بداية المجتهد - كتاب الجهاد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

  • 2*كتاب الجهاد

@-والقول المحيط بأصول هذا الباب ينحصر في جملتين: الجملة الأولى: في معرفة أركان الحرب. الثانية: في أحكام أموال المحاربين إذا تملكها المسلمون.

  • 3*(الجملة الأولى) وفي هذه الجملة فصول سبعة:

@-أحدها: معرفة حكم هذه الوظيفة ولمن تلزم. والثاني: معرفة الذين يحاربون. والثالث: معرفة ما يجوز من النكاية في صنف صنف من أصناف أهل الحرب مما لا يجوز. والرابع: معرفة جواز شروط الحرب. والخامس: معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم. والسادس: هل تجوز المهادنة؟. والسابع: لماذا يحاربون؟.

  • 4*الفصل الأول في معرفة حكم هذه الوظيفة.

@-فأما حكم هذه الوظيفة فأجمع العلماء على أنها فرض على الكفاية لا فرض عين، إلا عبد الله بن الحسن، فإنه قال إنها تطوع، وإنما صار الجمهور لكونه فرضا لقوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} الآية. وأما كونه فرضا على الكفاية، أعني إذا قام به البعض سقط عن البعض فلقوله تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الآية، وقوله {وكلا وعد الله الحسنى} ولم يخرج قط رسول الله للغزو إلا وترك بعض الناس، فإذا اجتمعت هذه اقتضى ذلك كون هذه الوظيفة فرضا على الكفاية. وأما على من يجب فهم الرجال الأحرار البالغون الذين يجدون بما يغزون الأصحاء إلا المرضى وإلا الزمنى، وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى {ليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج ولا على الأعرج حرج} وقوله {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} الآية. وأما كون هذه الفريضة تختص بالأحرار فلا أعلم فيها خلافا، وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها، إلا أن تكون عليه فرض عين مثل أن لا يكون هنالك من يقوم بالفرض إلا بقيام الجميع به، والأصل في هذا ما ثبت "أن رجلا قال لرسول الله "إني أريد الجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد" واختلفوا في إذن الأبوين المشركين. وكذلك اختلفوا في إذن الغريم إذا كان عليه دين لقوله عليه الصلاة والسلام وقد سأله الرجل "أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتسبا في سبيل الله؟ قال: نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل آنفا" والجمهور على جواز ذلك، وبخاصة إذا تخلف وفاء من دينه.

  • 4*الفصل الثاني في معرفة الذين يحاربون.

@-فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} إلا ما روي عن مالك أنه قال: لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال "ذروا الحبشة ما وذرتكم" وقد سئل مالك عن صحة هذا الأثر فلم يعترف بذلك لكن قال: لم يزل الناس يتحامون غزوهم.

  • 4*الفصل الثالث في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو.

@-وأما ما يجوز من النكاية بالعدو، فإن النكاية لا تخلو أن تكون في الأموال أو في النفوس أو في الرقاب، أعني الاستعباد والتملك. فأما النكاية التي هي الاستعباد فهي جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين، أعني ذكرانهم وإناثهم وشيوخهم وصبيانهم صغارهم وكبارهم إلا الرهبان، فإن قوما رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا بل يتركوا دون أن يعرض إليهم لا بقتل ولا باستعباد لقول رسول الله "فذروهم وما حبسوا أنفسهم إليه" واتباعا لفعل أبي بكر، وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال: منها أن يمن عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، ومنها أن يأخذ منهم الفداء، ومنها أن يضرب عليهم الجزية. وقال قوم: لا يجوز قتل الأسير. وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة. والسبب في اختلافهم تعارض الآية في هذا المعنى وتعارض الأفعال ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أن ظاهر قوله تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} الآية، أنه ليس للإمام بعد الأسر إلا المن أو الفداء وقوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} الآية. والسبب الذي نزلت فيه من أسارى بدر يدل على أن القتل أفضل من الاستعباد، وأما هو عليه الصلاة والسلام فقد قتل الأسارى في غير ما موطن وقد من واستعبد النساء. وحكى أبو عبيد أنه لم يستعبد أحرار ذكور العرب وأجمعت الصحابة بعده على استعباد أهل الكتاب ذكرانهم وإناثهم، فمن رأى أن الآية الخاصة بفعل الأسارى ناسخة لفعله قال: لا يقتل الأسير، ومن رأى أن الآية ليس فيها ذكر لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى بل فعله عليه الصلاة والسلام وهو حكم زائد على ما في الآية، ويحط العتب الذي وقع في ترك قتل أسارى بدر قال: بجواز قتل الأسير، والقتل إنما يجوز إذا لم يكن يوجد بعد تأمين، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اختلفوا فيمن يجوز تأمينه ممن لا يجوز، واتفقوا على جواز تأمين الإمام، وجمهور العلماء على جواز أمان الرجل الحر المسلم إلا ما كان من ابن الماجشون يرى أنه موقوف على إذن الإمام. واختلفوا في أمان العبد وأمان المرأة، فالجمهور على جوازه، وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" فهذا يوجب أمان العبد بعمومه. وأما القياس المعارض له فهو أن الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية، فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياسا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية وأن يخصص ذلك العموم بهذا القياس. وأما اختلافهم في أمان المرأة، فسببه اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وقياس المرأة في ذلك على الرجل، وذلك أن من فهم من قوله عليه الصلاة والسلام "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" إجازة أمانها لا صحته في نفسه، وأنه لولا إجازته لذلك لم يؤثر قال: لا أمان للمرأة إلا أن يجيزه الإمام، ومن فهم من ذلك أن إمضاءه أمانها كان من جهة أنه قد انعقد وأثر لا من جهة أن إجازته هي التي صححت عقده قال: أمان المرأة جائز، وكذلك من قاسها على الرجل ولم ير بينهما فرقا في ذلك أجاز أمانها، ومن رأى أنها ناقصة عن الرجل لم يجز أمانها، وكيفما كان فالأمان غير مؤثر في الاستعباد وإنما يؤثر في القتل، وقد يمكن أن ندخل الاختلاف في هذا من قبل اختلافهم في ألفاظ جموع المذكر هل تتناول النساء أم لا؟ أعني بحسب العرف الشرعي. وأما النكاية التي تكون في النفوس فهي القتل ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين. وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا، وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي، فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها، وذلك لما ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء والولدان، وقال في امرأة مقتولة: ما كانت هذه لتقاتل" واختلفوا في أهل الصوامع المنتزعين عن الناس والعميان والزمنى والشيوخ الذين لا يقاتلون والمعتوه والحراث والعسيف، فقال مالك: لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال الثوري والأوزاعي: لا تقتل الشيوخ فقط. وقال الأوزاعي: لا تقتل الحراث. وقال الشافعي في الأصح عنه تقتل جميع هذه الأصناف. والسبب في اختلافهم معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب، ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله إلا الله" الحديث، وذلك في قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} يقتضي قتل كل مشرك راهبا كان أو غيره، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف؛ فمنها ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي كان إذا بعث جيوشه قال: لا تقتلوا أصحاب الصوامع" ومنها أيضا ما روي عن أنس بن مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا" خرجه أبو داود، ومن ذلك أيضا ما رواه مالك عن أبي بكر أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وفيه: ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما". ويشبه أن يكون السبب الأملك في الاختلاف في هذه المسألة معارضة قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} لقوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية. فمن رأى أن هذه ناسخة لقوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} لأن القتال أولا إنما أبيح لمن يقاتل قال: الآية على عمومها، ومن رأى أن قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} وهي محكمة وأنها تتناول (قوله تتناول الخ: هكذا هذه العبارة ولينظر التناول بعد قوله يقاتلونكم تأمل ا هـ مصححه). هؤلاء الأصناف الذين لا يقاتلون استثناها من عموم تلك، وقد احتج الشافعي بحديث سمرة أن رسول الله قال "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي الكفر، فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار. وأما من ذهب إلى أنه لا يقتل الحراث، فإنه احتج في ذلك بما روي عن زيد بن وهب قال: أتانا كتاب عمر رضي الله عنه وفيه: لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين. وجاء في حديث رباح بن ربيعة النهي عن قتل العسيف المشرك وذلك "أنه خرج مع رسول الله في غزوة غزاها، فمر رباح وأصحاب رسول الله على امرأة مقتولة، فوقف رسول الله عليها ثم قال: ما كانت هذه لتقاتل، ثم نظر في وجوه القوم فقال لأحدهم: الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ولا امرأة". والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم اختلافهم في العلة الموجبة للقتل، فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحدا من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف. وصح النهي عن المثلة، واتفق المسلمون على جواز قتلهم بالسلاح، واختلفوا في تحريقهم بالنار، فكره قوم تحريقهم بالنار ورميهم بها وهو قول عمر. ويروى عن مالك، وأجاز ذلك سفيان الثوري، وقال بعضهم: إن ابتدأ العدو بذلك جاز وإلا فلا. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما قوله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ولم يستثن قتلا من قتل. وأما الخصوص فما ثبت أن رسول الله قال في رجل "إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء "أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف"؛ وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين، فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق وبه قال الأوزاعي. وقال الليث: ذلك جائز ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} الآية. وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة، فهذا هو مقدار النكاية التي يجوز أن تبلغ بهم في نفوسهم ورقابهم. وأما النكاية التي تجوز في أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك، فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل، وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك، وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل. والسبب في اختلافهم مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير" وثبت عن أبي بكر أنه قال: لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا، فمن ظن أن فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه ، إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله، أو رأى أن ذلك كان خاصا ببني النضير لغزوهم قال بقول أبي بكر، ومن اعتمد فعله عليه الصلاة والسلام ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال: بتحريق الشجر. وإنما فرق مالك بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة وقد نهى عن المثلة، ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قتل حيوانا، فهذا هو معرفة النكاية التي يجوز أن تبلغ من الكفار في نفوسهم وأموالهم.

  • 4*الفصل الرابع في شرط الحرب.

@-فأما شرط الحرب فهو بلوغ الدعوة باتفاق، أعني أنه لا يجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجمع عليه من المسلمين لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وأما هل يجب تكرار الدعوة عند تكرار الحرب فإنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من أوجبها، ومنهم من استحبها ومنهم من لم يوجبها ولا استحبها. والسبب في اختلافهم معارضة القول للفعل، وذلك "أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كان إذا بعث سرية قال لأميرها: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دراهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبو فاستعن بالله وقاتلهم" وثبت من فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبيت للعدو ويغير عليهم مع الغدوات، فمن الناس وهم الجمهور من ذهب إلى أن فعله ناسخ لقوله وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام قبل أن تنتشر الدعوة بدليل دعوتهم فيه إلى الهجرة، ومن الناس من رجح القول على الفعل، وذلك بأن حمل الفعل على الخصوص، ومن استحسن الدعاء فهو وجه من الجمع.

  • 4*الفصل الخامس في معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم.

@-وأما معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم فهم الضعف، وذلك مجمع عليه لقوله تعالى {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} الآية. وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك أن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن الواحد إذا كان أعتق جوادا منه وأجود سلاحا وأشد قوة.

  • 4*الفصل السادس في جواز المهادنة.

@-فأما هل تجوز المهادنة؟ فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين، وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام من فتنة أو غير ذلك إما بشيء يأخذونه منهم لا على حكم الجزية إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين، وإما بلا شيء يأخذونه منهم، وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غير ذلك من الضرورات. وقال الشافعي: لا يعطي المسلمون الكفار شيئا إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم أو لمحنة نزلت بهم، وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة مالك والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله الكفار عام الحديبية. وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة معارضة ظاهر قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} لقوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال: لا يجوز الصلح إلا من ضرورة، ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك قال: الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام وعضد تأويله بفعله ذلك ، وذلك أن صلحه عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة. وأما الشافعي فلما كان الأصل عنده الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وكان هذا مخصصا عنده بفعله عليه الصلاة والسلام عام الحديبية لم ير أن يزاد على المدة التي صالح عليها رسول الله ، وقد اختلف في هذه المدة، فقيل كانت أربع سنين وقيل ثلاثا، وقيل عشر سنين، وبذلك قال الشافعي. وأما من أجاز أن يصالح المسلمون المشركين بأن يعطوا لهم المسلمون شيئا إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غيرها فمصيرا إلى ما روي "أنه كان عليه الصلاة والسلام قد هم أن يعطي بعض ثمر المدينة لبعض الكفار الذين كانوا في جملة الأحزاب لتخبيبهم، فلم يوافقه على القدر الذي كان سمح له به من ثمر المدينة حتى أفاء الله بنصره". وأما من لم يجز ذلك إلا أن يخاف المسلمون أن يصطلموا فقياسا على إجماعهم على جواز فداء أسارى المسلمين، لأن المسلمين إذا صاروا في هذا الحد فهم بمنزلة الأسارى.

  • 4*الفصل السابع لماذا يحاربون؟

@-فأما لماذا يحاربون؟ فاتفق المسلمون على أن المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب هو أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، وإما إعطاء الجزية لقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وكذلك اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس لقوله "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" واختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ فقال قوم: تؤخذ الجزية من كل مشرك، وبه قال مالك. وقوم استثنوا من ذلك مشركي العرب. وقال الشافعي وأبو ثور وجماعة: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وأما الخصوص فقوله لأمراء السرايا الذين كان يبعثهم إلى مشركي العرب، ومعلوم أنهم كانوا من غير أهل كتاب "فإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال، فذكر الجزية فيها" وقد تقدم الحديث. فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص فهو ناسخ له قال: لا تقبل الجزية من مشرك ما عدا أهل الكتاب لأن الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة هو في سورة براءة، ذلك عام الفتح، وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح بدليل دعائهم فيه للهجرة، ومن رأى أن العموم يبني على الخصوص تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما قال: تقبل الجزية من جميع المشركين وأما تخصيص أهل الكتاب من سائر المشركين فخرج من ذلك العموم باتفاق بخصوص قوله تعالى {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وسيأتي القول في الجزية وأحكامها في الجملة الثانية من هذا الكتاب، فهذه هي أركان الحرب. ومما يتعلق بهذه الجملة من المسائل المشهورة: النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وعامة الفقهاء على أن ذلك غير جائز لثبوت ذلك عن رسول الله . وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إذا كان في العساكر المأمونة. والسبب في اختلافهم هل النهي عام أريد به العام أو عام أريد به الخاص.

  • 3*(الجملة الثانية) والقول المحيط بأصول هذه الجملة ينحصر أيضا في سبعة فصول: الأول: في حكم الخمس. الثاني: في حكم الأربعة الأخماس. الثالث: في حكم الأنفال. الرابع: في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار. الخامس: في حكم الأرضين. السادس: في حكم الفيء. السابع: في أحكام الجزية والمال الي يؤخذ منهم على طريق الصلح.
  • 4*الفصل الأول في حكم خمس الغنيمة.

@-واتفق المسلمون على أن الغنيمة التي تؤخذ قسرا من أيدي الروم ما عدا الأرضين أن خمسها للإمام وأربعة أخماسها للذين غنموها لقوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} الآية. واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة: أحدها أن الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية، وبه قال الشافعي. والقول الثاني أنه يقسم على أربعة أخماس، وأن قوله تعالى {فأن لله خمسه} هو افتتاح كلام وليس هو قسما خامسا. والقول الثالث أنه يقسم اليوم ثلاثة أقسام، وأن سهم النبي وذي القربى سقطا بموت النبي . والقول الرابع أن الخمس بمنزلة الفيء يعطى منه الغني والفقير، وهو قول مالك وعامة الفقهاء. والذين قالوا يقسم أربعة أخماس أو خمسة اختلفوا فيما يفعل بسهم رسول الله وسهم القرابة بعد موته. فقال قوم: يرد على سائر الأصناف الذين لهم الخمس. وقال قوم: بل يرد على باقي الجيش. وقال قوم: بل سهم رسول الله للإمام، وسهم ذوي القربى لقرابة الإمام. وقال قوم: بل يجعلان في السلاح والعدة. واختلفوا في القرابة من هم؟ فقال قوم: بنو هاشم فقط، وقال قوم: بنو عبد المطلب وبنو هاشم. وسبب اختلافهم في هل الخمس يقصر على الأصناف المذكورين أم يعدي لغيرهم هو هل ذكر تلك الأصناف في الآية المقصود منها تعيين الخمس لهم أم قصد التنبيه بهم على غيرهم فيكون ذلك من باب الخاص أريد به العام؟ فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يتعدى بالخمس تلك الأصناف المنصوص عليها وهو الذي عليه الجمهور، ومن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام قال يجوز للإمام أن يصرفها فيما يراه صلاحا للمسلمين، واحتج من رأى أن سهم النبي للإمام بعده بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "إذا أطعم الله نبيا طعمة فهو للخليفة بعده" وأما من صرفه على الأصناف الباقين أو على الغانمين فتشبيها بالصنف المحبس عليهم. وأما من قال القرابة هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب فإنه احتج بحديث جبير بن مطعم قال "قسم رسول الله سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني المطلب من الخمس" قال: وإنما بنو هاشم وبنو المطلب صنف واحد، ومن قال بنو هاشم صنف فلأنهم الذين لا يحل لهم الصدقة. واختلف العلماء في سهم النبي من الخمس؛ فقال قوم: الخمس فقط، ولا خلاف عندهم في وجوب الخمس له غاب عن القسمة أو حضرها. وقال قوم: بل الخمس والصفي وهو سهم مشهور له ، وهو شيء كان يصطفيه من رأس الغنيمة فرس أو أمة أو عبد. وروي أن صفية كانت من الصفي. وأجمعوا على أن الصفي ليس لأحد من بعد رسول الله إلا أبا ثور فإنه قال: يجري مجرى سهم النبي .

  • 4*الفصل الثاني في حكم الأربعة الأخماس.

@-وأجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين إذا خرجوا بإذن الإمام. واختلفوا في الخارجين بغير إذن الإمام وفيمن يجب له سهمه من الغنيمة ومتى يجب وكم يجب وفيما يجوز له من الغنيمة قبل القسم؟ فالجمهور على أن أربعة أخماس الغنيمة للذين غنموها خرجوا بإذن الإمام أو بغير ذلك لعموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية. وقال قوم: إذا خرجت السرية أو الرجل الواحد بغير إذن الإمام فكل ما ساق نفل يأخذه الإمام، وقال قوم: بل يأخذه كله الغانم. فالجمهور تمسكوا بظاهر الآية، وهؤلاء كأنهم اعتمدوا صورة الفعل الواقع في ذلك في عهد رسول الله ، وذلك أن جميع السرايا إنما كانت تخرج عن إذنه عليه الصلاة والسلام، فكأنهم رأوا أن إذن الإمام شرط في ذلك وهو ضعيف. وأما من له السهم من الغنيمة؟ فإنهم اتفقوا على الذكران الأحرار البالغين، واختلفوا في أضدادهم: أعني في النساء والعبيد ومن لم يبلغ من الرجال ممن قارب البلوغ فقال قوم ليس للعبيد ولا للنساء حظ من الغنيمة ولكن يرضخ لهم، وبه قال مالك، وقال قوم: لا يرضخ لهم ولا لهم حظ الغانمين، وقال قوم: بل لهم حظ واحد من الغانمين، وهو قول الأوزاعي. وكذلك اختلفوا في الصبي المراهق، فمنهم من قال: يقسم له وهو مذهب الشافعي، ومنهم من اشترط في ذلك أن يطيق القتال، وهو مذهب مالك، ومنه من قال: يرضخ له. وسبب اختلافهم في العبيد هو هل عموم الخطاب يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد؟ وأيضا فعمل الصحابة معارض لعموم الآية، وذلك أنه انتشر فيهم رضي الله عنهم أن الغلمان لا سهم لهم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، ذكره ابن أبي شبية من طرق عنهما، قال أبو عمر بن عبد البر: أصح ما روي من ذلك عن عمر ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قال عمر: ليس أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم، وإنما صار الجمهور إلى أن المرأة لا يقسم لها ويرضخ بحديث أم عطية الثابت قالت: "كنا نغزو مع رسول الله فنداوي الجرحى ونمرض المرضى وكان يرضخ لنا من الغنيمة". وسبب اختلافهم هو اختلافهم في تشبيه المرأة بالرجل في كونها إذا غزت لها تأثير في الحرب أم لا؟ فإنهم اتفقوا على أن النساء مباح لهن الغزو، فمن شبههن بالرجال أوجب لهن نصيبا في الغنيمة، ومن رآهن ناقصات عن الرجال في هذا المعنى إما لم يوجب لهن شيئا وإما أوجب لهن دون حظ الغانمين وهو الإرضاخ، والأولى اتباع الأثر، وزعم الأوزاعي "أن رسول الله أسهم للنساء بخيبر" وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء هل يسهم لهم أم لا؟ فقال مالك: لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا، وقال قوم: بل يسهم إذا شهدوا القتال. وسبب اختلافهم هو تخصيص عموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} بالقياس الذي يوجب الفرق بين هؤلاء وسائر الغانمين، وذلك أن من رأى أن التجار والأجراء حكمهم حكم خلاف سائر المجاهدين لأنهم لم يقصدوا القتال وإنما قصدوا إما التجارة وإما الإجارة استثناهم من ذلك العموم. ومن رأى أن العموم أقوى من هذا القياس أجرى العموم على ظاهره، ومن حجة من استثناهم ما خرجه عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين أن يخرج معهم، فقال نعم فوعده، فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معه واعتذر له بأمر عياله وأهله، فأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه، فلما هزموا العدو سأل الرجل عبد الرحمن نصيبه من المغنم فقال عبد الرحمن: سأذكر أمرك لرسول الله ، فذكره له، فقال رسول الله "تلك الثلاثة دنانير حظه ونصيبه من غزوه في أمر دنياه وآخرته" وخرج مثله أبو داود عن يعلى بن منبه ومن أجاز له القسم شبهه بالجعائل أيضا وهو أن يعين أهل الديوان بعضهم بعضا، أعني أن يعين القاعد منهم الغازي. وقد اختلف العلماء في الجعائل، فأجازها مالك ومنعها غيره، ومنهم من أجاز ذلك من السلطان فقط أو إذا كانت ضرورة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وأما الشرط الذي يجب به للمجاهد السهم من الغنيمة، فإن الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة، وبهذا قال الجمهور. وقال قوم: إذا لحقهم قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن اشتغل في شيء من أسبابها، وهو قول أبي حنيفة. والسبب في اختلافهم سببان: القياس والأثر. أما القياس فهو هل يلحق تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ؟ وذلك أن الذي شهد القتال له تأثير في الأخذ: أعني في أخذ الغنيمة وبذلك استحق السهم، والذي جاء قبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين له تأثير في الحفظ، فمن شبه التأثير في الحفظ بالتأثير في الأخذ قال: يجب له السهم وإن لم يحضر القتال، ومن رأى أن الحفظ أضعف لم يوجب له. وأما الأثر فإن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما ما روي عن أبي هريرة "أن رسول الله بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي بخيبر بعد ما فتحوها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، فلم يقسم له رسول الله منها" والأثر الثاني ما روي أن رسول الله قال يوم بدر "إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب له رسول الله بسهم ولم يضرب لأحد غاب عنها" قالوا: فوجب له السهم لأن اشتغاله كان بسبب الإمام. قال أبو بكر بن المنذر: وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقيعة. وأما السرايا التي تخرج من العساكر فتغنم، فالجمهور على أن أهل العسكر يشاركونهم فيما غنموا وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "وترد سراياهم على قعدتهم" خرجه أبو داود، ولأن لهم تأثير أيضا في أخذ الغنيمة. وقال الحسن البصري: إذا خرجت السرية بإذن الإمام من عسكره خمسها وما بقي فلأهل السرية، وإن خرجوا بغير إذنه خمسها، وكان ما بقي بين أهل الجيش كله. وقال النخعي: الإمام بالخيار إن شاء خمس ما ترد السرية وإن شاء نفله كله. والسبب أيضا في هذا الاختلاف هو تشبيه تأثير العسكر في غنيمة السرية بتأثير من حضر القتال بها وهم أهل السرية، فإذن الغنيمة إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين: إما أن يكون ممن حضر القتال، وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال، وأما كم يجب للمقاتل فإنهم اختلفوا في الفارس، فقال الجمهور: للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان: سهم لفرسه، وسهم له. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر، وذلك أن أبا داود خرج عن ابن عمر "أن النبي أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم: سهمان للفرس، وسهم لراكبه" وخرج أيضا عن مجمع بن حارثة الأنصاري مثل قول أبي حنيفة. وأما القياس المعارض لظاهر حديث ابن عمر فهو أن يكون سهم الفرس أكبر من سهم الإنسان، هذا الذي اعتمده أبو حنيفة في ترجيح الحديث الموافق لهذا القياس على الحديث المخالف له، وهذا القياس ليس بشيء، لأن سهم الفرس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل بل لعله واجب مع أن حديث ابن عمر أثبت. وأما ما يجوز للمجاهد أن يأخذ من الغنيمة قبل القسم فإن المسلمون اتفقوا على تحريم الغول لما ثبت في ذلك عن رسول الله مثل قوله عليه الصلاة والسلام "أد الخائط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة" إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب. واختلفوا في إباحة الطعام للغزاة ما داموا في أرض الغزو فأباح ذلك الجمهور، ومنع من ذلك قوم وهو مذهب ابن شهاب. والسبب في اختلافهم معارضة الآثار التي جاءت في تحريم الغلول للآثار الواردة في إباحة أكل الطعام من حديث ابن عمر وابن المغفل وحديث ابن أبي أوفى، فمن خصص أحاديث تحريم الغلول بهذه أجاز أكل الطعام للغزاة، ومن رجح أحاديث تحريم الغلول على هذا لم يجز ذلك، وحديث ابن مغفل هو قال: "أصبت جراب شحم يوم خيبر، فقلت لا أعطي منه شيئا، فالتفت فإذا رسول الله يبتسم" خرجه البخاري ومسلم. وحديث ابن أبي أوفى قال "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا ندفعه" خرجه أيضا البخاري. واختلفوا في عقوبة الغال، فقال قوم: يحرق رحله، وقال بعضهم: ليس له عقاب إلا التعزير. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث صالح بن محمد بن زائدة عن سالم عن ابن عمر أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام "من غل فأحرقوا متاعه".

  • 4*الفصل الثالث في حكم الأنفال.

@-وأما تنفيل الإمام من الغنيمة لمن شاء، أعني أن يزيده على نصيبه، فإن العلماء اتفقوا على جواز ذلك، واختلفوا من أي شيء يكون النفل وفي مقداره وهل يجوز الوعد به قبل الحرب؟ وهل يجب السلب للقاتل أم ليس يجب إلا أن ينفله له الإمام؟ فهذه أربع مسائل هي قواعد هذا الفصل. @-(أما المسألة الأولى) فإن قوما قالوا: النفل يكون من الخمس الواجب لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك: وقال قوم: بل النفل إنما يكون من خمس الخمس وهو حظ الإمام فقط، وهو الذي اختاره الشافعي. وقال قوم: بل النفل من جملة الغنيمة، وبه قال أحمد وأبو عبيدة، ومن هؤلاء من أجاز تنفيل جميع الغنيمة. والسبب في اختلافهم هو هل بين الآيتين الواردتين في المغانم تعارض أم هما على التخيير؟ أعني قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية، وقوله تعالى {يسألونك عن الأنفال} الآية. فمن رأى أن قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} ناسخا لقوله تعالى {يسألونك عن الأنفال} قال: لا نفل إلا من الخمس أو من خمس الخمس. ومن رأى أن الآيتين لا معارضة بينهما وأنهما على التخيير، أعني أن للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة من شاء، وله ألا ينفل بأن يعطى جميع أرباع الغنيمة للغانمين قال بجواز النفل من رأس الغنيمة. ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في هذا الباب، وفي ذلك أثران: أحدهما ما روى مالك عن ابن عمر "أن رسول الله بعث سرية فيها عبد الله ابن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكان سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا" وهذا يدل على أن النفل كان بعد القسمة من الخمس. والثاني حديث حبيب بن مسلمة "أن رسول الله كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة" يعني في بداءة غزوه عليه الصلاة والسلام وفي انصرافه. @-(وأما المسألة الثانية) وهي ما مقدار ما للإمام أن ينفل من ذلك؟ عند الذين أجازوا النفل من رأس الغنيمة فإن قوما قالوا: لا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث أو الربع على حديث حبيب بن مسلمة. وقال قوم: إن نفل الإمام السرية جميع ما غنمت جاز مصيرا إلى أن آية الأنفال غير منسوخة بل محكمة، وأنها على عمومها غير مخصصة. ومن رأى أنها مخصصة بهذا الأثر قال: لا يجوز أن ينفل أكثر من الربع أو الثلث. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي هل يجوز الوعد بالتنفيل قبل الحرب أم ليس يجوز ذلك؟ فإنهم اختلفوا فيه، فكره ذلك مالك وأجازه وجماعة. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم مقصد الغزو لظاهر الأثر، وذلك أن الغزو إنما يقصد به وجه الله العظيم، ولتكون كلمة الله هي العليا، فإذا وعد الإمام بالنفل قبل الحرب خيف أن يسفك دماءهم الغزاة في حق غير الله. وأما الأثر الذي يقتضي ظاهره جواز الوعد بالنفل فهو حديث حبيب بن مسلمة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينفل في الغزو السرايا الخارجة من العسكر الربع وفي القفول الثلث" ومعلوم أن المقصود من هذا إنما هو التنشيط على الحرب. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي هل يجب سلب المقتول للقاتل أو ليس يجب إلا إن نفله له الإمام؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة السلف: واجب للقاتل قال ذلك الإمام أو لم يقله. ومن هؤلاء من جعل السلب له على كل حال ولم يشترط في ذلك شرطا. ومنهم من قال لا يكون له السلب إلا إذا قتله مقبلا غير مدبر، وبه قال الشافعي. ومنهم من قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا كان القتل قبل معمعة الحرب أو بعدها. وأما إن قتله في حين المعمعة فليس له سلب، وبه قال الأوزاعي. وقال قوم: إن استكثر الإمام السلب جاز أن يخمسه. وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال "من قتل قتيلا فله سلبه" أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النفل أو على جهة الاستحقاق للقاتل، ومالك رحمه الله قوي عنده أنه على جهة النفل من قبل أنه لم يثبت عنده أنه قال ذلك عليه الصلاة والسلام ولا قضى به إلا أيام حنين، ولمعارضة آية الغنيمة له إن حمل ذلك على الاستحقاق: أعني قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية. فإنه لما نص في الآية على أن الخمس لله علم أن الأربعة الأخماس واجبة للغانمين كما أنه لما نص على الثلث للأم في المواريث علم أن الثلثين للأب. قال أبو عمر: وهذا القول محفوظ عنه في حنين وفي بدر. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "كنا لا نخمس السلب على عهد رسول ". وخرج أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد "أن رسول الله قضى بالسلب للقاتل" وخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أراني إلا خمسته قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك أنه أول سلب خمس في الإسلام، وبهذا تمسك من فرق بين السلب القليل والكثير. واختلفوا في السلب الواجب ما هو؟ فقال قوم: له جميع ما وجد على المقتول، واستثنى قوم من ذلك الذهب والفضة.

  • 4*الفصل الرابع في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار.

@-وأما أموال المسلمين التي تسترد من أيدي الكفار فإنهم اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال مشهورة: أحدها أن ما استرد المسلمون من أيدي الكفار من أموال المسلمين فهو لأربابها من المسلمين وليس للغزاة المستردين لذلك منها شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه وأبو ثور، والقول الثاني أن ما استرد المسلمون من ذلك فهو غنيمة الجيش ليس لصاحبه منه شيء، وهذا القول قاله الزهري وعمرو بن دينار، وهو مروي عن علي بن أبي طالب. والقول الثالث أن ما وجد من أموال المسلمين قبل القسم فصاحبه أحق به بلا ثمن، وما وجد من ذلك بعد القسم فصاحبه أحق به بالقيمة، وهؤلاء انقسموا قسمين: فبعضهم رأى هذا الرأي في كل ما استرده المسلمون من أيدي الكفار بأي وجه صار ذلك إلى أيدي الكفار، وفي أي موضع صار، وممن قال بهذا القول مالك والثوري وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب. وبعضهم فرق بين ما صار من ذلك إلى أيدي الكفار غلبة وحازوه حتى أوصلوه إلى دار المشركين، وبين ما اخذ منهم قبل أن يحوزوه ويبلغوا به دار الشرك، فقالوا: ما حازوه فحكمه إن ألفاه صاحبه قبل القسم فهو له، وإن ألفاه بعد القسم فهو أحق به بالثمن. قالوا: وأما ما لم يحزه العدو بأن يبلغوا دارهم به فصاحبه أحق به قبل القسم وبعده، وهذا هو القول الرابع. واختلافهم راجع إلى اختلافهم في هل يملك الكفار على المسلمين أموالهم إذا غلبوهم عليها أم ليس يملكونها؟ وسبب اختلافهم في هذه المسألة تعارض الآثار في هذا الباب والقياس، وذلك أن حديث عمران بن حصين يدل على أن المشركين ليس يملكون على المسلمين شيئا، وهو قال: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء ناقة رسول الله وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا فركبتها ثم توجهت قبل المدينة ونذرت لئن نجاها الله لتنحرها، فلما قدمت إلى المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله ، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: "بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية" وكذلك يدل ظاهر حديث ابن عمر على مثل هذا، وهو أنه أغار له فرس فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان رسول الله ، وهما حديثان ثابتان. وأما الأثر الذي يدل على ملك الكفار على المسلمين فقوله عليه الصلاة والسلام "وهل ترك لنا عقيل من منزل" يعني أنه باع دوره التي كانت له بمكة بعد هجرته منها عليه الصلاة والسلام إلى المدينة. وأما القياس فإن من شبه الأموال بالرقاب قال الكفار كما لا يملكون رقابهم، فكذلك لا يملكون أموالهم كحال الباغي مع العادل، أعني أنه لا يملك عليهم الأمرين جميعا، ومن قال يملكون قال: من ليس يملك فهو ضامن للشيء إن فاتت عينه، وقد أجمعوا على أن الكفار غير ضامنين لأموال المسلمين، فلزم عن ذلك أن الكفار ليسوا بغير مالكين للأموال فهم مالكون، إذ لو كانوا غير مالكين لضمنوا. وأما من فرق بين الحكم قبل الغنم وبعده، وبين ما أخذه المشركون بغلبة أو بغير غلبة بأن صار إليهم من تلقائه مثل العبد الآبق والفرس العائد فليس له حظ من النظر، وذلك أنه ليس يجد وسطا بين أن يقول إما أن يملك المشرك على المسلم شيئا أو لا يملكه إلا أن يثبت في ذلك دليل سمعي، لكن أصحاب هذا المذهب إنما صاروا إليه لحديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون قد أصابوه، فقال رسول الله "إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة" لكن الحسن بن عمارة مجتمع على ضعفه وترك الاحتجاج به عند أهل الحديث، والذي عول عليه مالك فيما أحسب من ذلك هو قضاء عمر بذلك، ولكن ليس يجعل له أخذه بالثمن بعد القسم على ظاهر حديثه واستثناء أبي حنيفة أم الولد والمدبر من سائر الأموال لا معنى له، وذلك أنه يرى أن الكفار يملكون على المسلمين سائر الأموال ما عدا هذين، وكذلك قول مالك في أم الولد إنه إذا أصابها مولاها بعد القسم أن على الإمام أن يفديها فإن لم يفعل أجبر سيدها على فدائها، فإن لم يكن له مال أعطيت له، واتبعه الذي أخرجت في نصيبه بقيمتها دينا متى أيسر هو قول أيضا ليس له حظ من النظر لأنه إن لم يملكها الكفار فقد يجب أن يأخذها بغير ثمن، وإن ملكوها فلا سبيل له عليها، وأيضا فإنه لا فرق بينها وبين سائر الأموال إلا أن يثبت في ذلك سماع، ومن هذا الأصل، أعني اختلافهم هل يملك المشرك مال المسلم أو لا يملك؟ اختلف الفقهاء في الكافر يسلم وبيده مال مسلم هل يصح له أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يصح له. وقال الشافعي: على أصله لا يصح له. واختلف مالك وأبو حنيفة إذا دخل مسلم إلى الكفار على جهة التلصص وأخذ مما في أيديهم مال مسلم، فقال أبو حنيفة: هو أولى به وإن أراده صاحبه أخذه بالثمن، وقال مالك: هو لصاحبه، فلم يجر على أصله. ومن هذا الباب اختلافهم في الحربي يسلم ويهاجر ويترك في دار ولده وزوجه وماله هل يكون لما ترك حرمة مال المسلم وزوجه وذريته فلا يجوز تملكهم للمسلمين إن غلبوا على ذلك أم ليس لما ترك حرمة؟ فمنهم من قال: لكل ما ترك حرمة الإسلام؛ ومنهم من قال: ليس له حرمة؛ ومنهم من فرق بين المال والزوجة والولد فقال: ليس للمال حرمة، وللولد والزوجة حرمة، وهذا جار على غير قياس وهو قول مالك، والأصل أن المبيح للمال هو الكفر، وأن العاصم له هو الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فمن زعم أن ههنا مبيحا للمال غير الكفر من تملك عدو أو غيره فعليه الدليل، وليس ههنا دليل تعارض به هذه القاعدة، والله أعلم.

  • 4*الفصل الخامس في حكم ما افتتح المسلمون من الأرض عنوة.

@-واختلفوا فيما افتتح المسلمون من الأرض عنوة. فقال مالك: لا تقسم الأرض وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة، فإن له أن يقسم الأرض. وقال الشافعي: الأرضون المفتتحة تقسم كما تقسم الغنائم: يعني خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين أو يضرب على أهلها الكفارة فيها الخراج ويقرها بأيديهم. وسبب اختلافهم ما يظن من التعارض بين آية سورة الأنفال وآية سورة الحشر، وذلك أن آية الأنفال تقتضي بظاهرها أن كل ما غنم يخمس، وهو قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم} وقوله تعالى في آية الحشر {والذين جاءوا من بعدهم} عطفا على ذكر الذين أوجب لهم الفيء يمكن أن يفهم منه أن جميع الناس الحاضرين والآتين شركاء في الفيء كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم} ما أرى هذه الآية إلا قد عمت الخلق حتى الراعي بكداء أو كلاما هذا معناه، ولذلك لم تقسم الأرض التي افتتحت في أيامه عنوة من أرض العراق ومصر؛ فمن رأى أن الآيتين متواردتان على معنى واحد وأن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال استثنى من ذلك الأرض؛ ومن رأى أن الآيتين ليستا متواردتين على معنى واحد، بل رأى أن آية الأنفال في الغنيمة وآية الحشر في الفيء على ما هو ظاهر من ذلك قال: تخمس الأرض ولا بد، ولا سيما "أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قسم خيبر بين الغزاة". قالوا: فالواجب أن تقسم الأرض لعموم الكتاب وفعله عليه الصلاة والسلام الذي يجري مجرى البيان للمجمل فضلا عن العام. وأما أبو حنيفة فإنما ذهب إلى التخيير بين القسمة وبين أن يقر الكفار فيها على خراج يؤدونه، لأنه زعم أنه قد روي "أن رسول الله أعطى خيبر بالشطر ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم" قالوا: فظهر من هذا أن رسول الله لم يكن قسم جميعها ولكنه قسم طائفة من الأرض وترك طائفة لم يقسمها، قالوا: فبان بهذا أن الإمام بالخيار بين القسمة والإقرار بأيديهم، وهو الذي فعل عمر رضي الله عنه. وإن أسلموا بعد الغلبة عليهم كان مخيرا بين المن عليهم أو قسمتها على ما فعل رسول الله بمكة: أعني من المن، وهذا إنما يصح على رأي من رأى أنه افتتحها عنوة، فإن الناس اختلفوا في ذلك وإن كان الأصح أنه افتتحها عنوة لأنه الذي خرجه مسلم. وينبغي أن تعلم أن قول من قال: إن آية الفيء وآية الغنيمة محمولتان على الخيار، وأن آية الفيء ناسخة لآية الغنيمة أو مخصصة لها أنه قول ضعيف جدا إلا أن يكون اسم الفيء والغنيمة يدلان على معنى واحد، فإن كان ذلك فالآيتان متعارضتان، لأن آية الأنفال توجب التخميس، وآية الحشر توجب القسمة دون التخميس فوجب أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى أو يكون الإمام مخيرا بين التخميس وترك التخميس، وذلك في جميع الأموال المغنومة. وذكر بعض أهل العلم أنه مذهب لبعض الناس وأظنه حكاه عن المذهب، ويجب على مذهب من يريد أن يستنبط من الجمع بينهما ترك قسمة الأرض وقسمة ما عدا الأرض أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصصة بعض ما في الأخرى أو ناسخة له حتى تكون آية الأنفال خصصت من عموم آية الحشر ما عدا الأرضين فأوجبت فيها الخمس، وآية الحشر خصصت من آية الأنفال الأرض فلم توجب فيها خمسا، وهذه الدعوى لا تصح إلا بدليل مع أن الظاهر من آية الحشر أنها تضمنت القول في نوع من الأموال مخالف الحكم للنوع الذي تضمنته آية الأنفال وذلك أن قوله تعالى {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} هو تنبيه على العلة التي من أجلها لم يوجب حق للجيش خاصة دون الناس والقسمة بخلاف ذلك إذ كانت تؤخذ بالإيجاف.

  • 4*الفصل السادس في قسمة الفيء.

@-وأما الفيء عند الجمهور فهو كل ما صار للمسلمين من الكفار من قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل. واختلف الناس في الجهة التي يصرف إليها؛ فقال قوم: إن الفيء لجميع المسلمين الفقير والغني، وإن الإمام يعطي منه للمقاتلة وللحكام وللولاة، وينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح المساجد وغير ذلك ولا خمس في شيء منه وبه قال الجمهور، وهو الثابت عن أبي بكر وعمر؛ وقال الشافعي: بل يكون فيه الخمس، والخمس مقسوم على الأصناف الذين ذكروا في آية الغنائم وهم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعينه من الغنيمة، وإن الباقي هو مصروف إلى اجتهاد الإمام ينفق منه على نفسه وعلى عياله ومن رأى، وأحسب أن قوما قالوا: إن الفيء غير مخمس، ولكن يقسم على الأصناف الخمسة الذين يقسم عليهم الخمس، وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب. وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الأصناف الخمسة أو هو مصروف إلى اجتهاد الإمام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس من الغنيمة وقد تقدم ذلك، أعني أن من جعل ذكر الأصناف في الآية تنبيها على المستحقين له قال: هو لهذه الأصناف المذكورين ومن فوقهم. ومن جعل ذكر الأصناف تعديدا للذين يستوجبون هذا المال قال: لا يتعدى به هؤلاء الأصناف، أعني أنه جعله من باب الخصوص لا من باب التبيه. وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي، وإنما حمله على هذا القول أنه رأى الفيء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس، فاعتقد لذلك أن فيه الخمس، لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس وليس ذلك بظاهر، بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفيء لا جزءا منه، وهو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم. وخرج مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، وهذا يدل على مذهب مالك.

  • 4*الفصل السابع في الجزية.

@-والكلام المحيط بأصول هذا الفصل ينحصر في ست مسائل: المسألة الأولى: ممن يجوز أخذ الجزية؟ الثانية: على أي الأصناف منهم تجب الجزية؟ الثالثة: كم تجب؟ الرابعة: متى تجب ومتى تسقط؟ الخامسة: كم أصناف الجزية؟ السادسة: فيماذا يصرف مال الجزية؟ @-(المسألة الأولى) فأما من يجوز أخذ الجزية منه؟ فإن العلماء مجمعون على أنه يجوز أخذها من أهل الكتاب العجم ومن المجوس كما تقدم، واختلفوا في أخذها ممن لا كتاب له وفيمن هو من أهل الكتاب من العرب بعد اتفاقهم فيما حكى بعضهم أنها لا تؤخذ من قرشي كتابي، وقد تقدمت هذه المسألة. @-(المسألة الثانية) وهي أي الأصناف من الناس تجب عليهم؟ فإنهم اتفقوا على أنها إنما تجب بثلاثة أوصاف الذكورية والبلوغ والحرية، وأنها لا تجب على النساء ولا على الصبيان إذا كانت إنما هي عوض من القتل والقتل إنما هو متوجه بالأمر نحو الرجال البالغين إذ قد نهى عن قتل النساء والصبيان، وكذلك أجمعوا أنها لا تجب على العبيد. واختلفوا في أصناف من هؤلاء: منها في المجنون وفي المقعد، ومنها في الشيخ، ومنها في أهل الصوامع، ومنها في الفقير هل يتبع بها دينا متى أيسر أم لا؟ وكل هذه المسائل اجتهادية ليس فيها توقيت شرعي. وسبب اختلافهم مبني على هل يقتلون أم لا؟ أعني هؤلاء الأصناف. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي كم الواجب فإنهم اختلفوا في ذلك، فرأى مالك أن القدر الواجب في ذلك هو ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ وقال الشافعي: أقله محدود وهو دينار وأكثره غير محدود وذلك بحسب ما يصالحون عليه. وقال قوم: لا توقيت في ذلك، وذلك مصروف إلى اجتهاد الإمام وبه قال الثوري؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: الجزية اثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما وثمانية وأربعون لا ينقص الفقير من اثني عشر درهما ولا يزاد الغني على ثمانية وأربعين درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما؛ وقال أحمد: دينار أو عدله معافر لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي "أن رسول الله بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر" وهي ثياب باليمن. وثبت عن عمر أنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي عنه أيضا أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر. فمن حمل هذه الأحاديث كلها على التخيير وتمسك في ذلك بعموم ما ينطلق عليه اسم جزية إذ ليس في توقيت ذلك حديث عن النبي متفق على صحته، وإنما ورد الكتاب في ذلك عاما، قال: لا حد في ذلك وهو الأظهر والله أعلم. ومن جمع بين حديث معاذ والثابت عن عمر قال: أقله محدود ولا حد لأكثره. ومن رجح أحد حديثي عمر قال: إما بأربعين درهما وأربعة دنانير، وإما بثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين واثني عشر على ما تقدم. ومن رجح حديث معاذ لأنه مرفوع قال: دينار فقط أو عدله معافرا لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي متى تجب الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب إلا بعد الحول، وأنه تسقط عنه إذا أسلم قبل انقضاء الحول. واختلفوا إذا أسلم بعد ما يحول عليه الحول هل تؤخذ منه جزية للحول الماضي بأسره أو لما مضى منه؟ فقال قوم: إذا أسلم فلا جزية عليه بعد انقضاء الحول كان بعد إسلامه أو قبل انقضائه، وبهذا القول قال الجمهور؛ وقالت طائفة: إن أسلم بعد الحول وجبت عليه الجزية، وإن أسلم قبل حلول الحول لم تجب عليه، وإنهم اتفقوا على أنه لا تجب عليه قبل انقضاء الحول. لأن الحول شرط في وجوبها، فإذا وجد الرافع لها وهو الإسلام قبل تقرر الوجوب، أعني قبل وجود شرط الوجوب لم تجب؛ وإنما اختلفوا بعد انقضاء الحول لأنها قد وجبت؛ فمن رأى أن الإسلام يهدم هذا الواجب في الكفر كما يهدم كثيرا من الواجبات قال: تسقط عنه وإن كان إسلامه بعد الحول؛ ومن رأى أنه لا يهدم الإسلام هذا الواجب كما لا يهدم كثيرا من الحقوق المترتبة مثل الديون وغير ذلك قال: لا تسقط بعد انقضاء الحول. فسبب اختلافهم هو هل الإسلام يهدم الجزية الواجبة أو لا يهدمها. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي كم أصناف الجزية؟ فإن الجزية عندهم ثلاثة أصناف: جزية عنوية، وهي هذه التي تكلمنا فيها، أعني التي تفرض على الحربيين بعد غلبتهم. وجزية صلحية، وهي التي يتبرعون بها ليكف عنهم، وهذه ليس فيها توقيت لا في الواجب، ولا فيمن يجب عليه ولا متى يجب عليه، وإنما ذلك كله راجع إلى الاتفاق الواقع في ذلك بين المسلمين وأهل الصلح إلا أن يقول قائل: إنه إن كان قبول الجزية الصلحية واجبا على المسلمين فقد يجب أن يكون ههنا قدر ما إذا أعطاه من أنفسهم الكفار وجب على المسلمين قبول ذلك منهم فيكون أقلها محدودا وأكثرها غير محدود. وأما الجزية الثالثة فهي العشرية، وذلك أن جمهور العلماء على أنه ليس على أهل الذمة عشر ولا زكاة أصلا في أموالهم إلا ما روي عن طائفة منهم أنهم ضاعفوا الصدقة على نصارى بني تغلب، أعني أنهم أوجبوا إعطاء ضعف ما على المسلمين من الصدقة في شيء شيء من الأشياء التي تلزم فيها المسلمين الصدقة، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهم، وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص فيما حكوا، وقد تقدم ذلك في كتاب الزكاة. واختلفوا هل يجب العشر عليهم في الأموال التي يتجرون بها إلى بلاد المسلمين بنفس التجارة أو الإذن إن كانوا حربيين أم لا تجب إلا بالشرط؟ فرأى مالك وكثير من العلماء أن تجار أهل الذمة الذين لذمتهم بالإقرار في بلدهم الجزية يجب أن يؤخذ منهم مما يجلبونه من بلد إلى بلد العشر، إلا ما يسوقون إلى المدينة خاصة فيؤخذ منه فيه نصف العشر، ووافقه أبو حنيفة في وجوبه بالإذن في التجارة أو بالتجارة نفسها وخالفه في القدر فقال: الواجب عليهم نصف العشر؛ ومالك لم يشترط عليهم في العشر الواجب عنده نصابا ولا حولا؛ وأما أبو حنيفة فاشترط في وجوب نصف العشر عليهم الحول والنصاب وهو نصاب المسلمين نفسه المذكور في كتاب الزكاة؛ وقال الشافعي: ليس يجب عليهم عشر أصلا ولا نصف عشر في نفس التجارة ولا في ذلك شيء محدود إلا ما اصطلح عليه أو اشترط، فعلى هذا تكون الجزية العشرية من نوع الجزية الصلحية؛ وعلى مذهب مالك وأبي حنيفة تكون جنسا ثالثا من الجزية غير الصلحية والتي على الرقاب. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك عن رسول الله سنة يرجع إليها، وإنما ثبت أن عمر بن الخطاب فعل ذلك بهم؛ فمن رأى أن فعل عمر هذا إنما فعله بأمر كان عنده في ذلك من رسول الله أوجب أن يكون ذلك سنتهم؛ ومن رأى أن فعله هذا كان على وجه الشرط، إذ لو كان على غير ذلك لذكره قال: ليس ذلك بسنة لازمة لهم إلا بالشرط. وحكى أبو عبيد في كتاب الأموال عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا أذكر اسمه الآن أنه قيل له: لم كنتم تأخذون العشر من مشركي العرب؟ فقال: لأنهم كانوا يأخذون منا العشر إذا دخلنا إليهم. قال الشافعي: وأقل ما يجب أن يشارطوا عليه هو ما فرضه عمر رضي الله عنه، وإن شورطوا على أكثر فحسن. قال: وحكم الحربي إذا دخل بأمان حكم الذمي. @-(وأما المسألة السادسة) وهي في ماذا تصرف الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها مشتركة لمصالح المسلمين من غير تحديد كالحال في الفيء عند من رأى أنه مصروف إلى اجتهاد الإمام، حتى لقد رأى كثير من الناس أن اسم الفيء إنما ينطلق على الجزية في آية الفيء، وإذا كان الأمر هكذا، فالأموال الإسلامية ثلاثة أصناف: صدقة، وفيء، وغنيمة، وهذا القدر كاف في تحصيل قواعد هذا الكتاب والله الموفق للصواب.

  • 2*كتاب الإيمان

@-وهذا الكتاب ينقسم أولا إلى جملتين: الجملة الأولى: في معرفة ضروب الأيمان وأحكامها. والجملة الثانية: في معرفة الأشياء الرافعة للأيمان اللازمة وأحكامها.

  • 3*(الجملة الأولى) وهذه الجملة فيها ثلاثة فصول: الفصل الأول: في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غير المباحة. الثاني: في معرفة الأيمان اللغوية والمنعقدة. الثالث: في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها.
  • 4*الفصل الأول في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غيرها.

@-واتفق الجمهور على أن الأشياء منها ما يجوز في الشرع أن يقسم به، ومنها ما لا يجوز أن يقسم به. واختلفوا أي الأشياء التي هي بهذه الصفة؛ فقال قوم: إن الحلف المباح في الشرع هو الحلف بالله، وأن الحالف بغير الله عاص؛ وقال قوم: بل يجوز الحلف بكل معظم بالشرع؛ والذين قالوا إن الأيمان المباحة هي الأيمان بالله اتفقوا على إباحة الأيمان التي بأسمائه، واختلفوا في الأيمان التي بصفاته وأفعاله. وسبب اختلافهم في الحلف بغير الله من الأشياء المعظمة بالشرع معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر، وذلك أن الله قد أقسم في الكتاب بأشياء كثيرة مثل قوله {والسماء والطارق} وقوله {والنجم إذا هوى} إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في القرآن. وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" فمن جمع بين الأثر والكتاب بأن قال إن الأشياء الواردة في الكتاب المقسوم بها فيها محذوف وهو الله تبارك وتعالى، وأن التقدير: ورب النجم، ورب السماء قال: الأيمان المباحة هي الحلف بالله فقط؛ ومن جمع بينهما بأن المقصود بالحديث إنما هو أن لا يعظم من لم يعظم الشرع بدليل قوله فيه "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" وأن هذا من باب الخاص أريد به العام أجاز الحلف بكل معظم في الشرع. فإذا سبب اختلافهم هو اختلافهم في بناء الآي والحديث. وأما من منع الحلف بصفات الله وأفعاله فضعيف. وسبب اختلافهم هو هل يقتصر بالحديث على ما جاء من تعليق الحكم فيه بالاسم فقط، أو يعدى إلى الصفات والأفعال، لكن تعليق الحكم في الحديث بالاسم فقط جمود كثير، وهو أشبه بمذهب أهل الظاهر وإن كان مرويا في المذهب حكاه اللخمي عن محمد بن المواز. وشذت فرقة فمنعت اليمين بالله عز وجل، والحديث نص في مخالفة هذا المذهب.

  • 4*الفصل الثاني في معرفة الأيمان اللغوية والمنقعدة.

@-واتفقوا أيضا على أن الأيمان منها لغو ومنها منعقدة لقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} واختلفوا فيما هي اللغو؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها اليمين على الشيء يظن الرجل أنه على يقين منه فيخرج الشيء على خلاف ما حلف عليه. وقال الشافعي: لغو اليمين ما لم تنعقد عليه النية مثل ما جرت به العادة من قول الرجل في أثناء المخاطبة لا والله لا بالله مما يجري على الألسنة بالعادة من غير أن يعتقد لزومه، وهذا القول رواه مالك في الموطأ عن عائشة، والقول الأول مروي عن الحسن بن أبي الحسن وقتادة ومجاهد وإبراهيم النخعي. وفيه قول ثالث، وهو أن يحلف الرجل وهو غضبان، وبه قال إسماعيل القاضي من أصحاب مالك. وفيه قول رابع، وهو الحلف على المعصية وروي عن ابن عباس. وفيه قول خامس، وهو أن يحلف الرجل على أن لا يأكل شيئا مباحا له بالشرع. والسبب في اختلافهم في ذلك هو الاشتراك الذي في اسم اللغو، وذلك أن اللغو قد يكون الكلام الباطل مثل قوله تعالى {والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقد يكون الكلام الذي لا تنعقد عليه نية المتكلم به، ويدل على أن اللغو في الآية هو هذا أن هذه اليمين هي ضد اليمين المنعقدة وهي المؤكدة، فوجب أن يكون الحكم المضاد للشيء المضاد. والذين قالوا إن اللغو هو الحلف في إغلاق أو الحلف على ما لا يوجب الشرع فيه شيئا بحسب ما يعتقد في ذلك قوم، فإنما ذهبوا إلى أن اللغو ههنا يدل على معنى عرفي في الشرع وهي الأيمان التي يبين الشرع في مواضع أخر سقوط حكمها مثل ما روي أنه: "لا طلاق في إغلاق" وما أشبه ذلك، لكن الأظهر هما القولان الأولان: أعني قول مالك والشافعي.

  • 4*الفصل الثالث في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها. وهذا الفصل أربع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في الأيمان بالله المنعقدة هل يرفع جميعها الكفارة سواء كان حلفا على شيء ماض أنه كان فلم يكن وهي التي تعرف باليمين الغموس، وذلك إذا تعمد الكذب، أو على شيء مستقبل أنه يكون من قبل الحالف أو من قبل من هو بسببه فلم يكن، فقال الجمهور: ليس في اليمين الغموس كفارة، وإنما الكفارة في الأيمان التي تكون في المستقبل إذا خالف اليمين الحالف، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي وجماعة: يجب فيها الكفارة أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس. وسبب اختلافهم معارضة عموم الكتاب للأثر، وذلك أن قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية توجب أن يكون في اليمين الغموس كفارة لكونها من الأيمان المنعقدة، وقوله عليه الصلاة والسلام "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يوجب أن اليمين الغموس ليس فيها كفارة، ولكن للشافعي أن يستثني من الأيمان الغموس ما لا يقتطع بها حق الغير، وهو الذي ورد فيه النص، أو يقول: إن الأيمان التي يقتطع بها حق الغير قد جمعت الظلم والحنث، فوجب ألا تكون الكفارة تهدم الأمرين جميعا، أو ليس يمكن فيها أن تهدم الحنث دون الظلم، لأن رفع الحنث بالكفارة إنما هو من باب التوبة، وليس تتبعض التوبة في الذنب الواحد بعينه، فإن تاب ورد المظلمة وكفر سقط عنه جميع الإثم. @-(المسألة الثانية) واختلف العلماء فيمن قال: أنا كافر بالله أو مشرك بالله أو يهودي أو نصراني إن فعلت كذا ثم يفعل ذلك هل عليه كفارة أم لا؟ فقال مالك والشافعي: ليس عليه كفارة ولا هذه يمين؛ وقال أبو حنيفة: هي يمين وعليه فيها الكفارة إذا خالف اليمين وهو قول أحمد بن حنبل أيضا. وسبب اختلافهم هو اختلافهم في هل يجوز اليمين بكل ماله حرمة أم ليس يجوز إلا بالله فقط؟ ثم إن وقعت فهل تنعقد أم لا؟ فمن رأى أن الأيمان المنعقدة: أعني التي هي بصيغ القسم إنما هي الأيمان الواقعة بالله عز وجل وبأسمائه قال: لا كفارة فيها إذ ليست بيمين؛ ومن رأى أن الأيمان تنعقد بكل ما عظم الشرع حرمته قال: فيها الكفارة، لأن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم، وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم، فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه. @-(المسألة الثالثة) واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست أقساما بشيء وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر أو امرأتي طالق أنها تلزم في القرب، وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق. واختلفوا هل فيها كفارة أم لا؟ فذهب مالك إلى أن لا كفارة فيها، وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد؛ وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم إلى أن هذا الجنس من الأيمان فيها الكفارة إلا الطلاق والعتق؛ وقال أبو ثور: يكفر من حلف بالعتق، وقول الشافعي مروي عن عائشة. وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية. ومن قال إنها من جنس النذر: أي من جنس الأشياء التي نص عليها الشرع على أنه إذا ألتزمها الإنسان لزمته قال: لا كفارة فيها لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها إيمانا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع. والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة، وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال "كفارة النذر كفارة يمين" وقال تعالى {لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه ليس يلزم من مثل هذه الأقاويل، أعني الخارجة مخرج الشرط إلا ما ألزمه الإجماع من ذلك وذلك أنها ليست بنذور فيلزم فيها النذر، ولا بأيمان فترفعها الكفارة، فلم يوجبوا على من قال: إن فعلت كذا وكذا فعلي المشي إلى بيت الله مشيا ولا كفارة، بخلاف ما لو قال: علي المشي إلى بيت الله لأن هذا نذر باتفاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه" فسبب هذا الخلاف في هذه الأقاويل التي تخرج مخرج الشرط هو هل هي أيمان أو نذور؟ أو ليست أيمانا ولا نذورا؟ فتأمل هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى. @-(المسألة الرابعة) اختلفوا في قول القائل: أقسم أو أشهد إن كان كذا وكذا هل هو يمين أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل إنه ليس بيمين، وهو أحد قولي الشافعي؛ وقيل إنها أيمان ضد القول الأول، وبه قال أبو حنيفة؛ وقيل إن أراد الله بها فهو يمين، وإن لم يرد الله بها فليست بيمين، وهو مذهب مالك. وسبب اختلافهم هو هل المراعى اعتبار صيغة اللفظ أو اعتبار مفهومه بالعادة أو اعتبار النية؟ فمن اعتبر صيغة اللفظ قال: ليست بيمين إذ لم يكن هنالك نطق بمقسوم به؛ ومن اعتبر صيغة اللفظ بالعادة قال: هي يمين وفي اللفظ محذوف ولا بد وهو الله تعالى؛ ومن لم يعتبر هذين الأمرين واعتبر النية إذ كان اللفظ صالحا للأمرين فرق في ذلك كما تقدم.

  • 3*(الجملة الثانية) وهذه الجملة تنقسم أولا قسمين: القسم الأول: النظر في الاستثناء. والثاني: النظر في الكفارات.
  • 4*القسم الأول. وفي هذا القسم فصلان: الفصل الأول: في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين. الفصل الثاني: في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء من التي لا يؤثر.
  • 5*الفصل الأول في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين.

@-وأجمعوا على أن الاستثناء بالجملة له تأثير في حل الأيمان واختلفوا في شروط الاستثناء الذي يجب له هذا الحكم بعد أن أجمعوا على أنه إذا اجتمع في الاستثناء ثلاثة شروط أن يكون متناسقا مع اليمين وملفوظا به ومقصودا من أول اليمين أنه لا ينعقد معه اليمين؛ واختلفوا في هذه الثلاثة مواضع، أعني إذا فرق الاستثناء من اليمين أو نواه ولم ينطق به أو حدثت له نية الاستثناء بعد اليمين وإن أتى به متناسقا مع اليمين. @-(فأما المسألة الأولى) وهي اشتراط اتصاله بالقسم فإن قوما اشترطوا ذلك فيه، وهو مذهب مالك؛ وقال الشافعي: لا بأس بينهما بالسكتة الخفيفة كسكتة الرجل للتذكر أو للتنفس أو لانقطاع الصوت. وقال قوم من التابعين يجوز للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه؛ وكان ابن عباس يرى أن له الاستثناء أبدا على ما ذكر منه متى ما ذكر، وإنما اتفق الجميع على أن استثناء مشيئة الله في الأمر المحلوف على فعله إن كان فعلا أو على تركه إن كان تركا رافع لليمين، لأن الاستثناء هو رفع للزوم اليمين. قال أبو بكر بن المنذر: ثبت أنه رسول الله قال "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" وإنما اختلفوا هل يؤثر في اليمين إذا لم توصل بها أو لا يؤثر؟ لاختلافهم هل الاستثناء حال للانعقاد أم هو مانع له؟ فإذا قلنا إنه مانع للانعقاد لا حال له اشترط أن يكون متصلا باليمين، وإذا قلنا إنه حال لم يلزم فيه ذلك. والذين اتفقوا على أنه حال اختلفوا هل هو حال بالقرب أو بالبعد على ما حكينا، وقد احتج من رأى أنه حال بالقرب بما رواه سعد عن سماك ابن حرب عن عكرمة قال: قال رسول الله "والله لأغزون قريشا، قالها ثلاث مرات ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله" فدل هذا على أن الاستثناء حال لليمين لا مانع لها من الانعقاد. قالوا: ومن الدليل على أنه حال بالقرب أنه لو كان حالا بالبعد على ما رواه ابن عباس لكان الاستثناء يغني عن الكفارة والذي قالوه بين. وأما اشتراط النطق باللسان فإنه اختلف فيه، فقيل لابد فيه من اشتراط اللفظ أي لفظ كان من ألفاظ الاستثناء وسواء كان بألفاظ الاستثناء أو بتخصيص العموم أو بتقييد المطلق هذا هو المشهور. وقيل إنما ينفع الاستثناء بالنية بغير لفظ في حرف إلا فقط: أي بما يدل عليه لفظ إلا، وليس ينفع ذلك فيما سواه من الحروف، وهذه التفرقة ضعيفة. والسبب في هذا الاختلاف هو هل تلزم العقود اللازمة بالنية فقط دون اللفظ أو باللفظ والنية معا مثل الطلاق والعتق واليمين وغير ذلك. @-(وأما المسألة الثانية) وهي هل تنفع النية الحادثة في الاستثناء بعد انقضاء اليمين؟ فقيل أيضا في المذهب إنها تنفع إذا حدثت متصلة باليمين؛ وقيل بل إذا حدثت قبل أن يتم النطق باليمين؛ وقيل بل الاستثناء على ضربين: استثناء من عدد، واستثناء من عموم بتخصيص أو من مطلق بتقييد، فالاستثناء من العدد لا ينفع فيه إلا حدوث النية قبل النطق باليمين؛ والاستثناء من العموم ينفع فيه حدوث النية بعد اليمين إذا وصل الاستثناء نطقا باليمين. وسبب اختلافهم هل الاستثناء مانع للعقد أو حال له؟ فإن قلنا إنه مانع فلا بد من اشتراط حدوث النية في أول اليمين؛ وإن قلنا إنه حال لم يلزم ذلك؛ وقد أنكر عبد الوهاب أن يشترط حدوث النية في أول اليمين للاتفاق وزعم على أن الاستثناء حال لليمين كالكفارة سواء.

  • 5*الفصل الثاني من القسم الأول في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء وغيرها.

@-وقد اختلفوا في الأيمان التي يؤثر فيها استثناء مشيئة الله من التي لا يؤثر فيها. فقال مالك وأصحابه: لا تؤثر المشيئة إلا في الأيمان التي تكفر وهي اليمين بالله عندهم أو النذر المطلق على ما سيأتي. وأما الطلاق والعتاق فلا يخلو أن يعلق الاستثناء في ذلك بمجرد الطلاق أو العتق فقط مثل أن يقول: هي طالق إن شاء الله أو عتيق إن شاء الله، وهذه ليست عندهم يمينا. وإما أن يعلق الطلاق بشرط من الشروط، مثل أن يقول: إن كان كذا فهي طالق إن شاء الله، أو إن كان كذا فهو عتيق إن شاء الله. فأما القسم الأول فلا خلاف في المذهب أن المشيئة غير مؤثرة فيه. وأما القسم الثاني وهو اليمين بالطلاق ففي المذهب فيه قولان أصحهما أنه إذا صرف الاستثناء إلى الشرط الذي علق به الطلاق صح وإن صرفه إلى نفس الطلاق لم يصح. وقال أبو حنيفة والشافعي: الاستثناء يؤثر في ذلك كله سواء قرنه بالقول الذي مخرجه مخرج الشرط، أو بالقول الذي مخرجه مخرج الخبر. وسبب الخلاف ما قلناه من أن الاستثناء هل هو حال أو مانع؟ فإذا قلنا مانع وقرن بلفظ مجرد الطلاق فلا تأثير له فيه إذ قد وقع الطلاق، أعني إذا قال الرجل لزوجته: هي طالق إن شاء الله، لأن المانع إنما يقوم لما لم يقع وهو المستقبل؛ وإن قلنا إنه حال للعقود وجب أن يكون له تأثير في الطلاق وإن كان قد وقع، فتأمل هذا فإنه بين؛ ولا معنى لقول المالكية إن الاستثناء في هذا مستحيل لأن الطلاق قد وقع، إلا أن يعتقدوا أن الاستثناء هو مانع لا حال، فتأمل هذا فإنه ظاهر إن شاء الله.

  • 4*القسم الثاني من الجملة الثانية.

@-وهذا القسم فيه فصول ثلاثة قواعد. الفصل الأول: في موجب الحنث وشروطه وأحكامه. الفصل الثاني: في رافع الحنث وهي الكفارات. الفصل الثالث: متى ترفع وكم ترفع.

  • 5*الفصل الأول في موجب الحنث وشروطه وأحكامه.

@-واتفقوا على أن موجب الحنث هو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين، وذلك إما فعل ما حلف على ألا يفعله وإما ترك ما حلف على فعله إذا علم أنه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله إلى وقت ليس يمكنه فيه فعله وذلك في اليمين بالترك المطلق، مثل أن يحلف لتأكلن هذا الرغيف فيأكله غيره؛ أو إلى وقت هو غير الوقت الذي اشترط في وجود الفعل عنه، وذلك في الفعل المشترط فعله في زمان محدود، مثل أن يقول: والله لأفعلن اليوم كذا وكذا، فإنه إذا انقضى النهار ولم يفعل حنث ضرورة. واختلفوا من ذلك في أربعة مواضع: أحدها إذا أتى بالمخالف ناسيا أو مكرها. والثاني هل يتعلق موجب اليمين بأقل ما ينطلق عليه الاسم أو بجميعه. والموضع الثالث هل يتعلق اليمين بالمعنى المساوي لصيغة اللفظ أو بمفهومه المخصص للصيغة والمعمم لها. والموضع الرابع هل اليمين على نية الحالف أو المستحلف. @-(فأما المسألة الأولى) فإن مالكا يرى الساهي والمكره بمنزلة العامد؛ والشافعي يرى أن لا حنث على الساهي ولا على المكره. وسبب اختلافهم معارضة العموم قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} ولم يفرق بين عامد وناس لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن هذين العمومين يمكن أن يخصص كل واحد منهما بصاحبه. @-(وأما الموضع الثاني) فمثل أن يحلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه أو أنه يفعل شيئا فلم يفعل بعضه؛ فعند مالك إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبرأ إلا بأكله كله، وإذا قال: لا آكل هذا الرغيف إنه يحنث إن أكل بعضه؛ وعند الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحنث في الوجهين جميعا حملا على الأخذ بأكثر ما يدل عليه الاسم. وأما تفريق مالك بين الفعل والترك فلم يجر في ذلك على أصل واحد لأنه أخذ في الترك بأقل ما يدل عليه الاسم وأخذ في الفعل بجميع ما يدل عليه الاسم، وكأنه ذهب إلى الاحتياط. @-(وأما المسألة الثالثة) فمثل أن يحلف على شيء بعينه يفهم منه القصد إلى معنى أعم من ذلك الشيء الذي لفظ به أو أخص، أو يحلف على شيء وينوي به معنى أعم أو أخص، أو يكون للشيء الذي حلف عليه اسمان أحدهما لغوي والآخر عرفي وأحدهما أخص من الآخر. وأما إذا حلف على شيء بعينه فإنه لا يحنث عند الشافعي وأبي حنيفة إلا بالمخالفة الواقعة في ذلك الشيء بعينه الذي وقع عليه الحلف وإن كان المفهوم منه معنى أعم أو أخص من قبل الدلالة العرفية. وكذلك أيضا فيما أحسب لا يعتبرون النية المخالفة للفظ، وإنما يعتبرون مجرد الألفاظ فقط. وأما مالك فإن المشهور من مذهبه أن المعتبر أولا عنده في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة؛ وقيل لا يراعي إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط؛ وقيل يراعي النية وبساط الحال ولا يراعي العرف وأما الأيمان التي يقضي بها على صاحبها فإنه إن جاء الحالف مستفتيا كان حكمه حكم اليمين التي لا يقضي بها على صاحبها من مراعاة هذه الأشياء فيها على هذا الترتيب وإن كان مما يقضي بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يشهد لما يدعي من النية المخالفة لظاهر اللفظ قرينة الحال أو العرف. @-(وأما المسألة الرابعة) فإنهم اتفقوا على أن اليمين على نية المستحلف في الدعاوي واختلفوا في غير ذلك مثل الأيمان على المواعيد، فقال قوم: على نية الحالف. وقال قوم: على نية المستحلف. وثبت أن رسول الله قال "اليمين على نية المستحلف" وقال عليه الصلاة والسلام "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" خرج هذين الحديثين مسلم. ومن قال: اليمين على نية الحالف. فإنما اعتبر المعنى القائم بالنفس من اليمين لا ظاهر اللفظ. وفي هذا الباب فروع كثيرة. لكن هذه المسائل الأربع هي أصول هذا الباب إذ يكاد أن يكون جميع الاختلاف الواقع في هذا الباب راجعا إلى الاختلاف في هذه. وذلك في الأكثر مثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل رءوسا فأكل رءوس حيتان هل يحنث أم لا؟ فمن راعى العرف قال: لا يحنث؛ ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. ومثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما؛ فمن اعتبر دلالة اللفظ الحقيقي قال: لا يحنث؛ ومن رأى أن اسم الشيء قد ينطلق على ما يتولد منه قال: يحنث. وبالجملة فاختلافهم في المسائل الفروعية التي في هذا الباب هي راجعة إلى اختلافهم في هذه المسائل التي ذكرنا، وراجعة إلى اختلافهم في دلالات الألفاظ التي يحلف بها، وذلك أن منها ما هي مجملة، ومنها ما هي ظاهرة، ومنها ما هي نصوص.

  • 5*الفصل الثاني في رافع الحنث.

@-واتفقوا على أن الكفارة في الأيمان هي الأربعة الأنواع التي ذكر الله في كتابه في قوله تعالى {فكفارته} الآية. وجمهورهم على أن الحالف إذا حنث مخير بين الثلاثة منها: أعني الإطعام أو الكسوة أو العتق، وأنه لا يجوز له الصيام إلا إذا عجز عن هذه الثلاثة لقوله تعالى {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا غلظ اليمين أعتق أو كسا، وإذا لم يغلظها أطعم. واختلفوا من ذلك في سبع مسائل مشهورة: المسألة الأولى: في مقدار الإطعام لكل واحد من العشرة مساكين. الثانية: في جنس الكسوة إذا اختار الكسوة وعددها. الثالثة: في اشتراط التتابع في صيام الثلاثة الأيام أو لا إشتراطه. الرابعة: في اشتراط العدد في المساكين. الخامسة: في اشتراط الإسلام فيهم والحرية. والسادسة: في اشتراط السلامة في الرقبة المعتقة من العيوب. السابعة: في اشتراط الإيمان فيها. @-(المسألة الأولى) أما مقدار الإطعام؟ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة: يعطى لكل مسكين مد من حنطة بمد النبي ، إلا أن مالكا قال: المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم. وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم. وقال ابن القاسم: يجري المد في كل مدينة مثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يعطيهم نصف صاع من حنطة، أو صاعا من شعير أو تمر، قال: فإن غداهم وعشاهم أجزأه. والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تأويل قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} هل المراد بذلك أكلة واحدة أو قوت اليوم وهو غذاء وعشاء؟ فمن قال أكلة واحدة قال: المد وسط في الشبع؛ ومن قال غداء وعشاء قال: نصف صاع. ولاختلافهم أيضا سبب آخر، وهو تردد هذه الكفارة بين كفارة الفطر متعمدا في رمضان وبين كفارة الأذى؛ فمن شبهها بكفارة الفطر قال: مد واحد، ومن شبهها بكفارة الأذى قالا: نصف صاع. واختلفوا هل يكون مع الخبز في ذلك إدام أم لا؟ وإن كان فما هو الوسط فيه؟ فقيل يجزي الخبز قفارا؛ وقال ابن حبيب: لا يجزي؛ وقيل الوسط من الإدام الزيت؛ وقيل اللبن والسمن والتمر. واختلف أصحاب مالك من الأهل الذين أضاف إليهم الوسط من الطعام في قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} فقيل أهل المكفر وعلى هذا إنما يخرج الوسط من الشيء الذي منه يعيش إن قطنية فقطنية وإن حنطة فحنطة، وقيل بل هم أهل البلد الذي هو فيه، وعلى هذا فالمعتبر في اللازم له هو الوسط من عيش أهل البلد لا من عيشه: أعني الغالب، وعلى هذين القولين يحمل قدر الوسط من الإطعام، أعني الوسط من قدر ما يطعم أهله، أو الوسط من قدر ما يطعم أهل البلد أهليهم إلا في المدينة خاصة. @-(وأما المسألة الثانية) وهي المجزئ من الكسوة. فإن مالكا رأى أن الواجب في ذلك هو أن يكسي ما يجزئ فيه الصلاة، فإن كسا الرجل كسا ثوبا وإن كسا النساء كسا ثوبين درعا وخمارا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يجزئ في ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم إزار أو قميص أو سراويل أو عمامة، وقال أبو يوسف: لا تجزئ العمامة ولا السراويل. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل دلالة الاسم اللغوي أو المعنى الشرعي. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام فإن مالكا والشافعي لم يشترطا في ذلك وجوب التتابع وإن كانا استحباه واشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم في ذلك شيئان: أحدهما هل يجوز العمل بالقراءة التي ليست في المصحف، وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} . والسبب الثاني اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل الواجب بالشرع إنما هو التتابع. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي اشتراط العدد في المساكين، فإن مالكا والشافعي قالا: لا يجزيه إلا أن يطعم عشرة مساكين؛ وقال أبو حنيفة: إن أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام أجزأه. والسبب في اختلافهم هل الكفارة حق واجب للعدد المذكور أو حق واجب على المكفر فقدر بالعدد المذكور، فإن قلنا إنه حق واجب للعدد كالوصية، فلابد من اشتراط العدد، وإن قلنا حق واجب على المكفر لكنه قدر بالعدد أجزأ من ذلك إطعام مسكين واحد على عدد المذكورين والمسألة محتملة. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي اشتراط الإسلام والحرية في المساكين، فإن مالكا والشافعي اشترطاهما ولم يشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم هل استيجاب الصدقة هو بالفقر فقط؟ أو بالإسلام؟ إذ كان السمع قد أنبأ أنه يثاب بالصدقة على الفقير الغير المسلم، فمن شبه الكفارة بالزكاة الواجبة للمسلمين اشترط الإسلام في المساكين الذين تجب لهم هذه الكفارة؛ ومن شبهها بالصدقات التي تكون عن تطوع أجاز أن يكونوا غير مسلمين. وأما سبب اختلافهم في العبيد فهو هل يتصور فيهم وجود الفقر أم لا إذا كانوا مكفيين من ساداتهم في غالب الأحوال، أو ممن يجب أن يكفوا؟ فمن راعى وجود الفقر فقط قال العبيد والأحرار سواء، إذ قد يوجد من العبيد من يجوعه سيده؛ ومن راعى وجوب الحق له على الغير بالحكم قال: يجب على السيد القيام بهم، ويقتضي بذلك عليه وإن كان معسرا قضى عليه ببيعه، فليس يحتاجون إلى المعونة بالكفارات وما جرى مجراها من الصدقات. @-(وأما المسألة السادسة) وهي هل من شرط الرقبة أن تكون سليمة من العيوب؟ فإن فقهاء الأمصار شرطوا ذلك، أعني العيوب المؤثرة في الأثمان، وقال أهل الظاهر: ليس ذلك من شرطها. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل ما يدل عليه الاسم أو بأتم ما يدل عليه. @-(وأما المسألة السابعة) وهي اشتراط الأيمان في الرقبة أيضا، فإن مالكا والشافعي اشترطا ذلك؛ وأجاز أبو حنيفة أن تكون الرقبة غير مؤمنة. وسبب اختلافهم هو هل يحمل المطلق على المقيد في الأشياء التي تتفق في الأحكام وتختلف في الأسباب كحكم حال هذه الكفارات مع كفارة الظهار؛ فمن قال يحمل المطلق على المقيد في ذلك قال باشتراط الإيمان في ذلك حملا على اشتراط ذلك في كفارة الظهار في قوله تعالى {فتحرير رقبة مؤمنة} ومن قال لا يحمل وجب عنده أن يبقى موجب اللفظ على إطلاقه.

  • 4*الفصل الثالث متى ترفع الكفارة الحنث، وكم ترفع؟

@-وأما متى ترفع الكفارة الحنث وتمحوه، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي: إذا كفر بعد الحنث أو قبله فقد ارتفع الإثم؛ وقال أبو حنيفة: لا يرتفع الحنث إلا بالتفكير الذي يكون بعد الحنث لا قبله؛ وروي عن مالك في ذلك القولان جميعا. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلاف الرواية في قوله عليه الصلاة والسلام "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فإن قوما رووه هكذا، وقوم رووه "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" وظاهر هذه الرواية أن الكفارة تجوز قبل الحنث، وظاهر الثانية أنها بعد الحنث. والسبب الثاني اختلافهم في هل يجزئ تقديم الحق الواجب قبل وقت وجوبه، لأنه من الظاهر أن الكفارة إنما تجب بعد الحنث كالزكاة بعد الحول ولقائل أن يقول إن الكفارة إنما تجب بإرادة الحنث والعزم عليه كالحال في كفارة الظهار فلا يدخله الخلاف من هذه الجهة، وكان سبب الخلاف من طريق المعنى هو هل الكفارة رافعة للحنث إذا وقع أو مانعة له؟ فمن قال مانعة أجاز تقديمها على الحنث؛ ومن قال رافعة لم يجزها إلا بعد وقوعه. وأما تعدد الكفارات بتعدد الأيمان فإنهم اتفقوا فيما علمت أن من حلف على أمور شتى بيمين واحدة أن كفارته كفارة يمين واحدة، وكذلك فيما أحسب لا خلاف بينهم أنه إذا حلف بأيمان شتى على شيء واحد أن الكفارات الواجبة في ذلك بعدد الأيمان كالحالف إذا حلف بأيمان شتى على أشياء شتى. اختلفوا إذا حلف على شيء واحد بعينه مرار كثيرة، فقال قوم: في ذلك كفارة يمين واحدة، وقال قوم: في كل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد، وهو قول مالك؛ وقال قوم: فيها كفارة واحدة، إلا أن يريد التغليظ. وسبب اختلافهم هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد، فمن قال: اختلافها بالعدد قال لكل يمين كفارة إذا كرر ومن قال اختلافها بالجنس قال: في هذه المسألة يمين واحدة. واختلفوا إذا حلف في يمين واحدة بأكثر من صفتين من صفات الله تعالى هل تعدد الكفارات بتعدد الصفات التي تضمنت اليمين أم في ذلك كفارة واحدة؟ فقال مالك: الكفارة في هذه اليمين متعددة بتعدد الصفات. فمن حلف بالسميع العليم الحكيم كان عليه ثلاث كفارات عنده، وقال قوم: إن أراد الكلام الأول وجاء بذلك على أنه قول واحد فكفارة واحدة إذا كانت يمينا واحدة. والسبب في اختلافهم: هل مراعاة الواحدة أو الكثرة في اليمين هو راجع إلى صيغة القول أو إلى تعدد الأشياء التي يشتمل عليها القول الذي مخرجه مخرج يمين، فمن اعتبر الصيغة قال كفارة واحدة؛ ومن اعتبر عدد ما تضمنته صيغة القول من الأشياء التي يمكن أن يقسم بكل واحد منها على انفراده قال: الكفارة متعددة بتعددها، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب وسبب الاختلاف في ذلك، والله المعين برحمته.

  • 2*كتاب النذور

@-وهذا الكتاب فيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في أصناف النذور. الفصل الثاني: فيما يلزم من النذور وما لا يلزم وجملة أحكامها. الثالث: في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها.

  • 3*الفصل الأول في أصناف النذور.

@-والنذور تنقسم أولا قسمين: قسم من جهة اللفظ وقسم من جهة الأشياء التي تنذر. فأما من جهة اللفظ فإنه ضربان: مطلق وهو المخرج مخرج الخبر. ومقيد وهو المخرج مخرج الشرط. والمطلق على ضربين: مصرح فيه بالشيء المنذور به، وغير مصرح، فالأول مثل قول القائل: لله علي نذر أن أحج، والثاني مثل قوله: لله علي نذر، دون أن يصرح بمخرج النذر، والأول ربما صرح فيه بلفظ النذور، وربما لم يصرح فيه به، مثل أن يقول: لله علي أن أحج. وأما المقيد المخرج مخرج الشرط فكقول القائل: إن كان كذا فعلي لله نذر كذا وأن أفعل كذا وهذا ربما علقه بفعل من أفعال الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فعلي نذر كذا وكذا، وربما علقه بفعل نفسه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي نذر كذا، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء أيمانا، وقد تقدم من قولنا أنها ليست بأيمان، فهذه هي أصناف النذر من جهة الصيغ. وأما أصنافه من جهة الأشياء التي من جنس المعاني المنذور بها، فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام نذر بأشياء من جنس القرب، ونذر بأشياء من جنس المعاصي، ونذر بأشياء من جنس المكروهات، ونذر بأشياء من جنس المباحات، وهذه الأربعة تنقسم قسمين: نذر بتركها، ونذر بفعلها.

  • 3*الفصل الثاني فيما يلزم من النذور وما لا يلزم.

@-وأما ما يلزم من هذه النذور وما لا يلزم، فإنهم اتفقوا على لزوم النذر المطلق في القرب إلا ما حكى عن بعض أصحاب الشافعي أن النذر المطلق لا يجوز، وإنما اتفقوا على لزوم النذر المطلق إذا كان على وجه الرضا لا على وجه اللجاج وصرح فيه بلفظ النذر لا إذا لم يصرح، وسواء كان النذر مصرحا فيه بالشيء المنذور أو كان غير مصرح. وكذلك أجمعوا على لزوم النذر الذي مخرجه مخرج الشرط إذا كان نذرا بقربة، وإنما صاروا لوجوب النذر لعموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ولأن الله تعالى قد مدح به فقال {يوفون بالنذر} وأخبر بوقوع العقاب بنقضه فقال {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} الآية، إلى قوله {بما كانوا يكذبون} . والسبب في اختلافهم في التصريح بلفظ النذر في النذر المطلق هو اختلافهم في هل يجب النذر بالنية واللفظ معا أو بالنية فقط؟ فمن قال بهما معا إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا لم يلزمه شيء لأنه إخبار بوجوب شيء لم يوجبه الله عليه إلا أن يصرح بجهة الوجوب؛ ومن قال ليس من شرطه اللفظ قال: ينعقد النذر وإن لم يصرح بلفظه، وهو مذهب مالك، أعني أنه إذا لم يصرح بلفظ النذر أنه يلزم، وإن كان من مذهبه أن النذر لا يلزم إلا بالنية واللفظ لكن رأى أن حذف لفظ النذر من القول غير معتبر إذ كان المقصود بالأقاويل التي مخرجها مخرج النذر النذر وإن لم يصرح فيها بلفظ النذر، وهذا مذهب الجمهور، والأول مذهب سعيد بن المسيب، ويشبه أن يكون من لم ير لزوم النذر المطلق إنما فعل ذلك من قبل أنه حمل الأمر بالوفاء على الندب؛ وكذلك من اشترط فيه الرضا، فإنما اشترطه لأن القربة إنما تكون على جهة الرضا لا على جهة اللجاج، وهو مذهب الشافعي. وأما مالك فالنذر عنده لازم على أي جهة وقع، فهذا ما اختلفوا في لزومه من جهة اللفظ. وأما ما اختلفوا في لزومه من جهة الأشياء المنذور بها فإن فيه من المسائل الأصول اثنتين. @-(المسألة الأولى) اختلفوا فيمن نذر معصية، فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء: ليس يلزمه في ذلك شيء. وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: بل هو لازم، واللازم عندهم فيه هو كفارة يمين لا فعل المعصية. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي في هذا الباب حديثان أحدهما حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه" فظاهر هذا أنه لا يلزم النذر بالعصيان: والحديث الثاني حديث عمران بن حصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين" وهذا نص في معنى اللزوم؛ فمن جمع بينهما في هذا قال: الحديث الأول تضمن الإعلام بأن المعصية لا تلزم وهذا الثاني تضمن لزوم الكفارة؛ فمن رجح ظاهر حديث عائشة إذ لم يصح عنده حديث عمران وأبي هريرة قال: ليس يلزم في المعصية شيء؛ ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجب في ذلك كفارة يمين. قال أبو عمر بن عبد البر: ضعف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة قالوا: لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث. وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضا عنده مناكير، ولكنه خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر، وقد جرت عادة المالكية أن يحتجوا لمالك في هذا المسألة بما روي "أن رسول الله رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله : مروه فليتكلم وليجلس وليتم صيامه" قالوا: فأمره أن يتم ما كان طاعة لله ويترك ما كان معصية، وليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية، وقد أخبر الله أنه نذر مريم، وكذلك يشبه أن يكون القيام في الشمس ليس بمعصية، إلا ما يتعلق بذلك من جهة إتعاب النفس. فإن قيل فيه معصية فبالقياس لا بالنص، فالأصل فيه أنه من المباحات. @-(المسألة الثانية) واختلفوا فيمن حرم على نفسه شيئا من المباحات فقال مالك: لا يلزم ما عدا الزوجة؛ وقال أهل الظاهر: ليس في ذلك شيء؛ وقال أبو حنيفة: في ذلك كفارة يمين. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم النظر لظاهر قوله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك} وذلك أن النذر ليس هو اعتقاد خلاف الحكم الشرعي أعني من تحريم محلل أو تحليل محرم، وذلك أن التصرف في هذا إنما هو للشارع فوجب أن يكون لمكان هذا المفهوم أن من حرم على نفسه شيئا أباحه الله له بالشرع أنه لا يلزمه كما لا يلزم إن نذر تحليل شيء حرمه الشرع، وظاهر قوله تعالى {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أثر العتب على التحريم يوجب أن تكون الكفارة تحل هذا العقد، وإن كان ذلك كذلك فهو غير لازم، والفرقة الأولى تأولت التحريم المذكور في الآية أنه كان العقد بيمين. وقد اختلف في الشيء الذي نزلت فيه هذه الآية. وفي كتاب مسلم أن ذلك كان في شربة عسل، وفيه عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}

  • 3*الفصل الثالث في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها.

@-وأما اختلافهم في ماذا يلزم في نذر نذر من النذور وأحكام ذلك، فإن فيه اختلافا كثيرا، لكن نشير نحن من ذلك إلى مشهورات المسائل في ذلك، وهي التي تتعلق بأكثر ذلك بالنطق الشرعي على عادتنا في هذا الكتاب، وفي ذلك مسائل خمس: @-(المسألة الأولى) اختلفوا في الواجب في النذر المطلق الذي ليس يعين فيه الناذر شيئا سوى أن يقول: لله علي نذر، فقال كثير من العلماء: في ذلك كفارة يمين لا غير؛ وقال قوم: بل فيه كفارة الظهار؛ وقال قوم: أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين، وإنما صار الجمهور لوجوب كفارة اليمين فيه للثابت من حديث عقبة بن عامر أنه عليه الصلاة والسلام قال "كفارة النذر كفارة يمين" خرجه مسلم. وأما من قال صيام يوم أو صلاة ركعتين فإنما ذهب مذهب من يرى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم، وصلاة ركعتين أو صيام يوم أقل ما ينطلق عليه اسم النذر. وأما من قال فيه كفارة الظهار فخارج عن القياس والسماع. @-(المسألة الثانية) اتفقوا على لزوم النذر بالمشي إلى بيت الله، أعني إذا نذر المشي راجلا. واختلفوا إذا عجز في بعض الطريق فقال قوم: لا شيء عليه؛ وقال قوم: عليه. واختلفوا في ماذا عليه على ثلاثة أقوال: فذهب أهل المدينة إلى أن عليه أن يمشي مرة أخرى من حيث عجز، وإن شاء ركب وأجزأه وعليه دم، وهذا مروي عن علي. وقال أهل مكة: عليه هدي دون إعادة مشي. وقال مالك: عليه الأمران جميعا، يعني أنه يرجع فيمشي من حيث وجب وعليه هدي، والهدي عنده بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة. وسبب اختلافهم منازعة الأصول لهذه المسألة ومخالفة الأثر لها، وذلك أن من شبه العاجز إذا مشى مرة ثانية بالمتمتع والقارن من أجل أن القارن فعل ما كان عليه في سفرين في سفر واحد، وهذا فعل ما كان عليه في سفر واحد في سفرين قال: يجب عليه هدي القارن أو المتمتع؛ ومن شبهه بسائر الأفعال التي تنوب عنها في الحج إراقة الدم قال: فيه دم؛ ومن أخذ بالآثار الواردة في هذا الباب قال: إذا عجز فلا شيء عليه. قال أبو عمر: والسنن الواردة الثابتة في هذا الباب دليل على طرح المشقة وهو كما قال، واحدها حديث عقبة بن عامر الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله عز وجل فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله ، فاستفتيت لها النبي فقال "لتمش ولتركب" خرجه مسلم. وحديث أنس بن مالك "أن رسول الله رأى رجلا يهادي بين ابنتيه، فسأل عنه فقالوا: نذر أن يمشي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب" وهذا أيضا ثابت. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا بعد اتفاقهم على لزوم المشي في حج أو عمرة فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد النبي أو إلى بيت المقدس يريد بذلك الصلاة فيهما، فقال مالك والشافعي: يلزمه المشي؛ وقال أبو حنيفة: لا يلزمه شيء وحيث صلى أجزأه، وكذلك عنده إن نذر الصلاة في المسجد الحرام، وإنما وجب عنده المشي بالنذر إلى المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة. وقال أبو يوسف صاحبه: من نذر أن يصلي في بيت المقدس أو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لزمه، وإن صلى في البيت الحرام أجزأه عن ذلك، وأكثر الناس على أن النذر لما سوى هذه المساجد الثلاثة لا يلزم لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تسرج المطي إلا لثلاث، فذكر المسجد الحرام ومسجده وبيت المقدس" وذهب بعض الناس إلى أن النذر إلى المساجد التي يرجى فيها فضل زائد واجب، واحتج في ذلك بفتوى ابن عباس لولد المرأة التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت أن يمشي عنها. وسبب اختلافهم في النذر إلى ما عدا المسجد الحرام اختلافهم في المعنى الذي إليه تسرج المطي إلى هذه الثلاث مساجد، هل ذلك لموضع صلاة الفرض فيما عدا البيت الحرام أو لموضع صلاة النفل؟ فمن قال لموضع صلاة الفرض وكان الفرض عنده لا ينذر إذ كان واجبا بالشرع قال: النذر بالمشي إلى هذين المسجدين غير لازم؛ ومن كان عنده أن النذر قد يكون في الواجب أو أنه أيضا قد يقصد هذان المسجدان لموضع صلاة النفل لقوله عليه الصلاة والسلام "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" واسم الصلاة يشمل الفرض والنفل، قال: هو واجب؛ لكن أبو حنيفة حمل هذا الحديث على الفرض مصيرا إلى الجمع بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام "صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" وإلا وقع التضاد بين هذين الحديثين، وهذه المسألة هي أن تكون من الباب الثاني أحق من أن تكون من هذا الباب. @-(المسألة الرابعة) واختلفوا في الواجب على أن من نذر أن ينحر ابنه في مقام إبراهيم، فقال مالك: ينحر جزورا فداء له؛ وقال أبو حنيفة: ينحر شاة، وهو أيضا مروي عن ابن عباس؛ وقال بعضهم: بل ينحر مائة من الإبل، وقال بعضهم: يهدي ديته، وروي ذلك عن علي؛ وقال بعضهم: بل يحج به؛ وبه قال الليث؛ وقال أبو يوسف والشافعي: لا شيء عليه لأنه نذر معصية ولا نذر في معصية. وسبب اختلافهم قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أعني هل ما تقرب به إبراهيم هو لازم للمسلمين أم ليس بلازم؟ فمن رأى أن ذلك شرع خص به إبراهيم قال: لا يلزم النذر؛ ومن رأى أنه لازم لنا قال: النذر لازم. والخلاف في هل يلزمنا شرع من قبلنا مشهور، لكن يتطرق إلى هذا خلاف آخر، وهو أن الظاهر من هذا الفعل أنه كان خاصا بإبراهيم ولم يكن شرعا لأهل زمانه، وعلى هذا فليس ينبغي أن يختلف هل هو شرع لنا أم ليس بشرع؟ والذين قالوا إنه شرع إنما اختلفوا في الواجب في ذلك من قبل اختلافهم أيضا في هل يحمل الواجب في ذلك على الواجب إبراهيم، أم يحمل على غير ذلك من القرب الإسلامية، وذلك إما صدقة بديته، وإما حج به، وإما هدي بدنة. وأما الذين قالوا مائة من الإبل، فذهبوا إلى حديث عبد المطلب. @-(المسألة الخامسة) واتفقوا على أن من نذر أن يجعل ماله كله في سبيل الله أو في سبيل من سبل البر أنه يلزمه وأنه ليس ترفعه الكفارة وذلك إذا كان نذرا على جهة الخبر لا على جهة الشرط وهو الذي يسمونه يمينا. واختلفوا فيمن نذر ذلك على جهة الشرط مثل أن يقول: مالي للمساكين إن فعلت كذا ففعله؛ فقال قوم: ذلك لازم كالنذر على جهة الخبر ولا كفارة فيه وهو مذهب مالك في النذور التي صيغها هذه الصيغة، أعني أنه لا كفارة فيه؛ وقال قوم: الواجب في ذلك كفارة يمين فقط، وهو مذهب الشافعي في النذور التي مخرجها مخرج الشرط لأنه ألحقها بحكم الأيمان؛ وأما مالك فألحقها بحكم النذور على ما تقدم من قولنا في كتاب الأيمان، والذين اعتقدوا وجوب إخراج ماله في الموضع الذي اعتقدوه اختلفوا في الواجب عليه، فقال مالك: يخرج ثلث ماله فقط؛ وقال قوم: بل يجب عليه إخراج جميع ماله، وبه قال إبراهيم النخعي وزفر؛ وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال التي تجب الزكاة فيها، وقال بعضهم: إن أخرج مثل زكاة ماله أجزأه. وفي المسألة قول خامس. وهو إن كان المال كثيرا أخرج خمسه وإن كان وسطا أخرج سبعه وإن كان يسيرا أخرج عشره، وحد هؤلاء الكثير بألفين، والوسط بألف، والقليل بخمسمائة، وذلك مروي عن قتادة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة، أعني من قال المال كله أو ثلثه معارضة الأصل في هذا الباب للأثر، وذلك أن ما جاء في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه وأراد أن يتصدق بجيع ماله، فقال رسول الله "يجزيك من ذلك الثلث" هو نص في مذهب مالك. وأما الأصل فيوجب أن اللازم له إنما هو جميع ماله حملا على سائر النذر، أعني أنه يجب الوفاء به على الوجه الذي قصده لكن الواجب هو استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة، إذ قد استثناها النص، إلا أن مالكا لم يلزم في هذه المسألة أصله، وذلك أنه قال: إن حلف أو نذر شيئا معينا لزمه وإن كان كل ماله، وكذلك يلزم عنده إن عين جزءا من ماله وهو أكثر من الثلث، وهذا مخالف لنص ما رواه في حديث أبي لبابة وفي قول رسول الله للذي جاء بمثل بيضة من ذهب فقال: أصبت هذا من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله ، ثم جاءه عن يمينه ثم عن يساره ثم من خلفه، فأخذها رسول الله فحذفه بها، فلو أصابه بها لأوجعه، وقال عليه الصلاة والسلام "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهذا نص في أنه لا يلزم المال المعين إذا تصدق به وكان جميع ماله؛ ولعل مالكا لم تصح عنده هذه الآثار. وأما سائر الأقاويل التي قيلت في هذه المسألة فضعاف، وبخاصة من حد في ذلك غير الثلث، وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.

  • 2*كتاب الضحايا

@-وهذا الكتاب في أصوله أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الضحايا ومن المخاطب بها. الباب الثاني: في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها. الباب الثالث: في أحكام الذبح. الباب الرابع: في أحكام لحوم الضحايا.

  • 3*الباب الأول في حكم الضحايا، ومن المخاطب بها

@-اختلف العلماء في الأضحية هل هي واجبة أم هي سنة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنها من السنن المؤكدة؛ ورخص مالك للحاج في تركها بمنى؛ ولم يفرق الشافعي في ذلك بين الحاج وغيره؛ وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على المقيمين في الأمصار الموسرين، ولا تجب على المسافرين؛ وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: إنها ليست بواجبة؛ وروي عن مالك مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما هل فعله عليه الصلاة والسلام في ذلك محمول على الوجوب أو على الندب، وذلك أنه لم يترك الضحية قط فيما روي عنه حتى في السفر على ما جاء في حديث ثوبان قال: "ذبح رسول الله أضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لحم هذه الضحية، قال: فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة". والسبب الثاني اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في أحكام الضحايا، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم سلمة أنه قال "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره" قالوا: فقوله: "إذا أراد أحدكم أن يضحي" فيه دليل على أن الضحية ليست بواجبة. ولما أمر عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل الصلاة فهم قوم من ذلك الوجوب، ومذهب ابن عباس أن لا وجوب. قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما وقال: من لقيت فقل له هذه ضحية ابن عباس وروي عن بلال أنه ضحى بديك، وكل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به فالاحتجاج به ضعيف. واختلفوا هل يلزم الذي يريد التضحية أن لا يأخذ من العشر الأول من شعره وأظفاره، والحديث بذلك ثابت.

  • 3*الباب الثاني في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها.

@-وفي هذا الباب أربع مسائل مشهورة: إحداها في تمييز الجنس. والثانية: في تمييز الصفات. والثالثة: في معرفة السن. والرابعة: في العدد. @-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام، واختلفوا في الأفضل من ذلك، فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا: الكباش ثم البقر ثم الإبل، بعكس الأمر عنده في الهدايا؛ وقد قيل عنه الإبل ثم البقر ثم الكباش؛ وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا: الإبل ثم البقر ثم الكباش، وبه قال أشهب وابن شعبان. وسبب اختلافهم معارضة القياس لدليل الفعل، وذلك أنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى إلا بكبش، فكان ذلك دليلا على أن الكباش في الضحايا أفضل، وذلك فيما ذكر بعض الناس وفي البخاري عن ابن عمر ما يدل ما يدل على خلاف ذلك وهو أنه قال "كان رسول الله يذبح وينحر بالمصلى" وأما القياس فلأن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يكون الأفضل فيها الأفضل في الهدايا، وقد احتج الشافعي لمذهبه بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا" الحديث، فكان الواجب حمل هذا على جميع القرب بالحيوان. وأما مالك فحمله على الهدايا فقط لئلا يعارض الفعل القول وهو الأولى. وقد يمكن أن يكون لاختلافهم سبب آخر، وهو هل الذبح العظيم الذي فدى به إبراهيم سنة باقية إلى اليوم وإنها الأضحية، وإن ذلك معنى قوله {وتركنا عليه في الآخرين} فمن ذهب إلى هذا قال: الكباش أفضل؛ ومن رأى أن ذلك ليست سنة باقية لم يكن عنده دليل على أن الكباش أفضل، مع أنه قد ثبت أن رسول الله ضحى بالأمرين جميعا وإذا كان ذلك كذلك فالواجب المصير إلى قول الشافعي، وكلهم مجمعون على أنه لا تجوز الضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكى عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، والظبي عن واحد. @-(المسألة الثانية) أجمع العلماء على اجتناب العرجاء البين عرجها في الضحايا والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى (العجفاء التي لا تنقى: أي التي لا مخ في عظامها) مصيرا لحديث البراء بن عازب أن رسول الله سئل ماذا ينقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع" وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله : العرجاء البين عرجها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى". وكذلك أجمعوا على أن ما كان من هذه الأربع خفيفا فلا تأثير له في منع الإجزاء. واختلفوا في موضعين: أحدهما فيما كان من العيوب أشد من هذه المنصوص عليها مثل العمى وكسر الساق. والثاني فيما كان مساويا لها في إفادة النقص وشينها، أعني ما كان من العيوب في الأذن والعين والذنب والضرس وغير ذلك من الأعضاء ولم يكن يسيرا. فأما الموضع الأول، فإن الجمهور على أن ما كان أشد من هذه العيوب المنصوص عليها فهي أحرى أن تمنع الإجزاء. وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا تمنع الإجزاء ولا يتجنب بالجملة أكثر من هذه العيوب التي وقع النص عليها. وسبب اختلافهم هل هذا اللفظ الوارد هو خاص أريد به الخصوص، أو خاص أريد به العموم؟ فمن قال أريد به الخصوص ولذلك أخبر بالعدد قال: لا يمنع الإجزاء إلا هذه الأربعة فقط؛ ومن قال هو خاص أريد به العموم وذلك من النوع الذي يقع فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى قال: ما هو أشد من المنصوص عليها فهو أحرى أن لا يجزى. وأما الموضع الثاني، أعني ما كان من العيوب في سائر الأعضاء مفيدا للنقص على نحو إفادة هذه العيوب المنصوص عليها له فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنها تمنع الإجزاء كمنع المنصوص عليها، وهو المعروف من مذهب مالك في الكتب المشهورة. والقول الثاني أنها لا تمنع الإجزاء وإن كان يستحب اجتنابها، وبه قال ابن القصار وابن الجلاب وجماعة من البغداديين من أصحاب مالك. والقول الثالث أنها لا تمنع الإجزاء ولا يستحب تجنبها، وهو قول أهل الظاهر. وسبب اختلافهم شيئان أحدهما اختلافهم في مفهوم الحديث المتقدم. والثاني تعارض الآثار في هذا الباب. أما الحديث المتقدم، فمن رآه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يمنع ما سوى الأربع مما هو مساو لها أو أكثر منها. وأما من رآه من باب الخاص أريد به العام وهم الفقهاء، فمن كان عنده أنه من باب التبيه بالأدنى على الأعلى فقط، لا من باب التنبيه بالمساوى على المساوى قال: يلحق بهذه الأربع ما كان أشد منها، ولا يلحق بها ما كان مساويا لها في منع الإجزاء إلا على وجه الاستحباب؛ ومن كان عنده أنه من باب التنبيه على الأمرين جميعا أعني على ما هو أشد من المنطوق به أو مساويا له قال: تمنع العيوب الشبيهة بالمنصوص عليها الإجزاء كما يمنعه العيوب التي هي أكبر منها، فهذا هو أحد أسباب الخلاف في هذه المسألة، وهو من قبل تردد اللفظ بين أن يفهم منه المعنى الخاص أو المعنى العام، ثم إن من فهم منه العام، فأي عام هو؟ هل الذي هو أكثر من ذلك؟ أو الذي هو أكثر والمساوي معا على المشهور من مذهب مالك؟ وأما السبب الثاني فإنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان، فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال: "يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن، فقال له النبي : ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك" وذكر علي بن أبي طالب قال "أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء" والشرقاء: المشقوقة الأذن. والخرقاء: المثقوبة الأذن. والمدابرة: التي قطع من جنبتي أذنها من خلف. فمن رجح حديث أبي بردة قال: لا يتقي إلا العيوب الأربع أو ما هو أشد منها؛ ومن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بين وحديث علي على الكثير الذي هو بين ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساو لها، ولذلك جرى أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء، فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب، وبعضهم اعتبر الأكثر؛ وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان وأطباء الثدي، وأما القرن فإن مالكا قال: ليس ذهاب جزء منه عيبا إلا أن يكون يدمى فإنه عنده من باب المرض، ولا خلاف في أن المرض البين يمنع الإجزاء. وخرج أبو داود "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أعصب الأذن والقرن" واختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين، فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز كالأجم ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب، وكل هذا الاختلاف راجع إلى ما قدمناه. واختلفوا في الأبتر؛ فقوم أجازوه لحديث جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري أنه قال "اشتريت كبشا لأضحي به، فأكل الذئب ذنبه، فسألت رسول الله ، فقال: ضح به" وجابر عند أكثر المحدثين لا يحتج به وقوم أيضا منعوه لحديث علي المتقدم. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي معرفة السن المشترطة في الضحايا فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز الجذع من المعز بل الثني فما فوقه لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة لما أمره بالإعادة "يجزيك، ولا يجذي جذع عن أحد غيرك" واختلفوا في الجذع من الضأن، فالجمهور على جوازه، وقال قوم: بل الثني من الضأن. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص، فالخصوص هو حديث جابر قال: قال رسول الله "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" خرجه مسلم. والعموم هو ما جاء في حديث أبي بردة بن نيار خرجه من قوله عليه الصلاة والسلام "ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" فمن رجح هذا العموم على الخصوص، وهو مذهب أبي محمد بن حزم في هذه المسألة لأنه زعم أن أبا الزبير مدلس عند المحدثين، والمدلس عندهم من ليس يجري العنعنة من قوله مجرى المسند لتسامحه في ذلك، وحديث أبي بردة لا مطعن فيه. وأما من ذهب إلى بناء الخاص على العام على ما هو مشهور عند جمهور الأصوليين فإنه استثنى من ذلك العموم جذع الضأن المنصوص عليها وهو الأولى، وقد صحح هذا الحديث أبو بكر بن صفور (هكذا بالأصل وليحرر)، وخطأ أبا محمد بن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي عدد ما يجزي من الضحايا عن المضحين فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: يجوز أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا عن نفسه وعن أهل بيته الذين تلزمه نفقتهم بالشرع، وكذلك عنده الهدايا؛ وأجاز الشافعي وأبو حنيفة وجماعة أن ينحر الرجل البدنة عن سبع، وكذلك البقرة مضحيا أو مهديا، وأجمعوا على أن الكبش لا يجزي إلا عن واحد، إلا ما رواه مالك من أنه يجزي أن يذبحه الرجل عن نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردا، وذلك لما روي عن عائشة أنها قالت "كنا بمنى فدخل علينا بلحم بقر، فقلنا ما هو؟ فقالوا: ضحى رسول الله عن أزواجه" وخالفه في ذلك أبو حنيفة والثوري على وجه الكراهة لا على وجه عدم الإجزاء. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للقياس المبني على الأثر الوارد في الهدايا، وذلك أن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، ولذلك اتفقوا على منع الاشتراك في الضأن، وإنما قلنا: إن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، لأن الأمر بالتضحية لا يتبعض إذ كان من كان له شرك في ضحية ليس ينطلق عليه اسم مضح إلا إن قام الدليل الشرعي على ذلك. وأما الأثر الذي انبنى عليه القياس المعارض لهذا الأصل فما روي عن جابر أنه قال "نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبع" وفي بعض روايات الحديث "سن رسول الله البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" فقاس الشافعي وأبو حنيفة الضحايا في ذلك على الهدايا؛ وأما مالك فرجح الأصل على القياس المبني على هذا الأثر لأنه اعتل لحديث جابر بأن ذلك كان حين صد المشركون رسول الله عن البيت، وهدي المحصر بعد ليس هو عنده واجبا وإنما هو تطوع، وهدي التطوع يجوز عنده فيه الاشتراك، ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب، لكن على القول بأن الضحايا غير واجبة فقد يمكن قياسها على هذا الهدي؛ وروي عنه ابن القاسم أنه لا يجوز الاشتراك لا في هدي تطوع ولا في هدي وجوب، وهذا كأنه رد للحديث لمكان مخالفته للأصل في ذلك، وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة. وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج ومن طريق ابن عباس وغيره "البدنة عن عشرة". وقال الطحاوي: وإجماعهم على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة، وإنما صار مالك لجواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته أو هدية لما رواه عن ابن شهاب أنه قال "ما نحر رسول الله عن أهل بيته إلا بدنة واحدة أو بقرة واحدة" وإنما خولف مالك في الضحايا في هذا المعنى، أعني في التشريك لأن الإجماع انعقد على منع التشريك فيه في الأجانب، فوجب أن يكون الأقارب في ذلك في قياس الأجانب، وإنما فرق مالك في ذلك بين الأجانب والأقارب لقياسه الضحايا على الهدايا في الحديث الذي احتج به: أعني حديث ان شهاب، فاختلافهم في هذه المسألة إذا رجع إلى تعارض الأقيسة في هذا الباب: أعني إما إلحاق الأقارب بالأجانب، وإما قياس الضحايا على الهدايا.

  • 3*الباب الثالث في أحكام الذبح.

@-ويتعلق بالذبح المختص بالضحايا النظر في الوقت والذبح. أما الوقت فإنهم اختلفوا فيه في ثلاثة مواضع: في ابتدائه وفي انتهائه وفي الليالي المتخللة له. فأما في ابتدائه، فإنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة لا يجوز لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام "من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم" وأمره بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة وقوله "أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلي ثم ننحر" إلى غير ذلك من الآثار الثابتة التي في هذا المعنى. واختلفوا فيمن ذبح قبل ذبح الإمام وبعد الصلاة، فذهب مالك إلى أنه لا يجوز لأحد ذبح أضحيته قبل ذبح الإمام؛ وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه جاء في بعضها "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر لمن ذبح قبل الصلاة أن يعيد الذبح"، وفي بعضها "أنه أمر لمن ذبح قبل ذبحه أن يعيد" وخرج هذا الحديث الذي فيه هذا المعنى مسلم؛ فمن جعل ذلك موطنين اشترط ذبح الإمام في جواز الذبح؛ ومن جعل لذلك موطنا واحدا قال: إنما يعتبر في إجزاء الذبح الصلاة فقط. وقد اختلفت الرواية في حديث أبي بردة ابن نيار، وذلك أن في بعض رواياته "أنه ذبح قبل الصلاة فأمره رسول الله أن يعيد الذبح" وفي بعضها "أنه ذبح قبل ذبح رسول الله فأمره بالإعادة" وإذا كان ذلك كذلك فحمل قول الراوي أنه ذبح قبل رسول الله ، وقول الآخر ذبح قبل الصلاة على موطن واحد أولى، وذلك أن من ذبح قبل الصلاة فقد ذبح قبل رسول الله ، فيجب أن يكون المؤثر في عدم الإجزاء إنما هو الذبح قبل الصلاة كما جاء في الآثار الثابتة في ذلك من حديث أنس وغيره "أن من ذبح قبل الصلاة فليعد" وذلك أن تأصيل هذا الحكم منه يدل بمفهوم الخطاب دلالة قوية أن الذبح بعد الصلاة يجزئ، لأنه لو كان هنالك شرط آخر مما يتعلق به إجزاء الذبح لم يسكت عنه رسول الله مع أن فرضه التبيين، ونص حديث أنس هذا قال: قال رسول الله يوم النحر "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" واختلفوا من هذا الباب في فرع مسكوت عنه، وهو متى يذبح من ليس له إمام من أهل القرى؟ فقال مالك: يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم؛ وقال الشافعي: يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون؛ وقال أبو حنيفة: من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه؛ وقال قوم: بعد طلوع الشمس؛ وكذلك اختلف أصحاب مالك في فرع آخر، وهو إذا لم يذبح الإمام في المصلى، فقال قوم: يتحرى ذبحه بعد انصرافه؛ وقال قوم: ليس يجب ذلك. وأما آخر زمان الذبح فإن مالكا قال: آخره اليوم الثالث من أيام النحر وذلك مغيب الشمس. فالذبح عنده هو في الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجماعة؛ وقال الشافعي والأوزاعي: الأضحى أربعة يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروي عن جماعة أنهم قالوا: الأضحى يوم واحد وهو يوم النحر خاصة؛ وقد قيل الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة وهو شاذ لا دليل عليه، وكل هذه الأقاويل مروية عن السلف. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور؛ وقيل العشر الأول من ذي الحجة. والسبب الثاني معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جبير بن مطعم، وذلك أنه ورد فيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية ورجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال "لا نحر إلا في هذه الأيام" ومن رأى الجمع بين الحديث والآية وقال لا معارضة بينهما إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية، مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد أيام الذبح، والحديث المقصود منه ذلك قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع إذ كان باتفاق من أيام التشريق، ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة بعد يوم النحر، إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: يوم النحر من أيام التشريق. وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين المتقدمين. وأما من قال يوم النحر فقط فبناء على أن المعلومات هي العشر الأول قال: وإذا كان الإجماع قد انعقد أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر وهي محل الذبح المنصوص عليها فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في الليالي التي تتخلل أيام النحر، فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ولا النحر. وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز ذلك. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في اسم اليوم، وذلك أنه مرة يطلقه العرب على النهار والليلة مثل قوله تعالى {فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام} ومرة يطلقه على الأيام دون الليالي مثل قوله تعالى {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} فمن جعل اسم اليوم يتناول الليل مع النهار في قوله تعالى {ليذكروا اسم الله في أيام معلومات} قال: يجوز الذبح بالليل والنهار في هذه الأيام؛ ومن قال ليس يتناول اسم اليوم الليل في هذه الآية قال: لا يجوز الذبح ولا النحر بالليل. والنظر هل اسم اليوم أظهر في أحدهما من الثاني، ويشبه أن يقال إنه أظهر في النهار منه في الليل، لكن إن سلمنا أن دلالته في الآية هي على النهار فقط لم يمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب، وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم، وهذا النوع من أنواع الخطاب هو من أضعفها حتى إنهم قالوا ما قال به أحد المتكلمين إلا الدقاق فقط إلا أن يقول قائل إن الأصل هو الحظر في الذبح، وقد ثبت جوازه بالنهار، فعلى من جوزه بالليل الدليل. وأما الذابح فإن العلماء استحبوا أن يكون المضحي هو الذي يلي ذبح أضحيته بيده، واتفقوا على أنه يجوز أن يوكل غيره على الذبح. واختلفوا هل تجوز الضحية إن ذبحها غيره بغير إذنه، فقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن يكون صديقا أو ولدا أو أجنبيا، أعني أنه يجوز أن كان صديقا أو ولدا، ولم يختلف المذهب فيما أحسب أنه إن كان أجنبيا أنها لا تجوز.

  • 3*الباب الرابع في أحكام لحوم الضحايا.

@-واتفقوا على أن المضحي مأمور أن يأكل من لحم أضحيته ويتصدق لقوله تعالى {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} وقوله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} ولقوله في الضحايا "كلوا وتصدقوا وادخروا". واختلف مذهب مالك هل يؤمر بالأكل والصدقة معا، أم هو مخير بين أن يفعل أحد الأمرين؟ أعني أن يأكل الكل أو يتصدق بالكل؟ وقال ابن المواز له أن يفعل أحد الأمرين؛ واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا: ثلثا للادخار، وثلثا للصدقة، وثلثا للأكل لقوله عليه الصلاة والسلام "فكلوا وتصدقوا وادخروا" وقال عبد الوهاب في الأكل إنه ليس بواجب في المذاهب خلافا لقوم أوجبوا ذلك، وأظن أهل الظاهر يوجبون تجزئة لحوم الضحايا إلى الأقسام الثلاثة التي يتضمنها الحديث والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز مع لحمها، واختلفوا في جلدها وشعرها وما عدا ذلك مما ينتفع به منها، فقال الجمهور: لا يجوز يبعه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدراهم والدنانير: أي بالعروض. وقال عطاء: يجوز بكل شيء دراهم ودنانير وغير ذلك، وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها، لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب والحمد لله.

  • 2*كتاب الذبائح

@-والقول المحيط بقواعد هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول: في معرفة محل الذبح والنحر، وهو المذبوح أو المنحور. الباب الثاني: في معرفة الذبح والنحر. الباب الثالث: في معرفة الآلة التي بها يكون الذبح والنحر. الباب الرابع: في معرفة شروط الذكاة. الباب الخامس: في معرفة الذابح والناحر والأصول هي الأربعة، والشروط يمكن أن تدخل في الأربعة الأبواب والأسهل في التعليم أن يجعل بابا على حدته.

  • 3*الباب الأول في معرفة محل الذبح والنحر.

@-والحيوان في اشتراط الذكاة في أكله على قسمين: حيوان لا يحل إلا بذكاة، وحيوان يحل بغير ذكاة. ومن هذه ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه. واتفقوا على أن الحيوان الذي يعمل فيه الذبح هو الحيوان البري ذو الدم الذي ليس بمحرم ولا منفوذ المقاتل ولا ميئوس منه بوقذ أو نطح أو ترد أو افتراس سبع أو مرض، وأن الحيوان البحري ليس يحتاج إلى ذكاة. واختلفوا في الحيوان الذي ليس يدمي مما يجوز أكله مثل الجراد وغيره هل له ذكاة أم لا؟ وفي الحيوان المدمي الذي يكون تارة في البحر وتارة في البر مثل السلحفاة وغيره. واختلفوا في تأثير الذكاة في الأصناف التي نص عليها في آية التحريم وفي تأثير الذكاة فيما لا يحل أكله، أعني في تحليل الانتفاع بجلودها وسلب النجاسة عنها، ففي هذا الباب إذا ست مسائل أصول: المسألة الأولى: في تأثير الذكاة في الأصناف الخمسة التي نص عليها في الآية إذا أدركت حية. المسألة الثانية: في تأثير الذكاة في الحيوان المحرم الأكل. المسألة الثالثة: في تأثير الذكاة في المريضة. المسألة الرابعة: في هل ذكاة الجنين ذكاة أمه أم لا؟ المسألة الخامسة: هل للجراد ذكاة أم لا؟ المسألة السادسة: هل للحيوان الذي يأوي في البر تارة وفي البحر تارة ذكاة أم لا؟. @-(المسألة الأولى) أما المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنهم اتفقوا فيما أعلم أنه إذا لم يبلغ الخنق منها أو الوقذ منها إلى حالة لا يرجى فيها أن الذكاة عاملة فيها، أعني أنه إذا غلب على الظن أنها تعيش، وذلك بأن لا يصاب لها مقتل. واختلفوا إذا غلب على الظن أنها تهلك من ذلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال قوم: تعمل الذكاة فيها، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قول الشافعي، وهو قول الزهري وابن عباس؛ وقال قوم: لا تعمل الذكاة فيها؛ وعن مالك في ذلك الوجهان، ولكن الأشهر أنها لا تعمل في الميئوس منها: وبعضهم تأول في المذهب أن الميئوس منها على ضربين ميئوسة مشكوك فيها، وميئوسة مقطوع بموتها وهي المنفوذة المقاتل على اختلاف بينهم أيضا في المقاتل قال: فأما الميئوسة المشكوك فيها ففي المذهب فيها روايتان مشهورتان؛ وأما المنفوذة المقاتل فلا خلاف في المذهب المنقول أن الذكاة لا تعمل فيها وإن كان يتخرج فيها الجواز على وجه ضعيف. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {إلا ما ذكيتم} هل هو استثناء متصل فيخرج من الجنس بعض ما يتناوله اللفظ وهو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع على عادة الاستثناء المتصل، أم هو استثناء منقطع لا تأثير له في الجملة المتقدمة، إذ كان هذا أيضا شأن الاستثناء المنقطع في كلام العرب، فمن قال إنه متصل قال: الذكاة تعمل في هذه الأصناف الخمسة؛ وأما من قال الاستثناء منقطع فإنه قال: لا تعمل الذكاة فيها. وقد احتج من قال: إن الاستثناء متصل بإجماعهم على أن الذكاة تعمل في المرجو منها قال: فهذا يدل على أن الاستثناء له تأثير فيها فهو متصل. وقد احتج أيضا من رأى أنه منقطع بأن التحريم لم يتعلق بأعيان هذه الأصناف الخمسة وهي حية وإنما يتعلق بها بعد الموت، وإذا كان ذلك كذلك فالاستثناء منقطع، وذلك أن معنى قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} إنما هو لحم الميتة، وكذلك لحم الموقوذة والمتردية والنطيحة وسائرها: أي لحم الميتة بهذه الأسباب سوى التي تموت من تلقاء نفسها، وهي التي تسمى ميتة أكثر ذلك في كلام العرب أو بالحقيقة قالوا، فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق التحريم بأعيان هذه وهي حية، وإنما علق بها بعد الموت، لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة بدليل اشتراط الذكاة فيها، وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" وجب أن يكون قوله {إلا ما ذكيتم} استثناء منقطعا، لكن الحق في ذلك أن كيفما كان الأمر في الاستثناء فواجب أن تكون الذكاة تعمل فيها، وذلك أنه إن علقنا التحريم بهذه الأصناف في الآية بعد الموت وجب أن تدخل في التذكية من جهة ما هي حية الأصناف الخمسة وغيرها، لأنها ما دامت حية مساوية لغيرها في ذلك من الحيوان، أعني أنها تقبل الحلية من قبل التذكية التي الموت منها هو سبب الحلية، وإن قلنا إن الاستثناء متصل فلا خفاء بوجوب ذلك، ويحتمل أن يقال: إن عموم التحريم يمكن أن يفهم منه تناول أعيان هذه الخمسة بعد الموت وقبله كالحال في الخنزير الذي لا تعمل فيه الذكاة، فيكون الاستثناء على هذا رافعا لتحريم أعيانها بالتنصيص على عمل الذكاة فيها، وإذا كان ذلك كذلك لم يلزم ما اعترض به ذلك المعترض من الاستدلال على كون الاستثناء منقطعا. وأما من فرق بين المنفوذة المقاتل والمشكوك فيها فيحتمل أن يقال إن مذهبه أن الاستثناء منقطع وأنه إنما جاز تأثير الذكاة في المرجوة بالإجماع، وقاس المشكوكة على المرجوة. ويحتمل أن يقال إن الاستثناء متصل، ولكن استثناء هذا الصنف من الموقوذة بالقياس، وذلك أن الذكاة إنما يجب أن تعمل في حين يقطع أنها سبب الموت، فأما إذا شك هل كان موجب الموت الذكاة أو الوقذ أو النطح أو سائرها فلا يجب أن تعمل في ذلك وهذه هي حال المنفوذة المقاتل، وله أن يقول إن المنفوذة المقاتل في حكم الميتة والذكاة من شرطها أن ترفع الحياة الثابتة لا الحياة الذاهبة. @-(المسألة الثانية) وأما هل تعمل الذكاة في الحيوانات المحرمات الأكل حتى تطهر بذلك جلودهم، فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك؛ فقال مالك: الذكاة تعمل في السباع وغيرها ما عدا الخنزير، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه اختلف المذهب في كون السباع فيه محرمة أو مكروهة على ما سيأتي في كتاب الأطعمة والأشربة. وقال الشافعي: الذكاة تعمل في كل حيوان محرم الأكل (ليس هذا مشهور مذهب الشافعي فليراجع ا هـ مصححه) فيجوز بيع جميع أجزائه والانتفاع بها ماعدا اللحم. وسبب الخلاف هل جميع أجزاء الحيوان تابعة للحم في الحلية والحرمة، أم ليست بتابعة للحم؟ فمن قال إنها تابعة للحم قال: إذا لم تعمل الذكاة في اللحم لم تعمل فيما سواه؛ ومن رأى أنها ليست بتابعة قال: وإن لم تعمل في اللحم فإنها تعمل في سائر أجزاء الحيوان، لأن الأصل أنها تعمل في جميع الأجزاء، فإذا ارتفع بالدليل المحرم للحم عملها في اللحم بقي عملها في سائر الأجزاء إلا أن يدل الدليل على ارتفاعه. @-(المسألة الثالثة) واختلفوا في تأثير الذكاة في البهيمة التي أشرفت على الموت من شدة المرض بعد اتفاقهم على عمل الذكاة في التي تشرف على الموت، فالجمهور على أن الذكاة تعمل فيها وهو المشهور عن مالك، وروي عنه أن الذكاة لا تعمل فيها. وسبب الخلاف معارضة القياس للأثر. فأما الأثر فهو ما روي "أن أمة لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيب شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله فقال: كلوها" خرجه البخاري ومسلم. وأما القياس فلأن المعلوم من الذكاة أنها إنما تفعل في الحي وهذه في حكم الميت وكل من أجاز ذبحها فإنهم اتفقوا على أنه لا تعمل الذكاة فيها إلا إذا كان فيها دليل على الحياة. واختلفوا فيما هو الدليل المعتبر في ذلك، فبعضهم اعتبر الحركة وبعضهم لم يعتبرها، والأول مذهب أبي هريرة والثاني مذهب زيد بن ثابت؛ وبعضهم اعتبر فيها ثلاث حركات: طرف العين وتحريك الذنب والركض بالرجل، وهو مذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وهو الذي اختاره محمد بن المواز وبعضهم شرط مع هذه التنفس، وهو مذهب ابن حبيب. @-(المسألة الرابعة) واختلفوا هل تعمل ذكاة الأم في جنينها أم ليس تعمل فيه؟ وإنما هو ميتة، أعني إذا خرج منها بعد ذبح الأم؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن ذكاة الأم ذكاة لجنينها، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال أبو حنيفة: إن خرج حيا ذبح وأكل، وإن خرج ميتا فهو ميتة. والذين قالوا: إن ذكاة الأم ذكاة له بعضهم اشترط في ذلك تمام خلقته ونبات شعره، وبه قال مالك؛ وبعضهم لم يشترط ذلك، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر المروي في ذلك من حديث أبي سعيد الخدري مع مخالفته للأصول، وحديث أبي سعيد هو قال "سألنا رسول الله عن البقرة أو الناقة أو الشاة ينحرها أحدنا فنجد في بطنها جنينا أنأكله أو نلقه؟ فقال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وخرج مثله الترمذي وأبو داود عن جابر. واختلفوا في تصحيح هذا الأثر فلم يصححه بعضهم وصححه بعضهم وأحد من صححه الترمذي. وأما مخالفة الأصل في هذا الباب للأثر، فهو أن الجنين إذا كان حيا ثم مات بموت أمه فإنما يموت خنقا فهو من المنخنقة التي ورد النص بتحريمها، وإلى تحريمه ذهب أبو محمد بن حزم ولم يرض سند الحديث. وأما اختلاف القائلين بحليته في اشتراطهم نبات الشعر فيه أو لا اشتراطه فالسبب فيه معارضة العموم للقياس، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "ذكاة الجنين ذكاة أمه" يقتضي أن لا يقع هنالك تفصيل وكونه محلا للذكاة يقتضي أن يشترط فيه الحياة قياسا على الأشياء التي تعمل فيها التذكية، والحياة لا توجد إلا فيه إذا نبت شعره وتم خلقه، يعضد هذا القياس أن هذا الشرط مروي عن ابن كعب وعن جماعة من الصحابة. وروى معمر عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وروى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أن ابن أبي ليلى سيء الحفظ عندهم، والقياس يقتضي أن تكون ذكاته في ذكاة أمه من قبل أنه جزء منها، وإذا كان ذلك كذلك، فلا معنى لاشتراط الحياة فيه، فيضعف أن يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس الذي تقدم ذكره عن أصحاب مالك. @-(المسألة الخامسة) واختلفوا في الجراد؛ فقال مالك: لا يؤكل من غير ذكاة وذكاته عنده هو أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك. وقال عامة الفقهاء: يجوز أكل ميتته، وبه قال مطرف؛ وذكاة ما ليس بذي دم عند مالك كذكاة الجراد. وسبب اختلافهم في ميتة الجراد هو هل يتناوله اسم الميتة أم لا في قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} وللخلاف سبب آخر وهو هل هو نثرة حوت أو حيوان بري. @-(المسألة السادسة) واختلفوا في الذي يتصرف في البر والبحر هل يحتاج إلى ذكاة أم لا؟ فغلب قوم فيه حكم البر وغلب آخرون حكم البحر، واعتبر آخرون حيث يكون عيشه ومتصرفه منهما غالبا.

  • 3*الباب الثاني في الذكاة.

@-وفي قواعد هذا الباب مسئلتان: المسألة الأولى: في أنواع الذكاة المختصة بصنف صنف من بهيمة الأنعام. الثانية: في صفة الذكاة. @-(المسألة الأولى) واتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح، وأن من سنة الغنم والطير الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر. واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير ولا الذبح في الإبل، وذلك في غير موضع الضرورة: وقال قوم: يجوز جميع ذلك من غير كراهة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من العلماء. وقال أشهب: إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل ولكنه يكره. وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال: يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة. وسبب اختلافهم معارضة الفعل للعموم. فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا" وأما الفعل، فإنه ثبت أن رسول الله نحر الإبل والبقر وذبح الغنم، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وعلى ذبح الغنم لقوله تعالى في الكبش {وفديناه بذبح عظيم} . @-(المسألة الثانية) وأما صفة الذكاة فإنهم اتفقوا على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمرئ والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا من ذلك في مواضع: أحدها هل الواجب قطع الأربعة كلها أو بعضها؟ وهل الواجب في المقطوع منها قطع الكل أو الأكثر؟ وهل من شرط القطع أن لا تقع الجوزة إلى جهة البدن بل إلى جهة الرأس، وهل إن قطعها من جهة العنق جاز أكلها أم لا؟ وهل إن تمادى في قطع هذه حتى قطع النخاع جاز ذلك أم لا؟ وهل من شرط الذكاة أن لا يرفع يده حتى يتم الذكاة أم لا؟ فهذه ست مسائل في عدد المقطوع وفي مقداره وفي موضعه وفي نهاية القطع وفي جهته أعني من قدام أو خلف وفي صفته. @-(أما المسألة الأولى) فإن المشهور عن مالك في ذلك هو قطع الودجين والحلقوم وأنه لا يجزئ أقل من ذلك: وقيل عنه بل الأربعة؛ وقيل بل الودجين فقط، ولم يختلف المذهب في أن الشرط في قطع الودجين هو استيفاؤهما. واختلف في قطع الحلقوم على القول بوجوبه فقيل كله، وقيل أكثره. وأما أبو حنيفة فقال: الواجب في التذكية هو قطع ثلاثة غير معينة من الأربعة، إما الحلقوم والودجان، وإما المرئ والحلقوم وأحد الودجين، أو المرئ والودجان. وقال الشافعي: الواجب قطع المرئ والحلقوم فقط. وقال محمد بن الحسن: الواجب قطع أكثر كل واحد من الأربعة. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك شرط منقول، وإنما جاء في ذلك أثران: أحدهما يقتضي إنهار الدم فقط، والآخر يقتضي قطع الأوداج مع إنهار الدم؛ ففي حديث رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" وهو حديث متفق على صحته. وروي عن أبي أمامة عن النبي أنه قال "ما فرى الأوداج فكلوا ما لم يكن رض ناب أو نحر ظفر" فظاهر الحديث الأول يقتضي قطع بعض الأوداج فقط لأن إنهار الدم يكون بذلك، وفي الثاني قطع جميع الأوداج، فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين، إما أحدهما أو البعض من كليهما أو من واحد منهما، ولذلك وجه الجمع بين الحديثين أن يفهم من لام التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام "ما فرى الأوداج" البعض لا الكل، إذ كانت لام التعريف في كلام العرب قد تدل على البعض وأما من اشترط قطع الحلقوم والمرئ فليس له حجة من السماع وأكثر من ذلك من اشترط المرئ والحلقوم دون الودجين، ولهذا ذهب قوم إلى أن الواجب هو قطع ما وقع الإجماع على جوازه، لأن الذكاة لما كانت شرطا في التحليل ولم يكن في ذلك نص فيما يجري وجب أن يكون الواجب في ذلك ما وقع الإجماع على جوازه، إلا أن يقوم الدليل على جواز الاستثناء من ذلك وهو ضعيف، لأن ما وقع الإجماع على إجزائه ليس يلزم أن يكون شرطا في الصحة. @-(وأما المسألة الثالثة) في موضع القطع وهي إن لم يقطع الجوزة في نصفها وخرجت إلى جهة البدن فاختلف فيه في المذهب؛ فقال مالك وابن القاسم: لا تؤكل؛ وقال أشهب وابن عبد الحكم وابن وهب تؤكل. وسبب الخلاف هل قطع الحلقوم شرط في الذكاة أو ليس بشرط؟ فمن قال إنه شرط قال: لا بد أن تقطع الجوزة، لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليما؛ ومن قال إنه ليس بشرط قال: إن قطع فوق الجوزة جاز. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي إن قطع أعضاء الذكاة من ناحية العنق، فإن المذهب لا يختلف أنه لا يجوز وهو مذهب سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهم وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور، وروي ذلك عن ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين. وسبب اختلافهم هل تعمل الذكاة في المنفوذة المقاتل أم لا تعمل، وذلك أن القاطع لأعضاء الذكاة من القفا لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع وهو مقتل من المقاتل، فترد الذكاة على حيوان قد أصيب مقتله، وقد تقدم سبب الخلاف في هذه المسألة. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي أن يتمادى الذابح بالذبح حتى يقطع النخاع، فإن مالكا كره ذلك إذا تمادى في القطع ولم ينو قطع النخاع من أول الأمر، لأنه إن نوى ذلك فكأنه نوى التذكية على غير الصفة الجائزة. وقال مطرف وابن الماجشون: لا تؤكل إن قطعها متعمدا دون جهل، وتؤكل إن قطعها ساهيا أو جاهلا. @-(وأما المسألة السادسة) وهي هل من شرط الذكاة أن تكون في فور واحد فإن المذهب لا يختلف أن ذلك من شرط الذكاة، وأنه إذا رفع يده قبل تمام الذبح ثم أعادها، وقد تباعد ذلك أن تلك الذكاة لا تجوز. واختلفوا إذا أعاد يده بفور ذلك وبالقرب، فقال ابن حبيب: إن أعاد يده بالفور أكلت؛ وقال سحنون: لا تؤكل؛ وقيل إن رفعها لمكان الاختبار هل تمت الذكاة أم لا فأعادها على الفور إن تبين له أنها لم تتم أكلت وهو أحد ما تؤول على سحنون وقد تؤول قوله على الكراهة. قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل عكس هذا لكان أجود، أعني أنه إذا رفع يده وهو يظن أنه قد أتم الذكاة فتبين له غير ذلك فأعادها أنها تؤكل، لأن الأول وقع عن شك وهذا عن اعتقاد ظنه يقينا وهذا مبني على أن من شرط الذكاة قطع كل أعضاء الذكاة، فإذا رفع يده قبل أن تستتم كانت منفوذة المقاتل غير مذكاة، فلا تؤثر فيها العودة، لأنها بمنزلة ذكاة طرأت على المنفوذة المقاتل.

  • 3*الباب الثالث فيما تكون به الذكاة.

@-أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو عود أو قضيب أن التذكية به جائزة. واختلفوا في ثلاثة: في السن والظفر والعظم، فمن الناس من أجاز التذكية بالعظم ومنعها بالسن والظفر، والذين منعوها بالسن والظفر منهم من فرق بين أن يكونا منزوعين أو لا يكونا منزوعين، فأجاز التذكية بهما إذا كانا منزوعين ولم يجزها إذا كانا متصلين؛ ومنهم من قال: إن الذكاة بالسن والعظم مكروهة غير ممنوعة، ولا خلاف في المذهب أن الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم، واختلف في السن والظفر فيه على الأقاويل الثلاثة، أعني بالمنع مطلقا، والفرق فيهما بين الانفصال والاتصال وبالكراهية لا بالمنع. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم النهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث رافع بن خديج، وفيه قال "يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فنذبح بالقصب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عنه، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" فمن الناس من فهم منه أن ذلك لمكان أن هذه الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالبا؛ ومنهم من فهم من ذلك أنه شرع غير معلل، والذين فهموا منه أنه شرع غير معلل: منهم من اعتقد أن النهي في ذلك يدل على فساد المنهي عنه؛ ومنهم من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهى عنه؛ ومنهم من اعتقد أن النهي في ذلك على وجه الكراهة لا على وجه الحظر، فمن فهم أن المعنى في ذلك أنه لا ينهر الدم غالبا قال: إذا وجد منهما ما ينهر الدم جاز، ولذلك رأى بعضهم أن يكونا منفصلين إذ كان إنهار الدم منهما إذا كانا بهذه الصفة أمكن، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومن رأى أن النهي عنهما هو مشروع غير معلل وأنه يدل على فساد المنهى عنه قال: إن ذبح بهما لم تقع التذكية، وإن أنهر الدم؛ ومن رأى أنه لا يدل على فساد المنهى عنه قال: إن فعل وأنهر الدم أثم وحلت الذبيحة؛ ومن رأى أن النهي على وجه الكراهية كره ذلك ولم يحرمه، ولا معنى لقول من فرق بين العظم والسن، فإنه عليه الصلاة والسلام قد علل المنع في السن بأنه عظم، ولا يختلف المذهب أنه يكره غير الحديد من المحدودات مع وجود الحديد لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" خرجه مسلم.

  • 3*الباب الرابع في شروط الذكاة.

@-وفي هذا الباب ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في اشتراط التسمية. الثانية: في اشتراط البسملة. الثالثة: في اشتراط النية. @-(المسألة الأولى) واختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال: فقيل هي فرض على الإطلاق وقيل بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان؛ وقيل بل هي سنة مؤكدة، وبالقول الأول قال أهل الظاهر وابن عمر والشعبي وابن سيرين، وبالقول الثاني قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وبالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر. فأما الكتاب فقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} . وأما السنة المعارضة لهذه الآية فما رواه مالك عن هشام عن أبيه أنه قال "سئل رسول الله فقيل: يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا؟ فقال رسول الله : سموا الله عليها ثم كلوها" فذهب مالك إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام ولم ير ذلك الشافعي، لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة وآية التسمية مكية، فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب. وأما من اشترط الذكر في الوجوب فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". @-(المسألة الثانية) وأما استقبال القبلة بالذبيحة، فإن قوما استحبوا ذلك، وقوما أجازوا ذلك، وقوما أوجبوه، وقوما كرهوا أن لا يستقبل بها القبلة، والكراهية والمنع موجودان في المذهب، وهي مسألة مسكوت عنها، والأصل فيها الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك، وليس في الشرع شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس عليه هذه المسألة إلا أن يستعمل فيها قياس مرسل وهو القياس الذي لا يستند إلى أصل مخصوص عند من أجازه أو قياس شبه بعيد وذلك أن القبلة هي جهة معظمة وهذه عبادة، فوجب أن يشترط فيها الجهة لكن هذا ضعيف لأنه ليس كل عبادة تشترط فيها الجهة ما عدا الصلاة، وقياس الذبح على الصلاة بعيد، وكذلك قياسه على استقبال القبلة بالميت. @-(المسألة الثالثة) وأما اشتراط النية فيها فقيل في المذهب بوجوب ذلك، ولا أذكر فيها خارج المذهب في هذا الوقت خلافا في ذلك، ويشبه أن يكون في ذلك قولان: قول بالوجوب، وقول بترك الوجوب، فمن أوجب قال: عبادة لاشتراط الصفة فيها والعدد، فوجب أن يكون من شرطها النية؛ ومن لم يوجبها قال: فعل معقول يحصل عنه فوات النفس الذي هو المقصود منه، فوجب أن لا تشترط فيها النية كما يحصل من غسل النجاسة إزالة عينها.

  • 3*الباب الخامس فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز.

@-والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف: صنف اتفق على جواز تذكيته، وصنف اتفق على منع ذكاته، وصنف اختلف فيه. فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته فمن جمع خمسة شروط: الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضيع الصلاة. وأما الذي اتفق على منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى {وما ذبح على النصب} ولقوله {وما أهل به لغير الله} وأما الذين اختلف فيهم فأصناف كثيرة، لكن المشهور منها عشرة: أهل الكتاب والمجوس والصابئون والمرأة والصبي والمجنون والسكران والذي يضيع الصلاة والسارق والغاصب. فأما أهل الكتاب فالعلماء مجمعون على جواز ذبائحهم لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} ومختلفون في التفصيل، فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين وذبحوا لأنفسهم وعلم أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها هم على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم. واختلفوا في مقابلات هذه الشروط، أعني إذا ذبحوا لمسلم باستنابته أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين، وإذا لم يعلم أنهم سموا الله أو جهل مقصود ذبحهم أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى {كل ذي ظفر} أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية، وكذلك اختلفوا في الشحوم. فأما إذا ذبحوا باستنابة مسلم فقيل في المذهب عن مالك يجوز وقيل لا يجوز. وسبب الاختلاف هل من شرط ذبح المسلم اعتقاد تحليل الذبيحة على الشروط الإسلامية في ذلك أم لا؟ فمن رأى أن النية شرط في الذبيحة قال: لا تحل ذبيحة الكتابي لمسلم، لأنه لا يصح منه وجود هذه النية. ومن رأى أن ذلك ليس بشرط وغلب عموم الكتاب: أعني قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال يجوز، وكذلك من اعتقد أن نية المستنيب تجزئ وهو قول ابن وهب. (وأما المسألة الثانية) وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين، فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب، وهو قول ابن عباس؛ ومنهم من لم يجز ذبائحهم، وهو أحد قولي الشافعي، وهو مروى عن علي رضي الله عنه. وسبب الخلاف هل يتناول العرب المتنصرين والمتهودين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنو إسرائيل والروم. وأما المرتد فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل. وقال اسحاق: ذبيحته جائزة؛ وقال الثوري: مكروهة. وسبب الخلاف هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناوله؟ (وأما المسألة الثالثة) وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور: تؤكل، وهو مروى عن علي، ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا، ويتطرق إليه الإحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام؛ فإذا قيل على هذا أن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك. وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه، وهو قول مالك؛ ومنهم من أباحه، وهو قول أشهب؛ ومنهم من حرمه، وهو الشافعي. وسبب اختلافهم تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب، وذلك أن قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى {وما أهل به لغير الله} ويحتمل أن يكون قوله تعالى {وما أهل به لغير الله} مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر، فمن جعل قوله تعالى وما أهل به لغير الله مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد؛ ومن عكس الأمر قال: يجوز. وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم، فقيل يجوز؛ وقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن تكون محرمة عليهم بالتوراة أو من قبل أنفسهم، أعني بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم؛ وقيل يكره ولا يمنع. والأقاويل الأربعة موجودة في المذهب: المنع عن ابن القاسم، والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم، والتفرقة عن أشهب. وأصل الاختلاف معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة: أعني اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية؛ فمن قال ذلك شرط في التذكية قال لا تجوز هذه الذبائح لأنهم لا يعتقدون تحليلها بالتذكية؛ ومن قال ليس بشرط فيها وتمسك بعموم الآية المحللة قال: تجوز هذه الذبائح. وهذا بعينه هو سبب اختلافهم في أكل الشحوم من ذبائحهم، ولم يخالف في ذلك أحد غير مالك وأصحابه؛ فمنهم من قال: إن الشحوم محرمة وهو قول أشهب؛ ومنهم من قال مكروهة، والقولان عن مالك؛ ومنهم من قال مباحة. ويدخل في الشحوم سبب آخر من أسباب الخلاف سوى معارضة العموم لاشتراط اعتقاد تحليل الذبيحة بالذكاة، وهو هل تتبعض التذكية أو لا تتبعض؟ فمن قال تتبعض قال: لا تؤكل الشحوم؛ ومن قال لا تتبعض قال: يؤكل الشحم. ويدل على تحليل شحوم ذبائحهم حديث عبد الله بن مغفل إذ أصاب جراب الشحم يوم خيبر، وقد تقدم في كتاب الجهاد. ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم قال: ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة، وما حرموا على أنفسهم هو أمر باطل فتعمل فيه التذكية. قال القاضي: والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع، فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك، ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه، لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا، ولاعتقاد شريعتنا لا يصح منهم، وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به، فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. وأما المجوس فإن الجمهور على أنه لا تجوز ذبائحهم لأنهم مشركون، وتمسك قوم في إجازتها بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وأما الصائبون فالاختلاف فيهم من قبل اختلافهم في هل هم من أهل الكتاب أم ليسوا من أهل الكتاب. وأما المرأة والصبي فإن الجمهور على أن ذبائحهم جائزة غير مكروهة، وهو مذهب مالك، وكره ذلك أبو المصعب. والسبب في اختلافهم. نقصان المرأة والصبي، وإنما لم يختلف الجمهور في المرأة لحديث معاذ بن سعيد "أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى بسلع فأصيبت شاة فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل رسول الله عن ذلك فقال: لا بأس بها فكلوها" وهو حديث صحيح. وأما المجنون والسكران فإن مالكا لم يجز ذبيحتهما، وأجاز ذلك الشافعي. وسبب الخلاف اشتراط النية في الذكاة، فمن اشترط النية منع ذلك إذ لا يصح من الجنون ولا من السكران وبخاصة الملتخ (الملتخ: الملطخ، قاموس). وأما جواز تذكية السارق والغاصب، فإن الجمهور على جواز ذلك؛ ومنهم من منع ذلك ورأى أنها ميتة، وبه قال داود وإسحاق بن راهويه. وسبب اختلافهم هل النهي يدل على فساد المنهى عنه أو لا يدل؟ فمن قال يدل قال: السارق والغاصب منهى عن ذكاتها وتناولها وتملكها، فإذا كان ذكاها فسدت التذكية؛ ومن قال لا يدل إلا إذا كان المنهى عنه شرطا من شروط ذلك الفعل قال: تذكيتهم جائزة لأنه ليس صحة الملك شرطا من شروط التذكية. وفي موطأ ابن وهب "أنه سئل رسول الله عنها فلم ير بها بأسا" وقد جاء إباحة ذلك مع الكراهية فيما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها، فقال رسول الله "أطعموها الأسارى" وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب والله أعلم.

  • 2*كتاب الصيد.

@-وهذا الكتاب في أصوله أيضا أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الصيد وفي محل الصيد. الثاني: فيما به يكون الصيد. الثالث: في صفة ذكاة الصيد والشرائط المشترطة في عمل الذكاة في الصيد. الرابع: فيمن يجوز صيده.

  • 3*الباب الأول في حكم الصيد ومحله.

@-فأما حكم الصيد فالجمهور على أنه مباح لقوله تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} ثم قال {وإذا حللتم فاصطادوا} واتفق العلماء على أن الأمر بالصيد في هذه الآية بعد النهي يدل على الإباحة كما اتفقوا على ذلك في قوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} أعني أن المقصود به الإباحة لوقوع الأمر به بعد النهي وإن كان اختلفوا هل الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة أو لا يقتضيه وإنما يقتضي على أصله الوجوب؛ وكره مالك الصيد الذي يقصد به السرف، وللمتأخرين من أصحابه فيه تفصيل محصول قولهم فيه إن منه ما هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم حرام، وفي حق بعضهم مندوب، وفي حق بعضهم مكروه؛ وهذا النظر في الشرع تغلغل في القياس وبعد عن الأصول المنطوق بها في الشرع، فليس يليق بكتابنا هذا إذ كان قصدنا فيه إنما هو ذكر المنطوق به من الشرع أو ما كان قريبا من المنطوق به. وأما محل الصيد فإنهم أجمعوا على أن محله من الحيوان البحري وهو السمك وأصنافه، ومن الحيوان البري الحلال الأكل الغير مستأنس. واختلفوا فيما استوحش من الحيوان المستأنس فلم يقدر على أخذه ولا ذبحه أو نحره، فقال مالك: لا يؤكل إلا أن ينحر، من ذلك ما ذكاته النحر، ويذبح ما ذكاته الذبح، أو يفعل به أحدهما إن كان مما يجوز فيه الأمران جميعا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم يقدر على ذكاة البعير الشارد فإنه يقتل كالصيد. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للخبر، وذلك أن الأصل في هذا الباب هو أن الحيوان الإنسي لا يؤكل إلا بالذبح أو النحر، وأن الوحشي يؤكل بالعقر. وأما الخبر المعارض لهذه الأصول، فحديث رافع بن خديج وفيه قال "فند منها بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله تعالى به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا" والقول بهذا الحديث أولى لصحته، لأنه لا ينبغي أن يكون هذا مستثنى من ذلك الأصل مع أن لقائل أن يقول إنه جار مجرى الأصل في هذا الباب، وذلك أن العلة في كون العقر ذكاة في بعض الحيوان ليس شيئا أكثر من عدم القدرة عليه، لا لأنه وحشي فقط، فإذا وجد هذا المعنى من الإنسي جاز أن تكون ذكاته ذكاة الوحشي، فيتفق القياس والسماع.

  • 3*الباب الثاني فيما يكون به الصيد.

@-والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان: الآية الأولى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} . والثانية قوله تعالى {قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} الآية. وأما الحديثان: فأحدهما حديث عدي بن حاتم، وفيه أن رسول الله قال له "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك، وإن أكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وسأله عن المعراض فقال "إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب. والحديث الثاني حديث أبي ثعلبة الخشني، وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام "ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل" وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما. والآلات التي يصاد بها منها ما اتفقوا عليها بالجملة. ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها، وهي ثلاث: حيوان جارح ومحدد ومثقل. فأما المحدد فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام للنص عليها في الكتاب والسنة. وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي وهي السن والظفر والعظم وقد تقدم اختلافهم في ذلك فلا معنى لإعادته. وأما المثقل فاختلفوا في الصيد به مثل الصيد بالمعراض والحجر؛ فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته؛ ومنهم من أجازه على الإطلاق؛ ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد فأجازه إذا خرق ولم يجزه إذا لم يخرق، وبهذا القول قال مشاهير الفقهاء الأمصار الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم. وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد. وسبب اختلافهم معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لها، وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع، ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد؛ فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق؛ ومن رآه عقرا مختصا بالصيد وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق؛ ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث عدي ابن حاتم المتقدم وهو الصواب. وأما الحيوان الجارح فالاتفاق والاختلاف فيه منه متعلق بالنوع والشرط، ومنه ما يتعلق بالشرط. فأما النوع الذي اتفقوا عليه فهو الكلاب ما عدا الكلب الأسود، فإنه كرهه قوم منهم الحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة؛ وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال إسحاق. وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما. وسبب اختلافهم معارضة القياس للعموم، وذلك أن عموم قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك "وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم" يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهى عنه، وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية؛ فمنهم من أجاز جميعها إذا علمت حتى السنور كما قال ابن شعبان، وهو مذهب مالك وأصحابه، وبه قال فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس، أعني أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد. وقال قوم: لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب ولا باز ولا صقر ولا غير ذلك إلا ما أدركت ذكاته، وهو قول مجاهد؛ واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال: يجوز صيده وحده. وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان: أحدهما قياس سائر الجوارح على الكلاب، وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب، أعني قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} إلا أن يتأول أن لفظه مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب، ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية، فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظه مكلبين. والسبب الثاني هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد في غير الكلب أو لا يوجد؟ فمن قال لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب وأن لفظه مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب: أعني على صاحبه وأن ذلك شرط قال: لا يصاد بجارح سوى الكلب؛ ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال: يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم. وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال "سألت رسول الله عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فكل" خرجه الترمذي فهذه هي أسباب اتفاقهم واختلافهم في أنواع الجوارح. وأما الشروط المشترطة في الجوارح فإن منها ما اتفقوا عليه وهو التعليم بالجملة لقوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا أرسلت كلبك المعلم" واختلفوا في صفة التعليم وشروطه، فقال قوم: التعليم ثلاثة أصناف: أحدها أن تدعو الجارح فيجيب. والثاني أن تشيله فينشلى. والثالث أن تزجره فيزدجر. ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب، وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح، فاختلفوا أيضا في هل من شرطه أن لا يأكل الجارح؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق؛ ومنهم من اشترطه في الكلب فقط؛ وقول مالك: إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها؛ وقال ابن حبيب من أصحابه: ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من الجوارح مثل البزاة والصقور، وهو مذهب مالك، أعني أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل، واشترطه بعضهم في الكلب ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور؛ ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل؛ والجمهور على جواز أكل صيد البازي والصقر وإن أكل، لأن تضريته إنما تكون بالأكل. فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين: أحدهما هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر؟ والثاني هل من شرطه ألا يأكل؟. وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان: أحدهما اختلاف الآثار في ذلك. والثاني هل إذا أكل فهو ممسك أم لا؟ فأما الآثار فمنها حديث عدي بن حاتم المتقدم وفيه "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" والحديث المعارض لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل، قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: وإن أكل" فمن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث عدي بن حاتم على الندب وهذا على الجواز قال: ليس من شرطه ألا يأكل؛ ومن رجح حديث عدي بن حاتم إذ هو حديث متفق عليه وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه، ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم وقال من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور قال: إن أكل الصيد لم يؤكل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحق والثوري، وهو قول ابن عباس، ورخص في أكل مما أكل الكلب كما قلنا مالك وسعيد بن مالك وابن عمر وسليمان. وقالت المالكية المتأخرة إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة، لأن نية الكلب غير معلومة، وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه، وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به، وهو العادة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه". وأما اختلافهم في الازدجار فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب، لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق، فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا؟ ففيه التردد وهو سبب الخلاف.

  • 3*الباب الثالث في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشروطها.

@-واتفقوا على أن الذكاة المختصة بالصيد هي العقر. واختلفوا في شروطها اختلافا كثيرا، وإذا اعتبرت أصولها التي هي أسباب الاختلاف سوى الشروط المشترطة في الآلة وفي الصائد وجدتها ثمانية شروط: اثنان يشتركان في الذكاتين أعني ذكاة المصيد وغير المصيد وهي النية والتسمية. وستة تختص بهذه الذكاة: أحدها أنها لم تكن الآلة أو الجارح الذي أصاب الصيد قد أنفذ مقاتله فإنه يجب أن يذكى بذكاة الحيوان الإنسي إذا قدر عليه قبل أن يموت مما أصابه من الجارح أو من الضرب. وأما إن كان قد أنفذ مقاتله فليس يجب ذلك وإن كان قد يستحب. والثاني أن يكون الفعل الذي أصيب به الصيد مبدؤه من الصائد لا من غيره: أعني لا من الآلة كالحال في الحبالة، ولا من الجارح كالحال فيما يصيب الكلب الذي ينشلى من ذاته. والثالث أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة. والرابع أن لا يشك في عين الصيد الذي أصابه وذلك عند غيبته عن عينه. والخامس أن لا يكون الصيد مقدورا عليه في وقت الإرسال عليه. والسادس أن لا يكون موته من رعب من الجارح أو بصدمه منه. فهذه هي أصول الشروط التي من قبل اشتراطها أو لا اشتراطها عرض الخلاف بين الفقهاء، وربما اتفقوا على وجوب بعض هذه الشروط، ويختلفون في وجودها في نازلة نازلة، كاتفاق المالكية على أن من شرط الفعل أن يكون مبدؤه من الصائد، واختلافهم إذا أفلت الجارح من يده أو خرج بنفسه، ثم أغراه هل يجوز ذلك الصيد أم لا لتردد هذه الحال بين أن يوجد لها هذا الشرط أو لا يوجد كاتفاق أبي حنيفة ومالك على أن من شرطه إذا أدرك غير منفوذ المقاتل أن يذكى إذا قدر عليه قبل أن يموت. واختلافهم بين أن يخلصه حيا فيموت في يده قبل أن يتمكن من ذكاته، فإن أبا حنيفة منع هذا وأجازه مالك ورآه مثل الأول، أعني إذا لم يقدر على تخليصه من الجارح حتى مات لتردد هذه الحال بين أن يقال أدركه غير منفوذ المقاتل وفي غير يد الجارح فأشبه المفرط أو لم يشبهه فلم يقع منه تفريط. وإذا كانت هذه الشروط هي أصول الشروط المشترطة في الصيد مع سائر الشروط المذكورة في الآلة والصائد نفسه على ما سيأتي يجب أن يذكر منها ما اتفقوا منه عليه وما اختلفوا فيه، وأسباب الخلاف في ذلك وما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم. فنقول: أما التسمية والنية فقد تقدم الخلاف فيهما وسببه في كتاب الذبائح، ومن قبل اشتراط النية في الذكاة لم يجز عند من اشترطها إذا أرسل الجارح على صيد وأخذ آخر ذكاة ذلك الصيد لم يرسل عليه، وبه قال مالك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: ذلك جائز ويؤكل؛ ومن قبل هذا أيضا اختلف أصحاب مالك في الإرسال على صيد غير مرئي، كالذي يرسل على ما في غيضة أو من وراء أكمة ولا يدري هل هنالك شيء أم لا؟ لأن القصد في هذا يشوبه شيء من الجهل. وأما الشرط الأول الخاص بذكاة الصيد من الشروط الستة التي ذكرناها وهو أن عقر الجارح له إذا لم ينفذ مقاتله، إنما يكون إذا لم يدركه المرسل حيا، فباشتراطه قال جمهور العلماء لما جاء في حديث عدي بن حاتم في بعض رواياته أنه قال عليه الصلاة والسلام "وإن أدركته حيا فاذبحه" وكان النخعي يقول: إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله، وبه قال الحسن البصري مصيرا لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ومن قبل هذا الشرط قال مالك: لا يتوانى المرسل في طلب الصيد، فإن توانى فأدركه ميتا، فإن كان منفوذ المقاتل بسهم حل أكله وإلا لم يحل من أجل أنه لو لم يتوان لكان يمكن أن يدركه حيا غير منفود المقاتل. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون الفعل مبدؤه من القانص ويكون متصلا حتى يصيب الصيد، فمن قبل اختلافهم فيه اختلفوا فيما تصيبه الحبالة والشبكة إذا أنقذت المقاتل بمحدد فيها، فمنع ذلك مالك والشافعي والجمهور، ورخص فيه الحسن البصري؛ ومن هذا الأصل لم يجز مالك الصيد الذي أرسل عليه الجارح فتشاغل بشيء آخر ثم عاد إليه من قبل نفسه. وأما الشرط الثالث وهو أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة له، فهو شرط مجمع عليه فيما أذكر، لأنه لا يدري من قتله. وأما الشرط الرابع وهو أن لا يشك في عين الصيد ولا في قتل جارحة له، فمن قبل ذلك اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه، فقال مالك مرة: لا بأس بأكل الصيد إذا غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت، فإذا بات فإني أكرهه. وبالكراهية قال الثوري؛ وقال عبد الوهاب: إذا بات الصيد من الجارح لم يؤكل، وفي السهم خلاف؛ وقال ابن الماجشون: يؤكل فيهما جميعا إذا وجد منفوذ المقاتل؛ وقال مالك في المدونة: لا يؤكل فيهما جميعا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل؛ وقال الشافعي: القياس أن لا تأكله إذا غاب عنك مصرعه؛ وقال أبو حنيفة: إذا توارى الصيد والكلب في طلبه فوجده المرسل مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب، فإن تركه كرهنا أكله. وسبب اختلافهم شيئان اثنان: الشك العارض في عين الصيد أو في زكاته. والسبب الثاني اختلاف الآثار في هذا الباب، فروى مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة عن النبي عليه الصلاة والسلام في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فقال "كل ما لم ينتن" وروى مسلم عن أبي ثعلبة أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت" وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل". ومن هذا الباب اختلافهم في الصيد يصاد بالسهم أو يصيبه الجارح فيسقط في ماء أو يتردى من مكان عال، فقال مالك: لا يؤكل لأنه لا يدري من أي الأمرين مات، إلا أن يكون السهم قد أنقذ مقاتله ولا يشك أن منه مات، وبه قال الجمهور؛ وقال أبو حنيفة: لا يؤكل إن وقع في ماء منفوذ المقاتل، ويؤكل إن تردى. وقال عطاء: لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل وقع في ماء أو تردى من موضع عال لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قبل التردي أو من الماء قبل زهوقها من قبل إنقاذ المقاتل. وأما موته من صدم الجارح له، فإن ابن القاسم منعه قياسا على المثقل، وأجازه أشهب لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولم يختلف المذهب أن ما مات من خوف الجارح أنه غير مذكي. وأما كونه في حين الإرسال غير مقدور عليه، فإنه اشترط فيما علمت متفق عليه. وذلك يوجد إذا كان الصيد مقدورا على أخذه باليد دون خوف أو غرر. إما من قبل أنه قد نشب في شيء أو تعلق بشيء أو رماه أحد فكسر جناحه أو ساقه، وفي هذا الباب فروع كثيرة من قبل تردد بعض الأحوال بين أن يرصف فيها الصيد بأنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه، مثل أن تضطره الكلاب فيقع في حفرة، فقيل في المذهب يؤكل، وقيل لا يؤكل. واختلفوا في صفة العقر إذا ضرب الصيد فأبين منه عضو، فقال قوم: يؤكل الصيد ما بان منه؛ وقال قوم: يؤكلان جميعا؛ وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلا أو غير مقتل، فقالوا: إن كان مقتلا أكلا جميعا، وإن كان غير مقتل أكل الصيد ولم يؤكل العضو، وهو معنى قول مالك: وإلى هذا يرجع خلافهم في أن يكون القطع بنصفين أو يكون أحدهما أكبر من الثاني. وسبب اختلافهم معارضة قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولعموم قوله تعالى {تناله أيديكم ورماحكم} فمن غلب حكم الصيد وهو العقر مطلقا قال: يؤكل الصيد والعضو المقطوع من الصيد، وحمل الحديث على الإنسي؛ ومن حمله على الوحشي والإنسي معا واستثنى من ذلك العموم بالحديث العضو المقطوع فقال: يؤكل الصيد دون العضو البائن، ومن اعتبر في ذلك الحياة المستقرة، أعني في قوله وهي حية فرق بين أن يكون العضو مقتلا أو غير مقتل.

  • 3*الباب الرابع في شروط القانص.

@-وشروط القانص هي شروط الذابح نفسه، وقد تقدم ذلك في كتاب الذبائح المتفق عليها والمختلف فيها، ويخص الاصطياد في البر شرط زائد وهو أن لا يكون محرما، ولا خلاف في ذلك لقوله تعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} فإن اصطاد محرم فهل يحل ذلك الصيد للحلال أم هو ميتة لا يحل لأحد أصلا؟ اختلف فيه الفقهاء، فذهب مالك إلى أنه ميتة، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور إلى أنه يجوز لغير المحرم أكله. وسبب اختلافهم هو الأصل المشهور. وهو هل النهي يعود بفساد المنهي أم لا؟ وذلك بمنزلة ذبح السارق والغاصب. واختلفوا من هذا الباب في كلب المجوس المعلم، فقال مالك: الاصطياد به جائز، فإن المعتبر الصائد لا الآلة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم؛ وكرهه جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والثوري، لأن الخطاب في قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} متوجه نحو المؤمنين، وهذا كاف بحسب المقصود من هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.

  • 2*كتاب العقيقة

@-والقول المحيط بأصول هذا الكتاب ينحصر في ستة أبواب: الأول: في معرفة حكمها. الثاني: في معرفة محلها. الثالث: في معرفة من يعق عنه وكم يعق. الرابع: في معرفة وقت هذا النسك. الخامس: في سن هذا النسك وصفته. السادس: حكم لحمها وسائر آجزائها. @-فأما حكمها؛ فذهبت طائفة منهم الظاهرية إلى أنها واجبة، وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة؛ وقد قيل إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع. وسبب اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في هذا الباب، وذلك أن ظاهر حديث سمرة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى" يقتضي الوجوب، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن العقيقة فقال "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" يقتضي الندب أو الإباحة، فمن فهم منه الندب قال: العقيقة سنة؛ ومن فهم الإباحة قال: ليست بسنة ولا فرض وخرج الحديثين أبو داود؛ ومن أخذ بحديث سمرة أوجبها. وأما محلها فإن جمهور العلماء على أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية. وأما مالك فاختار فيها الضأن على مذهبه في الضحايا، واختلف قوله هل يجزي فيها الإبل والبقر أو لا يجزي؟ وسائر الفقهاء على أصلهم أن الإبل أفضل من البقر والبقر أفضل من الغنم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب والقياس. أما الأثر فحديث ابن عباس "أن رسول الله عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" وقوله عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان" خرجهما أبو داود. وأما القياس فلأنهما نسك، فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل قياسا على الهدايا. وأما من يعق عنه، فإن جمهورهم على أنه يعق عن الذكر والأنثى الصغيرين فقط؛ وشذ الحسن فقال: لا يعق عن الجارية؛ وأجاز بعضهم أن يعق عن الكبير. ودليل الجمهور على تعلقها بالصغير قوله عليه الصلاة والسلام "يوم سابعه". ودليل من خالف ما روي عن أنس "أن النبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد ما بعث بالنبوة" ودليلهم أيضا على تعلقها بالأنثى قوله عليه الصلاة والسلام "عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان". ودليل من اقتصر بها على الذكر قوله عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته". وأما العدد فإن الفقهاء اختلفوا أيضا في ذلك، فقال مالك: يعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة؛ وقال الشافعي وأبو ثور وأبو داود وأحمد: يعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب. فمنها حديث أم كرز الكعبية خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله يقول في العقيقة "عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة" والمكافأتان: المتماثلتان. وهذا يقتضي الفرق في ذلك بين الذكر والأنثى، وما روي "أنه عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" يقتضي الاستواء بينهما. وأما وقت هذا النسك فإن جمهور العلماء على أنه يوم سابع المولود ومالك لا يعد في الأسبوع اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهارا، وعبد الملك بن الماجشون يحتسب به. وقال ابن القاسم في العقيقة: إن عق ليلا لم يجزه. واختلف أصحاب مالك في مبدأ وقت الإجزاء، فقيل وقت الضحايا: أعني ضحى؛ وقيل بعد الفجر قياسا على قول مالك في الهدايا، ولاشك أن من أجاز الضحايا ليلا أجاز هذه ليلا؛ وقد قيل يجوز في السابع الثاني والثالث. وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة، أعني أنه يتقي فيها من العيوب ما يتقي في الضحايا، ولا أعلم في هذا خلافا في المذهب ولا خارجا منه. وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع البيع، وجميع العلماء على أنه كان يدمي رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام، وذلك لحديث بريدة الأسلمي قال "كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح له شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران" وشذ الحسن وقتادة فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة قد غمست في الدم واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل. واختلف في حلاق رأس المولود يوم السابع، والصدقة بوزن شعره فضة، فقيل هو مستحب، وقيل هو غير مستحب، والقولان عن مالك، والاستحباب أجود، وهو قول ابن حبيب لما رواه مالك في الموطأ "أن فاطمة بنت رسول الله حلقت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وتصدقت بزنة ذلك فضة".

  • 2*كتاب الأطعمة والأشربة

@-والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين: الجملة الأولى: نذكر فيها المحرمات في حال الاختيار. الجملة الثانية: نذكر فيها أحوالها في حال الاضطرار.

  • 3*(الجملة الأولى)

@-والأغذية الإنسانية نبات وحيوان. فأما الحيوان الذي يغتذى به، فمنه حلال في الشرع، ومنه حرام، وهذا منه بري ومنه بحري. والمحرمة منها ما تكون محرمة لعينها، ومنها ما تكون لسبب وارد عليها. وكل هذه منها ما اتفقوا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المحرمة لسبب وارد عليها فهي بالجملة تسعة: الميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله، والجلالة، والطعام الحلال يخالطه نجس. فأما الميتة فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة أقوال: فقال قوم: هي حلال بإطلاق؛ وقال قوم: هي حرام بإطلاق؛ وقال قوم: ما طفا من السمك حرام، وما جزر عنه البحر فهو حلال. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب، ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية، وموافقته لبعضها موافقة جزئية، ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية. فأما العموم فهو قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} . وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان: الواحد متفق عليه، والآخر مختلف فيه. أما المتفق عليه فحديث جابر، وفيه "إن أصحاب رسول الله وجدوا حوتا يسمى العنبر، أو دابة قد جزر عنه البحر فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما أو شهرا، ثم قدموا على رسول الله فأخبروه فقال: هل معكم من لحمه شيء: فأرسلوا منه إلى رسول الله فأكله" وهذا إنما يعارض الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه. وأما الحديث الثاني المختلف فيه، فما رواه مالك عن أبي هريرة "أنه سئل عن ماء البحر فقال: هوالطهور ماؤه الحل ميتته". وأما الحديث الموافق للعموم موافقة جزئية فما روى إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما طفا فلا تأكلوه" وهو حديث أضعف عندهم من حديث مالك. وسبب ضعف حديث مالك أن في رواته من لا يعرف، وأنه ورد من طريق واحد؛ قال أبو عمر بن عبد البر: بل رواته معروفون وقد ورد من طرق. وسبب ضعف حديث جابر أن الثقات أوقفوه على جابر؛ فمن رجح حديث جابر هذا على حديث أبي هريرة لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا ما جزر عنه البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض؛ ومن رجح حديث أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا. وأما من قال بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب، وبالإباحة مطلقا قال مالك والشافعي، وبالمنع مطلقا قال أبو حنيفة وقال قوم غير هؤلاء بالفرق. وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة. وأما الجلاَّلة وهي التي تأكل النجاسة فاختلفوا في أكلها. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فما روي: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الجلاَّلة وألبانها" خرجه أبو داود عن ابن عمر. وأما القياس المعارض لهذا، فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه، فإذا قلنا أن لحم الحيوان حلال، وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب إليه، وهو اللحم كما لو انقلب ترابا، أو كانقلاب الدم لحما، والشافعي يحرم الجلاَّلة، ومالك يكرهها. وأما النجاسة تخالط الحلال فالأصل فيه الحديث المشهور من حديث أبي هريرة وميمونة "أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه" وللعلماء في النجاسة تخالط المطعومات الحلال مذهبان: أحدهما من يعتبر في التحريم المخالطة فقط وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور والذي عليه الجمهور. والثاني مذهب من يعتبر في ذلك التغير، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم الحديث، وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به الخاص وهم أهل الظاهر فقالوا: هذا الحديث يمر على ظاهره، وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها؛ ومنهم من جعله من باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور فقالوا: المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال، إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر: أعني في حالة الذوبان؛ ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة القليلة والكثيرة، فلما لم يفرقوا بينهما فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره، ومن بعضه على القياس عليه، ولذلك أقرته الظاهرية كله على ظاهره. وأما المحرمات لعينها، فمنها ما اتفقوا أيضا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المتفق منها عليه فاتفق المسلمون منها على اثنين: لحم الخنزير، والدم. فأما الخنزير فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده، واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ، وقد تقدم ذلك في كتاب الطهارة. وأما الدم فاتفقوا على تحريم المسفوح منه من الحيوان المذكى، واختلفوا في غير المسفوح منه. وكذلك اختلفوا في دم الحوت؛ فمنهم من رآه نجسا؛ ومنهم من لم يره نجسا، والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب مالك وخارجا عنه. وسبب اختلافهم في غير المسفوح معارضة الإطلاق للتقييد، وذلك أن قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم} يقتضي تحريم مسفوح الدم وغيره، وقوله تعالى {أو دما مسفوحا} يقتضي بحسب دليل الخطاب تحريم المسفوح فقط؛ فمن رد المطلق إلى المقيد اشترط في التحريم السفح؛ ومن رأى أن الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد، وأن معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل الخطاب، والمطلق عام، والعام أقوى من دليل الخطاب قضى بالمطلق على المقيد، وقال: يحرم قليل الدم وكثيره. والسفح المشترط في حرمية الدم إنما هو دم الحيوان المذكى، أعني أنه الذي يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل. وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام؛ وكذلك الدم من الحيوان المحرم الأكل، وإن ذكى فقليله وكثيره حرام، ولا خلاف في هذا. وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله تعالى {والدم} . وأما القياس فما يمكن أن يتوهم من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان، أعني أن ما حرم ميتته حرم دمه، وما حل ميتته حل دمه، ولذلك رأى مالك أن ما لا دم له فليس بميتة. قال القاضي: وقد تكلمنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة، ويذكر الفقهاء في هذا حديثا مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان" وهذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث. وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة: أحدها لحوم السباع من الطير ومن ذوات الأربع. والثاني ذوات الحافر الإنسية. والثالث لحوم الحيوان المأمور بقتله في الحرم. والرابع لحوم الحيوانات التي تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع. وحكى أبو حامد عن الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن أكله قال: كالخطاف والنحل فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه. @-(فأما المسألة الأولى) وهي السباع ذوات الأربع، فروى ابن القاسم عن مالك أنها مكروهة، وعلى هذا القول عول جمهور أصحابه وهو المنصور عندهم؛ وذكر مالك في الموطأ ما دليله أنها عنده محرمة، وذلك أنه قال بعقب حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وعلى ذلك الأمر عندنا، وإلى تحريمها ذهب الشافعي وأشهب وأصحاب مالك وأبو حنيفة، إلا أنهم اختلفوا في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع عنده من السباع، وكذلك السنور؛ وقال الشافعي: يؤكل الضبع والثعلب، وإنما السباع المحرمة التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب، وكلا القولين في المذهب، وجمهورهم على أن القرد لا يؤكل ولا ينتفع به؛ وعند الشافعي أيضا أن الكلب حرام لا ينتفع به، لأنه فهم من النهي عن سؤره نجاسة عينه. وسبب اختلافهم في تحريم لحوم السباع من ذوات الأربع معارضة الكتاب للآثار، وذلك أن ظاهر قوله {قل لا أجد فيما أوحي إلى إلا محرما على طاعم يطعمه} الآية، أن ما عدا المذكور في هذه الآية حلال، وظاهر حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال "نهى رسول الله عن أكل كل ذي ناب من السباع إن السباع محرمة" هكذا رواه البخاري ومسلم. وأما مالك فما رواه في هذا المعنى من طريق أبي هريرة هو أبين في المعارضة وهو أن رسول الله قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وذلك أن الحديث الأول قد يمكن الجمع بينه وبين الآية بأن يحمل النهي المذكور فيه على الكراهية. وأما حديث أبي هريرة فليس يمكن الجمع بينه وبين الآية إلا أن يعتقد أنه ناسخ للآية عند من رأى أن الزيادة نسخ وأن القرآن ينسخ بالسنة المتواترة. فمن جمع بين حديث أبي ثعلبة والآية حمل حديث لحوم السباع على الكراهية. ومن رأى أن حديث أبي هريرة يتضمن زيادة على ما في الآية حرم لحوم السباع، ومن اعتقد أن الضبع والثعلب محرمان فاستدلا بعموم لفظ السباع؛ ومن خصص من ذلك العادية فمصيرا لما روى عبد الرحمن ابن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع آكلها؟ قال: نعم، قلت: أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول ؟ قال: نعم. وهذا الحديث وإن كان انفرد به عبد الرحمن فهو ثقة عند جماعة أئمة الحديث، ولما ثبت من إقراره عليه الصلاة والسلام على أكل الضب بين يديه. وأما سباع الطير، فالجمهور على أنها حلال لمكان الآية المتكررة وحرمها قوم لما جاء في حديث ابن عباس أنه قال "نهى رسول الله عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل مخلب من الطير" إلا أن هذا الحديث لم يخرجه الشيخان، وإنما ذكره أبو داود. @-(وأما المسألة الثانية) وهي اختلافهم في ذوات الحافر الإنسي: أعني الخيل والبغال والحمير، فإن جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر الإنسية، إلا ما روي عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يبيحانها، وعن مالك أنه كان يكرهها، رواية ثانية مثل قول الجمهور؛ وكذلك الجمهور على تحريم البغال، وقوم كرهوها ولم يحرموها، وهو مروي عن مالك. وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنها محرمة؛ وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها. والسبب في اختلافهم في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره قال "نهى رسول الله يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل" فمن جمع بين الآية وهذا الحديث حملها على الكراهية؛ ومن رأى النسخ قال بتحريم الحمر أو قال بالزيادة دون أن يوجب عنده نسخا، وقد احتج من لم ير تحريمها بما روي عن أبي إسحق الشيباني عن ابن أبي أوفى قال "أصبنا حمرا مع رسول الله بخيبر وطبخناها، فنادى منادي رسول الله أن أكفئوا القدور بما فيها". قال ابن إسحق: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنما نهي عنها لأنها كانت تأكل الجلة. وأما اختلافهم في البغال، فسببه معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} وقوله مع أن ذلك من الأنعام {لتركبوا منها ومنها تأكلون} للآية الحاصرة للمحرمات، لأنه يدل مفهوم الخطاب فيها أن المباح في البغال إنما هو الركوب مع قياس البغل أيضا على الحمار. وأما سبب اختلافهم في الخيل فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر، ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له، لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في الحيوان المأمور بقتله في الحرم وهي الخمس المنصوص عليها: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، فإن قوما فهموا من الأمر بالقتل لها مع النهي عن قتل البهائم المباحة الأكل أن العلة في ذلك هو كونها محرمة، وهو مذهب الشافعي؛ وقوما فهموا من ذلك معنى التعدي لا معنى التحريم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور أصحابهما. وأما الجنس الرابع، وهو الذي تستخبثه النفوس كالحشرات والضفادع والسرطانات والسلحفات وما في معناها، فإن الشافعي حرمها وأباحها الغير؛ ومنهم من كرهها فقط. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم الخبائث في قوله تعالى {ويحرم عليهم الخبائث} فمن رأى أنها المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص؛ ومن رأى أن الخبائث هي ما تستخبثه النفوس قال: هي محرمة. وأما ما حكاه أبو حامد عن الشافعي في تحريمه الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين وقعت الآثار الواردة في ذلك، ولعلها في غير الكتب المشهورة عندنا. وأما الحيوان البحري، فإن العلماء أجمعوا على تحليل ما لم يكن منه موافقا بالاسم لحيوان في البر محرم، فقال مالك: لا بأس بأكل جميع حيوان البحر، إلا أنه كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا، وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي ومجاهد وجمهور العلماء، إلا أن منهم من يشترط في غير السمك التذكية، وقد تقدم ذلك. وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء وخنزير الماء فلا يؤكلان على شيء من الحالات. وسبب اختلافهم هو هل يتناول لغة أو شرعا اسم الخنزير والإنسان خنزير الماء وإنسانه، وعلى هذا يجب أن يتطرق الكلام إلى كل حيوان في البحر مشارك بالاسم في اللغة أو في العرف لحيوان محرم في البر مثل الكلب عند من يرى تحريمه، والنظر في هذه المسألة يرجع إلى أمرين: أحدهما هل هذه الأسماء لغوية؟ والثاني هل للاسم المشترك عموم أم ليس له؟ فإن إنسان الماء وخنزيره يقالان مع خنزير البر وإنسانه باشتراك الاسم، فمن سلم أن هذه الأسماء لغوية ورأى أن للاسم المشترك عموما لزمه أن يقول بتحريمها، ولذلك توقف مالك في ذلك وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. فهذه حال الحيوان المحرم الأكل في الشرع والحيوان المباح الأكل. وأما النبات الذي هو غذاء فكله حلال إلا الخمر وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر ومن العسل نفسه. أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها: أعني التي هي من عصير العنب. وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام، فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصرين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. وسبب اختلافهم تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب، فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك. والطريقة الثانية تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا. فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت "سئل رسول الله عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: كل شراب أسكر فهو حرام" خرجه البخاري. وقال يحيى بن معين: هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر؛ ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" فهذان حديثان صحيحان. أما الأول فاتفق الكل عليه. وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم. وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله قال "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهو نص في موضع الخلاف. وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها تسمى خمرا، فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع. فأما التي من جهة الاشتقاق فإنهم قالوا إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل. وهذه هي الطريقة من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين، وهي غير مرضية عند الخراسانيين. وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع، فإنهم قالوا إنه وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة خمرا شرعا، واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم، وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله قال "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله قال "إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر" فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة. وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى {ومن ثمر النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} وبآثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي. أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا. وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب، فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "حرمت عليكم الخمر لعينها" والسكر من غيرها وقالوا: هذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته روى "والمسكر من غيرها" ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله "إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا" خرجها الطحاوي. ورووا عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم. ورووا عن أبي موسى قال "بعثني رسول الله أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له المزر، والآخر يقال له البتع، فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اشربا ولا تسكرا" خرجه الطحاوي أيضا إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب. وأما احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا: قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} وهذه العلة توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها، قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص، وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه. وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى، وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس، أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها، لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس. وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة، وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون، وربما كان الذوقان على التساوي؛ ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب. قال القاضي: والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام "كل مسكر حرام" وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير، وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك، هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام "ما أسكر كثيره فقليله حرام" فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف، ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس، وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة، فقال تعالى {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها؛ فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ومنع القليل منها والكثير، وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه على تحريم الخمر، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي. واتفقوا على أن الانتباذ حلال ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية لقوله عليه الصلاة والسلام "فانتبذوا وكل مسكر حرام"، ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان ينتبذ، وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث" واختلفوا في ذلك في مسئلتين: إحداهما: في الأواني التي ينتبذ فيها. والثانية: في انتباذ شيئين مثل البسر والرطب، والتمر والزبيب. @-(فأما المسألة الأولى) فإنهم أجمعوا على جواز الانتباذ في الأسقية، واختلفوا فيما سواها؛ فروى ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء والمزفت ولم يكره غير ذلك؛ وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ورد من طريق ابن عباس النهي عن الانتباذ في الأربع التي كرهها الثوري وهو حديث ثابت. وروى مالك عن ابن عمر في الموطأ "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الانتباذ في الدباء والمزفت" وجاء في حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق شريك عن سماك أنه قال "كنت نهيتكم أن تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فانتبذوا ولا أحل مسكرا" وحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مالك في الموطأ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال "كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام". فمن رأى أن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ في هذه الأواني إذ لم يعلم ههنا نهي متقدم غير ذلك قال: يجوز الانتباذ في كل شيء؛ ومن قال إن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ مطلقا قال: بقي النهي عن الانتباذ في هذه الأواني؛ فمن اعتمد في ذلك حديث ابن عمر قال بالآيتين المذكورتين فيه؛ ومن اعتمد في ذلك حديث ابن عباس قال بالأربعة، لأنه يتضمن مزيدا، والمعارضة بينه وبين حديث ابن عمر إنما هي من باب دليل الخطاب. وفي كتاب مسلم النهي عن الانتباذ في الحنتم، وفيه أنه رخص لهم فيه إذا كان غير مزفت. @-(وأما المسألة الثانية) وهي انتباذ الخليطين، فإن الجمهور قالوا بتحريم الخليطين من الأشياء التي من شأنها أن تقبل الانتباذ؛ وقال قوم: بل الانتباذ مكروه؛ وقال قوم: هو مباح؛ وقال قوم: كل خليطين فهما حرام وإن لم يكونا مما يقبلان الانتباذ فيما أحسب الآن. والسبب في اختلافهم ترددهم في هل النهي الوارد في ذلك هو على الكراهة أو على الحظر؟ وإذا قلنا إنه على الحظر، فهل يدل على فساد المنهى عنه أم لا؟ وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن أن يخلط التمر والزبيب، والزهو والرطب، والبسر والزبيب" وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تنتبذوا الزهو والزبيب جميعا، ولا التمر والزبيب جميعا، وانتبذوا كل واحد منهما على حدة" فيخرج في ذلك بحسب التأويل الأقاويل الثلاثة: قول بتحريمه، وقول بتحليله مع الإثم في الانتباذ، وقول بكراهية ذلك. وأما من قال إنه مباح، فلعله اعتمد في ذلك عموم الأثر بالانتباذ في حديث أبي سعيد الخدري. وأما من منع كل خليطين، فإما أن يكون ذهب إلى أن علة المنع هو الاختلاط لا ما يحدث عن الاختلاط من الشدة في النبيذ، وإما أن يكون قد تمسك بعموم ما ورد أنه نهى عن الخليطين؛ وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها. واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر واختلافهم في مفهوم الأثر، وذلك أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة "سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: لا" فمن فهم من المنع سد ذريعة حمل ذلك على الكراهية؛ ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم؛ ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي. والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل بإجماع حلال، فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل.

  • 3*(الجملة الثانية: في استعمال المحرمات في حال الاضطرار)

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} والنظر في هذا الباب في السبب المحلل وفي جنس الشيء المحلل وفي مقداره. فأما السبب، فهو ضرورة التغذي: أعني إذا لم يجد شيئا حلالا يتغذى به، وهو لا خلاف فيه. وأما السبب الثاني طلب البرء، وهذا المختلف فيه؛ فمن أجازه احتج بإباحة النبي عليه الصلاة والسلام الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به؛ ومن منعه فلقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". وأما جنس الشيء المستباح فهو كل شيء محرم مثل الميتة وغيرها؛ والاختلاف في الخمر عندهم هو من قبل التداوي بها لا من قبل استعمالها في التغذي، ولذلك أجازوا للعطشان أن يشربها إن كان منها ري، وللشرق أن يزيل شرقه بها. وأما مقدار ما يؤكل من الميتة وغيرها فإن مالكا قال: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق، وبه قال بعض أصحاب مالك. وسبب الاختلاف هل المباح له في الاضطرار هو جميعها أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر أنه جميعها لقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} واتفق مالك والشافعي على أنه لا يحل للمضطر أكل الميتة إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى {غير باغ ولا عاد} وذهب غيره إلى جواز ذلك. (انتهى كتاب الأطعمة والأشربة) تم الجزء الأول من كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ويليه: الجزء الثاني، وأوله: كتاب النكاح.