انتقل إلى المحتوى

ترامى الليل كالهم الثقيل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

تَرامى اللَيلُ كَالهَمِّ الثَقيلِ

​تَرامى اللَيلُ كَالهَمِّ الثَقيلِ​ المؤلف إلياس أبو شبكة


تَرامى اللَيلُ كَالهَمِّ الثَقيلِ
يَجُرُّ ذُيولَ مِعطَفهِ الطَويلِ
وَيُبرِزُ في مَشارِفهِ نُجوماً
بِلَونٍ بُرتُقالِيٍّ ضَئيلِ
وَكانَت زوق ميكائيل تُصغي
الى هَمسِ النَياسم في الحُقولِ
فَتَبسِمُ عَن كَواكِبها النَحيلَه
وَتَحلمُ في جَواذِبِها الجَميلَة
وَكانَت قُبَّةُ الجَرَس المُقيمَه
عَلى عَمَدَي كَنيسَتُها القَديمَه
تَقَطَّعُ في السَماءِ وَقد تَرامى
عَلَيها النورُ أَفلاذاً سَقيمَه
كَطَيفٍ يَخفر الأَمواتِ لَيلاً
وَيَبقى ساهِراً سَهَرَ الأُمومه
وَكانَ اللَيلُ مُنفَطِرَ الشُعورِ
أَحَسَّ لَهيبَ سُكّانِ القُبورِ
وَكانَت أَغصُنُ الدَوح القَديمِ
يَهزُّ رُؤوسَها مَرُّ النَسيمِ
فَيُسمَع في الدُجى مِنها حَفيفٌ
كَصَوتِ الوَخزِ في قَلبٍ أَثيمِ
وَفي الاِكواخِ أَقباسٌ ضِعافٌ
كَأَخيِلَةِ الكَواكِبِ في الأَديمِ
تُصَعِّدُ في نَوافِذها الصَغيرَه
زَفيراً من أَشعَّتها الحَقيرَه
وَفي الأَبعادِ كان يُرى الخَليجُ
تَمجُّ مِياهُهُ نوراً يَموجُ
كَلَوحٍ أَسوَدٍ مُلقىً عَلَيهِ
إِطارٌ فيهِ من ذَهَبٍ نَسيجُ
تُدبِّجهُ مَصابيحٌ وَزُهرٌ
لَها في الماءِ مَنظَرُها البَهيجُ
وَأَضواءُ النُجوم عَلى الشَواطِىءُ
إِذا اِمتَزَجَت بِأَضواءِ المرافىء
دَعِ الأَبعادَ في اللَيلِ الجَميلِ
تَنَم سَكرى مَعَ النورِ الضَئيلِ
وَخَلِّ أَنامِلَ النَسَماتِ تَلعَب
كَما شاءَت بِأَوراقِ الحُقولِ
وَدَع قَطرَ النَدى المَخمورَ يَسقُط
عَلى جَسَد الجَنائِنِ وَالطلولِ
وَهَيّا بي نَلِج قَصراً صَغيرا
تَرى المِصباحَ يَملاُوه شُعورا
فَتُبصِرَ إِن وَلَجتَ فَتىً كَئيبا
مِنَ الإِحساسِ يوشِكُ أَن يَذوبا
إِذا أَمعَنتَ فيه رَأَيتَ جِسماً
يَفور كَأَنَّ في دَمِهِ لَهيبا
لَهُ قَلبٌ يُرى في كُلِّ قَلبٍ
كَأَنَّ اللَهَ ذَرَّ بِهِ قُلوبا
فَتىً كَالفَجرِ أَلواناً وَعُمرا
إِذا أَبصَرتَه أَبصَرتَ فَجرا
وَإِن أَصغَيتَ تَسمَعُهُ يَقولُ
لِوالِدَةٍ أَلَمَّ بِها النُحولُ
لِأُمٍّ فارَقَت زوجاً حَبيباً
طَواهُ من الرَدى لَيلٌ ثَقيلُ
أُحِسُّ لَها اِضطِّراباً في فُؤادي
وَدَمعاً في حَناياهُ يَجولُ
وَما أَحسَستُ امسِ بِمِثلِ هذا
فَاِمسي كان لا ادري لِماذا
أَجل يا أُمِّ صِرتُ فَتىً شَقيّا
يَكادُ اليَأسُ يُطفىءُ مُقلَتَيّا
فَأَينَ مَضَت لَيالِيَّ الخَوالي
وَقَلبٌ كان في الماضي خَلِيّا
أَرى غَلواءَ تُعرِضُ عن هُيامي
وَيَكتُمُ قَلبُها سِرّاً خَفِيّا
وَتَسمَعُها تَقولُ لَهُ شَفيقُ
بُنَيَّ لَقَد أَضلَّتكَ الطَريقَ
جَميلٌ يا وَحيدي أَن تُحبّا
وَتَرفَعَ لِلهَوى عَيناً وَقَلبا
وَتَسمَعَ مِنهُ أَنغاماً عِذاباً
وَتَشرَب من يَدَيهِ الماءَ عَذباء
لَقَد أَحسَستُ قَبلَكَ بِاِضطِرابٍ
وَقاسَيتُ الهَوى سَهلا وَصَعبا
وَلكِن لَيسَ يَندَمُ مَن تَأَنّى
فَغلوا يا اِبنِ أَكبَرُ مِنكَ سِنّا
تَأَنَّ فَسَوفَ تَهوى مَن تُريدُ
وَتَهواكَ العَذارى وَالوُرودُ
فَمِثلُكَ لا يُجاوِرُهُ قُنوطٌ
وَمِلءُ شَبابِهِ عَقلٌ رَشيدُ
أَمامك يا اِبن أَعوامٌ طِوالٌ
وَمن زَهَرِ الهَوى عَدَدٌ عَديدُ
تَأَنَّ فَسَوفَ تَقطِفُ مِنهُ زَهرَه
تَكونُ أَشَدَّ من غَلواءَ نُضرَه
فَيُطلِقُ زَفرَةَ التَمِسِ الكَئيبِ
وَيَغرَقُ في دُجى فِكرٍ غَريبِ
وَيَذهَبُ لا يُجيبُ وَفي هَواهُ
لَظى شَكٍّ أَشَدُّ مِنَ اللَهيبِ
وَكَيفَ يُجيبُ أُمّا جَفَّ فيها
عُصارُ الحُبِّ في عَهد الغُروبِ
أَيا أُمي اِصرِفي ذي الكَأسَ عَنّي
فَما في الحُبِّ شَأنٌ لِلتَأَنّي
وَيَذهبُ لا يُجيبُ وَفي هَواهُ
من الاِشجانِ ما يُضني قِواهُ
دَعي يا أُمِّ زَهرَ الناسَ يَبسِم
وَيَنشَق في الوَرى غَيري شَذاهُ
فَلي في جَنَّةِ الاِشواكِ زَهرٌ
غَريبُ اللَونِ لا أَرضى سِواهُ