تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الإسراء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } * { وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } * { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } * { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } * { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } * { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } * { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } * { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } * { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } * { وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } * { وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } * { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } * { ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } * { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } * { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } * { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } * { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } * { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } * { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } * { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }[عدل]

جاسَ يَجُوسُ جوساً وَجَوَساناً تردد في الغارة قاله الليث. وقال أبو عبيدة: جاسوافتشوا هل بقي ممن لم يقتل. وقال الفراء: قيلوا. قال حسان:

ومنا الذي لاقى لسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر.    

وقال قطرب: نزلوا قال الشاعر:

فجسنا ديارهم عنوة     وأبناء ساداتهم موثقينا

وقيل: داسوا، ومنه:

إليك جسنا الليل بالمطي    

وقال أبو زيد: الجوس والحوس والعوس والهوس الطواف بالليل. فالجوس والحوسطلب الشي باستقصاء. حظرت الشيء منعته. {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركناحوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاًذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً}. سبب نزول {سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } ذكر رسول الله لقريش الإسراء به وتكذبيهم له، فأنز الله ذلك تصديقاً له، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيانبإجماع وقيل: إلا آيتين {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } وقيل: إلا أربع هاتان وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَإِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } وقوله {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ }، وزاد مقاتل قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَمِن قَبْلِهِ } الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } إلى آخرهن.ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره منمكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والسعر وغير ذلك مما رموه به، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضلهواحتفائه به وعلو منزلته عنده، وتقدّم الكلام على سبحان في البقرة. وزعم الزمخشري أنه علم للتسبيح كعثمان للرجل. وقال ابنعطية: ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً انتهى. ويعنيان والله أعلم أنه إذالم يضف كقوله:

سبحان من علقمة الفاخر    

وأما إذا أضيف فلو فرضنا أنه علم لنوي تنكيره ثم يضاف وصار إذذاك تعريفه بالإضافة لا بالعلمية. {وأسرى} بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعدّيا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباءالمشاركة في الفعل، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على الله تعالى، فهوكقوله:

{ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ }

أي لأذهب سمعهم، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد، ولذلك قالالمفسرون معناه سرى بعبده. وقال ابن عطية: ويظهران {أَسْرَىٰ } معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده لأنهيقلق أن يسند أسرى وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلايحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث: أتيته سعياً وأتيته هرولة حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، و{أَسْرَىٰ } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرناولا يحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذه اللفظة فإنه ألزم للنقلة من أتيته وأتى الله بنيانهم انتهى. وإنما احتاجابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعولوهذا شيء ذهب إليه المبرد، فإذا قلت: قمت بزيد لزم منه قيامك وقيام زيد عنده وهذا ليس كذلك، التبست عندهباء التعدية بباء الحال، فباء الحال يلزم فيه المشاركة إذ المعنى قمت ملتبساً بزيد وباء التعدية مرادفة للهمزة، فقمت بزيدوالباء للتعدية كقولك أقمت زيداً ولا يلزم من إقامتكه أن تقوم أنت. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون أسرىبمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى:

{ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }

يعني أن يكون التقدير أسرت ملائكته بعبده، فحذفالمضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضاً فموارد القرآن في فأسر بقطعالهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد، ألا ترى أن قوله:

{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ }

{ وَأَنْ * أَسْرِ بِعِبَادِى }

قرىء بالقطعوالوصل، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع، فيستدل بالمصرح على المحذوف. والظاهر أن هذاالإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشنعت عليه، وحين قص ذلك على أم هانىء قالت: لا تحدث الناس بهافيكذبوك ولو كان مناماً استنكر ذلك وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي أن يعتقد. وحديث الإسراء مروي فيالمسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة. قيل وما روي عن عائشة ومعاوية أنهكان مناماً فلعله لا يصح عنهما، ولو صح لم يكن في ذلك حجة لأنهما لم يشاهدا ذلك لصغر عائشة وكفرمعاوية إذ ذاك، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول ولا حدّثا به عنه. وعن الحسن كانفي المنام رؤيا رآها وقوله: {بِعَبْدِهِ } هو محمد . وقال أبو القاسم سليمان الأنصاري: لما وصلمحمد إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى الله إليه: يا محمد أشرفك؟ قال: يارب بنسبتي إليك بالعبودية، فأنزل فيه {سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ }الآية انتهى. وعنه قالوا: عبد الله ورسوله، وعنه إنما أناعبد وهذه إضافة تشريف واختصاص. وقال الشاعر:

لا تدعني إلا بيا عبدها     لأنه أشرف أسمائي

وقال العلماء: لو كان لرسول الله اسم أشرف منه لسماه به في تلكالحالة. وانتصب {لَيْلاً } على الظرف، ومعلوم أن السُّرَى لا يكون في اللغة إلا بالليل، ولكنه ذكر على سبيلالتوكيد. وقيل: يعني في جوف الليل فلم يكن إدلاجاً ولا إدّلاجاً. وقال الزمخشري: أراد بقوله: {لَيْلاً } بلفظ التنكير تقليلمدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قددلّ على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي بعض الليل كقوله:

{ وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ }

على الأمر بالقيام في بعض الليل انتهى. والظاهر أن قوله: {مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } هو المسجد المحيط بالكعبة بعينه،وهو قول أنس. وقيل من الحجر. وقيل من بين زمزم والمقام. وقيل من شعب أبي طالب. وقيل من بيت أمهانىء. وقيل من سقف بيته عليه السلام، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون أطلق المسجد الحرام على مكة. وقال قتادة ومقاتل:قبل الهجرة بعام. وقالت عائشة بعام ونصف في رجب. وقيل في سبع عشرة من ربيع الأول والرسول عليه السلام ابنإحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً. وعن ابن شهاب بعد المبعث بسبعة أعوام. وعن الحربي ليلة سبع وعشرينمن ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة، ووقع لشريك بن أبينمر في الصحيح أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن ذلك وهم من شريك. وحكىالزمخشري عن أنس والحسن أنه كان قبل المبعث. وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الرعيني في تاريخه:أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء قبل مبعثه بثمانية عشر شهراً، ويروى أنه كان نائماًفي بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء، فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم . وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال: مالك ؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم،قال: وإن كذبوني فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله بحديث الإسراء. فقال أبو جهل:يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً، وارتد ناس ممنكان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال:إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي الصديق رضي الله تعالى عنه. ومنهم من سافر إلى المسجد الأقصى فاستنعتوه، فجلىله بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالهاوأحوالها وقال: «تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق» فخرجوا يشتدّون ذلك اليوم نحو الثنية. فقال قائل منهم:والله هذه الشمس قد شرقت. وقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت بقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لميؤمنوا وقالوا: ما هذا إلاّ سحر بين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة وكان العروج به من بيتالمقدس، وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب، وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. وهذا علىقول من قال أن هذه الليلة هي ليلة المعراج وهو قول ابن مسعود وجماعة. وذهب بعضهم إلى أن ليلة المعراجهي غير ليلة الإسراء. {وَٱلْمَسْجِدِ * ٱلاْقْصَى } مسجد بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصىبيوت الله الفاضلة من الكعبة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصدإظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة انتهى. ولفظه {إِلَىٰ } تقتضي أنه انتهى الإسراء به إلى حدّذلك المسجد ولا يدل من حيث الوضع على دخوله. {وَٱلَّذِى * بَارَكْنَا حَوْلَهُ } صفة مدح لإزالة اشتراط عارضوبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوّة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ونواحيه ونواديه، والدنياوية من كثرةالأشجار والأنهار وطيب الأرض. وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس . وقرأ الجمهور{لِنُرِيَهُ } بالنون وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وقراءة الحسن ليريه بالياء فيكون الالتفات في آياتنا وهذهرؤيا عين والآيات التي أريها هي العجائب التي أخبر بها الناس وإسراؤه من مكة وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحداًواحداً حسبما ثبت في الصحيح. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد ليرى محمداً للناس آية، أي يكون النبي صلى اللهعليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع فتكون الرؤية على هذا رؤية القلب. قال الزمخشري: {إِنَّهُهُوَ ٱلسَّمِيعُ } لأقوال محمد {ٱلبَصِيرُ } بأفعاله العالم بتهذيبها وخلوصها فيكرمه ويقربه على حسب ذلك. وقال ابن عطية: وعيدمن الله للكفار على تكذيبهم محمداً في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أيهو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم انتهى. ولما ذكر تشريف الرسول بالإسراء وإراءته الآيات ذكرتشريف موسى بايتائه التوراة {وَءاتَيْنَا } معطوف على الجملة السابقة من تنزيه الله تعالى وبراءته من السوء، ولا يلزم منعطف الجمل المشاركة في الخبر أو غيره. وقال ابن عطية: عطف قوله وآتينا على ما في قوله أسرى بعبده منتقدير الخبر كأنه قال: أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا وآتينا. وقال العكبري وآتينا معطوف على أسرى انتهى. وفيه بعد و{ٱلْكِتَـٰبِ }هنا التوراة، والظاهر عود الضمير من وجعلناه على الكتاب، ويحتمل أن يعود على موسى، ويجوز أن تكون أن تفسيرية ولانهي وأن تكون مصدرية تعليلاً أي لأن لا يتخذوا ولا نفي، ولا يجوز أن تكون أن زائدة ويكون لا تتخذوامعمولاً لقول محذوف خلافاً لمجوز ذلك إذ ليس من مواضع زيادة أن. وقرأ ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبورجاء وأبو عمرو من السبعة: يتخذوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بتاء الخطاب، والوكيل فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه.وقال الزمخشري رباً تكلون إليه أموركم. وقال ابن جرير: حفيظاً لكم سواي. وقال أبو الفرج بن الجوزي: قيل للرب وكيللكفايته وقيامه بشؤون عباده، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل انتهى. وانتصب {ذُرّيَّةِ } على النداء أييا ذرّية أو على البدل من وكيلاً، أو على المفعول الثاني ليتخذوا ووكيلاً وفي معنى الجمع أي لا يتخذوا وكلاءذرية، أو على إضمار أعني. وقرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن يكون بدلاً من الضمير في يتخذوا على قراءةمن قرأ بياء الغيبة. وقال ابن عطية: ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلتضربتك زيداً على البدل لم يجز انتهى. وما ذكره من إطلاق إنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل،وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف، وإن كان في بدل شيء منشيء وهما لعين واحدة وإن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف، نحو: مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد،فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في كلام العرب، وقد استدللنا على صحة ذلكفي شرح كتاب التسهيل، وذكر من حملنا مع نوح تنبيهاً على النعمة التي نجاهم بها من الغرق. وقرأ زيد بنثابت وأبان بن عثمان وزيد بن عليّ ومجاهد في رواية بكسر ذال ذرية. وقرأ مجاهد أيضاً بفتحها. وعن زيد بنثابت ذرية بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعليه كمطيه. والظاهر أن الضمير في أنه عائد على نوح.قال سلمان الفارسي: كان يحمد الله على طعامه. وقال إبراهيم شكره إذا أكلَّ قال: بسم الله، فإذا فرغ قال: الحمدلله. وقال قتادة: كان إذا لبس ثوباً قال: بسم الله، وإذا نزعه قال: الحمد لله. وقيل: الضمير في أنه عائدإلى موسى انتهى. ونبه على الشكر لأنه يستلزم التوحيد إذ النعم التي يجب الشكر عليها هي من عنده تعالى، فكأنهقيل كونوا موحدين شاكرين لنعم الله مقتدين بنوح الذي أنتم ذرية من حمل معه. {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ فِىٱلْكِتَـٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍفَجَاسُواْ خِلَـٰلَ ٱلدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْأَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلاْخِرَةِ * لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْمَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا }. {قَضَى } يتعدّىبنفسه إلى مفعول كقوله:

{ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلاْجَلَ }

ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدّى بإلى أي وأوحيناأو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت. وعن ابن عباس معناه أعلمناهم، وعنه أيضاً قضينا عليهم، وعنه أيضاًكتبنا. واللام في {لَتُفْسِدُنَّ } جواب قسم، فإما أن يقدر محذوفاً ويكون متعلق القضاء محذوفاً تقديره وقضينا إلى بني إسرائيلبفسادهم في الأرض وعلوهم، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة، فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف.ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدنّ جوابه، كقولهم قضاء الله لأقومنّ. وقرأ أبو العالية وابن جبير في الكتبعلى الجمع والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس، والظاهر أن يراد التوراة. وقرأ ابن عباس ونصر بن عليّوجابر بن زيد لتفسدنّ بضم التاء وفتح السين مبنياً للمفعول أي يفسدكم غيركم. فقيل من الإضلال. وقيل من الغلبة. وقرأعيسى لتفسدنّ أي فسدتم بأنفسكم بإرتكاب المعاصي مرتين أولاهما قتل زكرياء عليه السلام قاله السدّي عن أشياخه، وقاله ابن مسعودوابن عباس، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضاً ولا يسمعون من زكريا. فقال اللهله: قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدواً عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرةفدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها. وقيل: سببقتل زكريا أنهم اتهموه بمريم قيل قالوا حين حملت مريم: ضيع بنت سيدنا حتى زنت، فقطعوه بالمنشار في الشجرة. وقيلشعياء قاله ابن إسحاق وإن كان زكرياء مات موتاً ولم يقتل وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطهاهو شعياء، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة قبل يحيـى بن زكرياء وقصد قتل عيسى ابنمريم أعلم الله بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله تعالى في الرسل وفي الكتب وغيرذلك، وأنه سيرسل عليهم أمّة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى منالظهور فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهموتجليهم جلاء مبرحاً ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله، قيل وكان بين آخر الأولى والثانية مائة سنة وعشرسنين ملكاً مؤيداً ثابتاً. وقيل سبعون سنة. وقال الكلبي لتعصنّ في الأرض المقدسة ولتعلنّ أي تطغون وتعظمون. وقرأ زيدبن علي علياً كبيراً في الموضعين بكسر اللام والياء المشدّدة. وقراءة الجمهور {عَلَوْاْ } والصحيح في فعول المصدر أكثر كقوله:

{ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً }

بخلاف الجمع، فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو نهو ونهوّ خلافاً فاللفراء إذ جعلذلك قياساً {فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـٰهُمَا } أي موعد أولاهما لأن الوعد قد سبق ذلك والموعود هو العقاب. وقال الزمخشري:معناه وعد عقاب أولاهما. وقيل: الوعد بمعنى الوعيد. وقيل: بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت، والضمير في أولاهما عائد علىالمرتين. وقرأ الجمهور {عِبَادًا } وقرأ الحسن وزيد بن علي عبيداً. قال ابن غزاهم وقتادة جالوت من أهل الجزيرة.وقال ابن جبير وابن إسحاق غزاهم سنجاريب وجنوده ملك بابل. وقيل بختنصر، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرسوهو حامل يسير في مطبخ الملك، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم، فلماانصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه وخرب بيت المقدس وقتلهم أجلاهمثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك. وقيل هم العمالقة وكان كفاراً.وقيل كان المبعوثون قوماً مؤمنين بعثهم الله وأمرهم بغزو بني إسرائيل والبعث هنا الإرسال والتسليط. وقال الزمخشري: معناه خلينا بينهموبين ما فعلوه ولم نمنعهم على أن الله عز وعلا أسند بعث الكفرة إلى نفسه فهو كقوله:

{ وَكَذٰلِكَ نُوَلّى بَعْضَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

وكقول الداعي: وخالف بين كلمتهم وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم، فتخريبالمسجدة وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم انتهى. وفي قوله خلينا بينهم وبين ما فعلوا دسيسة الاعتزال. وقالابن عطية: {بَعَثْنَا } يحتمل أن يكون الله أرسل إلى ملك تلك الأمة رسولاً بأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثةبأمر، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقى في نفس الملك أي غزاهم انتهى. {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي قتالوحرب شديد لقوتهم ونجدتهم وكثرة عددهم وعُددهم. وقرأ الجمهور {فَجَاسُواْ } بالجيم. وقرأ أبو السمال وطلحة فحاسوا بالحاء المهملة. وقرىءفتجوسوا على وزن تكسروا بالجيم. وقرأ الحسن {خِلَـٰلَ ٱلدّيَارِ } واحداً ويجمع على خلل كجبل وجبال، ويجوز أن يكون خلالمفرداً كالخلل وهو وسط الديار وما بينها، والجمهور على أنه في هذه البعثة الأولى خرّب بيت المقدس ووقع القتل فيهموالجلاء والأسر. وعن ابن عباس ومجاهد: أنه حين غزوا جاس الغازون خلال الديار ولم يكن قتل ولا قتال في بنيإسرائيل، وانصرفت عنهم الجيوش. والضمير في {وَكَانَ } عائداً على وعد أولاهما. قال الزمخشري: وكان وعد العقاب وعداً لا بدأن يفعل انتهى. وقيل يعود على الجيوش {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } هذا إخبار من الله لبني إسرائيل فيالتوراة، وجعل {رَدَدْنَا } موضع نرد إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غايةالثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، والكرة الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم حتى تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوابيت المقدس قبل الكرة قبل بختنصر واستبقاء بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم، وذكر في سبب ذلك أن ملكاًغزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وأبقى بقيته عندهم ببابل فيالدل، فلما غزاهم ذلك الملك وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلىبيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا. وقيل: الكرة تقوية طالوت حتى حارب جالوتونصر داود على قتل جالوت. وقال قتادة: كانوا أكثر شراً في زمان داود عليه السلام. وانتصب {نَفِيرًا } على التمييز.فقيل: النفير والنافر واحد وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته قاله أبو مسلم. وقال الزجاج: يجوز أنيكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد، وهم المجتمعون للمصير إلى الأعداء. وقيل: النفير مصدر أي أكثر خروجاً إلى الغزوكما في قول الشاعر:

فأكرم بقحطان من والد     وحمير أكرم بقوم نفيراً

ويروى بالحميريينأكرم نفيراً، والمفضل عليه محذوف قدره الزمخشري وأكثر نفيراً مما كنتم وقدره غيره، وأكثر نفيراً من الأعداء. {إِنْ أَحْسَنتُمْ} أي أطعتم الله كان ثواب الطاعة لأنفسكم، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ } بمعصيته كان عقاب الإساءة لأنفسكم لا يتعدّى الإحسان والإساءةإلى غيركم، وجواب وإن أسأتم قوله: {فَلَهَا } على حذف مبتدأ محذوف ولها خبره تقديره فالإساءة لها. قال الكرماني: جاءفلها باللام ازدواجاً انتهى. يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله فلها. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى أي فإليها ترجع الإساءة.وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قوله:

فخر صريعاً لليدين وللقم    

{فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلاْخِرَةِ } أي المرةالآخرة في إفسادكم وعلوكم، وجواب إذا محذوف يدل عليه جواب إذا الأولى تقديره بعثناهم عليكم وإفسادهم في ذلك بقتل يحيـىبن زيد زكريا عليهما السلام. وسبب قتله فيما روي عن ابن عباس وغيره: أن ملكاً أراد أن يتزوج من لايجوز له نكاحها، فنهاه يحيـى بن زكريا وكان لتلك المرأة حاجة كل يوم عند الملك تقضيها، فألقت أمها إليها أنتسأله عن ذبح يحيـى بن زكريا بسبب ما كان منعه من تزويج ابنتها فسألته ذلك، فدافعها فألحت عليه فدعا بطستفذبحه فندرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر وألقي في نفسه أن يقتل على ذلكالدم منهم حتى يسكن، فقتل عليه منهم سبعين ألفاً. وقال السهيلي: لا يصح أن يكون المبعوث في المرة الآخرة بختنصرلأن قتل بحيـى بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمن طويل. وقيل: المبعوث عليهم الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحوثلاثمائة سنة، ولكنه إن أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعياء فكان بختنصر إذ ذاك حياً فهو الذي قتلهم وخرب بيتالمقدس وأتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها. وروي عن عبد الله بن الزبير أن الذي غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس وتولىقتلهم على دم يحيـى بن زكرياء قائد له فسكن الدم. وقيل قتله ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له لاحب. وقال الربيع بن أنس: كان يحيـى قد أعطي حسناً وجمالاً فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى، فقالت لابنتها: سليأباك رأس يحيـى فأعطاها ما سألت. وقرأ الجمهور {*ليسوؤا} بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين.وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر ليسوء بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد والفاعل المضمر عائد على الله تعالى أو علىالوعد أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة. وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي لنسوء بالنونالتي للعظمة وفيها ضمير يعود على الله. وقرأ أبيّ لنسوءن بلام الأمر والنون التي للعظمة ونون التوكيد الخفيفة آخراً. وعنعليّ أيضاً لنسوءن وليسوءن بالنون والياء ونون التوكيد الشديدة وهي لام القسم، ودخلت لام الأمر في قراءة أبيّ على المتكلمكقوله:

{ وَلْنَحْمِلْ خَطَـٰيَـٰكُمْ }

وجواب إذا هو الجملة الأمرية على تقدير الفاء. وفي مصحف أبيّ ليسيء بياء مضمومة بغيرواو. وفي مصحف أنس ليسوء وجهكم على الإفراد، والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقة لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهرعلى الوجه، ففي الفرح يظهر الإسفار والإشراق، وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة، ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه فإنهم ساؤهمبالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها أو عن ساداتهم وكبرائهم بالوجوه، ومنه قولهم في الخطاب يا وجه العرب.واللام في {وَلِيَدْخُلُواْ } لام كي معطوفاً على ما قبلها من لام كي، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسمجاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمراً، وجاز أن تكون لام كي أي وبعثناهم ليدخلوا. {وَٱلْمَسْجِدِ } مسجد بيت المقدسومعنى كما دخلوه أول مرة أي بالسيف والقهر والغلبة والإذلال، وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لميكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب، وتقدّم الكلام في أول مرة في سورة التوبة. {وَلِيُتَبّرُواْ } بهلكوا. وقال قطرب:يهدموا. قال الشاعر:

فما الناس إلاّ عاملان فعامل     يتبر ما يبني وآخر رافع

والظاهر أن {مَا} مفعولة بيتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي مدة استيلائهم عسى ربكمأن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي، وهذه الترجئة ليست لرجوع دولة وإنما هي من باب ترحمالمطيع منهم، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمداً عليهما السلام فلم يفعلوا. {وَإِنْ عُدتُّمْ } إلى المعصية مرة ثالثةعدنا إلى العقوبة وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم. وعن الحسن عادوا فبعث الله محمداً فهم يطعون الجزية عن يد وهم صاغرون. وعن قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث اللهعليهم هذا الحي من العرب فهم منه في عذاب إلى يوم القيامة انتهى. ومعنى {عُدْنَا } أي في الدنيا إلىالعقوبة. وقال تعالى:

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ }

ثم ذكر ما أعدّلهم في الآخرة وهو جعل جهنم لهم {حَصِيرًا } والحصير السجن. قال لبيد:

ومقامه غلب الرجال كأنهم     جن لدى باب الحصير قيام

وقال الحسن: يعني فراشاً، وعنه أيضاً هو مأخوذ من الحصر والذي يظهرأنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم، فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه علىمؤنث كما تقول: رحيمة وعليمة، ولكنه على معنى النسب كقوله السماء منفطر به أي ذات انفطار. {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَيِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ أَعْتَدْنَالَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ ٱلإِنْسَـٰنُ بِٱلشَّرّ دُعَاءهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ عَجُولاً * وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ ٱلَّيْلِوَجَعَلْنَا ءايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ }. لما ذكر تعالى من اختصه بالإسراءوهو محمد رسول الله ، ومن آتاه التوراة وهو موسى عليه السلام وأنها هدى لبني إسرائيل، وذكرما قضى عليهم فيها من التسليط عليهم بذنوبهم، كان ذلك رادعاً من عقل عن معاصي الله فذكر ما شرف اللهبه رسوله من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي، وأنه يهدي للطريقة أو الحالة التي هي أقوم. وقال الضحاكوالكلبي والفراء {ٱلَّتِى هِىَ * أَقْوَمُ } هي شهادة التوحيد. وقال مقاتل: للأوامر والنواهي و{أَقْوَمُ } هنا أفعل التفضيل علىقول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال، والذي يظهر من حيث المعنىأن {أَقْوَمُ } هنا لا يراد بها التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها، وفضلتهذه عليها وإنما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال:

{ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ }

{ وَفِيهَا * كُتُبٌ قَيّمَةٌ }

أي مستقيمة الطريقة، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين. وقال الزمخشري: {ٱلَّتِى هِىَ * أَقْوَمُ } للحالة التي هيأقوم الحالات وأشدّها أو للملة أو للطريقة، وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لمافي إبهام الموصوف لحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه انتهى. {وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } قيد في الإيمانالكامل إذ العمل هو كمال الإيمان، نبه على الحالة الكاملة ليتحلى بها المؤمن، والمؤمن المفرط في علمه له بإيمانه حظفي عمل الصالحات والأجر الكبير الجنة. وقال الزمخشري: فإن قلت كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت: كانالناس حينئذ إما مؤمن تقي، وإما مشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك انتهى. وهذا مكابرة بل وقعفي زمان الرسول من بعض المؤمنين هنات وسقطات بعضها مذكور في القرآن، وبعضها مذكور في الحديثالصحيح الثابت. {وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ } عطف على قوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } بشروا بفوزهم بالجنةوبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار، إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم، فهما بشارتان وفيه وعيد للكفارة. وقالالزمخشري: ويجوز أن يراد ويخبر بأن الذين لا يؤمنون انتهى. فلا بكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارة. وفي قوله: {وأَنَّٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ } دليل على أن من آمن بالآخرة لا يعدّ له عذاب أليم، وأنه ليس عمل الصالحاتشرطاً في نجاته من العذاب. وقرأ الجمهور {وَيُبَشّرُ } مشدّداً مضارع بشر المشدّد. وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثابوالأخوان {وَيُبَشّرُ } مضارع بشر المخفف ومعنى {أَعْتَدْنَا } أعددنا وهيأنا، وهذه الآية جاءت عقب ذكر أحوال اليهود، واندرجوا فيمنلا يؤمن بالآخرة لأن أكثرهم لا يقول بالثواب والعقاب الجسماني وبعضهم قال:

{ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً }

فلميؤمنوا بالآخرة حقيقة الإيمان بها. {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَـٰنُ } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: نزلت ذامّة لما يفعله الناس منالدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر، ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو علىنفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة، كقول النضر:

{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً }

الآية. وكتب {وَيَدْعُ } بغيرواو على حسب السمع والإنسان هنا ليس واحداً معيناً، والمعنى أن في طباع الإنسان أنه إذا ضجر وغضب دعا علىنفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه كما يدعو بالخير أن يصيبه، ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلةصبره. وعن سلمان الفارسي وابن عباس: أشار به إلى آدم لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر، فلما مشى الروحفي بدنه قبل ساقه أعجبته نفسه فذهب يمشي مستعجلاً فلم يقدر، أو المعنى ذو عجلة موروثة من أبيكم انتهى. وهذاالقول تنبو عنه ألفاظ الآية. وقالت فرقة: هذه الآية ذم لقريش الذين قالوا:

{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ }

الآية. وكان الأولى أن يقولوا: فاهدنا إليه وارحمنا. وقالت فرقة: هي معاتبة للناس على أنهم إذا نالهم شروضر دعوا وألحوا في الدعاء واستعجلوا الفرج، مثل الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير انتهى. والباء في{بِٱلشَّرّ } و{بِٱلْخَيْرِ } على هذا بمعنى في، والمدعوّ به ليس الشر ولا الخير، ويراد على هذا أن تكون حالتاهفي الشر والخير متساويتين في الدعاء والتضرّع لله والرغبة والذكر، ويبنو عن هذا المعنى قوله: {دُعَاءهُ } إذ هو مصدرتشبيهي يقتضي وجوده، وفي هذا القول شبه {دُعَاءهُ } في حالة الشر بدعاء مقصود كان ينبغي أن يوجد في حالةالخير. وقيل: المعنى {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَـٰنُ } في طلب المحرم كما يدعو في طلب المباح {وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ءايَتَيْنِ }لما ذكر تعالى القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ذكر ما أنعم به مما لم يكمل الانتفاع إلاّ به، ومادل على توحيده من عجائب العالم العلوي، وأيضاً لما ذكر عجلة الإنسان وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كلهذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال، فنور عقب ظلمة وبالعكس، وازدياد نور وانتقاض. والظاهر أن {وَسَخَّر لَكُمُ} مفعول أول لجعل بمعنى صير، و{ءايَتَيْنِ } ثاني المفعولين ويكونان في أنفسهما آيتين لأنهما علامتان للنظر والعبرة، وتكون الإضافةفي {وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ * وَءايَةٌ * ٱلنَّهَارَ } للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود، أي {فَمَحَوْنَا } الآية التي هي الليل،وجعلنا الآية التي هي النار مبصرة. وقيل: هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وقدّره بعضهمو: جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر، ويظهر أن {ءايَتَيْنِ }هو المفعول الأول، و{وَسَخَّر لَكُمُ } ظرفان في موضع المفعول الثاني، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين. وقال الكرماني: ليسجعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدّمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى، ولا بمعنى سمى وحكم، والآيةفيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر، وضوء النهار وظلمة الليل {فَمَحَوْنَا ءايَةَٱلَّيْلِ } إذا قلنا أن الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه، بل خلقأسود أول حاله ولا تقضي الفاء تعقيباً وهذا كما يقول بنيت داري فبدأت بالأس. وإذا قلنا أن الآيتين هما الشمسوالقمر، فقيل: محو القمر كونه لم يجعل له نوراً. وقيل: محوه طلوعه صغيراً ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر. وقيل:محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزأً ونور القمر كذلك، فمحا من نورالقمر حتى صار على جزء واحد، وجعل ما محى منه زائداً في نور الشمس، وهذا مروي عن عليّ وابن عباس.وقال ابن عيسى: جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب. قال: وهذا من البلاغةالحسنة جداً. وقال الزمخشري: {فَمَحَوْنَا ءايَةَ ٱلَّيْلِ } أي جعلنا الليل ممحواً لضوء مطموسه، مظلماً لا يستبان منه شيء كمالا يستبان ما في اللوح الممحو، وجعلنا النهار مبصراً أي يبصر فيه الأشياء وتستبان، أو {فَمَحَوْنَا ءايَةَ ٱلَّيْلِ } التيهي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر فيضوئها كل شيء انتهى. ونسب الإبصار إلى {ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } على سبيل المجاز كما تقول: ليل قائم ونائم، أي يقامفيه وينام فيه. فالمعنى يبصر فيها. وقيل: معنى {مُبْصِرَةً } مضيئة. وقيل: هو من باب أفعل، والمراد به غيرمن أسند أفعل إليه كقوله: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء، وأضعف إذا كان دوابه ضعافاً فأبصرت الآية إذا كانأصحابها بصراء. وقرأ قتادة وعليّ ابن الحسين {مُبْصِرَةً } بفتح الميم، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الأسم، وكثر مثل ذلكفي صفات الأمكنة كقولهم: أرض مسبعة ومكان مضبة، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب، وولى التعليل بالأبتغاءما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل. وجاء في قوله:

{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }

البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما.ومعنى {لّتَبْتَغُواْ } لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم {وَٱلْحِسَابَ } للشهور والأيام والساعات، ومعرفة ذلك في الشرع إنماهو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار {وَكُلَّ شىْء } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم {فَصَّلْنَاهُ} بيناه تبيينا غير ملتبس، والظاهر أن نصب {وَكُلَّ شىْء } على الاشتغال، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملةالفعلية في قوله: {وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } وأبعد من ذهب إلى أن {وَكُلَّ شىْء } معطوف على قوله: {وَٱلْحِسَابَ }والطائر. قال ابن عباس: ما قدّر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان منعادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة، وسمي ذلك كله تطيراً. وكانتتعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقي الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أنجميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه، فعبر عن الحظوالعمل إذ هما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعدطائر، ومنه ما طار في المحاصة والسهم، ومنه فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي كان ذلك حظنا.وعن ابن عباس: {*طائرة} عمله، وعن السدّي كتبه الذي يطير إليه. وعن أبي عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذيتسميه البخت. وعن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك، وخص العنق لأنه محل الزينةوالشين فإن كان خيراً زانه كما يزين الطوق والحلي، وإن كان شراً شأنه كالغل في الرقبة. وقرأ مجاهد والحسن وأبوجاء طيره. وقرىء: {طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ } بسكون النون. وقرأ الجمهور ومنهم أبن جعفر: {وَنُخْرِجُ } بنون مضارع أخرج. {كِتَـٰباً} بالنصب. وعن أبي جعفر أيضاً ويخرج بالياء مبنياً للمفعول {كِتَـٰباً } أي ويخرج الطائر كتاباً. وعنه أيضاً كتاب بالرفععلى أنه مفعول ما لم يسم فاعله. وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد: ويخرج بفتح الياء وضم الراء أي طائره كتاباًإلا الحسن فقرأ: كتاب على أنه فاعل يخرج. وقرأت فرقة: ويخرج بضم الياء وكسر الراء أي ويخرج الله. وقرأ الجمهور{يَلْقَـٰهُ } بفتح الياء وسكون اللام. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والحجدري والحسن بخلاف عنه {يَلْقَـٰهُ } بضم الياء وفتحاللام وتشديد القاف. {مَنْشُوراً } غير مطوي ليمكنه قراءته، و{يَلْقَـٰهُ } و{مَنْشُوراً } صفتان لكتاب، ويجوز أن يكون {مَنْشُوراً }حالاً من مفعول يلقاه {ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ } معمول لقول محذوف أي يقال له: {ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ }. وقال قتادة: يقرأ ذلكاليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً. وقال الزمخشري وغيره. و{*بنفسيك} فاعل {قُلْ كَفَىٰ } انتهى. وهذا مذهب الجمهور والباءزائدة على سبيل الجواز لا اللزوم، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى. قال الشاعر:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً    

وقال الآخر:

ويخبرني عن غائب المرء هديه     كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا

وقيل:فاعل {كَفَىٰ } ضمير يعود على الاكتفاء، أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك. وقيل: {كَفَىٰ } اسم فعل بمعنى اكتف،والفاعل مضمر يعود على المخاطب، وعلى هذين القولين لا تكون الباء زائدة. وإذا فرعنا على قول الجمهور أن {بِنَفْسِكَ }هو فاعل {كَفَىٰ } فكان القياس أن تدخل تاء التأنيث لتأنيث الفاعل، فكان يكون التركيب كفت بنفسك كما تلحق معزيادة من في الفاعل إذا كان مؤنثاً، كقوله تعالى:

{ مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا }

وقوله:

{ وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ }

ولا نحفظه جاء التأنيث في كفى إذا كان الفاعل مؤنثاً مجروراً بالباء، والظاهر أن المراد {بِنَفْسِكَ } ذاتكأي {كَفَىٰ } بك. وقال مقاتل: يريد بنفسه جوارحه تشهد عليه إذا أنكر. وقال أبو عبيدة أي ما أشد كفايةما علمت بما علمت. {وَٱلْيَوْمِ } منصوب بكفى و{عَلَيْكَ } متعلق بحسيباً. ومعنى {حَسِيباً } حاكماً عليك بعملك قاله الحسن.قال: يا ابن آدم لقد أنصفك الله وجعلك حسيب نفسك. وقال الكلبي: محاسباً يعني فعيلاً بمعنى مفاعل كجليس وخليط. وقيل:حاسباً كضريب القداح أي ضاربها، وصريم بمعنى صارم يعني أنه بناء مبالغة كرحيم وحفيظ، وذكر {حَسِيباً } لأنه بمنزلة الشهيدوالقاضي والأمير، لأن الغالب أن هذه الأمور يتولاها الرجل، وكأنه قيل: كفى بنفسك رجلاً حسيباً. وقال الأنباري: وإنما قال {حَسِيباً} والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبهت بالسماء والأرض قال تعالى:

{ السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ }

. وقال الشاعر:

ولا أرض أبقل ابقالها    

{مَّنِ ٱهْتَدَىٰ } الآية قالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدىإلى أبي سلمة بن عبد الأسود، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في الوليد هذا قال: يا أهلمكة اكفروا بمحمد وإثمكم عليّ، وتقدم تفسير {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } في آخر الأنعام {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰنَبْعَثَ رَسُولاً * غَيّاً } انتفاء التعذيب ببعثة الرسول عليه السلام، والمعنى حتى يبعث رسولاً فيكذب ولا يؤمن بما جاءبه من عند الله، وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنارفهو يشملهما، ويدل على الشمول قوله في الهلاك في الدنيا بعد هذه الآية {وَإِذَا أَرَدْنَا } وفي الآخرة {فَحَقَّ عَلَيْهَاٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } وآي كثيرة نص فيها على الهلاك في الدنيا بأنواع من العذاب حين كذبت الرسل. وقوله فيعذاب الآخرة كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ وقالوا: بلى قد جاءنا نذير، وكلما تدل على عمومأزمان الإلقاء فتعم الملقين. وقوله:

{ وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فيها نَّذِيرٍ }

وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكمالدنيا، أي أن الله لا يهلك أمّة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار. قال الزمخشري: فإن قلت الحجةلازمة لهم قبل بعثة الرسول لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهمالعذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ركونهم لذلك الإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلابعد الإيمان. قلت: بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولواكنا غافلين، فلو لا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا علي النظر في أدلة العقل انتهى. وقال مقاتل: المعنى وما كنا مستأصلينفي الدنيا لما اقتضته الحكمة الإلهية حتى يبعث رسولاً إقامة للحجة عليهم وقطعاً للعذر عنهم، كما فعلنا بعاد وثمود والمؤتفكاتوغيرها. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا * مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا *تَشَاء * لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـٰهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ ٱلاْخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌفَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا * ٱنظُرْ كَيْفَفَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً * لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً }.لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً بين بعد ذلك علة إهلاكهم وهي مخالفة أمرالرسول والتمادي على الفساد. وقال الزمخشري: {وَإِذَا أَرَدْنَا } وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمانإهلاكهم إلاّ قليل انتهى. فتؤول {أَرَدْنَا } على معنى دنا وقت إهلاكهم وذلك على مذهب الاعتزال. وقرأ الجمهور أمرنا، وفيهذه القراءة قولان: أحدهما: وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي، واختلف في متعلقة فذهب الأكثرون منهمابن عباس وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا. وذهب الزمخشري إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا وردعلى من قال أمرناهم بالطاعة فقال: أي أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقواوهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات،فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهمأصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول، وهيكلمة العذاب فدمرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غيرجائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه. وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلاممستفيض. يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدر غيرهفقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمرمناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به،فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمرهمأموراً به وكأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهيغير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلاًعلى أن المراد أمرناهم بالخير {فَفَسَقُواْ }؟ قلت: لا يصح ذلك لأن قوله {فَفَسَقُواْ } يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنتتدّعي إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه. ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالةما بعده عليه تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلوذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهلالإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى. أما ماارتكبه من المجاز وهو أن {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } صببنا عليهم النعمة صباً فيبعد جداً. وأما قوله وأقدرهم على الخير والشرإلى آخره فمذهب الاعتزال، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله، بلثم ما يدلر على حذفه. وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب، فنقول: حذف الشيءتارة يكون لدلالة موافقه عليه، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ، وتارة يكون لدلالة خلافه أوضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى:

{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }

قالوا: تقديره ما سكن وما تحرك.وقوله تعالى

{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ }

قالوا: الحر والبرد. وقول الشاعر:

وما أدري إذا يممت أرضا     أريد الخير أيهما يليني أالخير الذي أنا أبتغيه

تقديره: أريدالخير وأجتنب الشر، وتقول: أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن،وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير، وكذلكأمرته فأساء إليّ ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إليّ، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إليّ. وقوله ولا يلزم هذاقولهم أمرته فعصاني. نقول: بل يلزم، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن العصيان مناف وهو كلام صحيح. وقوله: فكان المأموربه غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقضكما بينا. وأما قوله: لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به هذا أيضاً لا يسلم. وقولهفي جواب السؤال لأن قوله {فَفَسَقُواْ } يدافعه، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه. قلنا: نعم يدعي إضمار خلافهودل على ذلك نقيضه. وقوله: ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف. قلت: ليس نظيره لأن مفعول أمرلم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفاً مفعوله لدلالة ما بعده عليه،وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه. قال تعالى:

{ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء }

{ أَمْرٍ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ * إِيَّـٰهُ }

{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـٰمُهُمْ بِهَـٰذَا }

{ قُلْ أَمَرَ رَبّي بِٱلْقِسْطِ }

{ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا }

أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة. وقال الشاعر:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به    

وقال أبو عبد الله الرازي:ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عنالإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، أن كونه معصية ينافي كونها مأموهاً بها، فوجب أن يدلهذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق. هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف علىقوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفواذلك عناداً وأقدموا على الفسق انتهى. القول الثاني: أن معنى {أَمْرُنَا } كثرنا أي كثرنا {مُتْرَفِيهَا } يقال: أمرالله القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد. وقال الواحدي: العرب تقول: أمر القوم إذا كثروا وأمرهم اللهإذا كثرهم انتهى. وقال أبو علي الفارسي: الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا، واستدل أبو عبيدة على صحة هذهاللغة بما جاء في الحديث: خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثيرة النسل، يقال: أمر الله المهرة أي كثرولدها، ومن أنكر أمر الله القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّيبالحركة المختلفة، إذ يقال: أمر القوم كثروا وأمرهم الله كثرهم، وهو من باب المطاوعة أمرهم الله فأمروا كقولك شتر اللهعينه فشترت، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت. وقرأ الحسن ويحيـى بن يعمر وعكرمة. {أَمْرُنَا } بكسر الميم، وحكاها النحاسوصاحب اللوامح عن ابن عباس، وردّ الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا.حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال: أمر الله ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها. وقرأ عليّ ابن أبيطالب، وابن أبي إسحاق، وأبو رجاء، وعيسى بن عمر، وسلام، وعبد الله بن أبي يزيد، والكلبي: آمرنا بالمد وجاء كذلكعن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي العالية، وابن هرمر، وعاصم، وابن كثير، وأبي عمرو، ونافع، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا.يقال أمر الله القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة. وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدّي وزيد بن عليّ وأبو العالية: {أَمْرُنَا} بتشديد الميم وروي ذلك عن عليّ والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف، والمعنى أيضاً كثرنا وقد يكون{أَمْرُنَا } بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميراً أي ولي الأمر. وقال أبوعليّ الفارسي: لا وجه لكون {أَمْرُنَا } من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلاّ لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكونفي مدة واحد منهم، وما قاله أبو عليّ لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممنيأمر ويؤتمر به، والعرب تسمي أميراً من يؤتمر به وإن لم يكن ملكاً. ولئن سلمنا أنه أريد به الملك فلايلزم ما قاله لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ثم آخر ففسق ثم كذلك كثر الفساد وتوالي الكفرونزل بهم على الآخر من ملوكهم، ورأيت في النوم أني قرأت وقرىء بحضرتي {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الآية بتشديد الميم. فأقول في النوم: ما أفصح هذه القراءة، والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قالهرسولهم. وقيل: {ٱلْقَوْلِ } لأملان وهؤلاء في النار ولا أبالي. والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء. {وَكَمْ }في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيراً من القرون {أَهْلَكْنَا * وَمِنْ *ٱلْقُرُونِ } بيان لكم وتمييز له كمايميز العدد بالجنس، والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب، وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال: {مِنبَعْدِ نُوحٍ } ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه، وقومه أول من حلتبهم العقوبة بالعظمى وهي الاستئصال بالطوفان. وتقدّم القول في عمر القرن و{مِنْ } الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بأهلكنالاختلاف معنييهما. وقال الحوفي: {مِن بَعْدِ نُوحٍ } من الثانية بدل من الأولى انتهى. وهذا ليس بجيد. وقال ابن عطية:هذه الباء يعني في {وَكَفَىٰ بِرَبّكَ } إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم انتهى. و{بِذُنُوبِ عِبَادِهِ } تنبيهعلى أن الذنوب هي أسباب الهلكة، و{خَبِيرَا بَصِيرًا } لتنبيه على أنه عالم بها فيعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيراً أوببصيراً. وقال الحوفي: تتعلق بكفى انتهى. وهذا وهم و{ٱلْعَاجِلَةَ } هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة، ولا بد منتقدير حذف دل عليه المقابل في قوله: {مَنْ أَرَادَ * ٱلاْخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فالتقدير: من كانيريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر. وقيل: المراد {مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ } بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنياوالمجاهد للغنيمة والذكر كما قال عليه السلام: ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه . وقال عليه الصلاة والسلام: من طلب الدنيا بعمل الآخرة فماله في الآخرة من نصيب . وقيل: نزلت في المنافقينوكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب، و{مِنْ } شرط وجوابه {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا تَشَاء } فقيد المعجل بمشيئتهأي ما يشاء تعجيله. و{لِمَن نُّرِيدُ } بدل من قوله: {لَهُ } بدل بعض من كل لأن الضمير في {لَهُ} عائد على من الشرطية، وهي في معنى الجمع، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى، فقيد المعجلبإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده، ألا ترى أن كثيراً من الناس يختارون الدنيا ولا يحصل لهممنها إلاّ ما قسمه الله لهم، وكثيراً منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة.وقرأ الجمهور {مَا نَشَاء } بالنون وروي عن نافع ما يشاء بالياء. فقيل الضمير في يشاء يعود على الله، وهومن باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء. وقيل يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في {لَهُ } وليسذلك عاماً بل لا يكون له ما يشاء إلاّ آحاد أراد الله لهم ذلك، والظاهر أن الضمير في {لِمَن نُّرِيدُ} يقدر مع تقديره مضاف محذوف يدل عليه ما قبله، أي لمن نريد تعجيله له أي تعجيل ما نشاء. وقالأبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية. و{جلعنا} بمعنى صيرنا، والمفعولالأول {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ }والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر، فنقول: جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و{يَصْلَـٰهَا} حال من جهنم. وقال أبو البقاء: أو من الضمير الذي في {لَهُ }. وقال صاحب الغنيان: مفعول {جَعَلْنَا }الثاني محذوف تقديره مصيراً أو جزاءً انتهى. {مَذْمُومًا } إشارة إلى الإهانة. {مَّدْحُورًا } إشارة إلى البعد والطرد من رحمةالله {وَمَنْ أَرَادَ ٱلاْخِرَةَ } أي ثواب الآخرة بأن يؤثرها على الدنيا، ويعقد إرادته بها {وَسَعَىٰ } فيما كلف منالأعمال والأقوال {سَعْيَهَا } أي السعي المعد للنجاة فيها. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ } هو الشرط الأعظم في النجاة فلا تنفع إرادةولا سعي إلا بحصوله. وفي الحقيقة هو الناشىء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن بعض المتقدّمين منلم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية {فَأُوْلَـئِكَ } إشارة إلىمن اتصف بهذه الأوصاف وراعى معنى من فلذلك كان بلفظ الجمع، والله تعالى يشكرهم على طاعتهم وهو تعالى المشكور علىما أعطى من العقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل، وهو المستحق للشكر حقيقة ومعنى شكرة تعالى المطيع الإثناء عليه وثوابه علىطاعته. وانتصب {كَلاَّ } بنمد والإمداد المواصلة بالشي، والمعنى كل واحد من الفريقين {نُّمِدُّ } كذا قدره الزمخشري: وأعربوا {هَـؤُلاء} بدلاً من{كَلاَّ } ولا يصح أن يكون بدلاً من كل على تقدير كل واحد لأنه يكون إذ ذاك بدلكل من بعض، فينبغي أن يكون التقدير كل الفريقين فيكون بدل كل من كل على جهة التفصيل. والظاهر أن هذاالإمداد هو في الرزق في الدنيا وهو تأويل الحسن وقتادة، أي أن الله يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين، ومريديالآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق، وإنما يقع التفاوت في الآخرة ويدل على هذا التأويل {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا }أي إن رزقه لا يضيق عن مؤمن ولا كافر. وعن ابن عباس أن معنى {مِنْ عَطَاء رَبّكَ } منالطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة، فيكون العطاء عبارة عما قسم الله للعبد من خير أو شر، وينبوا لفظ العطاءعلى الإمداد بالمعاصي. والظاهر أن {أَنظُرْ } بصريه لأن التفاوت في الدنيا مشاهد {وَكَيْفَ } في موضع نصب بعد حذفحرف الجر، لأن نظر يتعدى به، فانظر هنا معلقة. ولما كان النظر مفضياً وسبباً إلى العلم جاز أن يعلق، ويجوزأن يكون {أَنظُرْ } من نظر الفكر فلا كلام في تعليقه إذ هو فعل قلبي. والتفضيل هنا عبارة عن الطاعاتالمؤدّية إلى الجنة، والمفضل عليهم الكفار كأنه قيل: انظر في تفضيل فريق على فريق، وعلى التأويل الأول كأنه قيل فيتفضيل شخص على شخص من المؤمنين والكافرين، والمفضول في قوله: {أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } محذوف تقديره من درجات الدنياومن تفضيل الدنيا. وروي أن قوماً من الأشراف ومن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلالوصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمر: وإنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا، ـ يعني إلى الإسلامـ فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم فيالجنة أكثر. وقرىء أكثر بالثاء المثلثة. وقال ابن عطية: وقوله: {أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ } ليس في اللفظ من أي شيء لكنهفي المعنى، ولا بد {أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ } من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض، ورأى بعض العلماء أن هذه الدرجاتوالتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين. وأسند الطبري في ذلك حديثاً أن أنزل أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحداً . والخطاب في {لاَّ تَجْعَل } للسامع غير الرسول. وقالالطبري وغيره: الخطاب لمحمد ، والمراد لجميع الخلق. {فَتَقْعُدَ } قال الزمخشري: من قولهم شحذ الشفرة حتىقعدت كأنها حربة، بمعنى صارت. يعني فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من الذل والخذلان والعجز عنالنصرة ممن جعلته شريكاً له انتهى. وما ذهب إليه من استعمال {فَتَقْعُدَ } بمعنى فتصير لا يجوز عند أصحابنا، وقعدعندهم بمعنى صار مقصورة على المثل، وذهب الفراء إلى أنه يطرد جعل قعد بمعنى صار، وجعل من ذلك قول الراجز:

لا يقنع الجارية الخضاب     ولا الوشاحان ولا الجلباب من دون أن تلتقي الأركاب

وحكى الكسائي: قعد لا يسأل حاجة إلاّ قضاها بمعنى صار، فالزمخشري أخذفي الآية بقول الفراء، والقعود هنا عبارة عن المكث أي فيمكث في الناس {مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } كما تقول لمن سألعن حال شخص هو قاعد في أسوأ حال، ومعناه ماكث ومقيم، وسواء كان قائماً أم جالساً، وقد يراد القعود حقيقةلأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً، وعبر بغالب حاله وهي القعود. وقيل: معنى {فَتَقْعُدَ } فتعجز، والعربتقول: ما أقعدك عن المكارم والذمّ هنا لا حق من الله تعالى، ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعلعوداً أو حجراً أفضل من نفسه ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، والخذلانفي هذا يكون بإسلام الله ولا يكفل له بنصر، والمخذول الذي لا ينصره من يجب أن ينصره. وانتصب {مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} على الحال، وعند الفراء والزمخشري على أنه خبر لتقعد كلا لمذكرين مثنى معنى اتفاقاً مفرداً لفظاً عند البصريين علىوزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر، مثنى لفظاً عند الكوفيين، وتبعهم السهيلي فألفه للتثنية لا أصلولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم، ولاتنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقاً في مشهور اللغات، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر،فالمشهور قلب ألفه ياء نصباً وجراً، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه. وجاء التفريق في الشعر مضافاً فالظاهروحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاماً ويستعمل تابعاً توكيداً ومبتدأ ومنصوباً ومجروراً، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحاً، وربما وجب، وإخبار المثنىقليلاً وربما وجب.

{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } * { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } * { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } * { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } * { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } * { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } * { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } * { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } * { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } * { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } * { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } * { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } * { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } * { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } * { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } * { كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } * { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } * { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } * { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } * { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } * { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } * { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } * { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } * { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } * { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } * { ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } * { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } * { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } * { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } * { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } * { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } * { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } * { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } * { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } * { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } * { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } * { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } * { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } * { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } * { قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } * { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } * { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً } * { رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِي ٱلْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } * { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً } * { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } * { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً }[عدل]

{أُفّ } اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّقليلاً نحو: أف وأوه بمعنى أتوجع، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني. وذكر الزناتي في كتابالحلل له: إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي: أف أفِ أفُ أفَّ أفِّ أفُّأفا أفّ أفا أفٍ أفٌ أف أفء أفيّ بغير إمالة أفيّ بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفيْ أفوْ أفّهأفّهْ أفّه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إفْ أفّ إف إفٍ إفَ إفا إفٌّ إفُّ إفا إفيِّ بالإمالة إفيْفهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أفْ أفّ آفّ آفَ أفيّ. وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين.النهر الزجر بصياح وإغلاظ. قال العسكريّ: وأصله الظهور، ومنه النهر والانتهار، وأنهر الدم أظهره وأسأله، وانتهر الرجل أظهر له الإهانةبقبح الزجر والطرد. وقال ابن عطية: الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ. وقال الزمخشري: النهي والنهر والنهم أخوات. التبذير الإسرافقاله أبو عبيدة يعني في النفقة، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذراً لأنه يفرق في المزرعة. وقال الشاعر:

ترائب يستضيء الحلي فيها     كجمر النار بذر بالظلام

ويروى بدد أي فرق. المحسور قال الفراء: تقول العرب بعيرمحسور إذا انقطع سيره، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى. قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها     فبيض وأما جلدها فصليب

القسطاس بضم القاف وكسرها وبالسين الأولى والصاد. قالمؤرج السدوسي: هي الميزان بلغة الروم وتأتي أقوال المفسرين فيه. المرح شدّة الفرح، يقال: مرح يمرح مرحاً. الطول ضد القصر،ومنه الطول خلاف العرض. الحجاب ما ستر الشيء عن الوصول إليه. الرفات قال الفراء: التراب. وقيل: الذي بولغ في دقهحتى تفتت، ويقال: رفت الشيء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء مكسر، وفعال بناء لهذا المعنى كالحطاموالفتات والرضاض والدقاق. {وَقَضَىٰ رَبُّكَ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ *إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْكِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً }. قرأ الجمهور {وَقُضِىَ } فعلاً ماضياً من القضاء.وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل: وقضاء ربك مصدر {قَضَى } مرفوعاً على الابتداء و{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } الخبر. وفيمصحف ابن مسعود وأصحابه وابن عباس وابن جبير والنخعي وميمون بن مهران من التوصية. وقرأ بعضهم: وأوصى من الإيصاء، وينبغيأن يحمل ذلك التفسير لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف والمتواتر هو {وَقُضِىَ } وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباسوغيرهم في أسانيد القراء السبعة. {وَقُضِىَ } هنا قال ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه: بمعنىوصى. وقيل: أوجب وألزم وحكم. وقيل: بمعنى أحكم. وقال ابن عطية: وأقول أن المعنى {وَقَضَىٰ رَبُّكَ } أمره {أَن لاَّتَعْبُدُواْ إِلاَّ * إِيَّـٰهُ } وليس في هذه الألفاظ إلاّ أمر بالاقتصار على عبادة الله، فذلك هو المقضي لا نفسالعبادة، والمقضي هنا هو الأمر انتهى. كأنه رام أن يترك قضى على مشهور موضوعها بمعنى قدر، فجعل متعلقه الأمر بالعبادةلا العبادة لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئاً بمعنى أن يقدر إلاّ ويقع، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق قضىهو {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } وسواء كانت {ءانٍ } تفسيرية أم مصدرية. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون في موضعنصب أي ألزم ربك عبادته و{لا } زائدة انتهى. وهذا وهم لدخول {إِلا } على مفعول {تَعْبُدُواْ } فلزم أنيكون منفياً أو منهياً والخطاب بقوله {لاَّ تَعْبُدُواْ } عامّ للخلق. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون {قَضَى } علىمشهورها في الكلام ويكون الضمير في {تَعْبُدُواْ } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة انتهى. قال الحوفي: الباء متعلقةبقضى، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } و{إِحْسَـٰناً } مصدر أي تحسنوا إحساناً. وقال ابنعطية: قوله {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } عطف على أن الأولى أي أمر الله {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ * إِيَّـٰهُ } وأنتحسنوا {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله: {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاءالله، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. وقال الزمخشري: لا يجوز أن تتعلق الباء في {*بالوالدين} بالإحسان لأن المصدر لا تتقدمعليه صلته. وقال الواحدي في البسيط: الباء في قوله {*بالوالدين} من صلة الإحسان، وقدمت عليه كما تقول: بزيد فامرر، انتهى.وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء قال تعالى:

{ وَقَدْ أَحْسَنَ بَى }

وقال الشاعر:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة    

وكأنه تضمن أحسن معنى لطف، فعدّي بالباء و{إِحْسَـٰناً } إن كان مصدراً ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به،وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلاً من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيداً، فيجوز تقديم معموله عليه، والذي نختاره أن تكون{ءانٍ } حرف تفسير و{لاَّ تَعْبُدُواْ } نهي و{إِحْسَـٰناً } مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كماعطف في:

يقولون لا تهلك أسى وتجمل    

وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله: {لاَّ تَعْبُدُواْ } وتقديمهمااعتناء بهما على قوله: {إِحْسَـٰناً } ومناسبة اقتران برّ الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث أنه تعالى و الموجد حقيقة،والوالدان وساطة في إنشائه، وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه، وهما ساعيان في مصالحه. وقال الزمخشري: {أَمَّا } هي الشرطية زيدتعليها ما توكيداً لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمنّ زيداًيكرمك، ولكن إما تكرمنه انتهى. وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونونالتوكيد، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد. وقال سيبويه في هذه المسألة: وإنشئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها، وعندك ظرف معمول ليبلغن، ومعنىالعندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما، ولكونهما كلاً عليه وأحدهما فاعل{يَبْلُغَنَّ } و{أَوْ كِلاَهُمَا } معطوف على {أَحَدُهُمَا }. وقرأ الجمهور {يَبْلُغَنَّ } بنون التوكيد الشديدة والفعل مسند إلى{أَحَدُهُمَا }. وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة. وقرأ الأخوان: إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشدّدة وهي قراءة السلميوابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري. فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، وأحدهما فاعل و{أَوْ كِلاَهُمَا }عطف عليه، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرفبالعطف بالواو، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز، والصحيحجوازه و{أَحَدُهُمَا } ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد. وقيل: الألف ضمير الوالدين و{أَحَدُهُمَا } بدل منالضمير و{كِلاَهُمَا } عطف على {أَحَدُهُمَا } والمعطوف على البدل بدل. وقال الزمخشري. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان {كِلاَهُمَا} كان {كِلاَهُمَا } توكيداً لا بدلاً، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكونتوكيداً فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاًوعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل {كِلاَهُمَا } فحسب فلما قيل {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } علمأن التوكيد غير مراد فكان بدلاً مثل الأول. وقال ابن عطية: وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغانّ يكون قوله {أَحَدُهُمَا} بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر:

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة     وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

انتهى. ويلزم من قوله أن يكون {كِلاَهُمَا } معطوفاً على {أَحَدُهُمَا } وهو بدل، والمعطوفعلى البدل بدل، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلاً، وإذا جعلت {أَحَدُهُمَا } بدلاً من الضميرفلا يكون إلاّ بدل بعض من كل، وإذا عطفت عليه {كِلاَهُمَا } فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل،لأن {كِلاَهُمَا } مرادف للضمير من حيث التثنية، فلا يكون بدل بعض من كل، ولا جائز أن يكون بدل كلمن كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من {كِلاَهُمَا } فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه. وأماقول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر:وكنت كذي رجلين. البيت. فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطفبالواو، وأيضاً فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه، و{كِلاَهُمَا } يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه، فليسمن المقسم. ونقل عن أبي علي أن {كِلاَهُمَا } توكيد وهذا لا يتم إلاّ بأن يعرب {أَحَدُهُمَا } بدل بعضمن كل، ويضمر بعده فعل رافع الضمير، ويكون {كِلاَهُمَا } توكيداً لذلك الضمير، والتقدير أو يبلغا {كِلاَهُمَا } وفيه حذفالمؤكد. وقد أجازه سيبويه والخليل قال: مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما، والنصف علىتقدير أعينهما أنفسهما، إلاّ أن المنقول عن أبي علي وابن جنيّ والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكدمقامه، والذي نختاره أن يكون {أَحَدُهُمَا } بدلاً من الضمير و{كِلاَهُمَا } مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ {كِلاَهُمَا }فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ {كِلاَهُمَا } {عِندَكَ ٱلْكِبَرَ}. وجواب الشرط {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ } وتقدم مدلول لفظ أف في المفردات واللغات التي فيها، وإذا كان قدنهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشدّ كالشتم والضرب هو بجهة الأولى، وليستدلالة أف على أنواع الإيذاء دلالة لفظية خلافاً لمن ذهب إلى ذلك. وقال ابن عباس: {أُفّ } كلمة كراهةبالغ تعالى في الوصية بالوالدين، واستعمال وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال حتى لا نقول لهما عند الضجر هذه الكلمة فضلاًعما يزيد عليها. قال القرطبي: قال علماؤنا: وإنما صار قول {أُفّ } للوالدين أردأ شيء لأن رفضهما رفض كفر النعمة،وجحد التربية، وردّ وصية الله. و{أُفّ } كلمة منقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم عليه السلام:

{ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ }

أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم انتهى. وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى ونافعوحفص {أُفّ } بالكسر والتشديد مع التنوين. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر كذلك بغير تنوين. وقرأ ابن كثيروابن عامر بفتحها مشدّدة من غير تنوين. وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين. وقرأ أبو السمال {أُفّ } بضم الفاء منغير تنوين. وقرأ زيد بن عليّ أفاً بالنصب والتشديد والتنوين. وقرأ ابن عباس {أُفّ } خفيفة فهذه سبع قراءات مناللغات التي حكيت في {أُفّ }. وقال مجاهد: إن معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخوخة الغائط والبول اللذينرأيا منك في حال الصغر فلا تقذرهما وتقول {أُفّ } انتهى. والآية أعم من ذلك. ولما نهاه تعالى أن يقوللهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من {أُفّ } وهو نهرهما، وإنكان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول {أُفّ } لأنه إذا نهي عن الأدنى كان ذلك نهياً عنالأعلى بجهة الأولى، والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك {وَقُل لَّهُمَا } بدل قول أف ونهرهما {قَوْلاً كَرِيمًا} أي جامعاً للمحاسن من البر وجودة اللفظ. قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد اللفظ. وقيل: {قَوْلاً كَرِيمًا }أي جميلاً كما يقتضيه حسن الأدب. وقال عمر: أن تقول يا أبتاه يا أمّاه انتهى. كما خاطب إبراهيم لأبيه ياأبت مع كفره، ولا تدعوهما بأسمائهما لأنه من الجفاء وسوء الأدب ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشةنحلني أبو بكر كذا. ولما نهاه تعالى عن القول المؤذي وكان لا يستلزم ذلك الأمر بالقول الطيب أمره تعالى بأنيقول لهما القول الطيب السار الحسن، وأن يكون قوله دالاً على التعظيم لهما والتبجيل. وقال عطاء: تتكلم معهما بشرطأن لا ترفع إليهما بصرك ولا تشد إليهما نظرك لأن ذلك بنا في القول الكريم. وقال الزجاج قولاً سهلاً سلساًلا شراسة فيه، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله: {وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ }. وقال القفالفي تقريره وجهان. أحدهما: أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبيروكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. الثاني: أن الطائر إذا أرادالطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع منهذا الوجه. وقال ابن عطية: استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذل هنا ولميذكر في قوله:

{ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

وذلك بسبب عظم الحق انتهى. وبسبب شرف المأمور فإنه لايناسب نسبة الذل إليه. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {جَنَاحَ ٱلذُّلّ }؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكونالمعنى واخفض لهما جناحك كما قال:

{ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }

فأضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجودعلى معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن يجعل لذله أو لذله جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشماليداً، وللقرة زماناً مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى. والمعنى أنه جعل اللين ذلاً واستعار له جناحاً ثم رشح هذاالمجاز بأن أمر بخفضه. وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله:

لا تسقني ماء الملام فإنني     صب قد استعذبت ماء بكائياً

جاءه رجل بقصعة وقال له اعطني شيئاً من ماء الملام، فقال له: حتى تأتيني بريشةمن جناح الذل. وجناحاً الإنسان جانباه، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما. وقال بعض المتأخرين فأحسن:

أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى     فلم أستطع من أرضهم طيرانا

وقرأ الجمهور {مَّنَ ٱلذُّلّ } بضم الذال.وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل فيالدواب في ضد الصعوبة، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لكعلى خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقراً إليهما حالة الصغر. قال أبوالبقاء: {مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } أي من أجل الرحمة، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة ب(اخفض)، ويجوز أن يكون حالاًمن جناح. وقال ابن عطية: من الرحمة هنا لبيان الجنس أي أن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكمنة في النفسلا بأن يكون ذلك استعمالاً، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى. ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهمارحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها. ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهماوهي تربيتهما له صغيراً، وتلك الحالة مما تزيده اشفاقاً ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لايقدر على الإحسان لنفسه. وقال قتادة: نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني {وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا } بقوله تعالى:

{ مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ }

وقيل: هي مخصوصة في حق المشركين. وقيل لا نسخ ولا تخصيصلأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان، والظاهر أن الكاف في{كَمَا } للتعليل أي {رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا } لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار. وقال الحوفي: الكاف فيموضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل تربيتي صغيراً. وقال أبو البقاء: {كَمَا } نعت لمصدر محذوف أيرحمة مثل رحمتهما. وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثاراً كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم. ولما نهى تعالى عنعبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقدضمير على ذلك رياء وسمعة، أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة الله والبر بالوالدين.ثم قال: {إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ } أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخيرفإنه غفور لما فرط من هناتكم. والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج فيهمن جنى على أبويه ثم تاب من جنايته. وقال ابن جبير: هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لايريد بذلك إلاّ الخير. {وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَٱلشَّيَـٰطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِرَبّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَتَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء *إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا }. لما أمر تعالى ببر الوالدين أمر بصلة القرابة. قال الحسن: نزلت في قرابةالرسول ، والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ } وألحق هنا ما يتعينله من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه. قال نحوه ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهما.وقال عليّ بن الحسين فيها: هم قرابة الرسول عليه السلام، أمر بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، والظاهر أن الحق هنامجمل وأن {ذَا ٱلْقُرْبَىٰ } عام في ذي القرابة فيرجع في تعيين الحق وفي تخصيص ذي القرابة إلى السنة. وعنأبي حنيفة: إن القرابة إذا كانوا محارم فقراء عاجزين عن التكسب وهو موسر حقهم أن ينفق عليهم. وعند الشافعي: ينفقعلى الولد والوالدين فحسب على ما تقرر في كتب الفقه. ونهى تعالى عن التبذير وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليهاوتبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها، فنهي الله تعالى عن النفقة في غير وجوه البر وما يقربمنه تعالى. وعن ابن مسعود وابن عباس: التبذير إنفاق المال في غير حق. وقال مجاهد: لو أنفق ماله كله فيحق ما كان مبذراً. وذكر الماوردي أنه الإسراف المتلف للمال، وقد احتج بهذه الآية على الحجر على المبذر، فيجب علىالإمام منعه منه بالحجر والحيلولة بينه وبين ماله إلاّ بمقدار نفقة مثله، وأبو حنيفة لا يرى الحجر للتبذير وإن كانمنهياً عنه. وقال القرطبي: يحجر عليه إن بذله في الشهوات وخيف عليه النفاد، فإن أنفق وحفظ الأصل فليس بمبذرواخوة الشياطين كونهم قرناءهم في الدنيا وفي النار في الآخرة، وتدل هذه الأخوة على أن التبذير هو في معصية اللهأو كونهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف في الدنيا. وقرأ الحسن والضحاك إخوان الشيطان على الإفراد وكذا ثبت فيمصحف أنس، وذكر كفر الشيطان لربه ليحذر ولا يطاع لأنه لا يدعو إلى خيركما قال إنما يدعو حزبه ليكونوا منأصحاب السعير. {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ }. قيل: نزلت في ناس من مزينة استحملوا الرسول فقال: لا أجد ما أحملكم عليه . فبكوا.وقيل في بلال وصهيب وسالم وخباب: سألوه ما لا يجد فأعرض عنهم. وروي أنه عليه السلام كان بعد نزول هذهالآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله فالرحمة على هذا الرزق المنتظر وهوقول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وقال ابن زيد: الرحمة الأجر والثواب وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم وعنه فيالأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم، فأمره الله تعالى أن يقول لهم: {قَوْلاً مَّيْسُورًا } يتضمن الدعاء في الفتحلهم والإصلاح انتهى من كلام ابن عطية. وقال الزمخشري: وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء منالرد {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } ولا تتركهم غير مجابين إذا سألوك، وكان رسول الله إذاسئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء، ويجوز أن يكون معنى {وَأَمَّا * أَغْنَتْ عَنْهُمْ } وإن لمتنفعهم وترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك لأن من أبى أن يعطي أعرض بوجههانتهى. والذي يظهر أنه تعالى لما أمر بإيتاء ذي القربى حقه ومن ذكر معه ونهاه عن التبذير، قال: وإن لميكن منك إعراض عنهم فالضمير عائد عليهم، وعلل الإعراض بطلب الرحمة وهي كناية عن الرزق والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عنفقدان ما يجود به ويؤتيه من سأله، وكأن المعنى وإن تعرض عنهم لإعسارك فوضع المسبب وهو ابتغاء الرحمة موضع السببوهو الإعسار. وأجاز الزمخشري أن يكون {ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ } علة لجواب الشرط فهو يتعلق به، وقدم عليه أيفقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك، أي ابتغ رحمة اللهالتي ترجوها برحمتك عليهم انتهى. وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوزفي قولك أن يقم فاضرب خالداً أن تقول: إن يقم خالداً فاضرب، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثلإن يقم يضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز، فتقول: إن يقم خالداً نضرب، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعلمرفوعاً نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بيفعل، هذا وأجاز سيبويه أن يكونمرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك قلت: إن تفعل يفعل زيد يفعل، ومنع ذلك الكسائي والفراء. وقال ابن جبير: الضمير في{عَنْهُمْ } عائد على المشركين، والمعنى {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } لتكذيبهم إياك ابتغاء رحمة أي نصر لك عليهم أو هدايةمن الله لهم، وعلى هذا القول الميسور المداراة لهم باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي ويسر يكون لازماً ومتعدّياً فميسور منالمتعدّي تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قال الزمخشري: يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد ونحس فهو مفعول انتهى. ولمعنىهذه الآية أشار الشاعر في القصيدة التي تسمى باليتيمة في قوله:

ليكن لديك لسائل فرج     إن لم يكن فليحسن الردّ

وقال آخر

إن لم يكن ورق يوماً أجود به     للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي

{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } الآية. قيل:نزلت في إعطائه قميصه ولم يكن له غيره وبقي عرياناً. وقيل: أعطى الأقرع بن حابس مائةمن الإبل، وعيينة مثل ذلك، والعباس بن مرداس خمسين ثم كملها مائة فنزلت، وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول، وذلكأن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنعمن تصرف يده وإجالتها حيث تريد، وذكر اليد لأن بها الأخذ والإعطاء، واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك أن قبضاليد يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها، وطابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعلاليد مغلولة هو قبضها، وغلها أبلغ في القبض وقد طابق بينهما أبو تمام. فقال في المعتصم:

تعوّد بسط الكف حتى لوانّه     ثناها لقبض لم تجبه أنامله

وقال الزمخشري: هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، أمر بالاقتصادالذي هو بين الإسراف والاقتار انتهى. والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول وإلاّ فهو صلى اللهعليه وسلم كان لا يدّخر شيئاً لغد، وكذلك من كان واثقاً بالله حق الوثوق كأبي بكر حين تصدّق بجميع ماله.وقال ابن جريج وغيره: المعنى لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق {وَلاَ تَبْسُطْهَا } فيما نهيتك عنهوروي عن قالون: كل البصط بالصاد فتقعد جواب للهيئتين باعتبار الحالين، فالملوم راجع لقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ }. كما قالالشاعر:

إن البخيل ملوم حيث كان     ولكن الجواد على علاتّه هرم

والمحسور راجع لنوله {وَلاَ تَبْسُطْهَا} وكأنه قيل فتلام وتحسر، ثم سلاه تعالى عما كان يلحقه من الإضافة بأن ذلك ليس بهوان منك عليه ولالبخل به عليك، ولكن لأن بسط الرزق وتضييقه إنما ذلك بمشيئته وإرادته لما يعلم في ذلك من المصلحة لعباده، أويكون المعنى القبض والبسط من مشيئة الله، وأما أنتم فعليكم الاقتصاد وختم ذلك بقوله {خَبِيراً } وهو العلم بخفيات الأمورو{بَصِيراً } أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم. {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمإنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا }. لما بيَّن تعالى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد، وتقدم تفسير نظير هذه الآية، والفرق بين {خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ }ومن إملاق وبين قوله: {نَرْزُقُهُمْ } ونرزقكم. وقرأ الأعمش وابن وثاب: {وَلاَ تَقْتُلُواْ } بالتضعيف. وقرىء {خَشْيَةَ } بكسر الخاء،وقرأ الجمهور {*خطأً} بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ ابن كثير بكسرها وفتح الطاء والمدّ، وهي قراءة طلحة وشبل والأعمش ويحيـىوخالد بن إلياس وقتادة والحسن والأعرج بخلاف عنهما. وقال النحاس: لا أعرف لهذه القراءة وجهاً ولذلك جعلها أبو حاتم غلطاً.وقال الفارسي: هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليهفمنه قول الشاعر:

تخاطأت النبل أخشاه     وأخر يومي فلم يعجل

وقول الآخر في كمأة

تخاطأه القناص حتى وجدته     وخرطومه في منقع الماء راسب

فكان هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحقوالعدل. وقرأ ابن ذكوان {*خطأ} على وزن نبأ. وقرأ الحسن خطاء بفتحهما والمد جعله اسم مصدر من أخطأ كالعطاء منأعطى قاله ابن جنيّ. وقال أبو حاتم: هي غلط غير جائز ولا؛يعرف هذا في اللغة، وعنه أيضاً خطى كهوى خففالهمزة فانقلبت ألفاً وذهبت لالتقائهما. وقرأ أبو رجاء والزهري كذلك إلاّ أنهما كسرا الخاء فصار مثل ربا وكلاهما من خطىءفي الدين وأخطأ في الرأي، لكنه قد يقام كل واحد منهما مقام الآخر وجاء عن ابن عامر {*خطأ} بالفتح والقصرمع إسكان الطاء وهو مصدر ثالث من خطىء بالكسر. {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً * وَلاَتَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰناً فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ }: لمانهى تعالى عن قتل الأولاد نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة، فنهى عن قربان الزنا واستلزم ذلكالنهي عن الزنا، والزنا الأكثر فيه القصر ويمد لغة لا ضرورة، هكذا نقل اللغويون. ومن المدّ قول الشاعر وهو الفرزدق:

أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه     ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا

ويروي أبا خالد. وقال آخر:

كانت فريضة ما تقول كماكان الزناء فريضة الرجم    

وكان المعنى لم يزل أي لم يزل {فَـٰحِشَةً } أيمعصية فاحشة أي قبيحة زائدة في القبح {وَسَاء سَبِيلاً } أي وبئس طريقاً طريقه لأنها سبيل تؤدّي إلى النار. وقالابن عطية: و{سَبِيلاً } نصب على التمييز التقدير، وساء سبيله انتهى. وإذا كان {سَبِيلاً } نصباً على التمييز فإنما هوتمييز للمضمر المستكن في {سَاء }، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وإذا كان كذلك فلايكون تقديره وساء سبيله سبيلاً لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميراً يراد به الجنس مفسراً بالتمييز، ويبقى التقدير أيضاًعارياً عن المخصوص بالذم، وتقدّم تفسير قوله تعالى:

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ }

في أواخر الأنعامقال الضحاك: هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل انتهى. ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهممن الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليستمندرجة تحت قوله: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ } كاندراج

{ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ }

وانتصب {مَظْلُومًا } على الحال من الضمير المستكن في{قَتْلَ } والمعنى أنه قتل بغير حق، {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ } وهو الطالب بدمه شرعاً، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراجمن يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا. وقال مالك: ليسللنساء شيء من القصاص، وإنما القصاص للرجال. وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم: ليس إلى النساء شيء من العفو والدموللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: والسلطان الحجة والملكالذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك. وقال قتادة: السلطان القود وفي كتابالتحرير السلطان القوة والولاية. وقال ابن عباس: البينة في طلب القود. وقال الحسن القود. وقال مجاهد الحجة. وقال ابن زيد:الوالي أي والياً ينصفه في حقه، والظاهر عود الضمير في {فَلاَ يُسْرِف } على الولي، والإسراف المنهي عنه أن يقتلغير القاتل قاله ابن عباس والحسن، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير، أو أشرف من الذي قتل قاله ابنزيد، أو يمثل قاله قتادة، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج. وقال أبو عبد الله الرازي: السلطنة مجملةيفسرها

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ }

الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح: من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية . فمعنى {فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ } لا يقدم علىاستيفاء القتل، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامهعلى القتل، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال

{ وَأَن تَعْفُواْ * أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ }

انتهى ملخصاً. ولو سلم أن{فِى } بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى، لأن من القتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرقاً بقتله، وإنما الظاهروالله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله.وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤبشسع نعل كليب. وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في{فَلاَ يُسْرِف } ليس عائداً على الولي، وإنما يعود على العامل الدال عليه، ومن قتل أي {لا * يُسْرِف }في القتل تعدياً وظلماً فيقتل من ليس له قتله. وقرأ الجمهور {فَلاَ يُسْرِف } بياء الغيبة. وقرأ الأخوان وزيد بنعليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطابوالظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له. وقال الطبري: الخطاب للرسول والأئمة من بعده أي فلاتقتلوا غير القاتل انتهى. قال ابن عطية: وقرأ أبو مسلم السرّاج صاحب الدعوة العباسية. وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحبالدولة. وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة: {فَلاَ يُسْرِف } بضم الفاء على الخبر، ومعناه النهيوقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر. وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر، وفي قراءة أبيّ فلاتسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً انتهى. رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول علىالتفسير لا على القراءة لمخالفته السواد، ولأن المستفيض عنه {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } كقراءة الجماعة والضمير في {أَنَّهُ } عائدعلى الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنينعلى استيفاء الحق. وقيل: يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا، ونصره بالثواب في الآخرة.قال ابن عطية: وهو أرجح لأنه المظلوم، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام: ونصر المظلوم وإبرار القسم وكقوله: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً إلى كثير من الأمثلة. وقيل: على القتل. وقال أبو عبيد: على القاتل لأنه إذا قتل فيالدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر، وهذا ضعيف بعيد القصد. وقال الزمخشري: وإنما يعني أن يكون الضمير فيأنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى. وهذا بعيد جداً.{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } لما نهى عن إتلاف النفوس نهى عن أخذالأموال كما قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم . لما كان اليتيم ضعيفاً عن أن يدفع عن ماله لصغره نصعلى النهي عن قربان ماله، وتقدم تفسير هذه الآية في أواخر الأنعام. {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } عام فيما عقده الإنسان بينهوبين ربه، أو بينه وبين ربه، أو بينه وبين آدمي في طاعة {إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ } ظاهره أن العهد هوالمسؤول من المعاهد أن يفى به ولا ينكث ولا يضيعه أو يكون من باب التخييل، كأنه يقال: للعهد لم نكثت،فمثل كأنه ذات من الذوات تسأل لم نكثت دلالة على المطاوعة بنكثه وإلزام ما يترتب على نكثه، كما جاء

{ وَإِذَا ٱلْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىّ * ذَنبٍ قُتِلَتْ }

فيمن قرأ بسكون اللام وكسر التاء التي للخطاب. وقيل: هو على حذفمضاف أي إن ذا العهد كان مسؤولاً عنه إن لم يف به. ثم أمر تعالى بإيفاء الكيل وبالوزن المستقيم،وذلك مما يرجع إلى المعاملة بالأموال. وفي قوله {وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ } دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لايقال ذلك للمشتري. وقال الحسن: {*القسطاس}القبان وهو الفلسطون ويقال القرسطون. وقال مجاهد: {*القسطاس} العدل لا أنه آلة. وقرأ الأخوان وحفصبكسر القاف، وباقي السبعة بضمها وهما لغتان. وقرأت فرقة بالإبدال من السين الأولى صاداً. قال ابن عطية: واللفظية للمبالغة منالقسط انتهى. ولا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته ق س ط، وذلك مادته ق سط س إلاّ أن اعتقد زيادة السين آخراً كسين قدموس وضغبوس وعرفاس، فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسةوالتقييد بقوله: {ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد، وأن لا يتأخر إلايفاء بأن يكيل به بنقصانمّا ثم يوفيه بعد فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل. {ذٰلِكَ خَيْرٌ } أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييبالنفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي عاقبة، إذ لا يبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنياولا في الآخرة، وهو من المآل وهو المرجع كما قال: خير مرداً، خير عقباً، خير أملاً وإنما كانت عاقبته أحسنلأنه اشتهر بالأحتراز عن التطفيف، فعوِّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه. {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌإِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاْرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاْرْضَ وَلَنتَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا * ذٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَتَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا }. لما أمر تعالى بثلاثة أشياء، الإيفاء بالعهد، والإيفاءبالكيل، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه: {وَلاَ تَقْفُ } {وَلاَ تَمْشِ } {*ولاتجعل}. ومعنى {تَأْوِيلاً وَلاَ تَقْفُ }لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بمالا نعلم، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته. وقال ابن عباس: معناه لا ترمأحداً بما لا تعلم. وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه. وقال محمد بنالحنيفة: لا تشهد بالزور. وقال ابن عطية: ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضه انتهى. وفي الحديث: من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج . وقال في الحديث أيضاً: نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا . ومنه قول النابغة الجعدي:

ومثل الدمى شم العرانين ساكن     بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا

وقال الكميت

فلا أرمي البريء بغير ذنب     ولا أقفو الحواضن إن قفينا

وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع. قال الزمخشري:وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمربالعمل به انتهى. وقرأ الجمهور: {وَلاَ تَقْفُ } بحذف الواو للجزم مضارع قفا. وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثباتالواو. كما قال الشاعر:

هجوت زبان ثم جئت معتذرا     من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم. وقرأ معاذ القارىء: {وَلاَ تَقْفُ } مثل تقل،من قاف يقوف تقول العرب: قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب، وقاع الجمل الناقة وقعاهاإذا ركبها، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح. وقرأ الجرّاح العقيلي: {وَٱلْفُؤَادَ } بفتح الفاء والواو قلبتالهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في {ٱلْفُؤَادُ } وأنكرها أبو حاتم وغيرهوبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه. قال الحوفي: يتعلق بما تعلق به {لَكَ } وهو الاستقرار وهو لايظهر وفي قوله: {إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ } دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول، وجاء هذا علىالترتيب القرآني في البداءة بالسمع، ثم يليه البصر، ثم يليه الفؤاد. و{أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى {ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ } وهواسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره. وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل. فقال: وعبر عن {ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ }بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل، ولذلك عبر عنها بأولئك. وقد قالسيبويه رحمه الله في قوله تعالى:

{ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ }

إنما قال: رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهومن فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك،وأنشد هو والطبري:

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوىوالعيش بعد أولئك الأيام    

وأما حكاية أبي إسحاق عناللغة فأمر يوقف عنده، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى. وليس ما تخيله صحيحاً، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولميكونوا لينشدوا إلاّ ما روي، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه، و{كُلٌّ }مبتدأ والجملة خبره، واسم {كَانَ } عائد على {كُلٌّ } وكذا الضمير في {مَسْؤُولاً }. والضمير في {عَنْهُ } عائدعلى ما من قوله {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } فيكون المعنى أن كل واحد من {ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ }يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به. وهذا الظاهر. وقال الزجاج: يستشهد بهاكما قال

{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ }

. وقال القرطبي في أحكامه: يسأل الفؤاد عما اعتقده، والسمع عما سمع،والبصر عما رأى. وقال ابن عطية: إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم لهبه، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي. وقيل: الضمير في {كَانَ } و{مَسْؤُولاً } عائدان على القائف ما ليسله به علم، والضمير في {عَنْهُ } عائد على {كُلٌّ } فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطابلكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً. وقال الزمخشري: و{عَنْهُ } في موضع الرفع بالفاعلية، أي كل واحد منهاكان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }

يقال للإنسان: لم سمعت مالا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزمعليه؟ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من أن {عَنْهُ } في موضع الرفع بالفاعلية، ويعني به أنه مفعول لم يسمفاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل، فكماأن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيدغضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت. وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجاروالمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه، فليس {عَنْهُ مَسْؤُولاً }كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في {عَنْهُ مَسْؤُولاً } وتأخيره في {ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وقول الزمخشري: ولم نظرت ما لميحل لك أسقط إلى، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب، ولمنظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى. وانتصب {مَرَحاً } على الحال أي {مَرَحاً} كما تقول: جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاًمن أجله أي {وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاْرْضِ } للمرح ولا يظهر ذلك، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرحوكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال، ولذلك بقوله علل {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلاْرْضَ }. وقرأتفرقة فيما حكي يعقوب: {مَرَحاً } بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبراً مختالاً. قال مجاهد: لن تخرق بمشيكعلى عقبيك كبراً وتنعماً، {وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ } بالمشي على صدور قدميك تفاخراً و{طُولاً } والتأويل أن قدرتك لا تبلغهذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال. وقال الزجاج: {لا * تَمْشِ فِى ٱلاْرْضِ } مختالاً فخوراً، ونظيره:

{ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاْرْضِ هَوْناً }

و

{ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاْرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }

. وقال الزمخشري: {لَن تَخْرِقَ ٱلاْرْضَ } لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك، {وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً} بتطاولك وهوتهكم بالمختال. وقرأ الجراح الأعرابي: {لَن تَخْرِقَ } بضم الراء. قال أبو حاتم: لا تعرف هذه اللغة. وقيل:أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لايليق به التكبر. وقال الشاعر:

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا     فكم تحتها قوم هم منك أرفع

والأجود انتصاب قوله {طُولاً } على التمييز، أي لن يبلغ طولك الجبال. وقال الحوفي: {طُولاً } نصب على الحال، والعاملفي الحال {تَبْلُغَ } ويجوز أن يكون العامل تخرق، و{طُولاً } بمعنى متطاول انتهى. وقال أبو البقاء: {طُولاً } مصدرفي موضع الحال من الفاعل أو المفعول، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى. وقرأ الحرميانوأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث. وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق {سَيّئَةٌ } بضم الهمزة مضافاً. لهاء المذكرالغائب. وقرأ عبد الله سيئانه بالجمع مضافاً للهاء، وعنه أيضاً سيئات بغيرها، وعنه أيضاً كان خبيثه. فأما القراءة الأولى فالظاهرأن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين، وهما قفو ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحاً. وقيل: إشارةإلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهاً فذكر. قال الزمخشري: السيئةفي حكم الأسماء بمنزلة الذنب، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا إعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومنقرأ سيئاً، ألا تراك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى. وهوتخريج حسن. وقيل: ذكر {مَكْرُوهًا } على لفظ {كُلٌّ } وجوزوا في {مَكْرُوهًا } أن يكون خبراً ثانياً لكانعلى مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان، وأن يكون بدلاً من سىئة والبد بالمشتق ضعيف، وأن يكون حالاً من الضميرالمستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة. قيل: ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أنتوصف بمذكر، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم، أما إذا تأخر وأسندإلى ضميرها فهو قبيح، تقول: أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح، وأما من قرأ {سَيّئَةٌ } بالتذكير والإضافة فسيئهاسم {كَانَ } و{مَكْرُوهًا } الخبر، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموعوأفرد سيئة وهو المنهي عنه، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات. وأما قراءة عبد الله فتخرجعلى أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله:

فإن الحوادث أو دى بها    

لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضاً كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله

{ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ }

إِلَى قَوله

{ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلاْرْضِ مَرَحًا }

وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليفبعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله {لاَّ تَجْعَل }. واختتم الآيات بقوله {وَلاَ تَجْعَلْ } وقال: مما أوحى لأن ذلكبعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر، و{مِمَّا أَوْحَىٰ } خبر عن ذلك، و{مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } يجوز أنيكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذهالتكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتهاوهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ. وعن ابن عباس: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليهالسلام، أولها {لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } قال تعالى:

{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ٱلاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء }

وكرر تعالى النهي عن الشرك، ففي النهي الأول.

{ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً }

وفي الثاني {فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَمَلُومًا مَّدْحُورًا } والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر، وكونهملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك،فأول الأمر الذم وآخره اللوم، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه، والمدحور المطرودالمبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً. وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنياووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة، ولذلك جاء {فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ } والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول.وقال الزمخشري: ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومنعدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عندين الله أضل من النعم. {أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَافِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِىٱلْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا * تُسَبّحُ لَهُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّنشَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }. لما نبه تعالى على فساد منأثبت لله شريكاً ونظيراً أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولداً، والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكةبنات الله ومعنى {أَفَأَصْفَـٰكُمْ } آثركم وخصكم وهذا كما قال:

{ أله ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ * أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاْنثَىٰ }

وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ويكون أردؤها وأدونها للسادات.ومعنى {عَظِيماً } مبالغاً في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه تعالى أنفسكم فجعلتم له ماتكرهون، ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة. ومعنى {صَرَفْنَا } نوعنا من جهة إلى جهةومن مثال إلى مثال، والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى جهة ثم صار كناية عن التبيين. وقرأ الجمهور {وَصَرَّفْنَا} بتشديد الراء. فقال: لم نجعله نوعاً واحداً بل وعداً ووعيداً، ومحكماً ومتشابهاً، وأمراً ونهياً، وناسخاً ومنسوخاً، وأخباراً وأمثالاً مثلتصريف الرياح من صباودبور وجنوب وشمال، ومفعول {صَرَفْنَا } على هذا المعنى محذوف وهي هذه الأشياء أي: صرّفنا الأمثال والعبروالحكم والأحكام والأعلام. وقيل: المعنى لم ننزله مرة واحدة بل نجوماً ومعناه أكثرنا صرف جبريل إليك والمفعول محذوف أي {صَرَفْنَا} جبريل. وقيل: {فِى } زائدة أي {صَرَفْنَا } {هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ } كما قال

{ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى }

وهذا ضعيف لأن في لا تزاد. وقال الزمخشري: يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات لأنه مماصرفه وكرر ذكره، والمعنى ولقد {صَرَفْنَا } القول في هذا المعنى، وأوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يشيربهذا {ٱلْقُرْءانَ } إلى التنزيل، ويريد ولقد صرفناه يعني هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم انتهى.فجعل التصريف خاصاً بما دلت عليه الآية قبله وجعل مفعول {صَرَفْنَا } أما القول في هذا المعنى أو المعنى وهوالضمير الذي قدره في صرفناه وغيره جعل التصريف عامّاً في أشياء فقدر ما يشمل ما سيق له ما قبله وغيره.وقرأ الحسن بتخفيف الراء. فقال صاحب اللوامح: هو بمعنى العامة يعني بالعامة قراءة الجمهور، قال؛ لأن فعل وفعل ربما تعاقباعلى معنى واحد. وقال ابن عطية: على معنى صرفنا فيه الناس إلى الهدى بالدعاء إلى الله. وقرأ الجمهور {لّيَذْكُرُواْ} أي ليتذكروا من التذكير، أدغمت التاء في الذال. وقرأ الأخوان وطلحة وابن وثاب والأعمش ليذكروا بسكون الذال وضم الكافمن الذكر أو الذكر، أي ليتعظوا ويعتبروا وينظروا فيما يحتج به عليهم ويطمئنوا إليه {وَمَا يَزِيدُهُمْ } أي التصريف {إِلاَّنُفُورًا } أي بعداً وفراراً عن الحق كما قال:

{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }

وقال:

{ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ }

والنفور من أوصاف الدواب الشديدة الشماس، ولما ذكر تعالى نسبة الولد إليهم ورد عليهم فيذلك ذكر قولهم إنه تعالى معه آلهة وردَّ عليهم. وقرأ ابن كثير وحفص {كَمَا يَقُولُونَ } بالياء من تحت،والجمهور بالتاء. ومعنى {لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه كما يفعل الملوك بعضهم معبعض. وقال هذا المعنى أو مثله ابن جبير وأبو عليّ الفارسي والنقاش والمتكلمون أبو منصور وغيره، وعلى هذا تكون الآيةبياناً للتمانع كما في قوله

{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }

ويأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى. وقالقتادة ما معناه: لابتغوا إلى التقرب إلى ذي العرش والزلفى لديه، وكانوا يقولون: إن الأصنام تقربهم إلى الله فإذا علمواأنها تحتاج إلى الله فقد بطل كونها آلهة، ويكون كقوله

{ أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ }

أيهم أقرب،والكاف من {كَمَا } في موضع نصب. وقال الحوفي: متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و{مَعَهُ } خبر كان.وقال أبو البقاء: كوناً لقولكم. وقال الزمخشري: و{إِذَا } دالة على أن ما بعدها وهو {لاَّبْتَغَوْاْ } جواب عنمقالة المشركين وجزاء للو انتهى. وعطف {وَتَعَالَىٰ } على قوله {سُبْحَـٰنَهُ } لأنه اسم قام مقام المصدر الذي هو فيمعنى الفعل، أي براءة الله وقدر تنزه وتعالى يتعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عنكما في قوله

{ سُبْحَـٰنَ رَبّكَ رَبّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }

والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان. وقرأ الأخوان:عما تقولون بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء. وانتصب {عَلَوْاْ } على أنه مصدر على غير الصدر أي تعالياً ووصفتكبيراً مبالغة في معنى البراءة والبعد عما وصفوه به لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبينالغني والمحتاج منافاة لا تقبل الزيادة، ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطقبالتسبيح حقيقة، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقاً وهذا هو ظاهر اللفظ، ولذلك جاء {وَلَـٰكِنلاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }. وقال بعضهم: ما كان من نام حيوان وغيره يسبح حقيقة، وبه قال عكرمة قال: الشجرة تسبحوالأسطوانة لا تسبح. وسئل الحسن عن الخوان أيسبح؟ فقال: قد كان يسبح مرة يشير إلى أنه حين كان شجرةكان يسبح، وحين صار خواناً مدهوناً صار جماداً لا يسبح. وقيل: التسبيح المنسوب لما لا يعقل مجاز ومعناه أنها تسبحبلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وكماله، فكأنها تنطق بذلك وكأنها تنزه الله عما لا يجوز عليهمن الشركاء وغيرها. ويكون قوله: {وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } خطاباً للمشركين، وهم وإن كانوا معترفين بالخالق أنه الله لكنهملما جعلوا معه آلهة لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لميفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق فيكون التسبيح المسند إلى السموات والأرض ومن فيهن على سبيل المجاز قدراً مشتركاًبين الجميع، وإن كان يصدر التسبيح حقيقة ممن فيهن من ملك وإنس وجان ولا يحمل نسبته إلى السموات والأرض علىالمجاز، ونسبته إلى الملائكة والثقلين على الحقيقة لئلا يكون جمعاً بين المجاز والحقيقة بلفظ واحد. وقال ابن عطية ثمأعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح انتهى. ويعنى بالضمير في قوله {وَمَنفِيهِنَّ } وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلاّ لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضميرالجمع المؤنث مطلقاً. وقرأ النحويان وحمزة وحفص: تسبح بالتاء من فوق وباقي السبعة بالياء، وفي بعض المصاحف سبحت له السمواتبلفظ الماضي وتاء التأنيث وهي قراءة عبد الله والأعمش وطلحة بن مصرف. {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } حيث لا يعاجلكم بالعقوبةعلى سوء نظركم {غَفُوراً } إن رجعتم ووحدتم الله تعالى. {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَبِٱلاْخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى ٱلْقُرْءانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْعَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ نُفُوراً }. نزلت {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءانَ } في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبيلهب، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي: وعنابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول عنده، فقالت:هجاني صاحبك، قال: ما هو بشاعر، قالت: قال

{ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ }

وما يدريه ما في جيدي؟ فقاللأبي بكر: سلها هل ترى غيرك فإن ملكاً لم يزل يسترني عنها فسألها فقالت: أتهزأ بي ما أرى غيرك فانصرفتولم تر الرسول . وقيل: نزلت في قوم من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذاصلى وجهر بالقراءة، فحال الله بينهم وبين أذاه. ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكرشيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بلالمعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم، فإنك تقول لمن يقرأشيئاً من القرآن هذا يقرأ القرآن، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرىء من القرآن أي شيء كان منه. وقيل:ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل

{ أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ }

إِلى

{ الْغَـٰفِلُونَ }

وفي الكهف

{ وَمَنْ أَظْلَمُ }

إِلى

{ إِذًا أَبَدًا }

وفي الجاثية

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }

إِلى

{ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ }

وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات،وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت، وعن بعضهم أنه أسر زماناً ثم اهتدى قراءتها فخرج لايبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه. قال القرطبي: ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى

{ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }

ففي السيرة أن الرسول حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونهوهو يتلو هذه الآيات من يس، ولم يبق أحد منهم إلاّ وضع على رأسه تراباً. والظاهر أن المعنى جعلنا بينرؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول. وقال قتادة والزجاج وجماعة ما معناه: {جَعَلْنَابَيْنَكَ } فهم ما تقرأ وبينهم {حِجَاباً } فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث، فالمعنى قريب من الآية بعدها، والظاهر إقرار{مَّسْتُورًا } على موضوعه من كونه اسم مفعول أي {مَّسْتُورًا } عن أعين الكفار فلا يرونه، أو {مَّسْتُورًا } بهالرسول عن رؤيتهم. ونسب الستر إليه لما كان مستوراً به قاله المبرد، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاءفي صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر. وقالوا: رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته، ومكان مهولأي ذو هول، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية. وقال الأخفش وجماعة {مَّسْتُورًا } ساتراً واسم الفاعلقد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن. وقيل: مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعرشاعر، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل ومن لفظ الأول {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً} تقدم تفسيره في أوائل الأنعام {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ }. قيل: دخل ملأ قريش على أبي طالبيزورونه، فدخل رسول الله فقرأ ومر بالتوحيد، ثم قال: يا معشر قريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم فولوا ونفروا فنزلت هذه الآية. والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقتقراءته ومروره بتوحيد الله، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكاراً له واستبشاعاً لرفض آلهتهم واطّراحها. وقال الزمخشري:وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة و{وَحْدَهُ } من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتكفي أنه مصدر ساد مسدّ الحال، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى. وما ذهب إليه من أن {وَحْدَهُ } مصدرساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و{وَحْدَهُ } عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضعالحال، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد، وإيحاد موضوع موضع موحد. وذهب يونس إلى أن {وَحْدَهُ } منصوب على الظرف، وذهبقوم إلى أنه مصدر لا فعل له، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة، وقوم إلى أنه مصدر لوحدكما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو. وإذا ذكرت {وَحْدَهُ } بعد فاعل ومفعول نحو ضربتزيداً فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل، أي موحداً له بالضرب، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعولفعلى مذهب سيبويه يكون التقدير {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ } موحداً له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقديرموحداً بالذكر. و{نُفُورًا } حال جمع نافر كقاعد وقعود، أو مصدر على غير المصدر لأن معنى {وَلَّوْاْ } نفروا،والظاهر عود الضمير في {وَلَّوْاْ } على الكفار المتقدم ذكرهم. وقالت فرقة: هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دلعلى ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر. وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله: ليس شيء أطرد للشيطان منالقلب من لا إله إلاّ الله ثم تلا {وَإِذَا ذَكَرْتَ } الآية. وقال علي بن الحسين: هو البسملة {نَّحْنُ أَعْلَمُبِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو، كان إذا قرأ قامرجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وبما متعلق بأعلم، وماكان في معنى العلم والجهل وإن كان متعدياً لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب، وفي أفعلالتفضيل تعدى بالباء تقول: ما أعلم زيداً بكذا وما أجهله بكذا، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعديةلمفعول بنفسه، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام، تقول: ما أضرب زيداً لعمرو وزيد أضرب لعمرو منبكر. وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول: يستمعون بالهزء أي هازئين {وَإِذَا * يَسْتَمِعُونَ } نصب بأعلم أيأعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون، إذ هم ذوو نجوى {إِذْ يَقُولُ } بدل من {إِذْ هُمْ} انتهى. وقال الحوفي: لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط، وكان مضمناًأن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المرادبه تفهم المسموع دون هذا المقصد {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا {وَإِذْهُمْ نَجْوَىٰ } لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماسما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى. وقال أبو البقاء: يستمعون به. قيل: الباءبمعنى اللام،لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى، والنجوى مصدر، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى، وإذ بدل من {إِذْ }الأولى. وقيل: التقدير إذ كر إذ تقول. وقال ابن عطية: الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي، والمرادالاستخفاف والإ عراض فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهموالعامل في {إِذْ } الأولى وفي المعطوف {يَسْتَمِعُونَ } الأولى انتهى. تناجوا فقال النضر: ما أفهم ما تقول، وقال أبوسفيان: أرى بعضه حقاً، وقال أبو جهل: مجنون، وقال أبو لهب: كاهن، وقال حويطب: شاعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين، وبعضهمإنما يعلمه بشر، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبيّ صلى الله عليهوسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله. فتناجوا يقولون ساحر مجنون، والظاهر أن {مَّسْحُورًا } من السحر أي خبل عقلهالسحر. وقال مجاهد: مخدوعاً نحو

{ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ }

أي تخدعون. وقال أبو عبيدة: {مَّسْحُورًا } معناه أن له سحراً أيرئة فهو لا يستغنى عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك، وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره ولكل من أكلأو شرب من آدمي وغيره مسحور. قال:

أرانا موضعين لأمر غيب     ونسحر بالطعام والشراب

أي نغذى ونعلل ونسحر. قال لبيد:

فإن تسألينا فيم نحن فإننا     عصافير من هذا الأنام المسحر

قال ابن قتيبة: لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروهبالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية: الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين لأن في قولهم ضربمثل، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب لهفي ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له، و{ٱلاْمْثَالَ } تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهةالتسلية والتلبيس، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقر بها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلكضلال من يطلب فيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظرالمؤدي إلى الإيمان، أو سبيلاً إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال واتّباعهم كل حيلة في جهتك. وحكىالطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه {وَقَالُواْ * أَن كُنَّا } هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربواله الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه، واستبعدوا أنه بعدمايصير الإنسان رفاتاً يحييه الله ويعيده، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على مايأتي شرحه في الآية بعد هذا، ومن قرأ من القراء إذاً وإنّا معاً أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريدالخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقاً بالبعث والنشأة الآخرة، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى. وفي الكلام حذف تقديرهإذا كنا تراباً وعظاماً نبعث أو نعاد، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه، والذيتعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقاً حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقاً. الجديدمعروف. نغضت سنه: تحركت قال. ونغضت من هرم أسنانها. تنغض وتنغض نغضاً ونغوضاً، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض. قال:

لما رأتني انغضت لي الرأسا    

وقال الآخر:

أنغض نحوي رأسه وأقنعا     كأنه يطلب شيئاً أطعما

وقال الفراء: أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل. وقال أبو الهيثم: إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراًله فقد أنغض رأسه. وقال ذو الرمّة:

ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية     بسيف ولم ينغض بهن القناطر

حنك الدابة واحتنكها: جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به، واحتنك الجراد الأرض أكلت نباتها. قال:

نشكوا إليك سنة قد أجحفت     جهداً إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وحنفت، ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم:أحنك الشاتين أي آكلهما. استفز الرجل: استخفه، والفز الخفيف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب انقطع، واستفزني فلان خدعني حتى وقعتفي أمر أراده. وقيل لولد البقرة فز لخفته. قال الشاعر:

كما استغاث بشيء فز غيطلة     خاف العيون فلم ينظرنه الحشك

الجلبة الصياح قاله أبو عبيدة والفراء. وقال أبو عبيدة: جلب وأجلب. وقال الزجاج: أجلب على العدوّوجمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه. وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر، وجمععليه الجمع. الصوت معروف. الحاصب الريح ترمي بالحصباء قاله الفراء، والحصب الرمي بالحصباء وهي الحجارة الصغار. وقال الفرزذق:

مستقبلين شمال الشام نضربهم     بحاصب كنديف القطن منثور

والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة. تارة مرة وتجمع علىتير وتارات. قال الشاعر:

وإنسان عيني يحسر الماء تارة     فيبدوا وتارات يجم فيغرق

القاصف الذي يكسركل ما يلقى، ويقال قصف الشجر يقصفه قصفاً كسره. وقال أبو تمام:

إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت     عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

وقيل: القاصف الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر. {قُلْكُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ *فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّقَلِيلاً }. قال الزمخشري: لما قالوا

{ أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً }

قيل لهم {كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } فردّ قوله{كُونُواْ } على قولهم {كُنَّا } كأنه قيل {كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } ولا تكونوا عظاماً فإنه يقدر على إحيائكم.والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة، معأن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلىحالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر، وهو أن تكونوا{حِجَارَةً } يابسة {أَوْ حَدِيداً } مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة {أَوْخَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ } عندكم عن قبول الحياة، ويعظم في زعمكم على الخالق احياؤه فإنه يحييه. وقال ابن عطية:كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم. وقوله {كُونُواْ } هو الذي يسميه المتكلمون التعجيزمن أنواع أفعل، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدرعليه المخاطب كقوله تعالى:

{ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ }

ونحوه. وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا {ٱلَّذِىفَطَرَكُمْ } كذلك هو يعيدكم انتهى. وقال مجاهد: المعنى {كُونُواْ } ما شئتم فستعادون. وقال النحاس: هذا قول حسن لأنهملا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم،فلو كنتم {حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى. {أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ }صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته، ولم يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم وجولانها فيما هو أصلب من الحديد، فبدأ أولاًبالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد، أي افرضوا ذواتكم شيئاً من هذه فإنه لابد لكم من البعث على أي حال كنتم. وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسن وابن جبيروالضحاك الذي يكبر الموت، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم. وهذا التفسير لا يتم إلاّ إذا أريد المبالغة لانفس الأمر، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضاً ولو فرض انقلابه عرضاً لم يكن ليقبل الحياة لأجلالضدية. وقال مجاهد: الذي يكبر السموات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة بهكان خلق الحياة فيه ممكناً. قالوا: من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة،وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و{ٱلَّذِى } مبتدأ وخبره محذوف التقدير {ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعيدكم فيطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون فاعلاً أي يعيدكم الذي فطركم، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي معيدكمالذي فطركم و{أَوَّلَ مَرَّةٍ } ظرف العامل فيه {فَطَرَكُمْ } قاله الحوفي. {فَسَيُنْغِضُونَ } أي يحركونها على سبيل التكذيبوالاستبعاد، ويقولون: متى هو؟ أي متى العود؟ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود. ولكن حيدة وانتقالاً لما لا يسألعنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيينزمانه لأن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، واحتمل أن يكون في {عَسَى }إضمار أي {عَسَى } هو أي العود،واحتمل أن يكون مرفوعها {أَن يَكُونَ } فتكون تامة. و{قَرِيبًا } يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العودمتصفاً بالقرب، ويحتمل أن يكون ظرفاً أي زماناً قريباً وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلاً من قريباً. وقال أبوالبقاء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } ظرف ليكون، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لايعمل انتهى. أما كونه ظرفاً ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف. وأما قوله لأنالضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمرو وقبيح، يعلقون بعمروبلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح. والظاهر أن الدعاء حقيقة أي {يَدْعُوكُمْ } بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كماقال

{ يوم ينادي المنادي من مكان قَرِيب }

الآية ويقال: إن إسرافيل عليه السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاءالمتفرقة عودي كما كنت. وروي في الحديث أنه قال : إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم . ومعنى {فَتَسْتَجِيبُونَ } توافقون الداعي فيما دعاكم إليه. وقال الزمخشري: الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثونمطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى. والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و{بِحَمْدِهِ } حال منهم.قال الزمخشري: وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر،يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه. وعن سعيد بن جبير ينفضونالتراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك انتهى. وذلك لما ظهر لهم من قدرته. وقيل: معنى {بِحَمْدِهِ } أنالرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالاً منهم فكأنه قال: عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلافما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم: قد أخطأت بحمدالله فبحمد الله ليس حالاً من فاعل أخطأت، بل المعنى أخطأت والحمد لله. وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان{بِحَمْدِهِ } يكون اعتراضاً إذ معناه والحمد لله. ونظيره قول الشاعر:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر     لبست ولا من غدرةٍ أتقنع

أي فأني والحمد لله فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها، كما أن {بِحَمْدِهِ } اعتراض بينالمتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله: عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز، لاتقول عسى أن زيداً قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد، وعلى أن يكون {بِحَمْدِهِ } حالاً من ضمير {فَتَسْتَجِيبُونَ }.قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال قتادة: معناه بمعرفته وطاعته {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً }. قال ابنعباس: بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذاعائد إلى {*لبثهم} فيما بين النفختين. وقال الحسن: تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجعإلى استقلال مدة اللبث في الدنيا. وقال الزمخشري: {بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ } وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونهايوماً أو بعض يوم، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة انتهى. وقيل: استقلوا لبثهم في عرصة القيامةلأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة. وقيل: تم الكلام عند قوله {قُلْعَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا }. و{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون لله {بِحَمْدِهِ }يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلاّ بهم. وقيل: يحمده المؤمن اختياراً والكافر اضطراراً، وهذا يدل على أن الخطابللكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكونالظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلاّ في زماناقليل إذ كانوا في ظنهم نائمين، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم. والظاهر أن{وَتَظُنُّونَ } معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: أي وأنتم {*تظنون}والجملة حال انتهى. وأن هنا نافية، { وَتَظُنُّونَ} معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية، ويظهر أن انتصابقليلاً على أنه نعت لزمان محذوف أي إلاّ زمن قليلاً. كقوله

{ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }

ويجوز أنيكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية. {وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُإِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ * يَنزِعُ *بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلإِنْسَـٰنِ عَدُوّا مُّبِينًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنيَشَأْ يُعَذّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ * عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيّينَعَلَىٰ بَعْضٍ وَءاتَيْنَا * دَاوُودُ * زَبُوراً }. قيل: سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمهبعض الكفرة، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف، وارتباطها بما قبلها أنه لماتقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه، وإيذاء الرسول ونسبته إلى أنه مسحور، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم، فأمر اللهتعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول، وأن لا يعاملوهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصيالمؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول، وأن لا يعاملوهم بمثل أفعالهم وأقوالهم، فعلى هذا يكون المعنى {قُل لّعِبَادِىَ }المؤمنين {يَقُولُواْ } للمشركين الكلم {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }. وقيل: المعنى {يَقُولُواْ } أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التيهي أحسن أي يجل بعضهم بعضاً ويعظمه، ولا يصدر منه إلاَّ الكلام الطيب والقول الجميل، فلا يكونوا مثل المشركين فيمعاملة بعضهم بعضاً بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري. وقيل: عبادي هنا المشركون إذ المقصود هنا الدعاءإلى الإسلام، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سبباً إلى قبول الدين فكأنه قيل: قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا{ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان وسوستهوتحسينه. وقيل: عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } والذي يظهر أن لفظة عباديمضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله

{ فَبَشّرْ * عِبَادِى * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ }

{ فَٱدْخُلِى فِى عِبَادِى عَيْناً }

{ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ }

. و{قُلْ } خطاب للرسول ، وهو أمر، ومعمول القولمحذوف تقديره قولوا {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } وانجزم {يَقُولُواْ } على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش، وهوصحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهمذلك قالوا {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }. وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف، أي إن يقل لهم {يَقُولُواْ }فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي {يَقُولُواْ } جوابه. وقال المبرد: انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول{قُلْ } أي قولوا {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } {يَقُولُواْ }. وقيل معمول {قُلْ } مذكور لا محذوف وهو {يَقُولُواْ }على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجاج. وقيل: {يَقُولُواْ } مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هوفعل الأمر فبني، والمعنى {قُل لّعِبَادِىَ } قولوا قاله المازني، وهذه الأقوال جرت في قوله

{ قُل لّعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ }

وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور في علم النحو. و{ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } قالت فرقة منهم ابنعباس هي قول لا إله إلاّ الله. قال ابن عطية: ويلزم على هذا أن يكون قوله {لّعِبَادِىَ } يريد بهجميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ الله. ويجيء قوله بعد ذلك {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ * يَنزِعُ * بَيْنَهُمْ} غير مناسب للمعنى إلاّ على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال. وقال الحسنيرحمك الله يغفر الله لك، وعنه أيضاً الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي. وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله.وقال الجمهور: وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى. وقال الزمخشري: فسر {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } بقوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنيَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل الناروأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله: {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } اعتراض بمعنى يلقي بينهمالفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارة والمشاقة. وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: إذا أردتم الحجةعلى المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله

{ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }

{ وَلاَ * تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }

وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله، وتنفيرعن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها، ثم نبه على هذا الطريق بقوله: {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } جامعاً للفريقينأي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى. وقرأ طلحة {يَنزَغُ } بكسر الزاي. قال أبو حاتم: لعلها لغة والقراءةبالفتح. وقال صاحب اللوامح: هي لغة. وقال الزمخشري: هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى. ولو مثل بينطح وينطح كان أنسبوبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله

{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ }

الآية وغيرها منالآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له. والخطاب بقوله {رَبُّكُـمْ } إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء منكفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم. {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ } أي على الكفار حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة وإنماهدايتهم إلى الله. وقيل: {يَرْحَمْكُمْ } بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة، وإن شاء عذبكم بالخذلان وإن كان الخطاب للكفار فقاليقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ويعذبكم يميتكم على الكفر. وذكر أبو سليمان الدمشقي لما نزل القحط بالمشركين قالوا

{ رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ }

فقال الله {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن {إِن يَشَأْيَرْحَمْكُمْ } فيكشف القحط عنكم {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } فيتركه عليكم. وقال ابن عطية: هذه الآية تقوي أن الآيةالتي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة، وذلك أن قوله {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } مخاطبة لكفار مكة بدليلقوله {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال إنه أعلم بهمورجاهم وخوّفهم، ومعنى {يَرْحَمْكُمْ } بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره انتهى. وتقدم من قول الزمخشري أن قوله {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُبِكُمْ } هي من قول المؤمنين للكفار وأنه تفسير لقوله {ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }. وقال ابن الأنباري: {أَوْ }دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يراد عنهما، فكانت ملحقة بأو المبيحة في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرينيعنون قد وسعنا لك الأمر. وقال الكرماني: {أَوْ } للإضراب ولهذا كرر {ءانٍ } ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمنخاطبهم بقوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطباً لرسوله : {وَرَبُّكَ أَعْلَمُبِمَنْ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض،بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم، و{بِمَنِ } متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه بهعلى اختصاص أعلمته تعالى بما تعلق به كقولك: زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحومن العلوم. وقال أبو عليّ: الباء تتعلق بفعل تقديره علم {بِمَنِ } قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليسبأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم، وأيضاً فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجرأو لا يبين على ما تقرر في علم النحو. ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياءعلى غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيلفي هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهمعلى من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلاّ عن حكمته. وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد على سائر الأنبياء وخص {دَاوُودُ } بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمداً خاتمالأنبياء وأن أمته خير الأمم. وقال تعالى

{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ أَنَّ ٱلاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ }

وهم محمد وأمته، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيراً فيما يخبرون به مما في كتبهم، فنبه على أن زبور داودتضمن البشارة بمحمد . وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا: لا نبيّ بعد موسىولا كتاب بعد التوراة، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلىأن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد بما آتاهمن العلم والقرآن الذي خصه به. وتقدم تفسير {وَءاتَيْنَا * دَاوُودُ * زَبُوراً } في أواخر النساء وذكر الخلاف فيضم الزاي وفتحها. وقال الزمخشري هنا: فإن قلت: هلا عرّف الزبور كما عرف في {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ }قلت: يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل، وأن يريد {وَءاتَيْنَا * دَاوُودُ } بعض الزبور وهي الكتبوأن يريد ما ذكر فيه رسول الله من الزبور، فسُميِّ ذلك {زَبُوراً } لأنه بعض الزبوركما سُمي بعض القرآن قرآناً. {قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً *أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـٰفُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا * وَإِن}. قال ابن مسعود: نزلت في عبدة الشياطين وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم. وقال ابن عباس في عزيروالمسيح وأمه، وعنه أيضاً وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن في عبدة الملائكة وعن ابن عباس في عبدة الشمس والقمروالكواكب وعزير والمسيح وأمه انتهى. ويكون {ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ } عاماً غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل،والمعنى أدعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم. الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحوّلوه من واحد إلىآخر أو يبدلوه. وقرأ الجمهور: {يَدَّعُونَ } بياء الغيبة وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب، وزيد بن عليّ بياء الغيبة مبنياًللمفعول، والمعنى يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله {قُلِ ٱدْعُواْ } أيادعوهم لكشف الضر. وفي قوله: {زَعَمْتُمْ } ضمير محذوف عائد على {ٱلَّذِينَ } وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديرهزعمتموهم آلهة من دون الله، و{أُوْلَـٰئِكَ } مبتدأ و{ٱلَّذِينَ } صفته، والخبر {يَبْتَغُونَ }. و{ٱلْوَسِيلَةَ } القرب إلى الله تعالى،والظاهر أن {أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى المعبودين والواو في {يَدَّعُونَ } للعابدين، والعائد على {ٱلَّذِينَ } منصوب محذوف أي يدعونهم.وقال ابن فورك: الإشارة بقوله بأولئك إلى النبيين الذين تقدّم ذكرهم، والضمير المرفوع في {يَدَّعُونَ } و{يَبْتَغُونَ } عائدعليهم، والمعنى يدعون الناس إلى دين الله، والمعنى على هذا أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلاّ اللهولا يبتغون الوسيلة إلاّ إليه، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله. وقرأ الجمهور: {إِلَىٰ رَبّهِمُ } بضميرالجمع الغائب. وقرأ ابن مسعود إلى ربك بالكاف خطاباً للرسول، واختلفوا في إعراب {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وتقديره. فقال الحوفي: {أَيُّهُمْأَقْرَبُ } ابتداء وخبر، والمعنى ينظرون {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } فيتوسلون به ويجوز أن يكون {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } بدلاً من الواوفي {يَبْتَغُونَ } انتهى. ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق، و{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في موضع نصب على إسقاط حرف الجرلأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرينتكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله

{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا }

وفي إضمار الفعل المعلق نظر، والوجهالثاني قاله الزمخشري قال: وتكون أي موصولة، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقربانتهى. فعلى الوجه يكون {أَقْرَبُ } خبر مبتدأ محذوف، واحتمل {أَيُّهُم } أن يكون معرباً وهو الوجه، وأن يكون مبنياًلوجود مسوغ البناء. قال الزمخشري: أو ضمن {يَبْتَغُونَ } {ٱلْوَسِيلَةَ } معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلىالله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، فيكون قد ضمن {يَبْتَغُونَ } معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق، وتكونالجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن حرص يتعدى بعلى، كقوله

{ إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ }

.وقال ابن عطية: و{أَيُّهُم } ابتدأ و{أَقْرَبُ } خبره، والتقدير نظرهم وودكهم {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وهذا كما قال عمر بنالخطاب رضي الله عنه: فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها، أي يتبارون في طلب القرب. فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأفإن جعلت {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمارالخبر، وإن جعلت {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وإن جعلت التقديرنظرهم في {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق. وقالأبو البقاء: {أَيُّهُم } مبتدأ و{أَقْرَبُ } خبره، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون، ويجوز أن يكون {أَيُّهُم } بمعنىالذي وهو بدل من الضمير في {يَدَّعُونَ } والتقدير الذي هو أقرب انتهى. ففي الوجه الأولى علق {يَدَّعُونَ } وهوليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـٰفُونَعَذَابَهُ } كغيرهم من عباد الله، فكيف يزعمون أنهم آلهة {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } يحذره كل أحد.و{إِنَّ مِنْ * قَرْيَةٌ } {ءانٍ } نافية و{مِنْ } زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس، والجملة بعد {إِلا} خبر المبتدأ. وقيل: المراد الخصوص والتقدير وإن من قرية ظالمة. وقال ابن عطية: ومن لبيان الجنس على قولمن يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي {مِنْ } لبيان ماأريد بذلك الذي فيه إبهام ما. كقوله

{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ }

وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكونمن فيه بياناً له، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ألا ترى أنه قالبعد ذلك. وقيل: المراد الخصوص انتهى. والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناؤها، ويتضمن تخريبهاهلاك أهلها بالاستئصال أو شيئاً فشيئاً أو تعذب والمعنى هلاك أهلها بالقتل وأنواع العذاب. وقيل: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة.وقال مقاتل: وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفةبالترك، والجبال بالصواعق. والرواجف، وأما خراسان فعذابها ضروب ثم ذكرها بلداً بلداً ونحو ذلك عن وهب بن منبه فذكر فيهأن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش. {كَانَ ذٰلِك فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَسْطُورًا } أي في سابق القضاء أوفي اللوح المحفوظ أي مكتوباً أسطاراً {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ } بالآيات عن ابن عباس: أن أهل مكة سألوا أنيجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون، اقترحوا ذلك على الرسول فأوحى الله إليهإن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال: بل تستأني بهم يا رب . فنزلت، واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلاّ لتكذيب الأولين بها، وتكذيبالأولين ليس علة في إرسال الآيات لقريش، فالمعنى إلاّ اتباعهم طريقة تكذيب الأولين بها، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاففإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم. وقال الزمخشري: فالمعنى وماصرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلاّ أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود،وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل وقد عزمناأن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بهالما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهمانتهى. وقرأ الجمهور {ثَمُودُ } ممنوع الصرف. وقال هارون: أهل الكوفة ينونون {ثَمُودُ } في كل وجه. وقال أبوحاتم: لا تنون العامة والعلماء بالقرآن {ثَمُودُ } في وجه من الوجوه، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرأها بغيرألف انتهى. وانتصب {مُبْصِرَةً } على الحال وهي قراءة الجمهور. وقرأ زيد بن عليّ {مُبْصِرَةً } بالرفع على إضمار مبتدأأي هي مبصرة، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس، والتقدير آية مبصرة. وقرأ قوم: بفتح الصاداسم مفعول أي يبصرها الناس ويشاهدونها. وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي محل إبصار كقوله:

والكفر مخبثة لنفس النعم    

أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو أرض مسبعة ومكان مضبة، وقالوا: الولد مبخلة مجبنة {فَظَلَمُواْ بِهَا } أي بعقرهابعد قوله

{ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ ٱللَّهِ }

الآية. وقيل: المعنى أنهم حجدوا كونها من عند الله. وقيل: جعلوا التكذيببها موضع التصديق وهو معنى القول قبله، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح وفيهذه وصف غير المقترحة وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة. وقال الحسن: والموت الذريع، وفي حديث الكسوف: فافزعوا إلى الصلاة . قال ابن عطية: وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام قسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعتنظرك وجدت آية. وهنا فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة فقط، وقسم خارق للعادة وقد انقضىبانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهماً لما سلف منه انتهى. وهذا القسم الأخير قال فيه وقد انقضى بانقضاء النبوة وكثير منالناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة. وقال الزمخشري: إن أراد بالآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها {إِلا }من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم، وإن أراد غيرها فالمعنى {ٱلظَّـٰلِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ }ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها {إِلاَّ تَخْوِيفًا } وإنذاراً بعذاب الآخرة. وقيل: الآيات التي جعلها الله تخويفاً لعبادهسماوية كسوف الشمس، وخسوف القمر، والرعد، والبرق، والصواعق، والرجوم وما يجري مجرى ذلك. وأرضية زلازل، وخسف، ومحول ونيران تظهر فيبعض البلاد، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين، ولا سماوية ولا أرضية الرياح العواصف وما يحدثعنها من قلع الأشجار وتدمير الديار وما تسوقه من السواقي والرياح السموم. {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِوَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءيَا ٱلَّتِى أَرَيْنَـٰكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِى ٱلقُرْءانِ }. لما طلبوا الرسول بالآيات المقترحة وأخبرالله بالمصلحة في عدم المجيء بها طعن الكفار فيه، وقالوا: لو كان رسولاً حقاً لأتى بالآيات المقترحة فبين الله أنهينصره ويؤيده وأنه {أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ }. فقيل بعلمه فلا يخرج شيء عن علمه. وقيل: بقدرته فقدرته غالبة كل شيء. وقيل:الإحاطة هنا الإهلاك كقوله

{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ }

والظاهر أن الناس عام. وقيل: أهل مكة بشره الله تعالى أنه يغلبهم ويظهرعليهم، و{أَحَاطَ } بمعنى يحيط عبر عن المستقبل بالماضي لأنه واقع لا محالة، والوقت الذي وقعت فيه الإحاطة بهم. قيليوم بدر. وقال العسكري: هذا خبر غيب قدمه قبل وقته، ويجوز أن يكون ذلك في أمر الخندق ومجيء الأحزاب يطلبونثارهم ببدر فصرفهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً. وقيل: يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: الأشبه أنه يوم الفتح فإنه اليومالذي أحاط أمر الله بإهلاك أهل مكة فيه وأمكن منهم. وقال الطبري: {أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } في منعك يا محمد وحياطتكوحفظك، فالآية إخبار له أنه محفوظ من الكفرة أمن أن يقتل وينال بمكروه عظيم، أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيبأحداً من المخلوقين. قال ابن عطية: وهذا تأويل بين جار مع اللفظ. وقد روي نحوه عن الحسن والسدّي إلاّ أنهلا يناسب ما بعده مناسبة شديدة، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسباً لما بعده توطئة له. فأقول: اختلف الناس في{ٱلرُّءيَا }. فقال الجمهور هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار: إن هذالعجب نخبّ إلى بيت المقدس شهرين إقبالاً وإدباراً ويقول محمد جاءه من ليلته وانصرف منه، فافتتن بهذا التلبيس قوم منضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله فنزلت هذه الآية، فعلى هذا يحسن أن يكونمعنى قوله {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } أي في إضلالهم وهدايتهم، وأن كل واحد ميسر لما خلقله أي فلا تهتم أنت بكفر من كفر ولا تحزن عليهم فقد قيل لك إن الله محيط بهم مالك لأمرهموهو جعل رؤياك هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر، وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤياً إذ هما مصدران منرأى. وقال النقاش: جاء ذلك من اعتقاد من اعتقد أنها منامية وإن كانت الحقيقة غير ذلك انتهى. وعن ابن عباسوالحسن ومجاهد وغيرهم: هو قصة الإسراء والمعراج عياناً آمن به الموفقون وكفر به المخذولون، وسماه رؤيا لوقوعه في الليل وسرعةتقضيه كأنه منام. وعن ابن عباس أيضاً هو رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنته الحديبية ورد فافتتن الناس، وهذامناسب لصدر الآية فإن الإحاطة بمكة أكثر ما كانت. وعن سهل بن سعد: هي رؤياه بني أمية ينزون على منبرهنزو القردة فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكاً من يومئذ حتى مات، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك ملكهم وصعودهم المنابر إنمايجعلها الله فتنة للناس. ويجيء قوله {أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } أي بأقداره وإن كان ما قدّره الله فلا تهتم بما يكونبعدك من ذلك. وقال الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاعإلى حين. وقالت عائشة: {ٱلرُّءيَا } رؤيا منام. قال ابن عطية: وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لافتنة فيها وما كان أحد لينكرها انتهى. ولبس كما قال ابن عطية: فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبيّ بوقوع ذلكلا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك. وقال صاحب التحرير: سألت أبا العباس القرطبي عن هذهالآية فقال: ذهب المفسرون فيها إلى أمر غير ملائم في سياق أول الآية، والصحيح أنها رؤية عين يقظة لما آتاهبدراً أراه جبريل عليه السلام مصارع القوم فأراها الناس، وكانت فتنة لقريش فإنهم لما سمعوا أخذوا في الهزء والسخرية بالرسول. {وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ } هنا هي أبو جهل انتهى. وقال الزمخشري: ولعل الله تعالى أراه مصارعهمفي منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يرمىء إلى الأرض ويقول:«هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان». فتسامعت قريش بما أُوحي إلى رسول الله من أمر بدروما أُرِي في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون به استهزاء. وقيل: رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبرهكما يتداول الصبيان الكرة انتهى. والظاهر أنه أريد بالشجرة حقيقتها. فقال ابن عباس: هي الكشوث المذكورة في قوله

{ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }

وعنه أيضاً: هي {ٱلشَّجَرَةِ } التي تلتوي على الشجرة فتفسدها. قال:والفتنة قولهم ما بال الحشائش تذكر في القرآن. وقال الجمهور: هي شجرة الزقوم لما نزل أمرها في الصافات وغيرها. قالأبو جهل وغيره: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقومإلاّ التمر بالزيد، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه: «تزقموا» فافتتن أيضاً بهذه المقالة بعضالضعفاء. قال الزمخشري: وما أنكروا أن يجعل الله {ٱلشَّجَرَةِ } من جنس لا تأكله النار، فهذا وبر السمندل وهودويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار،وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كلشجرة ناراً فلا تحرقها فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها. والمعنى أن الآيات إنما نرسل بها تخويفاًللعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليكإلاّ فتنة لهم حيث اتخذوه سخرياً وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال {وَنُخَوّفُهُمْ } أي بمخاوفالدنيا والآخرة {فَمَا يَزِيدُهُمْ } التخويف {إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآياتانتهى. وقوله بعد الوحي إليك هو قوله

{ سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ }

وقوله

{ قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ }

والظاهر إسناداللعنة إلى {ٱلشَّجَرَةِ } واللعن الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة. وقيل تقول العربلكل طعام مكروه ضار ملعون. قال الزمخشري: وسألت بعضهم فقال: نعم الطعام الملعون القشب الممحون. وقال ابن عباس: {ٱلْمَلْعُونَةَ} يريد آكلها، ونمقه الزمخشري فقال: لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعنعلى الحقيقة وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز انتهى. وقيل لما شبه طلعها برؤوس الشياطين، والشيطان ملعون نسبت اللعنة إليها.وقال قوم {ٱلشَّجَرَةِ } هنا مجاز عن واحد وهو أبو جهل. وقيل هو الشيطان. وقيل مجاز عن جماعة وهو اليهودالذين تظاهروا على رسول الله ولعنهم الله تعالى وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثه الرسول عليه السلام،فلما بعثه الله كفروا به وقالوا: ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيراً من الناس بمقالتهم عن الإسلام. وقيل بنوأمية حتى إن من المفسرين من لا يعبر عنهم إلاّ بالشجرة الملعونة لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة وأخذالأموال من غير حلها وتغيير قواعد الدين وتبديل الأحكام، ولعنها في القرآن

{ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ }

إن الذينيؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة. وقرأ الجمهور: {ٱلشَّجَرَةِ * ٱلْمَلْعُونَةَ } عطفاً على {ٱلرُّءيَا } فهيمندرجة في الحصر، أي {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءيَا ٱلَّتِى أَرَيْنَـٰكَ } {وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ } في القرآن {إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ }. وقرأزيد بن عليّ برفع {وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ } على الابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك أي فتنة، والضمير في {وَنُخَوّفُهُمْ } لكفارمكة. وقيل لملوك بني أمية بعد الخلافة التي قال النبيّ : الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً عضوضاً والأول أصوب. وقرأ الأعمش: ويخوفهم بياء الغيبة والجمهور بنون العظمة. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَقَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّقَلِيلاً * قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا * وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمبِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلاْمْوٰلِ وَٱلاْوْلَـٰدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورًا }. مناسبة هذه الآية لما قبلها منوجهين. أحدهما أنه لما نازعوا الرسول علي السلام في النبوّة واقترحوا عليه الآيات كان ذلك لكبرهم وحسدهم للرسول صلى اللهعليه وسلم على ما آتاه الله من النبوّة والدرجة الرفيعة، فناسب ذكر قصة آدم عليه السلام وإبليس حيث حمله الكبروالحسد على الامتناع من السجود. والثاني أنه لما قال

{ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا }

بين ما سبب هذا الطغيانوهو قول إبليس {لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } وانتصب {طِينًا } على الحال قاله الزجاج وتبعه الحوفي، فقال: من الهاءفي خلقته المحذوفة، والعامل {خُلِقَتْ } والزمخشري فقال {طِينًا } أما من الموصول والعامل فيه {أَءسْجُدُ } على آسجد لهوهو طين أي أصله طين، أو من الراجع إليه من الصلة على آسجد لمن كان في وقت خلقه {طِينًا }انتهى. وهذا تفسير معنى. وقال أبو البقاء: والعامل فيه {خُلِقَتْ } يعني إذا كان حالاً من العائد المحذوف وأجاز الحوفيأن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله

{ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }

وأجاز الزجّاجأيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييزاً وقوله {أَءسْجُدُ } استفهام إنكار وتعجب. وبين قوله {أَءسْجُدُ} وما قبله كلام محذوف، وكأن تقديره قال: لم لم تسجد لأدم قال: {أَءسْجُدُ } وبين قوله {أَرَءيْتَكَ } للخطابوتقدّم الكلام عليها في سورة الأنعام ولا يلحق كاف الخطاب هذه إلاّ إذا كانت بمعنى أخبرني، وبهذا المعنى قدرها الحوفيوتبعة الزمخشري وهو قول سيبويه فيها والزجّاج. قال الحوفي: و {أَرَءيْتَكَ } بمعنى عرفني وأخبرني، وهذا منصوب بأرأيتك، والمعنىأخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ لم كرّمته عليّ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، وحذف هذا لما فيالكلام من الدليل عليه. وقال الزمخشري: الكاف للخطاب و {هَـٰذَا } مفعول به، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّأي فضلته لم كرمته عليّ وأنا خير منه، فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ فقال: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ }. وقال ابنعطية: والكاف في {أَرَءيْتَكَ } حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة، ومعنى أرأيت أتأملتونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد. وقال سيبويه: هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله {أَرَءيْتَكَ }زيداً أيؤمن هو. وقاله الزجاج ولم يمثل، وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأما في هذه الآية فهيكما قلت وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله انتهى. وما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في {أَرَءيْتَكَ } هنا هو الصحيح،ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله {هَـٰذَا ٱلَّذِى * ٱللَّهُ عَلَىَّ } لم كرمته عليّجملة من مبتدأ وخبر، وصار مثل: زيد أيؤمن هو دخلت عليه {أَرَءيْتَكَ } فعملت في الأول، والجملة الاستفهامية في موضعالثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّقدر. وقد أشبعنا الكلام في الأنعام وفي شرح التسهيل. وقال الفراء: هنا للكاف محمل من الإعراب وهو النصب أيأرأيت نفسك قال: وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك. فإني صانع فيه كذا، ثم ابتدأ {هَـٰذَا ٱلَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ }انتهى. والرد عليه مذكور في علم النحو، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله: {أَرَءيْتَكَ } بمعنى أخبرنيوالثاني الجملة القسمية بعده لا نعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول {أَرَءيْتَكَ } لذلك مذهباً حسناً، إذ لا يكون في الكلامإضمار، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف،وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية، ومعنى {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } أي أخرت مماتي وأبقيتني حياً. وقال ابنعباس: {لاحْتَنِكَنَّ } لأستولين عليهم وقاله الفراء. وقال ابن زيد لأضلنهم. وقال الطبري: لأستأصلن وكفر إبليس بجهله صفة العدل منالله حين لحقته الأنفة والكبر، وظهر ذلك في قوله {قَالَ أَرَءيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِى كَرَّمْتَ } إذ نص على أنه لاينبغي أن يكرم بالسجود مني من أنا خير منه، وأقسم إبليس على أنه يحتنك ذرية آدم وعلم ذلك إما بسماعهمن الملائكة، وقد أخبرهم الله به أو استدل على ذلك بقولهم:

{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء }

أونظر إليه فتوسم في مخايله أنه ذو شهوة وعوارض كالغضب ونحوه، وأرى خلقته مجوفة مختلفة الأجزاء، وقال الحسن: ظن ذلكلأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عز ما فظن ذلك بذريته وهذا ليس بظاهر لأن قول ذلك كان قبلوسوسته لآدم في أكل الشجرة، واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه كما قال

{ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ }

والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء ولكن المعنى اذهب لشأنكالذي اخترته، وعقبه بذكر ما جرّه سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم، ولما تقدم اسم غائب وضمير خطاب غلبالخطاب فقال: {جَزَاؤُكُمْ } ويجوز أن يكون ضمير من على سبيل الالتفات والموفور المكمل ووفر متعد كقوله:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه     يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ولازم تقول وفر المال يفر وفوراً، وانتصب {جَزَاء }على المصدر والعامل فيه {جَزَاؤُكُمْ } أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة. وقيل: تمييز ولا يتعقل {وَٱسْتَفْزِزْ } معطوفعلى فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله

{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }

ومن في {مَنِ ٱسْتَطَعْتَ} موصولة مفعولة باستفزز. وقال أبو البقاء: {مِمَّنْ * ٱسْتَطَعْتَ } من استفهام في موضع نصب باستطعت، وهذا ليس بظاهرلأن {*استفزز} ومفعول {فَإِن ٱسْتَطَعْتَ } محذوف تقديره {مَنِ ٱسْتَطَعْتَ } أن تستفزه والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله. وقالمجاهد: الغناء والمزامير واللهو. وقال الضحاك: صوت المزمار وذكر الغزنوي أن آدم أسكن ولد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله.وفيهم بنات حسان، فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا. وقيل: الصوت هنا الوسوسة. وقرأ الحسن {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم }بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثياً، والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن جنسه قاله قتادة، والخيل تطلقعلى الأفراس حقيقة وعلى أصحابها مجازاً وهم الفرسان، ومنه: يا خيل الله اركبي، والباء في {بِخَيْلِكَ } قيل زائدة. وقيل:من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانهم على غيرهم قاله مجاهد. وقال ابن عطية: وقوله {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}. وقيل: هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك وابلغ جهدك انتهى. وقال أبو علي ليس للشيطان خيل ولا رجل ولاهو مأمور إنما هذا زجر واستخفاف به كما تقول لمن تهدده اذهب فاصنع ما شئت واستعن بما شئت. وقال الزمخشري:فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسلطهعلى من يغويه بمغوار أوقع على قم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، واجلب عليهم بجنده منخيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى. وقرأ الجمهور: {وَرَجِلِكَ } بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحد راجل كركب وراكب،وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية وحفص بكسر الجيم. قال صاحب اللوامح بمعنى الرجال. وقال ابن عطية هي صفة يقالفلان يمشي رَجِلاً أي غير راكب ومنه قول الشاعر:

رجلاً إلاّ بأصحاب    

وقال الزمخشري: وقرىء {وَرَجِلِكَ } على أنفعلاً بمعنى فاعل نحو تعب وتاعب، ومعناه وجمعك الرجل وتضم جيمه أيضاً فيكون مثل حدث وحدثُ وندس وندس وأخوات لهماانتهى. وقرأ قتادة وعكرمة ورجالك. وقرىء: ورجل لك بضم الراء وتشديد الجيم والمشاركة في الأموال. قال الضحاك: ما يذبحون لآلهتهموقتادة البحيرة والسائبة. وقيل: ما أصيب من مال وحرام. وقيل: ما جعلوه من أموالهم لغير الله. وقيل: ما صرف فيالزنا والأولى ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه والمشاركة في الأولاد. قال ابن عباس: تسميتهم عبدالعزّى وعبد اللات وعبد الشمس وعبد الحارث، وعنه أيضاً ترغيبهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية. وعنه أيضاً إقدامهم على قتلالأولاد قال الحسن وقتادة. وما مجسّوه وهوّدوه ونصروه وصبغوهم غير صبغة الإسلام. وقال مجاهد: عدم التسمية عند الجماع فالجان ينطويإذ ذاك على إحليله فيجامع معه. وقيل ترغيبهم في القتال والقتل وحفظ الشعر المشتمل على الفحش، والأولى أنه كل تصرّففي الولد يؤدي إلى ارتكاب منكر وقبيح، وأما وعده فهو الوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث وهذه مشاركة في النفوس.وقال الزمخشري: {وَعَدَّهُمْ } المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرةالذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حميماً،وإيثار العاجل على الآجل انتهى. وهو جاء على مذهب المعتزلة في أنه لا تغفر الذنوب بدون التوبة، وبأنه لا شفاعةفي الكبائر، وبأنه لا يخرج من النار أبداً من دخلها من فاسق مؤمن. وانتصب {غُرُوراً } وهو مصدر على أنهوصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله أي {وَمَا* يَعِدُكُمُ } ويمنيكم ما لا يتم ولا يقع إلاّ لأن يغركم، والإضافة إليه تعالى في {إِنَّ عِبَادِى } إضافةتشريف، والمعنى المختصين بكونهم {عِبَادِى } لا يضافون إلى غيري كما قال في مقابلهم أولياؤهم الطاغوت وأولياء الشيطان. وقيل:ثم صفة محذوفة أي {إِنَّ عِبَادِى } الصالحين، ونفى السلطان وهو الحجة والاقتدار على إغوائهم عن الإيمان ويدل على لحظالصفة قوله

{ إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ }

. وقال الجبائي: {عِبَادِى } عام في المكلفين، ولذلك استثنى منه في أيمن اتبعه في قوله

{ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ }

واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة علىتخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم، ومعنى {وَكِيلاً }حافظاً لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو {وَكِيلاً } يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه.{رَّبُّكُمُ ٱلَّذِى يُزْجِى لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِى ٱلْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِىٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّـٰكُمْ إِلَى ٱلْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ }. لما ذكرتعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته وستويلهذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء، فذكر إحسانه إليهم بحراًوبراً، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده. وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف، وذلك من رحمتهبعباده وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو. والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح، ومعنى{ضَلَّ } ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلهاً فيشفع أو ينفع، أو {ضَلَّ } من تعبدونه إلاّ الله وحده فتفردونهإذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلاّ هو ولا يرجون لكشف الضر غيره. ثم ذكر حالهم إذكشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق، وجاءت صفة {كَفُورًا } دلالة على المبالغة، ثم لم يخاطبهمبذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفاً بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدّي شكر نعم الله.وقال الزجاج: المراد بالإنسان الكفار، والظاهر أن {إِلاَّ إِيَّاهُ } استثناء منقطع لأنه لم يندرج من قوله {مَن تَدْعُونَ} إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله. وقيل: هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل منيلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم، وفي هذه الحالة لا يلجؤون إلاّ إلى الله والهمزة في{أَفَأَمِنتُمْ } للإنكار. قال الزمخشري: والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم انتهى. وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أنالفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك،وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير، وأن التقديرفأمنتم. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة والخطاب للسابق ذكرهم أي {أَفَأَمِنتُمْ } أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذينجاكم، وانتصب {جَانِبٍ } على المفعول به بنخسف كقوله

{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلاْرْضَ }

والمعنى أن تغيره بكم فتهلكون بذلك.وقال الزمخشري: أن نقلبه وأنتم عليه. وقال الحوفي: {جَانِبَ ٱلْبَرّ } منصوب على الظرف، ولما كان الخسف تغييباً فيالتراب قال: {جَانِبَ ٱلْبَرّ } و {بِكُمْ } حال أي نخسف {جَانِبَ ٱلْبَرّ } مصحوباً بكم. وقيل: الباء للسبب أيبسببكم، ويكون المعنى {جَانِبَ ٱلْبَرّ } الذي أنتم فيه، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلاّ فلا يلزم من خسف {جَانِبَ ٱلْبَرّ }بسببهم إهلاكهم. قال قتادة: الحاصب الحجارة. وقال السدّي: رام يرميكم بحجارة من سجيل، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة فإنكان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغويرالأرض بكم، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم {لاَ تَجِدُواْ } عند حلول أحدهذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم. و {أَمْ } في {أَمْ أَمِنتُمْ } منقطعة تقدربيل، والهمزة أي بل {أَمِنتُمْ } والضمير في {فِيهِ } عائد على البحر، وانتصب تارة على الظرف أي وقتاً غيرالوقت الأول، والباء في {بِمَا كَفَرْتُمْ } سببية وما مصدرية، أي بسبب كفركم السابق منكم، والوقت الأول الذي نجاكم فيهأو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائماً. والضمير في {بِهِ } عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم، إذ هو أقربمذكور وهو نتيجة الإرسال. وقيل عائد على الإرسال. وقيل: عليهما فيكون كاسم الإشارة والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق. والتبيعقال ابن عباس: النصير، وقال الفراء: طالب الثأر. وقال أبو عبيدة: المطالب. وقال الزجّاج: من يتبع بالإنكار ما نزل بكم،ونظيره قوله تعالى

{ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَـٰهَا }

وفي الحديث: إذا اتّبع أحدكم على ملىء فليتبع . وقال الشماخ:

كما لاذ الغريم من التبيع    

ويقال: فلان على فلان تبيع، أي مسيطر بحقه مطالب به. وأنشد ابن عطية:

غدوا وغدت غزلانهم فكأنها     ضوامن غرم لدهن تبيع

أي مطالب بحقه. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: ونخسف وأونرسل وأن نعيدكم وفنرسل وفنغرقكم خمستها بالنون، وباقي القراء بياء الغيبة ومجاهد وأبو جعفر فتغرقكم بناء الخطاب مسنداً إلى الريحوالحسن وأبو رجاء {فَيُغْرِقَكُم } بياء الغيبة وفتح الغين وشد الراء، عدّاه بالتضعيف، والمقري لأبي جعفر كذلك إلاّ أنه بتاءالخطاب، وحميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف، ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن. وقرأ الجمهور: {مّنَ ٱلرّيحِ }بالإفراد وأبو جعفر من الرياح جمعاً.

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } * { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } * { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } * { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } * { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } * { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } * { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } * { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } * { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } * { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } * { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } * { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }[عدل]

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْعَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً * يَوْمَ نَدْعُواْ * كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَءونَ كِتَـٰبَهُمْ وَلاَيُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ * فِيهِ * هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِى ٱلاْخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً }. لما ذكرتعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهموتفضيلهم، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمهويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرمأي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة، كما تقول: ثوب كريم وفر كريم أي جامع للمحاسن. وليس من كرمالمال. وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلككما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق. وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلمبالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم. وعن ابن جرير بالتسليطعلى غيره من الخلق وتسخيره له. وقيل: بالخط. وقيل: باللحية للرجل والذؤابة للمرأة. وعن ابن عباس: بأكله بيده وغيرهبفمه. وقيل: بتدبير المعاش والمعاد. وقيل: بخلق الله آدم بيده. قال ابن عطية: وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضلبنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل، وشجاعة الأسد، وكرم الديك. قال: وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذييملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى. {وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } وهذاأيضاً من تكريمهم. قال ابن عباس: في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل، وفي البحر على السفن. وقال غيره: علىأكباد رطبة وأعواد يابسة. {وَٱلطَّيّبَـٰتُ } كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنهيكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالباً إلا لحماًنيئاً وطعاماً غير مركب، والظاهر أن كثيراً باق على حقيقته، فقالت طائفة: فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيلوعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس. وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج. وقال ابن عطية: والحيوانوالجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول. وقالت فرقة: الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيثهم المستثنون، وقد قال تعالى

{ وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ }

وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل بين الإنس والجن لمتعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى.وقال الزمخشري: {عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا } هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وحسب بني آدم {تَفْضِيلاً }أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتىجسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، ثم ذكر تشنيعاً أقذع فيه يوقف عليه من كتابه. وقيل:{وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ } بالغلبة والاستيلاء. وقيل: بالثواب والجزاء يوم القيامة، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيهبين الإنس والملائكة. وقيل: المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع، والعرب تفعل ذلك وهو القول لا ينبغي أن يقالهنا لأنك لو جعلت جميعاً كان بكثير، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائياً عن الفصاحة، ولا يليق أن يحملكلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد منكلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها. ولما ذكرتعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ } واختلفوافي العامل في {يَوْمٍ }. فقيل: العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو. وقيل: فتستجيبون. وقيل: هو بدل منيوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف. وقالالحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول. وقال ابنعطية أيضاً بعد قوله هو ظرف: والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله {وَلاَ يُظْلَمُونَ }، وحكاه أبو البقاءوقدره {وَلاَ يُظْلَمُونَ } يوم ندعو. وقال ابن عطية أيضاً: ويصح أن يعمل فيه {وَفَضَّلْنَـٰهُمْ } وذلك أن فضل البشريوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذأخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً. وقال ابن عطية أيضاً: ويصح أن يكون {يَوْمٍ }منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله{فَمَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ } إلى قوله {وَمَن كَانَ } انتهى. وقوله منصوباً على البناء كل ينبغي أن يقول مبنياً علىالفتح، وقوله: لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل،وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه، وهذا الوجه الذيذكره هو على رأي الكوفيين. وأما قوله: والخبر في التقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدرمحذوفاً، فقد يمكن أي ممن {أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ } فيه {بِيَمِينِهِ } وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف. وقال بعضالنحاة: العامل فيه {وَفَضَّلْنَـٰهُمْ } على تقدير {وَفَضَّلْنَـٰهُمْ } بالثواب، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنهقبل. وقال الزجاج: هو ظرف لقوله ثم لا تجد. وقال الفراء: هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم {يَوْمَ نَدْعُواْ} والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة. وقرأ الجمهور: {*ندعو} بنون العظمة، ومجاهد يدعوبياء الغيبة أي يدعو الله، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول {وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ } مرفوع به، وفيماذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول: أفعو في الوقف على أفعى، وإجراء الوصلمجرى الوقف وكل مرفوع به، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفتفي قوله:

أبيت أسرى وتبيتى تدلكي     وجهك بالعنبر والمسك الزكي

أي تبيتين تدلكين وكلبدل من واو الضمير. {*وأناس} اسم جمع لا واحد له من لفظه، والباء في {أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ } الظاهر أنها تتعلقبندعو، أي باسم إمامهم. وقيل: هي باء الحال أي مصحوبين {بِإِمَـٰمِهِمْ }. والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العاليةوالربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم. وقال الضحاك وابن زيد: كتابهم الذي نزل عليهم. وقال مجاهد وقتادة: نبيهم. قال ابن عطية:والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به. وقال الزمخشري: إمامهم من ائتموا به نبيّ أو مقدم في الدين أوكتاب أو دين، فيقال: يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتابالشر. وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمةفي الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين. وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدعأصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى. وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر،وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها {فَأُوْلَـئِكَ } جاءجمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله {أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } وقراءتهم كتبهم هوعلى سبيل التلذذ بالإطّلاع على ما تضمنتها من البشارة، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهلالسعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر:

{ هَاؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ }

ولم يأت هنا قسيم من {أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ} وهو من يؤتي كتابه بشماله، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله. {وَمَنكَانَ فِى هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ } وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من{أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } هم أهل السعادة {وَمَن كَانَفِى هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ } هم أهل الشقاوة {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل فيسورة النساء. والظاهر أن الاشارة بقوله: {فِى هَـٰذِهِ } إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي: منكان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكونعلى حذف مضاف أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجهله صواب ولا يلوح له نجح. وقال مجاهد: هو أعمى في الآخرة عن حججه. وقال ابن عباس أيضاً: {وَمَن كَانَفِى هَـٰذِهِ } النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين {أَعْمَىٰ }. وقيل:ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى {وَأَضَلُّ سَبِيلاً } لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرةلا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة. وقيل: فهو في الآخرةأعمى عن طريق الجنة. وقيل: أعمى البصر كما قال

{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا }

وقوله

{ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً }

. وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحقوالاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار. وقال ابن عطية: والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا {أَىَّ مُنقَلَبٍ* كَانَ } في دنياه {هَـٰذِهِ } وقت إدراكه وفهمه {أَعْمَىٰ } عن النظر في آيات الله فهو في يومالقيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر منيؤتى كتابه بيمينه. وإذا جعلنا قوله {فِى ٱلاْخِرَةِ } بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة الآيتين. وقال الزمخشري: والأعمىمستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما فيالآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل. ومن ثم قرأ أبو عمر والأول ممالا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله

{ أَعْمَـٰلَكُمْ }

وأماالأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى. وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشريمن أبي عليّ قال أبو عليّ: لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، و{أَعْمَىٰ } ليس كذلك لأن تقديره {أَعْمَىٰ }من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل عطف {وَأَضَلُّ سَبِيلاً }لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو {أَضَلُّ سَبِيلاً } وأشدّ حيرةوأقرب إلى العذاب، و{أَعْمَىٰ } هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا.{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْ * لاَ ٱنفِصَامَ *ثَبَّتْنَـٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَـٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا* وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلاْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَـٰفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَمِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً }. الضمير في {وَإِن كَادُواْ } قيل لقريش. وقيل لثقيف، وذكروا أسباب نزولمختلفة وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول ، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطيةوالزمخشري والتحرير وغير ذلك، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهمفي الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيامن المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة، ومعنى {لَيَفْتِنُونَكَ } ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهمقاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهمأن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيداً أو الوعيد وعداً، وما اقترحته ثقيف منأن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه و{ءانٍ } هذه هي المخففة من الثقيلة، وليتها الجملة الفعلية وهي {كَادُواْ} لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر فيعلم النحو، واللام في {لَيَفْتِنُونَكَ } هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية {وَإِذَا } حرف جواب وجزاء، ويقدر قسمهنا تكون {لآَّتَّخَذُوكَ } جواباً له، والتقدير والله {إِذَا } أي إن افتتنت وافتريت {لآَّتَّخَذُوكَ } ولا اتخذوك فى معنىليتخذونك كقوله

{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ }

أي ليظلنّ لأن {إِذَا } تقتضي الاستقبال لأنها من حيث المعنىجزاء فيقدر موضعها بأداة الشرط. وقال الزمخشري: {وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ } أي ولو اتبعت مرادهم {لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ولكنت لهمولياً، ولخرجت من ولايتي انتهى. وهو تفسير معنى لا إن {لآَّتَّخَذُوكَ } جواب لو محذوفة. قال الزمخشري: {وَلَوْ * لاَٱنفِصَامَ * ثَبَّتْنَـٰكَ } ولولا تثبيتناً لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييجمن الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة {إِذًا لأَذَقْنَـٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِوَضِعْفَ } أي {لأَذَقْنَـٰكَ } عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله {لأَذَقْنَـٰكَ }عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان، عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار،والضعف يوصف به نحو قوله تعالى:

{ فآتهم عذاباً ضعفاً من النار }

يعني مضاعفاً، فكان أصل الكلام {لأَذَقْنَـٰكَ } عذاباًضعفاً في الحياة، وعذاباً ضعفاً في الممات، ثم حذف الموصوف واقيمت الصفة مقامه وهو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف،فقيل {ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ } كما قيل{لأَذَقْنَـٰكَ } أليم الحياة وأليم الممات، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياةالدنيا، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا.وما نؤخره لما بعد الموت انتهى. وجواب {لَوْ * لا } يقتضي إذا كان مثبتاً امتناعه لوجود ما قبله،فمقاربة الركون لم تقع منه فضلاً عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاقوابن مصرف: {تَرْكَنُ } بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب {شَيْئاً } على المصدر. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك:يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنانضعفه. وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازاًواتساعاً كما تقول للرّجل: كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت. وقال ابن عباس: كان الرسول معصوماً، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام اللهتعالى وشرائعه انتهى. واللام في {لأَذَقْنَـٰكَ } جواب قسم محذوف قبل {إِذَا } أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا،والقول في {لأَذَقْنَـٰكَ } كالقول في {لآَّتَّخَذُوكَ } من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون، وممن نص علىأن اللام في {لآَّتَّخَذُوكَ } و{لأَذَقْنَـٰكَ } هي لام القسم الحوفي. وقال الزمخشري: وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع اتباعها الوعيدالشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيِّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته انتهى. ومنذلك

{ يٰنِسَاء ٱلنَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ }

الآية. قال الزمخشري: وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عنولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله انتهى. وروي أنه لما نزلت قال رسول الله : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين . قال حضرمي: الضمير في {وَإِن كَادُواْ } ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره، وذلكأنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله ، فقالوا: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياءالشام، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبياً فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت، وأخبر تعالىأنه لو خرج لم يلبثهم بعد {إِلاَّ قَلِيلاً }. وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظرأصحابه فنزلت ورجع. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليسفي طريق الشام من المدينة انتهى. وقالت فرقة: الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليهمن إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرجواتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا {إِلاَّ قَلِيلاً } يوم بدر. وقال الزجاج حاكياً أن استفزازهمما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله والأرض على هذا الدنيا. وقال مجاهد: ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لميقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش،واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال: ولو أخرجته قريش لعذبوا. ذهب مجاهد إلى أن الضمير في {يَلْبَثُونَ} لجميعهم. وقال الحسن: {لَيَسْتَفِزُّونَكَ } ليفتنونك عن رأيك. وقال ابن عيسى: ليزعجونك ويستخفونك. وأنشد:

يطيع سفيه القوم إذ يستفزه     ويعصى حليماً شيبته الهزاهز

والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه، فما وقع الاستفزازولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز، ثم جاء في القرآن

{ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِى أَخْرَجَتْكَ }

أي أخرجك أهلها. وفي الحديث: يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك قال: أو مخرجي هم الحديث فدلذلك على أنهم أخرجوه. لكن الإخراج الذي هو علة للأستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث. وقال أبو عبدالله الرازي: ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى. {وَلاَ * يَلْبَثُونَ } جواب قسممحذوف أي والله إن استفزوك فخرجت {لاَّ يَلْبَثُونَ } ولذلك لم تعمل {إِذَا } لأنها توسطت بين قسم مقدر، والفعلفلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب، ويحتمل أن تكون {لاَّ يَلْبَثُونَ } خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنىتقديره، وهم {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ * يَلْبَثُونَ } فوقعت إذاً بين المبتدأ وخبره فألغيت. وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النونأعمل إذاً فنصب بها على قول الجمهور، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفةالنون. قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوعلوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذاً لايلبثوا عطف على جملة قوله {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } انتهى. وقرأ عطاء {لاَّ يَلْبَثُونَ } بضم الياء وفتح اللام والباءمشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلاّ أنه كسر الباء. وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص {خِلَـٰفَكَ } وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد.قال الشاعر:

عفت الديار خلافهم فكأنما     بسط الشواطب بينهن حصيرا

وهذا كقوله

{ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ }

خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات. وقرأ عطاء بن أبي رباح: بعدكمكان خلفك، والأحسن أن يجعل تفسيراً لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف، فأراد أن يبين أن خلفك هناليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك. وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتهاإلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله، في نحو خلفك أي خلف إخراجك، أو جاء زيد قبلعمرو أي قبل مجيء عمرو، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد. وانتصب {سَنَةٍ } على المصدر المؤكد أيسنّ الله سنة، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولايقيمون بعده إلاّ قليلاً. وقال الفراء: انتصب {سَنَةٍ } على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف، وعلىهذا لا يقف على قوله {إِلاَّ قَلِيلاً }. وقال أبو البقاء: {سَنَةٍ } منصوب على المصدر أي سننا بكسنة من تقدم من الأنبياء، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي اتبع {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } كما قال تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } انتهى. وهذا معنى غير الأول والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها {وَلَن تَجِدَ } لماأجرينا به العادة {تَحْوِيلاً } منه إلى غيره إذ كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيماأشبهه معناه نفي الوجود.

وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً } * { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً } * { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } * { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } * { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً } * { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } * { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } * { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } * { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً } * { أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً } * { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } * { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } * { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } * { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } * { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } * { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً } * { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَٱسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } * { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً } * { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } * { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } * { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } * { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } * { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } * { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } * { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } * { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } * { وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ ٱلذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }[عدل]

الدلوك الغروب قاله الفراء وابن قتيبة، واستدل الفراء بقول الشاعر:

هذا مقام قدمي رباح     غدوة حتى دلكت براح

أي حتى غابت الشمس، وبراح اسم الشمس وأنشد ابنقتيبة لذي الرمة:

مصابيح ليست باللواتي يقودها     نجوم ولا بالآفلات الدوالك

وقيل:الدلوك زوال الشمس نصف النهار. قيل واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان تدلك عينه عند النظر إليها. وقيل الدلوك من وقتالزوال إلى الغروب. الغسق سواد الليل وظلمته. قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين. وقال النضر بن شميل:غسق الليل دخول أوله. قال الشاعر:

إن هذا الليل قد غسقا     واشتكيت الهم والأرقا

وأصله منالسيلان غسقت العين تغسق هملت بالماء والغاسق السائل، وذلك أن الظلمة تنصب على العالم. قال الشاعر:

ظلت تجوديداها وهي لاهية     حتى إذا جنح الاظلام والغسق

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق؟ قال: الليل بظلمته،ويقال غسقت العين امتلأت دماً. وحكى الفراء غسق الليل واغتسق وظلم وأظلم ودجى وأدجى وغبش وأغبش، أبو عبيدة الهاجد النائموالمصلي. وقال ابن الإعرابي: هجد الرجل صلى من الليل، وهجد نام بالليل. وقال الليث تهجد استيقظ للصلاة. وقال ابن برزحهجدته أيقظته، فعلى ما ذكروا يكون من الأضداد، والمعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم وقد هجد هجوداً نام. قالالشاعر:

ألازارت وأهل مني هجود     وليت خيالنا منا يعود

وقال آخر:               

ألا طرقتنا والرفاق هجود    

وقال الآخر:

وبرك هجود قد أثارت مخافتي    

زهقت نفسه تزهق زهوقاً ذهبت، وزهق الباطل زال واضمحل، ولم يثبت. قالالشاعر:

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها     إقدامه مزالة لم تزهق

ناء ينوء: نهض. الشاكلة الطريقة والمذهبالذي جبل عليه قاله الفراء، وهو مأخوذ من الشكل يقال لست على شكلي ولا شاكلتي، والشكل المثل والنضير، والشِكل بكسرالشين الهيئة يقال جارية حسنة الشكل. الينبوع مفعول من النبع وهو عين تفور بالماء. الكسف القطع واحدها كسفة، تقول العرب:كسفت الثوب ونحوه قطعته، وما زعم الزجاج من أن كسف بمعنى غطى ليس بمعروف في دواوين اللغة. الرُقِّي والرقى الصعوديقال: رقيت في السلم أرقى قال الشاعر:

أنت الذي كلفتني رقي الدرج     على الكلال والمشيب والعرج

خبت النار تخبو: سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة. قال الشاعر:

أمن زينب ذي النار قبيل الصبح     ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب

وقال الآخر

وسطه كاليراع أو سرج المجدلطوراً يخبو وطوراً ينير    

الثبور: الهلاك يقال: ثبر الله العدوّ ثبوراً أهلكه. وقال ابن الزبعري:

إذا جارى الشيطان في سنن الغي     ومن مال مثله مثبور

اللفيف الجماعات من قبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض. وقال بعض اللغويين: هو منأسماء الجموع لا واحد له من لفظه. وقال الطبري: هو بمعنى المصدر كقول القائل لففته لفاً ولفيفاً. المكث: التطاول فيالمدّة، يقال: مكث ومكث أطال الإقامة. الذقن مجتمع اللحيين. قال الشاعر:

فخروّا لأذقان الوجوه تنوشهمسباع من الطير العوادي وتنتف    

خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس. {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَلِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰأَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا * وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَـٰناً نَّصِيرًا* وَقُلْ جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَيَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }. ومناسبة {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم للرسول وما كانوايرومون به، أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم، وكان قد تقدّم القولفي الإلهيات والمعاد والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدّم الكلام في إقامة الصلاة والمواجهبالأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. واللام في {لِدُلُوكِ } قالوا: بمعنى بعد أي بعد دلوك {ٱلشَّمْسَ } كما قالوا ذلكفي قوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً:

فلما تفرّقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً

أي بعد طول اجتماع ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا. وقال الواحدي: اللام للسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس،فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس. قال ابن عطية: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } الآية هذه بإجماع من المفسرين إشارة إلىالصلوات المفروضة. فقال ابن عمر وابن عباس وأبو بردة والحسن والجمهور: دلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليلإشارة إلى المغرب والعشاء {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } أريد به صلاة الصبح، فالآية على هذا تعم جميع الصلوات. وروي ابن مسعودأن النبيّ قال: أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر . وروي جابرأن النبيّ خرج من عنده وقد طعم وزالت الشمس، فقال: أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس . وقال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن أسلم: دلوك الشمس غروبها والإشارة بذلك إلى المغرب {قُمِ ٱلَّيْلَ }ظلمته فالإشارة إلى العتمة {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } صلاة الصبح، ولم تقع إشارة على هذا التأويل إلى الظهر والعصر انتهى. وعنعليّ أنه الغروب، وتتعلق اللام وإلى بأقم، فتكون إلى غاية للإقامة. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الصلاة قال:أي ممدودة ويعني بقرآن الفجر صلاة الصبح، وخصت بالقرآن وهو القراءة لأنه عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها، وانتصب {أَقِمِٱلصَّلَوٰةَ } عطفاً على {ٱلصَّلَوٰةِ }. وقال الأخفش: انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } أو عليك {أَقِمِٱلصَّلَوٰةَ } انتهى. وسميت صلاة الصبح ببعض ما يقع فيها. وقال الزمخشري: سميت صلاة الفجر قرآناً وهي القراءة لأنها ركنكما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً وهي حجة عليّ ابن أبي علية. والأضم في زعمهما أن القراءة ليست بركن انتهى. وقيل:إذا فسرنا الدلوك بزوال الشمس كان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إذا غييت الإقامة بغسق الليل، ويكون الغسق وقتاً مشتركاًبين الغرب والعشاء، ويكون المذكور ثلاثة أوقات: أول وقت الزوال، وأول وقت المغرب، وأول وقت الفجر انتهى، والذي يدل عليهظاهر اللفظ أنه أمر بإقامة الصلاة إما من أول الزوال إلى الغسق، وبقرآن الفجر، وإما من الغروب إلى الغسق وبقرآنالفجر، فيكون المأمور به الصلاة في وقتين ولا تؤخذ أوقات الصلوات الخمس من هذا اللفظ بوجه. وقال أبو عبدالله الرازي في قوله {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } دلالة على أن الصلاة لا تتم إلاّ بالقراءة لأن الأمر على الوجوب، ولاقراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة ومن قال معنى {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } صلاة الفجر غلط لأنه صرف الكلامعن حقيقته إلى المجاز بغير دليل، ولأن في نسق التلاوة {وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ويستحيل التهجد بصلاةالفجر ليلاً. والهاء في {بِهِ } كناية عن {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } المذكور قبله، فثبت أن المراد حقيقة القرآن لا مكانالتهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد في الليل بصلاة الفجر، وعلى أنه لو صح أن يكون المراد ماذكروا لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة لأنه لم تجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانهاانتهى. وفيه بعض تلخيص والظاهر ندبية إيقاع صلاة الصبح في أول الوقت لأنه مأمور بإيقاع قرآن الفجر، فكان يقتضي الوجوبأول طلوع الفجر، لكن الإجماع منع من ذلك فبقي الندب لوجود المطلوبية، فإذا انتفى وجوبها بقي ندبها وأعاد {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ} في قوله {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ } ولم يأت مضمراً فيكون أنه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى {مَشْهُودًا} تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث: إنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر . وهذاقول الجمهور. وقيل يشهده الكثير من المصلين في العادة. وقيل: من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة. قال الزمخشري: ويجوز أنيكون {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مكثوراً عليها ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولذلككانت الفجر أطول الصلوات قراءة انتهى. ويعني بقوله حثاً أن يكون التقدير وعليك {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ } أو والزم. وقالمحمد بن سهل بن عسكر: {مَشْهُودًا } يشهده الله وملائكته، وذكر حديث أبي الدرداء أنه تعالى ينزل في آخر الليلولأبي عبد الله الرازي كلام في قوله {مَشْهُودًا } على عادته في تفسير كتاب الله على ما لا تفهمه العرب،والذي ينبغي بل لا يعدل عنه ما فسره به الرسول من قوله فيه: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار . وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح. ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالىإياه على اختصاصه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع.فقال: {وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي بالقرآن في الصلاة {نَافِلَةً } زيادة مخصوصاً بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنىالإزالة والترك، كقولهم: تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث، ومنه تحنثت بغار حراء أي بترك التحنث، وشرح بلازمه وهو التعبد {وَمِنْ} للتبعيض. وقال الحوفي: {مِنْ } متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن، قال: ويجوز أنيكون التقدير وقم بعد نومة من الليل. وقال ابن عطية {وَمِنْ } للتبعيض التقدير وقتاً من الليل أي وقم وقتاًمن الليل. وقال الزمخشري: {وَمِنَ ٱلَّيْلِ } وعليك بعض الليل {فَتَهَجَّدْ بِهِ } والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى. فإن كانتفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقرب، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكونحرفاً، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسماً ولا قائلبذلك، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع، والظاهر أن الضمير في {بِهِ } يعودعلى القرآن لتقدّمه في الذكر، ولا تلحظ الإضافة فيه والتقدير {فَتَهَجَّدْ } بالقرآن في الصلاة. وقال ابن عطية: والضمير في{بِهِ } عائد على وقت المقدر في وقم وقتاً من الليل انتهى. فتكون الباء ظرفية أي {فَتَهَجَّدْ } فيه وانتصب{نَافِلَةً }. قال الحوفي: على المصدر أي نفلناك نافلة قال: ويجوز أن ينتصب {نَافِلَةً } بتهجد إذا ذهبت بذلك إلىمعنى صل به نافلة أي صل نافلة لك. وقال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: هو مصدر بمعنى تهجد أيتنفل نفلاً و{نَافِلَةً } هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى. وهو حال من الضمير في {بِهِ} ويكون عائداً على القرآن لا على وقت الذي قدره ابن عطية. وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود والحجاجبن عمرو: التهجد بعد نومة. وقال الحسن: ما كان بعد العشاء الآخرة. وقال ابن عباس: {نَافِلَةً } زيادة لك فيالفرض وكان قيام الليل فرضاً عليه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون على جهة الندب في التنفل والخطاب له والمرادهو وأمته كخطابه في {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ }. وقال مجاهد السدّي: إنما هي نافلة له قد غفر له ما تقدم منذنبه وما تأخر عام الحديبية، فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته لأن هذه أعنينوافل أمته إما أن يجبر بها فرائضهم، وإما أن يحط بها خطيئاتهم. وضعف الطبري قول مجاهد واستحسنه أبو عبد اللهالرازي. وقال مقاتل فله كرامة وعطاء لك. وقيل: كانت فرضاً ثم رخص في تركها. ومن حديث زيد بن خالد الجهني:رمق صلاته علىه الصلاة والسلام ليلة فصلى بالوتر ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة: أنه ما كان يزيد في رمضان ولافي غيره على إحدى عشرة ركعة. و{عَسَى } مدلولها في المحبوبات الترجي. فقيل: هي على بابها في الترجي تقديرهلتكن على رجاء من {أَن يَبْعَثَكَ }. وقيل هي بمعنى كي، وينبغي أن يكون هذا تفسير معنى، والأجود أن أنهذه الترجية والإطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله: {فَتَهَجَّدْ } {وَعَسَى } هنا تامةوفاعلها {أَن يَبْعَثَكَ }، و{رَبَّكَ } فاعل بيبعثك و{مَقَاماً } الظاهر أنه معموله ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعللأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره. وقال ابن عطية: منصوب على الظرف أي في مقاممحمود. وقيل: منصوب على الحال أي ذا مقام. وقيل: هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم {مَقَاماً } ولا يجوز أنتكون {عَسَى } هنا ناقصة، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون {رَبَّكَ } مرفوعاً اسم {عَسَى } و{أَن يَبْعَثَكَ } الخبرفي موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير. وأما في قبله فلا يجوز لأن {مَقَاماً } منصوب بيبعثك و{رَبَّكَ} مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معمول. وهو لا يجوز. وفي تفسير المقام المحمودأقوال. أحدهما: أنه في أمر الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء حتى تنتهي إليه ، والحديث في الصحيحوهي عدة من الله تعالى له عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الشفاعة يحمده أهل الجمع كلهم وفي دعائه المشهور: وابعثه المقام المحمود الذي وعدته واتفقوا على أن المراد منه الشفاعة. الثاني: أنه في أمر شفاعته لأمته في إخراجه لمذنبهممن النار، وهذه الشفاعة لا تكون إلاّ بعد الحساب ودخول الجنة ودخول النار، وهذه لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفعالعلماء. وقد روي حديث هذه الشفاعة وفي آخره: حتى لا يبقى في النار إلاّ من حبسه القرآن أي وجب عليهالخلود. قال: ثم تلا هذه الآية {عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا }. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي فظاهر هذا الكلام تخصيص شفاعته لأمته، وقد تأوله من حمل ذلك علىالشفاعة العظمى التي يحمده بسببها الخلق كلهم على أن المراد لأمته وغيرهم أو يقال إن كل مقام منهما محمود.الثالث: عن حذيفة: يجمع الله الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعوّ محمد ، فيقول: لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجأ ولا منجى إلا إليك، تباركت وتعاليتسبحانك رب البيت. قال: فهذا قوله {عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا }. الرابع قال الزمخشري: معنى المقام المحمودالمقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات انتهى.وهذا قول حسن ولذلك نكر {مَقَاماً مَّحْمُودًا } فلم يتناول مقاماً مخصوصاً بل كل مقام محمود صدق عليه إطلاق اللفظ.الخامس: ما قالت فرقة منها مجاهد وقد روي أيضاً عن ابن عباس أن المقام المحمود هو أن يجلسه اللهمعه على العرش. وذكر الطبري في ذلك حديثاً وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديثفهو عندنا متّهم ما زال أهل العلم يحدّثون بهذا. قال ابن عطية: يعني من أنكر جوازه على تأويله. وقال أبوعمرو ومجاهد: إن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا والثاني في تأويل

{ إِلَىٰ * بِهَا * نَاظِرَةٌ }

قال: تنتظر الثواب ليس من النظر، وقد يؤوّل قوله معه على رفع محله وتشريفهعلى خلقه كقوله

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ }

وقوله

{ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً }

و

{ إِنَّ ٱللَّهَ * لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

كل ذلك كناية عن المكانة لا عن المكان. وقال الواحدي: هذا القول مروي عن ابن عباس وهو قول رذلموحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه. الأول: أن البعث ضد الإجلاسبعثت التارك وبعث الله الميت أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد. الثاني: لو كان جالساً تعالىعلى العرش لكان محدوداً متناهياً فكان يكون محدثاً. الثالث: أنه قال {مَقَاماً } ولم يقل مقعداً {مَّحْمُودًا }، والمقامموضع القيام لا موضع القعود. الرابع: أن الحمقى والجهال يقولون إن أهل الجنة يجلسون كلهم معه تعالى ويسألهم عنأحوالهم الدنيوية فلا مزية له بإجلاسه معه. الخامس: أنه إذا قيل بعث السلطان فلاناً لا يفهم منه أجلسه معنفسه انتهى. وفيه بعض تلخيص. ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بعثه {مَقَاماً مَّحْمُودًا } وذلك في الآخرةأمره بأن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية، فقال {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } والظاهر أنهعام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية، والصدق هنا لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول: رجل صدق إذهو مقابل رجل سوء. وقال ابن عباس والحسن وقتادة: هو إدخال خاص وهو في المدينة، وإخراج خاص وهو من مكة.فيكون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع، ومكان الواو هو الأهم فبدىء به. وقال مجاهد وأبو صالح: ما معناهإدخاله فيما حمله من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤدّياً لما كلفه من غير تفريط. وقال الزمخشري: أدخلني القبر{مُدْخَلَ صِدْقٍ } إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً منالسخط، يدل عليه ذكره على ذكر البعث. وقيل: إدخاله مكة ظاهراً عليها بالفتح، وإخراجه منها آمناً من المشركين. وقال محمدبن المنكدر: إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. وقيل: الإخراج من المدينة والإدخال مكة بالفتح. وقيل: الإدخال في الصلاة والإخراج فيالجنة والإخراج من مكة. وقيل: الإدخال فيما أمر به والإخراج مما نهاه عنه. وقيل: {أَدْخِلْنِى } في بحار دلائل التوحيدوالتنزيه، {وَأَخْرِجْنِى } من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في آثار محدثاته إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد. وقالأبو سهل: حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون:

{ لَيُخْرِجَنَّ ٱلاْعَزُّ مِنْهَا ٱلاْذَلَّ }

يعني إدخال عز وإخراج نصر إلىمكة، والأحسن في هذه الأقوال أن تكون على سبيل التمثيل لا التعيين، ويكون اللفظ كما ذكرناه يتناول جميع الموارد والمصادر.وقرأ الجمهور: {مُدْخَلَ } و{مُخْرَجَ } بضم ميمهما وهو جار قياساً على أفعل مصدر، نحو أكرمته مكرماً أيإكراماً. وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما. وقال صاحب اللوامح: وهما مصدران من دخل وخرج لكنهجاء من معنى {أَدْخِلْنِى } {وَأَخْرِجْنِى } المتقدمين دون لفظهما ومثلهما

{ أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ نَبَاتاً }

ويجوز أن يكونا اسمالمكان وانتصابهما على الظرف، وقال غيره: منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي {أَدْخِلْنِى } فأدخل {مُدْخَلَ صِدْقٍ } {وَأَخْرِجْنِى }فأخرج {مُخْرَجَ صِدْقٍ }. والسلطان هنا قال الحسن: التسليط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود. وقال قتادة: ملكاًعزيزاً تنصرني به على كل من ناواني. وقال مجاهد: حجة بينة. وقيل: كتاباً يحوي الحدود والأحكام. وقيل: فتح مكة. وقيل:في كل عصر {سُلْطَـٰناً } ينصرك دينك و{نَصِيراً } مبالغة في ناصر. وقيل: فعيل بمعنى مفعول، أي منصوراً، وهذه الأقوالكلها محتملة لقوله {سُلْطَـٰناً نَّصِيرًا } وروي أنه تعالى وعده ذلك وأنجزه له في حياته وتممه بعد وفاته. قال قتادة:و{ٱلْحَقّ } القرآن و{ٱلْبَـٰطِلُ } الشيطان. وقال ابن جريج: الجهاد و{ٱلْبَـٰطِلُ } الشرك. وقيل: الإيمان والكفر. وقال مقاتل: جاءت عبادةالله وذهبت عبادة الشيطان، وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يومفتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة حسبما ذكر في السير. و{زَهُوقًا } صفة مبالغة في اضمحلاله وعلمثبوته في وقت مّا. و{مِنْ } في {مِن ثُلُثَىِ } لابتداء الغاية. وقيل للتبعيض قاله الحوفي: وأنكر ذلك لاستلزامهأن بعضه لا شفاء فيه ورد هذا الإنكار لأن إنزاله إنما هو مبعض. وقيل: لبيان الجنس قاله الزمخشري وابن عطيةوأبو البقاء، وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه. وقرأالجمهور: و{نُنَزّلُ } بالنون ومجاهد بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص. وقرأ زيد بن عليّ: {شِفَاء وَرَحْمَةٌ } بنصبهما ويتخرجالنصب على الحال وخبر هو قوله {لِلْمُؤْمِنِينَ } والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظيره قراءة من قرأ

{ وَٱلسَّمَـٰوٰتُ مَطْوِيَّـٰتٌ بِيَمِينِهِ }

بنصب مطويات. وقول الشاعر:

رهط ابن كوز محقي أدراعهم     فيهم ورهط ربيعة بن حذار

وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش ، ومن منع جعلهمنصوباً على إضمار أعني وشفاؤه كونه مزيلاً للريب كاشفاً عن غطاء القلب بفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه،فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام. وقيل: شفاء بالرقى والعوذ كما جاء في حديث الذي رقي بالفاتحة من لسعة العقرب.واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح بهالمريض أو يسقاه، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد. وعن عائشة: كانت تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أنيصب على المريض. وقال أبو عبد الله المازني: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، سميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبهماأي تحل، ومنعها الحسن والنخعي. وروي أبو داود من حديث جابر أن الرسول قال وقد سئلعن النشرة: هي من عمل الشيطان . ويحمل ذلك على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة الرسول، والنشرةمن جنس الطب في غسالة شيء له فضل. وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالىعلى أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل بهشيء من العين أما بعد نزول البلاء فيجوز رجاء الفرج والبرء والمرض كالرقى المباحة التي وردت السنة بها من العينوغيرها. وقال ابن المسيب: يجوز تعليق العوذة في قصبة أو رقعة من كتاب الله ويضعه عند الجماع وعند الغائط، ورخصالباقر في العوذة تعلق على الصبيان وكان ابن سيرين لا يرى بأساً بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان. وخسار الظالمينوهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه وتدبر معانيهإيماناً. {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَـٰنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ كَانَ يَئُوساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْأَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً * وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً* وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّفَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا }. لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسارة للظالم،وعرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، ومع ذلك {أَعْرَضَ } عنه وبعد بجانبه اشمئزازاً لهوتكبراً عن قرب سماعه وتبديلاً مكان شكر الإنعام كفره. وقرأ الجمهور: {وَنَأَى } من النأي وهو البعد، وقرأ ابن عامروناء. وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد. وقيل: معناه نهض بجانبه. وقال الشاعر:

حتى إذا ما التأمت مفاصله     وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئاً على شماله. ومعنى {*يؤوساً} قنوطاً من أن ينعم الله عليه.والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحداً بعينه بل المراد به الجنس كقوله

{ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ }

{ إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعاً }

الآية وهو راجع لمعنى الكافر، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأيالجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين. والشاكلة قال ابن عباس: ناحيته. وقال مجاهد: طبيعته. وقال الضحاك: حدّته. وقال قتادةوالحسن: نيته. وقال ابن زيد: دينه. وقال مقاتل: خلقه وهذه أقوال متقاربة. وقال الزمخشري: على مذهب الذي يشاكل حاله فيالهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه، والدليل عليه قوله {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰسَبِيلاً } أي أشد مذهباً وطريقة. وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: لم أر في القرآن آيةأرجى من التي فيها

{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ }

قدم الغفران قبل قبول التوبة. وعن عثمان رضي الله عنه لمأر آية أرجى من

{ نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }

. وعن عليّ كرّم الله وجهه ورضي عنه لم أرآية أرجى من

{ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ }

الآية. قالوا ذلك حين تذاكرواالقرآن. وعن القرطبي: لم أر آية أرجى من

{ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ }

الآية. وقال أبو عبدالله الرازي: الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدرة ظلمانية يظهرفيها من القرآن ضلال ونكال انتهى. وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: إني مع رسول الله صلىالله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكىء على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقال: سلوه عن الروح فقالبعضهم: لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت ثم ماجفأمسكت بيدي على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه {وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } الآية. وروي أن يهود قالوا لقريش:سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كلهأو لم يجب في شيء فهو كذاب، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي. وفي بعض طرقهذا: إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية

{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْكَهْفِ }

ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ }

ونزل في الروح {وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ} والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية، والروح على قول الجمهور هنا الروحالتي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر. وقال قتادة: هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه. وقيل:عيسى ابن مريم عليه السلام وعن عليّ أنه ملك، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن عليّ.وقيل: الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده. وقيل: خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وقيل: الروح جندمن جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي. وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهمأيد وأرجل، ولا ينزل ملك من السماء إلاّ ومعه واحد منهم، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول، والظاهر أنهم سألواعن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلاّالله. وقد رأيت كتاباً يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله {قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْأَمْرِ رَبّى } إنما هو للعوام، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة، وذهبكفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولاً، وكذلك اختلفواهل الروح النفس أم شيء غيرها، ومعنى {مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي فعل ربي كونها بأمره، وفي ذلك دلالة علىحدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى

{ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ }

أي فعله، ويحتمل أن يكون أمراً واحداً الأموروهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها. وقيل: من وحي ربي، وكلامه ليس من كلامالبشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن. وقيل: من علم ربي والظاهر أن الخطاب في {وَمَا أُوتِيتُم} هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود. وقيل اليهود بجملتهم. وقيل الناس كلهم. قال ابن عطية:وهذا هو الصحيح لأن قوله {قُلِ ٱلرُّوحُ } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالىلا يتناهى. وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش: وما أوتوا بضمير الغيبة عائداً على السائلين، ولما ذكر تعالى ما أنعمبه من تنزيل القرآن على رسوله شفاء ورحمة وقدرته على ذلك، ذكر قدرته على أنه لوشاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنّا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه.وقال أبو سهل: هذا تهديد لغير الرسول بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتواكعلم الروح وعلم الساعة. وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلةفيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب، ثم قرأ عبد الله {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }. وقال صاحبالتحرير: ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه لما أبطأ عليه الوحيلما سُئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية، فأنزل الله تعالى تهذيباً له هذه الآية. ويكون التقدير أيعزعليك تأخر الوحي فإنّا لو شئنا ذهبنا بما {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } جميعه فسكت النبي وطاب قلبهولزم الأدب انتهى. والباء في {لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِى } للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله

{ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ }

فيأوائل سورة البقرة. والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا إليك. وقيل كفيلاً بإعادته إلى الصدور. وقيل كفيلاً يضمن لكأن يؤتيك ما أخذ منك. وقال الزمخشري: والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثراًوبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً{إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناءالمنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنةفي تنزيله وتحفيظه انتهى. وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية. قال ابن الأنباري: لكن رحمة من ربكتمنع من أن تسلب القرآن، وقال في زاد المسير المعنى لكن الله يرحمك فأثبت ذلك في قلبك. وقال ابن عطية:لكن {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلاً جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قولهتعالى {وَكِيلاً }. {قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }. لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهرقدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآنالذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكراً إلى آخر الدهر ورفع لهقدراً به في الدنيا والآخرة، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأنيكونوا أعجز عن {أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ } جميعه، ولو تعاون الثقلان عليه {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ } الجنّ تفعلأفعالاً مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ فيالعجز، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله

{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً }

وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس، ويحتمل أن يكون ذكرالجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معاً لذلك. وروي أن جماعة من قريشقالوا لرسول الله : جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا،فنزلت {وَلاَ يَأْتُونَ } جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في {لَئِنْ } وهي الداخلة على الشرط كقوله

{ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ }

فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط، ولذلك جاء مرفوعاً. فأماقول الأعشى:

لئن منيت بنا عن غب معركة     لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل

فاللام في {لَئِنْ }زائدة وليست موطئة لقسم قبلها. فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمعالقسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط، ومذهب البصريين يحتمالجواب للقسم خاصة. وذكر ابن عطية هنا فصلاً حسناً في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته. قال: وفهمت العرب بخلوص فهمها فيميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناسبعدهم استدلالاً ونظراً ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى اللهعليه وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين، وفهمإعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة فيقول الفرزدق:

علام تلفتين وأنت تحتي    

وفي قول جرير:

تلفت إنها تحت ابن قين    

وألا ترى قول الأعرابي: عز فحكمفقطع، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله

{ حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ }

فقال: إن الزيارة تقتضي الإنصراف، ومنه علمبشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت    

ومنه قول الأعرابي للأصمعي:

من أحوج الكريم أن يقسم    

فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشفالحرم. وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى. ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قولهوالعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ الله عز وجل والبشرمقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا. وقال الزمخشري: {وَلاَ يَأْتُونَ} جواب قسم محذوف، ولو لا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط. كقوله:

يقول لا غائب مالي ولا حرم    

لأن الشرط وقع ماضياً انتهى. يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت:

وإن أتاه خليل يوم مسألة    

فأتاه فعل ماض دخلتعليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول: وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه،وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أنيكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبردأنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام علىهذه المذاهب مذكور في علم النحو. وقال الزمخشري: والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنهمعجز، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه، والمحال الذي لا مجالللقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز، ولو قيل ذلكلجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا: هو قادر على المحال فإن رأسمالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى. وتكرر لفظ مثل في قوله: {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } على سبيل التأكيد والتوضيح، وأن المرادمنهم {أَن يَأْتُواْ } بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه، فبين بتكرار {بِمِثْلِهِ } ولم يكنالتركيب {لاَ يَأْتُونَ } به رفعاً لهذا الاحتمال، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن. ولماذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب منالأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرينبه وبنعمه. وقرأ الجمهور: {صَرَفْنَا } بتشديد الراء والحسن بتخفيفها، والظاهر أن مفعول {صَرَفْنَا } محذوف تقديره البينات والعبر و{مِنْ } لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد {صَرَفْنَا } {كُلّ مَثَلٍ } انتهى.يعني فيكون مفعول {صَرَفْنَا } {كُلّ مَثَلٍ } وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين،والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى. وقالالزمخشري: {مِن كُلّ مَثَلٍ } من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقال أبو عبد الله الرازي: {مِن كُلّمَثَلٍ } إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله

{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ }

ومع ظهور عجزهم أبو {إِلاَّ كُفُورًا } انتهى ملخصاً. وقيل: {مِن كُلّ مَثَلٍ } من الترغيب والترهيبوأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس. قيل: من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب. وقيل: أهلمكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } وتقدم القول في دخول {إِلا }بعد {أَبَىٰ } في سورة براءة. وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديدقريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ ، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أنيوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى، فقال: «لست أطلب ذلك». فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا،ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن {قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ } فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه،وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج، فقالوا ما حكاهالله عنهم. وقرأ الكوفيون: {*تفجره} من فجر مخففاً وباقي السبعة من فجر مشدداً، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية، والأعمش وعبدالله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعياً وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيهاتصرف العالمين ومعاشهم، روي عنهم أنهم قالوا له: أزل جبال مكة وفجر لنا {ٱلاْرْضِ يَنْبُوعًا } حتى يسهل علينا الحرثوالزرع وأحي لنا قصياً فإنه كان صدوقاً يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولاً هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليهالسلام أن {تَكُونُ } له {جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ } وهما كنا الغالب على بلادهم، ومن أعظم ما يقتنون، ومعنى{خِلاَلَهَا } أي وسط تلك الجنة وأثناءها. فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب {خِلاَلَهَا } على الظرف. وقرأ الجمهور:{تُسْقِطَ } بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصباً، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعاً، وابن كثير وأبو عمرو وحمزةوالكسائي {كِسَفًا } بسكون السين وباقي السبعة بفتحها. وقولهم {كَمَا زَعَمْتَ } إشارة إلى قوله تعالى

{ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ ٱلسَّمَاء }

. وقيل: {كَمَا زَعَمْتَ } إن ربك إن شاء فعل. وقيل: هو مافي هذه السورة من قوله

{ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرّ أَوْ * نُرْسِلُ *عَلَيْكُمْ حَاصِبًا }

. قال بو عليّ{قَبِيلاً } معاينة كقوله

{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا }

. وقال غيره: {قَبِيلاً } كفيلاً بما تقول شاهداًلصحته، والمعنى أو تأتي بالله {قَبِيلاً } والملائكة {قَبِيلاً } كقوله:

كنت منه ووالدي بريا     وإني وقيار بها لغريب

أي مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } أو جماعة حالاً من الملائكة.وقرأ الأعرج قبلاً م المقابلة. وقرأ الجمهور: {مّن زُخْرُفٍ } وعبد الله من ذهب، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفةالسواد وإنما هي تفسير. وقال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب. وقالالزجّاج: الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف. {وَفِى ٱلسَّمَاء } على حذف مضاف، أي في معارج السماء. والظاهر أن {ٱلسَّمَاء }هنا هي المظلة. وقيل: المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء. وقال الشاعر:

وقد يسمى سماء كل مرتفع     وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

قيل: وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال: ابن نؤمن حتى تضع على السماءسلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنالأمر كما تقول، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات، ويحتمل أنيكون كل واحد اقترح واحداً منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون {أَوْ } فيها للتفضيل أي قال كلواحد منهم مقالة مخصوصة منها، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي {فِى ٱلسَّمَاء } حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم {كِتَـٰباً }يقرؤونه، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي {بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَـئِكَةِ قَبِيلاً } أمره تعالىبالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال {سُبْحَـٰنَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} أي ما كنت إلاّ بشراً رسولاً أي من الله إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات. وقالالزمخشري: وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل أية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا

{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ ٱلسَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ }

وحين أذكروا. الآيةالباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق القمر أعظم منشق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر. وقرأ ابن كثير وابن عامر قال {سُبْحَـٰنَرَبّى } على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلكفي حق الله مستحيل {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا } مثلهم {رَسُولاً }، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره الله عليهممن الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله. {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَنقَالُواْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِى ٱلاْرْضِ مَلَـٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً* قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ * ٱلْمُهْتَدِى وَمَنيُضْلِلْ * فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْزِدْنَاهُمْ }. الظاهر أن قوله: {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ } إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم منالإيمان، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق واحداً منهم ولم يكن ملكاً، وبعد أنظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم: لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد، ويظهر من كلام ابن عطيةأن قوله {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ } هو من قول الرسول قال هذه الآية على معنى التوبيخوالتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان {مَا مَنَعَكَ * ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْإِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ } هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولاغريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكةليقع الإفهام، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم، وإنماالله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى. و {أَن يُؤْمِنُواْ } في موضع نصب و {أَن قَالُواْ }: في موضعرفع، و {إِذْ } ظرف العامل فيه منع الناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و {ٱلْهُدَىٰ } هو القرآنومن جاء به، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشىء عن اعتقاد والهمزة في {أَبَعَثَ } للإنكار و {رَسُولاً }ظاهره أن نعت، ويجوز أن يكون {رَسُولاً } مفعول بعث، و {بَشَرًا } حال متقدمة عليه أي {أَبَعَثَ ٱللَّهُ *رَسُولاً } في حال كونه {بَشَرًا }، وكذلك يجوز في قوله {مَلَكًا رَّسُولاً } أي {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء }{رَسُولاً } في حال كونه {مَلَكًا }. وقوله {يَمْشُونَ } يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا منأهلها ويعلمون ما يجب علمه، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدركتفصيلها بالعقل، {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم } من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم. ولما دعاهم إلىالإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغهوما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد، وأردف ذلك بمافيه تهديد وهو قوله {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا } بخفيات أسرارهم {بَصِيراً } مطلقاً على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم.والظاهر أن قوله: {وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ } إخبار من الله تعالى وليس مندرجاً تحت {قُلْ } لقوله {وَنَحْشُرُهُمْ } ويحتملأن يكون مندرجاً لمجيء {وَمِنْ } بالواو، ويكون {وَنَحْشُرُهُمْ } إخباراً من الله تعالى. وعلى القول الأول يكون التفاتاً إذخرج من الغيبة للتكلم، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولميجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل،فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة. وقال الزمخشري: {وَمَنيَهْدِ ٱللَّهُ } ومن يوفقه ويلطف به {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه{وَمَن يُضْلِلِ } ومن يخذل {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء } أنصاراً انتهى. وهو على طريقة الأعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل،وحمل على اللفظ في قوله {فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى } فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهو واحدة فناسرب التوحيد التوحيد، وحمل على المعنىفي قوله {فَلَنْ * نَجِدْ * لَهُمْ أَوْلِيَاء } لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيبوالتعديد الجمع، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهيقليلة في القرآن، والظاهر أن قوله {عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } حقيقة كما قال تعالى

{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ }

الذي يحشرون على وجوههم إلى جهنم. وفي هذا حديث قيل: يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه . قال قتادة: بلى وعزة ربنا. وقيل: {عَلَىٰوُجُوهِهِمْ } مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه. وقيل: هومجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. والظاهر أن قوله{عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النارويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم. وقيل: هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإمامن حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة. وقال الزمخشري: كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولاينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولاينطقون بما يقبل منهم، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى. وهذا قول ابن عباس والحسن قالاالمعنى {عُمْيًا } عما يسرهم، {*بكماً} عن التكلم بحجة {عَلَيْهَا صُمّاً } عما ينفعهم. وقيل: {عُمْيًا } عن النظر إلىما جعل الله لأوليائه، {*بكماً} عن مخاطبة الله، {عَلَيْهَا صُمّاً } عما مدح الله به أولياءه، وانتصب {عُمْيًا } ومابعد على الحال والعامل فيها {نَحْشُرُهُمْ }. وقيل: يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله

{ قَالَ * ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ }

فعلى هذا تكون حالاً مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارناً لهم وقت الحشر. {كُلَّمَا خَبَتْ } قال ابنعباس: كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير، فالزيادة في حيزهم،وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور، فعلى هذا يكون {خَبَتْ } مجازاً عن سكون لهم مقدار ماتكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها،لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل علىذلك بقوله {ذَلِكَ جَزَاؤُهُم } والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها،والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول ونص على إنكار البعث إذ هو طعن فيالقدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشىء العالم ومخترعه، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزاً لقدرته. وتقدمالكلام على قوله {وَقَالُواْ * أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً وَرُفَـٰتاً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } في هذه السورة فأغنى عن إعادته،ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال: {أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ } وهو استفهام إنكار وتوبيخلهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التيبعض ما تحويه البشر، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما خلق وذلك مما لا يحيلهالعقل بل هو مما يجوزه، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم، ومعنى {مّثْلُهُمْ }من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقاً منهن كما قال

{ أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاء }

وإذا كان قادراً على إنشاءأمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال

{ وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }

وهو أهون عليه. وعطف قوله {وَجَعَلَ لَهُمْ } على قوله {أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ } لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنىقد علموا بدليل العقل كيت وكيت {وَجَعَلَ لَهُمْ } أي للعالمين ذلك {أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } وهو الموت أوالقيامة، وليس هذا الجعل واحداً في الاستفهام المتضمن التقرير، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموتفهو اسم جنس واقع موقع آجال: {فَأَبَىٰ ٱلظَّـٰلِمُونَ } وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء {إِلاَّ كُفُورًا }حجوداً لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وبعثهم يوم القيامة للجزاء. {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَرَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَـٰنُ قَتُورًا * وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءايَـٰتٍ بَيّنَاتٍ فَٱسْأَلْ بَنِى إِسْرٰءيلَ إِذْجَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لاظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ * مَّسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * بَصَائِرَ وَإِنّى لاظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ * فِرْعَوْنُ * مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ ٱلاْرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنمَّعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلاْرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلاْخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا }. مناسبةقوله {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ } الآية أن المشركين قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً.فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا علىبخلهم وشحهم، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل فيإرتباط هذه الآية. وقاله العسكري: والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحهلأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطربنفسه في دعائهم إلى الله، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً، وهؤلاء أقرباؤه لايكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى، فنبهتعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخيرإليه فقال: لو ملكوا التصرف في {خَزَائِنُ رَحْمَةِ } الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحدبما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع فيالنفقة، هذا مع ما أوتوه من الخزائن، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصهعلى نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه، والمستقرأ في {لَوْ } التي هي حرف لما كان سيقع لوقوعغيره أن يليها الفعل إما ماضياً وإما مضارعاً. كقوله

{ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَـٰماً }

أو منفياً بلم أو ان وهنافي قوله {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهمإلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله:.

وإن هو لم يحمل على النفس ضميها.    

التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصارهو، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار {أَنتُمْ }، وهذا التخريج بناء على أن {لَوْ } يليها الفعلظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام، وهذا ليس بمذهب البصريين. قال الاستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تلي لو إلاّالفعل ظاهرا و لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل: ما جاء في المثل من قولهم:

لو ذات سوار لطمتني    

وقال شيخنا الاستاذ أبو الحسن بن الصائغ: البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح، ويجيزونهشاذاً كقولهم:

لو ذات سوار لطمتني    

وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى

{ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ }

فهو من باب الاشتغال انتهى. وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان، والتقدير {قُل لَّوْ }كنتم {أَنتُمْ } تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي {أَنتُمْ } توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل،وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها، والتقدير {قُل لَّوْ } كنتم{تَمْلِكُونَ } فلما حذف الفعل انفصل المرفوع، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد {لَوْ } معهود في لسان العرب،والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه. والكلام على {إِذًا لأمْسَكْتُمْ } تقدم نظيره في قوله

{ إِذًا لأَذَقْنَـٰكَ }

و{خَشْيَةَ } مفعول من أجله، والظاهر أن {ٱلإِنفَاقِ } على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف، أي {خَشْيَةَ } عاقبة{ٱلإِنفَاقِ } وهو النفاد. وقال أبو عبيدة: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، فيكون المعنى خشية الافتقار. والقتور الممسك البخيل{*والإنسان} هنا للجنس. ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى اللهعليه وسلم سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم

{ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً }

إذ قالتقريش

{ أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ }

وقالت

{ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا }

وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرىلفرعون إذ أهلكه الله ومن معه. و{تِسْعِ ءايَـٰتٍ } قال ابن عباس وجماعة من الصحابة: هي اليد البيضاء، والعصا، والطوفان،والجراد، والقمل، والضفادع، والدم هذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقدة فحلها الله، والبحر الذيفلق له. وعنه أيضاً البحر والجبل الذي نتق عليهم. وعنه أيضاً السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة.وقال الحسن: السنون ونقص الثمرات آية واحدة، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم. وعن ابن جبير الحجر والبحر. وعنمحمد بن كعب: البحر والسنون. وقيل: {تِسْعِ ءايَـٰتٍ } هي من الكتاب، وذلك أن يهودياً قال لصاحبه: تعالى حتى نسألهذا النبيّ فقال الآخر لا تقل إنه نبيّ فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين، فأتياه وسألاه عن {تِسْعَءايَـٰتٍ بَيّنَاتٍ } فقال: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسخروا، ولاتقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت، قال: فقبلا يده وقالا: نشهد أنكنبيّ فقال: ما منعكما أن تسلماً؟ قالا: إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنّا نخاف إنأسلمنا تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقرأ الجمهور: فسل {بَنِى إِسْرٰءيلَ } وبنو إسرائيل معاصروه،وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد أمره أن يسألهم عماأعلمه به من غيب القصة. ثم قال: {إِذْ جَاءهُمُ } يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم. وقال الزمخشري:سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. ويدل عليه قراءة رسول الله صلىالله عليه وسلم. فسأل {بَنِى إِسْرٰءيلَ } على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش . وقيل: فسل يا رسولالله المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقيناً وطمأنينة قلب، لأن الدلالة إذاتظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه السلام

{ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى }

انتهى. وهذا القول هو الأول وهو ماأعلمه به من غيب القصة. ولما كان متعلق السؤال محذوفاً احتمل هذه التقديرات، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هوحقيقة. وقال ابن عطية ما معناه: يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم.نحو قوله

{ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا }

جعل النظر والتطلب معبراً عنه بالسؤال، ولذلك قال الحسن: سؤالكإياهم نظرك في القرآن، والظاهر أن {إِذْ } معمولة لآتينا أي {ءاتَيْنَا } حين جاء أتاهم. وقال الزمخشري: فإنقلت: بم نعلق {إِذْ جَاءهُمُ }؟ قلت: أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم، وأماعلى الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أويخبرونك انتهى. ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض. وقراءة فسأل مرويةعن ابن عباس. قال ابن عباس: كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى.وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل {بَنِى إِسْرٰءيلَ } أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل. وقال أبو عبدالله الرازي: فسل {بَنِى إِسْرٰءيلَ } اعتراض في الكلام والتقدير، {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءايَـٰتٍ بَيّنَاتٍ } إذ جاء {بَنِىإِسْرٰءيلَ } فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهودصدق ما ذكره الرسول عليه السلام، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى. وعلى قراءة فسأل ماضياً وقدره فسأل فرعون {بَنِىإِسْرٰءيلَ } يكون المفعول الأول السأل محذوفاً، والثاني هو {بَنِى إِسْرٰءيلَ } وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد علىفرعون سأل وفقال فأعمل، الثاني على ما هو أرجح. والظاهر أن قوله {مَّسْحُورًا } اسم مفعول أي قد سحرتبكلامك هذا مختل وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض. وقال الفراء والطبري: مفعول بمعنى فاعل أي ساحراً، فهذهالعجائب التي يأتي بها من أمر السحر، وقالوا: مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويامن. وقرأ الجمهور: {لَقَدْعَلِمْتَ } بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي لقد علمت أن ما جئتبه ليس من باب السحر، ولا أني خدعت في عقلي، بل علمت أنه ما أنزلها إلاّ الله، وما أحسن ماجاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ {رَبّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورتهفقال له: وما رب العالمين قال: {رَبّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } ينبهه على نقصه وأنه لا تصرّف له في الوجودفدعواه الربوبية دعوى استحالة، فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابه معاند كقوله

{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }

وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليسخطابه على جهة إخباره عن علمه. وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي {عَلِمَتِ } بضم التاء أخبرموسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون، بل هو يعلم أن {مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء } الآيات إلاّ الله.وروي عن عليّ أنه قال: ما علم عدوّ الله قط وإنما علم موسى، وهذا القول عن عليّ لا يصحلأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون. و{أَنزَلَ ٱللَّهُ }جملة في موضع نصب علق عنها {عَلِمَتِ }. ومعنى {بَصَائِرَ } دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلىالآيات التسع. وانتصب {بَصَائِرَ } على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء، وقالا: حال من {هَـؤُلاء }وهذا لايصح إلاّ على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هنداً هذا إلاّ زيد ضاحكة. ومذهب الجمهور أنه لا يجوزفإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة، وكذلك يقدرون هنا أنزلها{بَصَائِرَ } وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إلاّ أن يكون مستثنى منه أو تابعاً له.وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال: {وَإِنّى لاظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ * فِرْعَوْنُ *مَثْبُورًا } وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظنباطل، وظن موسى ظن صدق، ولذلك آل أمر فوعون إلى الهلاك كان أولاً موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذىكما قال

{ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ }

فأمر أن يقول له قولاً ليناً فلما قال لهالله: لا تخف وثق بحماية الله، فصال على فرعون صولة المحمي. وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبلذلك. ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد، وملعون في قول ابن عباس، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران، ومسحورفي قول الضحاك قال: رد عليه مثل ما قال له فرعون ما ختلاف اللفظ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخيرمطبوع على قلبك من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أي ما منعك وصرفك. وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبوراًوهي أن الخفيفة، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء، فحاقبه مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه. ومن قومه والضمير في {مِن بَعْدِهِ} عائد على فرعون أي من بعد إغراقه، و{ٱلاْرْضِ } المأمور بسكناها أرض الشام، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقةعلى لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة. {وَبِٱلْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا *وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـٰهُ تَنْزِيلاً * قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَمِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ }. وبالحق أنزلناه} هو مردود على قوله

{ لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ }

الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلىآخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولاً، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {أَنزَلْنَـٰهُ } عائد على موسى عليهالسلام وجعل منزلاً كما قال

{ وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ }

أو عائد على الآيات التسع، وذكر على المعنى أو عائد على الوعدالمذكور قبله. وقال أبو سليمان الدمشقي {وَبِٱلْحَقّ } أي بالتوحيد، {أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقّ نَزَلَ } أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي. وقالالزهراوي: بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، {وَبِٱلْحَقّ نَزَلَ } أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره. وقال الزمخشري: وما أنزلناالقرآن إلاّ بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلاّ ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، وما أنزلناه منالسماء إلاّ بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين انتهى. وقد يكون{وَبِٱلْحَقّ نَزَلَ } توكيداً من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع مننزوله وجاء، {وَبِٱلْحَقّ نَزَلَ } مزيلاً لهذا الاحتمال ومؤكداً حقيقة، {وَبِٱلْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ } وإلى معنى التأكيد نحا الطبري. وانتصب {مُبَشّرًاوَنَذِيرًا } على الحال أي {مُبَشّرًا } لهم بالجنة ومنذراً من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين.وقرأ الجمهور: {فَرَقْنَاهُ } بتخفيف الراء أي بيَّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل.وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كقوله

{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }

. وقرأ أبيّ وعبد الله وعليّ وابن عباس وأبو رجاءوقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي {أَنزَلْنَـٰهُ} نجماً بعد نجم. وفصلناه في النجوم. وقال بعض من اختار ذلك: لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهرولا شهرين ولا سنة ولا سنتين. قال ابن عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، هكذا قال الزمخشري عن ابنعباس. وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة. وقيل: في خمس وعشرين، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنهعليه السلام، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة. قال ابن عطية: وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن.وقيل معنى: {فَرَقْنَاهُ } بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي، وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي. وانتصب{قُرْءاناً } على إضمار فعل يفسره {فَرَقْنَاهُ } أي وفرقنا {قُرْءاناً * فَرَقْنَاهُ } فهو من باب الاشتغال وحسن النصب،ورجحه على الرفع كونه عطفاً على جملة فعلية وهي قوله {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ }. ولا بد من تقدير صفة لقوله {وَقُرْءانًا} حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها، والتقدير {وَقُرْءانًا }أي قرآن أي عظيماً جليلاً، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل بفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي والزمخشري. وقال ابن عطية وهومذهب سيبويه. وقال الفراء: هو منصوب بإرسلناك أي {مَا * أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْءانًا } كما تقول رحمةلأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفاً منه قول ابن عطية، ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في {أَرْسَلْنَـٰكَ} من حيث كان إيال هذا وإنزال هذا المعنى واحد. وقرأ أبيّ وعبد الله {فَرَقْنَاهُ } عليك بزيادة عليكو{لِتَقْرَأَهُ } متعلق بفرقناه، والظاهر تعلق على مكث بقوله {لِتَقْرَأَهُ }ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به صرفاً جر من جنسواحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال أي متمهلاً مترسلاً. قال ابنعباس ومجاهد وابن جريج: {عَلَىٰ مُكْثٍ } على ترسل في التلاوة. وقيل: {عَلَىٰ مُكْثٍ } أي تطاول في المدة شيئاًبعد شيء. وقال الحوفي: {عَلَىٰ مُكْثٍ } بدل من {عَلَى ٱلنَّاسِ } وهذا لا يصح لأن قوله {عَلَىٰ مُكْثٍ }هو من صفة الرسول وهو القارىء، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكونبدلاً منهم. وقيل يتعلق {عَلَىٰ مُكْثٍ } بقوله {فَرَقْنَاهُ } ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها. وقال ابن عطية: وأجمعالقراء على ضم الميم من {مُكْثٍ }. وقال الحوفي: والمكث بالضم والفتح لغتان، وقد قرىء بهما وفيه لغة أخرى كسرالميم. {وَنَزَّلْنَـٰهُ تَنْزِيلاً } على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال. {قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } يتضمن الإعراضعنهم والاحتقار لهم والإزدراء بهم وعدم الأكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهمأهل جاهلية وشرك، فإن خيراً منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا بهوصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم، فإذا تُلي عليهم خروا {سُجَّدًا } وسبحواً الله تعظيماً لوعده ولإنجازهما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعدفي قوله {إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً }. و{إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } يجوز أن يكون تعليلاًلقوله {بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ } أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم، وأنيكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل {قُلْ } عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري، وفيهبعض تلخيص. وقال غيره: {قُلْ ءامِنُواْ } الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواءعلينا أآمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم انتهى. والظاهر أن الضمير في {قُلْ ءامِنُواْبِهِ } عائد على القرآن، و{ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } هم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: ورقة بن نوفل، وزيد بن عمروبن نفيل ومن جري مجراهما، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطّلعاً على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام.وقيل: هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم، فتذكروا أمر النبيّ وما أنزل عليه.وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله وقالوا: هذا وقت نبوّة المذكور في التوراة وهذه صفته، ووعد الله به واقعلا محالة، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم. وقيل: المراد بالذين {أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ }هو محمد ، والظاهر أن الضمير في {بِهِ } وفي {مِن قَبْلِهِ } عائد على الرسول عليهالصلاة والسلام. واستأنف ذكر القرآن في قوله {إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } والظاهر في قوله {إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } أنالضمير في {يُتْلَىٰ } عائد على القرآن. وقيل: هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبيّ عليهالصلاة والسلام، والخرور هو السقوط بسرعة، ومنه

{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ }

وانتصب {سُجَّدًا } على الحال، والسجود وهو وضع الجبهةعلى الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع، وأول ما يلقى الأرض حالة السجود الذقن، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كمايعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه. وقال الشاعر:

فخروا الأذقان الوجوه تنوشهم     سباع من الطير العوادي وتنتف

وقيل: أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك. وقال ابن عباس: المعنى للوجوه. وقالالزمخشري: فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه؟قال:

فخر صريعاً لليدين وللفم    

قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى. وقيل: اللام بمعنىعلى و{سُبْحَانَ رَبّنَا } نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلاً وأنه لايعيدهم للجزاء، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآنعليه قد فعله وأنجزه، ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعللأن الفعل مشعر بالتجدد، وذلك أن البكاء ناشىء عن التفكر فهم دائماً في فكرة وتذكر، فناسب ذكر الفعل إذ هومشعر بالتجدد، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم. {وَيَزِيدُهُمْ } أي ما تُليعليهم {خُشُوعًا } أي تواضعاً. وقال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكونأوتي علماً ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } الآية. وقال ابن عطية: ويتوجه في هذهالآية معنى آخر، وهو أن يكون قوله {قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } مخلصاً للوعيد دون التحقير، المعنى فسترونما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونواكما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتُلى عليهم ما نزلعليهم خشعوا وآمنوا انتهى. وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا. {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياماً تدعوافله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداًولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذل وكبره تكبيراً. قال ابن عباس: تهجد الرسول ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده: «يا رحمان يا رحيم». فقال المشركون: كان محمد يدعوإلهاً واحداً فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن، ما الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير.ونقل ابن عطية نحواً منه عن مكحول. وقال عن ابن عباس: سمعه المشركون يدعو يا ألله يا رحمن، فقالوا: كانيدعو إلهاً واحداً وهو يدعو إلهين فنزلت. وقال ميمون بن مهران: كان عليه السلام يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت إنهمن سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركوا العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فنزلت. وقال الضحاك: قالأهل الكتاب للرسول : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت لمالجوّا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته، وكان عليه الصلاة والسلام قدجاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فردّ اللهتعالى عليهم بقوله {قل ادعوا الله} الآية. والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أويا الله يا رحمن فهو من الدعاء بمعنى النداء، والمعنى إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته.قال الزمخشري: والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناءً عنه،فتقول: دعوت زيداً انتهى. ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدّي إلى اثنين ثانيهما بحرف جر، تقول: دعوت والدي بزيد ثمتتسع فتحذف الباء. وقال الشاعر في دعا هذه:

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن     أخاها ولم أرضع لها بلبان

وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قالالزمخشري يكون الثاني لقوله {ٱدْعُواْ } لفظ الجلالة، ولفظ {ٱلرَّحْمَـٰنُ } وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير{ٱدْعُواْ } معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري: المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير، فمعنى {ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى. وكذا قال ابن عطية هما اسمانلمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية. والتنوين قيل عوض من المضافو{مَا } زائدة مؤكدة. وقيل: {مَا } شرط ودخل شرط على شرط. وقرأ طلحة بن مصروف. {أَيّا } من {تَدْعُواْ} فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعي زيادتها في قوله:

يا شاة من قنص لمن حلت له    

واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قولالشاعر:

فأصبحن لا يسألنني عن بما به    

وذلك لاختلاف اللفظ. والضمير في {فَلَهُ } عائد على مسمى الأسمين وهو واحد،أي فلمسماهما {ٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ }، وتقدم الكلام على قوله {ٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ } في الأعراف. وقوله: {فَلَهُ } هو جوابالشرط. قيل: ومن وقف على {أَيّا } جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز، ثم استأنف فقال ما تدعوه {فَلَهُٱلاْسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ } وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم، ولأن الشرط يقتضي عموماً ولا يصحهنا، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة. وعن ابن عباس أيضاً: هي قراءة القرآن في الصلاة فهو علىحذف مضاف أي بقراءة الصلاة، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير،والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لايسمع المشركين، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين. {وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ } أي بين الجهر والمخافتة{سَبِيلاً } وسطاً وتقدم الكلام على {بَيْنَ ذٰلِكَ } في قوله

{ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }

. وقال ابن عباس أيضاً والحسن:لا تحسن علانيتها وتسيء سرّبتها. وعن عائشة: الصلاة يراد بها هنا التشهد. وقال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلتالآية في ذلك، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها. فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر: إنما أناجيربي وهو يعلم حاجتي. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً. وقيللعمر: اخفض أنت قليلاً. وعن ابن عباس أيضاً: المعنى {وَلاَ تَجْهَرْ } بصلاة النهار {وَلاَ تُخَافِتْ } بصلاة الليل. وقالابن زيد: معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه، ويخفض أحياناً فيسكتالناس خلفه انتهى. كما يفعل أهل زمانناً من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النعم المتخذة للغناء. ولما ذكر تعالى أنهواحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء، ووصفنفسه بأنه {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } فيعتقد فيه تكثر بالنوع، وكان ذلك ردّاً على اليهود والنصاري والعرب الذين عبدوا الأصناموجعلوها شركاء لله، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله. ونفي أولاً الولد خصوصاً ثم نفي الشريك في ملكهوهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره، ولما نفي الولد ونفي الشريك نفي الولي وهو الناصر، وهوأعم من أن يكون ولداً أو شريكاً أو غير شريك. ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماءمن الذلَّ وقد يكون للتفضل والرحمة لمن وإلى من صالحي عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة، إذكان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفي الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفياً على الإطلاق. وجاء الوصفالأول بقوله {ٱلَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعد أحداً ولداً ولم ينفه بجهة التوالدلاستحالة ذلك في بدائه العقول، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد ما يتخذ صاحبة ولاولداً. وقال مجاهد: في قوله {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ ٱلذُّلّ } المعنى لم يخالف أحداً ولا ابتغى تصرأحد. وقال الزمخشري: {وَلِىٌّ مَّنَ ٱلذُّلّ } ناصر من الذلّ ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحداً منأجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى. وقيل: ولم يكن له {وَلِيُّ } من اليهود والنصاري لأنهم أذل الناس فيكون {مَّنَٱلذُّلّ } صفة لولي انتهى. أي {وَلِىٌّ مَّنَ } أهل {ٱلذُّلّ }، فعلى هذا وما تقدّم يكون {مِنْ } فيمعنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمةالتحميد؟ قلت: لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد، والذي تقررأن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه،فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان. {وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا } التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وأكدبالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به، وكان رسول الله صلى الله عليهوسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية

{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ }

إلى آخرها والله أعلم.