بداية المجتهد - كتاب البيوع
كتاب البيوع. @-الكلام في البيوع ينحصر في خمس جمل: في معرفة أنواعها. وفي معرفة شروط الصحة في واحد واحد منها. وفي معرفة شروط الفساد. وفي معرفة أحكام البيوع الصحيحة. وفي معرفة أحكام البيوع الفاسدة. فنحن نذكر أنواع البيوع المطلقة، ثم نذكر شروط الفساد والصحة في واحد واحد منها، وأحكام بيوع الصحة، وأحكام البيوع الفاسدة. ولما كانت أسباب الفساد والصحة في البيوع منها عامة لجميع أنواع البيوع أو لأكثرها ومنها خاصة، وكذلك الأمر في أحكام الصحة والفساد اقتضى النظر الصناعي أن نذكر المشترك من هذه الأصناف الأربعة: أعني العام من أسباب الفساد وأسباب الصحة وأحكام الصحة وأحكام الفساد لجميع البيوع، ثم نذكر الخاص من هذه الأربعة بواحد واحد من البيوع، فينقسم هذا الكتاب باضطرار إلى ستة أجزاء: الجزء الأول: تعرف فيه أنواع البيوع المطلقة. والثاني: تعرف فيه أسباب الفساد العامة في البيوع المطلقة أيضا: أعني في كلها أو أكثرها إذ كانت أعرف من أسباب الصحة. الثالث: تعرف فيه أسباب الصحة في البيوع المطلقة أيضا. الرابع: نذكر فيه أحكام البيوع الصحيحة، أعني الأحكام المشتركة لكل البيوع الصحيحة أو لأكثرها. الخامس: نذكر فيه أحكام البيوع الفاسدة المشتركة: أعني إذا وقعت. السادس: نذكر فيه نوعا نوعا من البيوع بما يخصه من الصحة والفساد وأحكامها. @-(الجزء الأول) إن كل معاملة وجدت بين اثنين، فلا يخلو أن تكون عينا بعين، أو عينا بشيء في الذمة، أو ذمة بذمة، وكل واحد من هذه الثلاث إما نسيئة وإما ناجز، وكل واحد من هذه أيضا إما ناجز من الطرفين وإما نسيئة من الطرفين، وإما ناجز من الطرف الواحد نسيئة من الطرف الآخر، فتكون كل أنواع البيوع تسعة. فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع لا في العين ولا في الذمة، لأنه الدين بالدين المنهى عنه. وأسماء هذه البيوع منها ما يكون من قبل صفة العقد وحال العقد؛ ومنها ما يكون من قبل صفة العين المبيعة، وذلك أنها إذا كانت عينا بعين فلا تخلو أن تكون ثمنا بمثمون أو ثمنا بثمن، فإن كانت ثمنا بثمن سمى صرفا، وإن كانت ثمنا بمثمون سمي بيعا مطلقا وكذلك مثمونا بمثمون على الشروط التي تقال بعد، وإن كان عينا بذمة سمي سلما، وإن كان على الخيار سمي بيع خيار، وإن كان على المرابحة سمي بيع مرابحة، وإن كان على المزايدة سمي بيع مزايدة. @-(الجزء الثاني) وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها تحريم عين المبيع. والثاني الربا. والثالث الغرر. والرابع الشروط التي تئول إلى أحد هذين أو لمجموعهما. وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد، وذلك أن النهي إنما تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع لا لأمر من خارج. وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج؛ فمنها الغش؛ ومنها الضرر؛ ومنها لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه؛ ومنها لأنها محرمة البيع. ففي هذا الجزء أبواب:
- 3*الباب الأول في الأعيان المحرمة البيع.
@-وهذه على ضربين: نجاسات، وغير نجاسات. فأما بيع النجاسات فالأصل في تحريمها حديث جابر، ثبت في الصحيحين قال: قال رسول الله ﷺ "إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها؟ فقال: لعن الله اليهود حرمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا أثمانها" وقال في الخمر "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" والنجاسات على ضربين: ضرب اتفق المسلمون على تحريم بيعها وهي الخمر وأنها نجسة، إلا خلافا شاذا في الخمر: أعني في كونها نجسة، والميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة، وكذلك الخنزير بجميع أجزائه التي تقبل الحياة. واختلف في الانتفاع بشعره، فأجازه ابن القاسم ومنه أصبغ. وأما القسم الثاني وهي النجاسات التي تدعو الضرورة إلى استعمالها كالرجيع والزبل الذي يتخذ في البساتين، فاختلف في بيعها في المذهب فقيل بمنعها مطلقا، وقيل بإجازتها مطلقا، وقيل بالفرق بين العذرة والزبل: أعني إباحة الزبل ومنع العذرة. واختلفوا فيما يتخذ من أنياب الفيل لاختلافهم هل هو نجس أم لا؟ فمن رأى أنه ناب جعله ميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن، والخلاف فيه في المذهب. وأما ما حرم بيعه مما ليس بنجس أو مختلف في نجاسته، فمنها الكلب والسنور. أما الكلب فاختلفوا في بيعه، فقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب أصلا. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك. وفرق أصحاب مالك بين كلب الماشية والزرع المأذون في اتخاذه وبين ما لا يجوز اتخاذه، فاتفقوا على أن ما لا يجوز اتخاذه لا يجوز بيعه للانتفاع به وإمساكه. فأما من أراده للأكل فاختلفوا فيه، فمن أجاز أكله أجاز بيعه، ومن لم يجزه على رواية ابن حبيب لم يجز بيعه. واختلفوا أيضا في المأذون في اتخاذه، فقيل هو حرام، وقيل مكروه. فأما الشافعي فعمدته شيئان: أحدهما ثبوت النهي الوارد عن ثمن الكلب عن النبي ﷺ. والثاني أن الكلب عنده نجس العين كالخنزير، وقد ذكرنا دليله في ذلك في كتاب الطهارة. وأما من أجاز فعمدته أنه طاهر العين غير محرم الأكل، فجاز بيعه كالأشياء الطاهرة العين، وقد تقدم أيضا في كتاب الطهارة استدلال من رأى أنه طاهر العين، وفي كتاب الأطعمة استدلال من رأى أنه حلال. ومن فرق أيضا فعمدته أنه غير مباح للأكل ولا مباح الانتفاع به، إلا ما استثناه الحديث من كلب الماشية أو كلب الزرع وما في معناه، ورويت أحاديث غير مشهورة اقترن فيها بالنهي من ثمن الكلب استثناء أثمان الكلاب المباحة الاتخاذ. وأما النهي عن ثمن السنور فثابت، ولكن الجمهور على إباحته لأنه طاهر العين مباح المنافع. فسبب اختلافهم في الكلاب تعارض الأدلة. ومن هذا الباب اختلافهم في بيع الزيت النجس وما ضارعه بعد اتفاقهم على تحريم أكله، فقال مالك: لا يجوز بيع الزيت النجس، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: يجوز إذا بين، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك. وحجة من حرمه حديث جابر المتقدم "أنه سمع رسول الله ﷺ عام الفتح يقول: إن الله ورسوله حرما الخمر والميتة والخنزير". وعمدة من أجازه: أنه إذا كان في الشيء أكثر من منفعة واحدة وحرم منه واحدة من تلك المنافع أنه ليس يلزمه أن يحرم منه سائر المنافع، ولا سيما إذا كانت الحاجة إلى المنفعة غير المحرمة كالحاجة إلى المحرمة، فإذا كان الأصل هذا يخرج منه الخمر والميتة والخنزير وبقيت سائر محرمات الأكل على الإباحة: أعني أنه إن كان فيها منافع سوى الأكل فبيعت لهذا جاز، ورووا عن علي وابن عباس وابن عمر أنهم أجازوا بيع الزيت النجس ليستصبح به، وفي مذهب مالك جواز الاستصباح به وعمل الصابون مع تحريم بيعه، وأجاز ذلك الشافعي أيضا مع تحريم ثمنه، وهذا كله ضعيف، وقد قيل إن في المذهب رواية أخرى تمنع الاستصباح به وهو ألزم للأصل: أعني لتحريم البيع. واختلف أيضا في المذهب في غسله وطبخه هل هو مؤثر في عين النجاسة ومزيل لها على قولين: أحدهما جواز ذلك، والآخر منعه، وهما مبنيان على أن الزيت إذا خالطته النجاسة هل نجاسته نجاسة عين أو نجاسة مجاورة؟ فمن رآه نجاسة مجاورة طهره عند الغسل والطبخ، ومن رآه نجاسة عين لم يطهره عند الطبخ والغسل. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في جواز بيع لبن الآدمية إذا حلب، فمالك والشافعي يجوزانه، وأبو حنيفة لا يجوزه. وعمدة من أجاز بيعه أنه لبن أبيح شربه فأبيح بيعه قياسا على لبن سائر الأنعام، وأبو حنيفة يرى تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه، وأنه في الأصل محرم، إذ لحم ابن آدم محرم، والأصل عندهم أن الألبان تابعة للحوم، فقالوا في قياسهم هكذا الإنسان حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه أصله لبن الخنزير والأتان فسبب اختلافهم في هذا الباب تعارض أقيسة الشبه، وفروع هذا الباب كثيرة، وإنما نذكر من المسائل في كل باب مشهور ليجري ذلك مجرى الأصول.
- 3*الباب الثاني في بيوع الربا.
@-واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك. فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عليه، وهو ربا الجاهلية الذي نهي عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون، فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع "ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، والثاني "ضع وتعجل" وهو مختلف فيه وسنذكره فيما بعد: وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان: نسيئة وتفاضل، إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا قي التفاضل لما رواه عن النبي ﷺ أنه قال "لا ربا إلا في النسيئة وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه ﷺ. والكلام في الربا ينحصر في أربعة فصول: الفصل الأول: في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز فيها النَّساء، وتبين علة ذلك. الثاني: معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء. الثالث: في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا. الرابع: في معرفة ما يعد صنفا واحدا مما لا يعد صنفا واحدا.
- 4*الفصل الأول. في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء وتبيين علة ذلك. فنقول:
@-أجمع العلماء على أن التفاضل والنَّساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت، إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة هو قال "سمعت رسول الله ﷺ ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى" فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان. وأما منع النَّسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ "الذهب بالذهب ربا، إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء" فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النَّساء في الصنفين من هذه، وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة "وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد" وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر بالشعير. واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها، فقال قوم منهم أهل الظاهر: إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط، وأن ما عداها لا يمتنع الصنف الواحد منها التفاضل، وقال هؤلاء أيضا: إن النَّساء ممتنع في هذه الستة أيضا فقط اتفقت الأصناف أو اختلفت، وهذا أمر متفق عليه: أعني امتناع النَّساء فيها مع اختلاف الأصناف، إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال: إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ما عدا الذهب والفضة. فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من باب الخاص أريد به الخاص. وأما الجمهور من فقهاء الأمصار، فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام. واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف: أعني في مفهوم علة التفاضل ومنع النَّساء فيها. فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل أما في الأربعة، فالصنف الواحد من المدخر المقتات، وقد قيل الصنف الواحد المدخر وإن لم يكن مقتاتا ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر، وقال بعض أصحابه: الربا في الصنف المدخر وإن كان نادر الادخار. وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضا مع كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة، لأنها غير موجودة عندهم في غير الذهب والفضة. وأما علة منع النَّساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة: أعني في الصنف الواحد منها، ولا يجوز النَّساء. أما جواز التفاضل، فلكونها ليست مدخرة، وقد قيل إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد. وأما منع النَّساء فيها فلكونها مطعومة مدخرة، وقد قلنا إن الطعم بإطلاق علة لمنع النَّساء في المطعومات. وأما الشافعية فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد. وأما علة النَّساء فالطعم دون اعتبار الصنف مثل قول مالك. وأما الحنفية فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة وهو الكيل أو الوزن مع اتفاق الصنف، وعلة النَّساء فيها اختلاف الصنف ما عدا النحاس والذهب، فإن الإجماع انعقد على أنه يجوز فيها النَّساء، ووافق الشافعي مالكا في علة منع التفاضل والنَّساء في الذهب والفضة، أعني أن كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات هو عندهم علة منع النسيئة إذا اختلف الصنف، فإذا اتفقا منع التفاضل، والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف، وأما هاهنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم، فنقول: إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع: أعني استنباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه وذلك أن جميع من ألحق المسكوت ههنا بالمنطوق به، فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة، إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية وقال: علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال، يريد منع العين. وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى، إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة، لأنه زعم أنه في معنى التمر، ولكل واحد من هؤلاء: أعني من القائسين دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة. وأما الشافعية فإنهم قالوا في تثبيت علتهم الشبهية: إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم مثل قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فلما علق الحكم بالإسم المشتق وهو السارق علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة. قالوا: وإذا كان هذا هكذا، وكان قد جاء من حديث سعيد بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل" فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم. وأما المالكية فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الإدخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الإدخار والإقتيات على ما اختاره البغداديون، وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود هو الطعم وحده لاكتفى بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة أصناف المذكورة، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على مافي معناه، وهي كلها يجمعها الإقتيات والإدخار. أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام، وأيضا فإنهم قالوا: لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات. وأما الحنفية فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه ﷺ لما علق التحليل باتفاق الصنف واتفاق القدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله ﷺ لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد وغيره "إلا كيلا بكيل يدا بيد" رأوا أن التقدير أعني الكيل أو الوزن هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل أو الوزن. منها أنهم رووا في بعض الأحاديث المتضمنه المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة، وهي كذلك ما يكال ويوزن، وفي بعضها: وكذلك المكيال والميزان، هذا نص لو صحت الأحاديث، ولكن إذا تؤمل الأمرمن طريق المعنى ظهر {والله أعلم} أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها: أعني تقديرها، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات: أعني غير الموزونة والمكيلة العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء لآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذا اختلاف هذه المبيعات بعصها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة، أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل. وأما الأشياء المكيلة والموزونة، فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف، وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن إذ كانت لا تتفاوت في المنافع، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء أعني المكيلة والموزونة علتان: إحداهما وجود العدل فيها، والثاني منع المعاملة إذا كانت المعاملة بها من باب السرف. وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح، وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية. روى مالك عن سعيد بن المسيب أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم، وهو معنى جيد لكون الطعم ضروريا في أقوات الناس، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا. وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الإنتفاع مطلقا????????
- أعني المالية، وهو مذهب ابن الماجشون.
- 4*الفصل الثاني. في معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء.
@-فيجب من هذا أن تكون علة امتناع النسيئة في الربويات هي الطعم عند مالك والشافعي. وأما في غير الربويات مما ليس بمطعوم، فإن علة منع النسيئة فيه عند مالك هو الصنف الواحد المتفق المنافع مع التفاضل، وليس عند الشافعي نسيئة في غير الربويات. وأما أبو حنيفة فعلة منع النَّساء عنده هو الكيل في الربويات وفي غير الربويات الصنف الواحد متفاضلا كان أو غير متفاضل، وقد يظهر من ابن القاسم عن مالك أنه يمنع النسيئة في هذه، لأنه عنده من باب السلف الذي يجر منفعة.
- 4*الفصل الثالث في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا.
@-وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا: أعني التفاضل والنَّساء، فما لم يكن ربويا عند الشافعي. وأما عند مالك فما لم يكن ربويا ولا كان صنفا واحدا متماثلا أو صنفا واحدا بإطلاق على مذهب أبي حنيفة، ومالك يعتبر في الصنف المؤثر في التفاضل في الربويات، وفي النَّساء في غير الربويات اتفاق المنافع واختلافها، فإذا اختلفت جعلها صنفين، وإن كان الاسم واحدا، وأبو حنيفة يعتبر الاسم وكذلك الشافعي، وإن كان الشافعي ليس الصنف عنده مؤثرا إلا في الربويات فقط: أعني أنه يمنع التفاضل فيه، وليس هو عنده علة للنَّساء أصلا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة في هذه الفصول الثلاث. فأما الأشياء التي لا تجوز فيها النسيئة فإنها قسمان: منها ما لا يجوز فيها التفاضل وقد تقدم ذكرها، ومنها ما يجوز فيها التفاضل. فأما الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل فعلة امتناع النسيئة فيها هو الطعم عند مالك وعند الشافعي الطعم فقط، وعند أبي حنيفة مطعومات الكيل والوزن، فإذا اقترن بالطعم اتفاق الصنف حرم التفاضل عند الشافعي، وإذا اقترن وصف ثالث وهو الادخار حرم التفاضل عند مالك، وإذا اختلف الصنف جاز التفاضل وحرمت النسيئة. وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك فإنها صنفان: إما مطعومة، وإما غير مطعومة. فأما المطعومة فالنَّساء عنده لا يجوز فيها، وعلة المنع الطعم؛ وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز فيها النَّساء عنده فيما اتفقت منافعه مع التفاضل، فلا يجوز عنده شاة واحدة بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه؛ وقد قيل إنه يعتبر اتفاق المنافع دون التفاضل فعلى هذا لا يجوز عنده شاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل. فأما إذا اختلفت المنافع فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان وإن كان الصنف واحدا؛ وقيل يعتبر اتفاق الأسماء مع اتفاق المنافع، والأشهر أن لا يعتبر؛ وقد قيل يعتبر. وأما أبو حنيفة فالمعتبر عنده في منع النَّساء ما عدا التي لا يجوز عنده فيها التفاضل هو اتفاق الصنف اتفقت المنافع أو اختلفت، فلا يجوز عنده شاة بشاة ولا بشاتين نسيئة وإن اختلفت منافعها. وأما الشافعي فكل ما لا يجوز التفاضل عنده في الصنف الواحد يجوز فيه النَّساء، فيجيز شاة بشاتين نسيئة ونقدا، وكذلك شاة بشاة، ودليل الشافعي حديث عمرو بن العاص "أن رسول الله ﷺ أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة" قالوا فهذا التفاضل في الجنس الواحد مع النَّساء. وأما الحنفية فاحتجت بحديث الحسن عن سمرة "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الحيوان بالحيوان" قالوا: وهذا يدل على تأثير الجنس على الانفراد في النسيئة. وأما مالك فعمدته في مراعاة منع النَّساء عند اتفاق الأغراض سد الذريعة، وذلك أنه لا فائدة في ذلك إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعا وهو يحرم، وقد قيل عنه إنه أصل بنفسه، وقد قيل عن الكوفيين إنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة اختلف الجنس أو اتفق على ظاهر حديث سمرة، فكأن الشافعي ذهب مذهب الترجيح لحديث عمرو بن العاص، والحنفية لحديث سمرة مع التأويل له، لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز الحيوان بالحيوان نسيئة اتفق الجنس أو اختلف، وكأن مالكا ذهب مذهب الجمع، فحمل حديث سمرة على اتفاق الأغراض، وحديث عمرو بن العاص على اختلافها، وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه، ولكن صححه الترمذي، ويشهد لمالك ما رواه الترمذي عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ "الحيوان اثنان بواحد، لا يصلح النَّساء ولا بأس به يدا بيد" وقال ابن المنذر: ثبت "أن رسول الله ﷺ اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس" وعلى هذا الحديث يكون بيع الحيوان بالحيوان يشبه أن يكون أصلا بنفسه لا من قبل سد ذريعة. واختلفوا فيما لا يجوز بيعه نَّساء، هل من شرطه التقابض في المجلس قبل الافتراق سائر الربويات بعد اتفاقهم في اشتراط ذلك في المصارفة لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تبيعوا منها غائبا بناجز" فمن شرط فيها التقابض في المجلس شبهها بالصرف، ومن لم يشترط ذلك قال: إن القبض قبل التفرق ليس شرطا في البيوع إلا ما قام الدليل عليه، ولما قام الدليل على الصرف فقط بقيت سائر الربويات على الأصل.
- 4*الفصل الرابع في معرفة ما يعد صنفا واحدا، وما لا يعد صنفا واحدا.
@-واختلفوا من هذا الباب فيما يعد صنفا واحدا وهو المؤثر في التفاضل مما لا يعد صنفا واحدا في مسائل كثيرة، لكن نذكر منها أشهرها، وكذلك اختلفوا في صفات الصنف الواحد المؤثر في التفاضل، هل من شرطه أن لا يختلف بالجودة والرداءة، ولا باليبس والرطوبة؟ فأما اختلافهم فيما يعد صنفا واحدا مما لا يعد صنفا واحدا، فمن ذلك القمح والشعير، صار قوتا إلى أنهما صنف واحد، وصار آخرون إلى أنهما صنفان، فبالأول قال مالك والأوزاعي، وحكاه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب؛ وبالثاني قال الشافعي وأبو حنيفة، وعمدتهما السماع والقياس. أما السماع فقوله ﷺ "لا تبيعوا البر بالبر والشعير بالشعير إلا مثلا بمثل" فجعلهما صنفين، وأيضا فإن في بعض طرق حديث عبادة بن الصامت "وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، والبر بالشعير كيف شئتم، والملح بالتمر كيف شئتم يدا بيد" ذكره عبد الرزاق ووكيع عن الثوري، وصحح هذه الزيادة الترمذي. وأما القياس فلأنهما اختلفت أسماؤهما ومنافعهما، فوجب أن يكونا يكونا صنفين، أصله الفضة والذهب وسائر الأشياء المختلفة في الاسم والمنفعة. وأما عمدة مالك فإنه عمل سلفه بالمدينة. وأما أصحابه فاعتمدوا في ذلك أيضا السماع والقياس. أما السماع فما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "الطعام بالطعام مثلا بمثل" فقالوا: اسم الطعام يتناول البر والشعير وهذا ضعيف، فإن هذا عام يفسره الأحاديث الصحيحة. وأما من طريق القياس فإنهم عددوا كثيرا من اتفاقهما في المنافع، والمتفقة المنافع لا يجوز التفاضل فيها باتفاق، والسلت عند مالك والشعير صنف واحد، وأما القطية فإنها عنده صنف واحد في الزكاة، وعنه في البيوع روايتان: إحداهما أنها صنف واحد، والأخرى أنها أصناف. وسبب الخلاف تعارض اتفاق المنافع فيها واختلافها، فمن غلب الاتفاق قال: صنف واحد، ومن غلب الاختلاف قال: صنفان أو أصناف، والأرز والدخن والجاورس عنده صنف واحد. @-(مسألة) واختلفوا من هذا الباب في الصنف الواحد من اللحم الذي لا يجوز فيه التفاضل، فقال مالك: اللحوم ثلاثة أصناف: فلحم ذوات الأربع صنف، ولحم ذوات الماء صنف، ولحم الطير كله صنف واحد أيضا، وهذه الثلاثة الأصناف مختلفة يجوز فيها التفاضل. وقال أبو حنيفة: كل واحد من هذه هو أنواع كثيرة، والتفاضل فيه جائز إلا في النوع الواحد بعينه. وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول أبي حنيفة، والآخر أن جميعها صنف واحد. وأبو حنيفة يجيز لحم الغنم بالبقر متفاضلا، ومالك لا يجيزه، والشافعي لا يجيز بيع لحم الطير بلحم الغنم متفاضلا، ومالك يجيزه. وعمدة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام "الطعام بالطعام مثلا بمثل" ولأنها إذا فارقتها الحياة زالت الصفات التي كانت بها تختلف، ويتناولها اسم اللحم تناولا واحدا. وعمدة المالكية أن هذه الأجناس مختلفة، فوجب أن يكون لحمها مختلفا. والحنفية تعتبر الاختلاف الذي في الجنس الواحد من هذه وتقول: إن الاختلاف الذي بين الأنواع التي في الحيوان، أعني في الجنس الواحد منه كأنك قلت الطائر هو وزان الاختلاف الذي بين التمر والبر والشعير. وبالجملة فكل طائفة تدعي أن وزان الاختلاف الذي بين الأشياء المنصوص عليها الذي تراه في اللحم، والحنفية أقوى من جهة المعنى، لأن تحريم التفاضل إنما هو عند اتفاق المنفعة. @-(مسألة) واختلفوا من هذا الباب في بيع الحيوان بالميت على ثلاثة أقوال: قول إنه لا يجوز بإطلاق، وهو قول الشافعي والليث؛ وقول إنه يجوز في الأجناس المختلفة التي يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز ذلك في المتفقة: أعني الربوية لمكان الجهل الذي فيها من طريق التفاضل، وذلك في التي المقصود منها الأكل، وهو قول مالك، فلا يجوز شاة مذبوحة بشاة تراد للأكل، وذلك عنده في الحيوان المأكول، حتى أنه لا يجيز الحي بالحي إذا كان المقصود الأكل من أحدهما، فهي عنده من هذا الباب، أعني أن امتناع ذلك عنده من جهة الربا والمزابنة؛ وقول ثالث إنه يجوز مطلقا، وبه قال أبو حنيفة. وسبب الخلاف معارضة الأصول في هذا الباب لمرسل سعيد بن المسيب، وذلك أن مالكا روى عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الحيوان باللحم" فمن لم تنقدح عنده معارضة هذا الحديث لأصل من أصول البيوع التي توجب التحريم قال به. ومن رأى أن الأصول معارضة له وجب عليه أحد أمرين: إما أن يغلب الحديث فيجعله أصلا زائدا بنفسه أو يرده لمكان معارضة الأصول له. فالشافعي غلب الحديث وأبو حنيفة غلب الأصول، ومالك رده إلى أصوله في البيوع، فجعل البيع فيه من باب الربا، أعني بيع الشيء الربوي بأصله، مثل بيع الزيت بالزيتون وسيأتي الكلام على هذا الأصل، فإنه الذي يعرفه الفقهاء بالمزابنة، وهي داخلة في الربا بجهة، وفي الغرر بجهة، وذلك أنها ممنوعة في الربويات من جهة الربا والغرر، وفي غير الربويات من جهة الغرر فقط الذي سببه الجهل بالخارج عن الأصل. @-(مسألة) ومن هذا الباب اختلافهم في بيع الدقيق بالحنطة مثلا بمثل، فالأشهر عن مالك جوازه، وهو قول مالك في موطئه، وروي عنه أنه لا يجوز، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وابن الماجشون من أصحاب مالك؛ وقال بعض أصحاب مالك: ليس هو اختلافا من قوله، وإنما رواية المنع إذا كان اعتبار المثلية بالكيل، لأن الطعام إذا صار دقيقا اختلف كيله، ورواية الجواز إذا كان الاعتبار بالوزن. وأما أبو حنيفة فالمنع عنده في ذلك من قبل أن أحدهما مكيل والآخر موزون. ومالك يعتبر الكيل أو الوزن فيما جرت العادة أن يكال أو يوزن، والعدد فيما لا يكال ولا يوزن. واختلفوا من هذا الباب فيما تدخله الصنعة مما أصله منع الربا فيه مثل الخبز بالخبز، فقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع ذلك متفاضلا ومتماثلا، لأنه قد خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا، وقال الشافعي: لا يجوز متماثلا فضلا عن متفاضل، لأنه قد غيرته الصنعة تغيرا جهلت به مقاديره التي تعتبر فيها المماثلة. وأما مالك فالأشهر في الخبز عنده أنه يجوز متماثلا، وقد قيل فيه أنه يجوز فيه التفاضل والتساوي. وأما العجين بالعجين فجائز عنده مع المماثلة. وسبب الخلاف هل الصنعة تنقله من جنس الربويات أو ليس تنقله، وإن لم تنقله فهل تمكن المماثلة فيه أو لا تمكن؟ فقال أبو حنيفة: تنقله، وقال مالك والشافعي: لا تنقله. واختلفوا في إمكان المماثلة فيهما، فكان مالك يجيز اعتبار المماثلة في الخبز واللحم بالتقدير والحزر فضلا عن الوزن. وأما إذا كان أحد الربويين لم تدخله صنعة والآخر قد دخلته الصنعة، فإن مالكا يرى في كثير منها أن الصنعة تنقله من الجنس: أعني من أن يكون جنسا واحدا فيجيز فيها التفاضل، وفي بعضها ليس يرى ذلك، وتفصيل مذهبه في ذلك عسير الانفصال، فاللحم المشوي والمطبوخ عنده من جنس واحد، والحنطة المقلوة عنده وغير المقلوة جنسان، وقد رام أصحابه التفصيل في ذلك، والظاهر من مذهبه أنه ليس في ذلك قانون من قوله حتى ينحصر فيه أقواله فيها، وقد رام حصرها الباجي في المنتقي، وكذلك أيضا يعسر حصر المنافع التي توجب عنده الاتفاق في شيء شيء من الأجناس التي يقع بها التعامل، وتمييزها من التي لا توجب ذلك: أعني في الحيوان والعروض والنبات. وسبب العسر أن الإنسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادئ النظر في الحال جاوب فيها بجوابات مختلفة، فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه، وأنت تتبين ذلك من كتبهم، فهذه هي أمهات هذا الباب. @-(فصل) وأما اختلافهم في بيع الربوي الرطب بجنسه من اليابس مع وجود التماثل في القدر والتناجز، فإن السبب في ذلك ما روى مالك عن سعد بن أبي وقاص أنه قال "سمعت رسول الله ﷺ يسئل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله ﷺ؛ أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك" فأخذ به أكثر العلماء وقال: لا يجوز بيع التمر بالرطب على حال مالك والشافعي وغيرهما. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك، وخالفه في ذلك صاحباه محمد بن الحسن وأبو يوسف. وقال الطحاوي بقول أبي حنيفة. وسبب الخلاف معارضة ظاهر حديث عبادة وغيره له، واختلافهم في تصحيحه، وذلك أن حديث عبادة اشترط في الجواز فقط المماثلة والمساواة، وهذا يقتضي بظاهره حال العقد لا حال المآل؛ فمن غلب ظواهر أحاديث الربويات رد هذا الحديث؛ ومن جعل هذا الحديث أصلا بنفسه قال: هو أمر زائد ومفسر لأحاديث الربويات. والحديث أيضا اختلف الناس في تصحيحه ولم يخرجه الشيخان. قال الطحاوي: خولف فيه عبد الله، فرواه يحيى بن كثير عنه "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة" وقال: إن الذي يروي عنه هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص هو مجهول، لكن جمهور الفقهاء صاروا إلى العمل به. وقال مالك في موطئه قياسا به على تعليل الحكم في هذا الحديث، وكذلك كل رطب بيابس من نوعه حرام: يعني منع المماثلة كالعجين بالدقيق واللحم اليابس بالرطب وهو أحد قسمي المزابنة عند مالك المنهى عنها عنده، والعرية عنده مستثناة من هذا الأصل، وكذلك عند الشافعي، والمزابنة المنهي عنها عند أبي حنيفة هو بيع التمر على الأرض بالتمر في روءس النخيل لموضع الجهل بالمقدار الذي بينهما أعني بوجود التساوي، وطرد الشافعي هذه العلة في الشيئين الرطبين، فلم يجز بيع الرطب بالرطب، ولا العجين بالعجين مع التماثل، لأنه زعم أن التفاضل يوجد بينهما عند الجفاف. وخالفه في ذلك جل من قال بهذا الحديث. وأما اختلافهم في بيع الجيد بالرديء في الأصناف الربوية، فذلك يتصور بأن يباع منها صنف واحد وسط في الجودة بصنفين: أحدهما أجود من ذلك الصنف، والآخر أردأ، مثل أن يبيع مدين من تمر وسط بمدين من تمر أحدهما أعلى من الوسط، والآخر أدون منه، فإن مالكا يرد هذا لأنه يهمه أن يكون إنما قصد أن يدفع مدين من الوسط في مد من الطيب، فجعل معه الرديء ذريعة إلى تحليل ما لا يجب من ذلك، ووافقه الشافعي في هذا، ولكن التحريم عنده ليس هو فيما أحسب لهذه التهمة لأنه لا يعمل التهم، ولكن يشبه أن يعتبر التفاضل في الصفة، وذلك أنه متى لم تكن زيادة الطيب على الوسط مثل نقصان الرديء عن الوسط، وإلا فليس هناك مساواة في الصفة. ومن هذا الباب اختلافهم في جواز بيع صنف من الربويات بصنف مثله وعرض أو دنانير أو دراهم إذا كان الصنف الذي يجعل معه العرض أقل من ذلك الصنف المفرد أو يكون مع كل واحد منهما عرض والصنفان مختلفان في القدر، فالأول مثل أن يبيع كيلين من التمر بكيل من التمر ودرهم، والثاني مثل أن يبيع كيلين من التمر وثوب بثلاثة أكيال من التمر ودرهم، فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز، وقال أبو حنيفة والكوفيون: إن ذلك جائز. فسبب الخلاف هل ما يقابل العرض من الجنس الربوي ينبغي أن يكون مساويا له في القيمة أو يكفي في ذلك رضا البائع، فمن قال الاعتبار بمساواته في القيمة قال: لا يجوز لمكان الجهل بذلك، لأنه إذا لم يكن العرض مساويا لفضل أحد الربويين على الثاني كان التفاضل ضرورة، مثال ذلك أنه إن باع كيلين من تمر بكيل وثوب فقد يجب أن تكون قيمة الثوب تساوي الكيل، وإلا وقع التفاضل ضرورة. وأما أبو حنيفة فيكتفي في ذلك بأن يرضى به المتبايعان، ومالك يعتبر أيضا في هذا سد الذريعة، لأنه إنما جعل جاعل ذلك ذريعة إلى بيع الصنف الواحد متفاضلا فهذه مشهورات مسائلهم في هذا الجنس.
- 3*باب في بيوع الذرائع الربوية.
@-وههنا شيء يعرض للمتبايعين إذا قال أحدهما للآخر بزيادة أو نقصان، وللمتبايعين إذا اشترى أحدهما من صاحبه الشيء الذي باعه بزيادة أو نقصان وهو أن يتصور بينهما من غير قصد إلى ذلك تبايع ربوي، مثل أن يبيع إنسان من إنسان سلعة بعشرة دنانير نقدا ثم يشتريها منه بعشرين إلى أجل، فإذا أضيفت البيعة الثانية إلى الأولى استقر الأمر على أن أحدهما دفع عشرة دنانير في عشرين إلى أجل، وهذا هو الذي يعرف ببيوع الآجال. فنذكر من ذلك مسألة في الإقالة، ومسألة من بيوع الآجال إذ كان هذا الكتاب ليس المقصود به التفريع، وإنما المقصود فيه تحصيل الأصول. @-(مسألة) لم يختلفوا أن من باع شيئا ما كأنك قلت عبدا بمائة دينار مثلا إلى أجل، ثم ندم البائع فسأل المبتاع أن يصرف إليه مبيعه ويدفع إليه عشرة دنانير مثلا نقدا أو إلى أجل، أن ذلك يجوز وأنه لا بأس بذلك، وأن الإقالة عندهم إذا دخلتها الزيادة والنقصان هي بيع مستأنف، ولا حرج في أن يبيع الإنسان الشيء بثمن ثم يشتريه بأكثر منه، لأنه في هذه المسألة اشترى منه البائع الأول العبد الذي باعه بالمائة التي وجبت له وبالعشرة مثاقيل التي زادها نقدا أو إلى أجل، وكذلك لا خلاف بينهم لو كان البيع بمائة دينار إلى أجل والعشرة مثاقيل نقدا أو إلى أجل. وأما إن ندم المشتري في هذه المسألة وسأل الإقالة على أن يعطي البائع العشرة المثاقيل نقدا أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي وجبت فيه المائة، فهنا اختلفوا، فقال مالك؛ لا يجوز، وقال الشافعي: يجوز؛ ووجه ماكره من ذلك مالك أن ذلك ذريعة إلى قصد بيع الذهب بالذهب إلى أجل وإلى بيع ذهب وعرض بذهب، لأن المشتري دفع العشرة مثاقيل والعبد في المائة دينار التي عليه، وأيضا يدخله بيع وسلف كأن المشتري باعه العبد بتسعين وأسلفه عشرة إلى الأجل الذي يجب عليه قبضها من نفسه لنفسه. وأما الشافعي فهذا عنده كله جائز لأنه شراء مستأنف، ولا فرق عنده بين هذه المسألة وبين أن تكون لرجل على رجل مائة دينار مؤجلة، فيشتري منه غلاما بالتسعين دينارا التي عليه ويتعجل له عشرة دنانير، وذلك جائز بإجماع. قال: وحمل الناس على التهم لا يجوز. وأما إن كان البيع الأول نقدا فلا خلاف في جواز ذلك، لأنه ليس يدخله بيع ذهب بذهب نسيئة، إلا أن مالكا كره ذلك لمن هو من أهل العينة: أعني الذي يداين الناس، لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه يتوصلان إليه بما أظهرا من البيع من غير أن تكون له حقيقة. وأما البيوع التي يعرفوها ببيوع الآجال، فهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر أو نقدا. ( وهنا تسع مسائل إذا لم تكن هناك زيادة عرض اختلف منها في مسئلتين واتفق في الباقي) وذلك أنه من باع شيئا إلى أجل ثم اشتراه، فإما أن يشتريه إلى ذلك الأجل بعينه أو قبله أو بعده، وفي كل واحد من هذه الثلاثة إما أن يشتريه بمثل الثمن الذي باعه به منه، وإما بأقل، وإما بأكثر يختلف من ذلك في اثنتين؛ وهو أن يشتريها قبل الأجل نقدا بأقل من الثمن أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن. فعند مالك وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز. وقال الشافعي وداود وأبو ثور يجوز، فمن منعه فوجه منعه اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول، فاتهمه أن يكون إنما قصد دفع الدنانير في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المنهي عنه فزور لذلك هذه الصورة ليتصلا بها إلى الحرام مثل أن يقول قائل لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شهر وأرد إليك عشرين دينارا، فيقول: هذا لا يجوز، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر، ثم أشتريه منك بعشرة نقدا. وأما في الوجوه الباقية فليس يتهم فيها لأنه إن أعطى أكثر من الثمن في أقل من ذلك الأجل لم يتهم، وكذلك إن اشتراها بأقل من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل، ومن الحجة لمن رأى هذا الرأي حديث أبي العالية عن عائشة أنها سمعتها وقد قالت لها امرأة كانت أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت من زيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إن لم يتب، قالت: أرأيت إن تركت وأخذت الستمائة دينار؟ قالت: نعم {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} وقال الشافعي وأصحابه: لا يثبت حديث عائشة، وأيضا فإن زيدا قد خالفها، وإذا اختلفت الصحابة فمذهبنا القياس، وروي مثل قول الشافعي عن ابن عمر. وأما إذا حدث بالمبيع نقص عند المشتري الأول، فإن الثوري وجماعة من الكوفيين أجازوا لبائعه بالنظرة أن يشتريه نقدا بأقل من ذلك الثمن وعن مالك في ذلك روايتان، والصور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي أن يتذرع منها إلى: أنظرني أزدك، أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلا، أو بيع ما لا يجوز نَساء، أو إلى بيع أو سلف، أو إلى ذهب وعرض بذهب أو إلى: ضع وتعجل، أو بيع الطعام قبل أن يستوفي، أو بيع أو صرف، فإن هذه هي أصول الربا. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن باع طعاما بطعام قبل أن يقبضه، فمنعه مالك وأبو حنيفة وجماعة، وأجازه الشافعي والثوري والأوزاعي وجماعة. وحجة من كرهه أنه شبيه ببيع الطعام بالطعام نَساء، ومن أجازه لم ير ذلك فيه اعتبارا بترك القصد إلى ذلك. ومن ذلك اختلافهم فيمن اشترى طعاما بثمن إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل لم يكن عند البائع طعام يدفعه إليه، فاشترى من المشتري طعاما بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له فأجاز ذلك الشافعي وقال: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب له عليه أو من المشتري نفسه؛ ومنع من ذلك مالك ورآه من الذريعة إلى بيع الطعام قبل أن يستوفي، لأنه رد إليه الطعام الذي كان ترتب في ذمته، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه. وصورة الذريعة في ذلك أن يشتري رجل من آخر طعاما إلى أجل معلوم، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام، ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك علي، فقال هذا لا يصح لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفي فيقول له: فبع طعاما مني وأرده عليك، فيعرض من ذلك ما ذكرناه، أعني أن يرد عليه ذلك الطعام الذي أخذ منه ويبقى الثمن المدفوع إنما هو ثمن الطعام الذي هو في ذمته. وأما الشافعي فلا يعتبر التهم كما قلنا وإنما يراعي فيما يحل ويحرم من البيوع ما اشترطا وذكراه بألسنتهما وظهر من فعلهما لإجماع العلماء على أنه إذا قال أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها وأنظرك بها حولا أو شهرا أنه لا يجوز، ولو قال له: أسلفني دراهم وأمهلني بها حولا أو شهرا جاز، فليس بينهما إلا اختلاف لفظ البيع وقصده ولفظ القصد وقرضه، ولما كانت أصول الربا كما قلنا خمسة: أنظرني أزدك، والتفاضل، والنساء، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، فإنه يظن أنه من هذا الباب إذ فاعل ذلك يدفع دنانير ويأخذ أكثر منها من غير تكلف فعل ولا ضمان يتلق بذمته، فينبغي أن نذكر ههنا هذين الأصلين. أما: ضع وتعجل فأجازه ابن عباس من الصحابة وزفر من فقهاء الأمصار، ومنعه جماعة منهم ابن عمر من الصحابة ومالك وأبو حنيفة والثوري وجماعة من فقهاء الأمصار، واختلف قول الشافعي في ذلك، فأجاز مالك وجمهور من ينكر: ضع وتعجل، أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضا يأخذه وإن كانت قيمته أقل من دينه. وعمدة من لم يجز: ضع وتعجل أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنا، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا. وعمدة من أجازه ما روي عن ابن عباس "أن النبي ﷺ لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم فقالوا: يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله ﷺ: ضعوا وتعجلوا" فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه لهذا الحديث. وأما بيع الطعام قبل قبضه، فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي. وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله ﷺ من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه". واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات. والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط. والثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا، ففيه ثلاثة فصول:
- 4*الفصل الأول فيما يشترط فيه القبض من المبيعات.
@-وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه. وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان: إحداهما المنع وهي الأشهر، وبها قال أحمد وأبو ثور، إلا أنهما اشترطا مع الطعم الكيل والوزن. والرواية الأخرى الجواز. وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل مبيع ما عدا المبيعات التي لا تنتقل ولا تحول من الدور والعقار. وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس. وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز ابن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود، فيتحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط. والثاني: في الطعام بإطلاق. الثالث: في الطعام المكيل والموزون. الرابع: في كل شيء ينقل. الخامس: في كل شيء. السادس: في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون والمعدود. أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم. وأما عمدة الشافعي في تعميم ذلك في كل بيع فعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك" وهذا من باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال: قلت "يا رسول الله إني اشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه" قال أبو عمر: حديث حكيم من حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم ابن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين. ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما يحول وينقل عنده مما لا ينقل، لأن ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية. وأما من اعتبر الكيل والوزن، فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهي عن بيع ما لم يضمن.
- 4*الفصل الثاني. في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.
@-وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتبر، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات. والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها يختص بقصد المعاينة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض. والقسم الثالث فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا: أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق، كالشركة والإقالة والتولية وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام. أما ما كان بيعا وبعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشيء الذي يشترط فيه القبض واحد واحد من العلماء. وأما ما كان خالصا للرفق: أعني القرض، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه أعني أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه. واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع، فقال: يجوز بيعهما قبل القبض. وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة وهي التولية والشركة والإقالة، فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض، وتجوز الإقالة عندهما لأنها قبل القبض فسخ بيع لا بيع. فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى. أما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ قال "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة. وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان، وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل، لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا.
- 4*الفصل الثالث. في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا.
@-وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا، فإن مالكا رخص فيه وأجازه وبه قال الأوزاعي، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي. وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، لأن الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف. ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال "كنا في زمان رسول الله ﷺ نبتاع الطعام جزافا، فبعث إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواء قبل أن نبيعه، قال أبو عمر: وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف، فقد روته جماعة وجوده عبيد الله بن عمر وغيره، وهو متقدم في حفظ حديث نافع. وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع بيع الرجل شيئا لا يملكه، وهو المسمى عينة عند من يرى نقله من باب الذريعة إلى الربا. وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر؛ وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل: أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفها، فيقول له: هذا لا يصلح، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما، وتلك السلعة قيمتها قريب مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها، وفي المذهب في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب: أعني إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها. وأما الدين بالدين، فأجمع المسلمون على منعه. واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع، ويراه من باب الدين بالدين. وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين، وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه، وهو قياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. ومما أجازه مالك من هذا الباب وخالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل ما يبتع (1) في الأسواق، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه من الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه. وأما القمح وشبهه فلا، فهذه هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم.
(1) ["يبتع": الأصل غير واضح، فليتنبه. دار الحديث]
- 3*الباب الثالث. [في البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر]
@-وهي البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر، والغرر يوجد في المبيعات من جهة الجهل على أوجه: إما من جهة الجهل بتعيين المعقود عليه، أو تعيين العقد، أو من جهة الجهل بوصف الثمن والمثمون المبيع، أو بقدره أو بأجله إن كان هنالك أجل، وإما من جهة الجهل بوجوده أو تعذر القدرة عليه، وهذا راجع إلى تعذر التسليم، وإما من جهة الجهل بسلامته: أعني بقاءه، وههنا بيوع تجمع أكثر هذه أو بعضها، ومن البيوع التي توجد فيها هذه الضروب من الغرر بيوع منطوق بها وبيوع مسكوت عنها، والمنطوق به أكثره متفق عليه، وإنما يختلف في شرح أسمائها، والمسكوت عنه مختلف فيه. ونحن نذكر أولا المنطوق به في الشرع، وما يتعلق به من الفقه، ثم نذكر بعد ذلك من المسكوت عنه ما شهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار ليكون كالقانون في نفس الفقه: أعني في رد الفروع إلى الأصول. فأما المنطوق به في الشرع فمنه "نهيه ﷺ عن بيع حبل الحبلة" ومنها "نهيه عن بيه ما لم يخلق، وعن بيع الثمار حتى تزهى، وعن بيع الملامسة والمنابذة، وعن بيع الحصاة" ومنها "نهيه عن المعاومة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيع السنبل حتى يبيض والعنب حتى يسود" "ونهيه عن المضامين والملاقيح". أما بيع الملامسة فكانت صورته في الجاهلية أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره أو يبتاعه ليلا، ولا يعلم ما فيه، وهذا مجمع على تحريمه، وسبب تحريمه الجهل بالصفة. وأما بيع المنابذة فكان أن ينبذ كل واحد من المتبايعين إلى صاحبه الثوب من غير أن يعين أن هذا بهذا، بل كانوا يجعلون ذلك راجعا إلى الاتفاق. وأما بيع الحصاة، فكانت صورته عندهم أن يقول المشتري: أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي، وقيل أيضا إنهم كانوا يقولون: إذا وقعت الحصاة من يدي فقد وجب البيع وهذا قمار. وأما بيع حبل الحبلة ففيه تأويلان: أحدهما أنها كانت بيوعا يؤجلونها إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم ينتج ما في بطنها، والغرر من جهة الأجل في هذا بين؛ وقيل إنما هو بيع جنين الناقة، وهذا من باب النهي عن بيع المضامين والملاقيح. والمضامين: هي ما في بطون الحوامل، والملاقيح: ما في ظهور الفحول، فهذه كلها بيوع جاهلية متفق على تحريمها، وهي محرمة من تلك الأوجه التي ذكرناها. وأما بيع الثمار، فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وحتى تزهى" ويتعلق بذلك مسائل مشهورة نذكر منها نحن عيونها. وذلك أن بيع الثمار لا يخلو أن تكون قبل أن تخلق أو بعد أن تخلق، ثم إذا خلقت لا يخلو أن تكون بعد الصرام أو قبله، ثم إذا كان قبل الصرام فلا يخلو أن تكون قبل أن تزهى أو بعد أن تزهى، وكل واحد من هذين لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا أو بشرط التبقية أو بشرط القطع. أما القسم الأول وهو بيع الثمار قبل أن تخلق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك، لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق، ومن باب بيع السنين والمعاومة. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة، وهي بيع الشجر أعواما" إلا ما روي عن عمر ابن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين. وأما بيعها بعد الصرام فلا خلاف في جوازه. وأما بيعها بعد أن خلقت فأكثر العلماء على جواز ذلك على التفصيل الذي نذكره، إلا ما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعن عكرمة أنه لا يجوز إلا بعد الصرام، فإذا قلنا بقول الجمهور إنه يجوز قبل الصرام، فلا يخلو أن تكون بعد أن تزهى أو قبل أن تزهى، وقد قلنا إن ذلك لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا أو بيعا بشرط القطع أو بشرط التبقية. فأما بيعها قبل الزهو بشرط القطع فلا خلاف في جوازه إلا ما روي عن الثوري وابن أبي ليلى من منع ذلك، وهي رواية ضعيفة. وأما بيعها قبل الزهو بشرط التبقية فلا خلاف في أنه لا يجوز إلا ما ذكره اللخمي من جوازه تخريجا على المذهب. وأما بيعها قبل الزهو مطلقا، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار، فجمهورهم على أنه لا يجوز: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والليث والثوري وغيرهم. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إلا أنه يلزم المشتري عنده فيه القطع لا من جهة ما هو بيع ما لم يره بل من جهة أن ذلك شرط عنده في بيع الثمر على ما سيأتي بعد. أما دليل الجمهور على منع بيعها مطلقا قبل الزهو، فالحديث الثابت عن ابن عمر "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري" فعلم أن ما بعد الغاية بخلاف ما قبل الغاية، وأن هذا النهي يتناول البيع المطلق بشرط التبقية، ولما ظهر للجمهور أن المعنى في هذا خوف ما يصيب الثمار الجائحة غالبا قبل أن تزهى لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك بعد نهيه عن بيع الثمرة قبل الزهو "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟" لم يحمل العلماء النهي في هذا على الإطلاق: أعني النهي عن البيع قبل الإزهاء بل رأى أن معنى النهي هو بيعه بشرط التبقية إلى الإزهاء، فأجازوا بيعها قبل الإزهاء بشرط القطع. واختلفوا إذا ورد البيع مطلقا في هذه الحال هل يحمل على القطع وهو الجائز، أو على التبقية الممنوعة؟ فمن حمل الإطلاق على التبقية، أو رأى أن النهي يتناوله بعمومه قال: لا يجوز؛ ومن حمله على القطع قال: يجوز، والمشهور عن مالك أن الإطلاق محمول على التبقية، وقد قيل عنه إنه محمول على القطع. وأما الكوفيون فحجتهم في بيع الثمار مطلقا قبل أن تزهى حديث ابن عمر الثابت أن رسول الله ﷺ قال "من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع" قالوا: فلما جاز أن يشترطه المبتاع جاز بيعه مفردا، وحملوا الحديث الوارد بالنهي عن بيع الثمار قبل أن تزهى على الندب، واحتجوا لذلك بما روي عن زيد بن ثابت قال: "كان الناس في عهد رسول الله ﷺ يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: أصاب الثمر الزمان أصابه ما أضر به قشام ومراض لعاهات يذكرونها، فلما كثرت خصومتهم عند النبي قال كالمشورة يشير بها عليهم: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحها" وربما قالوا: إن المعنى الذي دل عليه الحديث في قوله "حتى يبدو صلاحه" هو ظهور الثمرة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟" وقد كان يجب على من قال من الكوفيين بهذا القول ولم يكن يرى رأي أبو حنيفة في أن من ضرورة بيع الثمار القطع أن يجيز بيع الثمر قبل بدو صلاحها على شرط التبقية، فالجمهور يحملون جواز بيع الثمار بالشرط قبل الإزهاء على الخصوص: أعني إذا بيع الثمر مع الأصل. وأما شراء الثمر مطلقا بعد الزهو فلا خلاف فيه، والإطلاق فيه عند جمهور فقهاء الأمصار يقتضي التبقية، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت إن منع الله الثمرة" الحديث. ووجه الدليل منه أن الجوائح إنما تطرأ في الأكثر على الثمار قبل بدو الصلاح، وأما بعد بدو الصلاح فلا تظهر إلا قليلا، ولو لم يجب في المبيع بشرط التبقية لم يكن هنالك جائحة تتوقع، وكان هذا الشرط باطلا. وأما الحنفية فلا يجوز عندهم بيع الثمر بشرط التبقية، والإطلاق عندهم كما قلنا محمول على القطع، وهو خلاف مفهوم الحديث، وحجتهم أن نفس بيع الشيء يقتضي تسليمه وإلا لحقه الغرر، ولذلك لم يجز أن تباع الأعيان إلى أجل. والجمهور على أن بيع الثمار مستثنى من بيع الأعيان إلى أجل لكون الثمر ليس يمكن أن ييبس كله دفعة، فالكوفيون خالفوا الجمهور في بيع الثمار في موضعين: أحدهما في جواز بيعها قبل أن تزهى. والثاني في منع تبقيتها بالشرط بعد الإزهاء أو بمطلق العقد، وخلافهم في الموضع الأول أقوى من خلافهم في الموضع الثاني: أعني في شرط القطع وإن أزهى، وإنما كان خلافهم في الموضع الأول أقرب، لأنه من باب الجمع بين حديثي ابن عمر المتقدمين، لأن ذلك أيضا مروي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير، وأما بدو الصلاح الذي جوز رسول الله ﷺ البيع بعده، فهو أن يصفر فيه البسر ويسود فيه العنب إن كان مما يسود، وبالجملة أن تظهر في الثمر صفة الطيب، هذا هو قول جماعة فقهاء الأمصار لما رواه مالك عن حميد عن أنس "أنه ﷺ سئل عن قوله حتى يزهى، فقال: حتى يحمر" وروي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيع العنب حتى يسود، والحب حتى يشتد" وكان زيد بن ثابت في رواية مالك عنه لا يبيع ثماره حتى تطلع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيار وهو مايو، وهو قول ابن عمر أيضا "سئل عن قول رسول الله ﷺ إنه نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهات، فقال عبد الله بن عمر: ذلك وقت طلوع الثريا" وروي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال "إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهات عن أهل البلد" وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا بأس أن يباع الحائط وإن لم يزه إذا أزهى ما حوله من الحيطان إذا كان الزمان قد أمنت فيه العاهة، يريد {والله أعلم} طلوع الثريا، إلا أن المشهور عنه أنه لا يباع حائط حتى يبدو فيه الزهو، وقد قيل إنه لا يعتبر مع الإزهاء طلوع الثريا. فالمحصل في بدو الصلاح للعلماء ثلاثة أقوال: قول إنه الإزهاء، وهو المشهور، وقول إنه طلوع الثريا، وإن لم يكن في الحائط في حين البيع إزهاء؛ وقول: الأمران جميعا. وعلى المشهور من اعتبار الإزهاء يقول مالك إنه إذا كان في الحائط الواحد بعينه أجناس من الثمر مختلفة الطيب لم يبع كل صنف منها إلا بظهور الطيب فيه، وخالفه في ذلك الليث. وأما الأنواع المتقاربة الطيب فيجوز عنده بيع بعضها بطيب البعض، وبدو الصلاح المعتبر عن مالك في الصنف الواحد من الثمر هو وجود الإزهاء في بعضه لا في كله إذا لك يكن ذلك الإزهاء مبكرا في بعضه تبكيرا يتراخى عنه البعض بل إذا كان متتابعا، لأن الوقت الذي تنجو الثمرة فيه في الغالب من العاهات هو إذا بدا الطيب في الثمرة ابتداء متناسقا غير منقطع. وعند مالك أنه إذا بدا الطيب في نخلة بستان جاز بيعه وبيع البساتين المجاورة له إذا كان نخل البساتين من جنس واحد. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بيع نخل البستان الذي يظهر فيه الطيب فقط. ومالك اعتبر الوقت الذي تؤمن فيه العاهة إذا كان الوقت واحدا للنوع الواحد. والشافعي اعتبر نقصان خلقة الثمر، وذلك أنه إذا لم يطب كان من بيع ما لم يخلق، وذلك أمن صفة الطيب فيه وهي مشتراة لم تخلق بعد، لكن هذا كما قال لا يشترط في كل الثمرة بل في بعض ثمرة جنة واحدة، وهذا لم يقل به أحد، فهذا هو مشهور ما اختلفوا فيه من بيع الثمار. ومن المسموع الذي اختلفوا فيه من هذا الباب ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من النهي عن بيع السنبل حتى يبيض والعنب حتى يسود، وذلك أن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الحنطة في سنبلها دون السنبل، لأنه بيع ما لم تعلم صفته ولا كثرته. واختلفوا في بيع السنبل نفسه مع الحب، فجوز ذلك جمهور العلماء: مالك وأبو حنيفة وأهل المدينة وأهل الكوفة؛ وقال الشافعي: لا يجوز بيع السنبل نفسه وإن اشتد، لأنه من باب الغرر وقياسا على بيعه مخلوطا بتبنه بعد الدرس. وحجة الجمهور شيئان: الأثر والقياس: فأما الأثر فما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع النخيل حتى تزهى، وعن السنبل حتى تيبض وتأمن العاهة، نهي البائع والمشتري" وهي زيادة على ما رواه مالك من هذا الحديث، والزيادة إذا كانت من الثقة مقبولة وروي عن الشافعي أنه لما وصلته هذه الزيادة رجع عن قوله، وذلك أنه لا يصح عنده قياس مع وجود الحديث. وأما بيع السنبل إذا أفرك ولم يشتد فلا يجوز عند مالك إلا على القطع. وأما بيع السنبل غير محصود، فقيل عن مالك يجوز، وقيل لا يجوز، إلا إذا كان في حزمه. وأما بيعه في تبنه بعد الدرس فلا يجوز بلا خلاف فيما أحسب، هذا إذا كان جزافا، فأما إذا كان مكيلا فجائز عند مالك، ولا أعرف فيه قولا لغيره واختلف الذين أجازوا بيع السنبل إذا طاب على من يكون حصاده ودرسه؛ فقال الكوفيون: على البائع حتى يعمله حبا للمشتري؛ وقال غيرهم: هو على المشتري. ومن هذا الباب ما ثبت "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيعتين في بيعة" وذلك من حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود وأبي هريرة، قال أبو عمر: وكلها من نفل العدول، فاتفق الفقهاء على القول بموجب هذا الحديث عموما؛ واختلفوا في التفصيل، أعني في الصورة التي ينطلق عليها الاسم من التي لا ينطلق عليها واتفقوا أيضا على بعضها، وذلك يتصور على ثلاثة وجوه: أحدها إما في مثمونين بثمنين، أو مثمون واحد بثمنين، أو مثمونين بثمن واحد على أن أحد البيعين قد لزم. أما في مثمونين بثمنين، فإن ذلك يتصور على وجهين: أحدهما أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بثمن كذا على أن تبيعني هذه الدار بثمن كذا؛ والثاني أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين. وأما بيع مثمون واحد بثمنين، فإن ذلك يتصور أيضا على وجهين: أحدهما أن يكون أحد الثمنين نقدا والآخر نسيئة، مثل أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بثمن كذا على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بثمن كذا، وأما مثمونان بثمن واحد، فمثل أن يقول له: أبيعك أحد هذين بثمن كذا، فأما الوجه الأول، وهو أن يقول له: أبيعك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذا الغلام بكذا، فنص الشافعي على أنه لا يجوز، لأن الثمن في كليهما يكون مجهولا، لأنه لو أفرد المبيعين لم يتفقا في كل واحد منهما على الثمن الذي اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد. (يتبع...) @(تابع... 1): -وهي البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر، والغرر يوجد في... ... وأصل الشافعي في رد بيعتين في بيعة إنما هو جهل الثمن أو المثمون. وأما الوجه الثاني، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين على أن البيع قد لزم في أحدهما فلا يجوز عند الجميع، وسواء كان النقد واحدا أو مختلفا؛ وخالف عبد العزيز بن أبي سلمة في ذلك، فأجازه إذا كان النقد زاحدا أو مختلفا، وعلة منعه عند الجميع الجهل؛ وعند مالك من باب سد الذرائع لأنه ممكن أن يختار في نفسه أحد الثوبين، فيكون قد باع ثوبا ودينارا بثوب ودينار، وذلك لا يجوز على أصل مالك. وأما الوجه الثالث، وهو أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بكذا أو نسيئة بكذا، فهذا إذا كان البيع فيه واجبا فلا خلاف في أنه لا يجوز، وأما إذا لم يكن البيع لازما في إحدهما فأجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي، لأنهما افترقا على ثمن غير معلوم؛ وجعله مالك من باب الخيار، لأنه إذا كان عنده على الخيار لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر، وهذا عند مالك هو المانع، فعلة امتناع هذا الوجه الثالث عند الشافعي وأبي حنيفة من جهة جهل الثمن، فهو عندهما من بيوع الغرر التي نهي عنها؛ وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا لإمكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولا إنقاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل ثم بدا له ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو نسيئة ومتفاضلا، وهذا كله إذا كان الثمن نقدا، وإن كان الثمن غير نقد بل طعاما دخله وجه آخر، وهو بيع الطعام بالطعام متفاضلا. وأما إذا قال: أشتري منك هذا الثوب نقدا بكذا على أن تبيعه مني إلى أجل، فهو عندهم لا يجوز بإجماع، لأنه من باب العينة وهو بيع الرجل ما ليس عنده، ويدخله أيضا علة جهل الثمن. وأما إذا قال له: أبيعك أحدهذين الثوبين بدينار وقد لزمه أحدهما أيهما اختار وافترقا قبل الخيار، فإن كان الثوبان من صنفين وهما مما يجوز أن يسلم أحدهما في الثاني فإنه لا خلاف بين مالك والشافعي في أنه لا يجوز؛ وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: إنه يجوز، وعلة المنع الجهل والغرر. وأما إن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك، ولا يجوز عند أبي حنيفة والشافعي؛ وأما مالك فإنه أجازه لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك؛ وأما من لا يجيزه فتعتبره بالغرر الذي لا يجوز، لأنهما افترقا على بيع غير معلوم. وبالجملة فالفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز. ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر، فبعضهم بلحقها بالغرر الكثير، وبعضهم يلحقها بالغرر القليل المباح لترددها بين القليل والكثير؛ فإذا قلنا بالجواز على مذهب مالك، فقبض الثوبين من المشتري على أن يختار فهلك أحدهما أو أصابه عيب فمن يصيبه ذلك؟ فقيل تكون المصيبة بينهما، وقيل بل يضمنه كله المشتري، إلا أن تقوم البينة على هلاكه؛ وقيل فرق في ذلك بين الثياب وما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه كالعبد فيضمن فيما يغاب عليه ولا يضمن فيما لا يغاب عليه. وأما هل يلزمه أخذ الباقي؟ قيل يلزم، وقيل لا يلزم، وهذا يذكر في أحكام البيوع. وينبغي أن نعلم أن المسائل الداخلة في هذا المعنى هي: أما عند فقهاء الأمصار فمن باب الغرر؛ وأما عند مالك فمنها ما يكون عنده من باب ذرائع الربا، ومنها ما يكون من باب الغرر، فهذه هي المسائل التي تتعلق بالمنطوق به في هذا الباب. وأما نهيه عن بيع الثنيا وعن بيع وشرط فهو وإن كان سببه الغرر فالأشبه أن نذكرها في المبيعات الفاسدة من قبل الشروط. @-(فصل) وأما المسائل المسكوت عنها في هذا الباب المختلف فيها بين فقهاء الأمصار فكثيرة، لكن نذكر منها أشهرها لتكون كالقانون للمجتهد النظار. @-(مسألة) المبيعات على نوعين: مبيع حاضر مرئي، فهذا لا خلاف في بيعه. ومبيع غائب أو متعذر الرؤية، فهنا اختلف العلماء؛ فقال قوم: بيع الغائب لا يجوز بحال من الأحوال لا ما وصف ولا ما لم يوصف، وهذا أشهر قولي الشافعي وهو المنصوص عند أصحابه، أعني أن بيع الغائب على الصفة لا يجوز؛ وقال مالك وأكثر أهل المدينة: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبض صفته؛ وقال أبو حنيفة: يجوز بيع العين الغائبة من غير صفة، ثم له إذا رآها الخيار، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده. وكذلك المبيع على الصفة من شرطه عندهم خيار الرؤية وإن جاء على الصفة؛ وعند مالك أنه إذا جاء على الصفة فهو لازم؛ وعند الشافعي لا ينعقد البيع أصلا في الموضعين؛ وقد قيل في المذهب: يجوز بيع الغائب من غير صفة على شرط الخيار خيار الرؤية، وقع ذلك في المدونة، وأنكره عبد الوهاب وقال: هو مخالف لأصولنا. وسبب الخلاف هل نقصان العلم المتعلق بالصفة عن العلم المتعلق بالحس هو جهل مؤثر في بيع الشيء فيكون من الغرر الكثير، أم ليس بمؤثر وأنه من الغرر اليسير المعفو عنه؟ فالشافعي رآه من الغرر الكثير؛ ومالك رآه من الغرر اليسير؛ وأما أبو حنيفة فإنه رأى أنه إذا كان له خيار الرؤية أنه لا غرر هناك وإن لم تكن له رؤية؛ وأما مالك فرأى أن الجهل المقترن بعدم الصفة مؤثر في انعقاد البيع، ولا خلاف عند مالك أن الصفة إنما تنوب عن المعاينة لمكان غيبة المبيع أو لمكان المشقة التي في نشره، وما يخاف أن يلحقه من الفساد بتكرار النشر عليه، ولهذا أجاز البيع على البرنامج على الصفة، ولم يجز بيع السلاح في جرابه، ولا الثوب المطوي في طيه حتى ينشر أو ينظر إلى ما في جرابها. واحتج أبو حنيفة بما روي عن ابن المسيب أنه قال قال أصحاب النبي ﷺ: وددنا أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن ابن عوف تبايعا حتى نعلم أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن من عثمان بن عفان فرسا بأرض له أخرى بأربعين ألفا أو أربعة ألاف، فذكر تمام الخبر، وفيه بيع الغائب مطلقا، ولا بد عند أبي حنيفة من اشتراط الجنس، ويدخل البيع على الصفة أو على خيار الرؤية من جهة ما هو غائب غرر آخر، وهو هل هو موجود وقت العقد أو معدوم؟ ولذلك اشترطوا فيه أن يكون قريب الغيبة إلا أن يكون مأمونا كالعقار، ومن ههنا أجاز مالك بيع الشيء برؤية متقدمة، أعني إذا كان من القرب بحيث يؤمن أن تتغير فيه فاعلمه. @-(مسألة) وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر عقد الصفقة، إلا أن مالكا وربيعة وطائفة من أهل المدينة أجازوا بيع الجارية الرفيعة على شرط المواضعة، ولم يجيزوا فيها النقد كما لم يجزه مالك في بيع الغائب، وإنما منع ذلك الجمهور لما يدخله من الدين بالدين، ومن عدم التسليم، ويشبه أن يكون بيع الدين بالدين من هذا الباب، أعني لما يتعلق بالغرر من عدم التسليم من الطرفين لا من باب الربا، وقد تكلمنا في علة الدين بالدين، ومن هذا الباب ما كان يرى ابن القاسم أنه لا يجوز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ويراه من باب الدين بالدين، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: إنما الدين بالدين ما لم يشرع في قبض شيء منه، أعني أنه كان يرى أن قبض الأوائل من الأثمان يقوم مقام قبض الأواخر، وهو القياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. @-(مسألة) أجمع فقهاء الأمصار على بيع التمر الذي يثمر بطنا واحدا يطيب بعضه وإن لم تطب جملته معا؛ واختلفوا فيما يثمر بطونا مختلفة؛ وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن البطون المختلفة لا تخلو أن تتصل أو لا تتصل، فإن لم تتصل لم يكن بيع ما لم يخلق منها داخلا فيما خلق كشجر التين يوجد فيه الباكور والعصير، ثم إن اتصلت فلا يخلو أن تتميز البطون أو لا تتميز، فمثال المتميز جز القصيل الذي يجز مدة بعد مدة. ومثال غير المتميز المباطخ والمقاثئ والباذنجان والقرع، ففي الذي يتميز عنه وينفصل روايتان: إحداهما الجواز والأخرى المنع. وفي الذي يتصل ولا يتميز قول واحد وهو الجواز، وخالفه الكوفيون وأحمد وإسحاق والشافعي في هذا كله، فقالوا: لا يجوز بيع بطن منها بشرط بطن آخر. وحجة مالك فيما لا يتميز أنه لا يمكن حبس أوله على آخره، فجاز أن يباع ما لم يخلق منها مع ما خلق وبدا صلاحه، أصله جواز بيع ما لم يطب من الثمر مع ما طاب، لأن الغرر في الصفة شبهه بالغرر في عين الشيء، وكأنه رأى أن الرخصة ههنا يجب أن تقاس على الرخصة في بيع الثمار، أعني ما طاب مع ما لم يطب لموضع الضرورة، والأصل عنده أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة، ولذلك منع على إحدى الروايتين عنده بيع القصيل بطنا أكثر من واحد لأنه لا ضرورة هناك إذا كان متميزا. وأما وجه الجواز في القصيل فتشبيها له بما لا يتميز وهو ضعيف. وأما الجمهور فإن هذا كله عندهم من بيع ما لم يخلق، ومن باب النهي عن بيع الثمار معاومة. واللفت والجزر والكرنب جائز عند مالك بيعه إذا بدا صلاحه وهو استحقاقه للأكل، ولم يجزه الشافعي إلا مقلوعا، لأنه من باب بيع المغيب؛ ومن هذا الباب بيع الجوز واللوز والباقلا في قشره، أجازه مالك، ومنعه الشافعي. والسبب في اختلافهم هل هو من الغرر المؤثر في البيوع أم ليس من المؤثر؟ وذلك أنهم اتفقوا أن الغرر ينقسم بهذين القسمين، وأن غير المؤثر هو اليسير أو الذي تدعو إليه الضرورة، أو ما جمع الأمرين. ومن هذا الباب بيع السمك في الغدير أو البركة اختلفوا فيه أيضا، فقال أبو حنيفة: يجوز، ومنعه مالك والشافعي فيما أحسب، وهو الذي تقتضي أصوله. ومن ذلك بيع الآبق أجازه قوم بإطلاق، ومنعه قوم بإطلاق ومنهم الشافعي؛ وقال مالك: إذا كان معلوم الصفة معلوم الموضع عند البائع والمشتري جاز، وأظنه اشترط أن يكون معلوم الإباق ويتواضعان الثمن، أعني أنه لا يقبضه البائع حتى يقبضه المشتري، لأنه يتردد عند العقد بين بيع وسلف، وهذا أصل من أصوله يمنع به النقد في بيع المواضعة وفي بيع الغائب غير المأمون، وفيما كان من هذا الجنس. وممن قال بجواز بيع الآبق والبعير الشارد عثمان البتي. والحجة للشافعي حديث شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله ﷺ نهى عن شراء العبد الآبق، وعن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن شراء ما في ضروعها، وعن شراء الغنائم حتى تقسم" وأجاز مالك بيع لبن الغنم أياما معدودة إذا كان ما يحلب منها معروفا في العادة، ولم يجز ذلك في الشاة الواحدة؛ وقال سائر الفقهاء: لا يجوز ذلك إلا بكيل معلوم بعد الحلب. ومن هذا الباب منع مالك بيع اللحم في جلده. ومن هذا الباب بيع المريض أجازه مالك إلا أن يكون ميئوسا منه؛ ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، وهي رواية أخرى عنه، ومن هذا الباب بيع تراب المعدن والصواغين، فأجاز مالك بيع تراب المعدن بنقد يخالفه أو بعرض، ولم يجز بيع تراب الصاغة؛ ومنع الشافعي البيع في الأمرين جميعا؛ وأجازه قوم في الأمرين جميعا، وبه قال الحسن البصري، فهذه هي البيوع التي يختلف فيها أكثر ذلك من قبل الجهل بالكيفية. وأما اعتبار الكمية فإنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يباع شيء من المكيل أو الموزون أو المعدود أو المسموح إلا أن يكون معلوم القدر عند البائع والمشتري؛ واتفقوا على أن العلم الذي يكون بهذه الأشياء من قبل الكيل المعلوم أو الصنوج المعلومة مؤثر في صحة البيع، وفي كل ما كان غير معلوم الكيل والوزن عند البائع والمشتري من جميع الأشياء المكيلة والموزونة والمعدودة والممسوحة، وأن العلم بمقادير هذه الأشياء التي تكون من قبل الحزر والتخمين وهو الذي يسمونه الجزاف يجوز في أشياء ويمنع في أشياء. وأصل مذهب مالك في ذلك أنه يجوز في كل ما المقصود منه الكثرة لا آحاد وهو عنده أصناف: منها ما أصله الكيل ويجوز جزافا، وهي المكيلات والموزونات؛ ومنها ما أصله الجزاف ويكون مكيلا، وهي الممسوحات كالأرضين والثياب؛ ومنها ما لا يجوز فيها التقدير أصلا بالكيل والوزن، بل إنما يجوز فيها العدد فقط ولا يجوز بيعها جزافا، وهي كما قلنا التي المقصود منها آحاد أعيانها. وعند مالك أن التبر والفضة الغير المسكوكين يجوز بيعهما جزافا ولا يجوز ذلك في الدراهم والدنانير؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ويكره. ويجوز عند مالك أن تباع الصبرة المجهولة على الكيل: أي كل كيل منها بكذا، فما كان فيها من الأكيال وقع من تلك القيمة بعد كيلها والعلم بمبلغها؛ وقال أبو حنيفة: لا يلزم إلا في كيل واحد وهو الذي سمياه. ويجوز هذا البيع عند مالك في العبيد والثياب وفي الطعام، ومنعه أبو حنيفة في الثياب والعبيد، ومنع ذلك غيره في الكل فيما أحسب للجهل بمبلغ الثمن. ويجوز عند مالك أن يصدق المشتري البائع في كيلها إذا لم يكن البيع نسيئة، لأنه يتهمه أن يكون صدقه لينظره بالثمن؛ وعد غيره لا يجوز ذلك حتى يكتالها المشتري لنهيه ﷺ عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصيعان؛ وأجازه قوم على الإطلاق؛ وممن منعه أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ وممن أجازه بإطلاق عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة؛ ولا يجوز عند مالك أن يعلم البائع الكيل ويبيع المكيل جزافا ممن يجهل الكيل؛ ولا يجوز عند الشافعي وأبي حنيفة. والمزابنة المنهي عنها هي عند مالك من هذا الباب، وهي بيع مجهول الكمية بمجهول الكمية، وذلك أما في الربويات فلموضع التفاضل، وأما في غير الربويات فلعدم تحقق القدر.
- 3*الباب الرابع في بيوع الشروط والثنيا.
@-وهذه البيوع الفساد الذي يكون فيها هو راجع إلى الفساد الذي يكون من قبل الغرر، ولكن لما تضمنها النص وجب أن تجعل قسما من أقسام البيوع الفاسدة على حدة. والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث جابر قال "ابتاع مني رسول الله ﷺ بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة" وهذا الحديث في الصحيح. والحديث الثاني حديث بريرة أن رسول الله ﷺ قال "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط" والحديث متفق على صحته. والثالث حديث جابر قال "نهى رسول الله ﷺ عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا، ورخص في العرايا" وهو أيضا في الصحيح خرجه مسلم. ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع وشرط" فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع وشرط، فقال قوم: البيع فاسد والشرط جائز، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة؛ وقال قوم: البيع جائز والشرط جائز، وممن قال بهذا القول ابن أبي شبرمة؛ وقال قوم: البيع جائز والشرط باطل، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى؛ وقال أحمد: البيع جائز مع شرط واحد، وأما مع شرطين فلا، فمن أبطل البيع والشرط أخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط، ولعموم نهيه عن الثنيا؛ ومن أجازهما جميعا أخذ بحديث عمر الذي ذكر فيه البيع والشرط؛ ومن أجاز البيع وأبطل الشرط أخذ بعموم حديث بريرة؛ ومن لم يجز الشرطين وأجاز الواحد احتج بحديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود قال: قال رسول الله ﷺ "لا يحل سلف وبيع، ولا يجوز شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس هو عندك". وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معا؛ وشروط تجوز هي والبيع معا؛ وشروط تبطل ويثبت البيع؛ وقد يظن أن عنده قسما رابعا وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا والغرر وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصا في الملك فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطا أبطل الشرط وأجاز البيع، ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب، إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها، والجمع عندهم أحسن من الترجيح، وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة، وأحد من له ذلك جدي والمازري والباجي، وتفصيله في ذلك أنه قال: إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين: أحدهما أن يشترطه بعد انقضاء الملك مثل من يبيع الأمة أو العبد، ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري، فمثل هذا قالوا: يصح فيه العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة. والقسم الثاني أن يشترط عليه شرطا يقع في مدة الملك، وهذا قالوا: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه؛ وإما أن يشترط على المشتري منعا من تصرف عام أو خاص؛ وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع، وهذا أيضا ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون معنى من معاني البر. والثاني أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء. فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيرة لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع، مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر، وقيل السنة، فذلك جائز على حديث جابر. وإما أن يشترط منعا من تصرف خاص أو عام، فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا، ومثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أو لا يبيعها، وإما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق، فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده، وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه. وبقول مالك في إجازة البيع بشرط العتق المعجل قال الشافعي على أن من قوله منع بيع وشرط، وحديث جابر عنده مضطرب اللفظ، لأن في بعض رواياته أنه باعه واشترط ظهره إلى المدينة، وفي بعضها أنه أعاره ظهره إلى المدينة. ومالك رأى هذا من باب الغرر اليسير فأجازه في المدة القليلة ولم يجزه في الكثيرة. وأما أبو حنيفة فعلى أصله في منع ذلك. وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها، فذلك لا يجوز عند مالك، وقيل عنه البيع مفسوخ، وقيل بل يبطل الشرط فقط. وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك، لأنه يكون مترددا بين البيع والسلف؛ إن جاء بالثمن كان سلفا، وإن لم يجيء كان بيعا. واختلف في المذهب هل يجوز له ذلك في الإقالة أم لا؟ فمن رأى أن الإقالة بيع فسخها عنده ما يفسخ سائر البيوع؛ ومن رأى أنها فسخ فرق بينها وبين البيوع. واختلف أيضا فيمن باع شيئا بشرط أن لا يبيعه حتى ينتصف من الثمن، فقيل عن مالك يجوز ذلك لأن حكمه حكم الرهن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن هو المبيع أو غيره؛ وقيل عن ابن القاسم: لا يجوز ذلك، لأنه شرط يمنع المبتاع التصرف في المبيع بالمدة البعيدة التي لا يجوز للبائع اشتراط المنفعة فيها، فوجب أن يمنع صحة البيع، ولذلك قال ابن المواز إنه جائز في الأمد القصير. ومن المسموع في هذا الباب نهيه ﷺ عن بيع وسلف اتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة. واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء، وأجازه مالك وأصحابه إلا محمد بن عبد الحكم، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور؛ وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي عنه مع أن الثمن يكون في المبيع مجهولا لاقتران السلف به. وقد روي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسلئة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع، وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر فلما عقد البيع قال: أنا أدع الزق، قال: وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع، فأجاب إسماعيل عن هذا بجواب لا تقوم به حجة، وهو أن قال له: الفرق بينهما أن مشترط السلف هو مخير في تركه أو عدم تركه، وليس كذلك مسألة زق الخمر، وهذا الجواب هو نفس الشيء الذي طولب فيه بالفرق، وذلك أنه يقال له: لم كان هنا مخيرا ولم يكن هنالك مخيرا في أن يترك الزق ويصح البيع، والأشبه أن يقال إن التحريم ههنا لم يكن لشيء محرم بعينه وهو السلف لأن السلف مباح، وإنما وقع التحريم من أجل الاقتران: أعني اقتران البيع به، وكذلك البيع في نفسه جائز، وإنما امتنع من قبل اقتران الشرط به، وهنالك إنما امتنع البيع من أجل اقتران شيء محرم لعينه به، لا أنه شيء محرم من قبل الشرط. ونكتة المسألة هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا يرتفع، كما لا يرتفع الفساد الللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرم العين به؟ وهذا أيضا ينبني على أصل آخر هو هل هذا الفساد حكمي أو معقول؟ فإن قلنا حكمي لم يرتفع بارتفاع الشرط، وإن قلنا معقول ارتفع بارتفاع الشرط؛ فمالك رآه معقولا، والجمهور رأوه غير معقول والفساد الذي يوجد في بيوع الربا والغرر هو أكثر ذلك حكمي، لذلك ليس ينعقد عندهم أصلا، وإن ترك الربا بعد البيع أو ارتفع الغرر. واختلفوا في حكمه إذا وقع على ما سيأتي في أحكام البيوع الفاسدة. ومن هذا الباب بيع العربان فجمهور علماء الأمصار على أنه غير جائز؛ وحكي عن قوم من التابعين أنهم أجازوه، منهم مجاهد وابن سيرين ونافع بن الحارث وزيد بن أسلم، وصورته: أن يشتري الرجل شيئا فيدفع إلى المبتاع من ثمن ذلك المبيع شيئا على أنه إن نفذ البيع بينهما كان ذلك المدفوع من ثمن السلعة، وإن لم ينفذ ترك المشتري بذلك الجزء من الثمن عند البائع ولم يطالبه به؛ وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، وكان زيد يقول: أجازه رسول الله ﷺ. وقال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله ﷺ. وفي الاستثناء مسائل مشهورة من هذا الباب اختلف الفقهاء فيها، أعني هل تدخل تحت النهي عن الثنيا، أو ليست تدخل؟ فمن ذلك أن يبيع الرجل حاملا ويستثني ما في بطنها، فجمهور فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري على أنه لا يجوز؛ وقال أحمد وأبو ثور وداود ذلك جائز، وهو مروي عن ابن عمر. وسبب الخلاف هل المستثنى مبيع مع ما استثنى منه، أم ليس بمبيع وإنما هو باق على ملك البائع؟ فمن قال مبيع قال: لا يجوز وهو من الثنيا المنهي عنها لما قال فيها من الجهل بصفته وقلة الثقة بسلامة خروجه؛ ومن قال هو باق على ملك البائع أجاز ذلك؛ وتحصيل مذهب مالك فيمن باع حيوانا واستثنى بعضه أن ذلك البعض لا يخلو أن يكون شائعا أو معينا أو مقدرا، فإن كان شائعا فلا خلاف في جوازه مثل أن يبيع عبدا إلا ربعه. وأما إن كان معينا فلا يخلو أن يكون مغيبا مثل الجنين، أو يكون غير مغيب، فإن كان مغيبا فلا يجوز، وإن كان غير مغيب كالرأس واليد والرجل، فلا يخلو الحيوان أن يكون مما يستباح ذبحه أو لا يكون، فإن كان مما لا يستباح ذبحه فإنه لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يبيع أحد غلاما ويستثني رجله، لأن حقه غير متميز ولا متبغض وذلك مما لا خلاف فيه، وإن كان الحيوان مما يستباح ذبحه، فإن باعه واستثنى منه عضوا له قيمة بشرط الذبح، ففي المذهب فيه قولان: أحدهما أنه لا يجوز وهو المشهور؛ والثاني يجوز، وهو قول ابن حبيب جوز بيع الشاة مع استثناء القوائم والرأس. وأما إذا لم يكن للمستثنى قيمة فلا خلاف في جوازه في المذهب، ووجه قول مالك إنه كان استثناؤه بجلده فما تحت الجلد مغيب وإن كان لم يستثنه بجلده فإنه لا يدري بأي صفة يخرج له بعد كشط الجلد عنه. ووجه قول ابن حبيب أنه استثنى عضوا معينا معلوما، فلم يضره ما عليه من الجلد أصله شراء الحب في سنبله والجوز في قشره. وأما إن كان المستثنى من الحيوان بشرط الذبح إما عرفا وإما ملفوطا به جزءا مقدرا مثل أرطال من جزور، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما المنع، وهي رواية ابن وهب؛ والثانية الإجازة في الأرطال اليسيرة فقط، وهي رواية ابن القاسم. وأجمعوا من هذا الباب على جواز بيع الرجل ثمر حائطه واستثناء نخلات معينات منه قياسا على جواز شرائها. واتفقوا على أنه لا يجوز أن يستثنى من حائط له عدة نخلات غير معينات إلا بتعيين المشتري لها بعد البيع، لأنه بيع ما لم يره المتبايعان. واختلفوا في الرجل يبيع الحائط ويستثني منه عدة نخلات بعد البيع، فمنعه الجمهور لمكان اختلاف صفة النخيل؛ وروي عن مالك إجازته؛ ومنع ابن القاسم قوله في النخلات وأجازه في استثناء الغنم. وكذلك اختلف قول مالك وابن القاسم في شراء نخلات معدودة من حائطه على أن يعينها بعد الشراء المشتري فأجازه مالك ومنعه ابن القاسم. وكذلك اختلفوا إذا استثنى البائع مكيله من حائط؛ قال أبو عمر بن عبد البر: فمنع ذلك فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم، وألفت الكتاب على مذاهبهم لنهيه ﷺ عن الثنيا في البيع، لأنه استثناء مكيل من جزاف؛ وأما مالك وسلفه من أهل المدينة فإنهم أجازوا ذلك فيما دون الثلث ومنعوه فيما فوقه، وحملوا النهي على الثنيا على ما فوق الثلث، وشبهوا بيع ما عدا المستثنى ببيع الصبرة التي لا يعلم مبلغ كيلها فتباع جزافا ويستثنى منها كيل ما، وهذا الأصل أيضا مختلف فيه، أعني إذا استثنى منها كيل معلوم. واختلف العلماء من هذا الباب في بيع وإجارة معا في عقد واحد، فأجازه مالك وأصحابه، ولم يجزه الكوفيون ولا الشافعي، لأن الثمن يرون أنه يكون حينئذ مجهولا، ومالك يقول: إذا كانت الإجارة معلومة لم يكن الثمن مجهولا، وربما رآه الذين منعوه من باب بيعتين في بيعة. وأجمعوا على أنه لا يجوز السلف أو البيع كما قلنا. واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة، فمرة أجاز ذلك ومرة منعه، وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافها بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها، فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها، ومن لم تقو عنده أجازها، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد، لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها، ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابا، ولهذا ذهب بعض العلماء في أمثال هذه المسائل إلى التخيير.
- 3*الباب الخامس في البيوع المنهي عنها من أجل الضرر أوالغبن.
@-والمسموع من هذا الباب ما يثبت من نهيه ﷺ عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن أن يسوم أحد على سوم أخيه، ونهيه عن تلقي الركبان، ونهيه عن أن يبيع حاضر لباد، ونهيه عن النجش. وقد اختلف العلماء في تفصيل معاني هذه الآثار اختلافا ليس بمتباعد، فقال مالك: معنى قوله عليه الصلاة والسلام "لا يبع بعضكم على بيع بعض" ومعنى نهيه عن أن يسوم أحد على سوم أخيه واحد، وهي في الحالة التي إذا ركن البائع فيها إلى السائم ولم يبق بينهما إلا شيء يسير مثل اختيار الذهب أو اشتراط العيوب أو البراءة منها، وبمثل تفسير مالك فسر أبو حنيفة هذا الحديث. وقال الثوري معنى "لا يبع بعضكم على بيع بعض" أن لا يطرأ رجل آخر على المتبايعين فيقول عندي خير من هذه السلعة ولم يحد وقت ركون ولا غيره. وقال الشافعي: معنى ذلك إذا تم البيع باللسان ولم يفترقا فأتى أحد يعرض عليه سلعة له هي خير منها، وهذا بناء على مذهبه في أن البيع إنما يلزم بالإفتراق فهو ومالك متفقان على أن النهي إنما يتناول حالة قرب لزوم البيع، ومختلفان في هذه الحالة ما هي لاختلافهما فيما به يكون اللزوم في البيع على ما سنذكره بعد، وفقهاء الأمصار على أن هذا البيع يكره، وإن وقع مضى لأنه سوم على بيع لم يتم؛ وقال داود وأصحابه: إن وقع فسخ في أي حالة وقع تمسكا بالعموم؛ وروي عن مالك وعن بعض أصحابه فسخه ما لم يفت؛ وأنكر ابن الماجشون ذلك في البيع فقال: وإنما قال بذلك مالك في النكاح، وقد تقدم ذلك. واختلفوا في دخول الذمي في النهي عن سوم أحد على سوم غيره، فقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين الذمي وغيره؛ وقال الأوزاعي: لابأس بالسوم على سوم الذمي لأنه ليس بأخي المسلم، وقد قال ﷺ "لا يسم أحد على سوم أخيه" ومن ههنا منع قوم بيع المزايدة وإن كان الجمهور على جوازه. وسبب الخلاف بينهم هل يحمل هذا النهي على الكراهة أو على الحظر، ثم إذا حمل على الحظر فهل يحمل على جميع الأحوال، أو في حالة دون حالة؟. @-(فصل) وأما نهيه عن تلقي الركبان للبيع، فاختلفوا في مفهوم النهي ما هو، فرأى مالك أن المقصود بذلك أهل الأسواق لئلا ينفرد المتلقي برخص السلعة، دون أهل الأسواق، ورأى أنه لا يجوز أن يشتري أحد سلعة حتى تدخل السوق، هذا إذا كان التلقي قريبا، فإن كان بعيدا فلا بأس به، وحد القرب في المذهب بنحو من ستة أميال، ورأى أنه إذا وقع جاز، ولكن يشرك المشتري أهل الأسواق في تلك السلعة التي من شأنها أن يكون ذلك سوقها. وأما الشافعي فقال إن المقصود بالنهي إنما هو لأجل البائع لئلا يغبنه المتلقي، لأن البائع يجهل سعر البلد، وكان يقول: إذا وقع فرب السلعة بالخيار إن شاء أنفذ البيع أو رده. ومذهب الشافعي هو نص في حديث أبي هريرة الثابت عن رسول الله ﷺ أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تتلقوا الجلب، فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق" خرجه مسلم وغيره. @-(فصل) وأما نهيه ﷺ عن بيع الحاضر للباد، فاختلف العلماء في معنى ذلك، فقال قوم: لا يبع أهل الحضر لأهل البادية قولا واحدا. واختلف عنه في شراء الحضري للبدوي، فمرة أجازه، وبه قال ابن حبيب؛ ومرة منعه، وأهل الحضر عنده هم الأمصار؛ وقد قيل عنه إنه لا يجوز أن يبيع أهل القرى لأهل العمود المنتقلين، وبمثل قول مالك قال الشافعي والأوزاعي؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس أن يبيع الحاضر للبادي ويخبره بالسعر، وكرهه مالك، أعني أن يخبر الحضري البادي بالسعر، وأجازه الأوزاعي. والذين منعوه اتفقوا على أن القصد بهذا النهي هو إرفاق أهل الحضر، لأن الأشياء عند أهل البادية أيسر من أهل الحاضرة، وهي عندهم أرخص، بل أكثر ما يكون مجانا عندهم: أي بغير ثمن، فكأنهم رأوا أنه يكره أن ينصح الحضري للبدوي، وهذا مناقض لقوله عليه الصلاة والسلام "الدين النصيحة" وبهذا تمسك في جوازه أبو حنيفة. وحجة الجمهور حديث جابر خرجه مسلم وأبو داود قال: قال رسول الله ﷺ "لا يبيع حاضر لباد ذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وهذه الزيادة انفرد بها أبو داود فيما أحسب، والأشبه أن يكون من باب غبن البدوي لأنه يرد والسعر مجهول عنده، إلا أن تثبت هذه الزيادة، ويكون على هذا معنى الحديث معنى النهي عن تلقي الركبان على ما تأوله الشافعي وجاء في الحديث الثابت. واختلفوا إذا وقع فقال الشافعي: إذا وقع فقد تم وجاز البيع لقوله عليه الصلاة والسلام "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" واختلف في هذا المعنى أصحاب مالك؛ فقال بعضهم: يفسخ؛ وقال بعضهم: لا يفسخ. @-(فصل) وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن النجش، فاتفق العلماء على منع ذلك، وأن النجش هو أن يزيد أحد في سلعة وليس في نفسه شراؤها، يريد بذلك أن ينفع البائع ويضر المشتري؛ واختلفوا إذا وقع هذا البيع، فقال أهل الظاهر: هو فاسد؛ وقال مالك: هو كالعيب والمشتري بالخيار، إن شاء أن يرد رد، وإن شاء أن يمسك أمسك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: إن وقع أثم وجاز البيع. وسبب الخلاف هل يتضمن النهي فساد المنهي وإن كان النهي ليس في نفس الشيء بل من خارج؛ فمن قال يتضمن فسخ البيع لم يجزه؛ ومن قال ليس يتضمن أجازه. والجمهور على أن النهي إذا ورد لمعنى في المنهي عنه أنه يتضمن الفساد مثل النهي عن الربا والغرر، وإذا ورد الأمر من خارج لم يتضمن الفساد، ويشبه أن يدخل في هذا الباب نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الماء لقوله عليه الصلاة والسلام في بعض ألفاظه "إنه نهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وقال أبو بكر بن المنذر: ثبت "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الماء، ونهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وقال: لا يمنع وهو بئر ولا بيع ماء. واختلف العلماء في تأويل هذا النهي، فحمله جماعة من العلماء على عمومه، فقالوا: لا يحل بيع الماء بحال كان من بئر أو غدير أو عين في أرض مملكة أو غير مملكة، غير أنه إن كان متملكا كان أحق بمقدار حاجته منه، وبه قال يحيى بن يحيى قال: أربع لا أرى أن يمنعن: الماء، والنار، والحطب، والكلأ. وبعضهم خصص هذه الأحاديث معارضة الأصول لها، وهو أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه كما قال عليه الصلاة والسلام وانعقد عليه الإجماع، والذين خصصوا هذا المعنى اختلفوا في جهة تخصيصه، فقال قوم: معنى ذلك أن البئر يكون بين الشريكين يسقي هذا يوما وهذا يوما، فيروي زرع أحدهما في بعض يومه، ولا يروي في اليوم الذي لشريكه زرعه، فيجب عليه أن لا يمنع شريكه من الماء بقية ذلك اليوم. وقال بعضهم: إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره، والتأويلان قريبان، ووجه التأويلين أنهم حملوا المطلق في هذين الحديثين على المقيد وذلك أنه نهى عن بيع الماء مطلقا، ثم نهى عن منع فضل الماء، فحملوا المطلق في هذا الحديث على المقيد وقالوا: الفضل هو الممنوع في الحديثين، وأما مالك فأصل مذهبه أن الماء متى كان متملكة منبعه فهو لصاحب الأرض له بيعه ومنعه، إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم ويخاف عليهم الهلاك، وحمل الحديث على آبار الصحراء التي تتخذ في الأرضين الغير متملكة، فرأى أن صاحبها: أعني الذي حفرها أولى بها، فإذا روت ماشيته ترك الفضل للناس، وكأنه رأى أن البئر لا تتملك بالإحياء. ومن هذا الباب التفرقة بين الوالدة وولدها، وذلك أنهم اتفقوا على منع التفرقة في المبيع بين الأم وولدها، لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" واختلفوا من ذلك في موضعين في وقت جواز التفرقة وفي حكم البيع إذا وقع. فأما حكم البيع فقال مالك: يفسخ، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يفسخ وأثم البائع والمشتري. وسبب الخلاف هل النهي يقتضي فساد المنهي إذا كان لعلة من خارج. وأما الوقت الذي ينتقل فيه المنع إلى الجواز؛ فقال مالك: حد ذلك الإثغار؛ وقال الشافعي: حد ذلك سبع سنين أو ثمان؛ وقال الأوزاعي: حده فوق عشر سنين، وذلك أنه إذا نفع نفسه واستغنى في حياته عن أمه. ويلحق بهذا الباب إذا وقع في البيع غبن لا يتغابن الناس بمثله هل يفسخ البيع أم لا؟ فالمشهور في المذهب أن لا يفسخ. وقال عبد الوهاب: إذا كان فوق الثلث رد، وحكاه عن بعض أصحاب مالك؛ وجعله عليه الصلاة والسلام الخيار لصاحب الجلب إذا تلقى خارج المصر دليل على اعتبار الغبن، وكذلك ما جعل لمنقذ بن حبان من الخيار ثلاثا لما ذكر له أنه يغبن في البيوع، ورأى قوم من السلف الأول أن حكم الوالد في ذلك حكم الوالدة، وقوم رأوا ذلك في الأخوة.
- 3*الباب السادس في النهي من قبل وقت العبادات.
@-وذلك إنما ورد في الشرع في وقت وجوب المشي إلى الجمعة فقط لقوله تعالى {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} وهذا أمر مجمع عليه فيما أحسب، أعني منع البيع عند الأذان الذي يكون بعد الزوال والإمام على المنبر. واختلفوا في حكمه إذا وقع هل يفسخ أو لا يفسخ؟، فإن فسخ فعلى من يفسخ؟ وهل يلحق سائر العقود في هذا المعنى بالبيع أم لا يلحق؟ فالمشهور عن مالك أنه يفسخ، وقد قيل لا يفسخ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وسبب الخلاف كما قلنا غير ما مرة هل النهي الوارد لسبب من خارج يقتضي فساد المنهي عنه أو لا يقتضيه؟ وأما على من يفسخ؟ فعند مالك على من تجب عليه الجمعة لا على من لا تجب عليه. وأما أهل الظاهر فتقتضي أصولهم أن يفسخ على كل بائع. وأما سائر العقود فيحتمل أن تلحق بالبيوع، لأن فيها المعنى الذي في البيع من الشغل به عن السعي إلى الجمعة، ويحتمل أن لا يلحق به لأنها تقع في هذا الوقت نادرا بخلاف البيوع. وأما سائر الصلوات فيمكن أن تلحق بالجمعة على جهة الندب لمرتقب الوقت، فإذا فات فعلى جهة الحظر، وإن كان لم يقل به أحد في مبلغ علمي، ولذلك مدح الله تاركي البيوع لمكان الصلاة، فقال تعالى {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} . وإذ قد أثبتت أسباب الفساد العامة للبيوع فَلْنَصِرْ إلى ذكر الأسباب والشروط المصححة له وهو القسم الثاني من النظر العام في البيوع. @-(القسم الثاني) والأسباب والشروط المصححة للبيع هي بالجملة ضد الأسباب المفسدة له، وهي منحصرة في ثلاثة أجناس: النظر الأول: في العقد. والثاني: في المعقود عليه. والثالث: في العاقدين، ففي هذا القسم ثلاثة أبواب.
- 3*الباب الأول في العقد.
@-والعقد لا يصح إلا بألفاظ البيع والشراء التي صيغتها ماضية مثل أن يقول البائع: قد بعت منك، ويقول المشتري: قد اشتريت منك، وإذا قال له بعني سلعتك بكذا وكذا فقال قد بعتها. فعند مالك أن البيع قد وقع وقد لزم المستفهم إلا أن يأتي في ذلك بعذر، وعند الشافعي أنه لا يتم حتى يقول المشتري قد اشتريت، وكذلك إذا قال المشتري للبائع: بكم تبيع سلعتك؟ فيقول المشتري بكذا وكذا، فقال: قد اشتريت منك. اختلف هل يلزم البيع أم لا حتى يقول قد بعتها منك، وعند الشافعي أنه يقع البيع بالألفاظ الصريحة وبالكناية، ولا أذكر لمالك في ذلك قولا، ولا يكفي عند الشافعي المعاطاة دون قول، ولا خلاف فيما أحسب أن الإيجاب والقبول المؤثرين في اللزوم لا يتراخى أحدهما عن الثاني حتى يفترق المجلس، أعني أنه متى قال للبائع قد بعت سلعتي بكذا وكذا فسكت المشتري ولم يقبل حتى افترقا ثم أتى بعد ذلك فقال: قد قبلت أنه لا يلزم ذلك البائع. واختلفوا متى يكون اللزوم. فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وطائفة من أهل المدينة: إن البيع يلزم في المجلس بالقول وإن لم يفترقا؛ وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وابن عمر من الصحابة رضي الله عنهم: البيع لازم بالافتراق من المجلس وأنهما مهما لم يفترقا، فليس يلزم البيع ولا ينعقد، وهو قول ابن أبي ذئب في طائفة من أهل المدينة وابن المبارك وسوار القاضي وشريح القاضي وجماعة من التابعين وغيرهم، وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة الأسلمي من الصحابة ولا مخالف لهما من الصحابة وعمدة المشترطين لخيار المجلس حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار" وفي بعض روايات هذا الحديث "إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر" وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها، حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم وإن كان من طريق الآحاد. وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث. فالذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه مع أنه قد عارضه عنده ما رواه من منقطع حديث ابن مسعود أنه قال: "أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان" فكأنه حمل هذا على عمومه، وذلك يقتضي أن يكون في المجلس وبعد المجلس، ولو كان المجلس شرطا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لأن البيع بعد لم ينعقد ولا لزم بل الافتراق من المجلس، وهذا الحديث منقطع ولا يعارض به الأول، وبخاصة أنه لا يعارضه إلا من توهم العموم فيه، والأولى أن ينبني هذا على ذلك، وهذا الحديث لم يخرجه أحد مسندا فيما أحسب، فهذا هو الذي اعتمده مالك رحمه الله في ترك العمل بهذا الحديث. وأما أصحاب مالك فاعتمدوا في ذلك على ظواهر سمعية، وعلى القياس، فمن أظهر الظاهر في ذلك قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} والعقد هو الإيجاب والقبول والأمر على الوجوب، وخيار المجلس يوجب ترك الوفاء بالعقد، لأن له عندهم أن يرجع في البيع بعد ما أنعم ما لم يفترقا. وأما القياس فإنهم قالوا: عقد معاوضة، فلم يكن لخيار المجلس فيه أثر أصله سائر العقود مثل النكاح والكتابة والخلع والرهون والصلح على دم العمد، فلما قيل لهم إن الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور، فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس، فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر، وذلك مذهب مهجور عند المالكية، وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع مثل قول أبي حنيفة، فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ولا تغليب، وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره. قالوا: وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين. قالوا: ولنا فيه تأويلان: أحدهما أن المتبايعين في الحديث المذكور هما المتساومان اللذان لم ينفذ بينهما البيع، فقيل لهم إنه يكون الحديث على هذا لا فائدة فيه لأنه معلوم من دين الأمة أنهما بالخيار إذ لم يقع بينهما عقد بالقول. وأما التأويل الآخر فقالوا إن التفرق ههنا إنما هو كناية عن الافتراق بالقول لا التفرق بالأبدان كما قال الله تعالى {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} والاعتراض على هذا أن هذا مجاز لا حقيقة، والحقيقة هي التفرق بالأبدان، ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ والقياس فيغلب الأقوى، والحكمة في ذلك هي لموضع الندم، فهذه هي أصول الركن الأول الذي هو العقد. @-(وأما الركن الثاني) الذي هو المعقود عليه، فإنه يشترط فيه سلامته من الغرر والربا، وقد تقدم المختلف في هذه من المتفق عليه وأسباب الاختلاف في ذلك، فلا معنى لتكراره. والغرر ينتفي عن الشيء بأن يكون معلوم الوجود معلوم الصفة معلوم القدر مقدورا على تسليمه، وذلك في الطرفين الثمن والمثمون معلوم الأجل أيضا إن كان بيعا مؤجلا. @-(وأما الركن الثالث) وهما العاقدان، فإنه يشترط فيهما أن يكونا مالكين تامي الملك أو وكيلين تامي الوكالة بالغين، وأن يكونا مع هذا غير محجور عليهما أو على أحدهما، إما لحق أنفسهما كالسفيه عند من يرى التحجير عليه أو لحق الغير كالعبد إلا أن يكون العبد مأذونا له في التجارة. واختلفوا من هذا في بيع الفضولي، هل ينعقد أم لا؟ وصورته أن يبيع الرجل مال غيره بشرط إن رضي به صاحب المال أمضي البيع، وإن لم يرضى فسخ، وكذلك في شراء الرجل للرجل بغير إذنه، على أنه إن رضي المشتري صح الشراء وإلا لم يصح، فمنعه الشافعي في الوجهين جميعا، وأجازه مالك في الوجهين جميعا؛ وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء فقال: يجوز في البيع ولا يجوز في الشراء. وعمدة المالكية ما روي "أن النبي ﷺ دفع إلى عروة البارقي دينار وقال: اشتر لنا من هذا الجلب شاة، قال: فاشتريت شاتين بدينار وبعت إحدى الشاتين بدينار وجئت بالشاة والدينار، فقلت: يا رسول الله هذه شاتكم وديناركم، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه" ووجه الاستدلال منه أن النبي ﷺ لم يأمره في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع، فصار ذلك حجة على أبي حنيفة في صحة الشراء للغير، وعلى الشافعي في الأمرين جميعا. وعمدة الشافعي النهي الوارد عن بيع الرجل ما ليس عنده، المالكية تحمله على بيعه لنفسه لا لغيره، قالوا: والدليل على ذلك أن النهي إنما ورد في حكيم بن حزام وقضيته مشهورة، وذلك أنه كان يبيع لنفسه ما ليس عنده. وسبب الخلاف المسألة المشهورة، هل إذا ورد النهي على سبب حمل على سببه أو يعم؟ فهذه هي أصول هذا القسم، وبالجملة فالنظر في هذا القسم هو منطو بالقوة في الجزء الأول، ولكن النظر الصناعي الفقهي يقتضي أن يفرد بالتكلم فيه. وإذ قد تكلمنا في هذا الجزء بحسب غرضنا فلنصر إلى القسم الثالث، وهو القول في الأحكام العامة للبيوع الصحيحة. @-(القسم الثالث: في الأحكام العامة للبيوع الصحيحة) وهذا القسم تنحصر أصوله التي لها تعلق قريب بالمسموع في أربع جمل: الجملة الأولى: في أحكام وجود العيب في المبيعات. والجملة الثانية: في الضمان في المبيعات متى ينتقل من ملك البائع إلى ملك المشتري. والثالثة: في معرفة الأشياء التي تتبع المبيع مما هي موجودة فيه في حين البيع من التي لا تتبعه. والرابعة: في اختلاف المتبايعين، وإن كان الأليق به كتاب الأقضية. وكذلك أيضا من أبواب أحكام البيوع الاستحقاق، وكذلك الشفعة هي أيضا من الأحكام الطارئة عليه، لكن جرت العادة أن يفرد لها كتاب.
- 3*(الجملة الأولى) وهذه الجملة فيها بابان: الباب الأول: في أحكام وجود العيوب في البيع المطلق. والباب الثاني: في أحكامهما في البيع بشرط البراءة.
- 3*الباب الأول في أحكام العيوب في البيع المطلق.
@-والأصل في وجود الرد بالعيب قوله تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وحديث المصراة المشهور، ولما كان القائم بالعيب لا يخلو أن يقوم في عقد يوجب الرد، أو يقوم في عقد لا يوجب ذلك، ثم إذا قام في عقد يوجب الرد، فلا يخلو أيضا من أن يقوم بعيب يوجب حكما أو لا يوجبه، ثم إن قام بعيب يوجب حكما فلا يخلو المبيع أيضا أن يكون قد حدث فيه تغير بعد البيع أو لا يكون، فإن كان لم يحدث فما حكمه؟ وإن كان حدث فيه فكم أصناف التغييرات وما حكمها؟ كانت الفصول المحيطة بأصول هذا الباب خمسة: الفصل الأول: في معرفة العقود التي يجب فيها بوجود العيب حكم، من التي لا يجب ذلك فيها. الثاني: في معرفة العيوب التي توجب الحكم، وما شرطها الموجب للحكم فيها. الثالث: في معرفة حكم العيب الموجب إذا كان المبيع لم يتغير. الرابع: في معرفة أصناف التغيرات الحادثة عند المشتري وحكمها. الخامس: في القضاء في هذا الحكم عند اختلاف المتبايعين، وإن كان أليق بكتاب الأقضية.
- 4*الفصل الأول. في معرفة العقود التي يجب فيها بوجود العيب حكم من التي لا يجب فيها.
@-أما العقود التي يجب فيها العيب حكم بلا خلاف، فهي العقود التي المقصود منها المعاوضة، كما أن العقود التي ليس المقصود منها المعاوضة لا خلاف أيضا في أنه لا تأثير للعيب فيها، كالهبات لغير الثواب والصدقة؛ وأما ما بين هذين الصنفين من العقود، أعني ما جمع قصد المكارمة والمعاوضة مثل هبة الثواب، فالأظهر في المذهب أنه لا حكم فيها بوجود العيب، وقد قيل يحكم به إذا كان العيب مفسدا.
- 4*الفصل الثاني. في معرفة العيوب التي توجب الحكم، وما شرطها الموجب للحكم فيها.
@-وفي هذا الفصل نظران: أحدهما: في العيوب التي توجب الحكم. والنظر الثاني في الشرط الموجب له. @-(النظر الأول) فأما العيوب التي توجب الحكم: فمنها عيوب في النفس؛ ومنها عيوب في البدن، وهذه منها ما هي عيوب بأن تشترط أضدادها في المبيع وهي التي تسمى عيوبا من قبل الشرط؛ ومنها ما هي عيوب توجب الحكم وإن لم يشترط وجود أضدادها في المبيع، وهذه هي التي فقدها نقص في أصل الخلقة؛ وأما العيوب الأخر فهي التي أضدادها كمالات، وليس فقدها نقصا مثل الصنائع، وأكثر ما يوجد هذا الصنف في أحوال النفس، وقد يوجد في أحوال الجسم. والعيوب الجسمانية، منها ما هي في أجسام ذوات الأنفس، ومنها ما هي في غير ذوات الأنفس. والعيوب التي لها تأثير في العقد هي عند الجميع ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصانا له تأثير في ثمن المبيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان والعوائد والأشخاص، فربما كان النقص في الخلقة فضيلة في الشرع، كالخفاض في الإماء، والختان في العبيد، ولتقارب هذه المعاني في شيء شيء مما يتعامل الناس به وقع الخلاف بين الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء ليكون ما يحصل من ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصا عمن تقدمه، أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره، فمن ذلك وجود الزنى في العبيد. اختلف العلماء فيه؛ فقال مالك والشافعي: هو عيب؛ وقال أبو حنيفة: ليس بعيب وهو نقص في الخلق الشرعي الذي هو العفة؛ والزواج عند مالك عيب، وهو من العيوب العائقة عن الاستعمال، وكذلك الدين، وذلك أن العيب بالجملة هو ما عاق فعل النفس أو فعل الجسم وهذا العائق قد يكون في الشيء وقد يكون من خارج؛ وقال الشافعي: ليس الدين ولا الزواج بعيب فيما أحسب. والحمل في الرائعة عيب عند مالك. وفي كونه عيبا في الوخش خلاف في المذهب. والتصرية عند مالك والشافعي عيب وهو حقن اللبن في الثدي أياما حتى يوهم ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير، وحجتهم حديث المصراة المشهور، وهو قوله ﷺ "لا تصروا الإبل والبقر، فمن فعل ذلك فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر" قالوا: فأثبت له الخيار بالرد مع التصرية، وذلك دال على كونه عيبا مؤثرا. قالوا: وأيضا فإنه مدلس، فأشبه التدليس بسائر العيوب. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليست التصرية عيبا للاتفاق على أن الإنسان إذا اشترى شاة فخرج لبنها قليلا أن ذلك ليس بعيب. قالوا: وحديث المصراة يجب أن لا يوجب عملا لمفارقته الأصول، وذلك أنه مفارق للأصول من وجوه: فمنها أنه معارض لقوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وهو أصل متفق عليه؛ ومنها أن فيه معارضة منع بيع طعام بطعام نسيئة، وذلك لا يجوز باتفاق؛ ومنها أن الأصل في المتلفات إما القيم وإما المثل، وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلا ومنها بيع الطعام المجهول: أي الجزاف بالمكيل المعلوم، لأن اللبن الذي دلس به البائع غير معلوم القدر، وأيضا فإنه يقل ويكثر، والعوض ههنا محدود، ولكن الواجب أن يستثني هذا من هذه الأصول كلها لموضع صحة الحديث، وهذا كأنه ليس من هذا الباب وإنما هو حكم خاص. ولكن اطرد إليه القول فلنرجع إلى حيث كنا نقول: إنه لا خلاف عندهم في العور والعمى وقطع اليد والرجل أنها عيوب مؤثرة، وكذلك المرض في أي عضو كان، أو كان في جملة البدن، والشيب في المذهب عيب في الرائعة، وقيل لابأس باليسير منه فيها، وكذلك الاستحاضة عيب في الرقيق والوخش، وكذلك ارتفاع الحيض عيب في المشهور من المذهب، والزعر عيب، وأمراض الحواس والأعضاء كلها عيب باتفاق. وبالجملة فأصل المذهب أن كل ما أثر في القيمة: أعني نقص منها فهو عيب، والبول في الفراش عيب، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: ترد الجارية به، ولا يرد العبد به، والتأنيث في الذكر والتذكير في الأنثى عيب هذا كله في المذهب إلا ما ذكرنا فيه الاختلاف. @-(النظر الثاني) وأما شرط العيب الموجب للحكم به فهو أن يكون حادثا قبل أمد التبايع باتفاق أو في العهدة عند من يقول بها، فيجب ههنا أن نذكر اختلاف الفقهاء في العهدة فنقول: انفرد مالك بالقول بالعهدة دون سائر فقهاء الأمصار، وسلفه في ذلك أهل المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم، ومعنى العهدة أن كل عيب حدث فيها عند المشتري فهو من البائع، وهي عند القائلين بها عهدتان: عهدة الثلاثة الأيام، وذلك من جمع العيوب الحادثة فيها عند المشتري. وعهدة السنة، وهي من العيوب الثلاثة: الجذام والبرص والجنون، فما حدث في السنة من هذه الثلاث بالمبيع فهو من البائع، وما حدث من غيرها من العيوب كان من ضمان المشتري على الأصل. وعهدة الثلاث عند المالكية بالجملة بمنزلة أيام الخيار وأيام الاستبراء والنفقة فيها والضمان من البائع. وأما عهدة السنة فالنفقة فيها والضمان من المشتري إلا من الأدواء الثلاثة، وهذه العهدة عند مالك في الرقيق، وهي أيضا واقعة في أصناف البيوع في كل ما القصد منه المماكسة والمحاكرة وكان بيعا لا في الذمة، هذا ما لا خلاف فيه في المذهب، واختلف في غير ذلك. وعهدة السنة تحسب عنده بعد عهدة الثلاث في الأشهر من المذهب، وزمان المواضعة يتداخل مع عهدة الثلاث إن كان زمان المواضعة أطول من عهدة الثلاث. وعهدة السنة لا تتداخل مع عهدة الاستبراء، هذا هو الظاهر من المذهب، وفيه اختلاف. وقال الفقهاء السبعة: لا يتداخل منها عهدة مع ثانية، فعهدة الاستبراء أولا، ثم عهدة الثلاث، ثم عهدة السنة. واختلف أيضا عن مالك هل تلزم العهدة في كل البلاد من غير أن يحمل أهلها عليها؟ فروي عنه الوجهان، فإذا قيل لا يلزم أهل هذه البلد إلا أن يكونوا قد حملوا على ذلك فهل يجب أن يحمل عليها أهل كل بلد أم لا؟ فيه قولان في المذهب، ولا يلزم النقد في عهدة الثلاث وإن اشترط، ويلزم في عهدة السنة؛ والعلة في ذلك أنه لم يكمل تسليم البيع فيها للبائع قياسا على بيع الخيار لتردد النقد فيها بين السلف والبيع، فهذه كلها مشهورات أحكام العهدة في مذهب مالك وهي كلها فروع مبنية على صحة العهدة، فلنرجع إلى تقرير حجج المثبتين لها والمبطلين. وأما عمدة مالك رحمه الله في العهدة وحجته التي عول عليها، فهي عمل أهل المدينة. وأما أصحابه المتأخرون فإنهم احتجوا بما رواه الحسن عن عقبة ابن عامر عن النبي ﷺ قال "عهدة الرقيق ثلاثة أيام" وروي أيضا "لا عهدة بعد أربع" وروى هذا الحديث أيضا الحسن عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه، وكلا الحديثين عند أهل العلم معلول، فإنهم اختلفوا في سماع الحسن عن سمرة، وإن كان الترمذي قد صححه وأما سائر فقهاء الأمصار فلم يصح عندهم في العهدة أثر، ورأوا أنها لو صحت مخالفة للأصول، وذلك أن المسلمين مجمعون على أن كل مصيبة تنزل بالمبيع قبل قبضه فهي من المشتري، فالتخصيص لمثل هذا الأصل المتقرر إنما يكون بسماع ثابت، ولهذا ضعف عند مالك في أحد الروايتين عنه أن يقضي بها في كل بلد إلا أن يكون ذلك عرفا في البلد أو يشترط وبخاصة عهدة السنة، فإنه لم يأت في ذلك أثر. وروي عن الشافعي عن ابن جريح قال: سألت ابن شهاب عن عهدة السنة والثلاث فقال: ما علمت فيها أمرا سالفا. وإذ قد تقرر القول في تمييز العيوب التي توجب حكما من التي لا توجبه وتقرر الشرط في ذلك، وهو أن يكون العيب حادثا قبل البيع أو في العهدة عند من يرى العهدة، فلنصر إلى ما بقي.
- 4*الفصل الثالث. في معرفة حكم العيب الموجب إذا كان المبيع لم يتغير.
@-وإذا وجدت العيوب، فإن لم يتغير المبيع بشيء من العيوب عند المشتري فلا يخلو أن يكون في عقار أو عروض أو في حيوان، فإن كان في حيوان فلا خلاف أن المشتري مخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شيء له. وأما إن كان عقار فمالك يفرق في ذلك بين العيب اليسير والكثير فيقول: إن كان العيب يسيرا لم يجب الرد، ووجبت قيمة العيب وهو الأرش، وإن كان كثيرا وجب الرد، هذا هو الموجود المشهور في كتب أصحابه، ولم يفصل البغداديون هذا التفصيل. وأما العروض فالمشهور في المذهب أنها ليست في هذا الحكم بمنزلة الأصول، وقد قيل إنها بمنزلة الأصول في المذهب، وهذا الذي كان يختاره الفقيه أبو بكر بن رزق شيخ جدي رحمة الله عليهما، وكان يقول: إنه لا فرق في هذا المعنى بين الأصول والعروض، وهذا الذي قاله يلزم من يفرق بين العيب الكثير والقليل في الأصول: أعني أن يفرق في ذلك أيضا في العروض، والأصل أن كل ما حط القيمة أنه يجب به الرد، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، ولذلك لم يعول البغداديون فيما أحسب على التفرقة التي قلت في الأصول، ولم يختلف قولهم في الحيوان إنه لا فرق فيه بين العيب القليل والكثير. @-(فصل) وإذ قلنا إن المشتري يخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شيء له، فإن اتفقا على أن يمسك المشتري سلعته ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك، إلا ابن سريج من أصحاب الشافعي فإنه قال: ليس لهما ذلك لأنه خيار في مال، فلم يكن له إسقاطه بعوض كخيار الشفعة. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا غلط، لأن ذلك حق للمشتري فله أن يستوفيه: أعني أن يرد ويرجع بالثمن، وله أن يعاوض على تركه، وما ذكره من خيار الشفعة فإنه شاهد لنا، فإن له عندنا تركه إلى عوض يأخذه، وهذا لا خلاف فيه. وفي هذا الباب فرعان مشهوران من قبل التبعيض: أحدهما هل إذا اشترى المشتري أنواعا من المبيعات في صفقة واحدة فوجد أحدها معيبا، فهل يرجع بالجميع، أو بالذي وجد فيه العيب؟ فقال قوم: ليس له إلا أن يرد الجميع أو يمسك، وبه قال أبو ثور والأوزاعي، إلا أن يكون قد سمى ما لكل واحد من تلك الأنواع من القيمة، فإن هذا مما لا خلاف فيه أنه يرد المبيع بعينه فقط، وإنما الخلاف إذا لم يسم. وقال قوم: يرد المعيب بحصته من الثمن وذلك بالتقدير، وممن قال بهذا القول سفيان الثوري وغيره. وروي عن الشافعي القولان معا. وفرق مالك فقال: ينظر في المعيب، فإن كان ذلك وجه الصفقة والمقصود بالشراء رد الجميع، وإن لم يكن وجه الصفقة رده بقيمته. وفرق أبو حنيفة تفريقا آخر وقال: إن وجد العيب قبل القبض رد الجميع، وإن وجده بعد القبض رد المعيب بحصته من الثمن. ففي هذه المسألة أربعة أقوال. فحجة من منع التبغيض في الرد أن المردود يرجع فيه بقيمة لم يتفق عليها المشتري والبائع، وكذلك الذي يبقى إنما يبقى بقيمة لم يتفقا عليها. ويمكن أنه لو بعضت السلعة لم يشتر البعض بالقيمة التي أقيم بها. وأما حجة من رأى الرد في البعض المعيب ولابد فلأنه موضع ضرورة، فأقيم فيه التقويم والتقدير مقام الرضا قياسا على أن ما فات في البيع فليس فيه إلا القيمة. وأما تفريق مالك بين ما هو وجه الصفقة أو غير وجهها فاستحسان منه، لأنه رأى أن ذلك المعيب إذا لم يكن مقصودا في المبيع فليس كبير ضرر في أن لا يوافق الثمن الذي أقيم به أراده المشتري أو البائع. وأما عند ما يكون مقصودا أو جل المبيع فيعظم الضرر في ذلك. واختلف عنه هل يعتبر تأثير العيب في قيمة الجميع أو في قيمة المعيب خاصة. وأما تفريق أبي حنيفة بين أن يقبض أو لا يقبض، فإن القبض عنده شرط من شروط تمام البيع، وما لم يقبض المبيع فضمانه عنده من البائع، وحكم الاستحقاق في هذه المسألة حكم الرد بالعيب. @-(وأما المسألة الثانية) فإنهم اختلفوا أيضا في رجلين يبتاعان شيئا واحدا في صفقة واحدة فيجدان به عيبا فيريد أحدهما الرجوع ويأبى الآخر، فقال الشافعي: لمن أراد الرد أن يرد، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وقيل ليس له أن يرد؛ فمن أوجب الرد شبهه بالصفقتين المفترقتين، لأنه قد اجتمع فيها عاقدان؛ ومن لم يوجبه شبهه بالصفقة الواحدة إذا أراد المشتري فيها تبغيض رد المبيع بالعيب.
- 4*الفصل الرابع. في معرفة أصناف التغيرات الحادثة عند المشتري وحكمها.
@-وأما إن تغير المبيع عند المشتري ولم يعلم بالعيب إلا بعد تغير المبيع عنده فالحكم في ذلك يختلف عند فقهاء الأمصار بحسب التغيير. فأما إن تغير بموت أو فساد أو عتق، ففقهاء الأمصار على أنه فوت، ويرجع المشتري على البائع بقيمة العيب. وقال عطاء بن أبي رباح: لا يرجع في الموت والعتق بشيء. وكذلك عندهم حكم من اشترى جارية فأولدها. وكذلك التدبير عندهم، وهو القياس في الكتابة. وأما تغيره في البيع فإنهم اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة والشافعي: إذا باعه لم يرجع بشيء، وكذلك قال الليث. وأما مالك فله في البيع تفصيل، وذلك أنه لا يخلو أن يبيعه من بائعه منه أو من غير بائعه، ولا يخلو أيضا أن يبيعه بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، فإن باعه من بائعه منه بمثل الثمن فلا رجوع له بالعيب. وإن باعه منه بأقل من الثمن رجع عليه بقيمة العيب، وإن باعه بأكثر من الثمن نظر، فإن كان البائع الأول مدلسا: أي عالما بالعيب لم يرجع الأول على الثاني بشيء، وإن لم يكن مدلسا رجع الأول على الثاني في الثمن والثاني على الأول أيضا، وينفسخ البيعان ويعود المبيع إلى ملك الأول، فإن باعه من عند بائعه منه، فقال ابن القاسم: لا رجوع له بقيمة العيب، مثل قول أبي حنيفة والشافعي؛ وقال ابن عبد الحكم: له الرجوع بقيمة العيب؛ وقال أشهب: يرجع بالأقل من قيمة العيب أو بقيمة الثمن، هذا إذا باعه بأقل مما اشتراه، وعلى هذا لا يرجع إذا باعه بمثل الثمن أو أكثر، وبه قال عثمان البتي. ووجه قول ابن القاسم والشافعي وأبي حنيفة أنه إذا فات بالبيع فقد أخذ عوضا من غير أن يعتبر تأثير بالعيب في ذلك العوض الذي هو الثمن، ولذلك متى قام عليه المشتري منه بعيب رجع على البائع الأول بلا خلاف. ووجه القول الثاني تشبيهه البيع بالعتق. ووجه قول عثمان وأشهب أنه لو كان عنده المبيع لم يكن له إلا الإمساك أو الرد للجميع، فإذا باعه فقد أخذ عوض ذلك الثمن، فليس له إلا ما نقص إلا أن يكون أكثر من قيمة العيب. وقال مالك: إن وهب أو تصدق رجع بقيمة العيب؛ وقال أبو حنيفة لا يرجع، لأن هبته أو صدقته تفويت للملك بغير عوض ورضي منه بذلك طلبا للأجر، فيكون رضاه بإسقاط حق العيب أولى وأحرى بذلك. وأما مالك فقاس الهبة على العتق، وقد كان القياس أن لا يرجع في شيء من ذلك إذا فات ولم يمكنه الرد، لأن إجماعهم على أنه إذا كان في يده فليس يجب له إلا الرد أو الإمساك، دليل على أنه ليس للعيب تأثير في إسقاط شيء من الثمن، وإنما له تأثير في فسخ البيع فقط. وأما العقود التي يتعاقبها الاسترجاع كالرهن والإجازة فاختلف في ذلك أصحاب مالك، فقال ابن القاسم: لا يمنع ذلك من الرد بالعيب إذا رجع إليه المبيع؛ وقال أشهب: إذا لم يكن زمان خروجه عن يده زمانا بعيدا كان له الرد بالعيب، وقول ابن القاسم أولى، والهبة للثواب عند مالك كالبيع في أنها فوت، فهذه هي الأحوال التي تطرأ على المبيع من العقود الحادثة فيها وأحكامها.
- 3*باب في طرو النقصان.
@-وأما إن طرأ على المبيع نقص فلا يخلو أن يكون النقص في قيمته أو في البدن أو في النفس. فأما نقصان القيمة لاختلاف الأسواق، فغير مؤثر في الرد بالعيب بإجماع. وأما النقصان الحادث في البدن، فإن كان يسيرا غير مؤثر في القيمة فلا تأثير له في الرد بالعيب، وحكمه حكم الذي لم يحدث، وهذا نص مذهب مالك وغيره. وأما النقص الحادث في البدن المؤثر في القيمة، فاختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه ليس له أن يرجع إلا بقيمة العيب فقط وليس له غير ذلك إذا أبى البائع من الرد، وبه قال الشافعي في قوله الجديد وأبو حنيفة. وقال الثوري: ليس له إلا أن يرد، ويرد مقدار العيب الذي حدث عنده، وهو قول الشافعي الأول. والقول الثالث قول مالك: إن المشتري بالخيار بين أن يمسك ويضع عنه البائع من الثمن قدر العيب أو يرده على البائع ويعطيه ثمن العيب الذي حدث عنده، وأنه إذا اختلف البائع والمشتري، فقال البائع للمشتري: أنا أقبض المبيع وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، وقال المشتري: بل أنا أمسك المبيع، وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، فالقول قول المشتري والخيار له، وقد قيل في المذهب القول قول البائع، وهذا إنما يصح على قول من يرى أنه ليس للمشتري إلا أن يمسك أو يرد وما نقص عنده. وشذ أبو محمد بن حزم فقال: له أن يرد ولا شيء عليه. وأما حجة من قال: إنه ليس للمشتري إلا أن يرد ويرد قيمة العيب، أو يمسك، فلأنه قد أجمعوا على أنه إذا لم يحدث بالمبيع عيب عند المشتري فليس إلا الرد، فوجب استصحاب حال هذا الحكم، وإن حدث عند المشتري عيب مع إعطائه قيمة العيب الذي حدث عنده. وأما من رأى أنه لا يرد المبيع بشيء وإنما له قيمة العيب الذي كان عند البائع، فقياسا على العتق والموت لكون هذا الأصل غير مجمع عليه، وقد خالف فيه عطاء. وأما مالك فلما تعارض عنده حق البائع وحق المشتري غلب المشتري وجعل له الخيار، لأن البائع لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مفرطا في أنه لم يستعلم العيب ويعلم به المشتري، أو يكون علمه فدلس به على المشتري. وعند مالك أنه إذا صح أنه دلس بالعيب وجب عليه الرد من غير أن يدفع إليه المشتري قيمة العيب الذي حدث عنده، فإن مات من ذلك العيب كان ضمانه على البائع بخلاف الذي لم يثبت أنه دلس فيه. وأما حجة أبي محمد، فلأنه أمر حدث من عند الله كما لو حدث في ملك البائع، فإن الرد بالعيب دال على أن البيع لم ينعقد في نفسه، وإنما انعقد في الظاهر، وأيضا فلا كتاب ولا سنة يوجب على مكلف غرم ما لم يكن له تأثير في نقصه إلا أن يكون على جهة التغليظ عند من ضمن الغاصب ما نقص عنده بأمر من الله، فهذا حكم العيوب الحادثة في البدن. وأما العيوب التي في النفس كالإباق والسرقة، فقد قيل في المذهب إنها تُفِيتُ [أي يفوت بها استطاعة الرد] الرد كعيوب الأبدان، وقيل لا، ولا خلاف أن العيب الحادث عند المشتري إذا ارتفع بعد حدوثه أنه لا تأثير له في الرد إلا أن لا تؤمن عاقبته. واختلفوا من هذا الباب في المشتري يطأ الجارية، فقال قوم: إذا وطئ فليس له الرد وله الرجوع بقيمة العيب، وسواء كانت بكرا أو ثيبا؛ وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: يرد قيمة الوطء في البكر ولا يردها في الثيب؛ وقال قوم: بل يردها ويرد مهر مثلها، وبه قال ابن أبي شبرمة وابن أبي ليلى؛ وقال سفيان الثوري: إن كانت ثيبا رد نصف العشر من ثمنها، وإن كانت بكرا رد العشر من ثمنها؛ وقال مالك: ليس عليه في وطء الثيب شيء لأنه غلة وجبت له بالضمان. وأما البكر فهو عيب يثبت عنده للمشتري الخيار على ما سلف من رأيه، وقد روي مثل هذا القول عن الشافعي؛ وقال عثمان البتي: الوطء معتبر في العرف في ذلك النوع من الرقيق، فإن كان له أثر في القيمة رد البائع ما نقص، وإن لم يكن له أثر لم يلزمه شيء، فهذا هو حكم النقصان الحادث في المبيعات. وأما الزيادة الحادثة في المبيع: أعني المتولدة المنفصلة منه، فاختلف العلماء فيها، فذهب الشافعي إلى أنها غير مؤثرة في الرد وأنها للمشتري لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان". وأما مالك فاستثنى من ذلك الولد فقال: يرد للبائع، وليس للمشتري إلا الرد الزائد مع الأصل أو الإمساك. قال أبو حنيفة: الزوائد كلها تمنع الرد وتوجب أرش العيب إلا الغلة والكسب. وحجته أن ما تولد عن المبيع داخل في العقد، فلما لم يكن رده ورد ما تولد عنه كان ذلك فوتا يقتضي أرش العيب إلا ما نصصه الشرع من الخراج والغلة. وأما الزيادة الحادثة في نفس المبيع الغير المنفصلة عنه فإنها إن كانت مثل الصبغ في الثوب والرقم فإنها توجب الخيار في المذهب، إما الإمساك والرجوع بقيمة العيب، وإما في الرد وكونه شريكا مع البائع بقيمة الزيادة. وأما النماء في البدن مثل السمن فقد قيل في المذهب يثبت به الخيار للمشتري، وقيل لا يثبت، وكذلك النقص الذي هو الهزال، فهذا هو القول في حكم التغيير.
- 4*الفصل الخامس. في القضاء في اختلاف الحكم عند اختلاف المتبايعين.
@-وأما صفة الحكم في القضاء بهذه الأحكام فإنه إذا تقار البائع والمشتري على حالة من هذه الأحوال المذكورة ههنا وجب الحكم الخاص بتلك الحال، فإن أنكر البائع دعوى القائم، فلا يخلو أن ينكر وجود العيب أو ينكر حدوثه عنده. فإن أنكر وجود العيب بالمبيع فإن كان العيب يستوي في إدراكه جميع الناس كفى في ذلك شاهدان عدلان ممن اتفق من الناس، وإن كان مما يختص بعلمه أهل صناعة ما، شهد به أهل تلك الصناعة، فقيل في المذهب عدلان. وقيل لا يشترط في ذلك العدالة ولا العدد ولا الإسلام، وكذلك الحال إن اختلفوا في كونه مؤثرا في القيمة، وفي كونه أيضا قبل أمد التبايع أو بعده، فإن لم يكن للمشتري بينة حلف البائع أنه ما حدث عنده، وإن لم تكن له بينة (لعله وإن كانت له بينة) على وجود العيب بالمبيع لم يجب له يمين على البائع. وأما إذا وجب الأرش فوجه الحكم في ذلك أن يقوم الشيء سليما ويقوم معيبا ويرد المشتري ما بين ذلك، فإن وجب الخيار قوم ثلاث تقويمات: تقويم وهو سليم، وتقويم بالعيب الحادث عند البائع، وتقويم بالعيب الحادث عند المشتري، فيرد البائع من الثمن ويسقط عنه ما قدر منه قدر ما تنقص به القيمة المعيبة عن القيمة السليمة، وإن أبى المشتري الرد وأحب الإمساك رد البائع من الثمن ما بين القيمة الصحيحة والمعيبة عنده.
- 3*الباب الثاني في بيع البراءة.
@-اختلف العلماء في جواز هذا البيع. وصورته أن يشترط البائع على المشتري التزام كل عيب يجده في المبيع على العموم، فقال أبو حنيفة: يجوز البيع بالبراءة من كل عيب سواء علمه البائع أو لم يعلمه، سماه أو لم يسميه، أبصره أو لم يبصره، وبه قال أبو ثور. وقال الشافعي في أشهر قوليه وهو المنصور عند أصحابه لا يبرأ البائع إلا من عيب يريه للمشتري، وبه قال الثوري. وأما مالك فالأشهر عنه أن البراءة جائزة مما يعلم البائع من العيوب، وذلك في الرقيق خاصة، إلا البراءة من الحمل في الجواري الرائعات، فإنه لا يجوز عنده لعظم الغرر فيه، ويجوز في الوخش. وعنه في رواية ثانية: أنه يجوز في الرقيق والحيوان. وفي رواية ثالثة مثل قول الشافعي. وقد روي عنه أن بيع البراءة إنما يصح من السلطان فقط، وقيل في بيع السلطان وبيع المواريث، وذلك من غير أن يشترطوا البراءة. وحجة من رأى القول بالبراءة على الاطلاق أن القيام بالعيب حق من حقوق المشتري قبل البائع، فإذا أسقطه سقط أصله سائر الحقوق الواجبة. وحجة من لم يجزه على الاطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش فيما علمه، ولذلك اشترط جهل البائع مالك. وبالجملة فعمدة مالك ما رواه في الموطأ أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه على البراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه، فاختصما إلى عثمان، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي، وقال عبد الله: بعته بالبراءة، فقضى عثمان على عبد الله أن يحلف لقد باع العبد وما به داء يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد. وروي أيضا أن زيد بن ثابت كان يجيز بيع البراءة. وإنما خص مالك بذلك الرقيق لكون عيوبهم في الأكثر خافية. وبالجملة خيار الرد بالعيب حق ثابت للمشتري، ولما كان ذلك يختلف اختلافا كثيرا كاختلاف المبيعات في صفاتها وجب إذا اتفقا على الجهل به أن لا يجوز أصله إذا اتفقا على جهل صفة المبيع المؤثرة في الثمن، ولذلك حكى ابن القاسم في المدونة عن مالك أن آخر قوله كان إنكار بيع البراءة إلا ما خفف فيه السلطان، وفي قضاء الديون خاصة. وذهب المغيرة من أصحاب مالك إلى أن البراءة إنما تجوز فيما كان من العيوب لا يتجاوز فيها ثلث المبيع، والبراءة بالجملة إنما تلزم عند القائلين بالشرط: أعني إذا اشترطها إلا بيع السلطان والمواريث عند مالك فقط. فالكلام بالجملة في بيع البراءة هو في جوازه وفي شرط جوازه، وفيما يجوز من العقود والمبيعات والعيوب، ولمن يجوز بالشرط أو مطلقا، وهذه كلها قد تقدمت بالقوة في قولنا فاعلمه.
- 3*(الجملة الثانية: في وقت ضمان المبيعات) واختلفوا في الوقت الذي يتضمن فيه المشتري المبيع أنى تكون خسارته إن هلك منه. فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يضمن المشتري إلا بعد القبض. وأما مالك فله في ذلك تفصيل، وذلك أن المبيعات عنده في هذا الباب ثلاثة أقسام: بيع يجب على البائع فيه حق توفية من وزن أو كيل وعدد. وبيع ليس فيه حق توفية، وهو الجزاف أو ما لا يوزن ولا يكال ولا يعد. فأما ما كان فيه حق توفية فلا يضمن المشتري إلا بعد القبض. وأما ما ليس فيه حق توفية وهو حاضر فلا خلاف في المذهب أن ضمانه من المشتري وإن لم يقبضه. وأما المبيع الغائب، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: أشهرها أن الضمان من البائع إلا أن يشترطه على المبتاع. والثانية أنه من المبتاع إلا أن يشترطه على البائع. والثالثة الفرق بين ما ليس بمأمون البقاء إلى وقت الاقتضاء كالحيوان والمأكولات، وبين ما هو مأمون البقاء. والخلاف في هذه المسألة مبني هل على القبض شرط من شروط العقد، أو حكم من أحكام العقد، والعقد لازم دون القبض؟ فمن قال القبض من شروط صحة العقد أو لزومه أو كيفما شئت أن تعبر في هذا المعنى كان الضمان عنده من البائع حتى يقبضه المشتري؛ ومن قال هو حكم لازم من أحكام المبيع والبيع قد انعقد ولزم قال: العقد يدخل في ضمان المشتري. وتفريق مالك بين الغائب والحاضر، والذي فيه حق توفية والذي ليس فيه حق توفية استحسان، ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو التفات إلى المصلحة والعدل. وذهب أهل الظاهر إلى أن بالعقد يدخل في ضمان المشتري وفيما أحسب، وعمدة من رأى ذلك اتفاقهم على أن الخراج قبل القبض للمشتري، وقد قال عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وعمدة المخالف حديث عتاب بن أسيد أن رسول الله ﷺ لما بعثه إلى مكة قال له "انههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا" وقد تكلمنا في شرط القبض في المبيع فيما سلف، ولا خلاف بين المسلمين أنه من ضمان المشتري بعد القبض إلا في العهدة والجوائح. وإذ قد ذكرنا العهدة فينبغي أن نذكر ههنا الجوائح.
- 4*القول في الجوائح.
@-اختلف العلماء في وضع الجوائح في الثمار، فقال بالقضاء بها مالك وأصحابه، ومنعها أبو حنيفة والثوري والشافعي في قوله الجديد والليث. فعمدة من قال بوضعها حديث جابر أن رسول الله ﷺ قال "من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا، على ماذا يأخذ أحدكم مال أخيه؟" خرجه مسلم عن جابر. وما روي عنه أنه قال "أمر رسول الله ﷺ بوضع الجوائح". فعمدة من أجاز الجوائح حديثا جابر هذان، وقياس الشبه أيضا، وذلك أنهم قالوا: إنه مبيع بقي على البائع فيه حق توفية، بدليل ما عليه من سقيه إلى أن يكمل، فوجب أن يكون ضمانه منه أصله سائر المبيعات التي بقي فيها حق توفية، والفرق عندهم بين هذا المبيع وبين سائر البيوع أن هذا بيع وقع في الشرع والمبيع لم يكمل بعد، فكأنه مستثنى من النهي عن بيع ما لم يخلق، فوجب أن يكون في ضمانه مخالفا لسائر المبيعات. وأما عمدة من لم يقل بالقضاء بها فتشبيه هذا البيع بسائر المبيعات وأن التخلية في هذا المبيع هو القبض. وقد اتفقوا على أن ضمان المبيعات بعد القبض من المشتري ومن طريق السماع أيضا حديث أبي سعيد الخدري قال "أجيح رجل في ثمار ابتاعها وكثر دينه، فقال رسول الله ﷺ: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ وفاء دينه، فقال رسول الله ﷺ: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" قالوا: فلم يحكم بالجائحة. فسبب الخلاف في هذه المسألة هو تعارض الآثار فيهما وتعارض مقاييس الشبه، وقد رام كل واحد من الفريقين صرف الحديث المعارض للحديث الذي هو الأصل عنده بالتأويل، فقال من منع الجائحة: يشبه أن يكون الأمر بها إنما ورد من قبل النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، قالوا: ويشهد لذلك أنه لما كثر شكواهم بالجوائح أمروا أن لا يبيعوا الثمر إلا بعد أن يبدو صلاحه، وذلك في حديث زيد بن ثابت المشهور، وقال من أجازها في حديث أبي سعيد: يمكن أن يكون البائع عديما فلم يقض عليه بجائحة أو أن يكون المقدار الذي أصيب من الثمر مقدارا لا يلزم فيه جائحة، أو أن يكون أصيب في غير الوقت الذي تجب فيه الجائحة، مثل أن يصاب بعد الجذاذ أو بعد الطيب. وأما الشافعي فروى حديث جابر عن سليمان بن عتيق عن جابر، وكان يضعفه ويقول: إنه اضطرب في ذكر وضع الجوائح فيه ولكنه قال: إن ثبت الحديث وجب وضعها في القليل والكثير، ولا خلاف بينهم في القضاء بالجائحة بالعطش، وقد جعل القائلون بها اتفاقهم في هذا حجة على إثباتها. والكلام في أصول الجوائح على مذهب مالك ينحصر في أربعة فصول: الأول: في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح. الثاني: في محل الجوائح من المبيعات. الثالث: في مقدار ما يوضع منه فيه. الرابع: في الوقت الذي توضع فيه.
- 4*الفصل الأول في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح.
@-وأما ما أصاب الثمرة من السماء مثل البرد والقحط وضده والعفن، فلا خلاف في المذهب أنه جائحة. وأما العطش كما قلنا فلا خلاف بين الجميع أنه جائحة. وأما ما أصاب من صنع الآدميين فبعض من أصحاب مالك رآه جائحة وبعض لم يره جائحة. والذين رأوه جائحة انقسموا إلى قسمين: فبعضهم رأى منه جائحة ما كان غالبا كالجيش ولم ير ما كان منه بمغافصة (غافصة: أخذه على غرة) جائحة مثل السرقة، وبعضهم جعل كل ما يصيب الثمرة من جهة الآدميين جائحة بأي وجه كان، فمن جعلها في الأمور السماوية فقط اعتمد ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت إن منع الله الثمرة؟" ومن جعلها في أفعال الآدميين شبهها بالأمور السماوية، ومن استثنى اللص قال: يمكن أن يتحفظ منه.
- 4*الفصل الثاني في محل الجوائح من المبيعات.
@-ومحل الجوائح هي الثمار والبقول. فأما الثمار فلا خلاف فيها في المذهب، وأما البقول ففيها خلاف، والأشهر فيها الجائحة. وإنما اختلفوا في البقول لاختلافهم في تشبيهها بالأصل الذي هو الثمر.
- 4*الفصل الثالث في مقدار ما يوضع منه فيه.
@-وأما المقدار الذي تجب فيه الجائحة، أما في الثمار فالثلث، وأما في البقول فقيل في القليل والكثير، وقيل في الثلث، وابن القاسم يعتبر ثلث الثمر بالكيل وأشهب يعتبر الثلث في القيمة، فإذا ذهب من الثمر عند أشهب ما قيمته الثلث من الكيل وضع عنه الثلث من الثمن، وسواء كان ثلثا في الكيل أو لم يكن. وأما ابن القاسم فإنه إذا ذهب من الثمر الثلث من الكيل، فإن كان نوعا واحدا ليس تختلف قيمة بطونه حط عنه من الثمن الثلث، وإن كان الثمر أنواعا كثيرة مختلفة القيم، أو كان بطونا مختلفة القيم أيضا اعتبر قيمة ذلك الثلث الذاهب من قيمة الجميع، فما كان قدره حط بذلك القدر من الثمن، ففي موضع يعتبر المكيلة فقط، حيث تستوي القيمة في أجزاء الثمرة وبطونها وفي موضع يعتبر أمرين جميعا حيث تختلف القيمة، والمالكية يحتجون في مصيرهم إلى التقدير في وضع الجوائح وإن كان الحديث الوارد فيها مطلقا بأن القليل في هذا معلوم من حكم العادة أنه يخالف الكثير إذ كان معلوما أن القليل يذهب من كل ثمر، فكأن المشتري دخل على هذا الشرط بالعادة وإن لم يدخل بالنطق، وأيضا فإن الجائحة التي علق الحكم بها تقتضي الفرق بين القليل والكثير. قالوا: وإذا وجب الفرق وجب أن يعتبر فيه الثلث، إذ قد اعتبره الشرع في مواضع كثيرة، وإن كان المذهب يضطرب في هذا الأصل، فمرة يجعل الثلث من حيز الكثير كجعله إياه ههنا، ومرة يجعله في حيز القليل ولم يضطرب في أنه الفرق بين القليل والكثير، والمقدارات يعسر إثباتها بالقياس عند جمهور الفقهاء، ولذلك قال الشافعي: لو قلت بالجائحة لقلت فيها بالقليل والكثير، وكون الثلث فرقا بين القليل والكثير هو نص في الوصية في قوله عليه الصلاة والسلام "الثلث، والثلث كثير".
- 4*الفصل الرابع في الوقت الذي توضع فيه.
@-وأما زمان القضاء بالجائحة، فاتفق المذهب على وجوبها في الزمان الذي يحتاج فيه إلى تبقية الثمر على رءوس الشجر حيث يستوفي طيبه. واختلفوا إذا أبقاه المشتري في الثمار ليبيعه على النضارة وشيئا شيئا، فقيل فيه الجائحة تشبيها بالزمان المتفق عليه، وقيل ليس فيه جائحة تفريقا بينه وبين الزمان المتفق على وجوب القضاء بالجائحة فيه، وذلك أن هذا الزمان يشبه الزمان المتفق عليه من جهة ويخالفه من جهة؛ فمن غلب الاتفاق أوجب فيه الجائحة؛ ومن غلب الاختلاف لم يوجب فيه جائحة، أعني من رأى أن النضارة مطلوبة بالشراء كما الطيب مطلوب قال: بوجوب الجائحة فيه؛ ومن لم ير الأمر فيهما واحدا قال: ليس فيه جائحة، ومن ههنا اختلفوا في وجوب الجوائح في البقول.
- 3*(الجملة الثالثة من جمل النظر في الأحكام) وهو في تابعات المبيعات، ومن مسائل هذا الباب المشهورة اثنتان: الأولى بيع النخيل وفيها الثمر متى يتبع بيع الأصل ومتى لا يتبعه؟ فجمهور الفقهاء على أن من باع نخلا فيها ثمر قبل أن يؤبر فإن الثمر للمشتري، وإذا كان البيع بعد الإبار فالثمر للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، والثمار كلها في هذا المعنى في معنى النخيل، وهذا كله لثبوت حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال "من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" قالوا: فلما حكم ﷺ بالثمن للبائع بعد الإبار علمنا بدليل الخطاب أنها للمشتري قبل الإبار بلا شرط، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هي للبائع قبل الإبار وبعده، ولم يجعل المفهوم ههنا من باب دليل الخطاب بل من باب مفهوم الأحرى والأولى ، قالوا: وذلك أنه إذا وجبت للبائع بعد الإبار فهي أحرى أن تجب له قبل الإبار. وشبهوا خروج الثمر بالولادة، وكما أن من باع أمة لها ولد فولدها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع كذلك الأمر في الثمن، وقال ابن أبي ليلى: سواء أبر أو لم يؤبر إذا بيع الأصل فهو للمشتري اشترطها أو لم يشترطها، فرد الحديث بالقياس، لأنه رأى أن الثمر جزء من المبيع، ولا معنى لهذا القول إلا أن كان لم يثبت عنده الحديث. وأما أبو حنيفة فلم يرد الحديث، وإنما خالف مفهوم الدليل فيه. فإذا سبب الخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة والشافعي ومالك ومن قال بقولهم معارضة دليل الخطاب لدليل مفهوم الأحرى والأولى، وهو الذي يسمى فحوى الخطاب لكنه ههنا ضعيف، وإن كان في الأصل أقوى من دليل الخطاب. وأما سبب مخالفة ابن أبي ليلى فمعارضة القياس للسماع، وهو كما قلنا ضعيف. والإبار عند العلماء أن يجعل طلع ذكور النحل في طلع إناثها، وفي سائر الشجر أن تنور وتعقد، والتذكير في شجر التين التي تذكر في معنى الإبار، وإبار الزرع مختلف فيه في المذهب، فروى ابن القاسم عن مالك أن إباره أن يفرك قياسا على سائر الثمر، وهل الموجب لهذا الحكم هو الإبار أو وقت الإبار؟ قيل الوقت، وقيل الإبار، وعلى هذا ينبني الاختلاف إذا أبر بعض النخيل ولم يؤبر البعض، هل يتبع ما لم يؤبر ما أبر أو لا يتبعه؟ واتفقوا فيما أحسبه على أنه إذا بيع ثمر وقد دخل وقت الإبار فلم يؤبر أن حكمه حكم المؤبر.
@-(المسألة الثانية) وهي اختلافهم في بيع مال العبد، وذلك أنهم اختلفوا في مال العبد هل يتبعه في البيع والعتق؟ على ثلاثة أقوال: أحدها أن ماله في البيع والعتق لسيده، وكذلك في المكاتب، وبه قال الشافعي والكوفيون. والثاني أن ماله تبع له في البيع والعتق، وهو قول داود وأبي ثور. والثالث أنه تبع له في العتق لا في البيع إلا أن يشترطه المشتري، وبه قال مالك والليث. فحجة من رأى أن ماله في البيع لسيده إلا أن يشترطه المبتاع حديث ابن عمر المشهور عن النبي ﷺ أنه قال "من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع" ومن جعله لسيده في العتق فقياسا على البيع. وحجة من رأى أنه تبع للعبد في كل حال انبنت على كون العبد مالكا عندهم وهي مسألة اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا: أعني هل يملك العبد أو لا يملك؟ ويشبه أن يكون هؤلاء إنما غلبوا القياس على السماع، لأن حديث ابن عمر هو حديث خالف فيه نافع سالما، لأن نافعا رواه عن ابن عمر وسالم رواه عن ابن عمر عن النبي ﷺ. وأما مالك فغلب القياس في العتق والسماع في البيع. وقال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدا كان أو عرضا أو دينا. وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال "من أعتق غلاما فماله له إلا أن يستثنيه سيده" ويجوز عند مالك أن يشتري العبد وماله بدراهم، وإن كان مال العبد دراهم أو فيه دراهم. وخالفه أبو حنيفة والشافعي إذا كان مال العبد نقدا، وقالوا: العبد وماله بمنزلة من باع شيئين لا يجوز فيهما إلا ما يجوز في سائر البيوع. واختلف أصحاب مالك في اشتراط المشتري لبعض مال العبد في صفقة البيع، فقال ابن القاسم: لا يجوز، وقال أشهب: جائز أن يشترط بعضه، وفرق بعضهم فقال: إن كان ما اشترى به العبد عينا وفي مال العبد عين لم يجز ذلك لأنه يدخله دراهم بعرض ودراهم، وإن كان ما اشترى به عروضا أو لم يكن في مال العبد دراهم جاز. ووجه قول ابن القاسم إنه لا يجوز أن يشترط بعض تشبيهه بثمر النخل بعد الإبار. ووجه قول أشهب تشبيه الجزء بالكل، وفي هذا الباب مسائل مسكوت عنها كثيرة ليست مما قصدناه. ومن مشهور مسائلهم في هذا الباب الزيادة والنقصان اللذان يقعان في الثمن الذي انعقد عليه البيع بعد البيع بما يرضى به المتبايعان، أعني أن يزيد المشتري البائع بعد البيع على الثمن الذي انعقد عليه البيع أو يحط منه البائع، هل يتبع حكم الثمن أم لا؟ وفائدة الفرق أن من قال هي من الثمن أوجب ردها في الاستحقاق وفي الرد بالعيب وما أشبه ذلك، وأيضا من جعلها في حكم الثمن الأول إن كانت فاسدة البيع، ومن لم يجعلها من الثمن: أعني الزيادة لم يوجب شيئا من هذا، فذهب أبو حنيفة إلى أنها من الثمن إلا أنه قال لا تثبت الزيادة في حق الشفيع ولا في بيع المرابحة، بل الحكم للثمن الأول، وبه قال مالك؛ وقال الشافعي: لا تلحق الزيادة والنقصان بالثمن أصلا وهو في حكم الهبة، واستدل من ألحق الزيادة بالثمن بقوله عز وجل {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} قالوا: وإذا لحقت الزيادة في الصداق بالصداق لحقت في البيع بالثمن. واحتج الفريق الثاني باتفاقهم على أنها لا تلحق في الشفعة وبالجملة من رأى أن العقد الأول قد تقرر قال: الزيادة هبة؛ ومن رأى أنها فسخ للعقد الأول وعقد ثان عدها من الثمن.
- 3*(الجملة الرابعة) وإذا اتفق المتبايعان على البيع واختلفا في مقدار الثمن ولم تكن هناك بينة ففقهاء الأمصار متفقون على أنهما يتحالفان ويتفاسخان بالجملة ومختلفون في التفصيل، أعني في الوقت الذي يحكم فيه بالأيمان والتفاسخ، فقال أبو حنيفة وجماعة: إنهما يتحالفان ويتفاسخان ما لم تفت عين السلعة، فإن فاتت فالقول قول المشتري مع يمينه. وقال الشافعي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأشهب صاحب مالك: يتحالفان في كل وقت. وأما مالك فعنه روايتان: إحداهما أنهما يتحالفان ويتفاسخان قبل القبض وبعد القبض القول قول المشتري. والرواية الثانية مثل قول أبي حنيفة، وهي رواية ابن القاسم، والثانية رواية أشهب، والفوت عنده يكون بتغيير الأسواق وبزيادة المبيع ونقصانه. وقال داود وأبو ثور: القول قول المشتري على كل حال، وكذلك قال زفر، إلا أن يكونا اختلفا في جنس الثمن، فحينئذ يكون التفاسخ عندهم والتحالف، ولا خلاف أنهم إذا اختلفوا في جنس الثمن أو المثمون أن الواجب هو التحالف والتفاسخ، وإنما صار فقهاء الأمصار إلى القول على الجملة بالتحالف والتفاسخ عند الاختلاف في عدد الثمن لحديث ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال "أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان" فمن حمل هذا الحديث على وجوب التفاسخ وعمومه قال: يتحالفان في كل حال ويتفاسخان، والعلة في ذلك عنده أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه. وأما من رأى أن الحديث إنما يجب أن يحمل على الحالة التي يجب أن يتساوى فيها دعوى البائع والمشتري قال: إذا قبض السلعة أو فاتت فقد صار القبض شاهدا للمشتري وشبهه لصدقه، واليمين إنما يجب على أقوى المتداعيين شبهة، وهذا هو أصل مالك في الأيمان، ولذلك يوجب في مواضع اليمين على المدعي، وفي مواضع على المدعى عليه، وذلك أنه لم يجب اليمين بالنص على المدعى عليه من حيث هو مدعى عليه، وإنما وجبت عليه من حيث هو في الأكثر أقوى شبهة، فإذا كان المدعي في مواطن أقوى شبهة وجب أن يكون اليمين في حيزه. وأما من رأى القول قول المشتري، فإنه رأى أن البائع مقر للمشتري بالشراء ومدع عليه عددا ما في الثمن. وأما داود ومن قال بقوله فردوا حديث ابن مسعود لأنه منقطع ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم، وإنما خرجه مالك. وعن مالك: إذا نكل المتبايعان عن الأيمان روايتان: إحداهما الفسخ، والثانية أن القول قول البائع. وكذلك من يبدأ باليمين في المذهب فيه خلاف، فالأشهر البائع على ما في الحديث، وهل إذا وقع التفاسخ يجوز لأحدهما أن يختار قول صاحبه؟ فيه خلاف في المذهب.
@-(القسم الرابع من النظر المشترك في البيوع) وهو النظر في حكم البيع الفاسد إذا وقع، فنقول: اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء أو نقصان أو حوالة سوق أن حكمها الرد أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون. واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق أو هبة أو بيع أو رهن أو غير ذلك من سائر التصرفات هل ذلك فوت يوجب القيمة، وكذلك إذا نمت أو نقصت فقال الشافعي: ليس ذلك كله فوتا ولا شبهة ملك في البيع الفاسد وأن الواجب الرد، وقال مالك: كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا أنه ليس بفوت، ومثل ذلك قال أبو حنيفة. والبيوع الفاسدة عند مالك تنقسم إلى محرمة وإلى مكروهة. فأما المحرمة فإنها إذا فاتت مضت بالقيمة. وأما المكروهة فإنها إذا فاتت صحت عنده، وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك، فالشافعية تشبه المبيع الفاسد لمكان الربا والغرر بالفاسد لمكان تحريم عينه كبيع الخمر والخنزير فليس عندهم فيه فوت، ومالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها، أعني بيوع الربا والغرر، فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة، لأنه قد تقبض السلعة وهي تساوي ألفا وترد وهي تساوي خمسمائة أو بالعكس، ولذلك يرى مالك حوالة الأسواق فوتا في المبيع الفاسد، ومالك يرى في البيع والسلف أنه إذا فات وكان البائع هو المسلف رد المشتري القيمة ما لم تكن أزيد من الثمن، لأن المشتري قد رفع له في الثمن لمكان السلف فليس من العدل أن يرد أكثر من ذلك، وإن كان المشتري هو الذي أسلف البائع فقد حط البائع عنه من الثمن لمكان السلف، فإذا وجبت على المشتري القيمة ردها ما لم تكن أقل من الثمن، لأن هذه البيوع إنما وقع المنع فيها لمكان ما جعل فيها من العوض مقابل السلف الذي هو موضوع لعون الناس بعضهم لبعض، ومالك في هذه المسألة أفقه من الجميع. واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض: أعني شرط السلف، هل يصح البيع أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء: البيع مفسوخ؛ وقال مالك وأصحابه: البيع غير مفسوخ إلا ابن عبد الحكم قال: البيع مفسوخ. وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور. وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي فإذا انعقد البيع فاسدا لم يصححه بعد رفع الشرط الذي من قبله وقع الفساد، كما أن رفع السبب المفسد في المحسوسات بعد فساد الشيء ليس يقتضي عودة الشيء إلى ما كان عليه قبل الفساد من الوجود فاعلمه. وروي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر، فلما انعقد البيع بينهما قال: أنا أدع الزق، وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع، فوجب أن يكون بيع السلف كذلك، فجاوب عن ذلك بجواب لا تقوم به حجة، وقد تقدم القول في ذلك. وإذ قد انقضى القول في أصول البيوع الفاسدة وأصول البيوع الصحيحة، وفي أصول أحكام البيوع الصحيحة، وأصول الأحكام الفاسدة المشتركة العامة لجميع البيوع أو لكثير منها فلنصر إلى ما يخص واحدا واحدا من هذه الأربعة الأجناس، وذلك بأن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول.
- 2*كتاب الصرف.
@-ولما كان يخص هذا البيع شرطان: أحدهما عدم النسيئة وهو الفور، والآخر عدم التفاضل وهو اشتراط المثلية كان النظر في هذا الباب ينحصر في خمسة أجناس: الأول: في معرفة ما هو نسيئة مما ليس بنسيئة. الثاني: في معرفة ما هو مماثل مما ليس بمماثل، إذ هذان القسمان ينقسمان بفصول كثيرة فيعرض هنالك الخلاف. الثالث: فيما وقع أيضا من هذا البيع بصورة مختلف فيها هل هو ذريعة إلى أحد هذين أعني الزيادة والنسيئة أو كليهما عند من قال بالذرائع وهو مالك وأصحابه، وهذا ينقسم أيضا إلى نوعين كانقسام أصله. الخامس: في خصائص أحكام هذا البيع من جهة ما يعتبر فيه هذان الشرطان: أعني عدم النَّساء والتفاضل أو كليهما، وذلك أنه يخالف هذا البيع البيوع لمكان هذين الشرطين فيه في أحكام كثيرة. وأنت إذا تأملت الكتب الموضوعة في فروع الكتاب الذي يرسمونه بكتاب الصرف وجدتها كلها راجعة إلى هذه الأجناس الخمسة، أو إلى ما تركب منها ما عدا المسائل التي يدخلون في الكتاب الواحد بعينه مما ليس هو من ذلك الكتاب مثل إدخال الملكية في الصرف مسائل كثيرة هي من باب الاقتضاء في السلف، لكن لما كان الفاسد منها يئول إلى أحد هذين الأصلين، أعني إلى صرف بنسيئة أو بتفاضل أدخلوها في هذا الكتاب مثل مسائلهم في اقتضاء القائمة والمجموعة والفرادى بعضها من بعض، لكن لما كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع أو قريب من المنطوق بها رأينا أن نذكر في هذا الكتاب سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب، فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه، ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل، وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت وإذ قد خرجنا عما كنا بسبيله فلنرجع إلى حيث كنا من ذكر المسائل التي وعدنا بها. @-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد، إلا ما روي عن ابن عباس ومن تبعه من المكيين فإنهم أجازوا بيعه متفاضلا ومنعوه نسيئة فقط، وإنما صار ابن عباس لذلك لما رواه عن أسامة بن زيد عن النبي ﷺ أنه قال "لا ربا إلا في النسيئة" وهو حديث صحيح، فأخذ ابن عباس بظاهر هذا الحديث فلم يجعل الربا إلا في النسيئة. وأما الجمهور فصاروا إلى ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز" وهو من أصح ما روي في هذا الباب. وحديث عبادة بن الصامت حديث صحيح أيضا في هذا الباب، فصار الجمهور إلى هذه الأحاديث إذ كانت نصا في ذلك. وأما حديث ابن عباس فإنه ليس بنص في ذلك لأنه روي فيه لفظان: أحدهما أنه قال "إنما الربا في النسيئة" وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب وهو ضعيف ولا سيما إذا عارضه النص. وأما اللفظ الآخر وهو "لا ربا إلا في النسيئة" فهو أقوى من هذا اللفظ لأن ظاهره يقتضي أن ما عدا النسيئة فليس بربا، لكن يحتمل أن يريد بقوله "لا ربا إلا في النسيئة" من جهة أن الواقع في الأكثر، وإذا كان هذا محتملا والأول نص وجب تأويله على الجهة التي يصح الجمع بينهما. وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلا لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك، إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ذلك ابن وهب من أصحابه وعيسى بن دينار وجمهور العلماء. وأجاز مالك بدل الدينار الناقص بالوازن أو بالدينارين على اختلاف بين أصحابه في العدد الذي يجوز فيه ذلك من الذي لا يجوز على جهة المعروف. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في السيف والمصحف المحلى يباع بالفضة وفيه حلية فضة، أو بالذهب وفيه حلية ذهب، فقال الشافعي: لا يجوز ذلك لجهل المماثلة المشترطة في بيع الفضة بالفضة في ذلك والذهب بالذهب، وقال مالك: إن كان قيمة ما فيه من الذهب أو الفضة الثلث فأقل جاز بيعه، أعني بالفضة إن كانت حليته فضة، أو بالذهب إن كانت حليته ذهبا وإلا لم يجز، وكأنه رأى أنه إذا كانت الفضة قليلة لم تكن مقصودة في البيع وصارت كأنها هبة؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لابأس ببيع السيف المحلى بالفضة إذا كانت الفضة أكثر من الفضة التي في السيف، وكذلك الأمر في بيع السيف المحلى بالذهب، لأنهم رأوا أن الفضة التي فيه أو الذهب يقابل مثله من الذهب أو الفضة المشتراة به، ويبقى الفضل قيمة السيف. وحجة الشافعي عموم الأحاديث والنص الوارد في ذلك من حديث فضالة بن عبد الله الأنصاري أنه قال "أتى رسول الله ﷺ وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله ﷺ بالذهب الذي في القلادة ينزع وحده، ثم قال لهم رسول الله ﷺ: الذهب بالذهب وزنا بوزن" خرجه مسلم. وأما معاوية كما قلنا فأجاز ذلك على الإطلاق، وقد أنكره عليه أبو سعيد وقال: لا أسكن في أرض أنت فيها لما رواه من الحديث. @-(المسألة الثالثة) اتفق العلماء على أن من شرط الصرف أن يقع ناجزا. واختلفوا في الزمان الذي يحد هذا المعنى، فقال أبو حنيفة والشافعي: الصرف يقع ناجزا ما لم يفترق المتصارفان تعجل أو تأخر القبض؛ وقال مالك: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف وإن لم يفترقا حتى كره المواعدة فيه. وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إلا هاء وهاء" وذلك أن هذا يختلف بالأقل والأكثر؛ فمن رأى أن هذا اللفظ صالح لمن لم يفترق من المجلس، أعني أنه يطلق عليه أنه باع هاء وهاء قال: يجوز التأخير في المجلس؛ ومن رأى أن اللفظ لا يصح إلا إذا وقع القبض من المتصارفين على الفور قال: إن تأخر القبض عن العقد في المجلس بطل الصرف لاتفاقهم على هذا المعنى لم يجز عندهم في الصرف حوالة ولا حمالة ولا خيار، إلا ما حكي عن أبي ثور أنه أجاز فيه الخيار. واختلف في المذهب في التأخير الذي يغلب عليه المتصارفان أو أحدهما، فمرة قيل فيه إنه مثل الذي يقع بالاختيار، ومرة قيل إنه ليس كذلك في تفاصيل لهم في ذلك ليس قصدنا ذكرها في هذا الكتاب. @-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء فيمن اصطرف دراهم بدنانير ثم وجد فيها درهما زائفا، فأراد رده، فقال مالك: ينتقض الصرف، وإن كانت دنانير كثيرة انتقض منها دينار للدرهم فما فوقه إلى صرف الدينار، فإن زاد درهم على دينار انتقض منها دينار آخر، وهكذا ما بينه وبين أن ينتهي إلى صرف دينار. قال: وإن رضي بالدرهم الزائف لم يبطل من الصرف شيء. وقال أبو حنيفة: لا يبطل الصرف بالدرهم الزائف، ويجوز تبديله إلا أن تكون الزيوف نصف الدراهم أو أكثر، فإن ردها بطل الصرف في المردود. وقال الثوري: إذا رد الزيوف كان مخيرا إن شاء أبدلها أو يكون شريكا له بقدر ذلك في الدنانير: أعني لصاحب الدنانير. وقال أحمد: لا يبطل الصرف بالرد قليلا كان أو كثيرا. وابن وهب من أصحاب مالك يجيز البدل في الصرف، وهو مبني على أن الغلبة على النظرة في الصرف ليس لها تأثير ولا سيما في البعض وهو أحسن. وعن الشافعي في بطلان الصرف بالزيوف قولان، فيتحصل لفقهاء الأمصار في هذه المسألة أربعة أقوال: قول بإبطال الصرف مطلقا عند الرد؛ وقول بإثبات الصرف ووجوب البدل؛ وقول بالفرق بين القليل والكثير؛ وقول بالتخيير بين بدل الزائف أو يكون شريكا له. وسبب الخلاف في هذا كله: هل الغلبة على التأخير في الصرف مؤثرة فيه أو غير مؤثرة؟ وإن كانت مؤثرة فهل هي مؤثرة في القليل أو في الكثير؟ وأما وجود النقصان فإن المذهب اضطرب فيه، فمرة قال فيه إنه إن رضي بالنقصان جاز الصرف، وإن طلب البدل انتقض الصرف قياسا على الزيوف، ومرة قال: يبطل الصرف وإن رضي به، وهو ضعيف. واختلفوا أيضا إذا قبض بعض الصرف وتأخر بعضه، أعني الصرف المنعقد على التناجز، فقيل يبطل الصرف كله، وبه قال الشافعي؛ وقيل يبطل منه المتأخر فقط، وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف، والقولان في المذهب؛ ومبني الخلاف الخلاف في الصفقة الواحدة يخالطها حرام وحلال هل تبطل الصفقة كلها، أو الحرام منها فقط؟. @-(المسألة الخامسة) أجمع العلماء على أن المراطلة جائزة في الذهب بالذهب وفي الفضة بالفضة، وإن اختلف العدد لاتفاق الوزن، وذلك إذا كانت صفة الذهبين واحدة. واختلفوا في المراطلة في موضعين: أحدهما أن تختلف صفة الذهبين. والثاني أن ينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الآخر أن يزيد بذلك عرضا أو دراهم إن كانت المراطلة بذهب، أو ذهبا إن كانت المراطلة بدراهم، فذهب مالك، أما في الموضع الأول، وهو أن يختلف جنس المراطل بهما في الجودة والرداءة أنه متى راطل بأحدهما بصنف من الذهب الواحد وأخرج الآخر ذهبين، أحدهما أجود من ذلك الصنف الواحد والآخر أردأ، فإن ذلك عنده لا يجوز، وإن كان الصنف الواحد من الذهبين، أعني الذي أخرجه وحده أجود من الذهبين المختلفين اللذين أخرجهما الآخر أو أردأ منهما معا، أو مثل أحدهما وأجود من الثاني جازت المراطلة عنده. وقال الشافعي: إذا اختلف الذهبان فلا يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة وجميع الكوفيين والبصريين يجوز جميع ذلك. وعمدة مذهب مالك في منعه ذلك الاتهام، وهو مصير إلى القول بسد الذرائع، وذلك أنه يتهم أن يكون المراطل إنما قصد بذلك بيع الذهبين متفاضلا، فكأنه أعطى جزءا من الوسط بأكثر منه من الأردأ، أو بأقل منه من الأعلى، فيتذرع من ذلك إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا، مثال ذلك أن إنسانا قال لآخر: خذ مني خمسة وعشرين مثقالا وسطا بعشرين من الأعلى، فقال: لا يجوز هذا لنا، ولكن أعطيك عشرين من الأعلى وعشرة أدنى من ذهبك، وتعطيني أنت ثلاثين من الوسط، فتكون العشرة الأدنى يقابلها خمسة من ذهبك، ويقابل العشرين من ذهب الوسط العشرين من ذهبك الأعلى. وعمدة الشافعي اعتبار التفاضل الموجود في القيمة. وعمدة أبي حنيفة اعتبار وجود الوزن من الذهبين ورد القول بسد الذرائع. وكمثل اختلافهم في المصارفة التي تكون بالمراطلة اختلفوا في هذا الموضع في المصارفة التي تكون بالعدد، أعني إذا اختلفت جودة الذهبين أو الأذهاب. وأما اختلافهم إذا نقصت المراطلة، فأراد أحدهما أن يزيد شيئا آخر مما فيه الربا، أو مما لا ربا فيه، فقريب من هذا الاختلاف، مثل أن يراطل أحدهما صاحبه ذهب بذهب، فينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الذي نقص ذهبه أن يعطي عوض الناقص دراهم أو عرضا، فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز والمراطلة فاسدة؛ وأجاز ذلك كله أبو حنيفة والكوفيون. وعمدة الحنفية تقدير وجود المماثلة من الذهبين وبقاء الفضل مقابل العرض. وعمدة مالك التهمة في أن يقصد بذلك بيع الذهب بالذهب متفاضلا. وعمدة الشافعي عدم المماثلة بالكيل أو الوزن أو العدد الذي بالفضل، ومثل هذا يختلفون إذا كانت المصارفة بالعدد. @-(المسألة السادسة) واختلفوا في الرجلين يكون لأحدهما على صاحبه دنانير وللآخر عليه دراهم، هل يجوز أن يتصارفاها وهي في الذمة؟ فقال مالك: ذلك جائز إذا كانا قد حلا معا؛ وقال أبو حنيفة يجوز في الحال وفي غير الحال؛ وقال الشافعي والليث: لا يجوز ذلك حلا أو لم يحلا. وحجة من لم يجزه أنه غائب بغائب، وإذا لم يجز غائب بناجز كان أحرى أن لا يجوز غائب بغائب. وأما مالك فأقام حلول الأجلين في ذلك مقام الناجز بالناجز، وإنما اشترط أن يكونا حالين معا، لئلا يكون ذلك من بيع الدين بالدين. وبقول الشافعي قال ابن وهب وابن كنانة من أصحاب مالك؛ وقريب من هذا اختلافهم في جواز الصرف على ما ليس عندهما إذا دفعه أحدهما إلى صاحبه قبل الافتراق مثل أن يستقرضاه في المجلس فتقابضاه قبل الافتراق فأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وكرهه ابن القاسم من الطرفين واستخفه من الطرف الواحد، أعني إذا كان أحدهما هو المستقرض فقط. وقال زفر: لا يجوز ذلك إلا أن يكون من طرف واحد. ومن هذا الباب اختلافهم في الرجل يكون له على الرجل دراهم إلى أجل هل يأخذ فيها إذا حل الأجل ذهبا أو بالعكس؟ فذهب مالك إلى جواز ذلك إذا كان القبض قبل الافتراق، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه أجاز ذلك وإن لم يحل الأجل ولم يجز ذلك جماعة من العلماء، سواء كان الأجل حالا أو لم يكن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود. وحجة من أجاز ذلك حديث ابن عمر قال "كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله ﷺ فقال: "لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومه" خرجه أبو داود. وحجة من لم يجزه ما جاء في حديث أبي سعيد وغيره "ولا تبيعوا منها غائبا بناجز". @-(المسألة السابعة) اختلف في البيع والصرف في مذهب مالك فقال: إنه لا يجوز إلا أن يكون أحدهما الأكثر والآخر تبع لصاحبه، وسواء كان الصرف في دينار واحد أو في دنانير؛ وقيل إن كان الصرف في دينار واحد جاز كيفما وقع، وإن كان في أكثر اعتبر كون أحدهما تابعا للآخر في الجواز، فإن كانا معا مقصودين لم يجز، وأجاز أشهب الصرف والبيع وهو أجود، لأنه ليس في ذلك ما يؤدي إلى ربا ولا إلى غرر.
- 2*كتاب السلم
@-وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب: الباب الأول: في محله وشروطه. الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير. الباب الثالث: في اختلافهم في السلم.
- 3*الباب الأول في محله وشروطه.
@-أما محله، فإنهم اجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن لما ثبت من حديث ابن عباس المشهور قال "قدم النبي ﷺ المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله ﷺ: من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة، وهي الدور والعقار. وأما سائر ذلك من العروض والحيوان فاختلفوا فيها، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث. والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد. واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة، فمن ذلك الحيوان والرقيق، فذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث إلى أن السلم فيهما جائز، وهو قول ابن عمر من الصحابة. وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق: لا يجوز السلم في الحيوان، وهو قول ابن مسعود. وعن عمر في ذلك قولان. وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس "أن النبي ﷺ نهى عن السلف في الحيوان" وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول. وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر "أن رسول الله ﷺ أمره أن يجهز جيشا، فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" وحديث أبي رافع أيضا "أن النبي ﷺ استسلف بكرا" قالوا: وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة. فسبب اختلافهم شيئان: أحدهما تعارض الآثار في هذا المعنى. والثاني تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط، فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات وبخاصة صفات النفس قال: لا تنضبط؛ ومن نظر إلى تشابهها قال: تنضبط. ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك، فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض وأجازه مالك بالعدد، وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة؛ وكذلك السلم في الرءوس والأكارع، أجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة. واختلف في ذلك قول أبي حنيفة والشافعي؛ وكذلك السلم في الدر والفصوص، أجازه مالك، ومنعه الشافعي، وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء الفروع، لأن ذلك غير منحصر. (وأما شروطه) فمنها مجمع عليها ومنها مختلف فيها، فأما المجمع عليها فهي ستة: منها أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النَّساء، وامتناعه فيما لا يجوز فيه النَّساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النَّساء. ومنها أن يكون مقدرا إما بالكيل أو بالوزن أو بالعدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير، أو منضبطا بالصفة إن كان مما المقصود منه الصفة. ومنها أن يكون موجودا عند حلول الأجل. ومنها أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا، لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ، هذا في الجملة. واشترطوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أن لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا، فأجاز مالك اشتراط تأخير اليومين والثلاثة، وأجاز تأخيره بلا شرط. وذهب أبو حنيفة إلى أن من شرطه التقابض في المجلس كالصرف، فهذه ستة متفق عليها. واختلفوا في أربعة: أحدها الأجل، هل هو شرط فيه أم لا؟ والثاني هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حال عقد السلم أم لا؟. والثالث اشتراط مكان دفع المسلم فيه. والرابع أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا وإما موزونا وإما معدودا وأن لا يكون جزافا. فأما الأجل فإن أبا حنيفة هو عنده شرط صحة بلا خلاف عنه في ذلك؛ وأما مالك فالظاهر من مذهبه، والمشهور عنه أنه من شرط السلم، وقد قيل إنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحالّ. وأما اللخمي فإنه فصل الأمر في ذلك فقال: إن السلم في المذهب يكون على ضربين: سلم حالّ، وهو الذي يكون من شأنه بيع تلك السلعة وسلم مؤجل، وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة. وعمدة من اشترط الأجل شيئان: ظاهر حديث ابن عباس؛ والثاني أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه. وعمدة الشافعي أنه إذا أجاز مع الأجل فهو حالا أجوز لأنه أقل غررا، وربما استدلت الشافعية بما روي "أن النبي ﷺ اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر، فلما دخل البيت لم يجد التمر، فاستقرض النبي ﷺ تمرا وأعطاه إياه" قالوا: فهذا هو شراء حالّ بتمر في الذمة، وللمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق، ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى. واختلفوا في الأجل في موضعين: أحدهما هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم؟. والثاني في مقداره من الأيام. وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضي بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضي بغير البلد الذي وقع فيه السلم؛ فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها. وروي عن ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة؛ وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد. وأما ما يقتضي ببلد آخر، فإن الأجل عندهم فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أم كثرت، وقال أبو حنيفة: لا يكون أقل من ثلاثة أيام؛ فمن جعل الأجل شرطا غير معلل اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم؛ ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا. وأما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك فأجازه مالك ومنعه أبو حنيفة والشافعي؛ فمن رأى أن الاختلاف الذي يكون في أمثال هذه الآجال يسير أجاز ذلك، إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع، وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان؛ ومن رأى أنه كثير، وأنه أكثر من الاختلاف الذي يكون من قبل نقصان الشهور وكمالها لم يجزه. وأما اختلافهم في هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم، فإن مالكا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك وقالوا: يجوز السلم في غير وقت إبانه. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه. فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث ابن عباس أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث فأقروا على ذلك ولم ينهوا عنه. وعمدة الحنفية ما روي من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال "لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها" وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق. (وأما الشرط الثالث) وهو مكان القبض، فإن أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان ولم يشترطه غيره وهم الأكثر. وقال القاضي أبو محمد: الأفضل اشتراطه. وقال ابن المواز: ليس يحتاج إلى ذلك. (وأما الشرط الرابع) وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا لا جزافا، فاشترط ذلك أبو حنيفة، ولم يشترطه الشافعي ولا صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد، قالوا: وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص، إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف، إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه. وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن، وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل، وبالذرع فيما يمكن فيه الذرع، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد. وإن لم يكن فيه أحد هذه التقديرات انضبط بالصفات المقصودة من الجنس مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا، ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة وأنه لا يكون في معين؛ وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة، وكأنه رآها مثل الذمة.
- 3*الباب الثاني. فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير.
@-وفي هذا الباب فروع كثيرة، لكن نذكر منها المشهور: @-(مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من الثمر، فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه وخرج زمانه، فقال الجمهور: إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصير إلى العام القابل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم؛ وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شيء شرطه المسلم فهو في ذلك بالخيار. وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ضرورة ولا يجوز التأخير، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ. وقال سحنون: ليس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل، واضطرب قول مالك في هذا والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رآه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي، والكالئ بالكالئ المنهى عنه إنما هو المقصود، لا الذي يدخل اضطرارا. @-(مسألة) اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه؛ فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ "من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره". وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترطه في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث. والثاني إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله مثل أن يكون المسلم فيه عرضا والثمن عرضا مخالفا له فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل. وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العروض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير. والإحسان مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين. وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم. وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعاما، لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه. وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى: ضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه. مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة، لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع. @-(مسألة) اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز قبل الإقالة؛ فمن العلماء من لم يجزه أصلا، ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه، إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق؛ ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه؛ ومن العلماء من أجازه، وبه قال الشافعي والثوري. وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب، والظن الرديء بالمسلمين غير جائز. قال: وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة. @-(مسألة) اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال للبائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك، فقال مالك وطائفة: ذلك لا يجوز؛ وقال قوم: يجوز؛ واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقبله، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفي؛ وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه من باب فسخ الدين بالدين؛ والذين رأوه جائزا رأوه أنه من باب المعروف والإحسان الذي أمر الله تعالى به. قال رسول الله ﷺ "من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله". @-(مسألة) أجمع العلماء على أنه كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير إلى أجل فدفعها إليه عند محل الأجل وبعده أنه يلزمه أخذها. واختلفوا في العروض المؤجلة من السلم وغيره، فقال مالك والجمهور: إن أتى بها قبل محل الأجل لم يلزمه أخذها. وقال الشافعي: إن كان مما لا يتغير ولا يقصد به النظارة لزمه أخذه كالنحاس والحديد، وإن كان مما يقصد به النظارة كالفواكه لم يلزمه. وأما إذا أتى به بعد محل الأجل فاختلف في ذلك أصحاب مالك فروي عنه أنه يلزمه قبضه مثل أن يسلم في قطائف الشتاء فيأتي بها في الصيف، فقال ابن وهب وجماعة: لا يلزمه ذلك. وحجة الجمهور في أنه لا يلزمه قبض العروض قبل محل الأجل من قبل أنه من ضمانه إلى الوقت المضروب الذي قصده، ولما كان عليه من المؤنة في ذلك، وليس كذلك الدنانير والدراهم، إذ لا مؤنة فيها، ومن لم يلزمه بعد الأجل فحجته أنه رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الأجل لا غيره. وأمر من أجاز ذلك في الوجهين، أعني بعد الأجل أو قبله فشبهه بالدنانير والدراهم. @-(مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم إلى آخر أو باع منه طعاما على مكيلة ما فأخبر البائع أو المسلم إليه المشتري بكيل الطعام، هل للمشتري أن يقبضه منه دون أن يكيله وأن يعمل في ذلك على تصديقه؟ فقال مالك: ذلك جائز في السلم وفي البيع بشرط النقد، وإلا خيف أن يكون من باب الربا، كأنه إنما صدقه في الكيل لمكان أنه أنظره بالثمن. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث: لا يجوز ذلك حتى يكيله البائع للمشتري مرة ثانية بعد أن كاله لنفسه بحضرة البائع. وحجتهم أنه لما كان ليس للمشتري أن يبيعه إلا بعد أن يكيله لم يكن له أن يقبضه إلا بعد أن يكيله البائع له، لأنه لما كان من شرط البيع الكيل فكذلك القبض واحتجوا بما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري. واختلفوا إذا هلك الطعام في يد المشتري قبل الكيل، فاختلفا في الكيل، فقال الشافعي: القول قول المشتري، وبه قال أبو ثور؛ وقال مالك: القول قول البائع لأنه قد صدقه المشتري عند قبضه إياه، وهذا مبني عنده على أن البيع يجوز بنفس تصديقه.
- 3*الباب الثالث في اختلاف المتبايعين في السلم.
@-والمتبايعان في السلم إما أن يختلفا في قدر الثمن أو المثمون، وإما في جنسهما، وإما في الأجل، وإما في مكان قبض السلم. فأما اختلافهم في قدر المسلم فيه، فالقول فيه قول المسلم إليه إن أتى بما يشبه، وإلا فالقول أيضا قول المسلم إن أتى أيضا بما يشبه، فإن أتيا بما لا يشبه فالقياس أن يتحالفا ويتفاسخا. وأما اختلافهم في جنس المسلم فيه، فالحكم في ذلك التحالف والتفاسخ، مثل أن يقول أحدهما: أسلمت في تمر، ويقول الآخر: في قمح. وأما اختلافهم في الأجل فإن كان في حلوله فالقول قول المسلم إليه، وإن كان في قدره فالقول أيضا قول المسلم إليه إلا أن يأتي بما لا يشبه، مثل أن يدعي المسلم وقت إبان المسلم فيه، ويدعي المسلم إليه غير ذلك الوقت، فالقول قول المسلم. وأما اختلافهم في موضع القبض، فالمشهور أن من ادعى موضع عقد السلم فالقول قوله، وإن لم يدعه واحد منهما فالقول قول المسلم إليه. وخالف سحنون في الوجه الأول فقال: القول قول المسلم إليه وإن ادعى القبض في موضع العقد وخالف أبو الفرج في الموضع الثاني فقال: إذا لم يدع واحد منهما موضع العقد تحالفا وتفاسخا. وأما اختلافهم في الثمن فحكمه حكم اختلاف المتبايعين قبل القبض، وقد تقدم ذلك.
- 2*كتاب بيع الخيار.
@-والنظر في أصول هذا الباب، أما أولا فهل يجوز أم لا؟ وإن جاز، فكم مدة الخيار؟ وهل يشترط النقدية فيه أم لا؟ وممن ضمان المبيع في مدة الخيار؟ وهل يورث الخيار أم لا؟ ومن يصح خياره ممن لا يصح؟ وما يكون من الأفعال خيارا كالقول؟. أما جواز الخيار فعليه الجمهور، إلا الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر. وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ وفيه "ولك الخيار ثلاثا" وما روي في حديث ابن عمر "البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار". وعمدة من منعه أنه غرر وأن الأصل هو اللزوم في البيع إلا أن يقوم دليل على جواز البيع على الخيار من كتاب الله أو سنة ثابتة أو إجماع. قالوا: وحديث حبان إما أنه ليس بصحيح، وإما أنه خاص لما شكي إليه ﷺ أنه يخدع في البيوع. قالوا: وأما حديث ابن عمر وقوله فيه "إلا بيع الخيار" فقد فسر المعنى المراد بهذا اللفظ، وهو ما ورد فيه من لفظ آخر وهو "أن يقول أحدهما لصاحبه اختر" وأما مدة الخيار عند الذين قالوا بجوازه فرأى مالك أن ذلك ليس له قدر محدود في نفسه وأنه إنما يتقدر بتقدير الحاجة إلى اختلاف المبيعات، وذلك يتفاوت بتفاوت المبيعات فقال: مثل اليوم واليومين في اختيار الثوب، والجمعة والخمسة أيام في اختيار الجارية، والشهر ونحوه في اختيار الدار. وبالجملة فلا يجوز عنده الأجل الطويل الذي فيه فضل عن اختيار المبيع. وقال الشافعي وأبو حنيفة: أجل الخيار ثلاثة أيام لا يجوز أكثر من ذلك. وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجوز الخيار لأي مدة اشترطت، وبه قال داود. واختلفوا في الخيار المطلق دون المقيد بمدة معلومة، فقال الثوري والحسن ابن جني وجماعة بجواز اشتراط الخيار مطلقا ويكون له الخيار أبدا، وقال مالك: يجوز الخيار المطلق ولكن السلطان يضرب فيه أجل مثله. وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز بحال الخيار المطلق ويفسد البيع. واختلف أبو حنيفة والشافعي إن وقع الخيار في الثلاثة الأيام زمن الخيار المطلق، فقال أبو حنيفة: إن وقع في الثلاثة الأيام جاز، وإن مضت الثلاثة فسد البيع؛ وقال الشافعي: بل هو فاسد على كل حال، فهذه هي أقاويل فقهاء الأمصار في مدة الخيار، وهي هل يجوز مطلقا أو مقيدا؟ وإن جاز مقيدا فكم مقداره؟ وإن لم يجز مطلقا فهل من شرط ذلك أن لا يقع الخيار في الثلاث أم لا يجوز بحال؟ وإن وقع في الثلاث. فأما أدلتهم فإن عمدة من لم يجز الخيار هو ما قلناه. وأما عمدة من لم يجز الخيار إلا ثلاثا فهو أن الأصل هو أن لا يجوز الخيار فلا يجوز منه إلا ما ورد فيه النص في حديث منقذ بن حبان أو حبان بن منقذ، وذلك كسائر الرخص المستثناة من الأصول مثل استثناء العرايا من المزابنة وغير ذلك. قالوا: وقد جاء تحديد الخيار بالثلاث في حديث المصراة وهو قوله "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وأما حديث منقذ، فأشبه طرقه المتصلة ما رواه محمد ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال لمنقذ وكان يخدع في البيع "إذا بعت فقل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا". وأما عمدة أصحاب مالك، فهو أن المفهوم من الخيار هو اختيار المبيع، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ذلك محدودا بزمان إمكان اختيار المبيع، وذلك يختلف بحسب مبيع مبيع، فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيها على هذا المعنى، وهو عندهم من باب الخاص أريد به العام، وعند الطائفة الأولى من باب الخاص أريد به الخاص. وأما اشتراط النقد فإنه لا يجوز عند مالك وجميع أصحابه لتردده عندهم بين السلف والبيع، وفيه ضعف. وأما ممن ضمان المبيع في مدة الخيار فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأصحابه والليث والأوزاعي: مصيبته من البائع والمشتري أمين، وسواء كان الخيار لهما أو لأحدهما؛ وقد قيل في المذهب إنه إن كان هلك بيد البائع فلا خلاف في ضمانه إياه، وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية إن كان مما يغاب عليه فضمانه منه، وإن كان مما لا يغاب عليه فضمانه من البائع. وقال أبو حنيفة: إن كان شرط الخيار لكليهما أو للبائع وحده فضمانه من البائع والمبيع على ملكه، وأما إن كان شرطه المشتري وحده فقد خرج المبيع عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري، وبقي معلقا حتى ينقضي الخيار، وقد قيل عنه إن على المشتري الثمن، وهذا يدل على أنه دخل عنده في ملك المشتري. وللشافعي قولان: أشهرهما أن الضمان من المشتري لأيهما كان الخيار. فعمدة من رأى أن الضمان من البائع على كل حال أنه عقد غير لازم، فلم ينتقل الملك عن البائع كما لو قال بعتك ولم يقل المشتري قبلت. وعمدة من رأى أنه من المشتري تشبيهه بالبيع اللازم وهو ضعيف لقياسه موضع الخلاف على موضع الاتفاق. وأما من جعل الضمان لمشترط الخيار إذا شرطه أحدهما ولم يشترطه الثاني فلأنه إن كان البائع هو المشترط فالخيار له إبقاء للمبيع على ملكه، وإن كان المشتري هو المشترط له فقط فقد صرفه البائع من ملكه وأبانه فوجب أن يدخل في ملك المشتري إذا كان المشتري هو الذي شرطه فقط قال: قد خرج عن ملك البائع لأنه لم يشترط خيارا ولم يلزم أن يدخل في ملك المشتري لأنه شرط الخيار في رد الآخر له، ولكن هذا القول يمانع الحكم، فإنه لابد أن تكون مصيبته من أحدهما، والخلاف آيل إلى هل الخيار مشترط لإيقاع الفسخ في البيع أو لتتميم البيع، فإذا قلنا لفسخ البيع فقد خرج من ضمان البائع، وإن قلنا لتتميمه فهو في ضمانه. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي هل يورث خيار المبيع أم لا؟ فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: يورث، وإنه إذا مات صاحب الخيار فلورثته من الخيار مثل ما كان له؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: يبطل الخيار بموت من له الخيار ويتم البيع، وهكذا عنده خيار الشفعة وخيار قبول الوصية وخيار الإقالة. وسلم لهم أبو حنيفة خيار الرد بالعيب: أعني أنه قال يورث، وكذلك خيار استحقاق الغنيمة قبل القسم وخيار القصاص وخيار الرهن. وسلم لهم مالك خيار رد الأب ما وهبه لابنه، أعني أنه لم ير لورثة الميت من الخيار في رد ما وهبه لابنه ما جعل له الشرع من ذلك: أعني للأب، وكذلك خيار الكتابة والطلاق واللعان. ومعنى خيار الطلاق أن يقول الرجل لرجل آخر طلق امرأتي متى شئت، فيموت الرجل المجعول له الخيار، فإن ورثته لا يتنزلون منزلته عند مالك. وسلم الشافعي ما سلمت المالكية للحنفية من هذه الخيارات، وسلم زائدا خيار الإقالة والقبول فقال: لا يورثان. وعمدة المالكية والشافعية أن الأصل هو أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليل على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال. وعمدة الحنفية أن الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال، فموضع الخلاف هل الأصل هو أن تورث الحقوق كالأموال أم لا؟ وكل واحد من الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلمه له خصمه منها بما يسلمه منها له ويحتج على خصمه؛ فالمالكية والشافعية تحتج على أبي حنيفة بتسلميه وراثة خيار الرد بالعيب، ويشبه سائر الخيارات التي يورثها به؛ والحنفية تحتج أيضا على المالكية والشافعية بما تمنع من ذلك، وكل واحد منهم يروم أن يعطي فارقا فيما يختلف فيه قوله ومشابها فيما يتفق فيه قوله، ويروم في قوله خصمه بالضد، أعني أن يعطي فارقا فيما يضعه الخصم متفقا، ويعطي اتفاقا فيما يضعه الخصم متباينا، ومثل ما تقول المالكية: إنما قلنا إن خيار الأب في رد هبته لا يورث، لأن ذلك خيار راجع إلى صفة في الأب لا توجد في غيره وهي الأبوة، فوجب أن لا تورث لا إلى صفة في العقد. وهذا هو سبب اختلافهم في خيار خيار، أعني أنه من انقدح له في شيء منها أنه صفة للعقد ورثه، ومن انقدح له أنه صفة خاصة بذي الخيار لم يورثه. @-(وأما المسألة السادسة) وهي من يصح خياره فإنهم اتفقوا على صحة خيار المتبايعين، واختلفوا في اشتراط خيار الأجنبي، فقال مالك: يجوز ذلك والبيع صحيح؛ وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز إلا أن يوكله الذي جعل له الخيار ولا يجوز الخيار عنده على هذا القول لغير العاقد، وهو قول أحمد؛ وللشافعي قول آخر مثل قول مالك، وبقول مالك قال أبو حنيفة؛ واتفق المذهب على أن الخيار للأجنبي إذا جعله له المتبايعان، وأن قوله لهما. واختلف المذهب إذا جعله أحدهما فاختلف البائع ومن جعل له البائع الخيار أو المشتري ومن جعل له المشتري الخيار، فقيل القول في الإمضاء، والرد قول الأجنبي سواء اشترط خياره البائع أو المشتري، وقال عكس هذا القول من جعل خياره هنا كالمشورة، وقيل بالفرق بين البائع والمشتري: أي أن القول في الإمضاء والرد قول البائع دون الأجنبي، وقول الأجنبي دون المشتري إن كان المشتري هو المشترط الخيار؛ وقيل القول قول من أراد منهما الإمضاء، وإن أراد البائع الإمضاء، وأراد الأجنبي الذي اشترط خياره الرد ووافقه المشتري، فالقول قول البائع في الإمضاء، وإن أراد البائع الرد وأراد الأجنبي الإمضاء ووافقه المشتري فالقول قول المشتري؛ وكذلك إن اشتراط الخيار للأجنبي المشتري، فالقول فيهما قول من أراد الإمضاء، وكذلك الحال في المشتري؛ وقيل بالفرق في هذا بين البائع والمشتري: أي إن اشترطه البائع فالقول قول من أراد الإمضاء منهما، وإن اشترطه المشتري فالقول قول الأجنبي، وهو ظاهر ما في المدونة، وهذا كله ضعيف. واختلفوا فيمن اشترط من الخيار ما لا يجوز، مثل أن يشترط أجلا مجهولا وخيارا فوق الثلاث عند من لا يجوز الخيار فوق الثلاث، أو خيار رجل بعيد الموضع بعينه: أعني أجنبيا، فقال مالك والشافعي: لا يصح البيع وإن أسقط الشرط الفاسد؛ وقال أبو حنيفة: يصح البيع مع إسقاط الشرط الفاسد، فأصل الخلاف هل الفساد الواقع في البيع من قبل الشرط يتعدى إلى العقد أم لا يتعدى، وإنما هو في الشرط فقط؟ فمن قال يتعدى أبطل البيع وإن أسقطه؛ ومن قال لا يتعدى قال: البيع يصح إذا أسقط الشرط الفاسد لأنه يبقى العقد صحيحا.
- 2*كتاب بيع المرابحة.
@-أجمع جمهور العلماء على أن البيع صنفان: مساومة ومرابحة؛ وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحا ما للدينار أو الدرهم. واختلفوا من ذلك بالجملة في موضعين: أحدهما فيما للبائع أن يعده من رأس مال السلعة مما أنفق على السلعة بعد الشراء مما ليس له أن يعده من رأس المال. والموضع الثاني إذا كذب البائع للمشتري فأخبره أنه اشتراه بأكثر مما اشترى السلعة به، أو وهم فأخبر بأقل مما اشترى به السلعة ثم ظهر له أنه اشتراها بأكثر، ففي هذا الكتاب بحسب اختلاف فقهاء الأمصار بابان: الباب الأول: فيما يعد من رأس مال مما لا يعد، وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبني عليه الربح. الثاني: في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن.
- 3*الباب الأول. فيما يعد من رأس المال مما لا يعد، وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبني عليه الربح.
@-فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد، فإن تحصيل مذهب مالك في ذلك أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح. وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. فأما الذي يحسبه في رأس المال ويجعل له حظا من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة مثل الخياطة والصبغ. وأما الذي يحسبه في رأس المال ولا يجعل له حظا من الربح فما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن البائع أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع من بلد إلى بلد وكراء البيوت التي توضع فيها. وأما ما لا يحتسب فيه الأمرين جميعا، فما ليس له تأثير في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد. وقال أبو حنيفة: بل يحمل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها. وقال أبو ثور: لا يجوز المرابحة إلا بالثمن الذي اشترى به السلعة فقط إلا أن يفصل ويفسخ عنده إن وقع قال لأنه كذب، لأنه يقول له: ثمن سلعتي كذا وكذا وليس الأمر كذلك، وهو عنده من باب الغش. وأما صفة رأس الثمن الذي يجوز أن يخبر به فإن مالكا والليث قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير والصرف يوم اشتراها صرف معلوم ثم باعها بدراهم والصرف قد تغير إلى زيادة أنه ليس له أن يعلم يوم باعها بالدنانير التي اشتراها لأنه من باب الكذب والخيانة، وكذلك إن اشتراها بدراهم ثم باعها بدنانير وقد تغير الصرف. واختلف أصحاب مالك من هذا الباب فيمن ابتاع سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز؟ فإذا قلنا بالجواز فهل يجوز بقيمة العرض أو بالعرض نفسه؟ فقال ابن القاسم: يجوز له بيعها على ما اشتراه به من العروض ولا يجوز على القيمة. وقال أشهب: لا يجوز لمن اشترى سلعة بشيء من العروض أن يبيعها مرابحة لأنه يطالبه بعروض على صفة عرضه، وفي الغالب ليس يكون عنده فهو من باب بيع ما ليس عنده. واختلف مالك وأبو حنيفة فيمن اشترى سلعة بدنانير فأخذ في الدنانير عروضا أو دراهم هل يجوز له بيعها مرابحة دون أن يعلم بما نقد أم لا يجوز؟ فقال مالك: لا يجوز إلا أن يعلم ما نقد؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن يبيعها منه مرابحة على الدنانير التي ابتاع بها السلعة دون العروض التي أعطى فيها أو الدراهم؛ قال مالك أيضا فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة أنه لا يجوز حتى يعلم بالأجل. وقال الشافعي إن وقع كان للمشتري مثل أجله؛ وقال أبو ثور: هو كالعيب وله الرد به، وفي هذا الباب في المذهب فروع كثيرة ليست مما قصدناه.
- 3*الباب الثاني. في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن.
@-واختلفوا فيمن ابتاع سلعة مرابحة على ثمن ذكره، ثم ظهر بعد ذلك إما بإقراره وإما ببينة أن الثمن كان أقل والسلعة قائمة؛ فقال مالك وجماعة: المشتري بالخيار، إما أن يأخذ بالثمن الذي صح أو يترك إذا لم يلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح وإن ألزمه لزمه؛ وقال أبو حنيفة وزفر: بل المشتري بالخيار على الإطلاق، ولا يلزمه الأخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه؛ وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة: بل يبقى البيع لازما لهما بعد حط الزيادة؛ وعن الشافعي القولان: القول بالخيار مطلقا، والقول باللزوم بعد الحط. فحجة من أوجب البيع بعد الحط أن المشتري إنما أربحه على ما ابتاع به السلعة لا غير ذلك، فلما ظهر خلاف ما قال وجب أن يرجع إلى الذي ظهر، كما لو أخذه بكيل معلوم فخرج بغير ذلك الكيل أنه يلزمه توفية ذلك الكيل. وحجة من رأى أن الخيار مطلقا تشبيه الكذب في هذه المسألة بالعيب، أعني أنه كما يوجب العيب الخيار كذلك يوجب الكذب. وأما إذا فاتت السلعة فقال الشافعي: يحط مقدار ما زاد من الثمن وما وجب له من الربح؛ وقال مالك: إن كانت قيمتها يوم القبض أو يوم البيع على خلاف عنه في ذلك مثل ما وزن المبتاع أو أقل فلا يرجع عليه المشتري بشيء، وإن كانت القيمة أقل خير البائع بين رده للمشتري القيمة أو رده الثمن أو إمضائه السلعة بالثمن الذي صح. وأما إذا باع الرجل سلعته مرابحة ثم أقام البينة أن ثمنها أكثر مما ذكره وأنه وهم في ذلك وهي قائمة، فقال الشافعي: لا يسمع من تلك البينة لأنه كذبها؛ وقال مالك: يسمع منها ويجبر المبتاع على ذلك الثمن، وهذا بعيد لأنه بيع آخر. وقال مالك في هذه المسألة: إذا فاتت السلعة أن المبتاع مخير بين أن يعطي قيمة السلعة يوم قبضها أو أن يأخذها بالثمن الذي صح، فهذه هي مشهورات مسائلهم في هذا الباب. ومعرفة أحكام هذا البيع تنبني في مذهب مالك على معرفة أحكام ثلاثة مسائل وما تركب منها، حكم مسألة الكذب، وحكم مسألة الغش، وحكم مسألة وجود العيب. فأما حكم الكذب فقد تقدم. وأما حكم الرد بالعيب فهو حكمه في البيع المطلق. وأما حكم الغش عنده فهو تخيير البائع مطلقا، وليس للبائع أن يلزمه البيع وإن حط عنه مقدار الغش كما له ذلك في مسألة الكذب، هذا عند ابن القاسم. وأما عند أشهب، فإن الغش عنده ينقسم قسمين: قسم مؤثر في الثمن، وقسم غير مؤثر. فأما غير المؤثر فلا حكم عنده فيه. وأما المؤثر فحكمه عنده حكم الكذب. وأما التي تتركب فهي أربع مسائل: كذب وغش، وكذب وتدليس، وغش وتدليس بعيب، وكذب وغش وتدليس بعيب؛ وأصل مذهب ابن القاسم فيها أنه يأخذ بالذي بقي حكمه إن كان فات بحكم أحدهما أو بالذي هو أرجح له إن لم يفت حكم أحدهما، إما على التخيير حيث يمكن التخيير، أو الجمع حيث يمكن الجمع، وتفصيل هذا لائق بكتب الفروع، أعني مذهب ابن القاسم وغيره.
- 2*كتاب بيع العرية.
@-اختلف الفقهاء في معنى العرية والرخصة التي أتت فيها في السنة، فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي أن العرية في مذهب مالك هي أن يهب الرجل ثمرة نخلة أو نخلات من حائطه لرجل بعينه، فيجوز للمعرى شراؤها من المعري له بخرصها تمرا على شروط أربعة: أحدها: أن تزهي. والثاني أن تكون خمسة أوسق فما دون، فإن زادت فلا يجوز. والثالث أن يعطيه التمر الذي يشتريها به عند الجذاذ، فإن أعطاه نقدا لم يجز. والرابع أن يكون التمر من صنف تمر العرية ونوعها، فعلى مذهب مالك الرخصة في العرية إنما هي في حق المعري فقط، والرخصة فيها إنما هي استثناؤها من المزابنة، وهي بيع الرطب بالتمر الجاف الذي ورد النهي عنه، ومن صنفي الربا أيضا: أعني التفاضل والنَّساء، وذلك أن بيع ثمر معلوم الكيل بثمر معلوم بالتخمين وهو الخرص، فيدخله بيع الجنس الواحد متفاضلا، وهو أيضا ثمر بثمر إلى أجل، فهذا هو مذهب مالك فيما هي العرية، وماهي الرخصة فيها، ولمن الرخصة فيها؟. وأما الشافعي فمعنى الرخصة الواردة عنده فيها ليست للمعري خاصة، وإنما هي لكل أحد من الناس أراد أن يشتري هذا القدر من التمر: أعني الخمسة أوسق أو ما دون ذلك بتمر مثلها؛ وروي أن الرخصة فيها إنما هي معلقة بهذا القدر من التمر لضرورة الناس أن يأكلوا رطبا وذلك لمن ليس عنده رطب ولا تمر (هكذا بالنسخ، ولعله: وعنده تمر يشتري، إذ هي فسحة لمن عنده تمر وليس عنده رطب أن يشتري الرطب بالتمر، ولذلك اشتراط الشافعي دفع التمر نقدا، فتأمل ا هـ مصححه) يشتري به الرطب. والشافعي يشترط في إعطاء التمر الذي تباع في العرية أن يكون نقدا، ويقول: إن تفرقا قبل القبض فسد البيع. والعرية جائزة عند مالك في كل ما ييبس ويدخر، وهي عند الشافعي في التمر والعنب فقط ولا خلاف في جوازها فيما دون الخمسة الأوسق عند مالك والشافعي، وعنهما الخلاف إذا كانت خمسة أوسق، فروي الجواز عنهما والمنع، والأشهر عند مالك الجواز. فالشافعي يخالف مالكا في العرية في أربعة مواضع: أحدها في سبب الرخصة كما قلنا. والثاني أن العرية التي رخص فيها ليست هبة، وإنما سميت هبة على التجوز. والثالث في اشتراط النقد عند البيع. والرابع في محلها. فهي عنده كما قلنا في التمر والعنب فقط، وعند مالك في كل ما يدخر وييبس. وأما أحمد بن حنبل فيوافق مالكا في أن العرية عنده هي الهبة، ويخالفه في أن الرخصة إنما هي عنده فيها للموهوب له أعني المعرى له لا المعري، وذلك أنه يرى أن له أن يبيعها ممن شاء بهذه الصفة لا من المعري خاصة كما ذهب إليه مالك. وأما أبو حنيفة فيوافق مالكا في أن العرية هي الهبة، ويخالفه في صفة الرخصة، وذلك أن الرخصة عنده فيها ليست هي من باب استثنائها من المزابنة ولا هي في الجملة في البيع، وإنما الرخصة فيها عنده من باب رجوع الواهب في هبته إذ كان الموهوب له لم يقبضها وليست عنده ببيع، وإنما هي رجوع في الهبة على صفة مخصوصة، وهو أن يعطي بدلها تمرا بخرصها. وعمدة مذهب مالك في العرية أنها بالصفة التي ذكر سنتها المشهورة عندهم بالمدينة، قالوا: وأصل هذا أن الرجل كان يهب النخلات من حائطه فيشق عليه دخول الموهوب له عليه، فأبيح له أن يشتريها بخرصها تمرا عند الجذاذ. ومن الحجة له في أن الرخصة إنما هي للمعري حديث سهل بن أبي حثمة "أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع التمر بالرطب إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا" قالوا: فقوله يأكلها رطبا دليل على أن ذلك خاص بمعريها، لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها. ويمكن أن يقال إن أهلها هم الذين اشتروها كائنا من كان، لكن قوله رطبا هو تعليل لا يناسب المعري، وعلى مذهب الشافعي هو مناسب، وهم الذين ليس عندهم رطب ولا تمر يشترونها به، ولذلك كانت الحجة للشافعي. وأما أن العرية عنده هي الهبة فالدليل على ذلك من اللغة، فإن أهل اللغة قالوا: العرية هي الهبة، واختلف في تسميتها بذلك، فقيل لأنها عريت من الثمن، وقيل إنها مأخوذة من عروت الرجل أعروه إذا سألته، ومنه قوله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} وإنما اشترط مالك نقد الثمن عند الجذاذ أعني تأخيره إلى ذلك الوقت، لأنه تمر ورد الشرع بخرصه، فكان من سنته أن يتأجل إلى الجذاذ أصله الزكاة، وفيه ضعف، لأنه مصادمة بالقياس لأصل السنة. وعنده أنه إذا تطوع بعد تمام العقد بتعجيل التمر جاز، وأما اشتراطه جوازها في الخمسة الأوسق أو فيما دونها، فلما رواه عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق" وإنما كان عن مالك في الخمسة الأوسق روايتان الشك الواقع في هذا الحديث من الراوي. وأما اشتراطه أن يكون من ذلك الصنف بعينه إذا يبس، فلما روي عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ "رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرا" خرجه مسلم. وأما الشافعي فعمدته حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عن النبي ﷺ "أنه نهى عن المزابنة التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن لهم فيه وقوله "فيها يأكلها أهلها رطبا". والعرية عندهم هي اسم لما دون الخمسة الأوسق من التمر، وذلك أنه لما كان العرف عندهم أن يهب الرجل في الغالب من نخلاته هذا القدر فما دونه، خص هذا القدر الذي جاءت فيه الرخصة باسم الهبة لموافقته في القدر للهبة، وقد احتج لمذهبه بما رواه بإسناد منقطع عن محمود بن لبيد أنه قال لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ إما زيد بن ثابت وإما غيره: ما عراياكم هذه؟ قال: فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله ﷺ أن الرطب أتى وليس بأيديهم نقد يبتاعون به الرطب فيأكلونه مع الناس، وعندهم فضل من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بأيديهم يأكلونها رطبا، وإنما لم يجز تأخير نقد التمر لأنه بيع الطعام بالطعام نسيئة. وأما أحمد فحجته ظاهر الأحاديث المتقدمة أنه رخص في العرايا ولم يخص المعري من غيره. وأما أبو حنيفة فلما لم يجز عنده المزابنة وكانت إن جعلت بيعا نوعا من المزابنة رأى أن انصرافها إلى المعري ليس هو من باب البيع وإنما هو من باب رجوع الواهب فيما وهب باعطاء خرصها تمرا، أو تسميته إياها بيعا عنده مجازا، وقد التفت إلى هذا المعنى مالك في بعض الروايات عنه، فلم يجز بيعها بالدراهم ولا بشيء من الأشياء سوى الخرص، وإن كان المشهور عنه جواز ذلك. وقد قيل إن قول أبي حنيفة هذا هو من باب تغليب القياس على الحديث، وذلك أنه خالف الأحاديث في مواضع منها أنه لم يسمها بيعا، وقد نص الشارع على تسميتها بيعا. ومنها أنه جاء في الحديث أنه نهى عن المزابنة ورخص في العرايا، وعلى مذهبه لا تكون العرية استثناء من المزابنة، لأن المزابنة هي في البيع. والعجب منه أنه سهل عليه أن يستثنيها من النهي عن الرجوع في الهبة التي لم يقع فيها الاستثناء بنص الشرع، وعسر عليه أن يستثنيها مما استثنى منه الشارع، وهي المزابنة، والله أعلم. (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب الإجارات.
@-والنظر في هذا الكتاب شبيه بالنظر في البيوع: أعني أصوله تنحصر بالنظر في أنواعها وفي شروط الصحة فيها والفساد وفي أحكامها، وذلك في نوع نوع منها، أعني فيما يخص نوعا نوعا منها، وفيما يعم أكثر من واحد منها فهذا الكتاب ينقسم أولا إلى قسمين: القسم الأول: في أنواعها وشروط الصحة والفساد. والثاني: في معرفة أحكام الإجارات، وهذا كله بعد قيام الدليل على جوازها. فلنذكر أولا ما في ذلك من الخلاف ثم نصير إلى ذكر ما في ذينك القسمين من المسائل المشهورة، إذ كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي تجري من هذه الأشياء مجرى الأمهات، وهي التي اشتهر فيها الخلاف بين فقهاء الأمصار. فنقول: إن الإجارة جائزة عند جميع فقهاء الأمصار والصدر الأول. وحكي عن الأصم وابن علية منعها. ودليل الجمهور قوله تعالى {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} الآية، وقوله {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} . ومن السنة الثابتة ما خرجه البخاري عن عائشة قالت "استأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خِرّيتا [أي دليلا حاذقا عالما بالطرق. دار الحديث] وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما" وحديث جابر "أنه باع من النبي ﷺ بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة" وما جاز استيفاؤه بالشرط جاز استيفاؤه بالأجر، وشبهة من منع ذلك أن المعاوضات إنما يستحق فيها تسليم الثمن بتسليم العين كالحال في الأعيان المحسوسة والمنافع في الإجارات في وقت العقد معدومة، فكان ذلك غررا ومن بيع ما لم يخلق، ونحن نقول: إنها وإن كانت معدومة في حال العقد فهي مستوفاة في الغالب، والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما يستوفي في الغالب، أو يكون استيفاؤه وعدم استيفاؤه على السواء. @-(القسم الأول) وهذا القسم النظر فيه إلى جنس الثمن وجنس المنفعة التي يكون الثمن مقابلا له وصفتها. فأما الثمن فينبغي أن يكون مما يجوز بيعه، وقد تقدم ذلك في باب البيوع. وأما المنفعة فينبغي أن تكون من جنس ما لم ينه الشرع عنه، وفي كل هذه مسائل اتفقوا عليها واختلفوا فيها؛ فمما اجتمعوا على إبطال إجارته كل منفعة كانت لشيء محرم العين، كذلك كل منفعة كانت محرمة بالشرع، مثل أجر النوائح وأجر المغنيات، وكذلك كل منفعة كانت فرض عين على الإنسان بالشرع مثل الصلاة وغيرها، واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة، وكذلك الثياب والبسط. واختلفوا في إجارة الأرضين وفي إجارة المياه وفي إجارة المؤذن، وفي الإجارة على تعليم القرآن، وفي إجارة نزو الفحول. فأما كراء الأرضين فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا؛ فقوم لم يجيزوا ذلك بتة وهم الأقل، وبه قال طاوس وأبو بكر ابن عبد الرحمن؛ وقال الجمهور بجواز ذلك. واختلف هؤلاء فيما يجوز به كراؤها؛ فقال قوم: لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم والدنانير فقط، وهو مذهب ربيعة وسعيد بن المسيب؛ وقال قوم: يجوز كراء الأرض بكل شيء ما عدا الطعام، وسواء كان ذلك بالطعام الخارج منها أو لم يكن، وما عدا ما ينبت فيها كان طعاما أو غيره، وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بما عدا الطعام فقط؛ وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بكل العروض والطعام وغير ذلك ما لم يكن بجزء مما يخرج منها من الطعام، وممن قال بهذا القول سالم بن عبد الله وغيره من المتقدمين، وهو قول الشافعي وظاهر قول مالك في الموطأ؛ وقال قوم: يجوز كراؤها بكل شيء وبجزء مما يخرج منها، وبه قال أحمد والثوري والليث وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة. وعمدة من لم يجز كراءها بحال ما رواه مالك بسنده عن رافع بن خديج "أن رسول الله ﷺ نهى عن كراء المزارع" قالوا: وهذا عام، وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه، قال حنظلة: فسألت رافع بن خديج عن كرائها بالذهب والورق فقال: لا بأس به. وروي هذا عن رافع ابن عمر وأخذ بعمومه، وكان ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك، وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخصص العموم بقول الراوي. وروي عن رافع ابن خديج عن أبيه قال "نهى رسول الله ﷺ عن إجارة الأرضين" قال أبو عمر بن عبد البر. واحتجوا أيضا بحديث ضمرة عن ابن شوذب عن مطرف عن عطاء عن جابر قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها ولا يؤاجرها" فهذه هي جملة الأحاديث التي تمسك بها من لم يجز كراء الأرض. وقالوا أيضا من جهة المعنى: إنه لم يجز كراؤها لما في ذلك من الغرر، لأنه ممكن أن يصيب الزرع جائحة من نار أو قحط أو غرق، فيكون قد لزمه كراؤها من غير أن ينتفع من ذلك بشيء. قال القاضي: ويشبه أن يقال في هذا إن المعنى في ذلك قصد الرفق بالناس لكثرة وجود الأرض كما نهى عن بيع الماء، ووجه الشبه بينهما أنهما أصلا الخلقة. وأما عمدة من لم يجز كراءها إلا بالدراهم والدنانير فحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي ﷺ أنه قال "إنما يزرع ثلاثة، رجل له أرض فيزرعها، ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل اكترى بذهب أو فضة" قالوا: فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث والأحاديث الأخر مطلقة وهذا مقيد، ومن الواجب حمل المطلق على المقيد. وعمدة من أجاز كراءها بكل شيء ما عدا الطعام، وسواء كان الطعام مدخرا أو لم يكن حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله ﷺ "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه بثلث ولا ربع ولا بطعام معين" قالوا: وهذا هو معنى المحاقلة التي نهى رسول الله ﷺ عنها، وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعا، وفيه: والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة. قالوا: وأيضا فإنه من باب بيع الطعام بالطعام نسيئة. وعمدة من لم يجز كراءها بالطعام ولا بشيء مما يخرج منها، أما بالطعام فحجته حجة من لم يجز كراءها بالطعام. وأما حجته على منع كرائها مما تنبت فهو ما ورد من نهيه ﷺ عن المخابرة، قالوا: وهي كراء الأرض بما يخرج منها وهذا هو قول مالك وكل أصحابه. وعمدة من أجاز كراءها بجميع العروض والطعام وغير ذلك مما يخرج منها أنه كراء منفعة معلومة بشيء معلوم، فجاز قياسا على إجارة سائر المنافع، وكأن هؤلاء ضعفوا أحاديث رافع. روي عن سالم ابن عبد الله وغيره في حديث رافع أنهم قالوا: اكترى رافع. قالوا: وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يجب أن يحمل عليها سائرها قال "كنا أكثر أهل المدينة حقلا، قال: وكان أحدنا يكري أرضه ويقول: هذه القطعة لي وهذه لك، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي ﷺ "خرجه البخاري. وأما من لم يجز كراءها بما يخرج منها، فعمدته النظر والأثر. وأما الأثر فما ورد من النهي عن المخابرة، وما ورد من حديث ابن خديج عن ظهير بن رافع قال "نهانا رسول الله ﷺ عن أمر كان رفقا بنا، فقلت ما قال رسول الله ﷺ فهو حق قال: "دعاني رسول الله ﷺ فقال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير، فقال رسول الله ﷺ: لا تفعلوا، ازرعوها أو زارعوها أو أمسكوها" وهذا الحديث اتفق على تصحيحه الإمامان البخاري ومسلم. وأما من أجاز كراءها بما يخرج منها فعمدته حديث ابن عمر الثابت "أن رسول الله ﷺ دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة" قالوا: وهذا الحديث أولى من أحاديث رافع لأنها مضطربة المتون، وإن صحت أحاديث رافع حملناها على الكراهية لا على الحظر، بدليل ما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال "إن النبي ﷺ لم ينه عنها ولكن قال: إن يمنح أحدكم أخاه يكن خيرا له من أن يأخذ منه شيئا" قالوا: وقد قدم معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله ﷺ وهم يخابرون فأقرهم. (وأما إجارة المؤذن) فإن قوما لم يروا في ذلم بأسا؛ وقوما كرهوا ذلك. والذين كرهوا ذلك وحرموه احتجوا بما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله ﷺ "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" والذين أباحوه قاسوه على الأفعال غير الواجبة، وهذا هو سبب الاختلاف، أعني هل هو واجب أم ليس بواجب؟. وأما الاستئجار على تعليم القرآن فقد اختلفوا فيه أيضا، وكرهه قوم، وأجازه آخرون. والذين أباحوه قاسوه على سائر الأفعال، واحتجوا بما روي عن خارجة بن الصامت عن عمه قال: "أقبلنا من عند رسول الله ﷺ، فأتينا على حي من أحياء العرب فقالوا: إنكم جئتم من عند هذا الرجل فهل عندكم دواء أو رقية، فإن عندنا معتوها في القيود، فقلنا لهم نعم، فجاءوا به، فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية أجمع بريقي ثم أتفل عليه، فكأنما أنشط من عقال، فأعطوني جعلا، فقلت لا حتى أسأل رسول الله ﷺ، فسألته فقال: "كل فلعمري لمن أكل برقية باطلا فلقد أكلت برقية حقا" وبما روي عن أبي سعيد الخدري "أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا في غزاة، فمروا بحي من أحياء العرب، فقالوا: هل عندكم من راق، فإن سيد الحي قد لدغ أو قد عرض له، قال: فرقي رجل بفاتحة الكتاب فبرئ، فأعطى قطيعا من الغنم، فأبى أن يقبلها، فسأل عن ذلك رسول الله ﷺ فقال: بم رقيته؟ قال: بفاتحة الكتاب، قال: وما يدريك أنها رقية؟ قال: ثم قال رسول الله ﷺ: خذوها واضربوا لي معكم فيها بسهم". وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن فقالوا: هو من باب الجعل على تعليم الصلاة. قالوا: ولم يكن الجعل المذكور في الإجارة على تعليم القرآن وإنما كان على الرقي، وسواء كان الرقي بالقرآن أو غيره الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات. قالوا: وليس واجبا على الناس، وأما تعليم القرآن فهو واجب على الناس. وأما إجارة الفحول من الإبل والبقر والدواب، فأجاز مالك أن يكري الرجل فحله على أن ينزو أكواما معلومة، ولم يجز ذلك أبو حنيفة ولا الشافعي. وحجة من لم يجز ذلك ما جاء من النهي عن عسيب الفحل؛ ومن أجازه شبهه بسائر المنافع، وهذا ضعيف لأنه تغليب القياس على السماع. واستئجار الكلب أيضا هو من هذا الباب، وهو لا يجوز عند الشافعي ولا عند مالك. والشافعي يشترط في جواز استئجار المنفعة أن تكون متقومة على انفرادها، فلا يجوز استئجار تفاحة للشم، ولا طعام لتزين الحانوت، إذ هذه المنافع ليس لها قيم على انفرادها، فهو لا يجوز عند مالك ولا عند الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف المذهب في إجارة الدراهم والدنانير، بالجملة كل ما لا يعرف بعينه، فقال ابن القاسم: لا يصح إجارة هذا الجنس وهو قرض، وكان أبو بكر الأبهري وغيره أن ذلك يصح وتلزم الأجرة فيه، وإنما منع من منع إجارتها، لأنه لم يتصور فيها منفعة إلا بإتلاف عينها؛ ومن أجاز إجارتها تصور فيها منفعة، مثل أن يتحمل بها أو يتكثر أو غير ذلك مما يمكن أن يتصور في هذا الباب، فهذه هي مشهورات مسائل الخلاف المتعلقة بجنس المنفعة. وأما مسائل الخلاف المتعلقة بجنس الثمن فهي مسائل الخلاف المتعلقة بما يجوز أن يكون ثمنا في المبيعات وما لا يجوز. ومما ورد النهي فيه من هذا الباب ما روي "أنه ﷺ نهى عن عسيب الفحل وعن كسب الحجام وعن قفيز الطحان" قال الطحاوي: ومعنى نهي النبي ﷺ عن قفيز الطحان هو ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من دفع القمح إلى الطحان بجزء من الدقيق الذي يطحنه، قالوا: وهذا لا يجوز عندنا، وهو استئجار من المستأجر بعين ليس عنده، ولا هي من الأشياء التي تكون ديونا على الذمم، ووافقه الشافعي على هذا. وقال أصحابه: لو استأجر السلاخ بالجلد والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق فسد لنهيه ﷺ عن قفيز الطحان، وهذا على مذهب مالك جائز، لأنه استأجره على جزء من الطعام؛ معلوم، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضا. وأما كسب الحجام؛ فذهب قوم إلى تحريمه، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: كسبه رديء يكره للرجل؛ وقال آخرون: بل هو مباح. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب؛ فمن رأى أنه حرام احتج بما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "من السحت كسب الحجام"، وبما روي عن أنس بن مالك قال "حرم رسول الله ﷺ كسب الحجام" وروي عن عون بن أبي جحيفة قال: اشترى أبي حجاما فكسر محاجمه، فقلت له يا أبت لم كسرتها؟ فقال: "إن رسول الله ﷺ نهى عن ثمن الدم". وأما من رأى إباحة ذلك، فاحتج بما روي عن ابن عباس قال "احتجم رسول الله ﷺ وأعطى الحجام أجره" قالوا: ولو كان حراما لم يعطه، وحديث جابر "أن رسول الله ﷺ دعا أبا طيبة فحجمه، فسأله كم ضريبتك؟ فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعا" وعنه أيضا "أنه أمر للحجام بصاع من طعام" وأمر موالية أن يخففوا عنه" (يتبع...) @(تابع... 1): -(القسم الأول) وهذا القسم النظر فيه إلى جنس الثمن وجنس المنفعة التي... ... وأما الذين قالوا بكراهيته فاحتجوا بما روي أن رفاعة بن رافع أو رافع بن رفاعة جاء إلى مجلس الأنصار فقال "نهى رسول الله ﷺ عن كسب الحجام وأمرنا أن نطعمه ناضحنا" وبما روي "عن رجل من بني حارثة كان له حجام، فسأل رسول الله ﷺ عن ذلك فنهاه، ثم عاد فنهاه، ثم عاد فنهاه، فلم يزل يراجعه حتى قال له رسول الله ﷺ: اعلف كسبه ناضحك وأطعمه رقيقك". ومن هذا الباب أيضا اختلافهم في إجارة دار بسكنى دار أخرى، فأجار ذلك مالك ومنعه أبو حنيفة، ولعله رآها من باب الدين بالدين، وهذا ضعيف، فهذه مشهورات مسائلهم فيما يتعلق بجنس الثمن وبجنس المنفعة. وأما ما يتعلق بأوصافها فنذكر أيضا المشهور منها؛ فمن ذلك أن جمهور فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي اتفقوا بالجملة أن من شرط الإجارة أن يكون الثمن معلوما والمنفعة معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب، وإما بضرب الأجل إذا لم تكن لها غاية مثل خدمة الأجير، وذلك إما بالزمان إن كان عملا واستيفاء منفعة متصلة الوجود مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان إن كان مشيا مثل كراء الرواحل. وذهب أهل الظاهر وطائفة من السلف إلى جواز إجارات المجهولات مثل أن يعطي الرجل حماره لمن يسقي عليه أو يحتطب عليه بنصف ما يعود عليه. وعمدة الجمهور أن الإجارة بيع فامتنع فيها من الجهل {لمكان الغبن} ما امتنع في المبيعات. واحتج الفريق الثاني بقياس الإجارة على القراض والمساقاة؛ والجمهور على أن القراض والمساقاة مستثنيان بالسنة فلا يقاس عليهما لخروجهما عن الأصول؛ واتفق مالك والشافعي على أنهما إذا ضربا للمنفعة التي لبس لها غاية أمدا من الزمان محدودا، وحددوا أيضا أول ذلك الأمد، وكان أوله عقب العقد أن ذلك جائز. واختلفوا إذا لم يحددوا أول الزمان أو حددوه ولم يكن عقب العقد، فقال مالك: يجوز إذا حدد الزمان ولم يحدد أوله، مثل أن يقول له: استأجرت منك هذه الدار سنة بكذا أو شهرا بكذا، ولا يذكر أول ذلك الشهر ولا أول تلك السنة؛ وقال الشافعي لا يجوز، ويكون أول الوقت عند مالك وقت عقد الإجارة، فمنعه الشافعي لأنه غرر، وأجازه مالك لأنه معلوم بالعادة، وكذلك لم يجز الشافعي إذا كان أول العقد متراخيا عن العقد، وأجازه مالك. واختلف قول أصحابه في استئجار الأرض غير المأمونة، والتغيير فيما بعد من الزمان؛ وكذلك اختلف مالك والشافعي في مقدار الزمان الذي تقدر به هذه المنافع؛ فمالك يجيز ذلك السنين الكثيرة، مثل أن يكري الدار لعشرة أعوام أو أكثر، مما لا تتغير الدار في مثله؛ وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لأكثر من عام واحد. واختلف قول ابن القاسم وابن الماجشون في أرض المطر وأرض السقي بالعيون وأرض السقي بالآبار والأنهار؛ فأجاز ابن القاسم فيها الكراء بالسنين الكثيرة؛ وفصل ابن الماجشون فقال: لا يجوز الكراء في أرض المطر إلا لعام واحد، وأما أرض السقي بالعيون فلا يجوز كراؤها إلا لثلاثة أعوام وأربعة؛ وأما أرض الآبار والأنهار فلا يجوز إلا لعشرة أعوام فقط. فالاختلاف ههنا في ثلاثة مواضع: في تحديد أول المدة، وفي طولها، وفي بعدها عن وقت العقد. وكذلك اختلف مالك والشافعي إذا لم يحدد المدة وحدد القدر الذي يجب لأقل المدة مثل أن يقول: أكتري منك هذه الدار الشهر بكذا، ولا يضربان لذلك أمدا معلوما، فقال الشافعي: لا يجوز؛ وقال مالك وأصحابه: يجوز على قياس: أبيعك من هذه الصبرة بحساب القفيز بدرهم، وهذا لا يجوز غيره. وسبب الخلاف اعتبار الجهل الواقع في هذه الأشياء هل هو من الغرر المعفو عنه أو المنهي عنه؟ ومن هذا الباب اختلافهم في البيع والإجارة، أجازه مالك، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، ولم يجز مالك أن يقترن بالبيع إلا الإجارة فقط. ومن هذا الباب اختلافهم في إجارة المشاع؛ فقال مالك والشافعي: هي جائزة؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز، لأن عنده أن الانتفاع بها مع الإشاعة متعذر؛ وعند مالك والشافعي أن الانتفاع بها ممكن مع شريكه كانتفاع المكري بها مع شريكه: أعنى رب المال. ومن هذا الباب استئجار الأجير بطعامه وكسوته، وكذلك الظئر، فمنع الشافعي ذلك على الإطلاق، وأجاز ذلك مالك على الإطلاق: أعني في كل أجير؛ وأجاز ذلك أبو حنيفة في الظئر فقط. وسبب الخلاف هل هي إجارة مجهولة، أم ليست مجهولة؟ فهذه هي شرائط الإجارة الراجعة إلى الثمن والمثمون. وأما أنواع الإجارة فإن العلماء على أن الإجارة على ضربين: إجارة منافع أعيان محسوسة، وإجارة منافع في الذمة قياسا على البيع. والذي في الذمة من شرطه الوصف. والذي في العين من شرطه الرؤية أو الصفة عنده كالحال في المبيعات، ومن شرط الصفة عنده ذكر الجنس والنوع، وذلك في الشيء الذي تستوفي منافعه، وفي الشيء الذي تستوفي به منافعه فلابد من وصف المركوب مثلا، والحمل الذي تستوفي به منفعة المركوب. وعند مالك أن الراكب لا يحتاج أن يوصف، وعند الشافعي يحتاج إلى الوصف، وعند ابن القاسم أنه إذا استأجر الراعي على غنم بأعيانها أن من شرط صحة العقد اشتراط الخلف، وعند غيره تلزم الجملة بغير شرط. ومن شرط إجارة الذمة أن يعجل النقد عند مالك ليخرج من الدين بالدين؛ كما أن من شرط إجارة الأرض غير المأمونة السقي عنده أن لا يشترط فيها النقد إلا بعد الري. واختلفوا في الكراء هل يدخل في أنواعه الخيار أم لا؟ فقال مالك: يجوز الخيار في الصنفين من الكراء المضمون والمعين؛ وقال الشافعي: لا يجوز، فهذه هي المشهورات من المسائل الواقعة في هذا القسم الأول من هذا الكتاب، وهو الذي يشتمل على النظر في محال هذا العقد وأوصافه وأنواعه، وهي الأشياء التي تجري من هذا العقد مجرى الأركان، وبها يوصف العقد إذا كان على الشروط الشرعية بالصحة وبالفساد إذا لم يكن على ذلك، وبقي النظر في الجزء الثاني، وهو أحكام هذا العقد. انتهى الجزء الأول