بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الثاني (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/الفصل الثاني عشر: الثورة في سورية ولبنان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الثاني عشر
الثورة في سورية والحركة العامية في لبنان
۱۸۳۹ - ١٨٤٠

وانضم إلى صفوف المعارضة الذين فقدوا نفوذهم منذ بدء الاحتلال المصري ومن جرائه وإلى الذين رأوا في خروج العزيز على السلطان مخالفة للشرع الشريف والدين الحنيف آخرون من عملاء الآستانة استؤجروا خصيصاً لإيقاد نار الفتنة في بر الشام فجابوا البلاد طولاً وعرضاً يؤكدون قرب الأجل ويحضون السوريين واللبنانيين على الثورة. ويستدل من الأبحاث التي قام بها الدكتور هارولد تمبرلي في ملفات وزارة الخارجية البريطانية أن البارون بونسونبي السفير البريطاني في الآستانة بذل أقصى جهوده طوال مدة الاحتلال المصري لإثارة روح التذمر بين السوريين واللبنانيين من الحكم المصري وإعدادهم للثورة وأنه لم يعمل على «إشعال» الثورة بعد أن بدأ القتال بين السلطان وبين العزيز في شهر أيار من السنة ١٨٣٩1.

١ - في أريحا وجسر شغور: وهكذا فإننا نرى لهيب الثورة التي بدأ بها حاجي عمر أوغلو في جبل الأكراد ومصطق بك كوجوك علي في جبال باياس في شهر أيار من السنـة ١٨٣٩ يمتد إلى إدلب فأريحا وجسر شغور في تموز من السنة نفسها. ففي أوائل هذا الشهر هجم أحمد العبسي وأولاده وبعض الفراريين من الجيش من جبل أريحا على قرية أريحا ونهبوا أمتعة أورطتين من أورط الألاي الرابع والثلاثين وجرحوا الناظر وفروا هاربين. وفر الشيخ عبد الرحمن عمرو في الوقت نفسه من وجه التحقيق في القدس والتجـأ إلى التلال المجاورة للخليل وأظهر الخروج على الحكومة المصرية. وقام أحـد المتقاعدين السباهيين في دمشق عثمان المرعشلي في منتصف تموز يستغرب الاحتفال بالنصر في نزب فيقول «ألم نتخلص بعد من أكاذيب المصريين أمن الممكن كسر جيش إستانبول المكون من تلك الآلاف من العساكر إن جيش إستانبول قد هزم جيش مصر وحاصر إبراهيم باشا في حلب».

٢ - دمشق وجهاتها: ونرى الحكمدار شريف باشا يخاطب السرعسكر في هذه الآونة نفسها فيقول: لقد تبدل الحال في هذه النواحي (دمشق) منذ خمسة إلى عشرة أيام. فقد تكاثر عدد اللصوص وقطاع الطرق في طريق سعسع وفي الطرق المؤدية إلى حوران. فإن من فر من جماعة شبلي آغا العريان قد عمد إلى اللصوصية والنهب وراح عرب السلوط يقطعون الطريق على الناس ويسلبون المارة حتى أصبح من المتعذر على فئة قليلة من الخيالة أن تجتاز الطريق. وقد نهبوا الفرسان الذين يحملون الرسائل واستولوا على البريد الذي أتى عن طريق سعسع وقتلوا أحد الخيالين ولا يعلم ماذا تم بالخيـال الآخر. وعرب السلوط على تفاهم مع الحورانيين لا يتعرضون لهم أما العساكر والشوام ومن إليهم من الناس فإنهم إذا ما وقعوا في أيديهم عمدوا إلى نهبهم. ولقد طغى بنو حميدي من عربان بني صخر والدروز والسلوط وعرب الجبل والحورانيين على اتفاق مع بعضهم فإذا مس أحدهم أي ضرر هب الجميع إلى نصرته. هذا ولم يدفع الحورانيون أي شيء من الأموال الأميرية أو الغلال المرتبة عليهم. ومن المحقق أنه ليس في نيتهم أن يقدموا أي شيء منها. ثم أنـه من الملحوظ أن تقوم فتنة في القريب العاجل. والخيالة الذين يترأسهم شبلي آغا الموجود مع المير جواد الحرفوش قد انحدروا من جبل القلمون بعد أن وصل المير المذكور وأموا الغوطة والمرج ومنها ساروا إلى حوران فزاكية حيث أخذوا يقطعون الطريق. إن هناك فتنة يريد هؤلاء الناس أن يقوموا بها ولكنهم يرجئونها إلى حين رفع الغلال من البيادر2.

واختان علي آغا خزينة كاتبي مولاه وصديقه السرعسكر فأخذ ينفث السموم في صدر معارفه وجلسائه ويقوض ثقتهم بالحكومة المصرية. وتفصيل هذا أن علي آغا تودد إلى الشهابي الكبير وإلى إبراهيم باشا في أوائل الفتح فأكرمه إبراهيم وأحبه وقدمه على غيره وجعل من بيته مقراً له في دمشق وتودد إليه فناداه «بابا علي» فعظم شأنه بين أقرانه واشتدت شوكته وقصده الدمشقيون وأبناء القرى المجاورة لحل مشاكلهم مع الحكومة فقدموا له الهـدايا وقبلها. ثم خشي زوال الحكم المصري وعودة العثمانيين إلى البلاد فأصغى إلى دعاتهم وقبل الدعوة، وفي الآونة التي نحن بصددها انتدبه محمد شريف باشا لإصلاح ذات الحال في حوران وأوفد معه للغاية نفسها كلاً من شمدين آغا الشهير والأمير خليل سعد الدين. فاتصل بالشيخ محمود الرفاعي زعيم المعارضة في حوران وأصرَّ عليه ظاهراً الإذعان لأوامر الحكومة المصرية والتعاون معها ولكنه حضه باطناً على الصمود قائلاً إن مدة الحكم المصري أصبحت قصيرة وإن عساكر السلطان أصبحت بالقرب من حلب فنقل الشيخ فاضل المحاميد هـذا الكلام إلى محمد شريف باشا الذي رفعه بدوره إلى السرعسكر إبراهيم باشا3. وتعددت الوشايات على علي آغا فحوكم وترتب جزاؤه بالقتل. وقطع رأسه ورُمي في باب السرايا طوال نهار كامل.

وشاع مثل هذا عن الأمير فندي الشهابي أحد أنسباء الشهابي الكبير وقيل أنه دعـا الناس إليه في عين اللبوة بالقرب من راشيا «وتفوه بأخبار خطرة». فكتب محمد شریف باشا إلى الشهابي الكبير يلفت نظره إلى ذلك فاستبعد الأمير اللبناني «أن يقدم مير فندي على التفوه بمثل هذه الأخبار». ورجا الحكمدار أن يحقق في الأمر حتى إذا ثبتت الأمور المنسوبة تولى هو بنفسه تنفيذ العقوبة. واهتم السرعسكر للأمر وأوجب على الحكمدار أن يخبر زميله حاكم لبنان عمن نقل إليه هذه الأخبار4.

٣ - عجلون: وكتب الشيخ محمود الرفاعي إلى أهالي جبل عجلون يحرضهم على «الفتنة» فقاموا يعترضون على أشياء وأشياء، وفي طليعة المعترضين مصطفى الزبدة وصلاح عبد الرحمن ودرغام العباس وأحمد المصلح وبركات الأحمد. وجاء في رسالة وجههـا هؤلاء الأعيان أنفسهم إلى حسن آغا اليازجي وغيره من ممثلي السلطات المصرية في عجلون أن السبب في قيامهم هو أعمال الظلم التي يرتكبها محمد آغا الشوربجي والخواجة موسى نسيب يوحنا بك البحري. وقال شيوخ القرى في عريضة أخرى مؤرخة في الثاني عشر من آب سنة ۱۸۳۹ أن المتوجب عليهم كان في أوائل حكم «إبراهيم باشا» مئـة وخمسين كيساً. ثم بعد ذلك أخذ منهم خمس أهالي القرى لتعمير القرى المستجدة وترتب حال هؤلاء على الباقين وجُنّد سبع الباقين فترتب مال هؤلاء أيضاً على البـاقين5. واستمرت ثورة عجلون واتسع نطاقها واشترك فيها البدو منهم عرب صقر وعرب غزاويد وغيرهم فاضطرب السرعسكر وأمر بإخمادها وانتدب إسماعيل عاصم بك حكمدار حلب لتنفيذ هذه المهمة بالإضافة إلى مهمته في حوران6. ولم يوفق إسماعيل بادئ ذي بدء فكتب إليـه السرمسكر يؤنبه ويستفزه للقيام بالواجب وبطريقته الخصوصية فقال: وإذا كنت تؤثر الراحة على العمل في مسألة عجلون متعللاً بأوجاع وعلل مصطنعة فها هو الأوتوزير سليم باشا فإنه استدعي إلى مصر لأنه لم ينجح في مسألة الجديدة. وإذا أرسل أحد بدلاً منك فحينئذ تفقد مركرك وتسوء سمعتك ولا تبقى لك أية قيمة عسكرية تدر لك تقلد الأوسمة والنياشين. وهاءنذا أخطرك فإذا ظهر منك أي كسل فإياك أن تقول أضاعف الضغط في اللحظة الأخيرة وأنهي المسالة. أقسم بالله أبلغ الأمر إلى وأفضحك7.

٤ - بلاد بشارة: وفي أوائل تشرين الثاني من السنة ١٨٣٩ رفع الشيخ حسين شبيب ابن الشيخ فارس الناصيف لواء الثورة في بلاد بشارة من أعمال لبنان الجنوبي مطالباً برفع المتسلمين من بلاده وإعادة الحكم إليه كما كانت الحالة في عهد والده متعهـداً بدفع الأموال وتقديم الغلال وبصيانة الأمن والعدل في بلاده في ظل الحكومة المصرية8. وجمع حوله نحواً من ست مئة نفر أربع مئة وخمسون مسلحون بالبنادق ومئة وخمسون بسلاح بسيط كالفرد والطبنجة والخنجر واليطقان والعصي. وحضر إليه جماعة من بلاد بعلبك من رجال الأمير خنجر الحرفوش يعدونه بالمعونة. ولدى وصول هؤلاء «قويت براعته وصار يتلفظ بأقوال خارجة عن الطريقة بقوله إذا كان لا يجاب إلى سؤله فإنه سيزداد شقاوة حتى يسري ضرره إلى النواحي الموجود بها». فأوعز إبراهيم باشا إلى محمد شريف باشا أن يطلب معونة الشهابي الكبير أمير لبنان ومعونة مدير إيالة صيدا الشيخ محمود عبد الهادي. فأرسل الشهابي الكبير حفيده الأمير مجيد على رأس قوة صغيرة مؤلفة من خمس مئة رجل. وقام الأمير مجيد إلى النبطية ومنها إلى ميس فيارون حيث احتك بالشيخ حسين وأكرهه على الفرار إلى الوعر9.

٥ - العزيز وابنه وموقفهما من الثورة: وعظم هذا كله على السرعسكر وحسب له حسابه فكتب إلى والده يقول: «لقد انتهت معركة نزيب بانتصارنا وأقيمت معالم الفرح في كل مكان وعلى الرغم من هذا لم يخلـد أهالي عربستان إلى الهدوء ولم يقلعوا عن العصيان. وقوم هذا شأنهم منا لا يتركون شيئاً لا يفعلونه ضدنا إذا شاهدوا السفن الأجنبية تقترب من الموانئ. لفرض أننا تقدمنا إلى الأمام وهزمنا الروس فما الذي نستطيع أن نفعله بعد ذلك. كنا صرفنا لمسيحيي الجبل أي لبنان أربعة آلاف بندقية نظراً للظروف الحاضرة ولكن الدروز أكثر استعداداً منهم للعصيان فإذا اتفقوا مع بعضهم فلا شك أن أهالي عربستان تقوم بأجمعها علينا. ولا يغيب عن الأذهان أن أهالي حلب قالوا للعساكر الذين قبضنا عليهم من جيش إستانبول «وأسفاه على خبز السلطان فإنكم لم تستطيعوا إنقاذنا». وإن علي آغا خزينة كاتبي زاده قتل من أجل هذه الأقوال. ومن المجزوم به أن العرب والشاميين اتفقوا على أن يقطعوا علينا طريق الرجعـة في حالة انهزامنا10. وعاد إلى الكتابة في منتصف تشرين الأول من السنة نفسها فقال لو أرادت إنكلترة وفرنسة أن تبثا جنوداً في سواحل الشام فلن تستطيعا إلا في عكة وطرابلس لأن طرق سائر الجهات ليست صالحة11.

٦ - الحركة العامية في لبنان: وخاب سعي العزيز لدى حكومات الدول في أن تنظر في أمره وتقدر ظروفه وهاله أمر اتفاقها ضده فعزم على الصمود في وجها ومضى على رأيه في هذا فقرر جلب قواته من اليمن ونجد والحجاز12 وأنشأ الألايات الجديدة في مصر وأشرف بنفسه على إنشائها وأدخل فيها الطلبة اللبنانيين الذين كانوا قد التحقوا بمدرسة الطب في القصر العيني، فذاع الخبر في لبنان أن العزيز يجند هذه المرة من المسلمين والنصارى. وشاع في أثناء ذلك خبر قدوم عساكر مصرية إلى بعلبـك وطرابلس وورد مركب إلى بيروت مشحوناً ثياباً عسكرية فظن اللبنانيون أنها مهيأة لهم وازدادوا اضطراباً وتقمقموا ودار بينهم لسان العصيان13. وذكر العزيز في غضون هذا كله أي في أوائل العام ١٨٤٠ نصائح إبراهيم المشار إليها أعلاه فأمر باسترجاع الأسلحة التي وزعها على النصارى اللبنانيين في إبان ثورة الدروز سنة ١٨٣٨ فثار ثائر اللبنانيين وتشاوروا في الأمر فألفوا جمعية للدفاع عن لبنـان انخرط في عضويتها عدد لا يستهان به من الوجوه والأعيان على اختلاف المذاهب والطوائف. وقر قرار الأعضاء بالإجماع على أمور أربعة أولها الامتناع عن تقديم الأسلحة التي وزعت عام ١٨٣٨ حتى يعيد العزيز ما كان قد أخذه من الأسلحة من لبنان عام ١٨٣٠ والثاني عدم الإذعان لأي تجنيد جديد والثالث الامتناع عن تسليم أي شخص يلجأ إلى لبنان ويستغيث بأهله ولو كان قد فر من الجيش والرابع إنشاء صندوق عام للدفاع عن لبنان يتبرع إليه كل لبناني بمبلغ شهري يتراوح بين نصف قرش وثلاثة غروش14.

واتصل هؤلاء الأعيان في أوائل أيار بالشهابي الكبير فذكروه بما جرى بينهم وبينه في أواخر العام ١٨٣١ عندما استدعاهم إليه وأطلعهم على العهد الذي كان يربطه بالعزيز وكيف أنهم قاموا معه إلى عكة وساروا أمام الجيش المصري إلى دمشق وحاربوا الدولة في طرابلس وحمص وحماة ثم كيف ناصروا الحكومة المصرية على الثوار في صفد وطرابلس وجبال النصيرية فأدخلوهم في طاعتها وعادوا إلى أوطانهم راجين أن تقابلهم الحكومة المصرية بالمثل فترفع عنهم «كافة المظالم» ولكنها جاءت بالعقوق فجردتهم من سلاحهم وجندت أولادهم وجارت عليهم في ذلك «فمسكت» الحريم وعلقت الرجال في الأشجار ورتبت مـال الإعانة وجبته من الأحياء والأموات حتى الذين ماتوا في الحرب قدامها ثم قهرتهم وذلتهم فكلفتهم القيام باستخراج الفحم الحجري ونقله إلى الساحل لقاء بدل تافه وأكرهت البنائين على العمل في كولك بوغاز وعكة وحملت الجميع على محاربة «إخوانهم» في حوران - نقول ذكَّر الأعيان الأمير الحاكم بهذا كله وأكدوا خضوعهم له وعدم رغبتهم بتولي الحكم ورجوه أن يستصدر إرادة سنية خديوية برفع المظالم المشروحة وأن يتم ذلك بمعرفة «وكلاء فرنسة وإنكلترة المعظمتين»15.

وعلى الرغم من هذا كله شرع الشهابي الكبير في أواخر أيار من السنة نفسها أي بعد شهر من الزمن في جمع السلاح الذي وزع على النصارى في السنة ١٨٣٨ فهب شبان دير القمر إلى سلاحهم وتوجه بعضهم إلى المقاطعات القريبة يحضون الأهالي فيها على الاحتفاظ بالأسلحة وعدم تسليمها16. وحذا حذوهم الكهول والشيوخ بعد أن يئسوا من الوصول إلى حـل مرض مع الأمير الحاكم فتحالفوا نصارى ودروزاً في «الخلوة» في دير القمر وبثوا الدعوة للعصيان في أنحاء البلاد ودفعوا بالشبان إلى مزبود على مقربة من صيدا بقيادة الشيخ يوسف فارس أبو نكد والشيخ بشير مرعي أبو نكد وتحت الراية النكدية «الحمراء» للتحرش بالجند المرابطين في صيدا وضواحيها. ففعلوا وادعوا أنهم ظفروا بهم وأخذوا منهم مئة وثمانين بندقية. ولكن محافظ بيروت آنئذٍ رأى فيما فعلوه أعمال شقاوة بين صيدا وبيروت17.

فحذّر الشهابي الكبير رجالات البلاد «من الوقوع بهذا الغلط الذي يوجب خراب الديار وقلع الآثار وأمر بوجوب طرد مراسيل رجال الدير وإلقاء القبض عليهم وإرسالهم إليه»18. وكتب في الوقت نفسه إلى محمد شريف باشا وإبراهيم باشا والعزيز في الثامن والعشرين من أيار يقول: «تشرفنا بأمر شريف سرعسكري منيف يشير منطوقه العالي بأن نسترجع البواريد العسكرية التي أعطيت أيام حركة الدروز. فلاح بفكرنا أنه لما كان قد حصل بالسابق من دخول الوهم والوسوسة عليهم ربما تسول لهم نفوس جهلهم الامتناع عن إعطاء البواريد ويحصل اختلال. فجعلنا نذاكر الأفكار هل نظهر الأمر ونبادر لنفوذه أم نتجاسر ونقدم معروضاً للأعتاب الشريفة بما افتكرناه وننظر كيف يصدر الأمر الشريف، وفيما نحن في هذا التفكير شاع الخبر من جهة صيدا أنه صدر الأمر الشريف بأخذ البواريد من عيسوية الجبل بواسطة تحرير حرره لنا عبدكم أخينا أمير ألاي السادس يستهمنا بسرعة إرسال البواريد. فلما شاع الخبر عند الجميع وتأكد فما أمكننا كتم الأمر الشريف الصادر بهذا الخصوص. فاقتضى أننا بادرنا لذلك ولكن جعلنا المبادرة بين مخطئ ومصيب فحررنا تنبيهات لبعض الجهات بطلب البواريد دون بعض لننظر ماذا يكون. ومن جملة الجهات الذين حررنا لهم دير القمر، فأهالي القرية المذكورة رجع الوهم الأول إليهم ودخلت الوسوسة في عقولهم فأظهروا الامتناع وأرسلوا أعلاماً لكل الجهات بذلك الخصوص. ثم قدموا لنا معروضاً يشتمل على الرجا بإبقاء البواريد عندهم. فجاوبناهم أن هذه القضية ليست مفوضة لرأينا بل هي منوطة بالأمر الشريف السرعسكري وعرفناهم أنهم يقدموا البواريد العسكرية ويكونوا آمنين. وبتلك الساعة بلغهم أن قرية من الذين نبهنا عليهم أحضروا البواريد. فحالاً نهضوا جميعهم أي أهالي الدير عيسوية ودروز واحتملوا سلاحهم وتوجهوا يمسكوا الطريق الواردة منه البواريد لكي يمنعوا وصولها إلى محلنا فما صادفوها. فتوجهوا للقرية وضربوا المأمور ووجدوه جامعاً عنده كم بارودة فاستخلصوها منه وأرجعوها لأصحابها وأرسلوا أنفاراً لجميع الجهات يمنعوهم عن إعطاء البواريد. وعلى هذه الكيفية فربما الجميع يمتنعوا وتزداد القضية شدة والدروز يوافقوهم على ذلك. ولقد أعرضنا هذه القضية بذاتها للأعتاب الشريفة السرعسكرية راجين صدور أمر دولته بما يستحسن لدى عنايته»19.

وامتد لهيب الحركة هذه من تلال صيدا إلى تلال بيروت وانضم إليهـا من الأمراء الشهابيين الأمير فارس حسن والأمير يوسف سلمان ملحم والأمير محمود سلمان ومن اللمعيين الأمير علي منصور قايدباي والأمير عبدالله شديد مراد والأمير علي فارس ومن الحرافشة الأمير خنجر ومن شيوخ الإقطاع الشيخ فرنسيس أبو نادر الخازن والشيخ عفيف حكم الخازن والشيخ نقولا الخـازن والشيخ شمسين صفا الخازن والشيخ صالح هيكل الخازن والشيخ بشارة فرنسيس الخازن وابنه الشيخ حصن والشيخ عبس الخوري. ومن الأشداء أبو سمرا غانم البكاسيني وأحمد داغر المتوالي ويوسف الشنتيري20. واختلفت لهجة هؤلاء عن لهجة أهل دير القمر فقال الأمير محمود سلمان الشهابي في نداء له وجهه في التاسع والعشرين من أيار إلى أهالي إقليم الخروب: إنه امتثالاً لأوامر حضرة مولانا السلطان عبد المجيد نصره الملك المجيد واتباعاً لفرمانه الشريف الصادر برفع المظالم وردع كل ظالم نرغب من محبتكم أن تتوجهوا صحبة العساكر المتوجهة من قبلنا إلى الأولي. وإن شاء الله تعالى بوقت قريب تحصل الراحة لجميع البلاد وينقطع الظلم عن العباد ويعود القديم إلى قدمه21.

وازداد عدد الثوار في ضواحي بيروت وانتخبوا لهم زعيماً الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن فاتخذ لنفسه لقب «سرعسكر النصارى»، وأجمع رأي الجميع على قطع الطريق على عساكر مصر فتوجه الأمير محمود سلمان الشهابي إلى صيدا ونواحيها والأمير علي منصور اللمعي إلى البقاع وأبو سمرا إلى طرابلس. وانتقل الأميران فارس ويوسف الشهابيان إلى الحازمية وسائر اللمعين إلى الدكوانة. ثم هجم الثوار على الكرنتينا خارج سور بيروت وأطلقوا على من فيها الرصاص فصدهم الأرناؤوط المحافظون فيها. فألحّ الثوار على سور البلد فخرج إليهم مركب مصري وأطلق مدافعه عليهم فانكفوا عن السور وكانوا نحو ألف رجل وأكثرهم مسلح بالعصي. فأخذوا يهجمون على أبواب المدينة وينهبون المآكل22. ووقعت حوادث مشابهة في سائر المقاطعات. وكتب الشهابي الكبير إلى أخصائه أن يقوموا من ساحل بيروت إلى الغرب الأعلى وإلى اللمعيين أن يقوموا إلى القاطع23.

وفي أول حزيران كتب الحكمدار المصري محمد شريف باشا إلى الشهابي الكبير أن يمتنع عن طلب السلاح من الأهالي لحين وصول جواب السرعسكر وأن يفهم الثوار أن ما توهموه هو غير واقع وأنه لم يكن له رسم ولا أثر. وكان الأمير الحاكم قـد فعل شيئاً من هذا فأوفد في اليوم الأول من حزيران الشيخ بشاره أنطون الخوري ومنصور مرهج وبشارة الجلخ إلى شيوخ دير القمر يوعز باستعداده للصفح عما جرى وبوجوب طلب ذلك منـه خطاً ففعلوا وقاموا إليه بمعية الشيخ بشارة الخوري وقبلوا الأتك24. وفي الثاني من حزيران كتب إبراهيم باشا إلى والده يلوم الشهابي الكبير لأنه أخفى حقيقة الحال في منطقته ويرتأي معاملة الثوار بالتي هي أحسن كي لا يتجر القناصل بأخبـار الثورة. فإن حافظ الثوار على السكينة تركهم على حالهم وأما إذا خاضوا في الموضوع وأكثروا الكلام فيه فهو يرى أن يقوم عليهم بثلاث ألايات من عساكر اللاذقية فيؤدبهم ثم يعود إلى مرعش25. وفي الثامن منه كتب كل من العزيز وابنه إبراهيم إلى الشهابي الكبير يؤكدان أن ليس في نية أحـد منهما أن يجند أحداً من اللبنانيين وأنهما أمرا برفع طلب البنادق موضوع البحث. فكتب الأمير بذلك مبشراً وأوفد ابنه أميناً إلى ساحل بيروت مطمئناً حاملاً إرادة العزيز26.

وفي الحادي عشر من حزيران «وقبل الغياب بساعة» قـام الأمير أمين الشهابي إلى بيروت فتوجه إلى سن الفيل حيث الأمراء اللمعيين واستدعى إليه «سرعسكر النصارى» من حرج بيروت فلم يحضر. ثم استدعى إليه بعض الوجوه من الثوار وحاول استرضاءهم وطلب إليهم أن يعودوا إلى أماكنهم فوعدوه بالإجابة في اليوم التالي. فانتظرهم في عين الشياح في ضواحي بيروت فلم يجيبوه فتوجه إلى بتدين. ثم كتب الأمير الكبير إلى الأمير ملحم الشهابي والأمير سلمان سيد أحمد الشهابي والأمير ملحم حيدر الشهابي أن يتصلوا بالثوار ويدعوهم ففعلوا وأجابهم الثوار أننا لا نرجع إلى أماكننا إلا إذا قبل الأمير بهذه الشروط: وهي أولاً أننا لا ندفع إلا مالاً واحداً ثانياً أن يرفع بطرس كرامة من دیوانه تالثاً أن يضع في ديوانه من كل طائفة اثنين رابعاً أن يرفع عنهم السخرة وحفر المعدن أي الفحم الحجري وخامساً أن يبقي لهم السلاح «وذلك كما تلقنوه سرّاً من الأمراء»27.

وعاد أمين إلى والده ينقل إليه تصلب الثوار ويعزيه إلى تدخل الدول مؤكداً أن إفرنجياً اتصل بهم من قبل قنصل سردينية وحرضهم على الهجوم على بيروت وأن يوسف الزنانيري ترجمان قنصل النمسة قام إلى زحلة يحرض أهلها على الثورة وأن نعمة طراد ترجمان قنصل الإنكليز قدم الغـلال إلى الثوار وأن إفرنجياً اتصل بهؤلاء في التاسع من حزيران وحرضهم على الاستمرار في القتال قائلاً أن سفينة مشحونة بالسلاح ستصل قريباً وأضاف أن تشديد الإفرنج لأهل البلاد ظاهر كالشمس وترددهم عليهم أيضاً إذ أنه هو بنفسه رآهم عندهم28. وكتب الأمير ملحم حيـدر الشهابي الذي فاوض الثوار باسم الأمير الكبير - كتب في منتصف حزيران إلى الأمير الكبير يقول «نهار البارح بعـد طلوعنا من الحرش وصل من كسروان مقدار مئة نفر مسلحين وموضوع على رأس كل منهم شارة صليب نيشان وقدامهم خيال فرنجي صاحب سيفه ومعهم بيرق ثلاثة أشكال أحمر وأزرق وأبيض نيشان فرنساوي وعامل لهم تعيين لكل نفر يومي غرشين ونصف وبعده حضر الأمير الفرنساوي وترجمان قنصل الفرنساوي».

وكتب محمود نامي بـك محافظ بيروت إلى سليمان باشا الفرنساوي في اليوم نفسه أن هذا الأمير الإفرنسي هو الفيكونت أونغروا وأنه إفرنسي الأصل سبق له أن خدم في الجيش الإفرنسي ثم قصد الآستانة وانتقل منها إلى مدرسة عينطورة في لبنان ليدرس اللغة العربية وأنه أرسل إلى تاجر في بيروت يطلب إليه أن يستورد له باروداً ورصاصاً وأن التاجر أبى فعاد الفيكونت وطلب إليه أن يستورد له البارود والرصاص إلى قبرص. ثم أفاد محمود نامي بك أنه ثبت لديه أن الفيكونت المذكور موفد من ذلك الجانب أي من جانب الباب العـالي وأن سفينة رومية من طراز بريك على وشك الوصول إلى ميناء البترون (لبنان) بالذخيرة المطلوبة من قبرص. وأفاد المحافظ أيضاً أن إفرنسياً آخر يدعى سليمان سبق له أن استخدم في المحجر الصحي فطرد منه أن هذا الإفرنسي يتنقل بين الزوق وبين بيروت وأن خليـل المدور ترجمان قنصل فرنسة في بيروت على اتصال بالعصاة يمدهم بمادة الكبسول وأن أربعة آخرین من رعايا فرنسة في الحرج مع الثوار. واشتد حماس الرعايا الإفرنسيين للثوار وشملهم القاصد الرسولي بعطفه فقام راهب إفرنسي يتجول في قرى المتن وكسروان يحرك الأهالي ويحرضهم على الهياج والالتحاق بالثوار ويعدهم بقدوم مراكب فرنساوية مشحونة ذخيرة وسلاحاً لأجل إمدادهم29. وخشي المحافظ أن يكون عبدالله الإفرنسي البارون درمنياق الذي انفصل عن الجيش وأقام في طرابلس أن يكون قد اتصل بالثوار وتعاون معهم. واشتد حماس المسيو بورة قنصل فرنسة في بيروت للثوار النصارى فافتضح أمره واضطر وكيل الخارجية الفرنسية أن يردعه عن تشجيع الثوار ويوصيه بإدلاء النصح إليهم كي يستكنوا ويعودوا إلى منازلهم وقراهم30.

وهكذا فإننـا نرى الشهابي الكبير يكتب إلى العزيز في منتصف حزيران متثبتاً من تدخل الأجانب ناسباً تصلب العصاة إلى تشديد أولئك معلناً أن ما تطلبه العصاة من الأمير ملحم الشهابي وزميليه كان مكراً منهم وخداعاً إذ أنهم لم ينتظروا الجواب بل حالاً توجه منهم فرقة إلى المتن لأجل تحريك سكانه وللتوجه إلى غربي البقاع وحاصبيا وراشيا لإيقاد تار الفساد وتوجهت فرقة أخرى إلى زحلة والمعلقة وبلاد بعلبك للغاية نفسها. ولذا فإنه يرى أن تحميلهم بالتطمين والتأمين لا يجدي نفعاً نظراً لجهلهم وغرورهم ودخول يد الغير بينهم ما يزيدهم شقاوة وفجوراً31. ويقول المؤرخ المعاصر الشيخ طنوس الشدياق أن الأمراء الشهابيين واللمعيين شددوا الثوار سراً وحثوهم على التصلب والثبات وأن الإفرنج كانوا يأتون إليهم ويحرشونهم على الدولة المصرية ويشددونهم ويحققون لهم قدوم المراكب الحربية لإسعافهم. وأنه على أثر هذا توجه الأمير محمود الشهابي إلى جهة صيدا ومعه أحمد داغر المتوالي والأمير منصور اللمعي إلى المــتن ليجمع رجالاً من هناك ويسير بهم إلى البقاع وأن أبا سمرا غانم توجه إلى طرابلس فأبقى مئـة نفر محافظين في أنطلياس ونهر الكلب ووصل إلى غزير فتبعه الشيخ يوسف حمزة حبيش والشيخان بطرس وحنا حبيش، وأنه نهض بعد ذلك إلى الفتوح فتبعه الشيخ زعيتر راشد الدحداح وجماعة ووصل إلى المنيطرة فتبعه الحماديون بمئتي نفر ثم قام إلى جبة بشري فجمع منها رجالاً ونزل إلى زغرتا فلما بلغ والي طرابلس قدومه أرسل إليه أربعة آلاف نظامي بمدافع فاقتتل الطرفان وانكسر أبو سمرا وقتـل من جماعته سبعة ومن الجيش المصري عشرون ثم عاد أبو سمرا فالتقى الجيش في قرية إيمال فكسرهم معملاً في أقفيتهم السلاح آخذاً منهم مدفعاً وقاتلاً خمسين مقابل عشرين32.

وكان قد وقع بعض أعيان الدروز وبعض أعيان النصارى عهدا على أنفسهم باتفاق الكلمة والعمل الموحد وذلك في السابع من حزيران في كنيسة أنطلياس وبشهادة قسها أسبيريدون العرموني33. فازداد الشبان نشاطاً وحماساً واندفعوا للتخريب والمناوشة في بيروت وصيدا والبقاع.

٧ - العزيز وإخماد الحركة: ووردت هذه الأخبار تترى على الشيخ الجليـل عزيز مصر فضاق صدره وهدد في ساعة غضبه أنه سيتحرك هو بنفسه إلى لبنان بسبعين مع الدونماي السعيدة34 ثم علم بإقصاء خصمه خسرو باشا عن مقام الصدارة فظن أنه آن الأوان لمصر أن تنال بغيتها فآثر البقاء في الإسكندرية مضطراً. ولكنه نظراً لما كان قد شاع عن سفره بالذات إلى لبنان رأى ألا يرسل العساكر بقيادة قائد عادي فقرر أرسالهم بقيادة حفيده عباس باشا وكتب إلى سليمان باشا يحيـل إليه وضع الخطط الحربية اللازمة وقرر إرسال ألايي الرديف الإسطانبوليين وألالي المشاة السادس والعشرين والثلاثين وعشرة سركردات من الباشبوزق وبطارية من مدافع الجبل الخفيفة. وكتب إلى الشهابي الكبير: «احتراماً لشخصك لا يجب أن يهجم العسكر على من منحتهم الأمان ولا أن يطلب إليهم تسليم السلاح وإنما يضرب العسكر العصاة وينزع أسلحتهم حرباً وقهراً»35. وكان إبراهيم باشا قد أمر عثمان باشا منذ الخامس من حزيران بالزحف على الجبل عن طريق بعلبك زحلة بخمسة ألايات إذا قضت الظروف وأمر سليمان باشا مثل ذلك بما لديه من الجنود في بيروت وصيدا وعكة36.

فجهز سليمان باشا خمسة ألايات من المشاة وألاياً من الفرسان وعزز حامية بيروت لمنع أهاليها من الاتصال بالثوار وأرسل يطلب عثمان باشا وألافه الخمسة من حماة وجلهم من أبناء جبل نابلس وكتب إلى العزيز في الثامن عشر من حزيران أنه لدى وصول عباس باشـا إلى بيروت وعمثان باشا إلى زحلة سيباشر بالزحف على العصاة37.

وفي الرابع والعشرين من حزيران وصل عثمان نور الدين باشا بعساكره إلى بعلبك. وفي صباح اليوم التالي قام قاصداً مركز العصاة في حشبيه فلم ير أحداً منهم. فتابع سيره إلى زحلة وعلم لدى وصوله إلى الفرزل أن الثوار معتصمين في بير هاشم في جبل مواجه للفرزل. فأمر فرسان الباشبوزق بالصعود إليهم ففعلوا ولكنهم عادوا على أعقابهم نظراً لصعوبة الأرض. وقام الثوار من بير هاشم إلى قرية بوارش واعتصموا بها لوعورة أرضها ولقربها من الطريق الرئيسي بين دمشق فالبقاع وبيروت. وبلغ عثمان باشا زحلة وعسكر خارجها في محل يقال له ترحيم. وفي الثلاثين من حزيران نزل الثوار من مراكزهم إلى السهل في منتصف الطريق بين ترحيم وبين زحلة. فهجم عليهم الباشا بألاي من الفرسان ومدافع ثلاثة وجماعة من الباشبوزق فقتل منهم جانباً وشتت الباقين. «وبقت رؤوسهم لوحدها وجثتهم لوحدها»38.

ووصل عباس باشا بمركب ناري إلى بيروت في الثلاثين من حزيران وتكامل عدد العساكر في جميع الجهات فأوفد الشهابي الكبير حفيده الأمير مسعود ليقوم مع العسكر الذي ينهض من صيدا كما أرسل حفيده الأمير مجيد ليواكب عباس باشا في بيروت. وكان قد أرسل حفيده الثالث الأمير محمود إلى زحلة ليبقى قريباً من عثمان باشا وإسماعيل عاصم بك39. وفي السادس من تموز نشب قتال عنيف بالقرب من صيدا إذ قام الثوار من مجدلونا إلى ساحل البحر وانقسموا إلى فئات ثلاث فاتجه شبان المناصف إلى الرميلة وشبان الشحار إلى بياضة علمان وشبان الدير إلى البرغوثية. وبدأ هؤلاء بضرب العسكر المصري ومـا أن شاهدوا أفراده يتجندلون وراء المتاريس حتى استفرسوا فهجموا عليهم وأزاحوهم عنها ثم ارتدت العساكر عليهم فردوهم وهكذا دواليك حتى نفد الرصاص من جعب الثوار فاضطروا للتراجع بمؤازاة النهر بعد أن خسروا ثلاثة عشر قتيلاً مقابل عدد أكبر بكثير ولعله فاق الثلاث مئة40. وفي الثامن منه نهض الأمير فارس والأمير يوسف الشهابيان بجماعتها من الحازمية فالتقاهما الأمير إسماعيل برجاله إلى قرن الزيتون وقصدوا قتال العسكر المصري في بيروت. ولما وصلوا إلى سن الفيل كانت سباقتهم قد وصلت إلى الأشرفية فالتقاهم الأرناؤوط والنظام وهجموا عليهم فانهزموا وتبددوا وقتل منهم سبعة عشر41. وفي العاشر منه قام عثمان نور الدين باشا بعساكره من ترحيم وإلى جانبه الأمير محمود حفيد الأمير الكبير إلى ممر ضهر البيدر - طريق دمشق بيروت - وزحف منه على الثوار الذين كانوا قد اعتصموا في الجرد فوق قرية بوارش فشتت شملهم. وكان معه في هذا الزحف كل من إسماعيل عاصم بك حكمدار حلب والأمير محمود الشهابي والشيخ محمود عبد الهادي مدير إيالة صيدا والشيخ سليمان عبدالهادي متسلم نابلس وعدد من النابلسيين. وبعد أن قضى ليلته في بوارش قام منها إلى كفرسلوان ومكث فيها أربعة أيام. وكان قد أرسل كتيبة من النابلسيين إلى حمانا لاحتلالها ففعلت وسلبت ونهبت ثم عادت إلى قرية الرمتانية لقضاء الليل فيها. وقام عثمان باشا من كفرسلوان إلى بقليع فوافاه إليها الأمير بشير الشهابي وشرع في جمع السلاح فقدم إليه الشنتيري وبرأ ذاته فأعطاه أمين الأمان وجاء بعده الأمير حيدر إسماعيل اللمعي نزيلاً فأمنه أمين بقسم. ثم قبض جنود الأمير أمين على الأمير علي قايدباي والأمير عبدالله مراد والأمير منصور مراد والأمير فارس وابنه الأمير علي. فأمر الشهابي الكبير بإرسالهم جميعهم إليه ولدى وصولهم إلى بتدين وضعوا في «محرس». «ودخل الخوف والهلع على الجميع فالتجأوا إلى الأمان مقدمين بالوقت والساعة الخضوع والطاعة»42. ولم يبق خارجاً عن الطاعة سوى «جمهور الساحل» أي ساحل بيروت. فقام الجيش المرابط في بيروت بقيادة عباس باشا وسليمان باشا في الخامس عشر من الشهر نفسه ومعهما الأمير مجيد حفيد الشهابي الكبير إلى الحازمية بالقرب من بيروت. ثم نهضوا منها قاصدين حمانا. ولما وصلوا تجاه قرية المكلس التي تطل على نهر بيروت أطلق عليهم الأمير خنجر الحرفوش وجماعته الرصاص. فأرسل إليهم سليمان باشا بعض الأرناؤوط فتفرقوا وفر الأمير خنجر إلى جرد العاقورة وأحرق الأرناووط المكلس ونهبوا المنصورية وبيت مري ودير القلعة وعادوا إلى المعسكر. وكان الشهابي الكبير قد وجه ابنه الأمير خليلاً بجمهور من رجاله المجتمعين عنده لضرب «جمهور الساحل» فولى هؤلاء منهزمين قبل وصول جماعة الأمير الحاكم إليهم وتوجه كل منهم إلى محله. وفر الأمير محمود سلمان الشهابي فجدوا في طلبه ولم يدركوه. فكتب هو إلى الأمير عباس كنج الشهابي أن يتشفع به لدى الشهابي الكبير. فأجابه ووضعه في محرس. وقبض أحد جنود الأمير على الأمير يوسف الشهابي وسار به إلى بتدين فوضعه الأمير الحاكم في محرس أيضاً. وحـدث مثل هذا إلى الأمير فاعور الشهابي. وأرسل الأمير الحاكم جنوداً من قبله فألقي القبض على الشيخ حمود وولده الشيخ قاسم والشيخ عباس نصيف النكديين ووضعهم في الحبس. وقام الأمير خليل من ساحل بيروت إلى كسروان فجمع الأسلحة بقساوة وأكره من لا سلاح له أن يشتري سلاحاً ويقدمه. وأغلظ القول على من لم يكن من حزب والده. وقبض على الشيخ نقولا الخازن وأرسله إلى بتدين. أما الشيخ فرنسيس «سرعسكر النصارى» فإنه فر من مخبأه إلى قبرص وتبعه إليها الشيوخ بشاره وحصن وروفائيل الخازن. وقام عباس باشا وجيشه من ضواحي بيروت إلى خان الحسين ومنه إلى بتدين43.

ورأى الشهابي الكبير «أن راحة الأهالي لا تتم إلا بزوال المفسدين منهم» فوافق على نفي أربعة من الأمراء الشهابيين إلى سنار وهم الأمير فاعور والأمير يوسف والأمير فارس والأمير محمود وثلاثة من الأمراء اللمعيين وهم الأمير حيدر والأمير علي والأمير عبدالله وأرسلهم إلى صيدا «حسب الامر العالي» ومنها إلى عكة فمصر. ورأى أيضاً أن الأشياخ النكديين حموداً وقاسماً وعباساً منذ حضورهم إلى لبنان بعد نفيهم إلى مصر «استعملوا أسباب الفساد وانتظروا حدوث الحركات فحثوا دروز لبنان على مساعدة دروز اللجاة وحرضوا كثيراً من الناس على ارتكاب العصيان ووزعوا الأسلحة سراً دون أن يتظاهروا بشيء خوفاً منهم على ابن عمهم الشيخ نصيف الذي كان لا يزال في القاهرة مع ولده وأن المصلحة تقضي برمي القبض عليهم وإرسالهم إلى مصر»44. وأضاف إلى هؤلاء شيخاً خازنياً واحداً هو الشيخ نقولا وستة وأربعين عامياً أرسلوا إلى الإسكندرية في مركبين من ميناء عكة مقيدين أزواجاً45.

ونحن نرى أن الشهابي الكبير كان مخلصاً كل الإخلاص في موقفه هذا فإنه على الرغم من امتعاضه من سياسة الجانب المصري في بعض الأحيان كان لا يزال يؤثر الاستمرار في التعاون مع العزيز لما لمسه في شخصه من تجدد وتحرر ولما كان بين الإثنين من تعاهد وتعاقد ولما خشي أن يحل بلبنان من ظلم وإهمال وجور في حال رجوع الأتراك إليه. ودليلنا على هذا أنه رفض التعاون مع الباب العالي عندما عرضه عليه عميل السفارة البريطانية في الآستانة المستر ريتشارد وود عام ١٨٣٥، فقد قال هذا العميل في تقرير رفعه إلى رؤسائه أنه اتصل بالشهابي الكبير عملاً بأوامر السفير وأبان له ما يحدق به من خطر إن هو استمر في التعاون مع مصر وأنه وضَّح له الموقف الدولي وأرجحية إعادة بر الشام إلى السلطان وأن الأمير وعد بالتعاون مع السلطان إذا ضمن النصر له ولكنه أضاف أن بر الشام يصبح قاعاً صفصفاً قبل تمكن الأتراك من الاستيلاء عليه قال المستر وود هـذا وأضاف: «إني استنتجت من هذا الكلام الأخير أن بشيراً سيواظب على تعاونه مع إبراهيم نظراً لتأثير الفرنساويين عليه»46. وقال المسيو كوشله قنصل فرنسة العام في الإسكندرية في تقرير رفعه في الرابع عشر من تموز سنة ١٨٤٠ إلى المسيو تيير رئيس الوزارة الفرنسية ووزير الخارجية أن العزيز شديد الثقة بالأمير بشير وولائه وأنه قال إنه يعتمد عليه بقدر ما كان يعتمد على ابنه إبراهيم47. ويجب ألا يغيب عن البال أن بشيراً كان قد ذاق الأمرين في عهد الأتراك وقاسى ظلمهم وأن العزيز كان قد فرج الغم عنه مراراً وأوصى به تكراراً وهدَّد أخصامه وتوعدهم بالعقوبة واحترم استقلاله بعد الفتح وعزز مكانته وأن الأمير الشيخ كان قد ناهز الرابعة والسبعين حين تفتر الهمم وتصطك الركب ويضيق الأفق ويقصر الأمل.


  1. مؤلفه إنكلترة والقرم ص ٤٢٤-٤٢٥
  2. المحفوظات ج ۱ ص ١٣٥-١٤٣
  3. المذكرات التاريخية للخوري قسطنطين الباشا ص۱۸۱-۱۸۳ اطلب أيضاً تقارير أحمد شريف باشا في هذا الموضوع المحفوظات ج ٤ ص ۱۳۳-۱۳٥ و۱۸٦-۱۸۷
  4. محمد شريف باشا إلى إبراهيم باشا – ۱۷ آب سنة ١٨٣٩: المحفوظات ج ٤ ص ۱۹۰
  5. المحفوظات أيضاً ج ٤ ص ۱۸۹
  6. إبراهيم باشا إلى إسماعيل عاصم بك المحفوظات ج ٤ ص ۳۱۹ ۱۸۰-۱۸۱ و۱۹۸ و۲۰٥
  7. إبراهيم باشا إلى اسماعيل عاصم بك – ٩ أيلول سنة ١٨٣٩ – المحفوظات ج ٤ ص ٢١٤
  8. حسين شبيب إلى محمد علي باشا - ١٦ تشرين الثاني سنة ١٨٣٩ المحفوظات نفسها ج ٤ ص ۲۷۱-۲۷۲
  9. الشيخ محمود عبد الهادي إلى محمد شريف باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۲٦۹-۲۷۱
  10. إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا - ٥ أيلول سنة ١٨٣٩ - المحفوظات ج٤ ص ۲۱۰-۲۱۱
  11. إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا: المحفوظات ج ٤ ص ٢٤٦
  12. محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۲۹۰
  13. أخبار الأعيان لطنوس الشدياق ص ٥۸۸-٥۸۹
  14. مسيو بورّه إلى المارشال صولت - ٥ آذار سنة ١٨٤٠ - مجموعة إدوار دريو مصر وأوروبة ج ۲ ص ١٦٨ - ١٧٠
  15. مسيو بوره إلى المارشال صولت – ٥ أيار سنة ١٨٤٠ - مجموعة إدوار دريو مصر وأوروبه ج۲ ص ۲۷۰-۲۷۲ قابل بما ورد في كتابنا الأصول ج ٥ ص ۱۰۸-۱۱۰
  16. حروب إبراهيم باشا المصري للقس أنطون الحلبي ج۲ ص ۱۲-۱۳
  17. محمود نامي بك إلى حسين باشا: المحفوظات ج ٤ ص ٣٣٩-٣٤٠ – راجع أيضاً إبراهيم باشا بسوريا لسليمان بك أبو عز الدين ص ٢٥٩-٢٦١
  18. كتابنا الأصول ج ٥ ص ۸۲
  19. الأمير بشير الشهابي إلى محمد شريف باشا: المحفوظات ج ۱ ص ٢٤٣-٢٤٤
  20. أخبار الأعيان لطنوس الشدياق من ٥۹۰-٥۹۳
  21. المحفوظات المصرية ج ٤ ص ٢٤١-٢٤٢
  22. أخبار الأعيان نفسه ص ٥۹۲ اطلب أيضاً كتابنا الأصول ج ٥ ص٨٣-٩٤
  23. أخبار الأعيان الأعيان أيضاً ص ٥۹۱
  24. المحفوظات ج ٤ ص ٣٤٨ وحروب إبراهيم باشا المصري ج ۲ ص ۱۸-۱۹ – راجع العريضة وجواب الأمير في المحفوظات أيضاً ج ٤ ص ٥ ٣٦٥-٣٦٧
  25. المحفوظات ج ۱ ص ۳٥۳
  26. كتابنا الأصول ج ٥ ص ۹۷-۹۹ وحروب إبراهيم باشا ج۲ ص ۲۱-۲۲ والمحفوظات ج ٤ ص ۳۷۰-٣۷۱
  27. أخبار الأعيان ص ٥٩١
  28. علي حبيب بك إلى سليمان باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۳۷۱-۳۷۳ ورسالة الأمير أمين إلى والده - المرجع نفسه ص ٢٧٤
  29. الأمير ملحم الشهابي إلى الأمير أمين الشهابي ومحمود نامي بك إلى سليمان باشا والأمير بشير الشهابي إلى محمد علي باشا: المحفوظات ج ۱ ص ۳۸۱ و۳۸۲-٣٨٤ راجع أيضاً رسالة المعلم بطرس كرامه إلى يوحنا بحري بك في الموضوع نفسه والمجلد نفسه ص ٣٨٥
  30. ديساج إلى كوشله: نيبر ومحمد علي لفرانسوا شارل رو ص ۹۳ و۸۸-۸۹
  31. الأمير بشير الشهابي إلى محمد علي باشا - ١٦ حزيران سنة ١٨٤٠ - المحفوظات ج ۱ ص ۳۸۲
  32. أخبار الأعيان ص ٥۹۳ - ٥٩٤ وجاء في تقرير سلمان ثابت بك أميرالاي الفرسان الرابع والعشرين المرابط في طرابلس أنه قتل من الثوار في موقعة إيمال ما لا يقل عن أربع مئة نفس: المحفوظات ج۱ ص ٤٠٣ و٤٠٤
  33. كتابنا الأصول ج ٥ ص ۱۰۰
  34. محمد علي باشا إلى الأمير بشير الشهابي – ٩ حزيران سنة ۱۸٤۰ المحفوظات ج ٤ ص ۳۷۰
  35. محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا – ۱۷ حزيران سنة ١٨٤٠ – المحفوظات ج ٤ ص ۲۷۷-۳۷۸
  36. إبراهيم باشا إلى سليمان باشا: المحفوظات جد ص ٣٦٣-٣٦٤
  37. سليمان باشا إلى محمد علي باشا: المحفوظات ج٤ ص ۳۸۱ و۳۸۲ اطلب أيضاً كلام الأمير بشير الشهابي في الصفحة ٣٧٢ من المجلد نفسه.
  38. الأمير بشير الشهابي إلى محمد علي باشا – أول نموز سنة ١٨٤٠ – المحفوظات ج٤ ص ۳۹۷-٤٠١. وجاء في أخبار الأعيان من ٥٩٥ أن الثوار انحدروا من المريجات إلى السهل فحدثت واقعة هائلة بينهم وبين عثمان باشا فقتل منهم مئة وتسعة عشر رجلاً وانهزم الباقون إلى المريجات منخذلين.
  39. الأمير بشير الشهابي إلى محمد شريف باشا: المحفوظات ج٢ ص ٤٠٥-٤٠٦
  40. حروب إبراهيم باشا للقس أنطون الحلبي ج٢ ص ٤٠ – ٤١ راجع كتابنا الأصول ج ٥ ص ١٤٠-١٤١
  41. أخبار الأعيان ص ٥٩٠ الأمير بشير الشهابي إلى محمد علي باشا: المحفوظات ج ٤ ص ٤١١
  42. الأمير بشير الشهابي إلى محمد علي باشا – ١٤ تموز سنة ١٨٤٠ - المحفوظات ج٤ ص ٤١٠ - ٤١٢ وإبراهيم باشا إلى محمد علي باشا - ١٦ تموز - المحفوظات ج٤ ص ٤١٤ وعثمان باشا إلى محمد علي باشا -۲۰ تموز-المحفوظات ج٤ ص ٤١٨ اطلب أيضاً أخبار الأعيان ص ٦٠٠-٦٠١
  43. الأمير بشير الشهابي إلى محمد علي باشا: المحفوظات ج ٤ ص ٤١١-٤١٢ ومحمود نامي بك إلى حسين باشا: المحفوظات ج ٤ ص ٤١٤-٤١٦ وأخبار الأعيان ص ٦٠٠-٦٠١ وحروب إبراهيم باشا المصري ج٢ ص ٤٣ - ٤٧
  44. الأمير بشير الشهابي إلى محمد علي باشا – ۲۳ تموز سنة ١٨٤٠ - المحفوظات ج ٤ ص ٤٢٠ - ٤٢٢
  45. أخبار الأعيان للشيخ طنوس الشدياق ص ٦۰۱
  46. الملحق الأول لكتاب الدكتور هارولد تمبرلي إنكلترة والقرم ص ٤٨١
  47. مجموعة إدوار دريو: مصر وأوروبة ج٣ ص ۲۱