انتقل إلى المحتوى

بين تلك الربى وذاك الورد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ

​بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ​ المؤلف إلياس أبو شبكة


بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ
فَوقَ حَصباءِ شاطىءٍ لازوردي
تَحتَ أُفقٍ كَالخَدِّ أَو كَالفَرَندِ
أَملَسٍ عَطَّرتَه نَفحَةُ رَندِ
كانَ داودُ دائِماً يَتَرَدَّد
وَعلى صَخرَةٍ يُهَيِّىءُ مُقعَد
فَإِذا مالَتِ الغُصونُ تَنهَّد
وَاِنجَلى عَنهُ حُزنُهُ وَتَبَدَّد
كانَ حلوَ الحَديثِ عَذبَ الطِباعِ
شاعِراً مُصغِياً لكلِّ التِياعِ
إِن رَأى أَدمُعاً بَكَت لِدَواعِ
ذَرفَ الدَمعَ من عُيونِ اليراعِ
كُلَّما كانَ جالِساً يَتَأَمَّل
في السَواقي ذاتِ الزَلالِ المسلسل
كَيفَ تَجري بِدون أَن تَتَمَهَّل
ثُمَّ تَنصَبُّ جَدولاً إِثرَ جَدوَل
كانَ يَمضي أَمامَهُ اِمرَأَتانِ
كَرُخامِ القُبورِ صامِتَتانِ
تَنظُرانِ الرَبيعَ بَعضَ ثَوانِ
وَوَراءَ الأَدغالِ تَختَفِيانِ
كَهلَةٌ قَد تُناهِزُ الخَمسينا
وَفَتاةٌ لا تَبلغُ العِشرينا
حَمَلَت في الضُلوع داءً دَفينا
فَهيَ تَسلو الآلامَ حيناً وَحينا
مُقلَتَاها ما عادَتا مُقلَتَيها
فَهما مَيتَتانِ في جَفنَيها
وَيَداها في الداءِ غَيرُ يَدَيها
أَيُّها السِلُّ لِم جَنَيتَ عَلَيها
بَعدَ شَهرٍ كَأَنَّما هُوَ عامٌ
نَسَجَت فيهِ بُردَها الآلامُ
شاءَ داودُ أَن يَكونَ سَلامٌ
وَاِبتِسامٌ ما بَينَهُم وَكَلامُ
وَدَرى بَعدَ ذاكَ أَنَّ أَباها
ماتَ بِالداءِ نَفسِهِ وَأَخاها
فَبَكى راثِياً جَمالَ صِباها
وَاِبتِساماً مُوَدِّعاً في لماها
أُمها وَهيَ أَثكَلُ الأُمَّهاتِ
بَعدَ تِلكَ المَشاهِدِ الماضِياتِ
لَم تَكُن تَستَطيعُ بِالبَسماتِ
رَدعَ مَصدورَة عَن الحَسَراتِ
طالَما ذِكرَياتُ تِلكَ المَشاهِد
عاوَدَتها وَاللَيلُ سَكرانُ ساهِد
يَومَ كانَت تَبكي أَمامَ الوسائِد
حيثُ ماتَ الوَليدُ بَعد الوالِد
ربِّ قالَت يا رَبَّ هذا الوُجودِ
وَرَجاءَ الشَقِيِّ وَالمَنكودِ
قَد كَفاني في شَقوَتي وَجُهودي
موتُ زَوجي الفَتى وَمَوتُ وَحيدي
ذاتُ حُسنٍ كَالفَجرِ في نيسانِ
لامَسَتهُ أَنامِلُ الأَحزانِ
وَبياضٍ كَالثَلجِ في لُبنانِ
وَحَديثٍ يُذيبُ في الآذانِ
مُقلَتاها رَمزُ الفُؤادِ الوَجيعِ
وَلماها اِستَعارَ لَونَ الشُموعِ
هكَذا هِندُ وَهيَ بِنتَ الدموعِ
كانَ يَبدو شبابُها في الرَبيعِ
ذاتَ يَومٍ وَقَد تَدانى الغِيابُ
جَلَست هِندُ في يَدَيها كِتابُ
قَرَأَت فَترَةً وَجاءَ الضَبابُ
فَمَضى فيهِ جِفنُها المُرتابُ
هِندُ لِم أَنت تَنظُرينَ الضَبابا
بِعُيونٍ ذابَت وَقَلبٍ ذابا
أَفهذي رؤىً تُريكِ الشَبابا
يَتَلاشى وَيَستَحيل ترابا
جاءَ هنداً داودُ بَعدَ الظُهورِ
فَرَآها وَالأُمَّ بَينَ الزهورِ
في يَدَيها قُماشَةٌ من حَريرِ
طَرَّزَت بَعضَها بِفَنِّ خَبيرِ
قالَ هذي لِمَن بِبَعضِ اِبتِسامٍ
إِنَّها مثلُ برنسٍ لِغلامِ
فَأَجابَت بِزَفرَةِ الآلامِ
لِفَتاةٍ تَزَوَّجت مُنذُ عامِ
فَأَتاها عِندَ الضُحى فَرَآها
وَكتابٌ يَهتَزُّ في يَمناها
فَإِذا عَينُها تُعيرُ اِنتِباها
صَفحَةً ودَّ لَو يعي فَحواها
فَمَضى خَلفَ ظَهرِها بِتَأَنِّ
فَرَآها تَتلو بِبَأسٍ وَحُزنِ
بيتَ شعرٍ قَد قالَهُ مُنذُ قرنِ
شاعِرٌ وَهو يا أَبي لا تُمِتني
أَبصَرت هِندُ وَهيَ تَفكُر بِالغَد
مِن خِلالِ الأَحلامِ قَبراً أَسوَد
رَقَدَت فيهِ غادَةٌ ما تَنَهَّد
صَدرُها في الحَياةِ حَتّى توسَّد
وَتَراءَت لَها عَروسُ القَبرِ
تَنحَني فَوقَ وَجهِها المصفِّر
في يَدَيها باقاتُ وَردٍ وَزَهرِ
نُثِرَت فَوقَ رَأسِها وَالصَدرِ
وَتَراءَت لَها البَناتُ العَذارى
راقِصاتٍ بِحُبِّهِنَّ سكارى
يَتَبارَينَ ما الشَبابُ تَبارى
بِجَمالٍ يُهَيِّجُ الأَوتارا
وَفَتىً ناظِرٌ بِعَطفٍ إِلَيها
رابَه السَقمُ في كلا خَدَّيها
خائِفٌ من دمٍ على شَفَتَيها
قاءَهُ ما جَنى عَلى رِئَتَيها
وَتَراءى لَها خَيالٌ مُخيفُ
بَينَ أَهدابِ مُقلَتَيها يَطوفُ
في يَدَيهِ مَشاعِلٌ وَسُجوفُ
مُثَّلَت دَورَها عَلَيها الصُروفُ
وَاِستَفاقَت لَدى اِرتِعاشٍ عَنيفٍ
دَبَّهُ الخَوفُ في صِباها الضَعيفِ
فَتَلاشَت كَالحُلمِ رُؤيا الطُيوفِ
وَتَوارَت أَمامَ دَمعٍ ذَريفِ
ربِّ قالَت أَلَم تَهِبني المُيولا
وَحَديثاً عَذباً وَوَجهاً جَميلا
فَلِماذا أِرى الشَبابَ بَخيلا
لا يرى وَجنَتَيَّ حَتّى يَميلا
يا إِلهي أَلَستُ يَوماً أُلاقي
عاشِقاً بَينَ مَعشَرِ العُشّاقِ
راحِماً في فُؤادي المُشتاقِ
غَيرَ دَمعٍ يَجولُ في آماقي
يا اِبنَةَ الدّاءِ يا اِبنَةَ الأَرماسِ
يا خَيالاً يَسيرُ في دَيماسِ
إِقتَصِد ما اِستَطَعتَ في الأَنفاسِ
إِنَّ رَسمَ الآلامِ وَالأَوجاسِ
أَنتَ لَم تَدرِ كَيفَ شَيئاً فَشَيّا
يقضمُ المَوتُ جِسمَكَ الملكيّا
يا مَلاكاً أَضَلَّكَ الدَهرُ غَيّا
في زَمانٍ ما كانَ قَطُّ وَفِيّا
سَوفَ تَمضي إِلى دِيار البَقاءِ
بَعد تِلكَ الأَسقامِ وَالأَدواءِ
طاهِراً كَالزنابِقِ البَيضاءِ
حامِلاً مشعَلَ الأَسى وَالبُكاءِ
سَوفَ يُغمى عَلَيكَ في ذا الوُجودِ
بَعدَ حينٍ إِغماءَ روحِ الوُرودِ
تاركاً في فُؤاد كُلِّ وَدودِ
راءَ في وَجهِك اِصفرارَ الخدودِ
قالَ داودُ ذاتَ يَومٍ لِنَفسِه
وَهوَ يَجلو بِالفِكرِ غامضَ درسِه
أَيَّ فَضلٍ يُبقي الفَتى بَعدَ رَمسه
إِن أَبى رَحمَةَ التَعيسِ بِتَعسِه
لَيسَ أَنقى من زَهرَةِ الأَحسانِ
فَوقَ صَدرِ المَجاهِد المُتَفاني
إِن أَكُن زَوجَ غادَةِ الأَحزانِ
أَفَلَيسَ الإنسانُ لِلإِنسانِ
سَوفَ تَحيا بِالحُبِّ تِلكَ الفَتاةُ
هكَذا قَد أَرادَتِ التَضحِياتُ
فَليُضيء بَينَ مُقلَتَيها المَماتُ
فَالمَنايا عِندَ الهَوى هَيِّناتُ
وَمَضى الشاعِرُ الطَويلُ الأَناةِ
باسِطاً أَمرَهُ لِأُمِّ الفَتاةِ
قائِلاً إِنَّ مُهجَتي وَحَياتي
وَجهادي وَكلّ أُمنِيّاتي
سَوفَ تَحيا هِندُ السِنين الطِوالا
لَيسَ داءُ الفَتاةِ داءً عضالا
فَثِقي بي وَأَنعِشي الآمالا
أَنا مِثرٍ فَلَستُ أَطلُبُ مالا
سَوفَ تَشفى مِن دائِها بَعدَ عامِ
سَوفَ نَحيا بِغَبطَةٍ وَسَلامِ
وَثِقي أَنَّ هِندَ ذاتَ السقامِ
سَتَراني أَخاً مَعَ الأَيّامِ
فَبَكَت أُمُّها لِهذا الكَلام
بِعيونٍ تشعُّ بِالأَحلامِ
وَلدُن أَيقَنَت بِصِدقِ المَرامِ
شَكَرَتهُ بِمَدمَعٍ بَسّامِ
هِندُ إِنّي أَهواكِ أَهوى جَمالا
يَرشِقُ الحُبُّ مِن لماكِ نبالا
قالَ هذا وَقد رَأى الآمالا
راسِماتٍ في مُقلَتَيها خَيالا
فَأَجابَت وَقد عَراها السُكوتُ
بَعضَ حينٍ كَأَنَّهُ هاروتُ
كَيفَ تَهوى أَلا تَراني عييتُ
مُقلَتي تَنطَفي وَقَلبي يَموتُ
قالَ لا بَل تَحيَينَ عُمراً طروبا
وَتَرَينَ الحَياةَ عيشاً خصيبا
فَأَنا عاقِلٌ سَأَلتُ الطَبيبا
قالَ لي هِندُ سَوفَ تَشفى قَريبا
مرَّ بِالعاشِقينِ أُسبوعانِ
هَيَّئا فيهِما جِهازَ القرانِ
وَالرَبيعُ الجَميلُ في نيسانِ
كانَ يَزهو بِالفُلِّ وَالريحانِ
بِحَريرٍ مُزَركَشٍ وَمُخَرَّم
وَطِرازٍ عَلى النَوافِدِ مُعلم
هكَذا غُرفَةُ الزَفافِ الأَقتَم
بَرَزَت وَهيَ تَستعدُّ لِمَأتم
وَسَريرٍ أُعدَّ فيها صَغير
أُلقِيَت فَوقَه سُتورُ الحَريرِ
لَعبت أَنملُ النَسيم الطهورِ
بِجَنايا رِدائِه المَنشورِ
وَهنا بَعدَ عرسِها الملكيِّ
ظَهَرت هِندُ كَالصَباحِ البَهِيِّ
بِنَقاءٍ ككلِّ قَلبٍ نَقِيِّ
وَبَياضٍ كَثَوبِها الزَنبَقيِّ
ما لِتِلكَ الفراشَةِ السَوداءِ
تَتَغَنّى في الغُرفَةِ البَيضاءِ
جَنحُها حالكٌ كَقطعِ الرجاءِ
وَغناها الرَهيبُ رَمزُ البُكاءِ
ذاتَ يَومٍ وَقد تَدانى الظَلامُ
خَفَقَت في ضُلوعِها الآلامُ
فَتَرامَت وَقد تَراءى الحمامُ
مُستَفيضاً في عينها لا يَنامُ
وَاِستَفاقَت قَبلَ المَماتِ الرَهيبِ
فَرَأَت زَوجَها كَثيرَ الشحوبِ
يا حَبيبي قالَت لهُ يا حَبيبي
حانَ مَوتي وَجاءَ وَقتُ مَغيبي
غَيرَ أَنّي أَمضي لِدارِ البقاءِ
بِسُرورٍ وَغِبطَةٍ وَصَفاءِ
فَأَنا رُغمَ عِلَّتي وَبَلائي
ذُقتُ طعمَ الهَوى كَباقي النِساءِ
وَاِرتَمى رَأسُها اِرتِماءَ يَدَيها
وَتلاشى اللهاثُ في مُرشَفَيها
فَبَدَت وَالدماءُ في شَفَتَيها
مِثلَ شاةٍ بَيضاء أَلقى عَلَيها
أَيُّ ذَنبٍ جنَته تِلكَ الصبيّه
ليجازى شَبابُها بِالمنِيَّه
ربِّ إِن كانَ أَصلُ تِلكَ الضَحِيَّه
والدٌ أَورَثَ السُمومَ الخَفِيَّه
ربِّ لِم أَنتَ تظلمُ الأَبرِياءَ
وَتَزيدُ العاني الشَقِيَّ شَقاءَ
هُم يَقولونَ هكَذا اللَهَ شاءَ
فَاِحتَرَم فيهِ حكمَةً عَلياءَ