بديع الزمان الهمذاني - المقامة البلخية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​المقامة البلخية​ المؤلف بديع الزمان الهمذاني


حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: نَهَضَتْ بِي إِلى بَلخَ تِجَارَةُ الْبَزِّ فَوَرَدْنُهَا وَأَنَا بِعُذْرَةِ الشَّبَابِ وَبَالِ الفَرَاغِ وَحِلْيَةِ الثَّرْوَةِ، لا يُهِمُّنِي إِلاَّ مُهْرَةُ فِكْرٍ أَسْتَقِيدُهَا، أَوْ شَروُدٌ مِنَ الْكَلِمِ أَصِيدُهَا، فَمَا اسْتَأْذَنَ عَلَى سَمْعِي مَسَافَةً مُقَاِمي؟؟، أَفْصَحُ مِنْ كَلاِمي، وَلمَّا حَنَى الْفِراقُ بِنَاقَوْسَهُ أَو كَادَ دَخَلَ عَليَّ شَابٌّ في زَيٍّ مِلءِ العَيْنِ، وَلْحَيةٍ تَشُوكُ الأَخْدَعَيْنِ، وَطَرفٍ قْد شَرِبَ مَاءَ الرَّافِدَيْنِ، وَلَقِيَنِي مِنَ الْبرِّ فِي السَّناءِ، بِمَا زِدْتُهُ فِي الثَّناءِ، ثُمَّ قَالَ: أَظَعْناً تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: إِيْ وَاللهِ، فَقَالَ: أَخْصَبَ رَائِدُكَ، وَلاَ ضَلَّ قَائِدُكَ، فَمَتَى عَزَمْتَ؟ فَقُلْتُ: غَدَاةَ غَدٍ، فَقَالَ:

صَبَاحُ اللهِ لا صُبْحُ انطِـلاقٍ *** وَطَيرُ الوَصْلِ لا طَيْرُ الفِراقِ

فأَيْنَ تُريدُ؟ قُلْتُ: الوَطَنَ، فَقَالَ:بُلِّغْت الوَطَنَ، وَقَضَيْتَ الوَطَرَ، فَمَتَى العَوْدُ؟ قُلْتُ: القَابِلَ، فَقَالَ: طَوَيْتُ الرَّيْطَ، وَثَنَيْتَ الْخيْطَ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الكَرَمِ؟ فَقُلْتُ: بِحَيْثُ أَرَدْتَ، فَقَالَ: إِذَا أَرْجَعَكَ اللهُ سَالِماً مِنْ هَذَا الطَّريقِ، فَاسْتَصْحِبْ لي عَدُوّاً في بُرْدَةِ صَديقٍ، مِنْ نِجار الصُّفْرِ، يَدْعُو إِلى الكُفْرِ، وَيَرْقُصُ عَلَى الظُّفرِ، كَدَارَةِ العَيْنِ، يَحُطُّ ثِقَلَ الدَّيْنِ، وَيُنافِقُ بِوَجْهَيْنِ. قَالَ عِيسى بْنُ هِشَامٍ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَلْتَمِسُ دِيناراً، فَقُلْتُ: لَكَ ذلِك نَقْداً، وَمِثْلُهُ وَعْداً، فَأَنْشأَ يَقُولُ:

رَأيُكَ مِمَّا خَطَبْتُ أَعْـلَـى *** لا زِلْتَ لِلمَكْرُمَاتِ أَهْـلا

صَلُبْتَ عُوداً، وَدُمْتَ جُوداً *** وَفُقْتَ فَرْعاً، وَطِبْتَ أَصْلا

لا أَسْتَطيعُ العَطَاءَ حَمْـلاً *** وَلا أُطيقُ السُّؤَالَ ثِـقْـلا

قَصُرْتُ عَنْ مُنْتَهَاكَ ظَنّـاً *** وَطُلْتَ عَمَّا ظَنَنْتُ فِعْـلا

يا رُجْمَةَ الدَّهْر والمَعَالـي *** لا لَقِىَ الدَّهْرُ مِنْكَ ثُكْـلا

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَام: فَنُلْتُهُ الدِّينَارَ، وَقُلتُ: أَينَ مَنْبِتُ هَذا الفَضْلِ؟ فَقَالَ: نَمَتْنِي قُرَيشٌ وَمُهِّدَ لِيَ الشَّرفُ فِي بَطَائِحِهَا، فَقالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: أَلَسْتَ بِأَبِي الْفَتْحِ الإْسْكَنْدَريِ؟ أَلَمْ أَرَكَ بِالْعِراقِ، تَطُوفُ فِي الأَسْواقِ، مُكَدِّياً بِالأَوْرَاقِ؟ فَأَنْشِأَ يَقُولُ:

إِنَّ لـلـهِ عَـبِـيدَاً *** أَخَذُوا الْعُمْرَ خَلِيطاً

فَهُمُ يُمْسُونَ أَعْـرَا *** باً، وَيُضْحُونَ نَبِيطا