بلغ ربى مصر تحية عاني
المظهر
بَلّغ رَبى مَصرٍ تَحيَّةَ عاني
بَلّغ رَبى مَصرٍ تَحيَّةَ عاني
في حُبِّها مُتزائِد الأَشجانِ
وَأَجرع مِن النيلِ المُبارَكِ جُرعَةً
تَروِ العَشيَّةَ غلَّةَ الظَمأنِ
وَاقرَ السَلامَ عَلى أَليفٍ نازِحٍ
عَني إِلَيها ذاهِبُ بِجَنابي
يَأوي حِما الإِسكندَرية قاصِداً
تَطبيق نسبة اِسمَها الرَنّانِ
فَغَدَوتُ اِنظُرُ مَصرَ أَبهَجَ بقعَةٍ
وَأَرى مَرابِعِها أَعَزَّ مَكانِ
يا مَصرُ حَياكِ الحَيا فَلَقَد زَهَت
فيكِ الحَيوةُ وَنِلتِ أَعظَمَ شانِ
أَصبَحتِ قاهِرَةَ الدُهور لِأَنَّها
هَجَمَت عَلَيكِ فَرَدَّها الهرمانِ
كَم فيكِ مِن مَجدٍ وَمِن فَرَحٍ وَمِن
رَغدٍ وَمِن سَعدٍ وَمِن إِحسانِ
كَم فيكِ مِن أَثَرٍ شَريفٍ للملا
كَم فيكِ مِن سَلوى لِكُلِّ مَعاني
كَم فيكِ مِن ملهىً أَنيسٍ رائِقٍ
يُنسي الغَريب مَحَبَةَ الأَوطانِ
كَم طابَ لي فيكِ المَقام وَكَم صَفا
عَيشي بِربعكِ حَيثُ راقَ زَماني
كَم فيكِ سابَقتُ الصَباحَ مُبادِراً
لِلأَزبَكيةِ فائِزاً بُرهانِ
هِيَ قاعَةُ الأَطيارِ كُنتُ أَرى بِها
حالَ التَوحد مَجلس الندمانِ
إِن لَم تَكُن فيها الثِمار فَإِنَّها
مِن كُلِ زاهِيَةٍ بِها زَوجانِ
كَم سِرتُ مُختالاً بِمَركَبةِ الهَنا
بِطَريقِ شُبرا مَرتَع الغُزلانِ
أَلقى بِها سرق الرِفاق مُظَلَّلاً
تَحتَ الرِواقِ الأَخضَرِ الرَيانِ
لَهفي عَلى شَبرا البَديعة أَنَّها
في الأَرض قَد أَضحَت نَعيم جِنانِ
رَوضٌ كَسَتهُ يَدُ العُلى حُلل البَها
فَزَها بِها يَسمو عَلى الأَكوانِ
يا حَبَّذا تِلكَ الرُبوع وَما حَوَت
مِما أَجادَتهُ يَدُ الإِتقانِ
في الرَوضَةِ الغَناءِ كَم غَنّى
لَنا طَيرُ الهِزار عَلى غُصون البانِ
وَبِقَلعَةِ الجَبَلِ المَنيعِ مَناظِرٌ
تَجلو لِعَينِكَ قُدرَةُ الإِنسانِ
وَعَلى جَناحِ الأَزبَكيَّةِ مَنِزلٌ
فيهِ خَلَعتُ تَعقلي وَعَياني
سِرٌّ لَزِمتُ الحفظَ في كِتمانِهِ
حَتّى مَلَلتُ وملني كِتماني
لَم أَنسَ فيهِ يَمامَةً أَنسيَّةً
غازَلتُها فَبَليتُ بِالأَشجانِ
لَم أَنسَ مَوقِفَ رَهبَةٍ بِإزائِها
يَومَ النَوى حَيث الفُراق دَهاني
قَد راعَها طَرف الرَقيبِ فَأَصبَحَت
عِوَض الكَلام مُشيرَةً بِبَنانِ
وَمُراسَلات القَلب أَصدَق مُخبِرٍ
وَمُكالَمات العَين خَير لِسانِ
فَأَجَبتُ بِالإِيماءِ إِني راحِلٌ
لَكنَّ حَبي ثابتُ الأَركانِ
فَإِغرَورَقَت تِلكَ العُيون وَغَرَّبَت
وَعَلى اِبتِسامٍ مالَت الشَفَتانِ
فَكَأَنَّها قالَت برقة رَمزَها
بِالحَقِ أَنتَ حَنَنتَ لِلأَوطانِ
فَخَفضتُ أَجفاني عَلى يَأس كَما
بُسِطَت يَدايَ وَفاضَتِ العَينانِ
وَأَشَرتُ نَحوَ الغَرب أَعني أَنَّني
بَعدَ التَغَرُّبِ عائِدٌ لِمَكاني
فَاِستَلمَحَت إِني المَساءَ مغرّبٌ
فَتَلفتت لِلشَرقِ لَفتةَ عاني
فَكَأَنَّها كانَت تَقول اليَّ كُن
كَالشَمس تُشرِقُ مِن مَحَلٍ ثاني
أَنا راجِعٌ يا فتنَتي أَنا راجِعٌ
أَنا راجِعٌ مُستَرجِعٌ لِجِناني
لا لَستُ أَرجَعهُ دَعيهِ فَإِنَّهُ
وَقفٌ لِذاكَ الناظر الفَتانِ
لَكِن أَعودُ لِكَي أَراكِ وَيَنجَلي
حَظي التَعيس وَتَنقَضي أَحزاني
وَأَرى خَليلَ خَليلِهِ الفَرد الَّذي
يَرعى الوِداد رِعايَةَ الإِيمانِ
غُصنٌ بِإِسرارِ اللَطافَةِ مورقٌ
لا يَلتَوي إِلّا لِيُنعِشَ فاني
قَولي لَهُ إِني قَضَيتُ مِن الأَسى
لَكنما أَملُ اللُقا أَحياني
يا مَنيَتي هَل تَذكُرينَ عَشيَّةَ
فيها خَطَفتُ فابتُ بِالحِرمانِ
حَيثُ البُخارُ أَطارَ راحِلَتي الَّتي
كَالبَرقِ قَد سارَت بِغَيرِ عَنانِ
فَهُناكَ مِن قَضبِ الحَديدِ مَسالِكٌ
تَجري بِها العَجَلات كَالغُدرانِ
بركينها السَيّار غارَ بِرَكبِنا
فَعَجِبتُ مِن رَكبٍ عَلى نيرانِ
يا أَيُّها الشَرقيُّ هَل تَلقى إِذا
حَمَلتكَ غَير تعجب الحَيرانِ
أَم تَذكُرنَّ عَلى الهَجين مَراكِباً
نَقَلَتكَ تَحتَ حِمايَةِ الهِجانِ
ساهِبُّ يَوماً كَالنَسيمِ مُرنِماً
بِرَنينها فافرّ مِن أَحزاني
وَأَرى المُروج بِها تَموج لِناظِري
حللَ البَهاءِ بِجانِبِ الخلجانِ
فَبِقُربِ هاتيكَ الرُبوع مَسَرَتي
فَيضانِها يربى عَلى الفَيضانِ
لا بُدَ مِن خَوض البِحارِ مَرافِقاً
طَيرَ البُخارِ يَجد في الطَيَرانِ
فَأَرى مِن الإِسكَندَرية طَلعَةً
هِيَ في المَقام طَليعَة البُنيانِ
وَأَرى المَنارَةَ بِالبَشارة تَزدَهي
للقادِمين مُشيرَةً بِأَمانِ
وَأَرى طَواحين الهَواءِ كَأَنَّها
تَدعو الغَريبَ لِمَنزِلِ الضيفانِ
وَإِذ دَخَلتُ إِلى الحِمى أَروي الظَما بَين
الأَحِبَّةِ مطفياً نيراني
مُتَصَبِباً مُتَغَزِلاً مُتَنَقِلاً
مِن رَوضَةٍ غَنا إِلى بُستانِ
وَأَرى التَنَزهَ قَد أَقامَ رَواقهُ
بِفَضاءِ مَحموديةِ الرُضوانِ
وَأَرى بِرَأس التينِ كُل عَظيمَةٍ
قامَت تُخبِرُنا عَن الإِيوانِ
وَأَرى الجَمالَ مَع الجَلال مُزَيناً
بِجُموعِهِ منشيّةَ الإِتقانِ
ملهىً غُصون الماءِ فَوقَ غُصونِهِ
كَالنَخلِ فَوقَ مَسارِحِ الغُزلانِ
وَأَرى عَلى الشاطي مسلَّتهُ الَّتي
وَقَفَت بِهِ تَمحو الزَمانَ الفاني
وَأرى لِتذكار الفراعنَ فَوقَها
رَمزاً يُبين عِنايَةَ اليُونانِ
نَقلت بهمتم لزينة ربعها
وَنَظيرُها لا عاظم البُلدانِ
هِي إِبرَة الذات الَّتي اِشتَهَرَت بِها
لَكِنَّها وُضِعَت لِغَير بنانِ
وتقرّ عَيني في لِقائيكَ مُهجَتي
فَيَصح سَعدي غالِباً لِزَماني
يا أَصدَق الخِلانِ في حفظِ الوَلا
بَينَ المَلا يا أَلطَفَ الندمانِ
قَد ذُبتُ وَجداً في نَواكَ فَلَم أَعُد
إِلّا اِشتِياقاً قامَ كَالجسمانِ
دَمعي شَرابي سَلوَتي ذكر اللقا
قُوَتي رَجاءي قوَّتي هَيمالي
أَصبَحتُ يَعقوبَ الوَحيدَ بِحَسرَتي
وَتَعذبي لِلبين مَع أَشجاني
وَغَدوتَ لي في مصر ثاني يوسفٍ
لَكن بِحُبك صاحَ ما لَكَ ثاني
أَلقاكَ وَهماً في الرِياض وَفي الرُبى
وَبِكُل مَأدبةٍ فَهَل تَلقاني
وَأَرى خَيالَك في الدِيار مُصوَّراً
تَهفو إِلَيهِ مَعاشر الخِلانِ
وَعَلى فوادي قامَ كُرسي مَجدِهِ
فَأَقامَ مُنَجَلياً بِخَير مَكانِ
أَصبَحتُ بَعدَكَ في الرُبوع مُضَيَّعاً
أَجِدُ العَناءَ مضيِّعاً سُلواني
إِسكَندرُ القي سَماعَكَ لِلحِما تَلقَ
الخَليلَ يَقول لا تَنساني
فَلقاكَ تَعزيتي وَلطفَكَ سالِبي
أَبَداً وَحُبكَ في المَلا إِيماني