تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/الإيليون
الفصل الثالث
الإيليون
١٥ – أكسانوفان
أ – بارمنيدس هو المؤسس الحقيقي للمدرسة الإيلية (والنسبة إلى إيليا مدينة بناها الإيونيون الهاربون من وجه الفرس على الشاطئ الغربي في إيطاليا الجنوبية حوالى سنة ٥٤٠) ولكن كان قد سبقه فيها أكسانوفان فأعلن أصل المذهب ثم وضعه هو في صورته الكاملة، وجاء بعده زينون فنصب نفسه للدفاع عنه، ثم مليسوس أدخل عليه بعض التعديل دون أن يمس جوهره، وكلهم «يقولون: إن العالم موجود واحد وطبيعة واحدة، يقولون هذا لا كالطبيعيين الذين يفرضون موجودًا واحدًا (ماء أو هواء أو نارًا) ويستخرجون منه كثرة الأشياء بالحركة والتغير العرضي (اجتماع وانفصال، أو تكاثف وتخلخل) بل يقولون: إن العالم ساكن.»1 فهم ينكرون الكثرة والحركة.
ب – ولد أكسانوفان في قولوفون من أعمال أيونية بالقرب من أفسوس، ويرجح أن غزوة الفرس لبلاده هي التي حملته على مغادرتها، فطوف في أنحاء العالم اليوناني سنين عديدة إلى أن بلغ صقلية، ثم انتقل إلى إيطاليا الجنوبية واستقر في إيليا. كان شاعرًا حكيمًا شريف النفس حر الفكر مر النقد، قال ساخرًا من تكريم الناس للمصارعين: «إن حكمتنا خير وأبقى من قوة الرجال والخيل» وقال متهكمًا على فيثاغورس لاعتقاده بالتناسخ إنه «مر ذات يوم برجل يضرب كلبًا فأخذته الشفقة فصاح وهو ينتحب: أمسك عن ضربه يا هذا، إنها نفس صديق لي لقد عرفته من صوته».
ج – ويقال بالإجمال إنه ارتفع بعقله فوق حكايات قدماء الشعراء وصرف جهده إلى القول بنظام أسمى من التجربة المحسوسة ومن الرأي العام الجاهل المتقلب، وأهم أقواله: «إن الناس هم الذين استحدثوا الآلهة وأضافوا إليهم عواطفهم وصوتهم وهيئتهم، فالأحباش يقولون عن آلهتهم: إنهم سود فطس الأنوف، ويقول أهل تراقية: إن آلهتهم زرق العيون حمر الشعور، ولو استطاعت الثيرة والخيل لصورت الآلهة على مثالها، وقد وصفهم هوميروس وهزيود بما هو عند الناس موضوع تحقير وملامة، ألا إنه لا يوجد غير إله واحد أرفع الموجودات السماوية والأرضية ليس مركبًا على هيئتنا ولا مفكرًا مثل تفكيرنا ولا متحركًا ولكنه ثابت كله بصر وكله فكر وكله سمع يحرك الكل بقوة وبلا عناء.» هذا كلام قوي في التنزيه والتوحيد، لم يعهد له مثيل في اليونان، غير أن أرسطو يذكر: «أن أكسانوفان نظر إلى مجموع العالم وقال: إن الأشياء جميعًا عالم واحد، ودعا هذا العالم الله ولم يقل شيئًا واضحًا، ولم يبين إن كان العالم عنده واحدًا من حيث الصورة أو من حيث المادة.»2 فكأنه كان حلوليًّا أو كأنه أخذ وحدة الوجود عن فلاسفة وطنه أيونية، وتصور الوجود تصورًا روحيًّا، وعلى أي حال فلعبارته قيمتها في نفسها وهي جديرة أن تجعل منه واضع «العلم الإلهي». ١٦ – بارمنيدس
أ – ولد في إيليا «ويقال: إنه تتلمذ لأكسانوفان»3، ومن المحقق أنه تأثر به فآمن بوحدة الوجود، وضع كتابه «في الطبيعة» شعرًا، فكان أول من نظم الشعر في الفلسفة، وكتابه قسمان: الأول في الحقيقة أي الفلسفة، والثاني في الظن أي في العلم الطبيعي، فإن المعرفة عنده نوعان: عقلية وهي ثابتة كاملة، وظنية وهي قائمة على العرف وظواهر الحواس، فالحكيم يأخذ بالأولى ويعول عليها كل التعويل ثم يلم بالأخرى ليقف على مخاطرها ويحاربها بكل قواه.
ب– والحقيقة الأولى هي «أن الوجود موجود ولا يمكن ألا يكون موجودًا» أما اللاوجود «فلا يدرك؛ إذ إنه مستحيل لا يتحقق أبدًا ولا يعبر عنه بالقول، فلم يَبْقَ غير طريق واحد هو أن نضع الوجود وأن نقول: إنه موجود. والفكر قائم على الوجود ولولا الوجود لما وجد الفكر؛ لأن شيئًا لا يوجد ولن يوجد ما خلا الوجود.» ولما كان الوجود موجودًا فهو قديم بالضرورة لأنه يمتنع أن يحدث من اللاوجود، ويمتنع أن يرجح حدوثه مرجح في وقت دون آخر، فليس للوجود ماضٍ ولا مستقبل ولكنه في حاضر لا يزول وعلى ذلك «يمتنع الكون ولا يتصور الفساد» وينتفي التغير، والوجود والواحد متكافئان فيلزم أن الوجود واحد فقط متجانس «مملوء كله وجودًا» ويلزم أنه ثابت ساكن في حدوده «مقيم كله في نفسه»؛ إذ ليس خارج الوجود ما منه يتحرك وما إليه يسير، وهو كامل متناهٍ أي معين «لا ينقصه شيء»؛ إذ ليس خارج الوجود وجود يكتسب، وهو تام التناهي والتعيين في جميع جهاته؛ إذ لا يمكن أن يكون بعضه أقوى أو أضعف من بعض مثله مثل كرة تامة الاستدارة متوازنة في جميع نقطها، وبالجملة لما اقتنع بارمنيدس بأن العالم واحد رأى أن ما يطلق عليه بهذا الاعتبار هو أنه وجود، وتأمل معنى الوجود مجردًا ومفرغًا من كل مفهوم سوى هذا المفهوم البسيط الهزيل الذي يعني الوجود بالإطلاق، فأدرك أن الوجود واحد قديم ثابت كامل، وأن هذه الصفات لازمة من معنى الوجود فآثر هذا اليقين العقلي وأنكر الكثرة والتغير واعتبرهما وهمًا «وظنًّا»: أليس التغير يعني أن الموجود كان موجودًا ولم يكن موجودًا (ما صار إليه) وأنه باق في الوجود، ومع ذلك فهو ليس موجودًا (على ما كان؟) أوليست الكثرة تعني أن كل وحدة من وحداتها هي كذا أي شيء معين، وليست كذا أي ليست غيرها؟ ولكن قولنا عن شيء إنه ليس كذا معناه أن هذا الشيء حاصل على اللاوجود وهذا معنى غير معقول.
ج – «ولكنه اضطر أن يتبع الظواهر المحسوسة وقال: إن الأشياء واحد في العقل كثير في الحس»4 فانتقل من يقين العقل إلى ظن الحواس، ومن الفلسفة إلى العلم الطبيعي يحاول أن يفسر الظواهر وأن يورد ما يبلغ إليه الظن فيها فقبل الوجود واللاوجود في آن واحد وهو يعلم أن هذا طريق معارض للعقل، ولكنه يعلم أيضًا أنه أهون عند العقل من طريق الذين يعتقدون «أن الوجود واللاوجود شيء واحد، ثم إنهما ليسا شيئًا واحدًا» ، يريد فيما يلوح معاصره هرقليطس، فتصور بارمنيدس الوجود الكامل غير المنقسم كرة مادية كما تصور الفيثاغوريون العدد ممتدًّا، وشرع يسرد آراء تذكر بقصص هزيود وأقوال أنكسيمندريس وأنكسيمانس فهل كان جادًّا في هذا القسم الثاني من الكتاب مغلوبًا على أمره كما يقول أرسطو أم أنه بجمعه بين خيال هزيود وعلم الإيونيين أراد أن يسخر من العلم الطبيعي ومن أصحابه، وأن يؤيد بالخلف القسم الأول فيبين أن العالم المحسوس لا يفسر بغير ما يقتضيه التغير من اجتماع الوجود واللاوجود، وأن هذا الاجتماع غير معقول وأن التغير وهم؟
د – ومهما يكن من هذه المسألة ومن تشخيص الوجود في كرة مادية متصلة هي مع ذلك واحدة غير منقسمة، فإن ميزة بارمنيدس هي أنه فيلسوف الوجود المحض تجاوز عالم الأعداد والأشكال، وبلغ إلى الموضوع الأول للعقل وهو الوجود، ولقد بهره معنى الوجود فلم يعد يرى غير أمر واحد هو «أن ما هو موجود فهو موجود ولا يمكن ألا يوجد»، وأن «الوجود موجود، واللاوجود ليس موجودًا، ولا مخرج من هذه الفكرة أبدًا» فكان أول فيلسوف جرد مبدأ الذاتية5 ومبدأ عدم التناقض (٦٥–ج) وأعلنهما صراحة وجعل منهما أساس العقل الذي لا يتزعزع في نفس الوقت الذي كان هرقليطس يهوي فيه على هذا الأساس بكل قوته، ولئن لم يفطن بارمنيدس إلى أن الوجود والواحد يقالان على أنحاء عدة، ولم يفرق بين معانيهما المختلفة فعذره أن هذه المعاني لم تكن قد تميزت بعد وأنها لن تتميز إلا على يد أرسطو (٥٥–ب) وحسبه فخرًا أنه ارتفع إلى مبادئ الوجود ومبادئ العقل بقوة لم يسبق إليها فأنشأ الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا، واستحق أن يدعوه أفلاطون «بارمنيدس الكبير».
١٧ – زينون الإيلي
أ – هو تلميذ بارمنيدس نكاد لا نعرف شيئًا عن حياته سوى أنه ائتمر بطاغية مدينته فانكشف أمره فأذيق عذابًا أليمًا احتمله بثبات عظيم حتى الموت، وإذا أخذنا برواية أفلاطون6 قلنا: إنه وضع كتابًا في شبابه قصد به إلى تأييد مذهب معلمه ضد الذين سخروا منه وحاولوا أن يبينوا أن القول بالوحدة يستتبع نتائج مضحكة ومناقضة له (وهؤلاء هم الفيثاغوريون الذين يؤلفون العالم من أعداد أي من وحدات منفصلة) فحارب أصحاب الكثرة بأن ألزمهم المحالات وبين أن لمذهبهم نتائج هي أدعى للضحك، فهو قد نهج منهجًا جدليًّا بحتًا يقوم على برهان الخلف ويرمي إلى إفحام الخصم، ولم يصل إلينا من المعلومات ما يكفي لتكوين فكرة مضبوطة عن كتابه وترتيب أقواله، ولكن أرسطو أورد بعض حججه في امتناع الكثرة والحركة.7
ب – أما الكثرة فله عليها حجج أربع: يقول لا تخلو الكثرة أن تكون إما كثرة مقادير ممتدة في المكان وإما كثرة آحاد (أعداد) غير ممتدة ولا متجزئة، والحجة الأولى تنظر في الفرض الأول ومؤداها أن المقدار قابل للقسمة بالطبع فيمكن قسمة أي مقدار إلى جزأين، ثم إلى جزأَين، وهكذا دون أن تنتهي القسمة إلى آحاد غير متجزئة؛ لأن مثل هذه الآحاد لا يؤلف مقدارًا متقسمًا وإذن يكون المقدار المحدود المتناهي حاويًا أجزاء حقيقية غير متناهية العدد وهذا خلف — الحجة الثانية في الفرض الثاني وهو أن الكثرة مكونة من آحاد غير متجزئة فتقول: إن هذه الآحاد متناهية العدد؛ لأن الكثرة إن كانت حقيقية فيجب أن تكون معينة، وهذه الآحاد منفصلة بالضرورة وإلا اختلط بعضها مع بعض وهي مفصولة حتمًا بأوساط، وهذه الأوساط بأوساط وهكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يناقض المفروض فالكثرة بنوعيها غير حقيقية — والحجة الثالثة تدعي أنه إذا كانت الكثرة حقيقية كان كل واحد من الأشياء يشغل مكانًا حقيقيًّا ولكن هذا المكان يجب أن يكون هو أيضًا في مكان، وهكذا إلى غير نهاية فالكثرة غير حقيقية — والحجة الرابعة تذهب إلى أنه إذا كانت الكثرة حقيقية فإن النسبة العددية بين كيلة الذرة وحبة الذرة وجزء على عشرة آلاف من الحبة يجب أن يقابلها نفس النسبة بين الأصوات الحادثة من سقوطها إلى الأرض، ولكن الواقع أن لا، وإذن فليست الكثرة حقيقية.
ج – وله حجج أربع كذلك ضد الحركة: الأولى تسمى بالقسمة الثنائية وهي مأخوذة من فرض المقدار مركبًا من أجزاء غير متناهية، وتقول: إن الجسم المتحرك لن يبلغ إلى غايته إلا أن يقطع أولًا نصف المسافة إليها ونصف النصف وهكذا إلى ما لا نهاية، ولما كان اجتياز اللانهاية ممتنعًا فإن الحركة ممتنعة. – والحجة الثانية تمثيل للأولى وتسمى «أخيل» مؤداها إذا فرضنا أخيل «ذا القدمين الخفيفين» يسابق سلحفاة وهي أبطأ الحيوان، وأن هذه السلحفاة متقدمة عليه مسافة قصيرة، وأنهما يبدآن الحركة في وقت واحد، فإن أخيل لن يدرك السلحفاة إلا أن يقطع المسافة الأولى الفاصلة بينهما ثم المسافة الثانية وهكذا إلى ما لا نهاية. – والحجة الثالثة تسمى بالسهم، وهي قائمة على أن الزمان مؤلف من آنات غير متجزئة، وترجع إلى أنه لما كان الشيء في مكان مساوٍ له، فإن السهم في مروقه يشغل في كل آنٍ من آنات الزمان مكانًا مساويًا له، فهو إذن لا يبارح المكان الذي يشغله في الآن غير المتجزء، ومعنى ذلك أنه ساكن غير متحرك وهكذا في كل آن. – والحجة الرابعة تسمى بالملعب وتقوم كذلك على فَرْضِ الزمان مؤلفًا من آنات غير متجزئة، والمكان مركبًا من نقط غير منقسمة، وتلخص كما يلي:
.... ←
→ ....
—....—
لنفرض ثلاثة مجاميع كل منها مؤلف من أربع وحدات أو نقط والثلاثة متوازية في ملعب، الواحد يشغل نصف الملعب إلى اليمين والآخر يشغل نصفه إلى اليسار، والثالث في الوسط، ولنفرض الأول والثاني يتحركان بسرعة واحدة كل منهما إلى الجهة المقابلة بينما الثالث ساكن في مكانه، فإن الواحد منهما يصل إلى نهاية الآخر في زمن هو نصف الزمن الذي يقضيه للوصول إلى نهاية الساكن؛ أي إن الانتقال من إحدى نقط المجموع الساكن إلى النقطة التي تليها يتم في آن هو ضعف الآن الذي يتم فيه الانتقال من إحدى نقط المجموع المتحرك إلى النقطة التي تليها، فتقطع الحركة نفس المسافة (من حيث إن طول المجاميع واحد) في زمن معين، وفي ضعف هذا الزمن فيكون نصف الزمن مساويًا لضعفه وهذا خلف، وإذن فالحركة وهم.
د – ولكن زينون يتجاهل أن كل واحد من المجموعين المتحركين يوفر بحركته نصف المسافة على الآخر، بينما المجموع الساكن يبقيها على حالها، وأن هذا هو سبب الفرق في الزمن، كما أنه يتجاهل أن المكان والزمان والحركة أشياء متصلة، وأنها مع قبولها للقسمة إلى ما لا نهاية ليست مقسمة بالفعل إلى أجزاء غير متناهية، نقول: إنه يتجاهل ولا نرميه بالجهل؛ لأنه لم يقصد إلى نقد المقدار المتصل — والمقدار عند بارمنيدس خاصية من خواص الوجود — بل إلى نقد المقدار المنفصل كما توهمه الفيثاغوريون، فجاءت حججه «لهوًا جديًّا» على حد تعبير أفلاطون،8 ولكنها جاءت أمرًا جديدًا في الفلسفة فإنه لم يستعمل الجدل عرضًا وطبعًا على ما يتفق لسليقة العقل، وإنما قصد إليه قصدًا، ووضعه في صيغة فنية فكان أول واضع لعلم الجدل، وكانت حججه داعية لتحليل معاني الامتداد، والزمان والمكان والعدد والحركة واللانهاية عند أفلاطون، وبالأخص عند أرسطو.
١٨ – مليسوس
أ – هو إيوني من ساموس كان أمير البحر على عمارتها في انتقاضها على أثينا فانتصر على عمارة بركليس سنة ٤٤٢؛ فكان يجمع بين العلم والعمل كمعظم فلاسفة ذا العصر الأول الذين كانوا يفكرون في الوجود ويشتغلون بالسياسة والاقتصاد، وضع كتابًا «في الطبيعة أي في الوجود» دافع فيه عن مذهب بارمنيدس لا ضد الفيثاغوريين كما فعل زينون؛ بل ضد مواطنيه الإيونيين فهو ممثل المذهب الإيلي في إيونية وآخر رجاله.
ب – وتلخص مناقشته للمذاهب الإيونية القائلة بالكثرة والتغيير كما يلي:
لو كانت الأشياء وكيفياتها حقيقية على ما تبدو في الحس، ولو كان هناك حقًّا ترابٌ وماء ونار وذهب وحديد وأبيض وأسود لوجب أن يبقى كل منها على حاله بدون تغير؛ إذ إن ما يتغير يبطل أن يكون هو هو، وكيف نصدق أن شيئًا هو بارد بعد أن نكون قد صدقنا أنه حار؟! ولو صح التغير لكان معناه أن الوجود ينعدم، وأن اللاوجود يظهر، ولكن الطبيعيين أنفسهم يقولون: إن شيئًا لا يخرج من لا شيء، ولا يعود إلى لا شيء، فقولهم يرتد عليهم، والمعرفة الحسية التي يعتمدون عليها كاذبة فإنها ترينا الوجود كثرة متغيرة، والحق الواضح في العقل أن الوجود واحد متجانس ثابت.
ج – ويتلخص برهانه على هذه القضية في الأقوال الآتية: كل ما يحدث فله مبدأ، وإذن كل ما لا يحدث فليس له مبدأ، وليس الوجود حادثًا وإلا كان حادثًا من اللاوجود وهذا خلف، وإذن ليس للوجود مبدأ، وما ليس له مبدأ فليس له نهاية، وإذن فليس للوجود مبدأ ولا نهاية فهو لا متناهٍ، واللامتناهي واحد فقط؛ إذ يمتنع أن يوجد شيء خارج اللامتناهي، وهو ساكن من حيث إنه لا يوجد مكان خارجه يتحرك إليه، وهو ثابت؛ لأنه إن تغير فقد باين نفسه ولم يعد واحدًا؛ وإذن فالوجود واحد لا متناهٍ ساكن ثابت.9.
د – وليس في هذه الأقوال من جديد سوى أن مليسوس يجعل الوجود لا متناهيًا، وكان بارمنيدس قد ذهب إلى أنه متناه، وقد اعتقد مليسوس أن المطلق من حيث الزمان أي القديم مطلق كذلك من حيث المكان أي لا متناهٍ فعاد إلى رأي الإيونيين، ولكنه لم يبرهن على صحة الانتقال من المعنى الأول إلى الثاني وأخذ لفظ المبدأ على وجهين فغلط أو غالط؛ إذ إن ما ليس بحادث وليس له مبدأ زماني قد يكون له مبدأ من حيث المقدار أي حد وبداية في المكان، كذلك نراه يخرج من اللاتناهي إلى السكون مع أنه يمكن تصور الوجود اللامتناهي يتحرك في مكانه،10 ثم هو يفترق عن بارمنيدس في نقطة أخرى هي أنه جرد الوجود من الجسمية الكثيفة ليسلب عنه التجزئة ويصون وحدته دون أن يبين كيف يصح ألا ينقسم اللامتناهي في المكان مهما كان لطيفًا، وهناك فرق آخر يقربه من أكسانوفان هو أنه يضيف للوجود حياة عاقلة فدل بهذا على ميله إلى وجود روحاني أرقى من وجود بارمنيدس.
والآن نظن الوجهات الثلاث التي أشرنا إليها في مفتتح هذا الباب قد توضحت للقارئ، فعرف ماهية كل منها والفرق بينها، وتدرجها من المحسوس إلى المعقول.
- ↑ أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ب س١٠–١٧.
- ↑ أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ب س٢٠–٢٤، وهذا النص دليل على أن الكتاب «في أكسانوفان ومليسوس وغورغياس» المنسوب إلى أرسطو منحول؛ لأنه يضيف إلى شاعرنا جدلًا دقيقًا في المتناهي واللامتناهي والحركة والسكون لو صح لنقض العبارة المذكورة فوق فضلًا عن أنه بعيد من مزاج الشاعر. والكتاب لأرسطوطالي من أهل القرن الأول للميلاد.
- ↑ أرسطو: المرجع المتقدم.
- ↑ أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ب س٣٠–٣٢.
- ↑ «كل موجود فهو موجود.»
- ↑ محاورة «بارمنيدس» ص١٢٧ (أ)، ١٢٨ (ج).
- ↑ السماع الطبيعي م٤ ف١ و٣، م٦ ف٢ و٩، ما بعد الطبيعة م٣ ف٤.
- ↑ في محاورة «بارمنيدس» ص١٣٧ (ب).
- ↑ انظر أرسطو: السماع الطبيعي م١ ف٣ ص١٨٦ ع ا س١٠–٢٢.
- ↑ الموضع المذكور.