انتقل إلى المحتوى

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة إبراهيم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } * { ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } * { ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } * { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } * { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } * { وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } * { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } * { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }

[عدل]

{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْإِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَـٰفِرِينَ مِنْ عَذَابٍشَدِيدٍ ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلاْخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ }: هذهالسورة مكية كلها في قول الجمهور، وعن ابن عباس وقتادة، هي مكية إلا من قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْنِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا } الى قوله

{ إِلَى ٱلنَّارِ }

وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جداً، لأنه ذكر فيها:

{ وَلَوْ أَنَّ قَرْءَاناً }

ثم

{ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا }

ثم

{ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَـٰبِ }

فناسب هذا قولهالۤر كتاب أنزلناه إليك. وأيضاً فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح

{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ }

وقيل له:

{ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }

أنزل الۤر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل: أو لميكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال، إلى النور وهو الهدى. وجوزوا في إعرابالۤر أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وكتاب الخبر، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الۤر،وفي موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الۤر. وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين، وكتاب مبتدأ. وسوغالابتداء به كونه موصوفاً في التقدير أي: كتاب أي: عظيم أنزلناه إليك. وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره:هذا كتاب، وأنزلناه جملة في موضع الصفة. وفي قوله: أنزلناه. وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله إليك، وإسنادالإخراج إليه عليه الصلاة والسلام، تنويه عظيم وتشريف له من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزالهتعالى، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام، إذ هو الداعي والمنذر، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى. والناس عام،إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم، والظلمات والنور مستعاران للكفر والإيمان. ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله: لتخرج قال:بإذن ربهم، أي: ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم، إذ هم عبيده، فناسب ذكر الرب هنا تنبيهاً على منةالمالك، وكونه ناظراً في حال عبيدة، وبإذن ظاهره التعلق بقوله: لتخرج. وجوز أبو البقاء أن يكون بإذن ربهم في موضعالحال قال: أي مأذوناً لك. وقال الزمخشري: بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب، وذلك مايمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. والظاهر أن قوله: إن صراط، بدل من قوله إلى النور، ولايضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل، لأنّ بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج. وأجاز الزمخشري أن يكونإلى صراط على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أي نور، فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقرىء: ليخرج مضارع خرج بالياءبنقطتين من تحتها، والناس رفع به. ولما كان قوله: إلى النور، فيه إبهام مّا أوضحه بقوله: إلى صراط. ولما تقدمشيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه. والثاني إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ناسب ذكر هاتين الصفتينصفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلماتإلى النور، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر. وتقدمت صفة العزيز، لتقدم مادل عليها، وتليها صفة الحميد لتلو ما دل عليها. وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل: مبتدأ محذوف أي: هوالله. وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله، وتفلته على التقدير الأول. وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع: الله بالجرعلى البدل في قول ابن عطية، والحوفي، وأبي البقاء. وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال: لأنه جرى مجرى الأسماءالأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة، كما غلب النجم على الثريا انتهى. وهذا التعليل لا يتم إلا علىتقدير: أن يكون أصله الإلۤه، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة، والتزم فيه النقل والحذف، ومادته إذ ذاكالهمزة واللام والهاء، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لاتقدم صفة على موصوف إلى حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما: أن تقدم الصفة وتبقيتهاعلى ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما: إعرابه نعتاً مقدماً، والثاني: أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً.والوجه الثاني: أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى. فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيزالحميد يعربان صفتين متقدمتين، ويعرب لفظ الله موصوفاً متأخراً. ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة، وتأخير مالو تقدم لكان موصوفاً قول الشاعر:

والمؤمنم العائذات الطير يمسحها     ركبان مكة بين الغيل والسعد

فلو جاء على الكثيرلكان التركيب: والمؤمن الطير العائذات، وارتفع ويل على الابتداء، وللكافرين خبره. لما تقدم ذكره الظلمات دعا بالهلكة على من لميخرج منها، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل. ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف، ولا يجوز أن يكونمتعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر. ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس فيموضع الصفة. قال: فإن قلت: ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل؟ قلت: لأن المعنى أنهم يولون من عذابشديد ويضجون منه، ويقولوزن يا ويلاه كقوله:

{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً }

انتهى. وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به منعذاب شديد، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعاً بهم في الدنيا، أو واقعاً بهم في الآخرة. والاستحباب الإيثار والاختيار، وهواستفعال من المحبة، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر. ويجوزأن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى. وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأخبره أولئك في ضلال بعيد، وأن يكون معطوفاً على الذم، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وإما منصوباً بإضمارفعل تقديره أذم، وأن يكون بدلا، وأن يكون صفة للكافرين. ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، وهولا يجوز، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله: من عذاب شديد، سواء كان من عذاب شديدفي موضع الصفة لويل، أم متعلقاً بفعل محذوف أي: يضجون ويولولون من عذاب شديد. ونظيره إذا كان صفة أن تقول:الدار لزيد الحسنة القرشي، فهذا التركيب لا يجوز، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار، والتركيب الفصيحأن تقول: الدار الحسنة لزيد القرشي، أو الدار لزيد القرشي الحسنة وقرأ الحسن: ويصدون مضارع أصد، الداخل عليه همزةالنقل من صد اللازم صدوداً. وتقدم الكلام عل قوله تعالى:

{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا }

في آل عمران، وعلى وصف الضلال بالبعدقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاءوَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } سبب نزولها أنّ قريشاً قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ فنزلت. وساق قصة موسىأنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه، أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلىالنور. والظاهر أن قوله: وما أرسلنا من رسول، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام. فإن كانت الدعوة عامة للناسكلهم، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه، كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفاًعلى تعلم تلك اللغة حتى يفهمها، وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وما أرسلنامن رسول قبلك إلا بلسان قومه، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم، ومعنى بلسان قومه: بلغةقومه. وقرأ أبو السمال، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: بلسن بإسكان السين، قالوا: هو كالريش والرياش. وقال صاحب اللوامح:واللسن خاص باللغة، واللسان قد يقع على العضو، وعلى الكلام. وقال ابن عطية مثل ذلك قال: اللسان في هذه الآيةيراد به اللغة، ويقال: لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه لسن. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري:لسن بضم اللام والسين، وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرىء أيضاً بضم اللام وسكون السين مخفف كرسل ورسل، والضمير فيقومه عائد على رسول أي: قوم ذلك الرسول. وقال الضحاك: والضمير في قومه عائد على محمد قال: والكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أداها كل نبي بلغة قومه. قال الزمخشري: وليس بصحيح، لأنّ قوله: ليبين لهم، ضميرالقوم وهم العرب، فيؤدي إلى أنّ الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد انتهى. وقال الكلبي:جميع الكتب أدت إلى جبريل بالعربية، وأمره تعالى أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم. وأورد الزمخشري هنا سؤالاً وابن عطيةأخرهما في كتابيهما، ويقول: قامت الحجة على البشر بإذعان الفصحاء الذين يظن بهم القدرة على المعارضة وإقرارهم بالعجز، كما قامتبإذعان السحرة لموسى، والأطباء لعيسى عليهما السلام. وبين تعالى العلة في كون من أرسل من الرسل بلغة قومه وهي التبيينلهم، ثم ذكر أنه تعالى يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته، فليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين،ولم يكلف أن يهدي بل ذلك بيد الله على ما سبق به قضاؤه وهو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الواضعالأشياء على ما اقتضته حكمته وإرادته. وقال الزمخشري: والمراد بالإضلال التخلية ومنع الإلطاف، وبالهداية التوفيق واللطف، وكان ذلك كناية عنالكفر والإيمان، وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته، الحكيم فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف انتهى.وهو على طريقة الاعتزال والجمهور على تفسير قوله: بآياتنا، إنها تسع الآيات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام.وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة، والتقدير: كما أرسلناك يا محمد بالقرآن بلسان عربي وهو آياتنا، كذلك أرسلنا موسىبالتوارة بلسان قومه، وأن أخرج يحتمل أن أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، ويضعف زعم من زعم أنها زائدة. وفيقوله: قومك خصوص لرسالته إلى قومه، بخلاف لتخرج الناس، والظاهر أنّ قومه هم بنو إسرائيل. وقيل: القبط. فإن كانوا القبطفالظلمات هنا الكفر، والنور الإيمان، وإن كانوا بني إسرائيل وقلنا: إنهم كلهم كانوا مؤمنين، فالظلمات ذل العبودية، والنور العزة بالدينوظهور أمر الله. وإن كانوا أشياعاً متفرقين في الدين، قوم مع القبط في عبادة فرعون، وقوم على غير شيء، فالظلماتالكفر والنور الإيمان. قيل: وكان موسى مبعوثاً إلى القبط وبني إسرائيل. وقيل: إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله، وأن لا يشركبه، والإيمان بموسى، وأنه نبي من عند الله، وإلى بني إسرائيل بالتكليف وبفروع شريعته إذ كانوا مؤمنين. ويحتمل وذكرهم أنيكون أمراً مستأنفاً، وأن يكون معطوفاً على أن أخرج، فيكون في خبر وان. وأيام الله قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة:نعم الله عليهم، ورواه أبي مرفوعاً. ومنه قول الشاعر:

وأيام لنا غرّ طوال     عصينا الملك فيها إن ندينا

وعن ابن عباس أيضاً، ومقاتل، وابن زيد: وقائعه ونقماته في الأمم الماضية، ويقال: فلانعالم بأيام العرب أي وقائعها وحروبها وملاحمها: كيوم ذي قار، ويوم الجار، ويوم فضة وغيرها. وروي نحوه عن مالك قال:بلاؤه. وقال الشاعر:

وأيـامنـا مشهـورة فــي عـدونـاا    

أي وقائعنا. وعن ابن عباس أيضاً: نعماؤه وبلاؤه، واختاره الطبري، فنعماؤه: بتظليله عليهم الغمام، وإنزالالمنّ والسلوى، وفلق البحر. وبلاؤه: باستعباد رعون لهم، وتذبيح أبنائهم، وإهلاك القرون قبلهم. وفي حديث أبيّ في قصة موسى والخضرعليهما السلام بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله، وأيام الله بلاؤه ونعماؤه، واختار الطبري هذا القول الآخر.ولفظة الأيام تعم المعنيين، لأنّ التذكير يقع بالوجهين جميعاً. وفي هذه اللفظة تعظيم الكوائن المذكر بها. وغبر عنها بالظرف الذيوقعت فيه. وكثيراً ما يقع الإسناد إلى الظرف، وفي الحقيقة الإسناد لغيرها كقوله: بل مكر الليل والنهار، ومن ذلك قولهم:يوم عبوس، ويوم عصيب، ويوم بسام. والحقيقة وصف ما وقع فيه من شدّة أو سرور. والإشارة بقوله: إن يف ذلك،إلى التذكير بأيام الله. وصبار، شكور، صفتا مبالغة، وهما مشعرتان بأنّ أيام الله المراد بهما بلاؤه ونعماؤه أي: صبار علىبلائه، شكور لنعمائه. فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو بما أفاض عليهم من النعم، تنبه علىما يجب عليه من الصبر إذا أصابه بلاء، من والشكر إذا أصابته نعماء، وخص الصبار والشكر لأنهما هما اللذان ينتفعانبالتذكير والتنبيه ويتعظان به. وقيل: أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه، لأنّ الصبر والشكر من سجايا أهل الإيمان. {وَإِذْ قَالَمُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ }: لما تقدمأمره تعالى لموسى بالتذكير بأيام الله، ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون، وفي ضمنها تعداد شيءمما جرى عليهم من نقات الله. وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله:

{ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء }

وتفسير هذه الآية، إلا أنَّ هنا: ويذبحون بالواو، وفي البقرة بغير واو، وفي الأعراف {يَقْتُلُونَ } فحيثلم يؤت بالواو وجعل الفعل تفسيراً لقوله: يسومونكم. وحيث أتى بها دلّ على المغايرة. وأنّ سوم سوء العذاب كان بالتذبيحوبغيره، وحيث جاء يقتلون جاء باللفظ المطلق المحتمل للتذبيح، ولغيره من أنواع القتل. وقرأ ابن محيصن: ويذبحون مضارع ذبح ثلاثياً،وقرأ زيد بن علي كذلك، إلا أنه حذف الواو. وتقدم شرح تأذن وتلقيه بالقسم في قوله في الأعراف:

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ }

واحتمل إذ أن يكون منصوباً ب (ذكروا)، وأن يكون معطوفاً على إذ أنجاكم، لأنّ هذا الإعلام بالمزيدعلى الشكر من نعمه تعالى. والظاهر أنّ متعلق الشكر هو الإنهام أي: لئن شكرتم إنعامي، وقاله الحسن والربيع. قال الحسن:لأزيدنكم من طاعتي. وقال الربيع: لأزيدنكم من فضلي. وقال ابن عباس: أي لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب. وكأنه راعىظاهر المقابلة في قوله: ولئن كفرتم إن عذابي لشديد. وظاهر الكفر المراد به الشرك، فلذلك فسر الشكر بالتوحيد والطاعة وغيره.قال: ولئن كفرتم، أي نعمتي فلم تشكروها، رتب العذاب الشديد على كفران نعمة الله تعالى، ولم يبين محل الزيادة، فاحتملأن يكون في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما، وجاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه إذا ذكرالخبر أسند إليه تعالى. وإذ ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه فقال: لأزيدنكم، فنسب الزيادة إليه وقال: إنّ عذابيلشديد، ولم يأت التركيب لأعذبنكم، وخرج في لأزيدنكم بالمفعول، وهنا لم يذكر، وإن كان المعنى عليه أي: إنّ عذابي لكملشديد. وقرأ عبد الله: وإذ قال ربكم، كأنه فسر قوله: تأذن، لأنه بمعنى أذن أي: أعلم، وأعلم يكون بالقول. ثمنبه موسى عليه السلام قومه على أنّ الباري تعالى، وإن أوعد بالعذاب الشديد على الكفر، فهو غير مفتقر إلى شكركم،لأنه تعالى هو الغني عن شكركم، الحميد المستوجب الحمد على ما أسبغ من نعمه، وإن لم يحمده الحامدون، فثمرة شكركمإنما هي عائدة إليكم. وأنتم خطاب لقومه وقال: ومن في الأرض يعني: الناس كلهم، لأنّ من كان في العالم العلويوهم الملائكة لا يدخلون في من في الأرض، وجواب إنْ تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير: فإنما ضرر كفركم لاحق بكم،والله تعالى متصف بالغني المطلق. والحمد سواء. كفروا أم شكروا، وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم، وتعظيم لله تعالى، وكذلك فيذكر هاتين الصفتين. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ }: الظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه. وقيل: ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة، وخبر قوم نوحوعاد وثمود قد قصه الله في كتابه، وتقدم في الأعراف وهود، والهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ. والظاهر أنّ والذين فيموضع خفض عطفاً على ما قبله، إما على الذين، وإما على قوم نوح وعاد وثمود. قال الزمخشري: والجملة من قوله:لا يعلمهم إلا الله، اعتراض والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله انتهى. وليست جملة اعتراض، لأنّجملة الاعتراض تكون بين جزءين، يطلب أحدهما الآخر. وقال أبو البقاء: تكون هذه الجملة حالاً من الضمير في من بعدهم،فإن عنى من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة، وليس له محل إعراب من رفعأو نصب، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن. وقال أبو البقاء: أيضاً ويجوز أنيكون مستأنفاً، وكذلك جاءتهم. وأجاز الزمخشري وتبعه أبو البقاء: أن يكون والذين مبتدأ، وخبره لا يعلمهم إلا الله. وقال الزمخشري:والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضاً انتهى. وليست باعتراض، لأنها لم تقع بين جزءين: أحدهما يطلب الآخر. والضمير في جاءتهمعائد على الذين من قبلكم، والجملة تفسيرية للنبأ. والظاهر أنّ الأيدي هي الجوارح، وأنّ الضمير في أيديهم وفي أفواههم عائدعلى الذين جاءتهم الرسل. وقال ابن مسعود، وابن زيد أي: جعلوا، أي: أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ليعضوها غيظاً مماجاءت به الرسل. وقال ابن زيد: عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. والعض بسبب مشهور من البشر. وقال الشاعر:

قد أفنى أنامله أزمة     وأضحى يعض على الوظيفا

وقال آخر:

لو أن سلمى أبصرت تخددي     ودقة في عظم ساقي ويدي وبعد أهلي وجفاء عوّدي

وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبوصالح: لما قال لهم رسول الله : أنا رسول الله إليكم، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أنْ اسكتتكذيباً له، ورداً لقوله، واستبشاعاً لما جاء به. وقيل: ردّوا أيديهم في أفواههم ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يدهعلى فيه. وقيل: أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم: إنا كفرنا بما أرسلتم به أي: هذا جوابلكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق. وقيل: الضميران عائدان على الرسل قاله: مقاتل، قال: أخذوا أيدي الرسل ووضعوهاعلى أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. وقال الحسن وغيره: جعلوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل ردًّا لقولهم، وهذا أشنع فيالرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم، فعلى هذا الضمير في أيديهم عائد على الرسل. وقيل: المراد بالأيدي هناالنعم، جمع يد المراد بها النعمة أي: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم، وما أوحي إليهممن الشرائع والآيات في أفواه الأنبياء، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم، ورجعوها إلى حيث جاءت منهعلى طريق المثل. وقيل: الضمير في أفواههم على هذا القول عائد على الكفار، وفي بمعنى الباء أي: بأفواههم، والمعنى: كذبوهمبأفواههم. وفي بمعنى الباء يقال: جلست في البيت، وبالبيت. وقال الفراء: قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع الباءفتقول: أدخلك الله الجنة، وفي الجنة. وأنشد:

وارغب فيها من لقيط ورهطه     ولكني عن شنبس لست أرغب

يريد: أرغب بها. وقال أبو عبيدة: هذا ضرب مثل أي: لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول للرجل إذا سكتعن الجواب وأمسك: رد يده في فيه، وقاله الأخفش أيضاً. وقال القتبي: لم يسمع أحد من العرب يقول: رد يدهفي فيه إذا ترك ما أمر به انتهى. ومن سمع حجة على من لم يسمع هذا أبو عبيدة والأخفش نقلاذلك عن العرب، فعلى ما قاله أبو عبيدة يكون ذلك من مجاز التمثيل، كان الممسك عن الجواب الساكت عنه وضعيده فيه. وقد رد الطبري قول أبي عبيدة وقال: إنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به،ولا يرد ما قاله الطبري، لأنه يريد أبو عبيدة أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل بالبينات،وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل. قال ابن عطية: ويحتمل أن يتجوز في لفظة الأيدي أي: أنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهمفيما قالوا بأفواههم من التكذيب، فكان المعنى: ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي: في أقوالهم، وغبر عن جميع المدافعة بالأيدي،إذ الأيدي موضع أشد المدافعة والمرادة انتهى. بادروا أولاً إلى الكفر وهو التكذيب المحض، ثم أخبروا بأنهم في شك وهوالتردد، كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد، أو هما قولان من طائفتين: طائفة بادرتبالتكذيب والكفر، وطائفة شكت، والشك في مثل ما جاءت به الرسل كفر. وقرأ طلحة: مما تدعونا بإدغام نون الرفع فيالضمير، كما تدغم في نون الوقاية في مثل: أتحاجوني والمعنى: مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله. ومريب صفة توكيدية، ودخلتهمزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ، لأنّ الكلام ليس في الشك إنما هو فيالمشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه. وقدر مضاف فقيل: أفي إلاهية الله. وقيل: أفي وحدانيته، ثمنبههم على الوصف الذي يقتضي أنْ لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشىء العالم وموجده، فقال: فاطر السموات والأرض.وفاطر صفة لله، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ، فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة، وإنكان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي: فاطر نصباً على المدح، ولما ذكر أنه موجد العالم،ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهمفقال: يدعوكم ليغفر لكم أي: يدعوكم إلى الإيمان كما قال: إذ تدعون إلى الإيمان أو يدعوكم لأجل المغفرة، نحو: دعوتهلينصرني. وقال الشاعر:

دعوت لما نابني مسورا     فلبى فلبى يدي مسور

ومنذنوبكم ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة من أي: ليغفر لكم ذنوبكم. وجمهور البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب، ولاإذا جرت المعرفة، والتبعيض يصبح فيها إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم.وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أنّ الإسلام يجب ما قبله، ويبقى ما يستأنف بعد الإيمان من الذنوب مسكوتاً عنه، هوفي المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم، لا بغفران ما يستأنف. وقال الزمخشري ما معناه: إنّ الاستقراء في الكافرينأنْ يأتي من ذنوبكم، وفي المؤمنين ذنوبكم، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولأن لا يسوي بين الفريقين انتهى. ويقال: مافائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك، إذ الكافر إذا آمن، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخليت فيه مغفرةبعض الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب. وقال أبو عبد الله الرازي: أما قول صاحبالكساف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر، فهو من باب الطامات، لأنّ هذا التبعيض إنْ حصل فلا حاجة إلىذكر هذا الجواب، وإنْ لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً. وقال: إلى أجل مسمى، إلى وقت قد بيناه، أو بينامقداره إنْ آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت انتهى. وهذا بناء على القول بالأجلين، وهو مذهب المعتزلة. وتقدم الكلامفي طرف من هذا في سورة الأعراف في قوله:

{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ }

وقيل هنا: ويؤخركم إلى أجل مسمى قبلالموت فلا يعاجلكم بالعذاب، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوةدوننا؟ قال الزمخشري: ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة انتهى. وهذا على مذهبالمعتزلة في تفضيل الملائكة على من سواهم. وقال ابن عطية: في قولهم استبعاد بعثة البشر. وقال بعض الناس: بل أرادواإحالته، وذهبوا مذهب البراهمة، أو من يقول من الفلاسفة أن الأجناس لا يقع فيها هذا القياس. فظاهر كلامهم لا يقتضيأنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو علىجهة التعجيز أي: بعثتكم محال، وإلا فأتوا بسلطان مبين أي: إنكم لا تفعلون ذلك أبداً، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلىمذهب الفلاسفة انتهى. والذي يظهر أنّ طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح، وإلافما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال. ألا ترى إلىأنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا: تريدون أنْ تصدونا عما كان يعبد آباؤنا أي: ليس مقصودكم إلا أن نكون لكمتبعاً، وننترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا. وقرأ طلحة: أن تصدونا بتشديد النون، جعل إن هي المخففة من الثقيلة،وقدر فصلاً بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن الثنائية التيتنصب المضارع، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها، كما ألغاها من قرأ

{ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ }

برفع يتمحملاً على ما المصدرية أختها.

{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } * { وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } * { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }

[عدل]

سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها، وأما ما سوى ذلك منالأوصاف التي اختصوا بها. فلم يكونوا مثلهم، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعاً منهم، ونسبةذلك إلى الله. ولم يصرحوا بمنّ الله عليهم وحدهم، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده. والمعنى: يمنبالنبوة على من يشاء تنبئته. ومعنى بإذن الله: بتسويغه وإرادته، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها، ولا هيفي استطاعتنا، ولذلك كان التركيب: وما كان لنا، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة. فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل، وقصدوا بهأنفسهم قصداً أولياً وأمروها به كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، وما يجريعلينا منكم. ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا نتوكل على الله ومعناه: وأي عذر لنا في أنْ لانتوكل على الله وقد هدانا، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجبعليه سلوكه في الدين. والأمر الأول وهو قوله: فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكلهم. ولنصبرنجواب قسم، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى. وما مصدرية، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي. والضمير محذوفأي: ما آذيتموناه وكان أصله به، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمي قولان؟ وقرأ الحسن: بكسر لامالأمر في ليتوكل وهو الأصل، وأو لأحد الأمرين أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم، أو عودهم في ملتهم كأنهمقالوا: ليكونن أحد هذين. وتقدير أو هنا بمعنى حتى، أو بمعنى إلا أن قول من لم ينعم النظر في مابعدها، لأنه لا يصح تركيب حتى، ولا تركيب إلا أن مع قوله: لتعودن بخلاف لألزمنك، أو تقضيني حقي والعود هنابمعنى الصيرورة. أو يكون خطاباً للرسل ومن آمنوا بهم. وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم،فيصح إبقاء لتعودن على المفهوم منها أولاً إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم قط.أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم، وكونهم إغفالاً عنهم لا يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل.وقرأ أبو حيوة: ليهلكن الظالمين وليسكننكم، بياء الغيبة اعتباراً بقوله: فأوحى إليهم ربهم، إذ لفظه لفظ الغائب. وجاء ولنسكننكمبضمير الخطاب تشريفاً لهم بالخطاب، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله: فأوحى إليهم ربهم. ولما أقسموا بهم على إخراجالرسل والعودة في ملتهم، أقسم تعالى على إهلاكهم. وأي إخراج أعظم من الإهلاك، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً،وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل. قال ابن عطية: وخص الظالمين من الذينكفروا، إذ جائز أنْ يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم. وقال غيره: أرادبالظالمين المشركين، قال تعالى:

{ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاكالظالمين كقوله تعالى:

{ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }

. ومقام يحتمل المصدر والمكان. فقال الفراء: مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي: قيامي عليهبالحفظ لأعماله، ومراقبتي إياه لقوله:

{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }

. وقال الزجاج: مكان وقوفه بين يديللحساب، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى:

{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ }

وعلى إقحامالمقام أي لمن خافني. والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء: أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله:

{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ ٱلْفَتْحُ }

ويجوز أن يكون الفتاحة وهي الحكومة، أي: استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم. واستنصار الرسل فيالقرآن كثير كقول نوح:

{ فَٱفْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِى }

وقول لوط:

{ رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ }

وقول شعيب:

{ رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ }

وقول موسى:

{ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ }

الآية. وقول ابن زيد: الضمير عائدعلى الكفار أي: واستفتح الكفار على نحو ما قالت قريش:

{ عَجّل لَّنَا قِطَّنَا }

وقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحموآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة، ظنوا أن ما جاؤوا به باطلفاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح:

{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا }

وقوم شعيب:

{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً }

وعاد:

{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }

وبعض قريش:

{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً }

. وقيل: الضمير عائد على الفريقين: الأنبياء، ومكذبيهم، لأنهم كانوا كلهم سألواأن ينصر المحق ويبطل المبطل. ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن: واستفتحوا بكسر التاء،أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي: أوحى إليهم ربهم وقال لهم: ليهلكن، وقال لهم: استفتحوا أي: اطلبوا النصر وسلوه منربكم. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهمبدعوة الرسول فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيّب رجاء كل جبار عنيد، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماءآخر وهو صديد أهل النار. واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى. وخاب معطوف علىمحذوف تقديره: فنصروا وظفروا. وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل، وتقدم شرح جبار. والعنيد: المعاند كالخليط بمعنى المخالط علىقول من جعل الضمير عائداً على الكفار، كأن وخاب عطفاً على واستفتحوا. ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن الأنباري أي:من بعده. وقال الشاعر:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة     وليس وراء الله للمرء مهرب

وقال أبو عبيدة أيضاً، وقطرب، والطبري، وجماعة: ومن ورائه أي ومن أمامه، وهو معنى قول الزمخشري: من بين يديه. وأنشد:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه     يكون وراء فرج قريب

وهذا وصف حاله في الدنيا، لأنه مرصدلجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. وقال الشاعر:

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي     وقوم تميم والفلاة ورائيا

وقال آخر:

أليس ورائي إن تراخت منيتي     لزوم العصا نحني عليها الأصابع

ووراء من الأضداد قاله: أبو عبيدة والأزهري. وقيل: ليس من الأضداد. وقالثعلب: اسم لما توارى عنك، سواء كان أمامك أم خلفك. وقيل: بمعنى من خلفه أي: في طلبه كما تقول الأمرمن ورائك أي: سوف يأتيك. ويسقى معطوف على محذوف تقديره: يلقى فيها ويسقى، أو معطوف على العامل في من ورائه،وهو واقع موقع الصفة. وارتفاع جهنم على الفاعلية، والظاهر إرادة حقيقة الماء. وصديد قال ابن عطية: هو نعت لماء، كماتقول: هذا خاتم حديد وليس بماء، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء. وقيل: هونعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول: مررت برجل أسد التقدير: مثل صديد. فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديدوليس بماء حقيقة، وعلى هذا القول لا يكون صديداً ولكنه ما يشبه بالصديد. وقال الزمخشري: صديد عطف بيان لماء قال:ويسقى من ماء، فأبهمه إبهاماً، ثم بينه بقوله: صديد انتهى. والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات، وأجازه الكوفيون وتبعهمالفارسي، فأعرب

{ زَيْتُونَةٍ }

عطف بيان

{ لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ }

فعلى رأي لبصريين لا يجوز أن يكون قوله: صديد، عطف بيان.وقال الحوفي: صديد نعت لماء. وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: هو ما يسيل من أجساد أهل النار. وقال محمد بن كعبوالربيع: هو غسالة أهل النار في النار. وقيل: هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل: صديد بمعنى مصدود عنهأي: لكراهته يصد عنه، فيكون مأخوذاً عنه من الصد. وذكر ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله فيقوله: {وَيُسْقَىٰ مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ } قال: «يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدنى منه شوي وجهه ووقعت فروة رأسه،وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يتجرعه يتكلف جرعه. ولا يكاد يسيغه أي: ولا يقارب أن يسيغه، فكيفتكون الإساغة. والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه، وإذا انتفت انتفت الإساغة، فيكون كقوله:

{ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا }

أي لميقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ والحديث: جاءنا ثم يشربه فإن صح الحديث كان المعنى: ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربهثم شربه، كما جاء

{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }

أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح. وتجرع تفعل، ويحتمل هنا وجوهاًأن يكون للمطاوعة أي جرعة فتجرع كقولك: علمته فتعلم. وأنْ يكون للتكلف نحو: تحلم، وأن يكون لمواصلة العمل في مهلةنحو: تفهم أي يأخذه شيئاً فشيئاً. وأن يكون موافقاً للمجرد أي: تجرعه كما تقول: عدا الشيء وتعدّاه. ويتجرعه صفة لماقبله، أو حال من ضمي ويسقى، أو استئناف. ويأتيه الموت أي: أسبابه. والظاهر أنّ قوله: من كل مكان معناه منالجهات الست، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام. وقال إبراهيم التيمي: من كل مكان من جسده، حتى من أطراف شعره.وقيل: حتى من إبهام رجليه، والظاهر أنّ هذا في الآخرة. وقال الأخفش: أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا، سماهاموتاً وهذا بعيد، لأنّ سياق الكلام بدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم. وقوله: وما هو بميت لتطاولشدائد الموت، وامتداد سكراته. ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم. وقال الزمخشري: ومن ورائه ومنبين يديه عذاب غليظ أي: في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاسوحبسها في الأجساد انتهى. وقيل: الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار.

{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } * { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } * { وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } * { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } * { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَأُدْخِلَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } * { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } * { تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } * { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } * { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } * { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } * { قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ } * { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } * { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }

[عدل]

الرماد معروف، وقال ابن عيسى: هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار، ويجمع علىرمد في الكثرة وأرمدة في القلة، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا: أرمداء، ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون.الجزع: عدم احتمال الشدة، وهو نقيض الصبر. قال الشاعر:

جزعت ولم أجزع من البين مجزعا     وعذبت قلباً بالكواعب مولعا

المصرخ: المغيث. قال الشاعر:

فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ     وليس لكم عني غناء ولا نصر

والصارخالمستغيث، صرخ يصرخ صرخاً وصراخاً وصرخة. قال سلامة بن جندل:

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع     كان الصراخ له قرع الظنابيب

واصطرخ بمعى صرخ، وتصرخ تكلف الصراخ، واستصرخ استغاث فقال: استصرخني فاصرخته والصريخ مصدر كالتريخ ويوصف به المغيث والمستغيثمن الأضداد. الفرع الغصن من الشجرة. ويطلق على ما يولد من الشيء، والفرع الشعر يقال: رجل أفرع وامرأة فرعاء لمنكثر شعره. وقال الشاعر: وهو امرؤ القيس بن حجر:

وفـرع يغشـى المـتن أسـواد فـاحم    

اجتث الشيء اقتلعه، وجث الشيء قلعه،والجثة شخص الإنسان قاعداً وقائماً. وقال لقيط الأياري:

هو الجلاء الذي يجتث أصلكم     فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا

البوار: الهلاك. قال الشاعر:

فلم أر مثلهم أبطال حرب     غداة الحرب إذ خيف البوار

{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَىْءذٰلِكَ }: ارتفاع مثل على الابتداء، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه. فيما على عليكم، أو يقص. والمثل مستعار للصفة التيفيها غرابة، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد، كما تقول: صفة زيدعرضه مصون، وماله مبذول. وقال ابن عطية: ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل، وأنّ المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد.وقال الحوفي: مثل رفع بالابتداء، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال. كما قال الشاعر:

ما للجمال مشيها وئيدا     أجند لا يحملن أم حديدا

وكرماد الخبر. وقال الزمخشري: أو يكون أعمالهم بدلاً من مثل الذين كفروا علىتقدير: مثل أعمالهم، وكرماد الخبر. وقال ابن عطية: وقيل هو ابتداء، وأعمالهم ابتداء ثان، وكرماد خبر للثاني، والجملة خبر الأول.وهذا عندي أرجح الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم في فسادها وقتالحاجة، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر، ولا يجتمع منه شيء انتهى. وهذا القولالذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي، وهو لا يجوز، لأن الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عاريةمن رابط يعود على المثل، وليست نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى رابط. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهممن صلة الأرحام، وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجارة، وغير ذلك. شبهها في حبوطها وذهابها هباءاًمنثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف. وقرأ نافع، وأبو جعفر:الرياح على الجمع، والجمهور على الأفراد. ووصف اليوم بقوم عاصف، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز، كما قالوا:يوم ما حل وكيل نائم. وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر:

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف    

يريد كاسف الشمس. وقيل: عاصف من صفة الريح، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كماقيل: جحر ضب خرب، يعني: إنه خفض على الجوار. وقرأ ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن: فييوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، تقديره: في يوم ريح عاصف. وتقدم تفسيرالعصوف في يونس في قوله:

{ جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ }

وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته يجوز أن تكونالقراءة منه: لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، أي: لا يرون له أثراً من ثواب، كمالا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء. وقيل: لا يقدرون من ثواب ما كسبوا، هو على حذف مضاف. وفيالصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين،هل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وفي الصحيح أيضاً: إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال. وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذييعمق فيه صاحبه، وأبعد عن طريق النجاة، والبعيد عن الحق، أو الثواب. وفي البقرة: لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ علىشيء من التفنن في الفصاحة، والمغايرة في التقديم والتأخير، والمعنى واحد. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ بِٱلْحَقّإِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ ٱلضُّعَفَاء لِلَّذِينَٱسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَىْء قَالُواْ }: قرأ السلمي ألم تربسكون الراء، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وتوجيه آخر وهو أنْ ترى حذفت العرب ألفها في قولهم: قام القومولو تر ما زيد، كما حذفت ياء لا أبالي في لا أبال، فلما دخل الجازم تخيل أنّ الراء هي آخرالكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في: لا أبالي لم أبل، تخيلوا اللام آخر الكلمة. والرؤية هنا بمعنى العلم، فهي منرؤية القلب. وقرأ الإخوان: خالق اسم فاعل، والأرض بالخفض. قرأ باقي السبعة: خلق فعلاً ماضياً، والأرض بالفتح. ومعنى بالحق قالالزمخشري: بالحكمة، والغرض الصحيح، والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة. وقال ابن عطية: بالحق أي بما يحق من جهةمصالح عباده، وإنفاذ سابق قضائه، وليدل عليه وعلى قدرته. وقيل: بقوله وكلامه. وقيل: بالحق حال أي محقاً، والظاهر أن قوله:يذهبكم، خطاب عام للناس. وعن ابن عباس: خطاب للكفار. ويأت بخلق جديد: يحتمل أن يكون المعنى: إن يشأ يذهبكم أيهاالناس ويأت بناس آخرين من جنسكم آدميين، ويحتمل من غير جنسكم. والأول قول جمهور المفسرين، وتقدم نحو هذين الاحتمالين للمفسرينفي قوله في النساء:

{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِـاخَرِينَ }

وبينا في ذلك أنه لا يحتمل إلا الوجهالأول. وما ذلك أي: وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بممتنع ولا متعذر عليه تعالى، لأنه تعالى هو القادر على مايشاء. وقال الزمخشري: لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء، وانتفى الصارف،تكون من غير توقف كتحريك أصبعك. وإذا دعا إليه داع ولم يعترض من دونه صارف انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال لقوله:القادر، لأنهم يثبتون القادرية وينفون القدرة، ولتشبيه فعله تعالى بفعل العبد في قوله: كتحريك أصبعك. وعندنا أن تحريك أصبعنا ليسإلا بقدرة الله تعالى، وأنّ ما نسب إلينا من القدرة ليس مؤثراً في إيجاد شيء. وقال الزمخشري أيضاً: وهذهالآية بيان لإبعادهم في الضلال، وعظيم خطبهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة، وحكمته البالغة،وأنه هو الحقيق بأن يعبد ويخاف عقابه، ويرجى ثوابه في دار الجزاء انتهى. وبرزوا: أي ظهروا من قبورهم إلى جزاءالله وحسابه. وقال الزمخشري: ومعنى بروزهم الله، والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز أنهم كانوا يستترون من العيونعند ارتكاب الفواحش، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم، وعلماء أن اللهلا تخفى عليه خافية. وقال ابن عطية: وبرزوا معناه صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة، فاستعير ذلك لجميع يوم القيامة. وقالأبو عبد الله الرازي: تأويل الحكماء أنّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كلما سواها، وذلك هو البروز لله تعالى. وهذا الرجل كثيراً ما يورد كلام الفلاسفة وهم مباينون لأهل الشرائع في تفسيركلام الله تعالى المنزل بلغة العرب، والعرب لا تفهم شيئاً من مفاهيم أهل الفلسفة، فتفسيرهم كاللغز والإحاجي، ويسميهم هذا الرجلحكماء، وهم من أجهل الكفرة بالله تعالى وبأنبيائه. والضمير في وبرزوا عائد على الخلق المحاسبين، وعبر بلفظ الماضي لصدق المخبربه، فكأنه قد وقع. وقرأ زيد بن علي: وبرزوا مبنياً للمفعول، وبتشديد الراء. والضعفاء: الأتباع، والعوام. وكتب بواو في المصحفقبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو، ومثله علموا بني إسرائيل. والذين استكبروا: هم رؤساؤهموقاداتهم، استغفروا الضعفاء واستتبعوهم. واستكبروا وتكبروا، وأظهروا تعظيم أنفسهم. أو استكبروا عن اتباع الرسل وعبادة الله. وتبعاً: يحتمل أن يكوناسم جمع لتابع، كخادم وخدم، وغائب وغيب. ويحتمل أن يكون مصدراً كقوله: عدل ورضا. وهل أنتم مغنون؟ استفهام معناه توبيخهمإياهم وتقريعهم، وقد علموا أنهم لن يغنوا والمعنى: إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عناشيئاً، فلذلك جاء جوابهم: لو هدانا الله لهديناكم، أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد الهداية لله تعالى، وهو كلامحق في نفسه. وقال الزمخشري: من الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هوعذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء، هو بعض عذاب الله أي: بعضبعض عذاب الله انتهى. وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله: من شيءعلى قوله: من عذاب الله، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله: من عذاب الله. ومن التبيينية يتقدم عليها ماتبينه، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني، وهو بعض شيء، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلاً، فيكون بدل عام من خاص،لأنّ من شيء أعم من قوله: من عذاب الله، وإن عنى بشيء شيئاً من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر،وهو بعض بعض عذاب الله. وهذا لا يقال، لأنّ بعضية الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض. ونص الحوفي، وأبو البقاء:على أنّ مِن في قوله: من شيء، زائدة. قال الحوفي: من عذاب الله متعلق بمغنون، ومن في من شيء لاستغراقالجنس، زائدة للتوكيد. وقال أبو البقاء: ومِن زائدة أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على المعنى تقديره: هلتمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون شيء واقعاً موقع المصدر أي: غنى فيكون من عذاب الله متعلقاً بمغنون انتهى. ومسوغالزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام، فكان الاستفهام دخل عليه وباشره، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب: فهل تغنون. وقالالزمخشري: أجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم بأنّ الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم، ولم يضلوهم إما مدركين الذنب فيضلالهم، وإضلالهم على الله كما حكى الله عنهم. وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ماعبدنا من دونه من شيء، يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا، ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين:

{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىْء }

انتهى. وحكى أبو عبد الله الرازيعن الزمخشري أنهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: يوم يبعثهم الله جميعاًفيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء. قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أنّ المعتزلة لا يجوزون صدورالكذب على أهل القيامة، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه، لا يقبل منه. وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يكونالمعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا. واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. قال أبو عبد الله الرازي: وذكر القاضيهذا الوجه وزيفه بأنْ قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف، لأن ذلك قد فعله الله. وقيل: لو خلصنا اللهمن العذاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم. وقال الزمخشري في بسط هذا القول: لو هدانا الله طريق النجاة من العذابلهديناكم أي: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، كما سلكنا بكم سبيل الهلكة انتهى. وقيل: ويدل على أنّ المراد بالهدىالهدى إلى طريق الجنة، أنه هو الذي التمسوه وطلبوه، فوجب أن يكون المراد. وقال ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم.والظاهر أنّ قوله: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى آخره، داخل تحت قول المستكبرين، وجاء تجمله بلا واو عطف، كأنكل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة، وإن كانت مرتبطاً بعضها ببعض من جهة المعنى لأنّ سؤالهم: هل أنتم مغنون عنا؟إنما كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا ذلك: سوّوا بينهم، وبينهم في ذلك لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعينفيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر. ولما قالوا: لو هدانا الله،أتبعوا ذلك بالإقناط من النجاة فقالوا: ما لنا من محيص: أي منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. وقيل: سواء علينا منكلام الضعفاء والذين استكبروا والتقدير: قالوا جميعاً سواء علينا يخبرون عن حالهم. وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في أولالبقرة، والظاهر أن هذه المحاورة بين الضعاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله. وعن محمد بنكعب، وابن زيد: أن قولهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، بعد صبرهم في النار خمسمائة عام، وبعد جزعهم مثلها.{وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلاْمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَندَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ }: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنهلما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة، ذكر محاورة الشيطان وأتباعه من الإنس، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس بالإضلال. والشيطانهنا إبليس، وهو رأس الشياطين. وفي حديث الشفاعة من حديث عقبة بن عامر: «أن الكافرين يقولون: وجد المؤمنون من يشفعلهم فمن يشفع لنا، فيقولون: ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم،فقم أنت فاشفع لنا، فإنّك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ويقول عند ذلك: إن الله قدوعدكم» الآية وعن الحسن: يقف إبليس خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً فيقول: إنّ الله وعدكموعد الحق، يعني: البعث، والجنة، والنار، وثواب المطيع، وعقاب العاصي، فصدقكم وعده، ووعدتكم أنْ لا بعث ولا جنة ولا نار،ولا ثواب ولا عقاب، فأخلفتكم. قضي الأمر تعين قوم للجنة وقوم للنار، وذلك كله في الموقف، وعليه يدل حديث الشفاعةأو بعد حصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ويدل عليه ما ذكرناه عن الحسن، وهو تأويل الطبري.وقيل: قضي الأمر قطع وفرع منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين إلى مقربهما. ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوفإلى صفته أي: الوعد الحق، وأن يكون الحق صفة الله أي: وعده، وأن يكون الحق الشيء الثابت وهو البعث والجزاءعلى الأعمال أي: فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم، وإلا أنّ دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع، لأنّ دعاءهإياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان، وهو الحجة البينة. قيل: ويحتمل أن يريد بالسلطان الغلبة والتسليط والقدرة أي:ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة، بل عرضت عليكم شيئاً فأتى رأيكم عليه. وقيل: هو استثناء متصل، لأنّ القدرة على حملالإنسان على الشيء تارة يكون بالقهر من الحامل، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه، فهذا نوعمن أنواع التسليط. وقيل: وظاهر هذا الكلام يدل على أنّ الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه،وإزالة عقله، فلا تلوموني. وقرىء: فلا يلوموني بالياء على الغيبة، وهو التفات يريد في ما آتيتموه من الضلال، ولوموا أنفسكمفي سوء نظركم واستجابتكم لدعائي من غير تثبت ولا حجة. وقال الزمخشري: ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم، وأطعتموني إذ دعوتكم، ولمتطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلاالتمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قدقضى عليكم الكفر وأجبركم عليه انتهى. وهو على طريق الاعتزال. ما أنا بمصرخكم قال ابن عباس: بنافعكم. وقال ابنجبير: بمنقذكم، وقال الربيع: بمنجيكم، وقال مجاهد: بمغيثكم، وكلها أقوال متقاربة. وقرأ يحيـى بن وثاب، والأعمش، وحمزة: بمصرخي بكسر اللياء،وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء: لعلها من وهم القراء، فإنه قل من سلم منهم من الوهم،ولعله ظن أنّ الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله، والباء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا، ظنواأنّ الباء تكسر لما بعدها. وقال الأخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب، ولا من النحويين. وقال الزجاج: هذهالقراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال النحاس: صار هذا إجماعاً، ولا يجوز أنيحمل كتاب الله على الشذوذ. وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:

قال لها هل لك يا تافي     قالت له ما أنت بالمرضي

وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليهأصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو: عصاي فما بالها،وقبلها باء. (فإن قلت): جرت الياء الأولى مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن،فحركت بالكسر على الأصل. (قلت): هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات انتهى.أما قوله: واستشهدوا لها ببيت مجهول، قد ذكر غيره أنه للأغلب العجلى، وهي لغة باقية في أفواه كثير من الناسإلى اليوم، يقول القائل: ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء. وأما التقدير الذي قال: فهو توجيه الفراء، ذكره عنه الزجاج.وأما قوله، في غضون كلامه حيث قبلها ألف، فلا أعلم حيث يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو: قعد زيد حيثأمام عمر وبكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع. وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روى سكون الياء بعدالألف. وقرأ بذلك القراء نحو: محياي، وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة لا ينبغي أن يلتت إليه. واقتفى آثارهمفيها الخلاف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ، أو قبيحة، أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنهالغة، لكنه قلَّ استعمالها. ونص قطرب على أنها لغة في بني يرفوع. وقال القاسم بن معن وهو من رؤساء النحويينالكوفيين: هي صواب، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو فقال: هي جائزة. وقال أيضاً: لاتبالي إلى أسفل حركتها، أو إلى فوق. وعنه أنه قال: هي بالخفض حسنة. وعنه أيضاً أنه قال: هي جائزة. وليستعند الإعراب بذلك، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها، فأبو عمرو إمام لغة، وإمام نحو، وإمامقراءة، وعربي صريح، وقد أجازها وحسنها، وقد رووا بيت النابغة:

( عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة     لوالده ليست بذات عقارب

بفخض الياء من عليّ. وما في بما أشركتموني مصدرية، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي: كفرتاليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله:

{ أَنَاْ بَرآء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ }

وقال: ويوم القيامة يكفرون بشرككم. وقيل: موصولة بمعنى الذي، والتقدير: كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه، فحذف العائد.وقيل: من قبل متعلق بكفرت، وما بمعنى الذي أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو اللهعز وجل. تقول: شركت زيداً، فإذا أدخلت همزة النقل قلت: أشركت زيداً عمراً، أي جعلته له شريكاً. إلا أن فيهذا القول إطلاق ما على الله تعالى، وما الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم. وقال الزمخشري: ونحوما هذه يعني في إطلاقها على الله ما في قولهم: سبحان ما سخركن لنا انتهى. ومن منع ذلك جعل سبحانعلماً على معنى التسبيح، كما جعل برة علماً للمبرة. وما مصدرية ظرفية، ويكون ذلك من إبليس إقراراً على نفسه بكفرهالأقدم أي: خطيئتي قبل خطيئتكم. فلا إصراخ عندي أنّ الظالمين لهم عذاب أليم، الظاهر أنه من تمام كلام إبليس، حكىالله عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيهاً للسامعين علي النظر في عاقبتهم، والاستعداد لما لا بد منه. وأنيتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، يخافوا، ويعملوا ما يخلصهم منه، وينجيهم. وقيل: هو منكلام الخزنة يوم ذاك. وقيل: من كلام الله تعالى. ولأبي عبد الله الرازي كلام هنا في الشيطان والملائكة يوقف عليهمن تفسيره. {وَأُدْخِلَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـٰمٌ}: لما جمع الفريقين في قوله:

{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا }

وذكر شيئاً من أحوال الكفار، ذكر ما آل إليه أمرالمؤمنين من إدخالهم الجنة. وقرأ الجمهور: وأدخل ماضينا مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد: وأدخل بهمزة المتكلم مضارع أدخلأي: وأدخل أنا. وعلى قراءة الجمهور يحتمل أن يكون الفاعل الملائكة، والظاهر تعلق بإذن ربهم بأدخل. وقال الزمخشري: (فإن قلت):فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملئتم؟ (قلت): الوجه في هذهالقراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي: تحيتهم فيها سلام. بإذن ربهم يعني: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهمانتهى. فظاهر كلامه أنّ بإذن ربهم معمول لقوله: تحيتهم، ولذلك قال: يعني أنّ الملائكة يحيونهم بإذن ربهم، وهذا لا يجوز،لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري والفعل عليه، وهو غير جائز. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمدالرازي الحسن: أدخل برفع اللام على الاستقبال بإخبار الله تعالى عن نفسه، فيصير بذلك بإذن ربهم ألطف لهم وأحنى عليهم،وتقدم تفسير

{ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـٰمٌ }

في أوائل سورة يونس. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍطَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَاء * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِفِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلاْخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء }: تقدم الكلام في ضرب مع المثل فيأوائل البقرة، فكان يغني ذلك عن الكلام فيه هنا، إلا أنّ المفسرين أبدوا هنا تقديرات، فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاءمثلاً مفعولا بضرب، وكلمة بدل من مثلا. وإعرابهم هذا تريع، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد.وقال ابن عطية: وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب، وكلمة مفعول أول تفريعاً على أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين، لأنهابمعنى جعل. وعلى هذا تكون كشجرة خبر مبتدأ محذوف أي: جعل كلمة طيبة مثلاً هي أي: الكلمة كشجرة طيبة، وعلىالبدل تكون كشجرة نعتاً للكلمة. وأجاز الزمخشري: وبدأ به أنْ تكون كلمة نصباً بمضمر أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة،وهو تفسير لقوله: ضرب الله مثلاً، كقولك: شرف الأمير زيداً كساه حلة، وحمله على رس انتهى. وفيه تكلف إضمار لاضرورة تدعو إليه. وقرىء شاذاً كلمة طيبة بالرفع. قال أبو البقاء: على الابتداء، وكشجرة خبره انتهى. ويجوز أن يكونخبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكمة، والكلمة الطيبة هي: لا له إلا اللهقاله ان عباس، أو الإيمان قاله مجاهد وابن جريج، أو المؤمن نففسع قاله عطية العوفي والربيع، أو جميع طاعاته أوالقرآن قاله الأصم، أو دعوة الإسلام قاله ابن بحر، أو الثناء على الله أو التسبيح والتنزيه والشجرة الطيبة المؤمن قالهابن عباس، أو جوزة الهند قاله على وابن عباس، أو شجرة في الجنة قاله ابن عباس أيضاً، أو النخلة وعليهأكثر المتأولين وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، وأنس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، وجاء ذلك نصاً من حديث ابنعمر مما خرجه الدارقطني عنه قال: قرأ رسول الله وذكر الآية فقال: أتدرون ما هي فوقع في نفسي أنها النخلة الحديث. وقال أبو العالية: أتيت أنس بن مالك فجيء بطبق عليه رطب فقال أنس: كل ياأبا العالية، فإنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في كتابه ثم قال: أتى رسول الله بصاعبسر فتلا هذه الآية. وفي الترمذي من حديث أنس نحو هذا. وقال الزمخشري: كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة، وشجرةالتين، والعنب، والرمان، وغير ذلك انتهى. وقد شبه الرسول المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، فلا يبعد أن يشبه أيضاًبشجرتها. أصلها ثابت أي: في الأرض ضارب بعروقه فيها. وقرأ نس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها، أجريت الصفة علىالشجرة لفظاً وإن كانت في الحقيقة للسبي. وقراءة الجماعة فيها إسناد الثبوت إلى السبي لفظاً ومعنى، وفيها حسن التقسيم، إذجاء أصلها ثابت وفرعها في السماء، يريد بالفرع أعلاها ورأسها، وإن كان المشبه به ذا فروع، فيكون من باب الاكتفاءبلفظ الجنس. ومعنى في السماء: جهة العلو والصعود لا المظلة. وفي الحديث: خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً ولما شبهت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان، وما يصدر عنها من الأفعال الزكيةوالأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى الله تعالى:

{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ }

وما يترتبعلى ذلك العمل وهو ثواب الله هو جناها، ووصف هذه الشجرة بأربعة أوصاف: الأول قوله: طيبة، أي كريمة المنبت، والأصلفي الشجرة له لذة في المطعم. قال الشاعر:

طيب الباءة سهل ولهم     سبل إن شئت في وحش وعر

أي ساحتهم سهلة طيبة. الثاني: رسوخ أصلها، وذلك يدل على تمكنها، وأنّ الرياح لا تقصفها، فهي بطيئة الفناء،وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه. والثالث: علو فرعها، وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها، وعلى بعدها عن عفوناتالأرض، وعلى صفائها من الشوائب. الرابع: ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات. والحين في اللغة قطعة من الزمان قالالشاعر:

تناذرها الراقون من سوء سمها     تطلقه حيناً وحيناً تراجع

والمعنى: تعطي جناها كل وقت وقتهالله له. وقال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، أي كل سنة، ولذلك قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحكم، وحماد، وجماعةمن الفقهاء: من حلف أنْ لا يفعل شيئاً حيناً فإنه لا يفعله سنة، واستشهدوا بهذه الآية. وقيل: ثمانية أشهر قالهعلي ومجاهد، ستة أشهر وهي مدة بقاء الثمر عليها. وقال ابن المسيب: الحين شهران، لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين.وقيل: لا تتعطل من ثمر تحمل في كل شهر، وهي شجرة جوز الهند. وقال ابن عباس أيضاً والشحاك، والربيع: كلحين أي كل غدوة وعشية، ومتى أريد جناها ويتخرج على أنها شجرة في الجنة. والتذكر المرجو بضرب المثل هو التفهموالتصور للمعاني المدركة بالعقل، فمتى أبرزت بالمحسوسات لم ينازع فيها الحس والخيال والوهم، وانطبق المعقول على المحسوس، فحصل الفهم والوصولإلى المطلوب. والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر على قول الجمهور. وقال مسروق: الكذب، وقال: إن تجر دعوة الكفر وما يعزىإليه الكافر. وقيل: كل كلام لا يرضاه الله تعالى. وقرأ أبي: وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة، وقرىء: ومثل كلمة بنصبمثل عطفاً على كلمة طيبة. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل قاله الأكثرون: ابن عباس، ومجاهد، وأنس بن مالك، ورواه عن النبي. وقال الزجاج وفرقة: شجرة الثوم. وقيل: شجرة الكشوت، وهي شجرة لا ورق لها ولا أصل قال:وهي كشوت فلا أصل ولا ثمر. وقال ابن عطية: ويرد على هذه الأقوال أن هذه كلها من النجم وليست منالشجر، والله تعالى إنما مثل بالشجر فلا تسمى هذه شجرة إلا بتحوّز، فقد قال رسول الله في الثوم والبصل «من أكل من هذه الشجرة» وقيل: الطحلبة. وقيل: الكمأة. وقيل: كل شجر لا يطيب له ثمر. وعنابن عباس: هي الكافر، وعنه أيضاً: شجرة لم تخلق على الأرض. وقال ابن عطية: والظاهر عندي أنّ التشبيه وقع بشجرةغير معينة، إذا وجدت منها هذه الأوصاف هو أن يكون كالعضاة أو شجرة السموم ونحوها إذا اجتثت أي: اقتلعت جثهابنزع الأصول وبقيت في غاية الوهي والضعف، فتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أنّ بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا يغنيعنه كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد الجاهل أنها شيء نافع، وهي خبيثة الجني غير نافعة انتهى. واجتثت منفوق الأرض مقابل لقوله: أصلها ثابت أي: لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض، وإنما هي نابتة على وجهالأرض. ما لها من قرار أي: استقرار. يقال: أقر الشيء قراراً ثبت ثباتاً، شبه بهذه الشجرة القول الذي لم يعضدبحجة، فهو لا يثبت بل يضمحل عن قريب لبطلانه، والقول الثابت هو الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكنفيه، واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا، كماجرى لأصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد، كما ثبت جرجيس وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهويقول: أحد أحد. وتثبيتهم في الآخرة كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثوا، ولم يبهتوا، ولم تحيرهمأهوال الحشر. والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة. وقال طاووس وقتادة وجمهور من العلماء: أن تثبيتهم فيالدنيا هو مدة حياة الإنسان، وفي الآخرة هو وقت سؤاله في قبره، ورجح هذا القول الطبري. وقال البراء بن عازبوجماعة: في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره، ورواه البراء عن النبي ، وفي الآخرة هويوم القيامة عند العرض. وقيل: معنى تثبيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان، وحشره عليه. وقيل: التثبيتفي الدنيا الفتح والنصر، وفي الآخرة الجنة والثواب. وما صح عن الرسول في حديث البراء منتلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره، وسئل وشهد شهادة الإخلاص قوله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا الآية، لا يظهر منهيعني: أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان، وأن الآخرة في القبر، ولا أن الحياة الدنيا هي في القبر، وأن الآخرةهي يوم القيامة، بل اللفظ محتمل. ومعنى يثبت: يديمهم عليه، ويمنعهم من الزلل. ومنه قول عبد الله بن رواحة:

فثبت الله ما آتاك من حسن     تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله: يثبت. وقيل:يتعلق بآمنوا. وسؤال العبد في قبره معتقد أهل السنة. ويضل الله الظالمين أي: الكافرين لمقابلتهم بالمؤمنين، وإضلالهم في الدنيا كونهملا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم وهي الحيرة التي تلحقهم، إذ ليسوا متمسكين بحجة. وفي الآخرة هو اضطرابهم فيجوابهم. ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة، تقدم في هذا الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاهمن نسبت إليه الكلامة الخبيثة ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيماخص به كل واحد منهما، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى، إنّ الله يفعل ما يشاء، لا يسئل عما يفعل.وقال الزمخشري: ويفعل الله ما يشاء أي: توجيه الحكمة، لأنّ مشيئة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عندثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. {أَلَمْ تَرَ إِلَىٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَنسَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ }: لم ذكر حال المؤمنين وهداهم، وحال الكافرين وإضلالهم، ذكر السبب في إضلالم.والذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين قاله الحسن، بدلوا بنعمة الإيمان الكفر. وقال مجاهد: هم أهل مكة، أنعمالله تعالى عليهم ببعثه رسولاً منهم يعلمهم أمر دينه وشرفهم به، وأسكنهم حرمه، وجعلهم قوام بيته، فوضعوا مكان شكر هذهالنعمة كفراً. وسأل ابن عباس عمر عنهم فقال: هما الأعراب من قريش أخوالي أي: بني مخزوم، واستؤصلوا ببدر. وأعمامك أي:بني أمية، ومتعوا إلى حين. وعن علي نحو من ذلك. وقال قتادة: هم قادة المشركين يوم بدر. وعن علي: همقريش الذين تحزبوا يوم بدر. وعلى أنهم قريش جماعة من الصحابة والتابعين. وعن علي أيضاً: هم منافقو قريش أنعم عليهمبإظهار علم الإسلام بأن صان دماءهم وأموالهم وذراريهم، ثم عادوا إلى الكفر. وعن ابن عباس: في جبلة بن الإيهم، ولايريد أنها نزلت فيه، لأن نزول الآية قبل قصته، وقصته كانت في خلافة عمر، وإنما يريد ابن عباس أنها تخصمن فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة. ونعمة الله على حذف مضاف أي: بدلوا شكر نعمة الله كقوله:

{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ }

أي شكر رزقكم، كأنه وجب عليهم الشكر كفوضعوا مكانه كفراً، وجعلوا مكان شكرهم التكذيب. قال الزمخشري: ووجهآخر وهو أنهم بدلوا نفس النعمة بالكفر حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة، وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمة، وجعلهم قوامبيته، وأكرمهم بمحمد ، فكفروا نعمة الله بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله بالنعمةوالسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم الله بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، وبقي الكفر طوقاً في أعناقهمانتهى. ونعمة الله هو المفعول الثاني، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي: بنعمة الله، وكفراً هو المفعول الأولكقوله:

{ فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ }

أي بسيئاتهم حسنات. فالمنصوب هو الحاصل، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هوالذاهب، على هذا لسان العرب، وهو على خلاف ما يفهمه العوام، وكثير ممن ينتمي إلى العلم. وقد أوضحنا هذه المسألةفي قوله في البقرة:

{ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَـٰنِ }

وإذا قدرت مضافاً محذوفاً وهو شكر نعمة الله، فهو الذي دخلتعليه الباء ثم حذفت، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت. وأحلوا قومهم أي: من تابعهمعلى الكفر. وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفراً هو مفعول ثان لبدلوا، وليس بصحيح، لأنّ بدل من أخوات اختار، فالذييباشره حرف الجر هو المفعول الثاني، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول. وأعرب الحوفيوأبو البقاء: جهنم بدلاً من دار البوار، والزمخشري عطف بيان، فعلى هذا يكون الإحلال في الآخرة. ودار البوار جهنم، وقاله:ابن زيد. وقيل: عن علي يوم بدر، وعن عطاء بن يسار: نزلت في قتلى بدر، فيكون دار البوار أي: الهلاكفي الدنيا كقليب بدر وغيره من المواضع التي قتلوا فيه. وعلى هذا أعرب ابن عطية وأبو البقاء: جهنم منصوب علىالاشتغال أي: يصلون جهنم يصلونها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة: جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنممرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهذا التأويل أولى، لأنّ النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم مايرجحه، ولا ما يكون مساوياً، وجمهور القراء على النصب. ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته أفصحمن زيداً ضربته، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة راجحاً، وعلى تأويل الاشتغاليكون يصلونها لا موضع له من الإعراب، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالاً من جهنم، أو حالاً من دارالبوار، أو حالاً من قومهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وبئس القرار هي أي: جهنم. وجعلوا لله أنداداً أي زادوا إلىكفرهم نعمته أن صيروا له أنداداً وهي الأصنام التي اتخذوا آلهة من دون الله. وقرأ ابن كثير وأبو عمر:وليضلوا هذا، و

{ لِيُضِلَّ }

في الحج ولقمان والروم بفتح الياء، وباقي السبعة بضمها. والظاهر أنّ اللام لام الصيرورة والمآل. لماكانت نتيجة جعل الأنداد آلهة الضلال أو الإضلال، جرى مجرى لام العلة في قولك: جئتك لتكرمني، على طريقة التشبيه. وقيل:قراءة الفتح لا تحتمل أن تكون اللام لام العاقبة، وأما بالضم فتحتمل العاقبة. والعلة والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد علىحد قوله:

{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }

قال الزمخشري: تمتعوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولايريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه، ولا يملكوه لأنفسهم أمراً دونه، وهو آمر الشهوة والمعنى:إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإنّ مصيركم إلى النار. ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه:

{ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ }

انتهى ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع. وخبر إنّ هو قوله:إلى النار، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل، ولذلك تعدى بإلى أي: فإنّ انتقالكم إلى النار، لأنه تبقى إنّ بلاخبر، ولا ينبغي أن يدعي حذفه، فيكون التقدير: فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن، لأنّ حذف الخبرفي مثل هذا التركيب قليل، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة، والخبر جار ومجرور. وقد أجاز الحوفي: أنيكون إلى النار متعلقاً بمصيركم، فعلى هذا يكون الخبر محذوفاً. {قُل لّعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْسِرّا وَعَلانِيَةً مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ }: لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته، وجعلهم لهأنداداً، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة. ومعمول قل، محذوفتقديره: أقيموا الصلاة يقيموا. ويقيموا مجزوم على جواب الأمر، وهذا قول: الأخفش، والمازني. ورد بأنه لا يلزم من القول إنْيقيموا، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين، والمؤمنون متى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة. قال ابنعطية: ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله: قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنىبلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى. وهذا قريب مما قبله، إلا أن في ما قبله معمول القول: أقيموا، وفي هذهالشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة. وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله: يقيموا، وهو أمر مجزوم بلامالأمر محذوفة على حد قول الشاعر:

محمـد تفـد نفسـك كـل نفـس    

أنشده سيبويه إلا أنه قال: إنّ هذا لا يجوز إلا فيالشعر. وقال الزمخشري في هذا القول: وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل، عوض منه. ولو قيل: يقيمواالصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز انتهى. وذهب المبرد إلى أنّ التقدير: قل لهم أقيموا يقيموا، فيقيموا المصرح بهجواب أقيموا المحذوف قيل. وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل، أو في الفاعل، أوفيهما. فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك: قم يقم، والتقدير على هذا الوجه: أن يقيموا يقيموا. والوجه الثاني:أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً. وقيل: التقدير أن تقل لهم أقيموايقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية. وقال الفراء: جواب الأمر معه شرط مقدر تقول: أطع الله يدخلك الجنة، أيإن تطعه يدخلك الجنة. ومخالفة هذا القول للقول قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر، وفي الذي قبلهالأمر مضمن معنى الشرط. وقيل: هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر، والمعنى: أقيموا، قاله أبو علي فرقة. وردبأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر، لبقي على إعرابه بالنون كقوله:

{ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ }

ثم قال:

{ تُؤْمِنُونَ }

والمعنى: آمنوا. واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني: على حذف النون، لأن المرادأقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك: يا زيد، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى،ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعةفهو أعم، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة. قال ابن عطية: ويظهرأن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله:الله الذي خلق السموات والأرض انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآيةتفكيك للكلام، يخالفه ترتيب التركيب، ويكون قوله: يقيموا الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله، أو يكون جواباً فصل به بينالقول ومعموله، ولا يترتب أن يكون جواباً، لأن قوله: الله الذي خلق السموات والأرض، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلابتقدير بعيد جداً. واحتمل الصلاة أنْ يراد بها العموم أي: كل صلاة فرض وتطوع، وأن يراد بها الخمس، وبذلك فسرهاابن عباس. وفسر الإنفاق بزكاة الأموال. وتقدم إعراب

{ سِرّا وَعَلاَنِيَةً }

وشرحها في أواخر البقرة. وقال أبو عبيدة: البيعهنا البذل، والخلال المخالة، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصاحبة انتهى. ويعني بالبذل مقابل شيء. وقال امرؤ القيس:

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى     ولست بمقلي الخلال ولا قال

وقال الأخفش: الخلال جمع خلة. وتقدم الخلاف فيقراءة

{ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَـٰلٌ }

بالفتح أو بالرفع في البقرة، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة. قال الزمخشري: (فإنقلت): كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ (قلت): من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهمفي عقود المعاوضات، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها وخيراً منها، وأما الإنفاق لوجه اللهخالصاً كقوله: وما لا حد عنده من نعمة تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثواعليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، ولا بما ينفقونفيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى. ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداءوالأشقياء، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرتهفقال: الله الذي خلق السموات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولاً إبداعه وإنشاء السموات والأرض، ثم أعقب بباقيالدلائل، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة في الدلالة، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطفالمفرد على المفرد، والله مرفوع على الابتداء، والذي خبره. قال ابن عطية: ومن أخبر بذه الجملة وتقررت في نفسه آمنوصلى وأنفق انتهى. يشير إلى ما تقدم من قوله: إنّ معمول قل هو قوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرضالآية. فكأنه يقول: يقيموا الصلاة، جواب لقوله: قل لعبادي الله الذي خلق السموات والأرض. والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاًلكم، ومِنْ للتبعيض. ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال، ويكون المعنى: إن الرزق هو بعض جنى الأشجار، ويخرجمنها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات. ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري، وكأنه قال: فأخرج بهرزقاً لكم هو الثمرات. وهذا ليس بجيد، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه. وقال الزمخشري:ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقاً حالاً من المفعول، أو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنىرزق. وقيل: من زائدة، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين، لأنّ ما قبلها واجب، وبعدها معرفة، ويجوز عند الأخفش. والفلكهنا جمع فلك، ولذلك قال: لتجري. ومعنى بأمره: راجع إلى الأمر القائم بالذات. وقال الزمخشري: لقوله، كن. وانطوى فيتسخير الفلك تسخير البحار، وتسخير الرياح. وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها. وانتصب دائبين على الحال والمعنى: يدأبان فيسيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال: معناهدائبين في طاعة الله. قال ابن عطية: وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلكموجود في قوله: سخر، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد، والله أعلم انتهى. وتسخيرالليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفه للمنام والمعاش. وقال المتكلمون: تسخير الليل والنهار مجاز، لأنّهما عرضان، والاعراض لا تسخر. ولما ذكرتعالى تلك النعم العظيمة، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال: وآتاكم من كل ما سألتموه، والخطاب للجنس من البشر أي:أي الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد منالناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال: بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة. وقرأ ابنعباس، والضحاك، والحسن، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وعمرو بن قائد، وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع في رواية: من كلبالتنوين، أي: من كل هذه المخلوقات المذكورات. وما موصولة مفعول ثان أي: ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به.وقيل: ما نافية، والمفعول الثاني هو من كل كقوله:

{ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء }

أي غير سائليه. أخبر بسبوغ نعمتهعليهم بما لم يسألوه من النعم، ولم يعرض لما سألوه. والجملة المنفية في موضع نصب على الحال، وهذا القول بدأبه الزمخشري، وثنى به ابن عطية وقال: إنه تفسير الضحاك. وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ماسألتموه بالإضافة، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية، فيكونون لم يسألوه. وفي هذه القراءة يكونون قدسألوه، وما بمعنى الذي. وأجيز أن تكون مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول. ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءةوبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال: ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتمإليه، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به، فكأنكم سألتموه، أو طلبتموه بلسان الحال. فتأول سألتموه بقوله: ما احتجتم إليه. والضميرفي سألتموه إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى، ويكون المصدر يراد به المسؤول. وإن كانت موصولة بمعنى الذيعاد عليها، والتقدير: من كل الذي سألتموه إياه. ولا يجوز أن يكون عائداً على الله. والرابط للصلة بالموصول محذوف، لأنكإن قدرته متصلاً فيكون التقدير: ما سألتموهوه، فلا يجوز. أو منفصلاً فيكون التقدير: ما سألتموه إياه، فالمنفصل لا يجوز حذف.والنعمة قال الواحدي: اسم أقيم مقام المصدر، يقال: أنعم إنعاماً ونعمة، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك: أنفقت إنفاقاً ونفقة، ولذلكلم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى. والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به، وأنه هو اسم جنس لا يرادبه الواحد بل يراد به الجمع، كأنه قيل: وإن تعدوا نعمة الله ومعنى لا تحصوها، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها،هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال. وأما التفصيل فلا يقدر عليه، ولا يعلمه إلا الله. وقال أبو الدرداء: منلم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه، وحضر عذابه. والمراد بالإنسان هنا الجنس أي: توجدفيه هذه الخلال وهي: الظلم، والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها. وقيل: ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع، كفار فيالنعمة يجمع ويمنع. وفي النحل:

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

والفرق بين الختمين: أنههنا تقدم قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وبعده، وجعلوا لله أنداداً، فكان ذلك نصاً على مافعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، بجعل الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه،فجاء أن الإنسان لظلوم كفار. وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات، وأطنب فيها، وقال:

{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }

أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا على شيء منه، ذكر منتفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما، كما هو متصف بالخلق، ففي ذلكإطماع لمن آمن به. وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلله السابق ويرحمه، وأيضاً فإنه لما ذكرأنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان، ذكر ما حصل من المنعم، ومن جنس المنعم عل، فحصل من المنعم مايناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة، إذ لولاهما لما أنعم عليه. وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعامعليه، وهو الظلم والكفران، فكأنه قيل: إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور، أو كفران نعمة فالله رحيم، لعلمه يعجزالإنسان وقصوره. ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية النحل لا يلتفت إليها، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيدبن أسلم.

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } * { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } * { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } * { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } * { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } * { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } * { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } * { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } * { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } * { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } * { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } * { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } * { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } * { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } * { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } * { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

[عدل]

جنب مخففاً، وأجنب رباعياً لغة نجد، وجنب مشدداً لغة الحجاز، والمعنى: منع، وأصلهمن الجانب. الهوى: الهبوط بسرعة، قال الشاعر:

وإذا رميت به الفجاج رأيته     تهوي مخارمها هوى الأجدل

شخص البصر أحد النظر، ولم يستقرّ في مكانه. المهطع: المسرع في مشيه. قال الشاعر:

بمهطع سرح كأن عنانه     في رأس جذع من أراك مشذب

وقال عمران بن حطان:

إذا دعانا فأهطعنا لدعوته     داع سميع فلبونا وساقونا

وقال أبو عبيدة: قد يكون الأهطاع الإسراع وإدامة النظر. المقنع: هو الرافعرأس المقبل ببصره على ما بين يديه، قاله ابن عرفة والقتبي. وقال الشاعر:

يباكرن العصاة بمقنعات     نواجذهن كالحدإ الوقيع

يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر، ويقال: أقنع رأسه نكسه وطأطأه، فهومن الأضداد. قال المبرد: وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة انتهى. وقيل: منه قنع الرجل إذا رضي، كأنه رفع رأسهعن السؤال. وفم مقنع معطوفة أسنانه إليه داخلاً، ورجل مقنع بالتشديد عليه بيضة الرأس معروف، ويجمع في القلة على أرؤس.الطرف: العين. وقال الشاعر:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي     حتى يواري جارتي مأواها

ويقال: طرفالرجل طبق جفنه على الآخر، وسمي الجفن طرفاً لأنه يكون فيه ذلك. الهواء: ما بين السماء والأرض، وهو الخلاء الذيلم تشغله الأجرام الكثيفة، واستعير للجبان فقيل: قلب فلان هواء. وقال الشاعر:

كأن الرجل منها فوق صعل     من الظلمات جؤجؤه هواء

المقرّن: المشدود في القرن، وهو الحبل. الصفد: الغل، والقيد يقال: صفده صفدا قيده،والاسم الصفد، وفي التكثير صفده مشدداً. قال الشاعر:

وأبقـى بــالملــوك مصفــدينــا    

وأصفدته: أعطيته. وقيل: صفد وأصفد معاً في القيد والإعطاء. قالالشاعر:

فلـم أعرض أبيت اللعـن بالصفـد    

أي: بالعطاء. وسمي العطاء صفداً لأنه يقيده ويعبد. السربال: القميص، يقال: سربلته فتسربل. القطران: ما يحلبمن شجر الابهل فيطبخ، وتهنأ به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحره وحدته، وهو أقبل الأشياء اشتعالاً، ويقال فيه قطران بوزنسكران، وقطران بوزن سرحان. {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّأَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنهتعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفراً، وجعلوا لله أنداداً وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذيناتخذوا آلهة من دون الله، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه صلواتالله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة، ودعا بأنْ يجنب بنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكنه وذريته في بيتهليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة وهي الصلاة، لينظروا في دين أبيهم، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام،فيزدجروا ويرجعوا عنها. وتقدم الكلام على قوله هنا هذا البلد معرفاً، وفي البقرة منكراً. وقال الزمخشري: هنا سأل فيالأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرج من صفة كان عليها منالخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً انتهى. ودعا إبراهيم أولاً بما هو على طاعةالله تعالى، وهو كون محل العابد أمناً لا يخاف فيه، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى، ثم دعا ثانياً بأنيجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام. ومعنى واجنبني وبني: أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام. وأراد بقوله: وبنى أولاده، منصلبه الأقرباء. وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمناً، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنماً. قال سفيان بن عيينة:وقد سئل، كيف عبدت العرب الأصنام؟ قال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً وكانوا ثمانية، إنما كانت لهم حجارةينصبوها ويقولون: حجر، فحيث ما نصبوا حجراً فهو بمعنى البيت، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى. قال ابنعطية: وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبدصنماً؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في الخوف وطلب الخاتمة. وكرر النداء استعطافاً لربه تعالى، وذكر سبب طلبه:أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله: إنهن أضللن كثيراً من الناس، إذ قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام. ومعنىأضللنا: كنا سبباً لإضلال كثير من الناس، والمعنى: أنهم ضلوا بعبادتها، كما تقول: فتنتهم الدنيا أي: افتتنوا بها، واغتروا بسببها.وقرأ الجحدري، وعيسى الثقفي: وأجنبني من أجنب، وأنث الأصنام لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول:الأجذاع انكسرت. والأخبار عنه أخبار جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله: فقد ضلوا كثيراً. فمن تبعني أي: على دينيوما أنا عليه، فإنه مني. جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله: «من غشنا فليس منا» أي ليس بعض المؤمنين تنبيهاًعلى تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش الإيمان، والمعنى: أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان. ومن عصاني، هذا فيهطباق معنوي، لأن التبعية طاعة فقوله: فإنك غفور رحيم. قال مقاتل: ومن عصاني فيحادون الشرك. وقال الزمخشري: تغفر لي ماسلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة. قال ابن عطية: ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله: فمن تبعنيفإنه مني، وإذا كان كذلك فقوله: فإنك غفور رحيم معناه حين يؤمنوا، لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر، لكنهحمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب .وكذلك قال نبي الله عيسى عليه السلام:

{ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

. {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِنذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِلَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }: كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهاراً للتذلل، والالتجاء إلى الله تعالى. وأتى بضمير جماعة المتكلمين، لأنه تقدمذكره. وذكر بنيه في قوله: واجنبني وبنى، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه. وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارتمنها سارة، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة، فنزل وترك ابنهوأمته هنالك، وركب منصرفاً من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بما في ضمنهذه الآية. وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولاسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره. ومِن للتبعيض، لأنّ إسحاقكان في الشام، والوادي ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وإنما قال: غير ذي زرع، لأنهكان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وإنما نظر النظر البعيد فقال: غيرذي زرع، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال: غير ذي ماء، على ما كانت عليه حال الوادي عندذلك. قال ابن عطية: وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرعإلا حيث وجد الماء، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء. وقال الزمخشري: بواد هو واديمكة، غير ذي ذرع: لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله:

{ قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ }

بمعنى لايوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولاًلقوله: لا يكون، وليس هو ماضياً، وهو مكان أبداً الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات. والظاهر أن قوله: عندبيتك المحرم، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة، وفي آل عمران.ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي: منع منه، كما سمى بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لكونهلم يزل عزيزاً ممنعاً من الجبابرة، أو لكونه محترماً لا يحل انتهاكه. وليقيموا متعلق بأسكنت. وربنا دعاء معترض، والمعنى: إنهلا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة. وقيل: هي لام الأمر، دعا لهم بإقامة الصلاة. وقال أبو الفرج بن الجوزي:اللام متعلقة بقوله: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى. وهذا بعيد جداً. وخصّ الصلاة دون سائر العبادات لأنهاأفضلها، أو لأنها سبب لكل خير. وقوله: ليقيموا بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك،ويكون له نسل. وأفئدة: جمع فؤاد وهي القلوب، سمي القلب فؤاد لإتفاده مأخوذ من فأد، ومنه المفتأد، وهو مستوقد النارحيث يشوى اللحم. وقال مؤرج الافئدة: القطع من الناس بلغة قريش، وإليه ذهب ابن بحر. قال مجاهد: لو قال ابراهيمعليه السلام: أفئدة الناس، لازدحمت على البيت فارس والروم. وقال ابن جبير: لحجته اليهود والنصارى. والظاهر أنّ من للتبعيض، إذالتقدير: أفئدة من الناس. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون مِن للابتداء كقولك: القلب مني سقيم يريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدةناس، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة انتهى. ولا يظهركونها لابتداء الغاية، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس،وإنما الظاهر في من التبعيض. وقرأ هشام: أفئدة بياء بعد الهمزة، نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على الإشباع، ولماكان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه القراءة على أنّ هشاماً قرأ بتسهيل الهمزة كالياء،فعبر الراوي عنها بالياء، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضاً من الهمزة، قال: فيكون هذاالتحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو: بارئكم ويأمركم، ونحوه بإسكان حركة لإعراب، وإنما كان ذلكاختلاساً. قال أبو عمرو والداني الحافظ: ما ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه، لأنّ النقلة عن هشام وأبي عمروكانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها، وليس يفضي بم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا وقرىء آفدة: على وزنفاعلة، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد أي دنا وقرب وعجل أي: جماعة آفدة، أو جماعات آفدة، وأنيكون جمع ذلك فؤاد، ويكون من باب القلب، وصار بالقلب أأفدة، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفاً كما قالوا. في ارآم أأرام،فوزنه أعفلة. وقرىء أفدة على وزن فعله، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد وذلك بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلهاوهو الفاء، وإن كان تسهيلها بين بين هو الوجه، وأن يكون اسم فاعل من أفد كما تقول: فرح فهو فرح.وقرأت أم الهيثم: أفودة بالواو المكسورة بدل الهمزة. قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة: لكني لا أعرف هذهالمرأة، بل ذكرها أبو حاتم انتهى. أبدل الهمزة في فؤاد بعد الضمة كما أبدلت في جون، ثم جمع فأقرها فيالجمع إقرارها في المفرد. وهو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح، وقلب إذ الأصل أوفده. وجمع فعل على أفعلة شاذنحو: نجد وأنجدة، ووهى وأوهية. وأم الهيثم امرأة نثل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي: إفادة علىوزن إشارة. ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: اشاح في وشاح، فالوزن فعالة أي: فاجعل ذوي وفادة.ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة، أو ذوي إفادة، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ الجمهور: تهوي إليهم أيتسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً، ولما ضمن تهوي معنى تميل عداه بإلى، وأصله أن يتعدى باللام. قال الشاعر:

حتى إذا ما هوت كف الوليد بها     طارت وفي كفه من ريشها بتك

ومثال ما في الآية قول الشاعر:

تهوى إلى مكة تبغي الهدى     ما مؤمن الجن ككفارها

. وقرأ مسلمة بن عبد الله: تهوىبضم التاء مبنياً للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازمة، كأنه قيل: يسرع بها إليهم. وقرأ علي بنأبي طالب، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد: تهوى مضارع هوى بمعنى أحب، ولما ضمن معنىالنزوع والميل عدى بإلى. وارزقهم من الثمرات مع سكانهم وادياً ما فيه شيء منها بأن يجلب إليهم من البلاد كقوله:

{ يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء }

وروي عن مسلم بن محمد الطائفي أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكانمكة الثمرات، بعث الله جبريل عليه السلام فاقتلع بجناحه قطعه من فلسطين. وقيل: من الأردن فجاء بها، وطاف بها حولالبيت سبعاً، ووضعها قريب مكة فهي الطائف. وبهذه القصة سميت وهي موضع ثقيف، وبها أشجار وثمرات. وروى نحو منه عنابن عباس. لعلهم يشكرون. قال الزمخشري النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد بباب ليس فيه نجم ولاشجر ولا ماء، لا جرم أنّ الله عز وجل أجاب دعوة إبراهيم فجعله حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيءرزقاً من لدنا، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً، وفي أيبلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله. بواد غير ذي زرع وهي: اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمانمن الربيعية والسيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب. {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُوَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَىْء فَى ٱلاْرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء ٱلْحَمْدُ }: كرر النداء للتضرع والالتجاء، ولا يظهر تفاوتبين إضافة رب إلى ياء المتكلم، وبين إضافته إلى جمع المتكلم، وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه وما يعلنونه.وقيل: ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفي من كآبةالافتراق، وما نعلن مما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم.قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: لا نخشى تركتنا إلى كاف. والظاهر أنّ قوله: وما يخفى على الله منشيء في الأرض ولا في السماء، من كلام إبراهيم لاكتناف ما قبله وما بعده بكلام إبراهيم. لما ذكر أنه تعالىعمم ما يخفى هو ومن كنى عنه، تمم جميع الأشياء، وأنها غير خافية عنه تعالى. وقيل: وما يخفى الآية منكلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله تعالى:

{ وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ }

والظاهر أنْ هذه الجمل التي تكلم بهاإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تقع منه في زمان واحد، وإنما حكى الله عنه ما وقع في أزمان مختلفة، يدلعلى ذلك أن إسحاق لم يكن موجوداً حالة دعائه، إذ ترك هاجر والطفيل بمكة. فالظاهر أنّ حمده الله تعالى علىهبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق، وعلى الكبر يدل على مطلق الكبر، ولم يتعرض لتعيين المدة التي وهب لهفيها ولداه. وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرةسنة. وقيل: إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لتسعين. وعن ابن جبير: لم يولد له إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة. وإنماذكر حال الكبر لأنّ المنة فيها بهبة الولد أعظم من حيث أنّ الكبر مظنة اليأس من الولد، فإنّ مجيء الشيءبعد الإياس أحلى في النفس وأبهج لها. وعلى الكبر في موضع الحال لأنه قال: وأنا كبير، وعلى علي بابها منالاستعلاء لكنه مجاز، إذ الكبر معنى لا جرم يتكون، وكأنه لما أسنّ وكبر صار مستعلياً على الكبر. وقال الزمخشري: علىفي قوله على الكبر بمعنى مع، كقوله:

إني على ما ترين من كبري     أعلم من حيث يؤكل الكتف

وكنى بسميع الدعاء عن الإجابة والتقبل، وكان قد دعا الله أن يهبه ولداً بقوله:

{ رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ }

فحمد الله على ما وهبه من الولد وأكرمه به من إجابة دعائه. والظاهر إضافة سميع إلىالمفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون ذلك حجة على إعمالفعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه. وفيإعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول، وفعال، ومفعال، وفعل، وهذا مذكور في علم النحو. ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلكإضافة من نصب فيلزم جواز إعماله، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو: هذا ضارب زيد أمس. وقال الزمخشري:ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي، والمراد: سماع الله انتهى. وهوبعيد لاستلزامه أن يكون من باب السفة المشبهة، والصفة متعدية، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لايكون لبس. وأما هنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول، لا من إضافته إلى الفاعل. وإنما أجازذلك الفارسي في مثل: زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ له عبيداً ظالمين. ودعاؤه بأنْ يجعله مقيم الصلاة وهو مقيمها،إنما يريد بذلك الديمومة. ومن ذريتي، من للتبعيض، لأنه أعلم أنّ من ذريته من يكون كافراً، أو من يهمل إقامتهاوإن كان مؤمناً. وقرأ طلحة، والأعمش: دعاء ربنا بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بياء ساكنة في الوصل، وأثبتهابعضهم في الوقف. وروي ورش عن نافع: إثباتها في الوصل. والظاهر أنّ إبراهيم سأل المغفرة لأبويه القريبين، وكانت أمه مؤمنة،وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة الله، وهذا يتمشى إذا قلنا: إن هذه الأدعية كانت فيأوقات مختلفة، فجمع هنا أشياء مما كان دعا بها. وقيل: أراد أمه، ونوحاً عليه السلام. وقيل: آدم وحواء. والأظهر القولالأول. وقد جاء نصاً دعاؤه لأبيه بالمغفرة في قوله:

{ وَٱغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّالّينَ }

وقال الزمخشري: (فإن قلت):كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ (قلت): هو من تجويزات العقل، لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف انتهى.وهو في ذلك موافق لأهل السنة، مخالف لمذهب الاعتزال. وقرأ الحسين بن علي، ومحمد، وزيد: ربنا على الخبر. وابن يعمروالزهري والنخعي: ولولديّ بغير ألف وبفتح اللام يعني: إسماعيل وإسحاق، وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة، وقال: إنّ في مصحف أبيَّبن كعب: ولأبوي، وعن يحيـى بن يعمر: ولولدي بضم الواو وسكون اللام، فاحتمل أنْ يكون جمع ولد كأسد في أسد،ويكون قد دعا لذريته، وأن يكون لغة في الولد. وقال الشاعر:

فليت زياداً كان في بطن أمه     وليت زياداً كان ولد حمار

كما قالوا: العدم والعدم. وقرأ ابن جبير: ولوالدي بإسكان الياء على الإفرادكقوله: واغفر لأبي، وقيام الحساب مجاز. عن وقوعه وثبوته كما يقال: قامت الحرب على ساق، أو على حذف مضاف أي:أهل الحساب كما قال:

{ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }

. {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍتَشْخَصُ فِيهِ ٱلابْصَـٰرُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء }: الخطاب بقوله: ولا تحسبن، للسامعالذي يمكن منه حسبان مثل هذا لجهله بصفات الله، لا للرسول ، فإنه مستحيل ذلك في حقه.وفي هذه الآية وعيد عظيم للظالمين، وتسلية للمظلومين. وقرأ طلحة: ولا تحسب بغير نون التوكيد، وكذا فلا تحسب الله مخلفوعده. والمراد بالنهي عن حسبانه غافلاً الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم علىقليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله:

{ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه، يعاملهممعاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. وقرأ السلمي والحسن، والأعرج، والمفضل، عن عاصم وعباسبن الفضل، وهارون العتكي، ويونس بن حبيب، عن أبي عمر: ونؤخرهم بنون العظمة، والجمهور بالياء أي: يؤخرهم الله. مهطعين مسرعين،قاله: ابن جبير وقتادة. وذلك بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف. وقال ابن عباس، وأبو الضحى: شديدي النظر من غير أنْيطرقوا. وقال ابن زيد: غير رافعي رؤوسهم. وقال مجاهد: مد يمين النظر. وقال الأخفش: مقبلين للإصغاء، وأنشد:

بـدجاـة دارهـم ولقـد أراهـمبدجلة مهطعين إلى السماع    

. وقال الحسن: مقنعي رؤوسهم وجوه الناس يومئذ إلى السماء، لا ينظر أحد إلى أحد انتهى. وقال ابنجريج: هواء صفر من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم. وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد:خربة خاوية ليس فيها خير ولا عقل. وقال سفيان: خالية إلا من فزع ذلك اليوم كقوله: وأصبح فؤاد أم موسىفارغاً، أي: إلا من هم موسى. وهواء تشبيه محض، لأنها ليست بهواء حقيقة، ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها منالرجاء والطمع في الرحمة، فهي منحرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه، وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها فيالصدور، وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي حناجرهم، فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب. وحصول هذهالصفات الخمس للظالمين قبل المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله: يوم يقوم الحساب. وقيل: عند إجابة الداعي، والقيام من القبور. وقيل:عند ذهاب السعداء إلى الجنة، والأشقياء إلى النار. {وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰأَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ }: هذا خطاب للرسول . ويوم منصوب على أنهمفعول ثان لا نذر، ولا يصح أن يكون ظرفاً، لأنّ ذلك اليوم ليس بزمان للإنذار، وهذا اليوم هو يوم القيامةوالمعنى: وأنذر الناس الظالمين، ويبين ذلك قوله: فيقول الذين ظلموا، لأن المؤمنين يبشرون ولا ينذرون. وقيل: اليوم يوم هلاكهم بالعذابالعاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات، ولقاء الملائكة بلا بشرى كقوله:

{ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ }

ومعنىالتأخر إلى أجل قريب الرد إلى الدنيا قاله الضحاك، إذ الإمهال إلى أمد وحد من الزمان قريب قاله السدي، أي:لتدارك ما فرطوا من إجابة الدعوة، واتباع الرسل. أو لم تكونوا هو على إضمار القول والظاهر أنّ التقدير فيقال لهم،والقائل الملائكة، أو القائل الله تعالى. يوبخون بذلك، ويذكرون مقالتهم في إنكار البعث، وإقسامهم على ذلك كما قال تعالى:

{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ }

ومعنى ما لكم من زوال، من الأرض بعد الموت أي: لانبعث من القبور. وقال محمد بن كعب: إنّ هذا القول يكون منهم وهم في النار، ويرد عليهم: أو لم تكونوا،ومعناه التوبيخ والتقريع. وقال الزمخشري أو لم تكونوا أقسمتم على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطراً وأشراً، ولمااستولى عليهم من عادة الجهل والسفه. وأن يقولوا بلسان الحال حيث بنوا شديداً، وأملوا بعيداً. وما لكم جواب القسم، وإنماجاء بلفظ الخطاب لقوله: أقسمتم، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا من زوال، والمعنى: أقسمتم أنكم باقون في الدنيالا تزولون بالموت والفناء، وقيل: لا تنتقلون إلى دار أخرى انتهى. فجعل الزمخشري أو لم تكونوا محكياً بقولهم، وهو مخالفلما قد بيناه من أنه يقال لهم ذلك، وقوله: لا يزولون بالموت والفناء ليس بجيد، لأنهم مقرون بالموت والفناء. وقولههو قول مجاهد. وسكنتم إن كان من السكون، فالمعنى: أنهم قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين بسيرة من قبلهم فيالظلم والفساد، لا يحدثونها بما لقي الظالمون قبلهم. وإن كان من السكنى، فإنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصلتعديته بفي كما يقال: أقام في الدار وقر فيها، ولكنه لما أطلق على سكون خاص تصرف فيه، فقيل: سكن الداركما قيل: تبوأها، وتبين لكم بالخبر وبالمشاهدة ما فعلنا بهم من الهلاك والانتقام. وقرأ الجمهور: وتبين فعلاً ماضياً، وفاعله مضمريدل عليه الكلام أي: وتبين لكم هو أي حالهم، ولا يجوز أن يكون الفاعل كيف، لأنّ كيف إنما تأتي اسماستفهام أو شرط، وكلاهما لا يعمل فيه ما قبله، إلا ما روي شاذاً من دخول على علي كيف في قولهم:على كيف تبيع الأحمرين، وإلى في قولهم: أنظر إلى كيف تصنع، وإنما كيف هنا سؤال عن حال في موضع نصببفعلنا. وقرأ السلمي فيما حكى عنه أبو عمرو الداني: ونبين بضم النون، ورفع النون الأخيرة مضارع بين، وحكاها صاحب اللوامحعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك على إضمار ونحن نبين، والجملة حالية. وقال المهدوي عن السلمي: إنه قرأكذلك، إلا أنه جزم النون عطفاً على أو لم تكونوا أي: ولم نبين فهو مشارك في التقرير. وضربنا لكم الأمثالأي: صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم. {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِمَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍيَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلاْرْضُ غَيْرَ ٱلاْرْضِ وَٱلسَّمَـٰوٰتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلاْصْفَادِ سَرَابِيلُهُممّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ هَـٰذَا بَلَـٰغٌ لّلنَّاسِوَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ }: الظاهر أنّ الضمير في مكروا عائد على المخاطبين فيقوله:

{ أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ }

أي مكروا بالشرك بالله، وتكذيب الرسل. وقيل: الضمير عائد على قوم الرسولكقوله:

{ وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ }

أي: وقد مكر قومك يا محمد، وهو الذي في قوله:

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }

الآية ومعنى مكرهم أي: المكر العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، والظاهر أنّ هذا إخبار من الله لنبيه بما صدر منهمفي الدنيا، وليس مقولاً في الآخرة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة للظلمة الذين سكن فيمنازلهم. وعند الله مكرهم أي: علم مكرهم فهو مطلع عليه، فلا ينفذ لهم فيه قصداً، ولا يبلغهم فيه أملاً أوجزاء مكرهم، وهو عذابه لهم. والظاهر إضافة مكر وهو المصدر إلى الفاعل، كما هو مضاف في الأول إليه كأنه قيل:وعند الله ما مكروا أي مكرهم. وقال الزمخشري: أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهمبه، وهو عذابهم الذي يستحقونه، يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون انتهى. وهذا لا يصح إلا إن كانمكر يتعدى بنفسه كما قال هو، إذ قدر يمكرهم به، والمحفوظ أنّ مكر لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه. قالتعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وتقول: زيد ممكور به، ولا يحفظ زيد ممكور بسبب كذا. وقرأ الجمهور:وإن كان بالنون. وقرأ عمرو، وعلي، وعبد الله، وأبي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق السبيعي، وزيد بن علي:وإن كاد بدال مكان النون لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، وروي كذلك عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، ومجاهد،وابن وثاب، والكسائي كذلك، إلا أنهم قرؤوا وإن كان بالنون، فعلى هاتين القراءتين تكون إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللامهي الفارقة، وذلك على مذهب البصريين. وأما على مذهب الكوفيين فإن نافية، واللام بمعنى إلا. فمن قرأ كاد بالدال فالمعنى:أنه يقرب زوال الجبال بمكرهم، ولا يقع الزوال. وعلى قراءة كان بالنون، يكون زوال الجبال قد وقع، ويكون في ذلكتعظيم مكرهم وشدته، وهو بحيث يزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها. ويحتمل أن يكون معنى لتزول ليقرب زوالها، فيصير المعنىكمعنى قراءة كاد. ويؤيد هذا التأويل ما ذكره أبو حاتم من أنّ في قراءة أبيّ: ولولا كلمة الله لزال منمكرهم الجبال، وينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير لمخالفتها لسواد المصحف المجمع عليه. وقرأ الجمهور وباقي السبعة: وإن كانبالنون مكرهم لتزول بكسر اللام، ونصب الأخيرة. ورويت هذه القراءة عن علي، واختلف في تخريجها. فعن الحسن وجماعة أنّ إنْنافية، وكان تامة، والمعنى: وتحقير مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله التي هي كالجبال في ثبوتهاوقوتها، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ: وما كان بما النافية: لكنّ هذا التأويل، وما رويعن ابن مسعود من قراءة وما بالنفي، يعارض ما تقدم من القراءات، لأنّ فيها تعظيم مكرهم، وفي هذا تحقيره. ويحتملعلى تقدير أنها نافية أن تكون كان ناقصة، واللام لام الجحود، وخبر كان على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين: أهومحذوف؟ أو هو الفعل الذي دخلت عليه اللام؟ وعلى أنّ إنْ نافية وكان ناقصة، واللام في لتزول متعلقة بفعل فيموضع خبر كان، خرجه الحوفي. وقال الزمخشري: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، وإن عظم مكرهم وتتابع في الشدةبضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته أي: وإن كان مكرهم مستوٍ لإزالة الجبال معداً لذلك. وقال ابن عطية: ويحتملعندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم أي: وإن كان شديداً بما يفعل ليذهب به عظام الأمور انتهى. وعلىتخريج هذين تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وكان هي الناقصة. وعلى هذا التخريج تتفق معاني القراءات أو تتقارب، وعلىتخريج النفي تتعارض كما ذكرنا. وقرىء لتزول بفتح اللام الأولى ونصب الثانية، وذلك على لغة من فتح لام كي. والذييظهر أنّ زوال الجبال مجاز ضرب مثلاً لمكر قري5، وعظمه والجبال لا تزول، وهذا من باب الغلو والإيغال والمبالغة فيذم مكرهم. وأما ما روي أن جبلاً زال يحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذباً مات،فحملها للحلف، فمكرت بأن رمت نفسها عن الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيهعن الدابة، فأركبها زوجها وذلك الرجل، وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما، فنزلت سالمة، وأصبح الجبل قد اندك، وكانتالمرأة من عدنان. وما روي من قصة النمرود أو بخت نصّر، واتخاذ الأنسر وصعودهما عليها إلى قرب السماء في قصةطويلة. وما تأول بعضهم أنه عبر بالجبال عن الإسلام، والقرآن لثبوته ورسوخه، وعبر بمكرهم عن اختلافهم فيه من قولهم: هذاسحر هذا شعر هذا إفك، فأقوال ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جداً قصة الأنسر. والنهي عن الحسبان كهو في قوله:

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً }

وأطلق الحسبان على الأمر المتحقق هنا كما قال الشاعر:

فلا تحسبن أني أضل منيتي     فكل امرىء كأس الحِمام يذوق

وهذا الوعد كقوله تعالى:

{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا }

{ كَتَبَ ٱللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى }

وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده، ونصب رسله. واختلف في إعرابه فقال الجمهور. الفراء، وقطرب، والحوفي،والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء: إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيداً، لماكان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل واحد منهما، فينتصب ما تأخر. وأنشد بعضهم نظيراً له قول الشاعر:

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه     وسائره باد إلى الشمس أجمع

. وقال أبو البقاء: هو قريب من قولهم: يا سارقالليلة أهل الدار. وقال الفراء وقطرب: لما تعدى الفعل إليهما جميعاً لم يبال بالتقديم والتأخير. وقال الزمخشري: (فإن قلت): هلاقيل مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟ (قلت): قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً لقوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }

ثم قال: رسله، ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلافالمواعيد، كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ انتهى. وهو جواب على طريقة الاعتزال في أنّ وعد الله واقع لامحالة، فمن وعده بالنار من العصاة لا يجوز أن يغفر له أصلاً. ومذهب أهل السنة أنّ كل ما وعد منالعذاب للعصاة المؤمنين هو مشروط إنفاذه بالمشيئة. وقيل: مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله:

{ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }

فأضيف إليه،وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه قال: مخلف ما وعد رسله، وما مصدرية، لا بمعنىالذي. وقرأت فرقة: مخلف وعده رسله بنصب وعده، وإضافة مخلف إلى رسله، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهو كقراءة.قتل أولادهم شركائهم، وتقدم الكلام عليه مشبعاً في الأنعام. وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى، وأنه مما تعدىفيه مخلف إلى مفعولين. إنّ الله عزيز لا يمتنع عليه شيء ولا يغالب ذو انتقام من الكفرة لا يعفو عنهم.والتبديل يكون في الذات أي: تزول ذات وتجيء أخرى. ومنه:

{ بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا }

{ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ }

ويكون في الصفاتكقولك: بدلت الحلقة خاتماً، فالذات لم تفقد لكنها انتقلت من شكل إلى شكل. واختلفوا في التبديل هنا، أهو في الذات،أو في الصفات، فقال ابن عباس: تمد كما يمد الأديم، وتزال عنها جبالها وآكامها وشجرها، وجميع ما فيها حتى تصيرمستوية لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتبدل السموات بتكوير شمسها، وانتثار كواكبها، وانشقاقها، وخسوف قمرها. وقال ابن مسعود: تبدلالأرض بأرض كالفضة نقية لم يسفك فيها دم، ولم يعمل فيها خطيئة. وقال على تلك الأرض من فضة والجنة منذهب. وقال محمد بن كعب وابن جبير: هي أرض من خبز يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم، وجاء هذا مرفوعاً.وقيل: تصير ناراً والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها. وقال أبي: تصير السموات حقاباً. وقيل: تبديلها طيها. وقيل: مرة كالمهل،ومرة وردة كالدهان، قاله ابن الأنباري. وقيل: بانشقاقها فلا تظل. وفي الحديث:

{ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَدَّلُ هَـٰذِهِ ٱلاْرْضِ }

وفي كتاب الزمخشري وعن علي: تبدل أرضاً من فضة، وسموات من ذهب. وعن الضحاك: أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وعنابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد:

وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعلم    

قال ابن عطية: وسمعت من أبي رضي الله عنه روى أن التبديل يقع في الأرض، ولكنْ تبدللكل فريق بما يقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه، وفريق يكونون على فضة إن صحالسند بها، وفريق الكفرة يكونون على نار ونحو هذا، وكله واقع تحت قدرة الله تعالى. وفي الحديث: المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش، وفيه أنهم ذلك الوقت على الصراط وقال أبو عبد الله الرازي: المراد من تبديل الأرض والسموات هوأنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى:

{ كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ }

وقوله:

{ كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ }

انتهى. وكلامه هذا يدل على أنّ الجنة والنار غير مخلوقتين، وظاهر القرآنوالحديث أنهما قد خلقتا، وصح في الحديث أنّ رسول الله اطلع عليهما، ولا يمكن أن يطلععليهما حقيقة إلا بعد خلقهما. وبرزوا: أي ظهر. وألا يواريهم بناء ولا حصن، وانتصاب يوم على أنه بدل منيوم يأتيهم قاله الزمخشري، أو معمولا لمخلف وعده. وإن وما بعدها اعتراض قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: لا يجوز أنيكون ظرفاً فالمخلف ولا لوعده، لأنّ ما قبل أنْ لا يعمل فيما بعدها، ولكن جوز أن يلحق من معنى الكلامما يعمل في الظرف أي: لا يخلف وعده يوم تبدل انتهى. وإذا كان إن وما بعدها اعتراضاً، لم يبال أنهفصلاً بين العامل والمعمول، أو معمولاً لانتقام قاله: الزمخشري، والحوفي، وأبو البقاء، أولاً ذكر قاله أبو البقاء. وقرىء: نبدل بالنونالأرض بالنصب، والسموات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي: غير السموات، حذف لدلالة ما قبله عليه. والظاهر استئناف. وبرزوا. وقالأبو البقاء يجوز أن يكون حالاً من الأرض، وقد معه مزادة. ومعنى لله: لحكم الله، أو لموعوده من الجنة والنار.وقرأ زيد بن علي: وبرزوا بضم الباء وكسر الراء مشددة جعله مبنياً للمفعول على سبيل التكثير بالنسبة إلى العالم وكثرتهم،لا بالنسبة إلى تكرير الفعل. وجيء بهذين الوصفين وهما: الواحد وهو الواحد الذي لا يشركه أحد في ألوهيته، ونبه بهعلى أنّ آلهتهم في ذلك اليوم لا تنفع. والقهار وهو الغالب لكل شيء، وهذا نظير قوله تعالى:

{ لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ }

. وترى المجرمين يومئذ يوم إذ تبدل، وبرزوا مقرنين مشدودين في القرن أي: مقرون بعضهم مع بعض فيالقيود والأغلال، أو مع شياطينهم، كل كافر مع شيطانه في غل أو تقرن أيديهم إلى أرجلهم مغللين. والظاهر تعلق فيالأصفاد بقوله: مقرنين أي: يقرنون في الأصفاد. ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمقرنين، وفي موضع الحال، فيتعلق بمحذوف كأنهقيل: مستقرين في الأصفاد. وقال الحسن: ما في جهنم واد، ولا مفازة، ولا قيد، ولا سلسلة، إلا اسم صاحبه مكتوبعليه. وقرأ علي، وأبو هريرة، وابن عباس، وعكرمة، وابن جبير، وابن سيرين، والحسن، بخلاف عنه. وسنان بن سلمة بنالمحنق، وزيد بن علي، وقتادة، وأبو صالح، والكلبي، وعيسى الهمداني، وعمرو بن فائد، وعمرو بن عبيد من قطر بفتح القافوكسر الطاء وتنوين الراء، أنّ اسم فاعل من أني صفة لقطر. قيل: وهو القصدير، وقيل: النحاس. وعن عمر رضي اللهعنه أنه قال: ليس بالقطران، ولكنه النحاس يصير بلونه. والآتي الذائب الحار الذي قد تناهى حره. قال الحسن: قد سعرتعليه جهنم منذ خلقت، فتناهى حره. وقال ابن عباس: أي آن أن يعذبوا به يعني: حان تعذيبهم به. وقال الزمخشري:ومن شأنه. أي: القطران، أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فيطلى به جلودأهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللونالوحش، ونتن الريح. على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. وكل ما وعده الله، أو أوعد به في الآخرة،فبينه وبين ما يشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة، فبكرمه الواسعنعوذ من سخطه ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه انتهى. وقرأ عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب: من قطرانبفتح القاف وإسكان الطاء، وهو في شعر أبي النجم قال: لبسنه القطران والمسوحا. وقرأ الجمهور: وتغشى وجوههم بالنصب، وقرىء بالرفع،فالأول على نحو قوله:

{ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ }

فهي على حقيقة الغشيان، والثانية على التجوز، جعل ورود الوجه على النارغشياناً. وقرىء: وتغشى وجوههم بمعنى تتغشى، وخص الوجوه هنا. وفي قوله:

{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَيَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ }

لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه كالقلب في باطنه، ولذلك قال:

{ تَطَّلِعُ عَلَى ٱلاْفْئِدَةِ }

. وليجزي متعلق بمحذوف تقديره: يفعل بالمجرمين ما يفعل، ليجزي كل نفس أي: مجرمة بما كسبت، أوكل نفس من مجرمة ومطيعة: لأنه إذا عاقبت المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم، قاله الزمخشري. ويظهر أنها تتعلقبقوله: وبرزوا أي: الخلق كلهم، ويكون كل نفس عاماً أي: مطيعة ومجرمة، والجملة من قوله: وترى، معترضة. وقال ابن عطية:اللام متعلقة بفعل مضمر تقديره: فعل هذا، أو أنفذ هذا العقاب على المجرمين ليجزي في ذلك المسيء على إساءته انتهى.والإشارة بهذا إلى ما ذكر به تعالى من قوله:

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً }

إلى قوله:

{ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

وقيل:الإشارة إلى القرآن، وقيل: إلى السورة. ومعنى بلاغ كفاية في الوعظ والتذكير، ولينذروا به. قال الماوردي: الواو زائدة، وعن المبرد:هو عطف مفرد أي: هذا بلاغ وإنذار انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وقيل: هو محمول على المعنى أي:ليبلغوا ولينذروا. وقيل: اللام لام الأمر. قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله: وليذكر، فإنه منصوب لا غير انتعهى. ولا يخدشذلك، إذ يكون وليذكر ليس معطوفاً على الأمر، بل يضمر له فعل يتعلق به. وقال ابن عطية: المعنى هذا بلاغللناس، وهو لينذروا به انتهى. فجعله في موضع رفع خبراً لهو المحذوفة. وقال الزمخشري: ولينذروا معطوف على محذوف أي: لينصحواولينذروا به بهذا البلاغ انتهى. وقرأ مجاهد، وحميداً بتاء مضمومة وكسر الذال، كان البلاغ العموم، والإنذار للمخاطبين. وقرأ يحيـى بنعمارة: الذراع عن أبيه، وأحمد بن زيد بن أسيد السلمي: ولينذروا بفتح الياء والذال، مضارع نذر بالشيء إذا علم بهفاستعد له. قالوا: ولم يعرف لهذا الفعل مصدر، فهو مثل عسى وغيره مما استعمل من الأفعال ولم يعرف له أصل.وليعلموا لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعاهم ذلك إلى النظر، فيتوصلون إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، إذ الخشية أصلالخير. وليذكر أي: يتعظ ويراجع نفسه بما سمع من المواعظ. وأسند التذكر والاتعاظ إلى من له لب، لأنهم هم الذينيجدي فيهم التذكر. وقيل: هي في أبي بكر الصديق. وناسب مختتم هذه السورة مفتتحها، وكثيراً ما جاء في سور القرآن،حتى أنّ بعضهم زعم أن قوله: ولينذروا به معطوف على قوله: لتخرج الناس.