انتقل إلى المحتوى

الوصية الجامعة لخير الدنيا والآخرة (1947)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الوصية الجامعة لخير الدنيا والآخرة
 المؤلف ابن تيمية


بسم الله الرحمن الرحيم

هذا سؤال أبی القاسم المغربی:

یتفضل الشیخ الامام، بقیة السلف، وقدوة الخلف، أعلم من لقیت ببلاد المشرق والمغرب، تقی الدین أبو العباس أحمد بن تیمیة بأن یوصینی بما یكون فیه صلاح دینی ودنیای، ویرشدنی إلى كتاب یكون علیه اعتمادی فی علم الحدیث، وكذلك فی غیره من العلوم الشرعیة، وینبهنی على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ویبین لی أرجح المكاسب. كل ذلك على قصد الإیماء والاختصار، واللّه تعالى یحفظه، والسلام الكریم علیه ورحمة اللّه وبركاته

الجواب

الحمد للّٰه رب العالمین.

أما الوصیة، فما أعلم وصیة أنفع من وصیة اللّٰه

ورسوله لمن عقلها واتبعها قال تعالى (ولقد وصینا الذین أوتوا الكتاب من قبلكم وإیاكم أن اتقوا اللّٰه) ووصی النبی معاذاً لما بعثه إلى الیمن فقال:

«يا معاذ: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» وكان معاذ رضى الله عنه من النبي بمنزلة علية، فإنه قال له «يا معاذ: والله إني لأحبك» وكان يردفه وراءه. وروى فيه أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأنه يحشر أمام العلماء برتوة - أي بخطوة –. ومن فضله أنه بعثه النبي مبلغًا عنـه، داعيًا ومفقهًا ومفتيًا وحاكما إلى أهل اليمن.

وكان يشبهه بإبراهيم الخليل عليه السلام، وإبراهيم إمام الناس. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن معاذًا كان أمة قانتًا الله حنيفًا ولم يك من المشركين، تشبيهًا له بإبراهيم.

ثم إنه وصاه هذه الوصية، فعلم أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير الوصية القرآنية.

أما بيان جمعها، فلأن العبد عليه حقان: حق الله عز وجل، وحق لعباده. ثم الحق الذي عليه لا بد أن يخل ببعضه أحيانا، إما بترك مأمور به، أو فعل منهي عنه، فقال النبي «اتق الله حيثما كنت» وهذه كلمة جامعة، وفي قوله «حينما كنت » تحقیق لحاجته إلى التقوى في السر والعلانية، ثم قال «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا مضراً أمره بما يصلحه. والذنب للعبد كأنه أمر حتم. فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. وإنما قدم في لفظ الحديث «السيئة» وإن كانت مفعولة، لأن المقصود هنا محوها لا فعل الحسنة فصار كقوله في بول الأعرابي «صبوا عليه ذنوبا من ماء»

وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، فإنه أبلغ في المحو. والذنوب يزول موجبها بأشياء: أحدها التوبة، والثاني الاستغفار من غير توبة، فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب، فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال.

الثالث: الأعمال الصالحة المكفرة. إما الكفارات المقدرة كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب لبعض محظورات الحج، أو تارك بعض واجباته، أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة وهي أربعة أجناس: هدى وعتق وصدقة وصيام. وإما الكفارات المطلقة كما قال حذيفة لعمـر: فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر الأعمال التي يقال فيها: من قال كذا وعمل كذا غفر له، أو غفر له ما تقدم من ذنبه وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصا ما صنف في فضائل الأعمال.

واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالانسان الحاجة اليه، فإن الانسان من حين يبلغ، خصوصا في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه، فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء، فكيف بغير هذا ?

وفي الصحيحين عن النبي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا يارسول الله ، اليهود والنصارى ? قال: فمن ? » هذا خبر تصديقه في قوله تعالى ( فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ) ولهذا شواهد في الصحاح والحسان .

وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة ، كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة، فان كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى العلم ، وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى الدين ، كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً ، ثم نزله على أحوال الناس .

وإذا كان الأمر كذلك فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، وكان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس، لابد أن يلاحظ أحوال الجاهلية وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من من اليهود والنصارى، فيرى أن قد ابتلى ببعض ذلك .

فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو إتباع السيئات الحسنات. والحسنات ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات . ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة ، وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو غير ذلك ، لكن ليس هذا من فعل العبد.

فلما قضى بهاتين الكلمتين : حق الله من عمل الصالح وإصلاح الفاسد ، قال «وخالق الناس بخلق حسن» وهو حق الناس. وجماع الخلق الحسن مع الناس : أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه ، والزيارة له ، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض. وبعض هذا واجب وبعضه مستحب.

وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمداً فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقا، هكذا قال مجاهد وغيره وهو تأويل القرآن، كما قالت عائشة رضى الله عنها «كان خلقه القرآن» وحقيقته المبادرة إلى امتثال مايحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر.

وأما بيان أن هذا كله في وصية الله، فهو أن اسم تقوى الله يجمع فعل كل ما أمر الله به إيجابا واستحبابا، وما نهى عنه تحريما وتنزيها؛ وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد. لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف عن المحارم، جاء مفسرا في حديث معاذ، وكذلك في حديث أبي هريرة رضى الله عنهما الذي رواه الترمذي وصححه « قيل يا رسول الله ماأكثر ما يدخل الناس الجنة? قال: تقوى الله وحسن الخلق. قيل: وما أكثر ما يدخل الناس النار? قال: الأجوفان:الفم والفرج »

وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله «أكمل المؤمنين إيمــانًا أحسنهم خلقا» فجعل كمال الإيمان في كمال حسن الخلق. ومعلوم أن الإِيمان كله تقوى الله، وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله هذا الموضع، فانها الدين كله، لكن ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة كما في قوله (إياك نعبد وإياك نستعين) وفي قوله (فاعبده وتوكل عليه) وفي قوله (عليه توكلت وإليه أنيب) وفي قوله (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعًا بهم أو عملا لأجلهم، ويجعل همته ربه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك، والعمل له بكل محبوب. ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك.

وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض فإِنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره: أن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة، وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم «سبق المفردون، قالوا يارسول الله: ومن المفردون? قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» وفيما رواه أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبی أنه قال «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم? قالوا : بلى يارسول الله، قال: ذكر الله» والدلائل القرآنية والإيمانية بصراً وخيراً ونظراً على ذلك كثيرة. وأقل ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة، مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والمسجد والخـلاء والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد، إلى غير ذلك، وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل يوم وليلة. ثم ملازمة الذكر مطلقاً، وأفضله لا إله إلا الله. وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله أفضل منه.

ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى الله من تعلم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من ذكر الله. ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلسا يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقها، فهذا أيضا من أفضل ذكر الله. وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف. وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى. وليكثر من ذلك ومن الدعاء، فأنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحرّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان، ووقت نزول المطر ونحو ذلك.

وأما أرجح المكاسب: فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به، وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه، كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه «كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم» وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول اللہ «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر» وقد قال الله تعالى في كتابه (واسألوا الله من فضله) وقال سبحانه (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات. ولهذا والله أعلم أمر النبي للذي يدخل المسجد أن يقول «اللهم افتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج أن يقول «اللهم إني أسألك من فضلك» وقد قال الخليل صلى الله عليه وسلم (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) وهذا أمر، والأمر يقتضى الإيجاب . فالاستعانة بالله واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم.

ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع، بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء. وفي الحديث المرفوع رواه الترمذي وغيره «من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة». وقال بعض السلف: أنت محتاج إلى الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظامًا. قال الله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).

فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك فهذا مختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئا عاما، لكن إذا عـنّ للانسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير ، فإن فيها من البركة ما لا يحاط به. ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كراهة شرعية.

وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا باب واسع، وهو أيضا يختلف باختلاف نشء الانسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسر له في بلد آخر، لكن جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه في تلقى العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علما، وما سواه إما أن يكون عاما فلا يكون نافعا، وإما أن لا يكون عاما وإن سمى به. ولئن كان علما نافعا فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يغنى عنه مما هو مثله وخير منه، ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه. فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك.

وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلى من الليل «اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم» فإن الله تعالى قد قال فيما رواه عنه رسوله «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».

وأما وصف الكتب والمصنفين، فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره الله سبحانه. وما في الكتب المصنفة المبوبة كتاب أنفع من صحيح محمد بن اسماعيل البخاري، لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لا بد من معرفة أحاديث آخر وكلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء. وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعابا، فمن نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبيد الأنصاري «أوليست التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا تغني عنهم؟ ».

فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد، ويلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين، وصلواته على أشرف المرسلين.