تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الحجرات
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } * { إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } * { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } * { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } * { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } * { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } * { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } * { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } التنابز بالألقاب: التداعي بها، تفاعل من نبزه، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون، ويقال: النبزوالنزب لقب السوء. اللقب: هو ما يدعى به الشخص من لفظ غير اسمه وغير كنيته، وهو قسمان: قبيح، وهو مايكرهه الشخص لكونه تقصيراً به وذماً؛ وحسن، وهو بخلاف ذلك، كالصديق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وأسد الله لحمزة، رضي اللهتعالى عنهم. تجسس الأمر: تطلبه وبحث عن خفيه، تفعل من الجس، ومنه الجاسوس: وهو الباحث عن العورات ليعلم بها؛ ويقاللمشاعر الإنسان: الحواس، بالحاء والجيم. الشعب: الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ،والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل؛ والقبيلة تجمع العمائر؛ والعمارة تجمع البطون؛ والبطن يجمع الأفخاذ؛ والفخذ يجمع الفصائل. خزيمة شعب؛ وكنانة قبيلة؛وقريش عمارة؛ وقصي بطن؛ وهاشم فخذ؛ والعباس فصيلة. وسميت الشعوب، لأن القبائل تشعبت منها. وروي عن ابن عباس: الشعوب: البطون،هذا غير ما تمالأ عليه أهل اللغة، ويأتي خلاف في ذلك عند قوله: {وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً }. القبيلة دون الشعب، شبهتبقبائل الرأس لأنها قطع تقابلت. ألت يألت: بضم اللام وكسرها ألتاً، ولات يليت وألات يليت، رباعياً، ثلاث لغات حكاها أبوعبيدة، والمعنى نقص. وقال رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت | ولم يلتني عن سراها ليت |
أي: لم يمنعني ولم يحسبني. وقال الحطيئة:
أبلغ سراة بني سعد مغلظة | جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا |
{وَأَجْراً عَظِيماً يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يٰأَيُّهَاٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـٰلُكُمْ وَأَنتُمْ }.هذه السورة مدنية. ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة، لأنه ذكر رسول الله ﷺ وأصحابه، ثمقال: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } ، فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه،فقال تعالى: {عَظِيماً يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }. وكانت عادة العرب، وهي إلى الآنالاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعةبعض ذلك. قال قتادة: فربما قال قوم: ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا. وقال الحسن: ذبح قوم ضحاياقبل النبي ﷺ، وفعل قوم في بعض غزواته شيئاً بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك.فقال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وتقول العرب: تقدمت في كذا وكذا، وقدمت فيه إذ قلت فيه.وقرأ الجمهور: لا تقدموا، فاحتمل أن يكون متعدياً، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم، فلميقصد لشيء معين، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين، كقولهم: فلان يعطي ويمنع. واحتمل أن يكون لازماًبمعنى تقدم، كما تقول: وجه بمعنى توجه، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف، أي لا تتقدّموا في شيء مّا منالأشياء، أو بما يحبون. ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم. لا تقدموا، بفتح التاءوالقاف والدال على اللزوم، وحذفت التاء تخفيفاً، إذ أصله لا تتقدموا. وقرأ بعض المكيين: تقدموا بشد التاء، أدغم تاء المضارعةفي التاء بعدها، كقراءة البزي. وقرىء: لا تقدموا، مضارع قدم، بكسر الدال، من القدوم، أي لا تقدموا إلى أمر منأمور الدين قبل قدومها، ولا تعجلوا عليها، والمكان المسامت وجه الرجل قريباً منه. قيل: فيه بين يدي المجلوس إليه توسعاً،لما جاور الجهتين من اليمين واليسار، وهي في قوله: {بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ }، مجاز من مجاز التمثيل. وفائدة تصوير الهجنةوالشناعة فيها؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة؛ والمعنى: لا تقطعوا أمراً إلا بعدمايحكمان به ويأذنان فيه، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل، أو مقتدين برسول الله ﷺ، وهذا، وعلى هذا مدارتفسير ابن عباس. وقال مجاهد: لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه الله على لسان رسوله ﷺ،وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم. ولما نهى أمر بالتقوى، لأن من التقوى اجتنابالمنهي عنه. {إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لأقوالكم، {عَلِيمٌ } بنياتكم وأفعالكم. ثم ناداهم ثانياً، تحريكاً لما يلقيه إليهم، واستعباداًلما يتجدد من الأحكام، وتطرية للإنصات. ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت. {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوٰتَكُمْ }: أي إذانطق ونطقتم، {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ } إذا كلمتموه، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل، ولا يكون الكلاممع الرسول ﷺ كالكلام مع غيره. ولما نزلت، قال أبو بكر رضي الله عنه: لاأكلمك يا رسولالله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله. وعن عمر رضي الله عنه، أنه كان يكلم النبي صلى اللهعليه وسلم كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه. وكان أبو بكر، إذا قدم على الرسول الله ﷺ،قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله ﷺ، ولم يكن الرفعوالجهر إلا ما كان في طباعهم، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفراً، والمخاطبون مؤمنون.{كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ }: أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام، فلم ينهوا إلا عن جهر مخصوص. وكره العلماء رفع الصوتعند قبر رسول الله ﷺ، وبحضرة العالم، وفي المساجد. وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بنقيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهير الصوت، وحديثه في انقطاعه في بيته أياماً بسبب ذلك مشهور، وأنهقال: يا رسول الله، لما أنزلت، خفت أن يحبط عملي، فقال له رسول الله ﷺ: إنك من أهل الجنة . وقال له مرة: أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً ؟ فعاش كذلك، ثم قتل باليمامة، رضي الله تعالىعنه يوم مسيلمة. {أَن تَحْبَطَ أَعْمَـٰلُكُمْ }: إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافاً، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة؛وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على عادته، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليهوسلم، وغض الصوت عنده، أن لو فعل ذلك، كأنه قال: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجرواعليها. وأن تحبط مفعول له، والعامل فيه ولا تجهروا، على مذهب البصريين في الاختيار، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين فيالاختيار، ومع ذلك، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر. وقرأ عبد الله وزيد بن علي:فتحبط بالفاء، وهو مسبب عن ما قبله. {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰتَهُمْ }، قيل: نزلت في أبي بكر وعمر، رضيالله تعالى عنهما، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. {ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ }: أي جربتودربت للتقوى، فهي مضطلعة بها، أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأن تحقيق الشيء باختباره، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى فيموضع الحال، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى، أي لتثبت وتظهر تقواها. وقيل: أخلصها للتقوى من قولهم: امتحنالذهب وفتنة إذا أذابه، فخلص إبريزه من خبثه. وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة، وجعل خبرها جملة مناسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده، جائياً بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم. وكل هذا دليل على أن الارتضاءبما فعلوا من توقير النبي ﷺ، بغض أصواتهم، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستجابهم ضدما استوجبه هؤلاء. {إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ }: نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس، والزبرقانبن بدر، وعمرو بن الأهتم وغيرهم. وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة، والرسول ﷺ راقد، فجعلوا ينادونه بجملتهم:يا محمد، أخرج إلينا. فاستيقظ فخرج، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد، إن مدحي زين وذمي شين، فقال لهرسول الله ﷺ: ويلك ذلك الله تعالى . فاجتمع الناس في المسجد فقالوا: نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا،نشاعرك ونفاخرك؛ فقال النبي ﷺ: ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا . فقال الزبرقان لشاب منهم:فخروا ذكر فضل قومك، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خيرأهل الأرض، من أكثرهم عدداً ومالاً وسلاحاً، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعل هو أحسن منفعلنا. فقال رسول الله ﷺ، لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيبه: «قم فأجبه»، فقال: «الحمد للهأحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا المهاجرين منبني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزاً لدينه، فنحن نقاتلالناس حتى يشهدوا أن لا أله إلا الله، فمن قالها منع نفسه وماله، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هيناً،أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات». وقال الزبرقان لشاب: قم فقل أبياتاً تذكر فيها فضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا | فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع ونطعم النفس عند القحط كلهم | |
من السيف إذا لم يؤنس الفزع إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد | إنا كذلك عند الفخر نرتفع |
فأمر النبي ﷺ، فدعا حسان بن ثابت، فقال له: أعدلي قولك فأسمعه ، فأجابه:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم | قد شرعوا سنة للناس تتبع يوصي بها كل من كانت سريرته |
ثم قال حسان في أبيات:
نصرنا رسول الله والدين عنوة | على رغم غاب من معد وحاضر بضرب كأنواع المخاض مشاشة | |
وطعن كأفواه اللقاح المصادر وسل أحداً يوم استقلت جموعهم | بضرب لنا مثل الليوث الخوادر ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى | |
إذا طاب ورد الموت بين العساكر فنضرب هاماً بالذراعين ننتمي | إلى حسب من جذع غسان زاهر فلولا حياء الله قلنا تكرما | |
على الناس بالحقين هل من منافر فأحياؤنا من خير من وطىء الحصا وأمواتنا من خير أهل المقابر |
قال: فقام الأقرع بن حابسفقال: إني والله لقد جئت لأمر، وقد قلت شعراً فاسمعه، وقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا | إذا خالفونا عند ذكر المكارم وإنا رؤوس الناس في كل غارة | |
تكون بنجد أو بأرض التهائم وإن لنا المرباع في كل معشر | وأن ليس في أرض الحجاز كدارم |
فقال النبي ﷺ لحسان: قم فأجبه ، فقام وقال:
بني درام لا تفخروا إن فخركم | يصير وبالاً عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم |
فقالالنبي ﷺ: لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه .فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان، ثم رجع حسان إلى شعره فقال:
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم | وأموالكم أن تقسموا في المقاسم فلا تجعلوا الله نداً وأسلموا | |
ولا تفخروا عند النبي بدارم وإلا ورب البيت قد مالت القنا | على هامكم بالمرهفات الصوارم |
فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولاً،وتكلم شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً، ثم دنا رسول الله ﷺ وقال: أشهد أن لا إلهإلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي ﷺ: ما يضرك ما كان قبل هذا ، ثم أعطاهم وكساهم.ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب، والله قدأمر بتوقير رسوله وتعظيمه. والوراء: الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام، ومن لابتداء الغاية، وإن المناداة نشأتمن ذلك المكان. وقال الزمخشري: فإن قلت: أفرق بين الكلامين، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه. قلت: الفرق بينهما:أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء، وفي الثاني لا يجوز، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية،ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. والذي يقول: ناداني فلان من وراء الدار، لا يريدوجه الدار ولا دبرها، ولكن أي قطر من أقطارها، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص. انتهى. وقد أثبت أصحابنا فيمعاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما. وتأولوا ذلك على سيبويهوقالوا من ذلك قولهم: أخذت الدرهم من زيد، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً. قالوا: فمن تكون لابتداء الغايةفقط في أكثر المواضع، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً. وهذه المناداة التي أنكرت، ليس إنكارها لكونها وقعت فيإدبار الحجرات أو في وجوهها، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير، كما يناديبعضهم بعضاً. والحجرات: منازل الرسول ﷺ، وكانت تسعة. والحجرة: الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها.وحظيرة الإبل تسمى حجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة. وقرأ الجمهور: الحجرات، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها؛ وأبو جعفر،وشيبة: بفتحها؛ وابن أبي عبلة: بإسكانها، وهي لغى ثلاث، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو. والظاهر أن منصدر منه النداء كانوا جماعة. وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فإن صح ذلك،كان الإسناد إلى الجماعة، لأنهم راضون بذلك؛ وإذا كانوا جماعة، احتمل أن يكونوا تفرقوا، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة،وبعض من وراء هذه، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة، أو كانت الحجرة واحدة، وهي التي كان فيها الرسولﷺ، وجمعت إجلالاً له؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً. وقال الزمخشري: ويحتمل أنيكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم.انتهى. وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به، فيحتمل النفي، وإنما هو مفهوم من قوله: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }.والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل، لا من المفهوم، فلا يحمل قوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } النفي المحض للشكر، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل. وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل. وابتدأأول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها، ثم على ما نهى عنه من التقديمبالنهي عن رفع الصوت والجهر، فكان الأول بساطاً للثاني، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك، فغضواأصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى. ثم جيء على عقبه بما هو أفظع، وهو الصياح برسول الله صلىالله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار، كما يصاح بأهون الناس، ليلبيه على فظاعة ما جسرواعليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش. ومن هذاوأمثاله تقتبس محاسن الآداب. كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال:ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه. {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ }، قالالزمخشري: {أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } في موضع الرفع على الفاعلية، لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم. انتهى، وهذا ليس مذهب سيبويه، أنأن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ، لا في موضع فاعل. ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف،كما زعم الزمخشري. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا، أي لكان هو، أي صبرهم خيراً لهم. وقالالزمخشري: في كان، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو. انتهى، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر، فأعادالضمير على ذلك الفاعل، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيراً لهم في الثواب عند الله، وفي انبساط نفس الرسولﷺ وقضائه لحوائجهم. وقد قيل: إنهم جاءوا في أسارى، فأعتق رسول الله ﷺ النصفوفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء. وقيل: لكان صبرهم أحسن لأدبهم. {وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، لن يضيقغفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا. {رَّحِيمٌ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَابِجَهَالَةٍ } الآية، حدث الحرث بن ضرار قال: قدمت على رسول الله ﷺ، فدعاني إلى الإسلام، فأسلمت،وإلى الزكاة فأقررت بها، فقلت: أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن أجابني جمعت زكاته، فترسل من يأتيكبما جمعت. فلما جمع ممن استجاب له، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول ﷺ أن يبعث إليه، واحتبسعليه رسول الله ﷺ، قال لسروات قومه: كان رسول الله ﷺ وقت لي وقتاًإلى من يقبض الزكاة، وليس من رسول الله ﷺ الخلف، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه.فانطلقوا بها إليه، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحرث، ففرق، فرجع فقال: منعني الحرث الزكاة وأراد قتلي، فضربرسول الله ﷺ إلى الحرث، فاستقبل الحرث البعث وقد فصل من المدينة، فقالوا: هذا الحرث، إلى منبعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ فقالوا: بعث إليك الوليد، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعثمحمداً بالحق ما رأيت رسولك، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من اللهورسوله، قال: فنزلت هذه الآية. وفاسق وبنبأ مطلقان، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوافي سورة النساء، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم. وجاء الشرط بحرف إنالمقتضي للتعليق في الممكن، لا بالحرف المقتضي للتحقيق، وهو إذا، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب، إنما كان علىسبيل الندرة. وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم، ونبا ما يترتب على كلامه. فإذا كانوابمثابة التبين والتثبت، كف عن مجيئهم بما يريه. {ءانٍ }: مفعول له، أي كراهة أن يصيبوا، أو لئلا تصيبوا، {سُوءابِجَهَالَةٍ } حال، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق، {فَتُصْبِحُواْ }: فتصيروا، {عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ }: من إصابةالقوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق، {نَـٰدِمِينَ }: مقيمين على فرط منكم، متمنين أنه لم يقع. ومفهوم {إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ}: قبول كلام غير الفاسق، وأنه لا يتثبت عنده، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل. وقال قتادة: لمانزلت هذه الآية، قال رسول الله ﷺ: التثبت من الله والعجلة من الشيطان . وقال مقلد بن سعيد:هذه الآية ترد علي من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول.انتهى. وليس كما ذكر، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق، لا مجيء المسلم، بل بشرط الفسق. والمجهول الحاليحتمل أن يكون فاسقاً، فالاحتياط لازم. {وَٱعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ }: هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاةوالسلام، ووعيد بالنصيحة. ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى اللهعليه وسلم يعتمد على خبر الفاسق، بل بين له ذلك. والظاهر أن قوله: {وَٱعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } كلامتام، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله ﷺ، فلا تخبروه بما لايصح، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك. ثم أخبر تعالى أن رسوله ﷺ لو أطاعكم فيكثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه {لَعَنِتُّمْ }: أي لشق عليكم. وقال مقاتل: لأتمتم. وقال الزمخشري:والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين فيفيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور، وكلاهما مذهب سديد، والمعنى: أن فيكم رسول الله، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها،وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره، والتابعله فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته، ولو فعل ذلك {لَعَنِتُّمْ }: أي لوقعتم في الجهد والهلاك. وهذا يدل علىأن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله ﷺ الإيقاع ببني المصطلق، وتصديق قول الوليد، وأن نظائر ذلك منالهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصونون، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله:{وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلاْيمَـٰنَ }: أي إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، وهذا منإيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. انتهى،وفيه تكثير. ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالاً، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب.وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول صلى الله عليهوسلم لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. وقيل: يطيعكم دون أطاعكم، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم علىما يستصوبونه، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولاً عليه بدليل قوله في كثير من الأمر، وشريطة لكنمفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قدغايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك. انتهى، وهو ملتقط من كلام الزمخشري. وقالالزمخشري أيضاً: ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية، كما سبق وكل ذي لب، وراجع إلى بصيرة وذهنلا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره. وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله،وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. انتهى، وهي على طريق الاعتزال. وعنالحسن: حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب. انتهى. {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلرشِدُونَ }: التفاتمن الخطاب إلى الغيبة. {فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً }، قال ابن عطية: مصدر مؤكد لنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه،هذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل. وقال الحوفي: فضلاً نصب على الحال. انتهى، ولا يظهر هذا الذي قاله. وقال أبوالبقاء: مفعول له، أو مصدر في معنى ما تقدم. وقال الزمخشري: فضلاً مفعول له، أو مصدر من غير فعله. فإنقلت: من أين جاز وقوعه مفعولاً له، والرشد فعل القوم، والفضل فعل الله تعالى، والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت: لماوقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه، تقدست أسماؤه، وصار الرشد كأنه فعله، فجاز أن ينتصب عنهولا ينتصب عن الراشدون، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى. والجملة التي هي {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلرشِدُونَ }اعتراض، أو عن فعل مقدر، كأنه قيل: جرى ذلك، أو كان ذلك فضلاً من الله. وأما كونه مصدراً من غيرفعله، فأن يوضع موضع رشداً، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه، والفضل والنعمة بمعنى الأفضال والأنعام. {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل، {حَكِيمٌ } حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم. انتهى. أما توجيهه كونفضلاً مفعولاً من أجله، فهو على طريق الاعتزال. وأما تقديره أو كان ذلك فضلاً، فليس من مواضع إضمار كان، ولذلكشرط مذكور في النحو. {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلاخْرَىٰ فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِىحَتَّىٰ تَفِىء إِلَىٰ أَمْرِ }. سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبيّبن سلول على رسول الله ﷺ، وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في موضعه، وتعصب بعضهملعبد الله، ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبي، فتجالد الحيان، قيل: بالحديد، وقيل: بالجريد والنعال والأيدي، فنزلت، فقرأهاعليهم، فاصطلحوا. وقال السدّي: وكانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر، وكان لها زوج من غيرهم، فوقع بينهمشيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه، فوقع قتال، فنزلت الآية بسببه. وقرأ الجمهور: {ٱقْتَتَلُواْ } جمعاً، حملاً علىالمعنى، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وقرأ ابن أبي عبلة: اقتتلتا، على لفظ التثنية؛ وزيد بن عليّ، وعبيد بنعمير: اقتتلتا على التثنية، مراعى بالطائفتين. الفريقان اقتتلوا، وكل واحد من الطائفتين باغ؛ فالواجب السعي بينهما بالصلح، فإن لم تصطلحاوأقامتا على البغي قوتلتا، أو لشبهة دخلت عليهما، وكل منهما يعتقد أنه على الحق؛ فالواجب إزالة الشبه بالحجج النيرة والبراهينالقاطعة، فإن لجا، فكالباغيتين؛ {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا }، فالواجب أن تقاتل حتى تكف عن البغي. ولم تتعرض الآية من أحكامالتي تبغي لشيء إلا لقتالها، وإلى الإصلاح إن فاءت. والبغي هنا: طلب العلو بغير الحق، والأمر في فأصلحوا وقاتلوا هولمن له الأمر من الملوك وولاتهم. وقرأ الجمهور: {حَتَّىٰ تَفِىء }، مضارع فاء بفتح الهمزة؛ والزهري: حتى تفي، بغير همزةوفتح الياء، وهذا شاذ، كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز، فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفيمضارع وفي شذوذاً. {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }: أي إخوة في الدين. وفي الحديث: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله . وقرأ الجمهور: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } مثنى، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق إثنان، فإذا كان الإصلاحلازماً بين اثنين، فهو ألزم بين أكثر من اثنين. وقيل: المراد بالأخوين: الأوس والخزرج. وقرأ زيد بن ثابت، وابن مسعود،والحسن: بخلاف عنه؛ والجحدري، وثابت البناني، وحماد بن سلمة، وابن سيرين: بين إخوانكم جمعاً، بالألف والنون، والحسن أيضاً، وابن عامرفي رواية، وزيد بن عليّ، ويعقوب: بين إخوتكم جمعاً، على وزن غلمة. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث،ويغلب الأخوان في الصداقة، والإخوة في النسب، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر، ومنه {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، وقوله: { أَوْ بُيُوتِ إِخْوٰنِكُمْ } . {تُرْحَمُونَ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ }: هذه الآية والتي بعدها تأديب للأمّة،لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه الأوصاف الذميمة التي وقع النهي عنها. وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل،كان يمشي بالنميمة، وقد أسلم، فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فعز ذلك عليه وشكاهم، فنزلت. وقوم مرادفرجال، كما قال تعالى: { ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء } ، ولذلك قابله هنا بقوله: {وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء }، وفي قولزهير:
وما أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
وقال الزمخشري: وهوفي الأصل جمع قائم، كصوم وزور في جميع صائم وزائر. انتهى وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب أبيالحسن في قوله: إن ركبا جمع راكب. وقال أيضاً الزمخشري: وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث،فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث، لأنهن توابع لرجالهن. انتهى. وغيره يجعله من بابالتغليب والنهي، ليس مختصاً بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك، بل المعنى:لا يسخر أحد من أحد، وإنما ذكر الجمع، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل. فكأنه إذا سخرالواحد، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله، أو بلغت سخريته ناساً فضحكوا، فينقلب الحال إلى جماعة. {عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ }:أي المسخور منهم، {خَيْراً مّنْهُمْ }: أي من الساخرين بهم. وهذه الجملة مستأنفة، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبةلما جاء النهي عنه، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيراً من الساخر، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هولله تعالى. وعن ابن مسعود: لو سخرت من كلب، خشيت أن أحول كلباً. {وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء }: رويأن عائشة وحفصة، رضي الله تعالى عنهما، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها، فقالت عائشة لحفصة:انظري إلى ما يجر خلفها، كأنه لسان كلب. وعن عائشة، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية، وكانت قصيرة.وعن أنس: كان نساء النبي ﷺ يعيرن أم سلمة بالقصر. وقالت صفية لرسول الله صلى الله عليهوسلم: يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: هلا قلت إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد؟وقرأ عبد الله وأبي: عسوا أن يكونوا، وعسين أن يكن، فعسى ناقصة، والجمهور: عسى فيهما تامّة، وهي لغتان: الإضمار لغةتميم، وتركه لغة الحجاز. {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ }: ضم الميم في تلمزوا، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو. وقالأبو عمرو: هي عربية؛ والجمهور؛ بالكسر، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز لا يكون إلا باللسان، والمعنى: لايعب بعضكم بعضاً، كما قال: فاقتلوا أنفسكم، كأن المؤمنين نفس واحدة، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد إذااشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى. ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره، مما لا يدين بدينه. ففي الحديث: اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس . وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق اللمز،فقد لمز نفسه. {وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلاْلْقَـٰبِ }: اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به، كان منهياً، وأما إذاكان حسناً، فلا ينهى عنه. وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم منغير نكير. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب، فنزلت الآية بسبب ذلك. وفي الحديث: كنوا أولادكم . قالعطاء: مخافة الألقاب. وعن عمر: «أشيعوا الكنى فإنها سنة». انتهى، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة، لا يكاد يشترك فيهاأحد مع من تكنى بها في عصره، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق، وتتهادى أخباره الرفاق، كما جرى في كنيتيبأبي حيان، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر، مما يقع فيه الاشتراك، لم أشتهر تلكالشهرة، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي:
يا أهل أندلس ما عندكم أدب | بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم |
فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ، وكل هذا يحرم تعاطيه. قيل: وليس من هذا قولالمحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى. قالوا: وقد قال ابنمسعود لعلقمة: وتقول أنت ذلك يا أعور. وقال ابن زيد: أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه، ولايا فاسق بعد توبته، ونحو ذلك. وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك، فقال له مالك: يا أعرابي، يريد أنيبعده من الهجرة، فقال له الآخر: يا يهودي، يريد المخاطبة لليهود في يثرب. {بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلاْيمَانِ }:أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب، فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسقبعد إيمانه. وقال الرماني: هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان. انتهى. وقال الزمخشري: نحو قول الرماني، قال:استقباح الجمع بعد الإيمان، والفسق الذي يأباه الإيمان، وهذه نزغة اعتزالية. وقال الزمخشري: الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم: طاراسمه في الناس بالكرم أو باللوم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس، كأنهقيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق. {وَمَن لَّمْ يَتُبْ }: أي عن هذه الأشياء{فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ }: تشديد وحكم بظلم من لم يتب. {ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ٱلظَّنّ }: أي لا تعملوا علىحسبه، وأمر تعالى باجتنابه، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله. والمأمور باجتنابه هوبعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر، كمن يتعاطىالريب والمجاهرة بالخبائث، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر، وصحبة نساء المغاني، وإدمان النظر إلى المرد. فمثل هذا يقوي الظن فيهأنه ليس من أهل الصلاح، ولا إثم فيه، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يعبث بالشبان، بخلافمن ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء. فهذا هو المنهي عنه، ويجب أن يزيله. والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب.وقال الزمخشري: والهمزة فيه بدل عن الواو، كأنه يثم الأعمال، أي يكسرها بإحباطه، وهذا ليس بشيء، لأن تصريف هذه الكلمةمستعمل فيه الهمز. تقول: أثم يأثم فهو آثم، والإثم والآثام، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو. وأما يثم فأصله يوثم،وهو من مادة أخرى. وقيل: الاثم متعلق بتكلم الظان. أما إذا لم يتكلم، فهو في فسحة، لأنه لا يقدر علىرفع الخواطر التي يبيحها قول النبي ﷺ: الحزم سوء الظن . وقرأ الجمهور: ولا تجسسوا بالجيم. وقرأ الحسنوأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وقيل لابن مسعود: هللك في فلان تقطر لحيته خمراً؟ فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. وفي الحديث: أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كانفي ظاهره ريبة، وكان دخل عليه هجماً، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس، انصرف عمر. {وَلاَ يَغْتَببَّعْضُكُم بَعْضاً }، يقال: غابه واغتابه، كغاله واغتاله؛ والغيبة من الاغتياب، كالغيلة من الاغتيال، وهي ذكر الرجل بما يكره مماهو فيه. وفي الحديث: سئل رسول الله ﷺ ما الغيبة فقال: أن تذكر من المرء ما يكرهأن يسمع، فقال: يا رسول الله وإن كان حقاً؟ قال رسول الله ﷺ: إذا قلت باطلاً فذلك البهتان ، وفي الصحيحين فقد بهته. وقال ابن عباس: الغيبة أدام كلاب الناس. وقالت عائشة عن امرأة: ما رأيت أجمل منها،إلا أنها قصيرة. فقال لها النبي ﷺ أنه قال: اغتبتيها، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه . وحكىالزهراوي عن جابر، عن النبي ﷺ أنه قال: الغيبة أشد من الزنا، لأن الزاني يتوب الله عليه، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم . وفي الحديث المستفيض: فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم . ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه، من تجريح الشهود والرواة، والخطاب إذا استنصحمن يخطب إليه من يعرفهم، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم، ومنه:
وإن أكلـوا لحمـي وفـرت لحـومهم |
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ }، قالالزمخشري: تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى، منها: الاستفهام الذي معناهالتقرير، ومنها: جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً منالأحدين لا يحب ذلك، ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً، ومنها: أنهلم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً. انتهى. وقال الرماني: كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع، وكراهية الغيبةيدعو إليها العقل، وهو أحق أن يجاب، لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل. انتهى. وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثللأخذه العرض يأكل اللحم، لأن اللحم ستر على العظم، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر. وقالتعالى: {مَيْتًا }، لأن الميت لا يحس، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب، ثم هو في التحريم كآكللحم الميت. انتهى. وروي في الحديث: ما صام من أكل لحوم الناس . وقال أبو قلابة الرياشي: سمعت أبا عاصم يقول:ما اغتبت أحداً منذ عرفت ما في الغيبة. وقيل: لعمر بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياهفارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني، قال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. وانتصب ميتاً على الحالمن لحم، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ، وهو ضعيف، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كانله موضع من الإعراب، نحو: أعجبني ركوب الفرس مسرجاً، وقيام زيد مسرعاً. فالفرس في موضع نصب، وزيد في موضع رفع.وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء، جاز انتصاب الحال من الثاني، وقد رددنا عليه ذلكفيما كتبناه في علم النحو. {فَكَرِهْتُمُوهُ }، قال الفراء: أي فقد كرهتموه، فلا تفعلون. وقيل: لما وقفهم على التوبيخ بقوله:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً }، فأجاب عن هذا: لأنهم في حكم من يقولها، فخوطبوا على أنهم قالوالا، فقيل لهم: فكرهتموه، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا التقدير يعطف قوله: {وَٱتَّقُواْٱللَّهَ }، قاله أبو علي الفارسي، وفيه عجرفة العجم. وقال الزمخشري: ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لايحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ }، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكارهلإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن فيأعراض المسلمين. انتهى، وفيه أيضاً عجرفة العجم. والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفاً، وأجرى على قواعد العربية. وقىل: لفظه خبر،ومعناه الأمر، تقديره: فاكرهوه، ولذلك عطف عليه {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير، ومنه اتقىالله امرؤ فعل خيراً يثب عليه، أي ليتق الله، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر. وما أحسن ما جاءالترتيب في هذه الآية. جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم، وهو الظن؛ ثم نهى ثانياً عنطلب تحقق ذلك الظن، فيصير علماً بقوله: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ }؛ ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم، فهذه أمورثلاثة مترتبة، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب. وضمير النصف في كرهتموه، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل: على الميت. وقرأ أبوسعيد الخدري، وأبو حيوة: فكرّهتموه، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل: على الميت. وقرأ أبو سعيد الخدري، وأبو حيوة: فكرّهتموه،بضم الكاف وتشديد الراء؛ ورواها الخدري عن النبي ﷺ، والجمهور: بفتح الكاف وتخفيف الراء، وكره يتعدى إلىواحد، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين، كقراءة الخدري ومن معه، أي جعلتم فكرهتموه. فأما قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ} فعلى التضمين بمعنى بغض، وهو يتعدى لواحد، وبإلى إلى آخر، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد. والظاهرعطف {عَبْدُ ٱللَّهِ } على ما قبله من الأمر والنهي. قوله عز وجل: {رَّحِيمٌ يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّنذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }. قيل: غضب الحارثبن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة، فنزلت. وعن ابن عباس، سببها قول ثابتبن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي ﷺ: يا ابن فلانة؛ فوبخه النبي صلى الله عليهوسلم وقال له: إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى . ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً. {مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ}: أي من آدم وحواء، أو كل أحد منكم من أب وأم، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه،فلا وجه للتفاخر. {وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ }: وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت. وقيل: الشعوب في العجم والقبائلفي العرب، والأسباط في بني إسرائيل. وقيل: الشعوب: عرب اليمن من قحطان، والقبائل: ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقال قتادة، ومجاهد،والضحاك: الشعب: النسب الأبعد، والقبيلة: الأقرب، قال الشاعر:
قبائل من شعوب ليس فيهم | كريم قد يعدّ ولا نجيب |
وقيل: الشعوب: الموالي، والقبائل: العرب. وقال أبو روق: الشعوب: الذين ينسبون إلى المدائن والقرى، والقبائل: الذينينسبون إلى آبائهم. انتهى. وواحد الشعوب شعب، بفتح الشين. وشعب: بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين،والنسب إلى الشعوب شعوبية، بفتح الشين، وهم الأمم التي ليست بعرب. وقيل: هم الذين يفضلون العجم على العرب، وكان أبوعبيدة خارجياً شعوبياً، وله كتاب في مناقب العرب، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب، وقد رد عليهذلك علماء الأندلس برسائل عديدة. وقرأ الجمهور: {لِتَعَـٰرَفُواْ }، مضارع تعارف، محذوف التاء؛ والأعمش: بتاءين؛ ومجاهد، وابن كثير في رواية،وابن محيصن: بإدغام التاء في التاء؛ وابن عباس، وأبان عن عاصم: لتعرفوا، مضارع عرف؛ والمعنى: أنكم جعلكم الله تعالى ماذكر، كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب، فلا ينتمي إلى غير آبائه، لا التفاخر بالآباء والأجداد، ودعوى التفاضل، وهي التقوى.وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: إنما الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله ، ثم قرأ الآية. وعنه ﷺ: من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله . وما زال التفاخربالأنساب في الجاهلية والإسلام، وبالبلاد، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع، وأكثره بالأنساب:
وأعجب شيء إلى عاقل | فروع عن المجد مستأخره إذا سئلوا ما لهم من علا |
ومن ذلك: افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم، وإن كانالأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح. وقرأ الجمهور: إن، بكسر الهمزة؛ وابن عباس: بفتحها، وكان قرأ: لتعرفوا، مضارع عرف، فاحتملأن تكون أن معمولة لتعرفوا، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى. وأما إن كانت لامكي، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى. فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً، أيلتعرفوا الحق، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي. {قَالَتِ ٱلاْعْرَابُ ءامَنَّا }،قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة، قبيلة تجاور المدينة، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا.وقيل: مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة، فردّ الله تعالى عليهم بقوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ }، أكذبهمالله في دعوى الإيمان، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم، وهذا في أعراب مخصوصين. فقدقال الله تعالى: { وَمِنَ ٱلاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ } الآية. {وَلَـٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا }، فهو اللفظ الصادق منأقوالكم، وهو الاستسلام والانقياد ظاهراً، ولم يواطىء أقوالكم ما في قلوبكم، فلذلك قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلاْيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ }: وجاءالنفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار، وتبين أن قوله: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ } لا يراد به انتفاء الإيمانفي الزمن الماضي، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً، لأنك إذا نفيت بلم، جاز أن يكون النفي قد انقطع، ولذلك يجوزأن تقول: لم يقم زيد وقد قام، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار. فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار، لميجز أن تقول: وقد قام، لتكاذب الخبرين. وأما لما، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار، ولذلك امتنع لمايقم زيد وقد قام للتكاذب. والظاهر أن قوله: {لَّمّاً * يَدْخُلِ ٱلاْيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ } ليس له تعلق بما قبلهمن جهة الإعراب. وقال الزمخشري: فإن قلت: هو بعد قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } يشبه التكرير من غير استقلال بفائدةمتجددة؛ قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ } هو تكذيب دعواهم، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلاْيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ }توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: {وَلَـٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنهكلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله: {قُولُواْ }. انتهى. والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا: {قُولُواْ أَسْلَمْنَا} غير مقيد بحال، وأن {وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلاْيمَـٰنُ } إخبار غير قيد في قولهم. وقال الزمخشري: وما في لما منمعنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. انتهى، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلمايقع بعد ولما، إنما تنفي ما كان متصلاً بزمان الإخبار، ولا تدل على ما ذكر، وهي جواب لقد فعل، وهبأن قد تدل على توقع الفعل. فإذا نفي ما دل على التوقع، فكيف يتوهم أنه يقع بعد: {وَإِن تُطِيعُواْ *ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } بالإيمان والأعمال؟ وهذا فتح لباب التوبة. وقرأ الجمهور: {لاَ يَلِتْكُمْ }، من لات يليت، وهي لغة الحجاز.والحسن والأعرج وأبو عمرو: ولا يألتكم، من ألت، وهي لغة غطفان وأسد. {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ }، ثم تقتضي التراخي، وانتفاءالريبة يجب أن يقارن الإيمان، فقيل: من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان، أي ثم أقول لم يرتابوا. وقيل: قديخلص الإيمان، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه، فنفي ذلك، فحصل التراخي، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة، فحالهفي ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه. {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ }: أي في قولهم آمنا، حيث طابقت ألسنتهمعقائدهم، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال. وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية، وليسوا كأعراب بني أسدفي قولهم آمنا، وهم كاذبون في ذلك. {قُلْ أَتُعَلّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ }، هي منقولة من: علمت به، أي شعرتبه، ولذلك تعدّت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف، وفي ذلك تجهيل لهم، حيث ظنوا أنذلك يخفى على الله تعالى. ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض. ويقال: منّ عليهم بيد أسداها إليه، أيأنعم عليه. المنة: النعمة التي لا يطلب لها ثواب، ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً، أييعتدون عليك أن أسلموا، فإن أسلموا في موضع المفعول، ولذلك تعدى إليه في قوله: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـٰمَكُمْ }.ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله، أي يتفضلون عليك بإسلامهم. {أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَـٰنِ } بزعمكم، وتعليق المن بهدايتهم بشرطالصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ }. وقرأعبد الله وزيد بن عليّ، إذ هداكم، جعلا إذ مكان إن، وكلاهما تعليل، وجواب الشرط محذوف، أي {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ}، فهو المانّ عليكم. وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم: يعلمون، بياء الغيبة، والجمهور: بتاء الخطاب.