النظرات/مدينة السعادة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



مدينة السعادة


رأيت فيما يرى النائم أنني أمشي في برِّيَّةٍ جرداء قفرٍ، قد انبسطت رمالها على سطحها متجعدةً تجعد الأمواج المتوثبة في القاموس المحيط، وكانت الشمس قد طفلت للإياب، فلم أر في بطحائها ظلًّا غير ظلي المستطيل الذي رسمته يد الشمس فأخطأت في تصويره، كأنما حسبتني آدم أبا البشر، فأوسعتني طولًا، ورسمتني ميلًا.

أنشأت أمشي لا أعرف لي مذهبًا ولا مضطربًا، وأنى يكون ذلك في صحراء قد تشابهت مسالكها، وتشاكلت مذاهبها، وانفرج ما بين قاصيها ودانيها، حتى انحدرت الشمس إلى مستقرِّها، وطار طائر الليل من مكمنه، وما نشر الظلام أجنحته السوداء في الأفق حتى وجدتني أحْيرَ من دمعة وجدٍ في مقلة عاشقٍ، يدفعها الحب ويمنعها الحياء، لا أعلم هل أنا سرٌّ كامنٌ في باطن الظلماء، أو حوتٌ مضطربٌ في أعماق الماء؟ وأحيانًا كان يُخَيَّلُ إليَّ أني في منجمٍ من مناجم الفحم، فأمد يدي أتلمس جدرانه مخافةَ أن أصطدم بواحدٍ منها، ولم أزل كذلك حتى شعرت بأن الظلام بدأ ينفض صبغته، وأنَّ ذرَّاته تتطاير هاهنا وهاهنا، فإذا أنا بين يدي جبلٍ عالٍ كأنما هو جدارٌ قائم يُمسك السماء أن تقع على الأرض، أو ملِكٌ جبارٌ قد لبس من قرص الشمس التاج الأحمر، ومن شعاعها الرداء الأصفر.

ولا تسل هنالك عمَّا ألمَّ بقلبي من الهم وعقلي من الخبال حينما رأيت أنَّ صعود السماء أقرب إلى الأمل من صعود هذا الجبل. وحِرْتُ بين الإقدام والإحجام، فلم أرَ بدًّا من الاستسلام لمقدور الحِمام، ثم رميت بطرفي فرأيت بين الصخور المبعثرة في سفح الجبل صخرةً بيضاء ناعمة الملمس، فاضطجعت عليها وأنا أتمثَّل بقول أبي العلاء:

ضجعة الموت رقدةٌ يستريح
الجسم فيها والعيش مثل السهاد

وما هي إلا غمضة الطرف حتى شعرت بأنها تتحرك قليلًا قليلًا، ثم نهضتْ ثم طارتْ، فكدت أحسب أنه الموت قد نزل، وأنها الروح تصعد إلى الملأ الأعلى لولا أنْ فتحت عيني فرأيت ما كنت أحسبه صخرةً طائرًا أشبه شيءٍ بالنسر في خَلْقه والقُبَّةِ في ضخامتها واستدارتها. وما زال ذاهبًا بي في أفق السماء، ثم رنَّق لحظةً في الهواء، ثم هبط إلى قمَّة الجبل، فأسرعت بالانحدار عنه، وهنالك أحسست بسلسبيلٍ باردٍ من الأمل يتسرَّب إلى قلبي فينقع غُلَّته، ويطفئ لوعته؛ لأنني رأيت السفح الثاني من الجانب الآخر ورأيت بهجة الحياة وزهرة العمران.

رأيت على البعد خطوطَ الخضرة حول سطور الماء، ورأيت المنازل والقصور كأنها العصافير السوداء، أو الحمائم البيضاء، وكأن ما ألمَّ بنفسي من السرور أَنساني ما ألمَّ بجسمي من النَّصَب، فانحدرت إليها، فما بلغتها حتى رأيتُني في مزرعةٍ في وسطها بِنيةٌ، قد وقف على بابها شيخٌ هو أشبه الأشياء بما يتخيله فريق الخياليين من علماء الفَلك في صور سكَّان المريخ، فذعر مني كما يذعر الإنسان لرؤية الجان، وما كان الذي قام في نفسه منِّي بأكثر مما قام في نفسي منه لولا أني ألفت الغرائب، وعجمت عود العجائب، فتقدمت إليه وكأنما أُلهمت لغته الغريبة، فحييته بها فحيَّاني وهو يقول: «ما كنت أحسب أنَّ الشمس تطلع على مدينةٍ غير هذه المدينة، أو أنَّ في العالم إنسانًا غير هذا الإنسان.»

فما زلت أحدثه وأستدنيه حتى أنس بي ودعاني إلى منزله وخلطني بنفسه وأهله، وقدَّم لي طعامًا شهيًّا، ومهَّد لي مرقدًا وثيرًا، وكان الليل قد أقبل للمرة الثانية من هجرتي هذه، فنمت نومًا هادئًا مطمئنًّا، لا تروعني فيه خواطر الموت ولا وساوس الهلاك.

استيقظت أنا والشمس من مرقدينا على صوت تلك الأسرة الطاهرة الكريمة تصلِّي إلى الله تعالى صلاة الخاشعين المتبتِّلين، وتدعو وهي مصطفةٌ صفًّا واحدًا أنْ ييسر الله لها عسرها، ويسهل أمرها، ويصلح شأنها، ويمنحها معونته ونصره، فأخذ من نفسي منظرها هذا مأخذًا غريبًا، فلم أر بدًّا من الانتظام في صفها، والدعاء بدعائها، والبكاء لبكائها، وعجبت أن يكون مثل هذا الإيمان الخالص راسخًا في نفوس أهل هذه المدينة، ولم يرسل إليها رسولٌ ولم ينزل عليها كتاب. فلما فرغنا من الصلاة التفت إليَّ صاحب البيت، فقلت له: «أراكم تتعبدون، فمن تعبدون؟ وتصلون، فمن الذي تدعون؟» قال: «نعبد الله خالق هذه الكائنات ومدبِّرها.» قلت: «هل رأيتموه حتى عرفتموه؟» قال: «نعم رأيناه في آثاره ومصنوعاته، ورأيناه في السماء، والماء، والفَلك الدائر، والنجم السائر، وفي أجنَّة الحيوان، وبذور النبات، ورأيناه في أنفسنا وعقولنا وأرواحنا قبل ذلك.» قلت: «ولم تعبدونه؟» قال: «شكرًا له على نعمة الخلق والرزق، وإنَّ أحدنا ليعنيه أنْ يشكر لصاحبه نعمته إذا أحسن إليه بجَرعةٍ أو أنعم عليه بمَضغةٍ، فأَحْرِ به أنْ يشكر مانح المانحين، والمحسن إلى المحسنين!» فقلت في نفسي: «لقد بلغ الرجل مرتبة الموحدين الصادقين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين، لا يرجون ثوابًا، ولا يخافون عقابًا.»

ثم سألته: «أين تذهبون بعد الموت؟» قال: «إلى النعيم المقيم، أو العذاب الأليم.» قلت: «لعلك تريد الجنة والنار!» قال: «لا أفهم ما تقول، وإنما أعلم أنَّ الإله الحكيم لا يترك المحسن دون أن يجازيه خيرًا على إحسانه، كما يأبى عدله أنْ يُسوِّي بين المحسن والمسيء.» قلت: «متى يكون المحسن محسنًا والمسيء مسيئًا؟» قال: «الإحسان عمل الخير، والإساءة عمل الشر، لذلك لا ترى بيننا من يحدِّث نفسه بالإضرار بأخيه، أو من يُقصِّر في دفع الأذى عنه.» فقلت في نفسي: «ليت الفقهاء الذين ينفقون أعمارهم في الحيض والاستحاضة، والمذي والودي، والحَدَثِ الأكبر والحَدَثِ الأصغر، وليت الكلاميين الذين يسهرون الليالي ويقرِّحون المآقي في عَينيَّة الصفات وغيريتها، والجوهر والعرض، والحدوث والقدم، والدور والتسلسل، وليت غُلاة المتصوفة يعرفون من سرِّ الدين وحكمته والغرض الذي قام له ما يعرف هؤلاء البُلْهُ الأغرار الذين لا يفهمون معنى الجنة والنار ولا يميزون بين الدين والتين!»

فرغنا من الحديـث وعرضت على الشيخ أن يُزيرني المدينةَ، فانحدر بي إليها، فرأيت شوارعها فسيحةً منتظمة، ومنازلها متفرقةً غير متلاصقة، وقد أحـاط بكل منزلٍ منها حديقةٌ زاهرة، ورأيت سكانها مُكبِّين على أعمالهم، مُجدِّين في شئونهم صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، ما فيهم فقيرٌ يتسوَّل، ولا متبطِّل يتثاءب ويتململ. وأغرب ما استهوى نظري أني لم أرَ في تلك المدينة ذلك التفاوت الذي أعرفه في مدائننا بين الناس؛ في منازلهم ومراكبهم ومطاعمهم ومشاربهم وأزيائهم، كأن جميع سكانها سواءٌ في حالة المعيشة ودرجة الثروة، فسألت الشيخ: «ألا يوجد فيكم غنيٌّ وفقير، وسيِّد ومسودٌ؟» قال: «لا يا سيدي، حسب الرجل منَّا بيتٌ يأوي إليه، ومزرعةٌ يستغلها، ودابة تحمل أثقاله، ثم لا شأن له بعد هذا فيما سوى ذلك، لذلك لا يوجد فينا سيدٌ ومسود؛ لأنه لا يوجد فينا غنيٌّ وفقير.» قلت: «لا بدَّ أن يوجد بينكم العاجز عن العمل والكسول المتبطل!» قال: «أما الكسول فلا وجود له بيننا؛ لأنه يعلم أنَّا لا نرحمه ولا نغفر له زلَّته في احتقار نِعمة العقل والقوة بتعطيلهما عن العمل، وأما العاجز فنحدَب عليه ونحسن إليه، ولا نرى لأنفسنا في ذلك فضلًا؛ لأننا إنما نمنحه جزءًا من القوة التي منحنا الله إياها لنعبده بها، ولا نرى في وجوه العبادة أفضل من مواساة العاجزين ورحمة البائسين.»

وإنه ليحدثني بهذا الحديث إذ لاحت لنا بنيةٌ فخمة ضخمة تمتاز عن غيرها من البنَى بحُسْنِ نظامها، وجمال هندامها، فقلت للشيخ: «هل أرى قصر الملك؟» قال: «لا، ولكنه قصر رجلٍ شريرٍ طماع قد خالف إرادة الله وحكمته فاحتجن دون عباده أرضهم ومالهم ليعلو عليهم ويستأثر بالنعمة من دونهم، فغضب الله عليه، وقلب نعمته نقمةً، ورخاءه شدةً، فإنه ما أراح رائحة العيش الرغد حتى أسلم نفسه إلى شهواتها وحمَّلها فوق ما تحمل طبيعتها، فها هو ذا اليوم يقاسي من آلام الأمراض وأنواع الأسقام ما بغَّض إليه العيش، وحبب إليه الموت، لم يحمه قصره، ولم يغن عنه ماله، فهو عبرة المعتبرين، وموعظة السابلين.» فكَبُر الرجل في ذَرْعي وعظم في عيني، وأكبرت فيه وفي أمته هذه الخلال الشريفة والأخلاق العالية، وقلت في نفسي: «إنَّ مدارسنا على ما تشتمل عليه دروسها من قواعد الحكمة وأصول التربية وفنون الآداب، لتعجز عن أنْ تخرج للناس رجالًا يستطيعون أنْ يُساجِلُوا هؤلاء القوم في أخلاقهم وفضائلهم!»

وأردت — على ذكر المدارس — أنْ أعرف مناهج التعليم عندهم، فقلت للشيخ: «هل لك أن تُزيرني مدرسةً من مدارسكم؟» فعجب لسؤالي وقال: «ما المدرسة؟» فكان عجبي لجوابه أكثر من عجبه لسؤالي، وقلت: «المدرسة مكانٌ محدود يجتمع فيه صغارٌ يتعلمون، وكبارٌ يعلمون.» قال: «ما الذي يتعلمه الصغار من الكبار؟» قلت: «ما يصلح شأنهم وينفعهم في معاشهم ومعادهم.» قال: «وأيُّ حاجةٍ بنا إلى مثل هذا المجتمع الحاشد في مثل هذا المكان المحدود؟! إننا يا سيدي أرحم بأبنائنا من أنْ نكل أمرهم إلى غيرنا، فنحن الذين نتولى هذا الشأن منهم، فلا مدارس عندنا غيرُ المصانع والمزارع نعلمهم فيها كيف يرمون البذور، وكيف يستنبتونها، وكيف يصنعون آلات الزراعة، وكيف يستعملونها، وفيها نعلِّمهم كيف يبنون منازلهم وينسجون ملابسهم ويُعدُّون عددهم، وإنَّا لا نعرف علمًا غير العمل، ولا نعرف من العمل غير ما نحفظ به قِوام حياتنا، ونستعين به على عبادة ربنا.» قلت: «ألكم حاكمٌ يتولى أموركم؟» قال: «لنا حكمٌ لا حاكمٌ، وهو رجلٌ قد وثقنا به وبفهمه واستقامة شأنه، فاخترناه لفصل الخصومات إنْ عرض من ذلك عارضٌ.» قلت: «أليس له جندٌ وأعوانٌ يؤيدونه وينفذون أحكامه؟» قال: «نعم، كلنا جنده، وكلنا أعوانه على كل من يختلف عليه أو يتمرَّد على حكمه، فقد وثقنا به وبعدله وكفى.» وقلت: «أليس له سجن يحبس فيه المجرمين؟» قال: «لا، حسب المجرم عندنا عقوبةً أن يتفق أهل المدينة على احتقاره والزراية به، وإنَّ أحدنا ليؤثر أن يتخطَّفه الطير، أو يسقط عليه كِسَفٌ من السماء قبل أن يرى نفسه بغيضًا إلى قومه صغيرًا في نفوسهم ذليلًا في أعينهم، لا يرفعون إليه طرفًا، ولا يقيمون له وزنًا.»

وما وصلنا من حديثنا إلى هذا الحدِّ حتى كنا قد فرغنا من الطواف بالمدينة ووصلنا إلى المنزل الذي خرجنا منه، فاستقبلنا أهلوه بالبشر والترحاب واستقبلوا شيخهم بالتقبيل والعناق، فلم أرَ فيما رأيت من البيوت في مدن العالم وقراه بيتًا أسعد حظًّا ولا أنعم عيشًا ولا أروح بالًا من هذا البيت.

تلك مدينة السعادة التي يعيش أهلها سعداء لا يشكون همًّا لأنهم قانعون، ولا يمسكون في أنفسهم حقدًا لأنهم متساوون، ولا يستشعرون خوفًا لأنهم آمنون.

تلك مدينة السعادة التي رأيتها، فأحببتها وأحببت العيش فيها لولا أنَّ لله في خلقه سنةً لا تتبدل، وشأنًا لا يتحول، فقد جاء الليل وأخذت مكاني من مرقدي في منزل الشيخ، فلم أستيقظ حتى رأيتني في فراشي وفي منزلي، فلا السهل ولا الجبل، ولا الشيخ ولا المزرعة، ولا المدينة ولا السعادة:

ولما نزلنا منزلًا طَلَّه الندى
أنيقًا وبستانًا من النور حاليا
أَجَدَّ لنا طيبُ المكان وحسنه
مُنًى فتمنينا فكنت الأمانيا