، فوضع قوله: {إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلاْولَىٰ } موضع ذلك، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل، فإنهم يذوقونها. وقالابن عطية: قدر قوم إلاّ بسوى، وضعف ذلك الطبري وقدرها ببعد، وليس تضعيفه بصحيح، بل يصح المعنى بسوى ويتسق. وأمامعنى الآية، فتبين أنه نفى عنهم ذوق الموت، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا. وقرأ أبوحيوة: {وَوَقَـٰهُمْ }، مشدداً بالقاف، والضمير في {يَسَّرْنَـٰهُ } عائد على القرآن؛ و{بِلَسَانِكَ }: بلغتك، وهي لغة لعرب.{فَٱرْتَقِبْ } النصرالذي وعدناك {إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } فيما يظنون الدوائر عليك وفيها وعد له عليه السلام ووعيد لهم ومتاركة منسوخة بآيات السيف.