النظرات/الجامعة الإسلامية
الجامعة الإسلامية
أنا لا أحب أنْ أخدع نفسي عن نفسي، ولا أحب أنْ أخدع الناس عنها.
أنا مسلمٌ قبل كل شيء، أيْ قبل أنْ أكون وطنيًّا أو سياسيًّا أو مُجْتَمِعًا، بل قبل أن أكون نسمةً حية في هذا الوجود.
لو علمت أنَّ مآرب هذه الدنيا وأغراضها لا تُنال إلا بترك شعيرةٍ من شعائر الدين أو العبث بفريضةٍ من فرائضه لَعِفْتُهَا واجْتَوَيتُهَا، ونفضت يدي منها، وقلت لها كما قال لها علي بن أبي طالب من قبل: «إليك عني، غُرِّي غيري، ما لي بك حاجة.»
لو لم يكن في الأمر إلا أنْ أخسرَ دِيني فأربح دنياي أو أخسر دنياي فأربح ديني، لآثرت أخراهما على أولاهما؛ لأني أعلم أني إنْ خسرت ديني، فقد خسرت كل شيءٍ.
لو علمت أنَّ الوطنية — وهي أفضل ما حمل امرؤٌ بين جنبيه من خلال الخير — تعترض دون طريقي إلى آخرتي، أو تمتد حجابًا بيني وبين ربي، لخرجت منها كما أخرج من ردائي، ثم خلصت إلى شعفةٍ من شعفات الجبال، أو صخرة في منقطع العمران أخلو فيها بنفسي من حيث لا أسمع دعاءً غير دعاء القلب، ولا نداءً غير نداء الله، حتى يحين حَيني، وينقضي أجلي.
ما أبغضت في حياتي شيئًا بغضي للكذب والرياء، فإما أن أكون مسلمًا، فها هو ذا الإسلام، وهذه شروطه وقيوده، وصفاته وطبائعه، أوْ لا، أبديت للناس صفحتي، وأعلنت لهم أمرى، حتى يعلموا من أمر نفسي مثل ما أعلم منها.
أنا لا أحدث في ذلك عن نفسي خاصة، بل عن المسلم من حيث كونُه مسلمًا؛ أيْ مُصَدِّقًا بالله ورسوله، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، معتقدًا أنَّ الحياة الدنيا معبرٌ يعبره إلى الحياة الأخرى، وأنه محاسبٌ في أخراه حسابًا غير يسيرٍ على ما فرط في أولاه، وأنَّ الله لا يقبل منه في موقف الحساب من المعاذير إلا ما رَخَّصَ له فيه، أو رفع عنه مَئُونَتَهُ. فلا سبيل له إلا أنْ يلبَس ثوب الإسلام مَعْلَمًا، لا خائفًا ولا مترقبًا، ولا متنكرًا ولا متكتمًا، ولا محتفلًا بقول العيسوي أو الموسوي له: «أنت متعصبٌ!» ولا بقول الملحد أو الجاحد: «أنت مخرفٌ!» فهو ليس متعصبًا بل متمسكًا، ولا مخرفًا بل مستيقنًا. وأنْ يعترف به جهرةً في جميع مواطنه ومواقفه، لا مُسْتَحْييًا ولا خَجِلًا، قد انقضى عهد الإسرار والإخفاء من تاريخ ذلك اليوم الذي أسلم فيه عمر بن الخطاب، فمشى إلى المسجد الحرام حيث يجتمع كفار قريشٍ، وأعلن فيه إسلامه بين هياجهم ونقمتهم، ثم مرَّ يقرع أبواب رؤسائهم بابًا بابًا، فإذا فتحوا له حدثهم عن إسلامه، فضربوا الباب في وجهه غيظًا وحنقًا.
التمسك غير التعصب، والتهاون غير التسامح، فليس كل متمسكٍ متعصبًا؛ لأن التمسك محافظة المرء على العمل بأوامر الدين ونواهيه، والتعصب بغضه لمخالفيه في دينه بغضًا يحمله على محاولة النكاية بهم، والعبث بما حقن الله من دمائهم، وصان من أعراضهم وأموالهم. وليس كل متهاونٍ متسامحًا؛ لأن التهاون ترك المرء العمل بما فرض الدين عليه أن يفعل أو أن يترك، والتسامح إغضاؤه عن خلف المخالفين له، بحيث لا يعد تلك الفروق الدينية التي بينه وبينهم وسيلة إلى بغضهم، أو نصب الغوائل لهم، أو سد سبل العيش في وجوهم. ولقد اعْتَرَضْتُ الآراء والمذاهب حلوَّها ومرَّها، ومعوجَّها ومستقيمها، فلم أرَ رأيًا أضعف حجةً ولا أضل سبيلًا من رأي الذي يقول: «إنَّ الدين لا يجوز أنْ يتجاوز عتبة المسجد.» وكيف يستطيع المسلم أن ينفرد بنفسه عن دينه في موطنٍ من المواطن أو مذهبٍ من المذاهب وهو رفيق طَيَّته ولصيق نفسه، في قيامه وقعوده، ويقظته ونومه، وانفراده واجتماعه؟
ذلك أنَّ المسلم لا يستطيع ألَّا يعطف على أخيه المسلم عطفًا خاصًّا به فوق عطفه على غيره من أفراد البشر؛ لأنه مأمورٌ أن يكون منه بمنزلة اللبنة من اللبنة في البناء الواحد؛ أي أن يكون عضدًا له في شئون دينه ودنياه.
ولا يستطيع أن يسمع كلمة سوءٍ يريد بها قائلها النيل من دِينه والغض منه، دون أن يغضب لها؛ لأنه من دِينه على بينةٍ، والغضب لا يزال رذيلةً من الرذائل حتى يكون للحق، فهو أفضل الفضائل.
ولا يستطيع أن يبيع أو يبتاع، ويقرض أو يقترض، وينطق أو يصمت، ويعاشر أو يقاطع، ويوافق أو يخالف، إلا إذا نظر فيما أحل الدين من البيع وحرم من الربا، وفيما رخص للمتكلم أن ينطق به وأوجب عليه أن يُمسك عنه، وفيما شرع من معاشرة خيار الناس ومجانبة شرارهم، وموافقة المحقين ومخالفة المبطلين. وهكذا حتى لا يخرج عنه في جميع شئونه وحالاته، سواء أكان في المسجد أو البيعة، أو المنزل أو السوق، أو المجتمعات العامة، أو الأندية الخاصة.
وكما لا يستطيع أن يخرج عن أحكام الدين في شيءٍ من هذا، كذلك لا يستطيع أن يخرج عنها في كيفية معاملة المخالفين له في الدين من الرأفة بهم، والعطف عليهم، والإحسان إليهم، ما داموا موالين له، غير خارجين عليه، ولا مادِّين إليه يد سوءٍ.
فلتنعموا أيها المسيحيون بالًا وَلِتَثْلُجُوا صدورًا، ولتعلموا أنَّ المسلم لا يستطيع أن يكون متعصبًا ما دام متمسكًا بدينه؛ لأن في تعصبه هدمًا لأعظم ركنٍ من أركان الدين الذي يتعصب له.
فإن رأيتم أنه يغضب لشتم دينه أو نبيه في صحيفةٍ تنشر في بلاده، أو يضمر في قلبه جزعًا من العهد بشئون المسلمين الدينية إلى غير مسلم، فلا تقولوا إنه متعصبٌ، وإنما هو متمسكٌ بدينه تمسككم بدينكم، ولا تطلبوا عنده أكثر مما تطلبون عند أنفسكم، وارحموه ولا تعذبوه بإدماء قلبه، وإحراج صدره، فإنه يرحمكم ولا يعذبكم.
وإنْ خُيِّلَ إليكم أنَّ في المسلمين متعصبين فاعلموا أنهم متعصبو أقوال لا متعصبو أفعالٍ؛ أي إنهم يبغضون المسيحيين ولا يقاطعونهم، ويدعون عليهم بالهلاك ولا يمدون إليهم يد سوءٍ، ويسيئون الظن بهم وهم يستعينون بهم في جميع أعمالهم، سرها وجهرها، ويتمنون لهم الخسران وهم يحمونهم مما يحمون منه أنفسهم وأولادهم. فهذا التعصب — لو تبينتم — مظهرٌ من مظاهر الحماقة والبَلَه لا أثر له في نفوسهم، ولا علاقة بينه وبين تدينهم، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يشبه تعصب المعروفين بالتعصب من المسيحيين الذين يضمرون للمسلمين في قلوبهم ما تصمت عنه ألسنتهم، وتنطق به أعمالهم، فترى الواحد منهم لا يبتاع حاجته إلا من المسيحي إن كان مشتريًا، ولا يستعين على عمله إلا بالمسيحي إن كان تاجرًا أو صانعًا، ولا يوظف إلا المسيحيَّ إن كان رئيسًا في مصلحة، ولا يهتم إلا بالدفاع عن المسيحي إن كان محاميًا، ولا يرحم إلا المسيحيَّ إن كان قاضيًا.
إنَّ المسيحي الذي يقول للمسلم: أنت متعصب، قبل أن يرى في سِيمَاء وجهه أثر العداوة والبغضاء له، وإرادة الإيقاع به، لا يريد بكلمته هذه مصارحته برأيه فيه، بل خديعته عن دينه والهجوم على قلبه، والتمكن من مجالسته على مائدةٍ واحدة تختلط فيها الأيدي والأفواه، ويخطئ فيها العد، ويضيع الحساب، فيتناول منها ما لذ وحلا ويترك له ما مر وتَفُهَ. ولقد بلغ منه في كثيرٍ من الأحيان الغرض الذي أراده، فخدع كثيرٌ من المسلمين عن دينهم، ونالت تلك المكيدة المُدَبَّرَةُ من نفوسهم، وعظم عليهم أن يسموا متعصبين، وكانوا لا يدركون فرق ما بين التمسك والتعصب، فتهاونوا في أمر دينهم وازدروه، واستحيوا من اللصوق به، والأخذ بشعائره، فأصبح الواحد منهم لا يجرؤ أن يفتتح خطابه أو كتابه أو طعامه بالبسملة، ولا يجرؤ على السلام أو رده بالصيغة المأثورة، ولا على إقامة الصلوات في أوقاتها في مجتمعٍ عام، ولا على الاعتذار عن ترك منكرٍ من المنكرات بعذر الدين، بل إنَّ فيهم من يرائي بالفسق والضلال، كما يرائي الفساق والضُّلَّل بالصلاح والتقوى، فيقيم الصلاة في بيته، ويزعم أنه تاركها، ويترك شرب الخمر تدينًا، ويزعم أنه تاركها توفيرًا لماله أو خوفًا على صحته؛ فرارًا من تهمة التعصب، أي تهمة التدين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولم أرَ في حياتي منظرًا أبرد ولا أسمج من منظر المسلم الذي يجالس المسيحي في مجتمع عام، فيقول له: «إني أحبك محبتي لنفسي؛ لأني أعتقد أنَّ كلينا يعبد إلهًا واحدًا، ويدين بدينٍ صحيح يأمر بفضائل الأعمال وينهى عن رذائلها.» وربما كان يضمر له في قلبه في تلك الساعة من العداوة والبغضاء ما لو طارت شرارةٌ منه لأحرقتهما جميعًا وتركتهما رمادًا تذروه الرياح. وعندي أنَّ الأفضل من هذا الرياء الكاذب والدهان المصنوع أنْ يقول له: «إني أعتقد صحة ديني، فلا بدَّ لي من أنْ أعتقد فساد غيره من الأديان؛ لأني لو كنت معتقدًا صحتها لتقلَّدتها وهجرتُ ديني لأجلها، وإني على ذلك لا أحمل لك في صدري ضغينةً ولا موجدةً؛ لأني أعلم أنك إنسان، وديني لا يسوغ لي أنْ أبغض أحدًا من الناس، غير أني لا أسطيع أن أحبك محبتي لأخي المسلم؛ لأني إنْ أحببت الذي يساعدني على حفظ مالي أو صيانة ولدي حبًّا جمًّا، فأَحْرَى بي أن أحب الذي يساعدني على حفظ ديني الذي هو أعز عليَّ من نفسي وولدي حبًّا لا حد له.»
إنَّ المصانعة والمجاملة في الدين ليست سبيل الاتحاد والاتفاق كما يظن الذين يصانعون ويجاملون، وما هي إلا الخداع والغش، وما علمنا أنَّ أمةً أسعدها الغش أو رفعها الخداع. وها هي ذي الجرائد المسيحية والإسلامية في مصر يفتتح أكثرها كل يوم فصول العداوة والبغضاء بعناوين المحبة والإخاء، فلم يفِ خيرها بشرها، ولا نفعها بضرها، بل السبيل إلى ذلك أن يعلم المتدين علمًا صحيحًا أنَّ الاختلاف في الدين شيءٌ، والتباغض فيه شيءٌ آخر، وأنَّ الدين الذي يسوق العالم إلى الهلاك والفناء لا يمكن أن يكون دينًا إلهيًّا.
إنَّ الإبهام والإغماض في التدين يقتل الدين في نفوس المتدينين قتلًا لا حياة له من بعده، فلا بد للمسلم من أن يكون مسلمًا في جميع حالاته وشئونه، وإسراره وإعلانه، فلا يستحيي أن يلبس عمامته في باريس كما يلبسها في مصر. وأنْ يقيم الصلاة لوقتها في قصر الفاتيكان كما يقيمها في مسجد قريته. وأنْ يترفع عن مجاراة الغربيين في عاداتهم التي يرى أنها لا تلائم دينه، فلا يشرب نخب أحدٍ من الناس وإن كان في مجلس الإمبراطور، ولا يأكل لحم الخنزير وإنْ قدمه له بيده القيصرُ، ولا يحمل بساط الرحمة في جنازة ميتٍ من الأموات وإن كان بابا رومة، ولا يحمل سلاحه راكضا إلى مقاتلة أخيه المراكشي إن كان جزائريًّا، أو المصري إن كان هنديًّا، ولو كان دون ذلك موته صبرًا، وليعلم أنَّ ذلك سبيله الذي لا سبيل له غيره إلى العظمة التي يحب أن تكون له في نفوس مخالفيه في دينه أو عاداته. وإن حاول مخادعٌ أن يخدعه عن نفسه ويلقي في رُوعه أنَّ اطِّراح المسلمين للدين وسيلة تقدمهم، كما كان اطِّراحه وسيلة تقدم المسيحيين، فليذكر دائمًا كلمة ذلك الرجل العظيم السيد جمال الدين الأفغاني في قوله: «ترك المسيحيون دينهم فتقدموا، وترك المسلمون دينهم فتأخروا!»
الجامعة الإسلامية بالنسبة للمسلم هي الجامعة الكبرى التي يجب أن يمنحها بناتِ قلبه، وجوهر لبه، قبل أن يمنح ذلك غيرها من الجوامع الأخرى، وما احتاج المسلمون إلى تلك الجامعة في دورٍ من أدوار حياتهم احتياجهم إليها في هذا العصر الذي أصبحوا فيه شتى المسالك والمذاهب بين سمع الأرض وبصرها، وأصبحوا لا موطن لهم إلا تلك البقاع المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها التي يعيشون فيها عيش الأذلاء المستضعفين، بين مهاجرٍ يأكل خبزهم، ومستعمرٍ يشرب دمهم، ومبشرٍ يفتنهم عن دينهم، أو ينغص عليهم عيشهم بمشاغبتهم ومجادلتهم، والاستهزاء بعقائدهم وشعارهم، فإن لم يتعارفوا ويتعاقدوا على التعاون والتناصر تعاقدًا يأنسون به عند اشتداد الكربة، ويفزعون إليه من كَلَبِ الزمان وغدره، كان آتيهم شرًّا من حاضرهم، كما كان حاضرهم شرًّا من ماضيهم.
أنا لا أريد بالجامعة الإسلامية أن يجتمع المسلمون على قتال المخالفين لهم في دينهم، فقد مضى زمن القتل والقتال، بل أريد أنهم إن كانوا يحتفلون بالجامعة الجنسية أو الوطنية مرة — لأنها وسيلة دنياهم — فأَحْرَى بهم أن يحتفلوا بالجامعة الدينية ألف مرة؛ لأنها وسيلة دنياهم وأخراهم، وللآخرة خيرٌ وأبقى.