المستصفى/الجزء الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


بسم الله الرحمن الرحيم

[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الشُّرُوطِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ] ٌ: الْأَوَّلُ: الِاتِّصَالُ، فَمَنْ قَالَ: اضْرِبْ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَاعَةٍ إلَّا زَيْدًا، لَمْ يُعَدَّ هَذَا كَلَامًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِالْمُشْرِكِينَ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَّزَ تَأْخِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ النَّقْلُ إذْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْصِبِهِ، وَإِنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ إذَا نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ أَوَّلًا ثُمَّ أَظْهَرَ نِيَّتَهُ بَعْدَهُ فَيَدِينُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ فِيمَا نَوَاهُ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ مَا يَدِينُ فِيهِ الْعَبْدُ فَيُقْبَلُ ظَاهِرًا أَيْضًا فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ. أَمَّا تَجْوِيزُ التَّأْخِيرِ لَوْ أُجِيزَ عَلَيْهِ دُونَ هَذَا التَّأْوِيلِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ يَحْصُلُ بِهِ الْإِتْمَامُ، فَإِذَا انْفَصَلَ لَمْ يَكُنْ إتْمَامًا كَالشَّرْطِ، وَخَبَرِ الْمُبْتَدَإِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: اضْرِبْ زَيْدًا إذَا قَامَ فَهَذَا شَرْطٌ، فَلَوْ أَخَّرَ ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ شَهْرٍ: إذَا قَامَ، لَمْ يُفْهَمْ هَذَا الْكَلَامُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَصِيرَ شَرْطًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إلَّا زَيْدًا بَعْدَ شَهْرٍ لَا يُفْهَمُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَيْدٌ ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ شَهْرٍ: قَامَ لَمْ يُعَدَّ هَذَا خَبَرًا أَصْلًا. وَمِنْ هَهُنَا قَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: " إلَّا زَيْدًا " أَنِّي أُرِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ، حَتَّى يُفْهَمَ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يُغْنِي فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً. احْتَجُّوا بِجَوَازِ تَأْخِيرِ النَّسْخِ، وَأَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ، وَتَأْخِيرِ الْبَيَانِ. فَنَقُولُ: إنْ جَازَ الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ، وَالْخَبَرُ، وَلَا ذَاهِبَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ فِي اللُّغَاتِ، وَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِأَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ، وَقَوْلُهُ إلَّا زَيْدًا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَفْهُومًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إتْمَامًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ النَّاسَ إلَّا زَيْدًا، وَلَا تَقُولُ: رَأَيْتُ النَّاسَ إلَّا حِمَارًا. أَوْ تَسْتَثْنِي جُزْءًا مِمَّا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ الدَّارَ إلَّا بَابَهَا، وَرَأَيْتُ زَيْدًا إلَّا وَجْهَهُ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَابِ، وَلَا اسْمَ زَيْدٍ عَلَى وَجْهِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مِائَةُ ثَوْبٍ إلَّا ثَوْبًا، وَعَنْ هَذَا قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجِنْسِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ قَالَ: عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا صَحَّ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ إلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، وَلَكِنْ إذَا رُدَّ إلَى الْقِيمَةِ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّفَ رَدَّهُ إلَى الْجِنْسِ. وَقَدْ وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: {إلَّا إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً} [النساء: 92] اسْتَثْنَى الْخَطَأَ مِنْ الْعَمْدِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] ، وَقَالَ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ، وَالْإِخْرَاجِ إذْ الْمُسْتَثْنَى مَا كَانَ لِيَدْخُلَ تَحْتَ اللَّفْظِ أَصْلًا، وَمِنْ مُعْتَادِ كَلَامِ الْعَرَبِ: مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ إلَّا امْرَأَةً، وَمَا لَهُ ابْنٌ إلَّا ابْنَةً، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا إلَّا ثَوْرًا، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ ، وَقَالَ آخَرُ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

وَقَدْ تَكَلَّفَ قَوْمٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ جَوَابًا فَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَجَازٌ، وَهَذَا خِلَافُ اللُّغَةِ فَإِنَّ " إلَّا " فِي اللُّغَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي هَذَا اسْتِثْنَاءً، وَلَكِنْ تَقُولُ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَّزَ اسْتِثْنَاءَ الْمَكِيلِ مِنْ الْمَوْزُونِ، وَعَكْسَهُ، وَلَمْ يُجَوِّزْ اسْتِثْنَاءَ غَيْرِ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ مِنْهُمَا فِي الْأَقَارِيرِ، وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ، وَالْأَوْلَى التَّجْوِيزُ فِي الْأَقَارِيرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَارَ مُعْتَادًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَجَبَ قَبُولُهُ لِانْتِظَامِهِ، نَعَمْ اسْمُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ؟ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ حَقِيقَةٌ.، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَجَازٌ؛؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الثَّنْيِ تَقُولُ: ثَنَيْتُ زَيْدًا عَنْ رَأْيِهِ، وَثَنَيْتُ الْعِنَانَ، فَيُشْعِرُ الِاسْتِثْنَاءُ بِصَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ صَوْبِهِ الَّذِي كَانَ يَقْتَضِيهِ سِيَاقُهُ، فَإِذَا ذُكِرَ مَا لَا دُخُولَ لَهُ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ أَيْضًا فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَتَسْمِيَتُهُ اسْتِثْنَاءً تَجَوُّزٌ بِاللَّفْظِ عَنْ مَوْضِعِهِ فَتَكُونُ " إلَّا " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى " لَكِنْ ". الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا، فَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً لَزِمَتْهُ الْعَشَرَةُ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ الْإِقْرَارَ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْطُوقٍ بِهِ لَا يُرْفَعُ، وَلَكِنْ يُتَمَّمُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْجُزْءِ مِنْ الْكَلَامِ، وَكَمَا أَنَّ الشَّرْطَ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ فَالِاسْتِثْنَاءُ جُزْءٌ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ رَفْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى لِلْكَلَامِ مَعْنًى. أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ نُصِرْنَا فِي مَوَاضِعِ جَوَازِهِ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَقْبِحُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ، وَتَسْتَحْمِقُ قَوْلَ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، بَلْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُسْتَحْسَنُ اسْتِثْنَاءُ عَقْدٍ صَحِيحٍ بِأَنْ يَقُولَ: عِنْدِي مِائَةٌ إلَّا عَشَرَةً أَوْ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا بَلْ مِائَةٌ إلَّا خَمْسَةً، وَعَشَرَةٌ إلَّا دَانِقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] فَلَوْ بَلَغَ الْمِائَةَ لَقَالَ فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ كَسْرًا اسْتَثْنَاهُ. قَالَ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا نَدْرِي اسْتِقْبَاحَهُمْ اطِّرَاحٌ لِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ لُغَتِهِمْ أَوْ هُوَ كَرَاهَةٌ، وَاسْتِثْقَالٌ؟ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ كَرَاهَتُهُمْ، وَإِنْكَارُهُمْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَلَوْ جَازَ فِي هَذَا لَجَازَ فِي كُلِّ مَا أَنْكَرُوهُ، وَقَبَّحُوهُ مِنْ كَلَامِهِمْ. احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ، وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إذَا جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ، وَلَا قِيَاسَ فِي اللُّغَةِ. ثُمَّ كَيْفَ يُقَاسُ مَا كَرِهُوهُ، وَأَنْكَرُوهُ عَلَى مَا اسْتَحْسَنُوهُ؟ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ وَالْأَكْثَرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَقَلَّ وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَدُّوا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ ... ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالَا ، وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] أَيْ: قُمْ نِصْفَهُ، وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، وَقَوْلَ الشَّاعِرِ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، إذْ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: أَسْقَطْت تِسْعِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِائَةِ؛ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَالْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَكْرَهًا، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إلَّا دِرْهَمٌ، وَلَا سَبَبَ لَهُ إلَّا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا، كَقَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تُسْعَ سُدُسِ رُبْعِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ هَذَا قَبِيحٌ لَكِنْ يَصِحُّ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحْسَنُ اسْتِثْنَاءُ الْكَسْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَشَرَةٌ إلَّا أَرْبَعَةً فَلَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ بَلْ

رُبَّمَا يُسْتَنْكَرُ أَيْضًا، لَكِنَّ الِاسْتِنْكَارَ عَلَى الْأَكْثَرِ أَشَدُّ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ قِلَّةً ازْدَادَ حُسْنًا. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَعَقُّبِ الْجُمَلِ بِالِاسْتِثْنَاءِ] ِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَنْ قَذَفَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وَارْدُدْ شَهَادَتَهُ وَاحْكُمْ بِفِسْقِهِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ أَوْ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا، وَمَنْ دَخَلَ الدَّارَ أَوْ فَحَّشَ الْكَلَامَ، وَأَكَلَ الطَّعَامَ عَاقِبْهُ إلَّا مَنْ تَابَ. فَقَالَ قَوْمٌ: يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُقْصَرُ عَلَى الْأَخِيرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَحْتَمِلُ كِلَيْهِمَا، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ إلَى قِيَامِ دَلِيلٍ. وَحُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالشُّمُولِ ثَلَاثٌ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: اضْرِبْ الْجَمَاعَةَ الَّتِي مِنْهَا قَتَلَةٌ، وَسُرَّاقٌ، وَزُنَاةٌ إلَّا مَنْ تَابَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَاقِبْ مَنْ قَتَلَ، وَزَنَى، وَسَرَقَ إلَّا مَنْ تَابَ، فِي رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ. الِاعْتِرَاضُ: أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ، وَلَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ اللَّفْظَ الْمُتَفَاضِلَ الْمُتَعَدِّدَ كَاللَّفْظِ الْمُتَّحِدِ؟ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَ الِاسْتِثْنَاءِ عَقِيبَ كُلِّ جُمْلَةٍ نَوْعٌ مِنْ الْعِيِّ، وَاللُّكْنَةِ، كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلَ الدَّارَ فَاضْرِبْهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَإِنْ أَكَلَ فَاضْرِبْهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فَاضْرِبْهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَهَذَا مَا لَا يَسْتَنْكِرُ الْخَصْمُ اسْتِقْبَاحَهُ بَلْ يَقُولُ ذَلِكَ وَاجِبٌ لِتَعَرُّفِ شُمُولِ الِاسْتِثْنَاءِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت الطَّعَامَ، وَلَا دَخَلْتُ الدَّارَ، وَلَا كَلَّمْتُ زَيْدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ عَقِيبَ الْجُمَلِ يَرْجِعُ إلَيْهَا كَقَوْلِهِ: أَعْطِ الْعَلَوِيَّةَ، وَالْعُلَمَاءَ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، وَهَذَا مِمَّا لَا تُسَلِّمُهُ الْوَاقِفِيَّةُ بَلْ يَقُولُونَ: هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الشُّمُولِ، وَالِاقْتِصَارِ، وَالشَّكُّ كَافٍ فِي اسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فِي الْيَمِينِ، وَمَنْعِ الْإِعْطَاءِ إلَّا عِنْدَ الْإِذْنِ الْمُسْتَيْقَنِ، وَمَنْ سَلَّمَ مِنْ الْمُخَصِّصَةِ ذَلِكَ فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُجِيبَ بِإِظْهَارِ دَلِيلٍ فِقْهِيٍّ يَقْضِي فِي الشَّرْطِ خَاصَّةً دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَحُجَّةُ الْمُخَصِّصَةِ اثْنَتَانِ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ إنَّ الْمُعَمِّمِينَ عَمَّمُوا؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فَصَارَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَنَحْنُ إذَا خَصَّصْنَا بِالْأَخِيرِ جَعَلْنَاهَا مُسْتَقِلَّةً، وَهَذَا تَقْرِيرُ عِلَّةٍ لِلْخَصْمِ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُمْ لَا يُعَلِّلُونَ بِذَلِكَ. ثُمَّ عِلَّةُ عَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْ، وَهَذَا لَا يَنْدَفِعُ بِتَخْصِيصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ إطْلَاقُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مَعْلُومٌ، وَدُخُولُهُ تَحْتَ الِاسْتِئْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَا دَخَلَ فِيهِ إلَّا بِيَقِينٍ. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ إطْلَاقَ الْأَوَّلِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَمَا تَمَّ الْكَلَامُ حَتَّى أَرْدَفَ بِاسْتِثْنَاءٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ عِنْدَ الْمُعَمِّمِ، وَيُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ الْمُتَوَقِّفِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ رُجُوعُهُ إلَى الْأَخِيرِ بَلْ يَجُوزُ رُجُوعُهُ إلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ فَكَيْفَ نُسَلِّمُ الْيَقِينَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، وَيُسَلِّمُ أَكْثَرُهُمْ عُمُومَ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُمْ قَصْرُ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَيْقَنُ حُجَّةُ الْوَاقِفِيَّةِ: أَنَّهُ إذَا بَطَلَ التَّعْمِيمُ، وَالتَّخْصِيصُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ تَحَكَّمَ، وَرَأَيْنَا الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ، وَالْآخَرَ مَجَازٌ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ لَا مَحَالَةَ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ. وَهَذَا هُوَ الْأَحَقُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ رَفْعِ التَّوَقُّفِ، فَمَذْهَبُ الْمُعَمِّمِينَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَاوَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعَطْفِ

وَذَلِكَ يُوجِبُ نَوْعًا مِنْ الِاتِّحَادِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ " الْوَاوَ " مُحْتَمِلٌ أَيْضًا لِلِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 5] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَقُّفَ أَوْلَى أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْأَقْسَامُ كُلُّهَا مِنْ الشُّمُولِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَخِيرِ، وَالرُّجُوعِ إلَى بَعْضِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] لَا يَرْجِعُ إلَى الْجَلْدِ، وَيَرْجِعُ إلَى الْفِسْقِ، وَهَلْ يَرْجِعُ إلَى الشَّهَادَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ وقَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] يَرْجِعُ إلَى الْأَخِيرِ، وَهُوَ الدِّيَةُ؛؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِعْتَاقِ. وقَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] فَقَوْلُهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] يَرْجِعُ إلَى الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ} [النساء: 83] إلَى قَوْلِهِ: {إلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] فَهَذَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَتَّبِعَ الشَّيْطَانَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَشْمَلْهُ فَضْلُ اللَّهِ، وَرَحْمَتُهُ، فَقِيلَ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِهِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لِتَقْصِيرٍ، وَإِهْمَالٍ، وَغَلَطٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ: {أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأَخِيرِ، وَمَعْنَاهُ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَرَحْمَتُهُ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إلَّا قَلِيلًا قَدْ كَانَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْكُفْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، كَأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقَسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَوْحِيدِهِ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ قَبْلَهُ. الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الشَّرْطِ عَلَى الْكَلَامِ دُخُولُ الشَّرْطِ عَلَى الْكَلَامِ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ مَعَ عَدَمِهِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوجَدَ وُجُودَهُ، وَبِهِ يُفَارِقُ الْعِلَّةَ إذْ الْعِلَّةُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ الْمَعْلُولِ، وَالشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهُ. وَالشَّرْطُ عَقْلِيٌّ، وَشَرْعِيٌّ، وَلُغَوِيٌّ، وَالْعَقْلِيُّ كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ، وَالْعِلْمِ لِلْإِرَادَةِ، وَالْمَحَلِّ لِلْحَيَاةِ، إذْ الْحَيَاةُ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ، وَلَا يَلْزَمُ وُجُودُهَا بِوُجُودِ الْمَحَلِّ، وَالشَّرْعِيُّ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِحْصَانِ لِلرَّجْمِ، وَاللُّغَوِيُّ كَقَوْلِهِ: " إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ جِئْتنِي أَكْرَمْتُك " فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ فِي اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ اخْتِصَاصُ الْإِكْرَامِ بِالْمَجِيءِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يُكْرِمُهُ دُونَ الْمَجِيءِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ اشْتِرَاطًا، فَنُزِّلَ الشَّرْطُ مَنْزِلَةَ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَمَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ عَهْدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ فَيُغَيِّرُهُ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلَا الشَّرْطُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَجْعَلَهُ مُتَكَلِّمًا بِالْبَاقِي لَا أَنَّهُ مُخْرِجٌ مِنْ كَلَامِهِ مَا دَخَلَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِيهِ لَمَا خَرَجَ؛ نَعَمْ كَانَ يُقْبَلُ الْقَطْعُ فِي الدَّوَامِ بِطَرِيقِ النَّسْخِ، فَأَمَّا رَفْعُ مَا سَبَقَ دُخُولُهُ فِي الْكَلَامِ فَمُحَالٌ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّكِ عِنْدَ الدُّخُولِ طَالِقٌ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالطَّلَاقِ إلَّا بِالْإِضَافَةِ إلَى حَالِ الدُّخُولِ، أَمَّا أَنْ نَقُولَ: تَكَلَّمَ

بِالطَّلَاقِ عَامًّا مُطْلَقًا دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ثُمَّ أَخْرَجَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ أَوْ إنْ لَمْ يَكُونُوا ذِمِّيِّينَ، فَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ " مُتَنَاوِلٌ لِلْجَمِيعِ وَلِأَهْلِ الذِّمَّةِ لَكِنْ خَرَجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِخْرَاجِهِ بِالشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ. قُلْنَا: هُوَ كَذَلِكَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ الْإِخْرَاجُ بِالشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا، وَلَوْ قُدِرَ عَلَى الْإِخْرَاجِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْمُنْفَصِلِ، وَالْمُتَّصِلِ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُقْتَصَرْ، وَأُلْحِقَ بِهِ مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَإِتْمَامٌ لَهُ غَيَّرَ مَوْضُوعَ الْكَلَامِ فَجَعَلَهُ كَالنَّاطِقِ بِالْبَاقِي، وَدَفَعَ دُخُولَ الْبَعْضِ،، وَمَعْنَى الدَّافِعِ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ لَوْلَا الشَّرْطُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فَإِذَا لَحِقَا قَبْلَ الْوُقُوفِ دُفِعَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] لَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ إتْمَامِ الْكَلَامِ، فَإِذَا تَمَّ الْكَلَامُ كَانَ الْوَيْلُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ وُجِدَ فِيهِ شَرْطُ السَّهْوِ، وَالرِّيَاءِ لَا أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مُصَلٍّ ثُمَّ خَرَجَ الْبَعْضُ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطِ فَاعْلَمُوهُ تَرْشُدُوا. الْقَوْلُ فِي الْمُطْلَقِ، وَالْمُقَيَّدِ: اعْلَمْ أَنَّ التَّقْيِيدَ اشْتِرَاطٌ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ إنْ اتَّحَدَ الْمُوجِبُ، وَالْمُوجَبُ كَمَا لَوْ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَشُهُودٍ» ، وَقَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَلَوْ قَالَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ثُمَّ قَالَ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، فَيَكُونُ هَذَا اشْتِرَاطًا يُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْإِطْلَاقُ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى بَيْنَ الْخَاصِّ، وَالْعَامِّ تَقَابُلَ النَّاسِخِ، وَالْمَنْسُوخِ كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي مَعَ مَصِيرِهِ إلَى التَّعَارُضِ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ. أَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ كَالظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ فَقَالَ قَوْمٌ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى دَلِيلٍ، كَمَا لَوْ اتَّحَدَتْ الْوَاقِعَةُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مَحْضٌ يُخَالِفُ وَضْعَ اللُّغَةِ إذْ لَا يَتَعَرَّضُ الْقَتْلُ لِلظِّهَارِ فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْإِطْلَاقُ الَّذِي فِيهِ، وَالْأَسْبَابُ الْمُخْتَلِفَةُ تَخْتَلِفُ فِي الْأَكْثَرِ شُرُوطُ وَاجِبَاتِهَا؟ كَيْفَ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَنَاقُضٌ؟ فَإِنَّ الصَّوْمَ مُقَيَّدٌ بِالتَّتَابُعِ فِي الظِّهَارِ، وَالتَّفْرِيقِ فِي الْحَجِّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، وَمُطْلَقٌ فِي الْيَمِينِ فَلَيْتَ شِعْرِي عَلَى أَيِّ الْمُقَيَّدَيْنِ يُحْمَلُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَصْلًا، وَإِنْ قَامَ دَلِيلُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إذْ جَعَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا. ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا فِي كِتَابِ النَّسْخِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] لَيْسَ هُوَ نَصًّا فِي إجْزَاءِ الْكَافِرَةِ بَلْ هُوَ عَامٌّ يُعْتَقَدُ ظُهُورُهُ مَعَ تَجْوِيزِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى خُصُوصِهِ، أَمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ عُمُومُهُ قَطْعًا فَهَذَا خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ قَامَ دَلِيلٌ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الصَّحِيحُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يُطْلَبُ بِالْقِيَاسِ حُكْمُ مَا لَيْسَ مَنْطُوقًا بِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَمُقْتَضَاهَا إجْزَاءُ الْكَفَّارَةِ. قُلْنَا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَ الْكَفَّارَةِ مَنْطُوقًا بِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ إذْ لَيْسَ تَنَاوُلُ عُمُومِ الرَّقَبَةِ لَهُ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى: الْكَافِرَةِ، وَقَدْ كَشَفْنَا الْغِطَاءَ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي الْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ، وَلَوَاحِقِهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطِ، وَالتَّقْيِيدِ، وَبِهِ تَمَّ الْكَلَامُ فِي الْفَنِّ الْأَوَّلِ، وَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، وَالْوَضْعُ.

[الْفَنُّ الثَّانِي فِيمَا يُقْتَبَسُ مِنْ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ فَحْوَاهَا وَإِشَارَتُهَا وَهِيَ خَمْسَةُ أَضْرُبٍ] [الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مَا يُسَمَّى اقْتِضَاءً] الْفَنُّ الثَّانِي: فِيمَا يُقْتَبَسُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهَا بَلْ مِنْ حَيْثُ فَحْوَاهَا، وَإِشَارَتُهَا، وَهِيَ خَمْسَةُ أَضْرُبٍ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مَا يُسَمَّى اقْتِضَاءً، وَهُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَلَا يَكُونُ مَنْطُوقًا بِهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ إمَّا مِنْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ صَادِقًا إلَّا بِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَلْفُوظِ شَرْعًا إلَّا بِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ عَقْلًا إلَّا بِهِ. أَمَّا الْمُقْتَضَى الَّذِي هُوَ ضَرُورَةُ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ فَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» فَإِنَّهُ نَفَى الصَّوْمَ، وَالصَّوْمُ لَا يَنْتَفِي بِصُورَتِهِ، فَمَعْنَاهُ: لَا صِيَامَ صَحِيحٌ أَوْ كَامِلٌ، فَيَكُونُ حُكْمُ الصَّوْمِ هُوَ الْمَنْفِيَّ لَا نَفْسُهُ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْهُ لِتَحْقِيقِ صِدْقِ الْكَلَامِ، فَعَنْ هَذَا قُلْنَا لَا عُمُومَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ اقْتِضَاءً لَا لَفْظًا. وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُنْكِرُ الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ، وَيَقُولُ لَفْظُ الصَّوْمِ بَاقٍ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ فَيُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى إضْمَارِ الْحُكْمِ، أَمَّا مَنْ " جَعَلَهُ عِبَارَةً عَنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، فَيَكُونُ انْتِفَاؤُهُ بِطَرِيقِ النُّطْقِ لَا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، بَلْ مِثَالُهُ: لَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ «، وَرُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ» ، وَمَا سَبَقَتْ أَمْثِلَتُهُ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ، وَأَمَّا مِثَالُ مَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً لِتَصَوُّرِ الْمَنْطُوقِ بِهِ شَرْعًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَعْتِقْ عَبَدَك عَنِّي، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمِلْكَ، وَيَقْتَضِيهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ، لَكِنَّ الْعِتْقَ الْمَنْطُوقَ بِهِ شَرْطُ نُفُوذِهِ شَرْعًا تَقَدُّمُ الْمِلْكِ فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَشَارَ إلَى عَبْدِ الْغَيْرِ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأُعْتِقَنَّ هَذَا الْعَبْدَ، يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُ الْمِلْكِ فِيهِ إنْ أَرَادَ الْبِرَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لِضَرُورَةِ الْمُلْتَزِمِ. وَأَمَّا مِثَالُ مَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً لِتَصَوُّرِ الْمَنْطُوقِ بِهِ عَقْلًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إضْمَارَ الْوَطْءِ أَيْ: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَطْءُ أُمَّهَاتِكُمْ؛؛ لِأَنَّ الْأُمَّهَاتِ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَعْيَانِ، وَالْأَحْكَامُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ بَلْ لَا يُعْقَلُ تَعَلُّقُهَا إلَّا بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَاقْتَضَى اللَّفْظَ فِعْلًا وَصَارَ ذَلِكَ هُوَ الْوَطْءَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] أَيْ: الْأَكْلُ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ؛؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَهْلِ حَتَّى يُعْقَلَ السُّؤَالُ فَلَا بُدَّ مِنْ إضْمَارِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُلَقَّبَ هَذَا بِالْإِضْمَارِ دُونَ الِاقْتِضَاءِ، وَالْقَوْلُ فِي هَذَا قَرِيبٌ [الضَّرْبُ الثَّانِي مَا يُؤْخَذُ مِنْ إشَارَةِ اللَّفْظِ] ِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ إشَارَةِ اللَّفْظِ لَا مِنْ اللَّفْظِ، وَنَعْنِي بِهِ: مَا يَتَّسِعُ اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيدٍ قَصَدَ إلَيْهِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُفْهِمُ بِإِشَارَتِهِ، وَحَرَكَتِهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَفْسُ اللَّفْظِ فَيُسَمَّى إشَارَةً، فَكَذَلِكَ قَدْ يُتْبَعُ اللَّفْظُ مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ تَمَسُّكُ الْعُلَمَاءِ فِي تَقْدِيرِ أَقَلِّ الطُّهْرِ، وَأَكْثَرِ الْحَيْضِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ، وَدِينٍ فَقِيلَ: مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ فَقَالَ: تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي، وَلَا تَصُومُ» فَهَذَا إنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ نُقْصَانِ الدِّينِ، وَمَا وَقَعَ النُّطْقُ قَصْدًا إلَّا بِهِ لَكِنْ حَصَلَ بِهِ إشَارَةٌ إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَأَقَلِّ الطُّهْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فَوْقَ شَطْرِ الدَّهْرِ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ، إذْ لَوْ تَصَوَّرَ الزِّيَادَةَ لَتَعَرَّضَ لَهَا عِنْدَ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي نُقْصَانِ دِينِهَا، وَمِثَالُهُ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَنَجُّسِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنَجَاسَةٍ لَا تُغَيِّرُهُ

بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» إذْ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ يَقِينَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ لَكَانَ تَوَهُّمُهَا لَا يُوجِبُ الِاسْتِحْبَابَ. ، وَمِثَالُهُ تَقْدِيرُ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ، وَمِثَالُهُ الْمَصِيرُ إلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ فَأَصْبَحَ جُنُبًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة: 187] ، وَقَالَ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] ثُمَّ مَدَّ الرُّخْصَةَ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ، فَتُشْعِرُ الْآيَةُ بِجَوَازِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي آخِرَ اللَّيْلِ اسْتَأْخَرَ غُسْلُهُ إلَى النَّهَارِ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ الْوَطْءُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَتَّسِعُ لِلْغُسْلِ. فَهَذَا، وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَكْثُرُ، وَيُسَمَّى إشَارَةَ اللَّفْظِ. [الضَّرْبُ الثَّالِثُ فَهْمُ التَّعْلِيلِ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] فَإِنَّهُ كَمَا فُهِمَ وُجُوبُ الْقَطْعِ، وَالْجَلْدِ عَلَى السَّارِقِ، وَالزَّانِي، وَهُوَ الْمَنْطُوقُ بِهِ فُهِمَ كَوْنُ السَّرِقَةِ، وَالزِّنَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ، وَكَوْنُهُ عِلَّةً غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ لَكِنْ يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] أَيْ: لِبِرِّهِمْ، وَفُجُورِهِمْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ، وَالْمَدْحِ، وَالتَّرْغِيبِ، وَالتَّرْهِيبِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: ذُمَّ الْفَاجِرَ، وَامْدَحْ الْمُطِيعَ، وَعَظِّمْ الْعَالِمَ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعْلِيلُ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ بِهِ، وَهَذَا قَدْ يُسَمَّى إيمَاءً، وَإِشَارَةً كَمَا يُسَمَّى فَحْوَى الْكَلَامِ، وَلَحْنَهُ، وَإِلَيْك الْخِيَرَةُ فِي تَسْمِيَتِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى جِنْسِهِ، وَحَقِيقَتِهِ. [الضَّرْبُ الرَّابِعُ فَهْمُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ بِهِ مِنْ الْمَنْطُوقِ] بِدَلَالَةِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَمَقْصُودِهِ، كَفَهْمِ تَحْرِيمِ الشَّتْمِ، وَالْقَتْلِ، وَالضَّرْبِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] ، وَفَهْمِ تَحْرِيمِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَإِحْرَاقِهِ، وَإِهْلَاكِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] ، وَفَهْمِ مَا وَرَاءَ الذَّرَّةِ، وَالدِّينَارِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، وَقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ} [آل عمران: 75] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا أَكَلْت لَهُ بُرَّةً، وَلَا شَرِبْتُ لَهُ شَرْبَةً، وَلَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ حَبَّةً، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا وَرَاءَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. قُلْنَا: لَا حَجْرَ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ مُجَرَّدَ ذِكْرِ الْأَدْنَى لَا يُحَصِّلُ هَذَا التَّنْبِيهَ مَا لَمْ يُفْهَمْ الْكَلَامُ، وَمَا سِيقَ لَهُ، فَلَوْلَا مَعْرِفَتُنَا بِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِتَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ وَاحْتِرَامِهِمَا لَمَا فَهِمْنَا مَنْعَ الضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ مِنْ مَنْعِ التَّأْفِيفِ، إذْ قَدْ يَقُولُ السُّلْطَانُ إذَا أَمَرَ بِقَتْلِ مَلِكٍ: لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ لَكِنْ اُقْتُلْهُ، وَقَدْ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا أَكَلْت مَالَ فُلَانٍ، وَيَكُونُ قَدْ أَحْرَقَ مَالَهُ فَلَا يَحْنَثُ. فَإِنْ قِيلَ: الضَّرْبُ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى التَّأْفِيفِ؛ لِأَنَّ التَّأْفِيفَ إنَّمَا حُرِّمَ لِلْإِيذَاءِ، وَهَذَا الْإِيذَاءُ فَوْقَهُ. قُلْنَا: إنْ أَرَدْتَ بِكَوْنِهِ قِيَاسًا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى تَأَمُّلٍ، وَاسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ مَسْكُوتٌ فُهِمَ مِنْ مَنْطُوقٍ فَهُوَ صَحِيحٌ بِشَرْطِ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّهُ أَسْبَقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ أَوْ هُوَ مَعَهُ، وَلَيْسَ

مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَهَذَا قَدْ يُسَمَّى مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ، وَقَدْ يُسَمَّى فَحْوَى اللَّفْظِ وَلِكُلِّ فَرِيقٍ اصْطِلَاحٌ آخَرُ فَلَا تَلْتَفِتْ إلَى الْأَلْفَاظِ وَاجْتَهِدْ فِي إدْرَاكِ حَقِيقَةِ هَذَا الْجِنْسِ. [الضَّرْبُ الْخَامِسُ هُوَ الْمَفْهُومُ] ُ، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِدْلَال بِتَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَيُسَمَّى مَفْهُومًا؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مُجَرَّدٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى مَنْطُوقٍ، وَإِلَّا فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ أَيْضًا مَفْهُومٌ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ هَذَا دَلِيلَ الْخِطَابِ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى الْأَسَامِي، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا يُخَالِفُهُ فِي الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» «، وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» «، وَمَنْ بَاعَ نَخْلَةً مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ» فَتَخْصِيصُ الْعَمْدِ، وَالسَّوْمِ وَالثُّيُوبَةِ، وَالتَّأْبِيرِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا: إنَّهُ يَدُلُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ إذْ احْتَجَّ فِي إثْبَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ بِخِلَافِهِ. وَاحْتَجَّ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلًّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِهِمْ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٌ مِنْ حُذَّاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ ابْنُ شُرَيْحٍ: إنَّ ذَلِكَ لَا دَلَالَةَ لَهُ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ عِنْدَنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَالِكُ الْأَوَّلُ: أَنَّ إثْبَاتَ زَكَاةِ السَّائِمَةِ مَفْهُومٌ، أَمَّا نَفْيُهَا عَنْ الْمَعْلُوفَةِ اقْتِبَاسًا مِنْ مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِنَقْلٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مُتَوَاتِرٍ أَوْ جَارٍ مَجْرَى الْمُتَوَاتِرِ، وَالْجَارِي مَجْرَى الْمُتَوَاتِرِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ قَوْلَهُمْ " ضَرُوبٌ، وَقَتُولٌ "، وَأَمْثَالَهُ لِلتَّكْثِيرِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ عَلِيمٌ، وَأَعْلَمُ، وَقَدِيرٌ، وَأَقْدَرُ " لِلْمُبَالَغَةِ، أَعْنِي: الْأَفْعَلَ. أَمَّا نَقْلُ الْآحَادِ فَلَا يَكْفِي إذْ الْحُكْمُ عَلَى لُغَةٍ يُنَزَّلُ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ الْآحَادِ مَعَ جَوَازِ الْغَلَطِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ نَفَى الْمَفْهُومَ افْتَقَرَ إلَى نَقْلٍ مُتَوَاتِرٍ أَيْضًا. قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إلَى حُجَّةٍ فِيمَا لَمْ يَضَعُوهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى، إنَّمَا الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْوَضْعَ. الثَّانِي: حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: ضَرَبَكَ زَيْدٌ عَامِدًا فَاضْرِبْهُ حَسُنَ أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ ضَرَبَنِي خَاطِئًا أَفَأَضْرِبْهُ؟ ، وَإِذَا قَالَ: أَخْرِجْ الزَّكَاةَ مِنْ مَاشِيَتِكَ السَّائِمَةِ حَسُنَ أَنْ يَقُولَ: هَلْ أُخْرِجُهَا مِنْ الْمَعْلُوفَةِ، وَحُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَفْهُومٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي الْمَنْطُوقِ، وَحَسُنَ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: حَسُنَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ مَجَازًا. قُلْنَا: الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُرَدُّ إلَى الْمَجَازِ بِضَرُورَةِ دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ. الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّا نَجِدُهُمْ يُعَلِّقُونَ الْحُكْمَ عَلَى الصِّفَةِ تَارَةً مَعَ مُسَاوَاةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِلْمَنْطُوقِ، وَتَارَةً مَعَ الْمُخَالَفَةِ فَالثُّبُوتُ لِلْمَوْصُوفِ مَعْلُومٌ مَنْطُوقٌ، وَالنَّفْيُ عَنْ الْمَسْكُوتِ مُحْتَمَلٌ، فَلْيَكُنْ عَلَى الْوَقْفِ إلَى الْبَيَانِ بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ، وَدَلِيلٍ آخَرَ. أَمَّا دَعْوَى كَوْنِهِ مَجَازًا عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَتَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُعَارِضُهُ عَكْسُهُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ. الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْخَبَرَ عَنْ ذِي الصِّفَةِ لَا يَنْفِي غَيْرَ الْمَوْصُوفِ، فَإِذَا قَالَ: قَامَ

الْأَسْوَدُ أَوْ خَرَجَ أَوْ قَعَدَ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِهِ عَلَى الْأَبْيَضِ بَلْ هُوَ سُكُوتٌ عَنْ الْأَبْيَضِ، وَإِنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَانِعٌ، وَقَدْ قِيلَ بِهِ لَزِمَهُ تَخْصِيصُ اللَّقَبِ، وَالِاسْمِ الْعَلَمِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُكَ رَأَيْتُ زَيْدًا نَفْيًا لِلرُّؤْيَةِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا قَالَ: رَكِبَ زَيْدٌ، دَلَّ عَلَى نَفْيِ الرُّكُوبِ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَبِعَ هَذَا بَعْضُهُمْ، وَهُوَ بُهْتٌ، وَاخْتِرَاعٌ عَلَى اللُّغَاتِ كُلِّهَا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: رَأَيْتُ زَيْدًا لَا يُوجِبُ نَفْيَ رُؤْيَتِهِ عَنْ ثَوْبِ زَيْدٍ، وَدَابَّتِهِ، وَخَادِمِهِ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ؛ إذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: زَيْدٌ عَالِمٌ " كُفْرًا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلْعِلْمِ عَنْ اللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَقَوْلُهُ عِيسَى نَبِيُّ اللَّهِ " كُفْرًا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلنُّبُوَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا قِيَاسُ الْوَصْفِ عَلَى اللَّقَبِ، وَلَا قِيَاسَ فِي اللُّغَةِ. قُلْنَا: مَا قَصَدْنَا بِهِ إلَّا ضَرْبَ مِثَالٍ لِيُتَنَبَّهَ بِهِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ الصِّفَةَ لِتَعْرِيفِ الْمَوْصُوفِ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ لِتَعْرِيفِ الْأَشْخَاصِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: " فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ " فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ الْبَقَرِ، وَالْإِبِلِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفِ. الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: أَنَّا كَمَا أَنَّا لَا نَشُكُّ فِي أَنَّ لِلْعَرَبِ طَرِيقًا إلَى الْخَبَرِ عَنْ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ، وَاثْنَيْنِ، وَثَلَاثَةٍ اقْتِصَارًا عَلَيْهِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ الْبَاقِي، فَلَهَا طَرِيقٌ أَيْضًا فِي الْخَبَرِ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِصِفَةٍ فَتَقُولُ: رَأَيْتُ الظَّرِيفَ، وَقَامَ الطَّوِيلُ، وَنَكَحْتُ الثَّيِّبَ، وَاشْتَرَيْتُ السَّائِمَةَ، وَبِعْتُ النَّخْلَةَ الْمُؤَبَّرَةَ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: نَكَحْتُ الْبِكْرَ أَيْضًا، وَاشْتَرَيْتُ الْمَعْلُوفَةَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلْأَوَّلِ، وَرَفْعًا لَهُ، وَتَكْذِيبًا لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَا نَكَحْتُ الثَّيِّبَ، وَمَا اشْتَرَيْتُ السَّائِمَةَ، وَلَوْ فُهِمَ النَّفْيُ كَمَا فُهِمَ الْإِثْبَاتُ لَكَانَ الْإِثْبَاتُ بَعْدَهُ تَكْذِيبًا، وَمُضَادًّا لِمَا سَبَقَ. وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ بِمَسَالِكَ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ جُمْلَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَقَدْ قَالَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَقَدْ قَالَ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ» فَقَالَ: دَلِيلُهُ أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِوَاجِدٍ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» فَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الْهِجَاءَ، وَالسَّبَّ أَوْ هَجْوَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: ذَلِكَ حَرَامٌ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ امْتَلَأَ بِهِ الْجَوْفُ أَوْ قَصُرَ، فَتَخْصِيصُهُ بِالِامْتِلَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُ بِخِلَافِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ لِلشِّعْرِ لَيْسَ مُرَادًا بِهَذَا الْوَعِيدِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا إنْ قَالَاهُ عَنْ اجْتِهَادٍ فَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُمَا، وَقَدْ صَرَّحَا بِالِاجْتِهَادِ إذْ قَالَا: لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى النَّفْيِ لَمَا كَانَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ.، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مُعَرَّضٌ لِلِاعْتِرَاضِ كَمَا سَيَأْتِي، فَلَيْسَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَتُهُ عَنْ الْخَطَإِ فِيمَا يَظُنُّهُ بِأَهْلِ اللُّغَةِ، وَبِالرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَ مَا قَالَاهُ عَنْ نَقْلٍ فَلَا يَثْبُتُ هَذَا بِقَوْلِ الْآحَادِ، وَيُعَارِضُهُ أَقْوَالُ جَمَاعَةٍ أَنْكَرُوهُ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِنَقْلِ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، وَالْآرَاءِ فَإِنَّهُمْ يَمِيلُونَ إلَى نُصْرَةِ مَذَاهِبِهِمْ فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِمْ الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا

السَّبْعِينَ بِخِلَافِهِ، وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فِي إثْبَاتِ اللُّغَةِ،، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَذِكْرُ السَّبْعِينَ جَرَى مُبَالَغَةً فِي الْيَأْسِ، وَقَطْعِ الطَّمَعِ عَنْ الْغُفْرَانِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اشْفَعْ أَوْ لَا تَشْفَعْ، وَإِنْ شَفَعْت لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً لَمْ أَقْبَلْ مِنْكَ شَفَاعَتَكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: «لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» ، وَلَمْ يَقُلْ لِيُغْفَرَ لَهُمْ، فَمَا كَانَ ذَلِكَ لِانْتِظَارِ الْغُفْرَانِ بَلْ لَعَلَّهُ لِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ لِمَا رَأَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِمْ وَلِتَرْغِيبِهِمْ فِي الدِّينِ لَا لِانْتِظَارِ غُفْرَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْيَأْسِ، وَقَطْعِ الطَّمَعِ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَخْصِيصَ نَفْيِ الْمَغْفِرَةِ بِالسَّبْعِينَ أَدَلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ السَّبْعِينَ أَوْ عَلَى وُقُوعِهِ، فَإِنْ قُلْتُمْ عَلَى وُقُوعِهِ فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قُلْتُمْ عَلَى جَوَازِهِ فَقَدْ كَانَ الْجَوَازُ ثَابِتًا بِالْعَقْلِ قَبْلَ الْآيَةِ فَانْتَفَى الْجَوَازُ الْمُقَدَّرُ بِالسَّبْعِينَ، وَالزِّيَادَةُ ثَبَتَ جَوَازُهَا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا بِالْمَفْهُومِ. الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ لَهُمْ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» فَلَوْ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ الْمَاءِ عَنْ غَيْرِ الْمَاءِ لَمَا كَانَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ نَسْخًا لَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ وُجُوبُهُ بِالْمَاءِ بَلْ انْحِصَارُهُ عَلَيْهِ، وَاخْتِصَاصُهُ بِهِ، وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا نَقْلُ آحَادٍ، وَلَا تَثْبُتُ بِهِ اللُّغَةُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ عَنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ لَا عَنْ كَافَّةِ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُمْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ كُلَّ الْمَاءِ مِنْ الْمَاءِ، فَفَهِمُوا مِنْ لَفْظِ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا الْعُمُومَ، وَالِاسْتِغْرَاقَ لِجِنْسِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَفَهِمُوا أَخِيرًا كَوْنَ خَبَرِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ نَسْخًا لِعُمُومِ الْأَوَّلِ لَا لِمَفْهُومِهِ، وَدَلِيلِ خِطَابِهِ، وَكُلُّ عَامٍّ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ فَالْخَاصُّ بَعْدَهُ يَكُونُ نَسْخًا لِبَعْضِهِ، وَيَتَقَابَلَانِ إنْ اتَّحَدَتْ الْوَاقِعَةُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا مَاءَ إلَّا مِنْ الْمَاءِ» ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِطَرَفَيْ النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ أَتَى بَابَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عَجَّلْت عَجَّلْت، وَلَمْ تُنْزِلْ فَلَا تَغْتَسِلْ فَالْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالنَّفْيِ فَرَأَوْا خَبَرَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ نَاسِخًا لِمَا فُهِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةٍ: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ: إنَّ هَذَا لِلْحَصْرِ، وَالنَّفْي، وَالْإِثْبَاتِ، وَلَا مَفْهُومَ لِلَّقَبِ، وَالْمَاءُ اسْمُ لَقَبٍ فَدَلَّ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَصْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَقَوْلُهُ: " إنَّمَا "، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّ الْمَنْسُوخَ مَفْهُومُ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَعَلَّ الْمَنْسُوخَ عُمُومُهُ أَوْ حَصْرُهُ الْمَعْلُومُ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ، وَالْكَلَامُ فِي مُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ. الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ «يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا بَالُنَا نَقْصُرُ، وَقَدْ أَمِنَّا؟ فَقَالَ: تَعَجَّبْتُ مِمَّا تَعَجَّبْتَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ - أَوْ عَلَى عِبَادِهِ - فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ، وَتَعَجُّبُهُمَا مِنْ بُطْلَانِ مَفْهُومِ تَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى: {إنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] قُلْنَا: لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ، وَاسْتَثْنَى حَالَةَ الْخَوْفِ فَكَانَ الْإِتْمَامُ وَاجِبًا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لَا بِالتَّخْصِيصِ

الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» نَفْيَ رِبَا الْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ عَقَلَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ أَخَوَانِ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، وَكَذَلِكَ قَالَ: " الْأَخَوَاتُ لَا يَرِثْنَ مَعَ الْأَوْلَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لَهَا النِّصْفَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ دَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ دَلَّ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ دَلَّ مَذْهَبُهُمْ عَلَى نَقِيضِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ دَفَعَ رِبَا الْفَضْلِ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ بَلْ رُبَّمَا دَفَعَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَقَرِينَةٍ أُخْرَى. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْبَيْعَ أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ قَاصِرًا عَلَى النَّسِيئَةِ كَانَ الْبَاقِي حَلَالًا بِالْعُمُومِ، وَدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا بِالْمَفْهُومِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي النَّفْي، وَالْإِثْبَاتِ، وَقَوْلُهُ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» أَيْضًا قَدْ أَقَرَّ بِهِ بَعْضُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَصْرِ. الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا أَسْوَدَ، يُفْهَمُ نَفْيُ الْأَبْيَضِ، وَإِذَا قَالَ: اضْرِبْهُ إذَا قَامَ: يُفْهَمُ الْمَنْعُ إذَا لَمْ يَقُمْ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ، بَلْ الْأَصْلُ مَنْعُ الشِّرَاءِ، وَالضَّرْبِ إلَّا فِيمَا أَذِنَ، وَالْإِذْنُ قَاصِرٌ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى النَّفْيِ، وَتَوَلَّدَ مِنْهُ دَرْكُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَبْيَضِ، وَالْأَسْوَدِ، وَعِمَادُ الْفَرْقِ إثْبَاتٌ، وَنَفْيٌ، وَمُسْتَنَدُ النَّفْيِ الْأَصْلُ، وَمُسْتَنَدُ الْإِثْبَاتِ الْإِذْنُ الْقَاصِرُ، وَالذِّهْنُ إنَّمَا يَتَنَبَّهُ لِلْفَرْقِ عِنْدَ الْإِذْنِ الْقَاصِرِ عَلَى الْأَسْوَدِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْأَبْيَضَ، فَيَسْبِقُ إلَى الْأَوْهَامِ الْعَامِّيَّةِ أَنَّ إدْرَاكَ الذِّهْنِ هَذَا الِاخْتِصَاصَ، وَالْفَرْقَ مِنْ الذِّكْرِ الْقَاصِرِ لَا بَلْ هُوَ عِنْدَ الذِّكْرِ الْقَاصِرِ لَكِنَّ أَحَدَ طَرَفَيْ الْفَرْقِ حَصَلَ مِنْ الذِّكْرِ، وَالْآخَرَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَصْلِ، فَيَذْكُرُهُ عِنْدَ التَّخْصِيصِ فَكَانَ حُصُولُ الْفَرْقِ عِنْدَهُ لَا بِهِ؛ فَهَذَا مَزَلَّةُ الْقَدَمِ، وَهُوَ دَقِيقٌ وَلِأَجْلِهِ غَلِطَ الْأَكْثَرُونَ. ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ عَلَى الْبَيْعِ شَاةً، وَبَقَرَةً، وَغَانِمًا، وَسَالِمًا، وَقَالَ: اشْتَرِ غَانِمًا، وَالشَّاةَ لَسَبَقَ إلَى الْفَهْمِ الْفَرْقُ بَيْنَ غَانِمٍ، وَسَالِمٍ، وَبَيْنَ الْبَقَرَةِ، وَالشَّاةِ، وَاللَّقَبُ لَا مَفْهُومَ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ كُلِّ مُحَصَّلٍ إذْ قَوْلُهُ: «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ» لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ دَلَّ لَانْحَسَمَ بَابُ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ فَائِدَتُهُ إبْطَالُ التَّخْصِيصِ، وَتَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْمَنْصُوصِ إلَى غَيْرِهِ؛ لَكِنَّ مَزَلَّةَ الْقَدَمِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ جَارٍ فِي كُلِّ مَا يَتَضَمَّنُ الِاقْتِطَاعَ مِنْ أَصْلٍ ثَابِتٍ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ؛ فَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الطَّلَاقِ لَا لِتَخْصِيصِ الدُّخُولِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ فَلَسْتِ بِطَالِقٍ، فَلَا يَقَعُ إذَا لَمْ تَدْخُلْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَصْلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ حَتَّى يَكُونَ تَخْصِيصُ النَّفْيِ بِالدُّخُولِ مُوجِبًا لِلرُّجُوعِ إلَى الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. الْمَسْلَكُ السَّابِعُ: وَعَلَيْهِ تَعْوِيلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي وُقُوعِ هَذَا الْوَهْمِ: أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ فَإِنْ اسْتَوَتْ السَّائِمَةُ، وَالْمَعْلُوفَةُ، وَالثَّيِّبُ، وَالْبِكْرُ، وَالْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ فَلِمَ خَصَّصَ الْبَعْضَ بِالذِّكْرِ، وَالْحُكْمُ شَامِلٌ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْبَيَانِ تَعُمُّ

الْقِسْمَيْنِ فَلَا دَاعِيَ لَهُ إلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ، وَإِلَّا صَارَ الْكَلَامُ لَغْوًا، وَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا عَكْسُ الْوَاجِبِ، فَإِنَّكُمْ جَعَلْتُمْ طَلَبَ الْفَائِدَةِ طَرِيقًا إلَى مَعْرِفَةِ وَضْعِ اللَّفْظِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ أَوَّلًا الْوَضْعُ ثُمَّ تُرَتَّبُ الْفَائِدَةُ عَلَيْهِ،، وَالْعِلْمُ بِالْفَائِدَةِ ثَمَرَةُ مَعْرِفَةِ الْوَضْعِ أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَضْعُ تَبَعَ مَعْرِفَةِ الْفَائِدَةِ فَلَا. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عِمَادَ هَذَا الْكَلَامِ أَصْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ، وَالنَّتِيجَةُ أَنَّهُ الْفَائِدَةُ إذًا، وَمُسَلَّمٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَائِدَةٍ؛ لَكِنَّ الْأَصْلَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا هَذَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ فَلَعَلَّ فِيهِ فَائِدَةً، فَلَيْسَتْ الْفَائِدَةُ مَحْصُورَةً فِي هَذَا بَلْ الْبَوَاعِثُ عَلَى التَّخْصِيصِ كَثِيرَةٌ، وَاخْتِصَاصُ الْحُكْمِ أَحَدُ الْبَوَاعِثِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ لَهُ فَائِدَةٌ أَوْ عَلَيْهِ بَاعِثٌ سِوَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ لَعَرَفْنَاهُ. قُلْنَا وَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ كُلَّ فَائِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لَكُمْ؟ فَلَعَلَّهَا حَاضِرَةٌ، وَلَمْ تَعْثُرُوا عَلَيْهَا، فَكَأَنَّمَا جَعَلْتُمْ عَدَمَ عِلْمِ الْفَائِدَةِ عِلْمًا بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ فَعِمَادُ هَذَا الدَّلِيلِ هُوَ الْجَهْلُ بِفَائِدَةٍ أُخْرَى. الثَّالِثُ وَهُوَ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ عَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ: أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّقَبِ لَا يَقُولُ بِهِ مُحَصِّلٌ فَلِمَ لَمْ تَطْلُبُوا الْفَائِدَةَ فِيهِ؟ فَإِذَا خَصَّصَ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ فِي الرِّبَا، وَعَمَّمَ الْحُكْمَ فِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَطْعُومَاتِ كُلِّهَا، وَخَصَّصَ الْغَنَمَ بِالزَّكَاةِ مَعَ وُجُوبِهَا فِي الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ فَمَا سَبَبُهُ مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ؟ فَيُقَالُ: لَعَلَّ إلَيْهِ دَاعِيًا مِنْ سُؤَالٍ أَوْ حَاجَةٍ أَوْ سَبَبٍ لَا نَعْرِفُهُ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِي تَخْصِيصِ الْوَصْفِ. الرَّابِعُ: أَنَّ فِي تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ فَوَائِدَ. الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَحَلِّ الْحُكْمِ لَمْ يَبْقَ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ فَأَرَادَ بِتَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَلْقَابِ، وَالْأَوْصَافِ بِالذِّكْرِ أَنْ يُعَرِّضَ الْمُجْتَهِدِينَ لِثَوَابٍ جَزِيلٍ فِي الِاجْتِهَادِ إذْ بِذَلِكَ تَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الْعِلْمِ، وَيَدُومُ الْعِلْمُ مَحْفُوظًا بِإِقْبَالِهِمْ، وَنَشَاطِهِمْ فِي الْفِكْرِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَوْلَا هَذَا لَذَكَرَ لِكُلِّ حُكْمٍ رَابِطَةً عَامَّةً جَامِعَةً لِجَمِيعِ مَجَارِي الْحُكْمِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْقِيَاسِ مَجَالٌ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ "، وَلَمْ يُخَصِّصْ السَّائِمَةَ لَجَازَ لِلْمُجْتَهِدِ إخْرَاجُ السَّائِمَةِ عَنْ الْعُمُومِ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَنْقَدِحُ لَهُ، فَخَصَّ السَّائِمَةَ بِالذِّكْرِ لِتُقَاسَ الْمَعْلُوفَةُ عَلَيْهَا إنْ رَأَى أَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا أَوْ لَا تَلْحَقُ بِهَا فَتَبْقَى السَّائِمَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ " رُبَّمَا أَدَّى اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ إلَى إخْرَاجِ الْبُرِّ، وَالتَّمْرِ، فَنَصَّ عَلَى مَا لَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ، وَتَرَكَ مَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَى الِاجْتِهَادِ لَا سِيَّمَا، وَلَوْ ذُكِرَ الطَّعَامُ أَوْ الْغَنَمُ، وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ لَصَارَ عِنْدَ الْوَاقِفِيَّةِ مُحْتَمِلًا لِلْعُمُومِ وَلِلْبُرِّ خَاصَّةً أَوْ التَّمْرِ خَاصَّةً وَلِلْمَعْلُوفَةِ خَاصَّةً وَلِلسَّائِمَةِ خَاصَّةً، فَأَخْرَجَ الْمَخْصُوصَ عَنْ مَحَلِّ الْوَقْفِ، وَالشَّكِّ وَرَدَّ الْبَاقِيَ إلَى الِاجْتِهَادِ لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ اللُّطْفِ، وَالصَّلَاحِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى التَّخْصِيصِ لِلْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عُمُومَ وُقُوعٍ أَوْ خُصُوصَ سُؤَالٍ أَوْ وُقُوعَ وَاقِعَةٍ أَوْ اتِّفَاقَ مُعَامَلَةٍ فِيهَا خَاصَّةٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابٍ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهَا، فَعَدَمُ عِلْمِنَا بِذَلِكَ لَا يُنَزَّلُ بِمَنْزِلَةِ عِلْمِنَا بِعَدَمِ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ: لَعَلَّ إلَيْهِ دَاعِيًا لَمْ نَعْرِفْهُ فَكَذَلِكَ فِي الْأَوْصَافِ. الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُمْ إنَّ التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ كَالتَّعْلِيقِ بِالْعِلَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الثُّبُوتَ بِثُبُوتِ الْعِلَّةِ، وَالِانْتِفَاءَ بِانْتِفَائِهَا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْعِلَّةِ، وَالصِّفَةُ وَاحِدَةٌ فَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ ثُبُوتَهُ بِثُبُوتِهَا أَمَّا انْتِفَاؤُهُ بِانْتِفَائِهَا فَلَا بَلْ يَبْقَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا

يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ، وَكَيْفَ، وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ؟ فَلَوْ كَانَ إيجَابُ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ نَافِيًا لِلْقَتْلِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا لَكَانَ إيجَابُ الْقِصَاصِ نَسْخًا لِذَلِكَ النَّفْيِ، بَلْ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْعِلَّةِ مَعْرِفَةُ الرَّابِطَةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مِنْ فَائِدَتِهِ أَيْضًا تَعْدِيَةُ الْعِلَّةِ مِنْ مَحَلِّهَا إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا فَإِنَّ ذَلِكَ عُرِفَ بِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ لِشِدَّتِهَا، لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ الْمُشْتَدِّ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ شِدَّةَ الْخَمْرِ خَاصَّةً إلَى أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ، وَتَعَبَّدَ بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْمَحَلِّ. الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ: اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَخْصِيصَاتٍ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ خَالَفَ الْمَوْصُوفُ فِيهَا غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَسَبِيلُ الْجَوَابِ عَنْ جَمِيعِهَا إمَّا لِبَقَائِهَا عَلَى الْأَصْلِ أَوْ مَعْرِفَتِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ أَوْ بِقَرِينَةٍ، وَلَوْ دَلَّ مَا ذَكَرُوهُ لَدَلَّتْ تَخْصِيصَاتٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ لَا أَثَرَ لَهَا عَلَى نَقِيضِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إذْ يَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] إذْ تَجِبُ عَلَى الْعَامِدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَوْلِهِ: {فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ فِي الْخُلْعِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» إلَى أَمْثَالٍ لَهُ لَا تُحْصَى. [الْقَوْلُ فِي دَرَجَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ] ِ اعْلَمْ أَنَّ تَوَهُّمَ النَّفْيِ مِنْ الْإِثْبَاتِ عَلَى مَرَاتِبَ، وَدَرَجَاتٍ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: الْأُولَى وَهِيَ أَبْعَدُهَا، وَقَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِهَا كُلُّ مُحَصِّلٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ كَتَخْصِيصِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فِي الرِّبَا. الثَّانِيَةُ: الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ الدَّالُّ عَلَى جِنْسٍ، كَقَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» ، وَهَذَا أَيْضًا يَظْهَرُ إلْحَاقُهُ بِاللَّقَبِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ لَقَبٌ لِجِنْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِمَّا يُطْعَمُ، إذْ لَا تُدْرَكُ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: «فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَفِي الْمَاشِيَةِ زَكَاةٌ» وَإِنْ كَانَتْ الْمَاشِيَةُ مُشْتَقَّةً مَثَلًا. الثَّالِثَةُ: تَخْصِيصُ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ، وَتَزُولُ، كَقَوْلِهِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» «وَالسَّائِمَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ» فَلِأَجْلِ أَنَّ السَّوْمَ يَطْرَأُ، وَيَزُولُ رُبَّمَا يَتَقَاضَى الذِّهْنُ طَلَبَ سَبَبِ التَّخْصِيصِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ حَمَلَهُ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَمَنْشَؤُهُ الْجَهْلُ بِمَعْرِفَةِ الْبَاعِثِ عَلَى التَّخْصِيصِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يُذْكَرَ الِاسْمُ الْعَامُّ ثُمَّ تُذْكَرَ الصِّفَةُ الْخَاصَّةُ فِي مَعْرَضِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَالْبَيَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ، وَكَقَوْلِهِ: «مَنْ بَاعَ نَخْلَةً مُؤَبَّرَةً فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ» «وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْحَرْبِيِّينَ» ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْغَنَمَ، وَالنَّخْلَةَ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ عَامَّةٌ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَعُمُّهَا لَمَا أَنْشَأَ بَعْدَهُ اسْتِدْرَاكًا، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إلَى سَبَبِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ سِوَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ لَمْ نَعْرِفْهُ. وَوَجْهُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّقَبِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ ذِكْرُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ، فَهَذَا احْتِمَالٌ، وَهُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ غَيْرِ

الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الْبِكْرِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِلثَّيِّبِ أَبْعَدُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الصِّفَةِ بِذِكْرِ ضِدِّهَا يُضْعِفُ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَصَارَ احْتِمَالُ الْمَفْهُومِ أَظْهَرَ، وَعِنْدَ الِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ انْقَطَعَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِالْكُلِّيَّةِ فَظَهَرَ احْتِمَالُ الْمَفْهُومِ لِانْحِسَامِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ، لَكِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ احْتِمَالَاتٌ دَاعِيَةٌ إلَى التَّخْصِيصِ، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْهَا فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا لَا يُعْلَمُ فَيُنْظَرُ إلَى لَفْظِهِ. ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْغَنَمِ السَّائِمَةِ، وَالنَّخْلَةِ الْمُؤَبَّرَةِ فَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، وَغَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: فِي السَّائِمَةِ، وَفِي الْمُؤَبَّرَةِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ. الْخَامِسَةُ: الشَّرْطُ، وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إنْ كَانَ كَذَا فَافْعَلْ كَذَا، وَ «إنْ جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ، وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ شُرَيْحٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَفْهُومِ إلَى أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي إنْكَارُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ؛؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَقَطْ، فَيَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، أَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِهِ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى الْوُجُودِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَبَيْنَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى النَّفْيِ، فَيَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِشَرْطَيْنِ كَمَا يَجُوزُ بِعِلَّتَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: اُحْكُمْ بِالْمَالِ لِلْمُدَّعِي إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَاحْكُمْ لَهُ بِالْمَالِ إنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ، لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالشَّاهِدِ، وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ، وَالشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ نَسْخًا لَهُ، وَرَفْعًا لِلنَّصِّ أَصْلًا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَوَّزْنَاهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] أَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ مَفْهُومَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ نُوَافِقَ الشَّافِعِيَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ خَالَفْنَاهُ فِي الْمَفْهُومِ مِنْ حَيْثُ إنَّ انْقِطَاعَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ، وَالْحَامِلُ هِيَ الْمُسْتَثْنَى، فَيَبْقَى الْحَائِلُ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ، وَانْتَفَتْ نَفَقَتُهَا لَا بِالشَّرْطِ؛ لَكِنْ بِانْتِفَاءِ النِّكَاحِ الَّذِي كَانَ عِلَّةَ النَّفَقَةِ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ، وَ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» ، وَ «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَ «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَهَذَا قَدْ أَصَرَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَفْهُومِ عَلَى إنْكَارِهِ، وَقَالُوا: إنَّهُ إثْبَاتٌ فَقَطْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَأَقَرَّ الْقَاضِي بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْكِيدِ إذْ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] ، وَ {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ، وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُ: إنَّمَا النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ فِي الْبَلَدِ زَيْدٌ يُرِيدُ بِهِ الْكَمَالَ، وَالتَّأْكِيدَ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَيْضًا، وَلَكِنْ خَصَّصَ الْقَاضِي هَذَا بِقَوْلِهِ: " إنَّمَا "، وَلَمْ يُطْرِدْهُ فِي قَوْلِهِ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَ «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» ، وَ «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، وَالْعَالِمُ فِي الْبَلَدِ زَيْدٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا يُلْحَقُ بِقَوْلِهِ " إنَّمَا "، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ لَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ أَيْضًا، فَإِنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ صَدِيقِي، وَبَيْنَ قَوْلِهِ؛ صَدِيقِي زَيْدٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ زَيْدٌ عَالِمٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: الْعَالِمُ زَيْدٌ. وَهَذَا التَّحْقِيقُ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ الْمُبْتَدَإِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ؛ فَإِذَا جَعَلَ زَيْدًا مُبْتَدَأ، وَقَالَ زَيْدٌ صَدِيقِي، جَازَ أَنْ تَكُونَ الصَّدَاقَةُ

أَعَمَّ مِنْ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ أَخَصَّ مِنْ الصَّدِيقِ؛؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ الْخَبَرِ، أَمَّا إذَا جَعَلَ الصَّدِيقَ مُبْتَدَأً فَقَالَ: صَدِيقِي زَيْدٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ آخَرُ كَانَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ مِنْ الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ أَخَصَّ، وَكَانَ كَقَوْلِهِ: اللَّوْنُ سَوَادٌ، وَالْحَيَوَانُ إنْسَانٌ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ كَانَ عَكْسُهُ جَائِزًا. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: صَدِيقِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو أَيْضًا، وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلِمَنْ كَاتَبَ وَلِمَنْ بَاعَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ، وَلَوْ كَانَ لِلْحَصْرِ لَكَانَ هَذَا نَقْضًا لَهُ. قُلْنَا: هُوَ لِلْحَصْرِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُهُ، كَمَا أَنَّ الْعَشَرَةَ لِمَعْنَاهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَّصِلَ بِهَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَقَوْلُهُ: {فاُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ظَاهِرٌ فِي الْجَمِيعِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقُولَ إلَّا زَيْدًا. السَّابِعَةُ: مَدُّ الْحُكْمِ إلَى غَايَةٍ بِصِيغَةِ " إلَى "، وَ " حَتَّى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] ، وَقَدْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِ هَذَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَفْهُومِ، وَقَالُوا: هَذَا نُطْقٌ بِمَا قَبْلَ الْغَايَةِ، وَسُكُوتٌ عَمَّا بَعْدَ الْغَايَةِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ النُّطْقِ. وَأَقَرَّ الْقَاضِي بِهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] لَيْسَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] ، وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] ، فَيَكُونَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا صَحَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إضْمَارٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَاقْرُبُوهُنَّ، وَحَتَّى تَنْكِحَ فَتَحِلَّ، وَلِهَذَا يَقْبُحُ الِاسْتِفْهَامُ إذَا قَالَ: لَا تُعْطِ زَيْدًا حَتَّى يَقُومَ، وَلَوْ قَالَ: أَعْطِهِ إذَا قَامَ فَلَا يَحْسُنُ، إذْ مَعْنَاهُ: أَعْطِهِ إذَا قَامَ؛ وَلِأَنَّ الْغَايَةَ نِهَايَةٌ، وَنِهَايَةُ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطَعًا فَلَا يَكُونُ نِهَايَةً، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: اضْرِبْهُ حَتَّى يَتُوبَ، فَلَا يَحْسُنُ مَعَهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَلْ أَضْرِبُهُ، وَإِنْ تَابَ؟ وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ ظُهُورٌ مَا، وَلَكِنْ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَظَرٍ، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَا لَهُ ابْتِدَاءٌ فَغَايَتُهُ مَقْطَعٌ لِبِدَايَتِهِ، فَيَرْجِعُ الْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ إلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْبِدَايَةِ، فَيَكُونُ الْإِثْبَاتُ مَقْصُورًا أَوْ مَمْدُودًا إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ كَمَا قَبْلَ الْبِدَايَةِ؛ فَإِذًا هَذِهِ الرُّتْبَةُ أَضْعَفُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى النَّفْيِ مِمَّا قَبْلَهَا الرُّتْبَةُ الثَّامِنَةُ: لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إلَّا زَيْدٌ، وَهَذَا قَدْ أَنْكَرَهُ غُلَاةُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَقَالُوا: هَذَا نُطْقٌ بِالْمُسْتَثْنَى عَنْهُ، وَسُكُوتٌ عَنْ الْمُسْتَثْنَى، فَمَا خَرَجَ بِقَوْلِهِ " إلَّا " فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَلَامِ فَصَارَ الْكَلَامُ مَقْصُورًا عَلَى الْبَاقِي، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ، فَمَنْ قَالَ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى النَّفْيِ بَلْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى الْأُلُوهِيَّةَ، وَنَفَاهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ قَالَ: لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ، وَلَا فَتًى إلَّا عَلِيٌّ، وَلَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفِقَارِ، فَقَدْ نَفَى، وَأَثْبَتَ قَطْعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» ، وَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَ «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» هَذَا صِيغَةُ الشَّرْطِ، وَمُقْتَضَاهَا نَفْيُ الْمَنْفِيِّ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ فَلَيْسَ مَنْطُوقًا بِهِ بَلْ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ مَعَ الطَّهَارَةِ لِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ مَعَ الْوَلِيِّ، وَالْبَيْعُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ، وَهَذَا عَلَى وَفْقِ قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ فَإِنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِ وَصْفٍ لَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِهِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ النُّطْقِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى

إثْبَاتِهِ عِنْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ النُّطْقِ، وَيَكُونُ الْمَنْطُوقُ بِهِ النَّفْيَ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ فَقَطْ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، وَلَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ وَرَدَ عَلَى النَّفْيِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ. وَقَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ» لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلطَّهَارَةِ بَلْ لِلصَّلَاةِ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ: «إلَّا بِطُهُورٍ» لَيْسَ إثْبَاتًا لِلصَّلَاةِ بَلْ لِلطَّهُورِ الَّذِي لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْكَلَامِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الشَّرْطُ مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ أَقَرُّوا بِأَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: {، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] ، وَلَا لِقَوْلِهِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّخْصِيصِ الْعَادَةُ،؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَجْرِي إلَّا عِنْدَ الشِّقَاقِ، وَالْمَرْأَةَ لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا إلَّا إذَا أَبَى الْوَلِيُّ، وَكَذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ قَالُوا: لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا لِكَوْنِهِمَا غَالِبَيْنِ، وَإِذَا كَانَ يَسْقُطُ الْمَفْهُومُ بِمِثْلِ هَذَا الْبَاعِثِ فَحَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الْبَاعِثُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ بَاعِثٌ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا فَكَيْفَ يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى عَدَمِ ظُهُورِ الْبَاعِثِ لَنَا؟ فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ انْتَفَى الْبَاعِثُ الْمُخَصِّصِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِي الْمَذْكُورِ، وَالْمَسْكُوتِ، وَاسْتَوَيَا فِي الذِّكْرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مَنْسِيًّا فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِالذِّكْرِ؟ فَإِنْ جَوَّزْتُمْ فَهُوَ نِسْبَةٌ إلَى اللَّغْوِ، وَالْعَبَثِ، وَكَانَ كَقَوْلِهِ: يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الطَّوِيلِ، وَالْأَبْيَضِ، فَقُلْنَا: وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَصِيرِ، وَالْأَسْوَدِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: فَلِمَ خَصَصْتَ هَذَا بِالذِّكْرِ؟ فَقَالَ: بِالتَّشَهِّي، وَالتَّحَكُّمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى خِلَافِ الْجَدِّ، وَيَصْلُحُ ذَلِكَ لَأَنْ يُلَقَّبُ بِهِ لِيُضْحَكَ مِنْهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ الْيَهُودِيُّ إذَا مَاتَ لَا يُبْصِرُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ هُزُؤًا، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ إنْ لَمْ يَكُنْ بَاعِثٌ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. أَمَّا إسْقَاطُ دَلَالَتِهِ لِتَوَهُّمِ بَاعِثٍ عَلَى التَّخْصِيصِ سِوَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ فَهُوَ رَفْعٌ لِلدَّلَالَةِ بِالتَّوَهُّمِ. قُلْنَا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ أَيْضًا جَارٍ فِي تَخْصِيصِ اللَّقَبِ، وَالْيَهُودِيُّ اسْمُ لَقَبٍ، وَيُسْتَقْبَحُ تَخْصِيصُهُ، وَلَا مَفْهُومَ لِلَّقَبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْسِمُ سَبِيلَ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا أُسْقِطَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ بَلْ هُوَ نُطْقٌ بِشَيْءٍ، وَسُكُوتٌ عَنْ شَيْءٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ سَكَتَ عَنْ الْبَعْضِ، وَنَطَقَ بِالْبَعْضِ؟ فَنَقُولُ: لَا نَدْرِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِصَاصُ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالٍ، وَوَهْمٍ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الْوَصْفِ، وَلَا فَرْقَ، فَإِذًا لَسْنَا نَدْرَأُ الدَّلِيلَ بِالْوَهْمِ بَلْ الْخَصْمُ يَبْنِي الدَّلِيلَ عَلَى الْوَهْمِ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَنْتَفِ سَائِرُ الْبَوَاعِثِ لَا يَتَعَيَّنُ بَاعِثُ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ، وَتَقْدِيرُ انْتِفَاءِ الْبَوَاعِثِ وَهْمٌ مُجَرَّدٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ الْيَهُودِيِّ إذَا مَاتَ لَا يُبْصِرُ، فَلَيْسَ اسْتِقْبَاحُهُ لِلتَّخْصِيصِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ جَلِيٌّ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: الْإِنْسَانُ إذَا مَاتَ لَمْ يُبْصِرْ أَوْ الْحَيَوَانُ إذَا مَاتَ لَا يُبْصِرُ، اُسْتُقْبِحَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ تَعَرَّضَ لِمُشْكِلٍ فَلَا يُسْتَقْبَحُ التَّخْصِيصُ فِي كُلِّ مَقَامٍ كَقَوْلِهِ: الْعَبْدُ إذَا وَاقَعَ فِي الْحَجِّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَهَذَا لَا يُسْتَقْبَحُ، وَإِنْ شَارَكَهُ الْحُرُّ، وَكَقَوْلِهِ: الْإِنْسَانُ لَا يَتَحَرَّكُ إلَّا بِالْإِرَادَةِ، وَلَا يُرِيدُ إلَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، فَلَا يُسْتَقْبَحُ، وَإِنْ كَانَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ شَارَكَهُ فِيهِمَا. هَذَا تَمَامُ التَّحْقِيقِ فِي الْمَفْهُومِ، وَبِهِ تَمَامُ النَّظَرِ فِي الْفَنِّ الثَّانِي، وَهُوَ اقْتِبَاسُ الْحُكْمِ مِنْ

اللَّفْظِ لَا مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهُ، وَوَضْعُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ فَحْوَاهُ، وَإِشَارَتُهُ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْفَنُّ الثَّالِثُ، وَهُوَ اقْتِبَاسُ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ، وَمَعْقُولُهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْقَوْلُ فِيهِ طَوِيلٌ. وَنَرَى أَنْ نُلْحِقَ بِآخَرِ الْفَنِّ الثَّانِي الْقَوْلَ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسُكُوتِهِ، وَوَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنّ أَنَّهُ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ فِي الدَّلَالَةِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ نَخُوضُ فِي الْفَنِّ الثَّالِثِ، وَهُوَ شَرْحُ الْقِيَاسِ. [الْقَوْلُ فِي دَلَالَةِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسُكُوتِهِ وَاسْتِبْشَارِهِ وَفِيهِ فُصُولٌ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي دَلَالَةِ الْفِعْلِ] الْقَوْلُ فِي دَلَالَةِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسُكُوتِهِ، وَاسْتِبْشَارِهِ، وَفِيهِ فُصُولٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي دَلَالَةِ الْفِعْلِ وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ مُقَدَّمَةً فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ صِدْقُ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَصْدِيقُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، فَكُلُّ مَا يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ فَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَيُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ جَوَازُ الْكُفْرِ، وَالْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَكِتْمَانِ رِسَالَةِ اللَّهِ، وَالْكَذِبِ، وَالْخَطَإِ، وَالْغَلَطِ فِيمَا يُبَلِّغُ، وَالتَّقْصِيرِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْجَهْلِ بِتَفَاصِيلِ الشَّرْعِ الَّذِي أُمِرَ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ. أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى مُفَارَقَةِ الذَّنْبِ فِيمَا يَخُصُّهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّسَالَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْهُ، عِنْدَنَا دَلِيلُ الْعَقْلِ بَلْ دَلِيلُ التَّوْقِيفِ، وَالْإِجْمَاعُ قَدْ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ الْكَبَائِرِ، وَعِصْمَتِهِمْ أَيْضًا عَمَّا يُصَغِّرُ أَقْدَارَهُمْ مِنْ الْقَاذُورَاتِ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَاللِّوَاطِ، أَمَّا الصَّغَائِرُ فَقَدْ أَنْكَرَهَا جَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ فَأَوْجَبُوا عِصْمَتَهُمْ عَنْهَا. ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ صَغَائِرَ، وَهِيَ الَّتِي تُكَفِّرُهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، وَكَمَا قَرَّرْنَا حَقِيقَتَهُ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنْ كِتَابِ " إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ ". فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَتُهُمْ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ؟ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُعْصَمُوا لَنَفَرَتْ قُلُوبُ الْخَلْقِ عَنْهُمْ. قُلْنَا: لَا يَجِبُ عِنْدَنَا عِصْمَتُهُمْ مِنْ جَمِيعِ مَا يُنَفِّرُ فَقَدْ كَانَتْ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَكَانَ ذَلِكَ يُنَفِّرُ قُلُوبَ قَوْمٍ عَنْ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُعْصَمْ عَنْهُ، وَإِنْ ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ مَعَ أَنَّهُ حُفِظَ عَنْ الْخَطِّ، وَالْكِتَابَةِ كَيْ لَا يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ، وَقَدْ ارْتَابَ جَمَاعَةٌ بِسَبَبِ النَّسْخِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] ، وَجَمَاعَةٌ بِسَبَبِ الْمُتَشَابِهَاتِ فَقَالُوا: كَانَ يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الْغِطَاءِ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَخَلَّصَ الْخَلْقَ مِنْ كَلِمَاتِ الْجَهْلِ، وَالْخِلَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] ، وَهَذَا لِأَنَّ نَفْيَ الْمُنَفِّرَاتِ لَيْسَ بِشَرْطِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ. هَذَا حُكْمُ الذُّنُوبِ أَمَّا النِّسْيَانُ، وَالسَّهْوُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَخُصُّهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا خِلَافَ فِي عِصْمَتِهِمْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الشَّرْعِ، وَالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُمْ كُلِّفُوا تَصْدِيقَهُ جَزْمًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّصْدِيقُ مَعَ تَجْوِيزِ الْغَلَطِ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ فِيمَا شَرَعَهُ بِالِاجْتِهَادِ لَكِنْ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، أَمَّا مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْخَطَأُ عِنْدَهُ فِي اجْتِهَادِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ فِي اجْتِهَادِهِ. رَجَعْنَا إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ أَفْعَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَمَا عُرِفَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ تَعَاطَاهُ بَيَانًا لِلْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» «وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أَوْ عُلِمَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ إمْضَاءٌ لِحُكْمٍ نَازِلٍ كَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الْكُوعِ، فَهَذَا دَلِيلٌ، وَبَيَانٌ، وَمَا عُرِفَ أَنَّهُ

خَاصِّيَّتُهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ بَيَانٌ فِي نَفْيٍ، وَلَا إثْبَاتٍ فَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ بَلْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ، وَالْوُجُوبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ بَلْ يُحْتَمَلُ الْحَظْرُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ عَلَيْهِمْ الصَّغَائِرَ، وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ عَلَى الْحَظْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ عَلَى النَّدْبِ، وَقَالَ قَوْمٌ عَلَى الْوُجُوبِ إنْ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعَادَاتِ فَعَلَى النَّدْبِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّأَسِّي بِهِ، وَهَذِهِ تَحَكُّمَاتٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مُتَعَارِضَةٌ، وَنَحْنُ نُفْرِدُ كُلَّ وَاحِدٍ بِالْإِبْطَالِ. أَمَّا إبْطَالُ الْحَمْلِ عَلَى الْحَظْرِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا خَيَالُ مَنْ رَأَى الْأَفْعَالَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْحَظْرِ قَالَ: وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَرْعٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ بِنَفْسِهِ لِإِبَاحَةٍ، وَلَا لِوُجُوبٍ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ. فَلَقَدْ صَدَقَ فِي إبْقَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ، وَأَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى الْحَظْرِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ، وَيُعَارِضُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ الْحَظْرِ. ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَنَاقُضٌ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِفِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي وَقْتَيْنِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يُحَرِّمَ الشَّيْءَ، وَضِدَّهُ، وَهُوَ تَكْلِيفُ الْمُحَالِ. أَمَّا إبْطَالُ الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَنَا مِثْلَ ذَلِكَ فَهُوَ تَحَكُّمٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَفْعَالِ نَفْيُ الْحَرَجِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ فَهُوَ حَقٌّ، وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ فِعْلِهِ فَلَا دَلَالَةَ إذًا لِفِعْلِهِ. أَمَّا إبْطَالُ الْحَمْلِ عَلَى النَّدْبِ فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ إذَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْوُجُوبِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ نَدْبًا فَلَا يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ وَاجِبًا بَلْ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مُبَاحًا. تَمَسَّكُوا بِشُبْهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ فِعْلَهُ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ، وَالنَّدْبَ، وَالنَّدْبُ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَصِحُّ مَا ذَكَرُوهُ لَوْ كَانَ النَّدْبُ دَاخِلًا فِي الْوُجُوبِ، وَيَكُونُ الْوُجُوبُ نَدْبًا، وَزِيَادَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ يَدْخُلُ جَوَازُ التَّرْكِ فِي حَدِّ النَّدْبِ دُونَ حَدِّ الْوُجُوبِ، وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى النَّدْبِ لَا سِيَّمَا فِي الْعِبَادَاتِ، أَمَّا فِي الْعَادَاتِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي كُلِّ فِعْلٍ لَهُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ يَدُلُّ هَذَا عَلَى نَفْيِ الصَّغَائِرِ عَنْهُ، وَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْعَادَاتِ، لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِقَاطِعٍ إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِذَلِكَ مَعَ قَرَائِنَ حَسَمَتْ بَقِيَّةَ الِاحْتِمَالَاتِ، وَكَلَامُنَا فِي مُجَرَّدِ الْأَفْعَالِ دُونَ قَرِينَة، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا رَآهُ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُبَاحًا إذَا كَانَ فِي بِنَاءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْبِنَاءِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ،؛ لِأَنَّهُ خَلَا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ إظْهَارَهُ لِيُعْلَمَ بِالْقَرِينَةِ قَصْدُهُ الدُّعَاءَ إلَى الِاقْتِدَاءِ. فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا فَعَلَهُ مُبَاحٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوا عَلَيْهِ الصَّغَائِرَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا الِاقْتِدَاءَ فِي كُلِّ فِعْلٍ بَلْ مَا تَقْتَرِنُ بِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ الْبَيَانَ بِالْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ: التَّمَسُّك بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . فَأَخْبَرَ أَنَّ لَنَا التَّأَسِّي، وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْكُمْ التَّأَسِّي فَيُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ. قُلْنَا: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ التَّأَسِّي بِهِ فِي إيقَاعِ الْفِعْلِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَى مَا أَوْقَعَهُ، فَمَا أَوْقَعَهُ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا إذَا أَوْقَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ لَمْ نَكُنْ مُقْتَدِينَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا قَصَدَ النَّدْبَ فَأَوْقَعْنَاهُ وَاجِبًا خَالَفْنَا التَّأَسِّي، فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّأَسِّي بِهِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ قَصْدِهِ

وَلَا يُعْرَفُ قَصْدُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ أَوْ بِقَرِينَةٍ. ثُمَّ نَقُولُ: إذَا انْقَسَمَتْ أَفْعَالُهُ إلَى الْوَاجِبِ، وَالنَّدْبِ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَحْمِلُ الْكُلَّ عَلَى الْوُجُوبِ مُتَأَسِّيًا، وَمَنْ يَجْعَلُ الْكُلَّ أَيْضًا نَدْبًا مُتَأَسِّيًا، بَلْ كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَفْعَلُ مَا لَا يَدْرِي فَمَنْ فَعَلَ مَا لَا يَدْرِي عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَأَسِّيًا. أَمَّا إبْطَالُ الْحَمْلِ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِضَرُورَةِ عَقْلٍ، وَلَا نَظَرٍ، وَلَا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَعِنْدَ مَنْ لَمْ يُوجِبْ عِصْمَتَهُ مِنْ الصَّغَائِرِ يُحْتَمَلُ الْحَظْرُ أَيْضًا فَلَمْ يَتَحَكَّم بِالْحَمْلِ عَلَى الْوُجُوبِ. شُبَهٌ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ وَصْفِ فِعْلِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَمَصْلَحَةٌ، وَلَوْلَاهُ لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَلَا تَعَبَّدَ بِهِ. قُلْنَا: جُمْلَةُ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً لِيَخْرُجَ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ مَحْظُورًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي حَقِّنَا، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِأَنَّ مَا كَانَ فِي حَقِّهِ حَقًّا وَصَوَابًا، وَمَصْلَحَةً كَانَ فِي حَقِّنَا كَذَلِكَ بَلْ لَعَلَّهُ مَصْلَحَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى صِفَةِ النُّبُوَّةِ أَوْ صِفَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا، وَلِذَلِكَ خَالَفَنَا فِي جُمْلَةٍ مِنْ الْجَائِزَاتِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالْمَحْظُورَاتِ، بَلْ اخْتَلَفَ الْمُقِيمُ، وَالْمُسَافِرُ، وَالْحَائِضُ، وَالطَّاهِرُ فِي الصَّلَوَاتِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ اخْتِلَافُ النَّبِيِّ، وَالْأُمَّةِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَتَعْظِيمُ النَّبِيِّ وَاجِبٌ، وَالتَّأَسِّي بِهِ تَعْظِيمٌ. قُلْنَا: تَعْظِيمُ الْمَلِكِ فِي الِانْقِيَادِ لَهُ فِيمَا يَأْمُرُ، وَيَنْهَى لَا فِي التَّرَبُّعِ إذَا تَرَبَّعَ، وَلَا فِي الْجُلُوسِ عَلَى السَّرِيرِ إذَا جَلَسَ عَلَيْهِ، فَلَوْ نَذَرَ الرَّسُولُ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ تَعْظِيمُهُ فِي أَنْ نَنْذِرَهَا مِثْلَ مَا نَذَرَهَا، وَلَوْ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لَمْ يَكُنْ تَعْظِيمُهُ فِي التَّشَبُّهِ بِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُتَابَعْ فِي أَفْعَالِهِ لَجَازَ أَنْ لَا يُتَابَعَ فِي أَقْوَالِهِ، وَذَلِكَ تَصْغِيرٌ لِقَدْرِهِ، وَتَنْفِيرٌ لِلْقُلُوبِ عَنْهُ قُلْنَا: هَذَا هَذَيَان فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْقَوْلِ عِصْيَانٌ لَهُ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ لِلتَّبْلِيغِ حَتَّى يُطَاعَ فِي أَقَاوِيلِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ، وَفِعْلَهُ قَاصِرٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا التَّنْفِيرُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ التَّشَبُّهِ بِهِ تَصْغِيرًا لَكَانَ تَرْكُنَا لِلْوِصَالِ، وَتَرْكُنَا نِكَاحَ تِسْعٍ بَلْ تَرْكُنَا دَعْوَى النُّبُوَّةِ تَصْغِيرًا؛ فَاسْتَبَانَ أَنَّ هَذِهِ خَيَالَاتٌ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْفِعْلَ مُتَرَدِّدٌ كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ كَالْقُرْءِ مُتَرَدِّدٌ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ. الرَّابِعَةُ: تَمَسُّكُهُمْ بِآيٍ مِنْ الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] ، وَأَنَّهُ يَعُمُّ الْأَقْوَالَ، وَالْأَفْعَالَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] ، وَقَوْلِهِ {، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ، وَأَمْثَالِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى قَبُولِ أَقْوَالِهِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَعُمَّ الْأَقْوَالَ، وَالْأَفْعَالَ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ مُمْكِنٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَائِضِ، وَالْمَرِيضِ مُوَافَقَتُهُ مَعَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالِاتِّبَاعِ، وَالطَّاعَةِ. الْخَامِسَةُ وَهِيَ أَظْهَرُهَا: تَمَسُّكُهُمْ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ وَاصَلُوا الصِّيَامَ لَمَّا وَاصَلَ، وَخَلَعُوا نِعَالَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لَمَّا خَلَعَ، وَأَمَرَهُمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالتَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ فَتَوَقَّفُوا فَشَكَا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ اُخْرُجْ إلَيْهِمْ، وَاذْبَحْ، وَاحْلِقْ فَفَعَلَ، فَذَبَحُوا، وَحَلَقُوا مُسَارِعِينَ، وَأَنَّهُ خَلَعَ خَاتَمَهُ فَخَلَعُوا، وَبِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ، وَبِأَنَّهُ قَالَ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ: «أَلَا أَخْبَرْتِيهِ أَنِّي أُقَبِّلُ، وَأَنَا صَائِمٌ» ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِأَجْمَعِهِمْ اخْتَلَفُوا فِي الْغُسْلِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فَعَلْتُهُ أَنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ فَاغْتَسَلْنَا» ، فَرَجَعُوا إلَى ذَلِكَ. الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ

الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَكَمَا لَا يَثْبُتُ الْقِيَاسُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ فَكَذَلِكَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ. مِنْ الْأُصُولِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَعِبَادَاتِهِ فَكَيْفَ صَارَ اتِّبَاعُهُمْ لِلْبَعْضِ دَلِيلًا، وَلَمْ تَصِرْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي الْبَعْضِ دَلِيلَ جَوَازِ الْمُخَالَفَةِ. الثَّالِثُ وَهُوَ التَّحْقِيقُ: أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، وَالْوُضُوءِ، وَقَدْ كَانَ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ شَرْعَهُ، وَشَرْعَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَعَلَّمَهُمْ الْوُضُوءَ، وَقَالَ: «هَذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» ، وَأَمَّا الْوِصَالُ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالصَّوْمِ، وَاشْتَغَلَ مَعَهُمْ بِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِفِعْلِهِ امْتِثَالَ الْوَاجِبِ، وَبَيَانِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُمْ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْمُوَافَقَةَ، وَكَذَلِكَ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ رُبَّمَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مُسَاوَاةَ الْحُكْمِ فِي الْمُفْطِرَاتِ، وَأَنَّ شَرْعَهُ شَرْعُهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْدَاثِ قَدْ عَرَّفَهُمْ مُسَاوَاةَ الْحُكْمِ فِيهَا فَفَهِمُوا لَا بِمُجَرَّدِ حِكَايَةِ الْفِعْلِ، كَيْفَ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» ؟ وَأَمَّا خَلْعُ الْخَاتَمِ فَهُوَ مُبَاحٌ فَلَمَّا خَلَعَ أَحَبُّوا مُوَافَقَتَهُ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، أَوْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ لَمَّا سَاوَاهُمْ فِي سُنَّةِ التَّخَتُّمِ فَيُسَاوِيهِمْ فِي سُنَّةِ الْخَلْعِ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ عَامٌّ إلَّا مَا اسْتَثْنَى قُلْنَا: لَا بَلْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ فَهُوَ خَاصٌّ إلَّا مَا عَمَّمَهُ. فَإِنْ قِيلَ التَّعْمِيمُ أَكْثَرُ فَلْيُنْزَلْ عَلَيْهِ. قُلْنَا وَلِمَ يَجِبْ التَّنْزِيلُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَإِذَا اُشْتُبِهَتْ أُخْتٌ بِعَشْرِ أَجْنَبِيَّاتٍ فَالْأَكْثَرُ حَلَالٌ، وَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ؟ كَيْفَ، وَالْمُبَاحَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ، فَلْتُلْحَقْ بِهَا؟ وَالْمَنْدُوبَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَلْتُلْحَقْ بِهَا بَلْ رُبَّمَا قَالَ الْقَائِلُ: الْمَحْظُورَاتُ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَلْتُنَزَّلْ عَلَيْهَا [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُبُهَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ] ِ الْأُولَى: قَالَ قَائِلٌ: إذَا نُقِلَ إلَيْنَا فِعْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ، وَمَا الَّذِي يُسْتَحَبُّ؟ قُلْنَا: لَا يَجِبُ إلَّا أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْبَحْثُ عَنْهُ هَلْ وَرَدَ بَيَانًا لِخِطَابٍ عَامٍّ أَوْ تَنْفِيذًا لِحُكْمٍ لَازِمٍ عَامٍّ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ، أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ قَاصِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ بَيَانًا لِحُكْمٍ عَامٍّ فَالْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ نَدْبًا فِي حَقِّهِ أَوْ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً مُوَسَّعًا أَوْ مُضَيَّقًا، لَا يَجِبُ بَلْ هُوَ زِيَادَةُ دَرَجَةٍ، وَفَضْلٌ فِي الْعِلْمِ يُسْتَحَبُّ. لِلْعَالَمِ أَنْ يَعْرِفَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَمْ أَصْنَافُ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ سِوَى الْفِعْلِ؟ قُلْنَا: مَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ، كَالْمُجْمَلِ، وَالْمَجَازِ، وَالْمَنْقُولِ عَنْ وَضْعِهِ، وَالْمَنْقُولِ بِتَصَرُّفِ الشَّرْعِ، وَالْعَامِّ الْمُحْتَمِلِ لِلْخُصُوصِ، وَالظَّاهِرِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّأْوِيلِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِ افْعَلْ أَنَّهُ لِلنَّدَبِ أَوْ الْوُجُوبِ أَوْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي أَوْ أَنَّهُ لِلتَّكْرَارِ أَوْ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْجُمَلُ الْمَعْطُوفَةُ إذَا أُعْقِبَتْ بِاسْتِثْنَاءٍ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا يَتَعَارَضُ فِيهِ الِاحْتِمَالُ، وَالْفِعْلُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ بَيَّنَ لَنَا بِفِعْلِهِ نَدْبًا فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ وَاجِبًا قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ تَبْلِيغٌ لِلشَّرْعِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ نَدْبٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ إلَى أَنَّ بَيَانَ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَبَيَانَ النَّدْبِ نَدْبٌ، وَبَيَانَ الْمُبَاحِ مُبَاحٌ، وَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمَحْظُورِ مَحْظُورًا، فَإِذَا كَانَ بَيَانُ الْمَحْظُورِ وَاجِبًا فَلِمَ لَا يَكُونُ بَيَانُ النَّدْبِ وَاجِبًا؟ وَكَذَلِكَ بَيَانُ الْمُبَاحِ، وَهِيَ أَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَالرَّسُولُ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ

وَبَيَانُهُ بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْل، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أَتَى بِالْفِعْلِ فَقَدْ أَتَى بِإِحْدَى خَصْلَتَيْ الْوَاجِبِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ وَاقِعًا عَنْ الْوَاجِبِ. فَإِنْ قِيلَ:، وَبِمَ يُعْرَفُ كَوْنُ فِعْلِهِ بَيَانًا؟ قُلْنَا: إمَّا بِصَرِيحِ قَوْلِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ بِقَرَائِنَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ إحْدَاهَا: أَنْ يَرِدَ خِطَابٌ مُجْمَلٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ بِقَوْلِهِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ ثُمَّ فَعَلَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالتَّنْفِيذُ لِلْحُكْمِ فِعْلًا صَالِحًا لِلْبَيَانِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ بَيَانٌ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ مُؤَخِّرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا عِنْدَ قَوْمٍ، وَسَمْعًا عِنْدَ آخَرِينَ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مُتَعَيِّنًا لِلْبَيَانِ يَظْهَرُ لِلصَّحَابَةِ إذْ قَدْ عَلِمُوا عَدَمَ الْبَيَانِ بِالْقَوْلِ، أَمَّا نَحْنُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَيَّنَ بِالْقَوْلِ، وَلَمْ يُبْلِغْنَا، فَيَكُونُ الظَّاهِرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْفِعْلَ بَيَانٌ؛ فَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الْكُوعِ، وَتَيَمُّمه إلَى الْمِرْفَقَيْنِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ، وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] . الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْقَلَ فِعْلٌ غَيْرُ مُفَصَّلٍ كَمَسْحِهِ رَأْسَهُ، وَأُذُنَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِهِمَا مَسْحًا بِمَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ بِمَاءٍ جَدِيدٍ ثُمَّ يُنْقَلُ أَنَّهُ أَخَذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا، فَهَذَا فِي الظَّاهِرِ يُزِيلُ الِاحْتِمَالَ عَنْ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ مَاءٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَاءٌ جَدِيدٌ، فَيَكُونُ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَالثَّانِي عَلَى الْأَكْمَلِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُتْرَكَ مَا لَزِمَهُ، فَيَكُونُ بَيَانًا لِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا فِي حَقِّهِ أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ إلَّا بِبَيَانِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ، نَعَمْ لَوْ تَرَكَ غَيْرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُنْكِرْ مَعَ مَعْرِفَتِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ إذَا أُتِيَ بِسَارِقِ ثَمَرٍ أَوْ مَا دُونَ النِّصَابِ فَلَمْ يَقْطَعْ، فَيَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْآيَةِ؛ لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ انْتِقَاءُ شُبْهَةٍ أُخْرَى تَدْرَأُ الْقَطْعَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُتِيَ بِسَارِقِ سَيْفٍ فَلَمْ يَقْطَعْهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ لَنَا سُقُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّيْفِ، وَلَا فِي الْحَدِيدِ لَكِنْ يُبْحَثُ عَنْ سَبَبِهِ، فَكَذَلِكَ الثَّمَرُ، وَمَا دُونَ النِّصَابِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُهُ الْقُنُوتَ، وَالتَّسْمِيَةَ، وَالتَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ إذْ يُحْمَلُ عَلَى نِسْيَانٍ أَوْ عَلَى بَيَانِ جَوَازِ تَرْكِ السُّنَّةِ، وَإِنْ تَرَكَ مَرَّاتٍ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْفَخْذَ مَكْشُوفًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعَوْرَةِ. الْخَامِسَةُ: إذَا فَعَلَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَأَفْسَدَ الصَّلَاةَ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ، كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ فِي الْخُسُوفِ، وَكَحَمْلِ أُمَامَةَ فِي الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ لَا يَبْطُلُ، وَأَنَّهُ فِعْلٌ قَلِيلٌ، هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» يَكُونُ بَيَانًا فِي حَقِّنَا. السَّادِسَةُ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ، وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَالزَّكَاةِ مُجْمِلًا ثُمَّ أَنْشَأَ الصَّلَاةَ، وَابْتَدَأَ بِأَخِذِ الْجِزْيَةِ، فَيَظْهَرُ كَوْنُهُ بَيَانًا، وَتَنْفِيذًا، لَكِنْ إنْ لَمْ تَكُنْ الْحَاجَةُ مُتَنَجِّزَةً بِحَيْثُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ بَيَانًا بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا أَمَرَ بِهِ خَاصَّةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذًا لَا يَصِيرُ بَيَانًا لِلْحُكْمِ الْعَامِّ إلَّا بِقَرِينَةٍ أُخْرَى. السَّابِعَةُ أَخْذُهُ مَالًا مِمَّنْ فَعَلَ فِعْلًا أَوْ إيقَاعُهُ ضَرْبًا أَوْ نَوْعَ عُقُوبَةٍ فَإِنَّهُ لَهُ خَاصَّةً مَا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ

الْفِعْلُ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِكَوْنِهِ مُوجِبَ أَخْذِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ سَبَبٍ آخَرَ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلْمَالِ وَلِلْعُقُوبَةِ. أَمَّا قَضَاؤُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ فِعْلًا بِعُقُوبَةٍ أَوْ مَالٍ، كَقَضَائِهِ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَا يَقُولُ قُضِيَ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا لَمَّا فَعَلَ كَذَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالْقَرِينَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا، وَكَانَ بَيَانًا، وَوَقَعَ فِي زَمَانٍ، وَمَكَانٍ، وَعَلَى هَيْئَةٍ، فَهَلْ يَتْبَعُ الزَّمَانَ، وَالْمَكَانَ، وَالْهَيْئَةَ؟ فَيُقَالُ: أَمَّا الْهَيْئَةُ، وَالْكَيْفِيَّةُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ فَهُوَ كَتَغَيُّمِ السَّمَاءِ وَصَحْوِهَا، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ لَائِقًا بِهِ بِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، كَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِعَرَفَاتٍ، وَالْبَيْتِ، وَاخْتِصَاصِ الصَّلَوَاتِ بِأَوْقَاتٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اتَّبَعَ الْمَكَانَ لَلَزِمَ مُرَاعَاةُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ بِعَيْنِهَا، وَوَجَبَ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ انْقَضَى، وَلَا يُمْكِنُ إعَادَتُهُ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَيْسَ مِثْلًا، فَيَجِبُ إعَادَةُ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنْ تَكَرَّرَ فِعْلُهُ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَزَمَانٍ وَاحِدٍ دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا فَتَقْرِيرُهُ عَلَى الْفِعْلِ، وَسُكُوتُهُ عَلَيْهِ، وَتَرْكُهُ الْإِنْكَارَ، وَاسْتِبْشَارُهُ بِالْفِعْلِ أَوْ مَدْحُهُ لَهُ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَهَلْ يَكُونُ بَيَانًا؟ قُلْنَا: نَعَمْ، سُكُوتُهُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، وَتَرْكُهُ الْإِنْكَارَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ، إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ لَوْ كَانَ حَرَامًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِبْشَارُ بِالْبَاطِلِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ كَمَا نُقِلَ فِي قَاعِدَةِ الْقِيَافَةِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ دَلَالَتُهُ عِنْدَ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيُجَوِّزُ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ، وَإِحَالَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ مَنَعَ مِنْ الْإِنْكَارِ مَانِعٌ كَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ فَلِذَلِكَ فَعَلَهُ، أَوْ بَلَغَهُ الْإِنْكَارُ مَرَّةً فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ فَلَمْ يُعَاوِدْهُ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مَانِعًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ، فَيَلْزَمُهُ تَبْلِيغُهُ، وَنَهْيُهُ حَتَّى لَا يَعُودَ، وَمَنْ بَلَغَهُ، وَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ، وَتَكْرَارُهُ كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ نَسْخُ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ صَبِيحَةَ كُلِّ سَبْتٍ، وَأَحَدٍ عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى إذَا اجْتَمَعُوا فِي كَنَائِسِهِمْ، وَبِيَعِهِمْ؟ قُلْنَا:؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ مَعَ تَبْلِيغِهِ، وَعَلِمَ الْخَلْقُ أَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ دَائِمًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ النَّسْخَ، بِخِلَافِ فِعْلٍ يَجْرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مَرَّاتٍ فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْهُ يُوهِمُ النَّسْخَ [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ] ِ فَنَقُولُ: مَعْنَى التَّعَارُضِ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْخَبَرِ أَوْجَبَ كَوْنَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذِبًا، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَسُولِهِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْأَحْكَامِ، فَيَتَنَاقَضُ، فَيَرْفَعُ الْأَخِيرُ الْأَوَّلَ، وَيَكُونُ نَسْخًا، وَهَذَا مُتَصَوَّرٌ، وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ التَّعَارُضَ هُوَ التَّنَاقُضُ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَرْضِ الْفِعْلَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ فِي شَخْصَيْنِ، فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ وُجُوبِ أَحَدِهِمَا، وَتَحْرِيمِ الْآخَرِ، فَلَا تَعَارُضَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْقَوْلُ أَيْضًا لَا يَتَنَاقَضُ، إذْ يُوجَدُ الْقَوْلَانِ فِي حَالَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاقَضُ حُكْمُهُمَا فَكَذَلِكَ يَتَنَاقَضُ حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَتَنَاقَضُ حُكْمُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ اقْتَضَى حُكْمًا دَائِمًا، فَيَقْطَعُ الْقَوْلُ الثَّانِي دَوَامَهُ، وَالْفِعْلُ لَا يَدُلُّ أَصْلًا عَلَى حُكْمٍ، وَلَا عَلَى دَوَامِ حُكْمٍ، نَعَمْ لَوْ أَشْعَرَنَا الشَّارِعُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلٍ بَيَانَ دَوَامِ وُجُوبِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بَعْدَهُ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا، وَقَطْعًا لِدَوَامِ حُكْمٍ ظَهَرَ بِالْفِعْلِ مَعَ تَقَدُّمِ الْإِشْعَارِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مُمْكِنٌ. وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ

فَمُمْكِنٌ بِأَنْ يَقُولَ قَوْلًا يُوجِبُ عَلَى أُمَّتِهِ فِعْلًا دَائِمًا، وَأَشْعَرَهُمْ بِأَنَّ حُكْمَهُ فِيهِ حُكْمُهُمْ ابْتِدَاءً، وَنَسْخًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ أَوْ سَكَتَ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ الْأَخِيرُ نَسْخًا، وَإِنْ أَشْكَلَ التَّارِيخُ وَجَبَ طَلَبُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَعَارِضٌ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي السَّارِقِ: «وَإِنْ سَرَقَ خَامِسَةً فَاقْتُلُوهُ» ثُمَّ «أُتِيَ بِمَنْ سَرَقَ خَامِسَةً فَلَمْ يَقْتُلْهُ» ، فَهَذَا إنْ تَأَخَّرَ فَهُوَ نَسْخُ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَوْلُ فَهُوَ نَسْخُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إذَا تَعَارَضَا، وَأَشْكَلَ التَّارِيخُ يُقَدَّمُ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بَيَانٌ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخُصَّهُ، وَالْقَوْلُ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ يَتَأَكَّدُ بِالتَّكْرَارِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ. فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بَيَانًا بِنَفْسِهِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِي فِعْلٍ صَارَ بَيَانًا لِغَيْرِهِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ بَيَانًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ عَمَّا كَانَ بَيَانًا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا خُصُوصُ الْفِعْلِ فَمُسَلَّمٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِي فِعْلٍ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى خَاصِّيَّتِهِ، وَأَمَّا تَأْكِيدُ الْقَوْلِ بِالتَّكْرَارِ، إنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ إذَا تَوَاتَرَ أَفَادَ الْعِلْمَ، فَهَذَا مُسَلَّمٌ إذَا تَوَاتَرَ مِنْ أَشْخَاصٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْرَارًا، وَتَكْرَارُهُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا أَثَرَ لَهُ كَتَكْرَارِ الْفِعْلِ. هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْأَفْعَالِ الْمُلْحَقَةِ بِالْأَقْوَالِ، وَبَيَانُ مَا فِيهَا مِنْ الْبَيَانِ، وَالْإِجْمَالِ، وَلْنَشْتَغِلْ بَعْدَهَا بِالْفَنِّ الثَّالِثِ مِنْ الْقَطْبِ، وَهُوَ الْمَرْسُومُ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَدْلُولَاتِ بِمَعْقُولِهَا، وَمَعْنَاهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسًا، فَلْنَخُضْ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْقِيَاسِ مُسْتَعِينِينَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. [الْفَنُّ الثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْ مَعْقُولِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ] [مُقَدِّمَةٌ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ] الْفَنُّ الثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْ مَعْقُولِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ. وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ، وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ الْأَوَّلُ: فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ. الثَّانِي: فِي طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ: فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ. الرَّابِعُ: فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ، وَالْحُكْمُ، وَبَيَانُ شُرُوطِ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ. مُقَدِّمَةٌ: فِي حَدِّ الْقِيَاسِ.، وَحَدُّهُ أَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا عَنْهُمَا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْجَامِعُ مُوجِبًا لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْحُكْمِ كَانَ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَإِلَّا كَانَ فَاسِدًا، وَاسْمُ الْقِيَاسِ يَشْتَمِلُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْفَاسِدِ فِي اللُّغَةِ، وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ فَرْعٍ، وَأَصْلٍ، وَعِلَّةٍ، وَحُكْمٍ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَرْعِ، وَالْأَصْلِ كَوْنُهُمَا مَوْجُودَيْنِ بَلْ رُبَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالنَّفْيِ عَلَى النَّفْيِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ نَقُلْ حَمْلُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَنَا، وَأَبْدَلْنَا لَفْظَ الشَّيْءِ بِالْمَعْلُومِ، وَلَمْ نَقُلْ حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْبُو هَذَا اللَّفْظُ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْعُدُ إطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ مَا، وَالْحُكْمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتًا، وَالنَّفْيُ كَانْتِفَاءِ الضَّمَانِ، وَالتَّكْلِيفِ، وَالِانْتِفَاءُ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَلِذَلِكَ أَدْرَجْنَا الْجَمِيعَ فِي الْحَدِّ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِّ اطِّرَادُهُ، وَانْعِكَاسُهُ. أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ: " إنَّهُ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْحَقِّ، أَوْ الْعِلْمُ الْوَاقِعُ بِالْمَعْلُومِ عَنْ نَظَرٍ أَوْ رَدِّ غَائِبٍ إلَى شَاهِدٍ "، فَبَعْضُ هَذَا أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ، وَبَعْضُهُ أَخَصُّ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي إبْطَالِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ إطْلَاقُ الْفَلَاسِفَةِ

اسْمَهُ عَلَى تَرْكِيبِ مُقَدِّمَتَيْنِ يَحْصُلُ مِنْهُمَا نَتِيجَةٌ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَكُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ نَبِيذٍ حَرَامٌ فَإِنَّ لُزُومَ هَذِهِ النَّتِيجَةِ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَا نُنْكِرُهُ؛ لَكِنَّ الْقِيَاسَ يَسْتَدْعِي أَمْرَيْنِ يُضَافُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِنَوْعٍ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، إذْ تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا يُقَاسُ فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ فِي عَقْلِهِ، وَنَسَبِهِ،، وَفُلَانٌ يُقَاسُ إلَى فُلَانٍ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى إضَافِيٍّ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْقِيَاسُ هُوَ الِاجْتِهَادُ. ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِي الْعُمُومَاتِ، وَدَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ، وَسَائِرِ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ سِوَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ إنَّهُ لَا يُنْبِئُ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ إلَّا عَنْ بَذْلِ الْمُجْتَهِدِ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ، وَلَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَنْ يُجْهِدُ نَفْسَهُ، وَيَسْتَفْرِغُ الْوُسْعَ، فَمَنْ حَمَلَ خَرْدَلَةً لَا يُقَالُ اجْتَهَدَ، وَلَا يُنْبِئُ هَذَا عَنْ خُصُوصِ مَعْنَى الْقِيَاسِ، بَلْ عَنْ الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ حَالُ الْقِيَاسِ فَقَطْ. [حَصْرِ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلَلِ] مُقَدِّمَةٌ أُخْرَى: فِي حَصْرِ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلَلِ. اعْلَمْ أَنَّا نَعْنِي: بِالْعِلَّةِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَنَاطَ الْحُكْمِ، أَيْ: مَا أَضَافَ الشَّرْعُ الْحُكْمَ إلَيْهِ، وَنَاطَهُ بِهِ، وَنَصَبَهُ عَلَامَةً عَلَيْهِ.، وَالِاجْتِهَادُ فِي الْعِلَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، أَوْ فِي تَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، أَوْ فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ. أَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي جَوَازِهِ، مِثَالُهُ الِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ الْإِمَامِ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ قُدْرَةِ الشَّارِعِ فِي الْإِمَامِ الْأَوَّلِ عَلَى النَّصِّ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْمُقَدَّرَاتِ، وَتَقْدِيرِ الْكِفَايَاتِ فِي نَفَقَةِ الْقَرَابَاتِ، وَإِيجَابِ الْمِثْلِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَطَلَبِ الْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ الْكِفَايَةُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ، أَمَّا أَنَّ الرِّطْلَ كِفَايَةٌ لِهَذَا الشَّخْصِ أَمْ لَا؛ فَيُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالتَّخْمِينِ، وَيَنْتَظِمُ هَذَا الِاجْتِهَادُ بِأَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْكِفَايَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّطْلَ قَدْرُ الْكِفَايَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ الْوَاجِبُ عَلَى الْقَرِيبِ. أَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فَمَعْلُومٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمَعْلُومٌ بِالظَّنِّ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: يَجِبُ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فَنَقُولُ: الْمِثْلُ وَاجِبٌ، وَالْبَقَرَةُ مِثْلٌ فَإِذًا هِيَ الْوَاجِبُ، وَالْأَوَّلُ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ، وَهِيَ الْمِثْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، أَمَّا تَحَقُّقُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الْبَقَرَةِ فَمَعْلُومٌ بِنَوْعٍ مِنْ الْمُقَايَسَةِ، وَالِاجْتِهَادِ. ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَتْلَفَ فَرَسًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَالضَّمَانُ هُوَ الْمِثْلُ فِي الْقِيمَةِ، أَمَّا كَوْنُ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِثْلًا فِي الْقِيمَةِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ، بَلْ الْوَاجِبُ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ، أَمَّا أَنَّ هَذِهِ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْأَمَارَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلظَّنِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْيَقِينِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْقَاضِي بِقَوْلِ الشُّهُودِ ظَنِّيٌّ، لَكِنَّ الْحُكْمَ بِالصِّدْقِ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ، وَقَوْلُ الْعَدْلِ صِدْقٌ مَعْلُومٌ بِالظَّنِّ، وَأَمَارَاتِ الْعَدَالَةِ، وَالْعَدَالَةُ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالظَّنِّ، فَلْنُعَبِّرْ عَنْ هَذَا الْجِنْسِ بِتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاطَ مَعْلُومٌ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ لَا حَاجَةَ إلَى اسْتِنْبَاطِهِ، لَكِنْ تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْيَقِينِ فَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِأَمَارَاتٍ ظَنِّيَّةٍ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَهُوَ نَوْعُ اجْتِهَادٍ، وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَيْف يَكُونُ هَذَا قِيَاسًا، وَكَيْفَ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَهُوَ ضَرُورَةُ كُلِّ شَرِيعَةٍ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَالَةِ الْأَشْخَاصِ، وَقَدْرِ كِفَايَةِ كُلِّ شَخْصٍ مُحَالٌ، فَمَنْ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ يُنْكِرُهُ حَيْثُ يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ

لِلْحُكْمِ بِالنَّصِّ الْمُحِيطِ بِمَجَارِي الْحُكْمِ الِاجْتِهَادُ الثَّانِي فِي تَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ: وَهَذَا أَيْضًا يُقِرُّ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، مِثَالُهُ: أَنْ يُضِيفَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ إلَى سَبَبٍ، وَيَنُوطُهُ بِهِ، وَتَقْتَرِنُ بِهِ أَوْصَافٌ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْإِضَافَةِ، فَيَجِبُ حَذْفُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ حَتَّى يَتَّسِعَ الْحُكْمُ، مِثَالُهُ: إيجَابُ الْعِتْقِ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِالْوِقَاعِ مَعَ أَهْلِهِ، فَإِنَّا نُلْحِقُ بِهِ أَعْرَابِيًّا آخَرَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» أَوْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ يَعُمُّ الْأَشْخَاصَ، وَلَكِنَّا نُلْحِقُ التُّرْكِيَّ، وَالْعَجَمِيَّ بِهِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ وِقَاعُ مُكَلَّفٍ لَا وِقَاعُ أَعْرَابِيٍّ، وَنُلْحِقُ بِهِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ آخَرَ؛؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَنَاطَ هَتْكُ حُرْمَةِ رَمَضَانَ لَا حُرْمَةُ ذَلِكَ الرَّمَضَانِ، بَلْ نُلْحِقُ بِهِ يَوْمًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الرَّمَضَانِ. وَلَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَ الْمَوْطُوءَةِ مَنْكُوحَةً لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَلْ يُلْحَقُ بِهِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحَالَاتِ مَعْلُومَةٌ تُنْبِئُ عَلَى تَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ بِحَذْفِ مَا عُلِمَ بِعَادَةِ الشَّرْعِ فِي مَوَارِدِهِ، وَمَصَادِرِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ. وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُ بَعْضِ الْأَوْصَافِ مَظْنُونًا، فَيَنْقَدِحُ الْخِلَافُ فِيهِ، كَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ؛ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنَاطُ الْكَفَّارَةِ كَوْنُهُ مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ الْمُحْتَرَمِ، وَالْجِمَاعُ آلَةُ الْإِفْسَادِ، كَمَا أَنَّ مَنَاطَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ كَوْنُهُ مُزْهِقًا رُوحًا مُحْتَرَمَةً، وَالسَّيْفُ آلَةٌ، فَيُلْحَقُ بِهِ السِّكِّينُ، وَالرُّمْحُ، وَالْمُثَقَّلُ، فَكَذَلِكَ الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ آلَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْجِمَاعُ مِمَّا لَا تَنْزَجِرُ النَّفْسُ عَنْهُ عِنْدَ هَيَجَانِ شَهْوَتِهِ لِمُجَرَّدِ وَازِعِ الدِّينِ، فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَفَّارَةٍ وَازِعَةٍ بِخِلَافِ الْأَكْلِ. وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ بَعْدَ أَنْ عُرِفَ الْمَنَاطُ بِالنَّصِّ لَا بِالِاسْتِنْبَاطِ وَلِذَلِكَ أَقَرَّ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، بَلْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا قِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَأَثْبَتَ هَذَا النَّمَطَ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَسَمَّاهُ اسْتِدْلَالًا، فَمَنْ جَحَدَ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَمْ يَخْفَ فَسَادُ كَلَامِهِ. الِاجْتِهَادُ الثَّالِثُ فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ: مِثَالُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِتَحْرِيمٍ فِي مَحَلٍّ، وَلَا يَذْكُرَ إلَّا الْحُكْمَ، وَالْمَحَلَّ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَنَاطِ الْحُكْمِ، وَعِلَّتِهِ، كَتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَالرِّبَا فِي الْبُرِّ، فَنَحْنُ نَسْتَنْبِطُ الْمَنَاطَ بِالرَّأْيِ، وَالنَّظَرِ، فَنَقُولُ: حَرَّمَهُ لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، وَهُوَ الْعِلَّةُ، وَنَقِيسُ عَلَيْهِ النَّبِيذَ، وَحَرَّمَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، وَنَقِيسُ عَلَيْهِ الْأُرْزَ، وَالزَّبِيبَ، وَيُوجِبُ الْعُشْرَ فِي الْبُرِّ، فَنَقُولُ: أَوْجَبَهُ لِكَوْنِهِ قُوتًا، فَنُلْحِقُ بِهِ الْأَقْوَاتَ، وَلِكَوْنِهِ نَبَاتَ الْأَرْضِ، وَفَائِدَتَهَا، فَنُلْحِقُ بِهِ الْخَضْرَاوَاتِ، وَأَنْوَاعَ النَّبَاتِ. فَهَذَا هُوَ الِاجْتِهَادُ الْقِيَاسِيُّ الَّذِي عَظُمَ الْخِلَافُ فِيهِ، أَنْكَرَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ، وَجَمِيعُ الشِّيعَةِ، وَالْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ أَيْضًا عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ التَّحَكُّمُ بِهَا، بَلْ قَدْ تُعْلَمُ بِالْإِيمَاءِ، وَإِشَارَةِ النَّصِّ، فَتُلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ، وَقَدْ تُعْلَمُ بِالسَّبْرِ حَيْثُ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّعْلِيلِ، وَتَنْحَصِرُ الْأَقْسَامُ فِي ثَلَاثَةٍ مَثَلًا، وَيَبْطُلُ قِسْمَانِ، فَيَتَعَيَّنُ الثَّالِثُ، فَتَكُونُ الْعِلَّةُ ثَابِتَةً بِنَوْعٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَلَا تُفَارِقُ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ، وَتَنْقِيحَ الْمَنَاطِ، وَقَدْ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُسْتَنْبَطِ مُؤَثِّرًا بِالْإِجْمَاعِ، فَيُلْحَقُ بِهِ مَا لَا يُفَارِقُهُ إلَّا فِيمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ، كَقَوْلِنَا: الصَّغِيرُ يُوَلَّى عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِصِغَرِهِ، فَيُلْحَقُ بِالْمَالِ الْبُضْعُ إذْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ تَأْثِيرُ الصِّغَرِ فِي جَلْبِ الْحُكْمِ، وَلَا يُفَارِقُ الْبُضْعُ الْمَالَ فِي مَعْنًى مُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ. فَكُلُّ ذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ قَرِيبٌ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ

وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ مِنْ الْأَكْثَرِينَ. هَذَا شَرْحُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَلْنَشْرَعْ الْآنَ فِي الْأَبْوَابِ [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ] ِ وَقَدْ قَالَتْ الشِّيعَةُ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: يَسْتَحِيلُ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا، وَقَالَ قَوْمٌ فِي مُقَابَلَتِهِمْ: يَجِبُ التَّعَبُّدُ بِهِ عَقْلًا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِيهِ بِإِحَالَةٍ، وَلَا إيجَابٍ، وَلَكِنَّهُ فِي مَظِنَّةِ الْجَوَازِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ فَأَنْكَرَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وُقُوعَهُ بَلْ ادَّعَوْا حَظْرَ الشَّرْعِ لَهُ. ، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِأَجْمَعِهِمْ، وَجَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بَعْدَهُمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وُقُوعَ التَّعَبُّدِ بِهِ شَرْعًا، فَفِرَقُ الْمُبْطِلَةِ لَهُ ثَلَاثٌ: الْمُحِيلُ لَهُ عَقْلًا، وَالْمُوجِبُ لَهُ عَقْلًا، وَالْحَاظِرُ لَهُ شَرْعًا، فَنَفْرِضُ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مَسْأَلَةً، وَنُبْطِلُ عَلَيْهِمْ خَيَالَهُمْ، وَنَقُولُ لِلْمُحِيلِ لِلتَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا: بِمَ عَرَفْت إحَالَتَهُ أَبِضَرُورَةٍ أَوْ نَظَرٍ؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَعْوَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَهُمْ مَسَالِكُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ كُلُّ مَا نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَلَا نُحِيلُ التَّعَبُّدَ بِهِ، إنَّمَا نُحِيلُ التَّعَبُّدَ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ رَجْمَ الظَّنِّ جَهْلٌ، وَلَا صَلَاحَ لِلْخَلْقِ فِي إقْحَامِهِمْ وَرْطَةَ الْجَهْلِ حَتَّى يَتَخَبَّطُوا فِيهِ، وَيَحْكُمُوا بِمَا لَا يَتَحَقَّقُونَ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنَّهُ نَقِيضُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَانِ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاحَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا صَلَاحَ فِي التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، فَفِي أَيِّهِمَا النِّزَاعُ؟ وَالْجَوَابُ: إنَّنَا نُنَازِعُكُمْ فِي الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا إيجَابُ صَلَاحِ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فَلَا نُسَلِّمُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَقَدْ جَوَّزَ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاحَ، وَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ لُطْفًا بِعِبَادِهِ فِي الرَّدِّ إلَى الْقِيَاسِ لِتَحَمُّلِ كُلْفَةِ الِاجْتِهَادِ، وَكَدِّ الْقَلْبِ، وَالْعَقْلِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ لِنَيْلِ الْخَيْرَاتِ الْجَزِيلَةِ {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وَتَجَشُّمُ الْقَلْبِ بِالْفِكْرِ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ تَجَشُّمِ الْبَدَنِ بِالْعِبَادَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الشَّارِعُ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُمْ بِالتَّنْصِيصِ كَلِمَاتِ الظَّنِّ، وَذَلِكَ ` أَصْلَحُ قُلْنَا: مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاحَ لَا يُوجِبُ الْأَصْلَحَ، ثُمَّ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْ عِبَادِهِ أَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى جَمِيعِ التَّكَالِيفِ لَبَغَوْا، وَعَصَوْا، وَإِذَا فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِمْ انْبَعَثَ حِرْصُهُمْ لِاتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِمْ، وَظُنُونِهِمْ. ثُمَّ نَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ أَقْحَمَهُمْ وَرْطَةَ الْجَهْلِ فِي الْحُكْمِ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِبْلَةِ، وَتَقْدِيرِ الْمِثْلِ، وَالْكِفَايَاتِ فِي النَّفَقَاتِ، وَالْجِنَايَاتِ؟ وَكُلُّ ذَلِكَ ظَنٌّ، وَتَخْمِينٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا تَعَبَّدَ الْقَاضِي بِصِدْقِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، بَلْ أَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ، وَأَوْجَبَ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِيهَا لَا اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ. قُلْنَا:، وَكَذَلِكَ تَعَبُّدُ الْمُجْتَهِدِ بِأَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ، وَشَهَادَتُهُ لَهُ، وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِظَنِّهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ الشَّهَادَةُ، كَمَا كُلِّفَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ بِظَنِّهِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبُ الشُّهُودِ مُمْكِنًا، وَلَا فَرْقَ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْخَطَأُ مُحَالٌ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَلَّفَ إصَابَةَ مَا لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَمَا أَنْكَرُوهُ إنَّمَا يُشْكِلُ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ

لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: حَرَّمْت كُلَّ مُسْكِرٍ أَوْ حَرَّمْت الْخَمْرَ لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، لَمْ يَكُنْ التَّعَبُّدُ بِهِ مُمْتَنِعًا؛ فَلَوْ قَالَ: مَتَى حَرَّمْتُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ فَاسْبُرُوا، وَقَسِّمُوا صِفَاتِهِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكُمْ بِأَمَارَةٍ أَنِّي حَرَّمْتُهُ لِكَوْنِهِ قُوتًا، وَحَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، فَقَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ كُلَّ قُوتٍ، وَكُلَّ مُسْكِرٍ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنِّي حَرَّمْتُهُ لِكَوْنِهِ مَكِيلًا فَقَدْ حَرَّمْتُ كُلَّ مَكِيلٍ. لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْكُمْ الْقِبْلَةُ فَكُلُّ جِهَةٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِيهَا فَاسْتَقْبِلُوهَا " فَرْقٌ حَتَّى لَوْ غَلَبَ جِهَتَانِ عَلَى ظَنِّ رَجُلَيْنِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا، وَكَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُلْحَقَ ظَنُّ الْقِبْلَةِ بِمُشَاهَدَتِهَا، وَظَنُّ صِدْقِ الْعَدْلِ بِتَحْقِيقِ صِدْقِ الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَةِ، وَصِدْقِ الرَّاوِي الْوَاحِدِ بِتَحْقِيقِ صِدْقِ التَّوَاتُرِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُلْحَقَ ظَنُّ ارْتِبَاطِ الْحُكْمِ بِمَنَاطٍ بِتَحَقُّقِ ارْتِبَاطِهِ بِهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ لِكَوْنِهِ مَكِيلًا أَوْ قُوتًا أَوْ مَطْعُومًا؟ قُلْنَا: وَمَنْ أَوْجَبَ الْأَصْلَحَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ الْمَصْلَحَةِ مَكْشُوفَةً لِلْعِبَادِ، وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي تَقْدِيرِ الْمَغْرِبِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَالصُّبْحِ بِرَكْعَتَيْنِ، وَفِي تَقْدِيرِ الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ بِمَقَادِيرَ مُخْتَلِفَةٍ؟ لَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّعَبُّدِ لُطْفًا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ، يُقَرِّبُ الْعِبَادَ بِسَبَبِهِ مِنْ الطَّاعَةِ، وَيَبْعُدُونَ بِهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَأَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ. حَتَّى لَوْ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى اسْمٍ مُجَرَّدٍ ثَبَتَ، وَاعْتَقَدْنَا فِيهِ لُطْفًا لَا نُدْرِكُهُ فَكَيْفَ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْأَوْصَافِ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: لَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسٌ إلَّا بِعِلَّةٍ، وَالْعِلَّةُ مَا تُوجِبُ الْحُكْمَ لِذَاتِهَا، وَعِلَلُ الشَّرْعِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ التَّعْلِيلُ مَعَ أَنَّ مَا نُصِبَ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلتَّحْلِيلِ؟ قُلْنَا: لَا مَعْنَى لِعِلَّةِ الْحُكْمِ إلَّا عَلَامَةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَ الشَّرْعُ السُّكْرَ عَلَامَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَيَقُولُ: اتَّبِعُوا هَذِهِ الْعَلَامَةَ وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مُسْكِرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَهُ عَلَامَةً لِلتَّحْلِيلِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلتَّحْلِيلِ فَقَدْ حَلَّلْتُ لَهُ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلتَّحْرِيمِ فَقَدْ حَرَّمْت عَلَيْهِ كُلَّ مُسْكِرٍ، حَتَّى يَخْتَلِفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي هَذِهِ الظُّنُونِ، وَكُلُّهُمْ مُصِيبُونَ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى خَبَرُهُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِتَوْقِيفٍ، فَإِذَا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَنْ حُكْمِ الزَّبِيبِ، فَكَيْفَ يُقَالُ حُكْمُ اللَّهِ فِي الزَّبِيبِ التَّحْرِيمُ، وَالنَّصُّ لَمْ يَنْطِقْ إلَّا بِالْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ؟ قُلْنَا: إذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ تَعَبَّدْتُكُمْ بِالْقِيَاسِ فَإِذَا ظَنَنْتُمْ أَنِّي حَرَّمْت الرِّبَا فِي الْبُرِّ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ مَطْعُومٍ، فَيَكُونُ هَذَا خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الزَّبِيبِ. وَمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عِنْدَنَا، فَالْقِيَاسُ عِنْدَنَا حُكْمٌ بِالتَّوْقِيفِ الْمَحْضِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ أَسَاسُ الْقِيَاسِ لَكِنَّ هَذَا النَّصَّ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فَقَدْ دَلَّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ إلَّا، وَقَدْ فَهِمُوا مِنْ الشَّارِعِ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفَاظٍ، وَقَرَائِنَ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلُوهَا إلَيْنَا. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: إذَا اشْتَبَهَتْ رَضِيعَةٌ بِعَشْرِ أَجْنَبِيَّاتٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِعَشْرِ مُذَكَّيَاتٍ، لَمْ يَجُزْ مَدُّ الْيَدِ إلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنْ وُجِدَتْ عَلَامَاتٌ لِإِمْكَانِ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ اجْتِهَادٍ، وَقِيَاسٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْهُجُومُ مَعَ إمْكَانِ الْخَطَأِ؟ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، وَعَدَالَةِ الشَّاهِدِ، وَالْقَاضِي، وَالْإِمَامِ، وَمُتَوَلِّي الْأَوْقَافِ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِي الْأَشْخَاصِ، وَالْأَعْيَانِ، وَلَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهَا بِالنَّصِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛؛ لِأَنَّهُمْ مُتَعَبَّدُونَ بِظُنُونِهِمْ لَا بِصِدْقِ الشُّهُودِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ

نَحْنُ نَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا خَلَاصَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إلَّا بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ، وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ، وَإِنْ خَالَفَ النَّصَّ فَهُوَ مُصِيبٌ، إذْ لَمْ يُكَلَّفْ إلَّا بِمَا بَلَغَهُ، فَالْخَطَأُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي حَقِّهِ. أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، فَيَلْزَمُهُ هَذَا الْإِشْكَالُ. وَأَمَّا اخْتِلَاطُ الرَّضِيعَةِ بِأَجْنَبِيَّاتٍ فَلَسْنَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَانِعَ مُجَرَّدُ إمْكَانِ الْخَطَأِ، فَإِنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي رِضَاعِ امْرَأَةٍ حَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا، وَالْخَطَأُ مُمْكِنٌ، لَكِنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ بِيَقِينٍ، وَحَكَمَ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَنْدَفِعُ بِالشَّكِّ الطَّارِئِ، أَمَّا إذَا تَعَارَضَ يَقِينَانِ، وَهُوَ يَقِينُ التَّحْرِيمِ، وَالتَّحْلِيلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ الصَّافِي عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْيَقِينِ الَّذِي لَمْ يُعَارِضْهُ إلَّا الشَّكُّ الْمُجَرَّدُ، فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ اتِّبَاعًا لِمُوجِبِ الدَّلِيلِ، وَلَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا. [مَسْأَلَةٌ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ عَقْلًا] مَسْأَلَةٌ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ عَقْلًا مُتَحَكِّمُونَ فَمُطَالَبُونَ بِالدَّلِيلِ، وَلَهُمْ شُبْهَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِتَعْمِيمِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، وَالصُّوَرُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَكَيْفَ تُحِيطُ النُّصُوصُ بِهَا؟ ، فَيَجِبُ رَدُّهُمْ إلَى الِاجْتِهَادِ ضَرُورَةً، فَنَقُولُ: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَشْخَاصِ الَّتِي لَيْسَتْ مُتَنَاهِيَةً إنَّمَا يَتِمُّ بِمُقَدِّمَتَيْنِ: كُلِّيَّةٍ، كَقَوْلِنَا: كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ، وَجُزْئِيَّةٍ، كَقَوْلِنَا: هَذَا النَّبَاتُ مَطْعُومٌ أَوْ الزَّعْفَرَانُ مَطْعُومٌ، وَكَقَوْلِنَا: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَهَذَا الشَّرَابُ بِعَيْنِهِ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ عَدْلٍ مُصَدَّقٌ، وَزَيْدٌ عَدْلٌ، وَكُلُّ زَانٍ مَرْجُومٌ، وَمَاعِزٌ قَدْ زَنَى فَهُوَ إذًا مَرْجُومٌ،، وَالْمُقَدِّمَةُ الْجُزْئِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى مَجَارِيهَا فَيُضْطَرُّ فِيهَا إلَى الِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْكُلِّيَّةُ فَتَشْتَمِلُ عَلَى مَنَاطِ الْحُكْمِ وَرَوَابِطِهِ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ بِالرَّوَابِطِ الْكُلِّيَّةِ، كَقَوْلِهِ: كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَكَقَوْلِهِ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ، وَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ اسْتِنْبَاطِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْقِيَاسِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُنَازَعَةُ هَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الصُّوَرِ بِالْحُكْمِ، وَلَمْ يَسْتَحِلْ خُلُوُّ بَعْضِهَا عَنْ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْجُزْئِيَّةِ أَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ فِيهِ إلَى الْيَقِينِ، فَيُقَالُ: مَنْ تَيَقَّنْتُمْ صِدْقَهُ، وَمَا تَيَقَّنْتُمْ كَوْنَهُ مَطْعُومًا أَوْ مُسْكِرًا فَاحْكُمُوا بِهِ، وَمَا لَمْ تَتَيَقَّنُوا بِهِ فَاتْرُكُوهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَجْرِي فِي جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَيَقُّنِ صِدْقِ الشُّهُودِ، وَعَدَالَةِ الْقُضَاةِ، وَالْوُلَاةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيرِ مُتَيَقَّنٍ فِي كِفَايَةِ الْأَقَارِبِ، وَأُرُوشِ الْمُتْلَفَاتِ، فَإِنَّ التَّكْثِيرَ فِيهِ إلَى حُصُولِ الْيَقِينِ رُبَّمَا يَضُرُّ بِجَانِبِ الْمُوجَبِ عَلَيْهِ كَمَا يَضُرُّ التَّقْلِيلُ بِجَانِبِ الْمُوجَبِ لَهُ، فَالِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ ضَرُورَةٌ أَمَّا فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَلَا. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَقْلَ كَمَا دَلَّ عَلَى الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ دَلَّ عَلَى الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهَا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَمُنَاسَبَةُ الْحُكْمِ مُنَاسَبَةً عَقْلِيَّةً مَصْلَحَةٌ يَتَقَاضَى الْعَقْلُ وُرُودَ الشَّرْعِ بِهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ لِخُصُوصِ النَّصِّ بِبَعْضِ مَجَارِي الْحُكْمِ، وَكُلُّ حُكْمٍ قُدِّرَ خُصُوصُهُ فَتَعْمِيمُهُ مُمْكِنٌ، فَلَوْ عَمَّ لَمْ يَبْقَ لِلْقِيَاسِ مَجَالٌ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قِيَاسِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعِلَلِ مَا لَا يُنَاسِبُ، وَمَا تَنَاسَبَ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ لِذَاتِهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُحَرِّمَ الْمُسْكِرَ، وَأَنْ لَا يُوجِبَ الْحَدَّ بِالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعِلَلِ، وَالْأَسْبَابِ.

[مَسْأَلَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ حَسَمَ سَبِيلَ الِاجْتِهَادِ بِالظَّنِّ] مَسْأَلَةٌ الرَّدُّ عَلَى مَنْ حَسَمَ سَبِيلَ الِاجْتِهَادِ بِالظَّنِّ وَلَمْ يُجَوِّزْ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، كَالنَّصِّ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ فَمَنَعُوهُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ الدَّلِيلِ، وَمَا عِنْدِي أَنَّ أَحَدًا يُنَازِعُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، فَلَا تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَّا إلَى فَقِيرٍ، وَيُعْلَمُ فَقْرُهُ بِأَمَارَةٍ ظَنِّيَّةٍ، وَلَا يُحْكَمُ إلَّا بِقَوْلِ عَدْلٍ، وَتُعْرَفُ عَدَالَتُهُ بِالظَّنِّ، وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ فِي الْوَقْتِ، وَالْقِبْلَةِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَكِفَايَةِ الْقَرِيبِ. وَإِنْ اعْتَذَرُوا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ عَبْدٍ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ ظَنِّهِ فِي ذَلِكَ، وَظَنُّهُ مَوْجُودٌ قَطْعًا، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الظَّنِّ وَاجِبٌ قَطْعًا، فَنَحْنُ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي سَائِرِ الِاجْتِهَادَاتِ، وَإِنْ اعْتَذَرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، فَإِنَّمَا نِزَاعُنَا فِي مَعْرِفَةِ مَنَاطِ الْأَحْكَامِ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ لَهُمْ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا نَصًّا، وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ إلَيْنَا عَنْهُمْ تَوَاتُرًا لَا شَكَّ فِيهِ، فَنَنْقُلُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ نَقْلُ الْجَمِيعِ. فَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالِاجْتِهَادِ مَعَ انْتِفَاءِ النَّصِّ، وَنَعْلَمُ قَطْعًا بُطْلَانَ دَعْوَى النَّصِّ عَلَيْهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ، وَعَلَى الْعَبَّاسِ، إذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ، وَلَتَمَسَّكَ بِهِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَشُورَةِ مَجَالٌ حَتَّى أَلْقَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشُّورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، وَفِيهِمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلَوْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَقَدْ اسْتَصْلَحَهُ لَهُ، فَلِمَ تَرَدَّدَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ قِيَاسُهُمْ الْعَهْدَ عَلَى الْعَقْدِ، إذْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ عَقْدُ الْإِمَامَةِ بِالْبَيْعَةِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى وَاحِدٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَهِدَ إلَى عُمَرَ خَاصَّةً، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَلَكِنْ قَاسُوا تَعْيِينَ الْإِمَامِ عَلَى تَعْيِينِ الْأُمَّةِ لِعَقْدِ الْبَيْعَةِ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ: " هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ "، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. ، وَمِنْ ذَلِكَ رُجُوعُهُمْ إلَى اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ وَرَأْيِهِ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: فَكَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: " أَلَمْ يَقُلْ «إلَّا بِحَقِّهَا؟» فَمِنْ حَقِّهَا إيتَاءُ الزَّكَاةِ كَمَا أَنَّ مِنْ حَقِّهَا إقَامَ الصَّلَاةِ، فَلَا أُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ. وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ "، وَبَنُو حَنِيفَةَ الْمُمْتَنِعُونَ مِنْ الزَّكَاةِ جَاءُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُتَمَسِّكِينَ بِدَلِيلِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ فِي اتِّبَاعِ النَّصِّ، وَقَالُوا: إنَّمَا أُمِرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ سَكَنًا لَنَا، وَصَلَاتُكَ لَيْسَتْ بِسَكَنٍ لَنَا، إذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ، وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . فَأَوْجَبُوا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِمَحَلِّ النَّصِّ، وَقَاسَ أَبُو بَكْرٍ، وَالصَّحَابَةُ خَلِيفَةَ الرَّسُولِ عَلَى الرَّسُولِ، إذْ الرَّسُولُ إنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ لِلْفُقَرَاءِ لَا لِحَقِّ نَفْسِهِ، وَالْخَلِيفَةُ نَائِبٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ طُولِ التَّوَقُّفِ فِيهِ، كَكَتْبِ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعِ الْقُرْآنِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، فَاقْتَرَحَ عُمَرُ ذَلِكَ أَوَّلًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَفْعَلُ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَذَلِكَ جَمَعَهُ عُثْمَانُ عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَثُرَتْ الْمَصَاحِفُ مُخْتَلِفَةُ التَّرْتِيبِ، وَمِنْ ذَلِكَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ قَطْعِهِمْ بِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِيهَا.

وَنَنْقُلُ الْآنَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا سُئِلَ، عَنْ الْكَلَالَةِ: " أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ: الْكَلَالَةُ مَا عَدَا الْوَالِدَ، وَالْوَلَدَ ".، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَّثَ أُمَّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: لَقَدْ وَرَّثْتَ امْرَأَةً مِنْ مَيِّتٍ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرَكْتَ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ وَرِثَ جَمِيعَ مَا تَرَكَتْ فَرَجَعَ إلَى الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي السُّدُسِ. وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ بِالرَّأْيِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا نَجْعَلُ مَنْ تَرَكَ دِيَارَهُ، وَأَمْوَالَهُ مُهَاجِرًا إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ كُرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ، وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ، وَلَمَّا انْتَهَتْ الْخِلَافَةُ إلَى عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَوَزَّعَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ. وَاجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْعَطَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ جَزَاءً عَلَى طَاعَتِهِمْ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِهَا، وَاجْتِهَادُ عُمَرَ أَنَّهُ لَوْلَا الْإِسْلَامُ لَمَا اسْتَحَقُّوهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفُوا، وَأَنْ يَجْعَلَ مَعِيشَةَ الْعَالِمِ أَوْسَعَ مِنْ مَعِيشَةِ الْجَاهِلِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَقْضِي فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي، وَأَقُولُ فِيهِ بِرَأْيِي "، وَقَضَى بِآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَوْلُهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَحِمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ فِي الْجَدِّ بِرَأْيِهِ " أَيْ: الرَّأْيِ الْعَارِي عَنْ الْحُجَّةِ، وَقَالَ لَمَّا سَمِعَ الْحَدِيثَ فِي الْجَنِينِ: " لَوْلَا هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا "، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ بِهَذَا الرَّأْيِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ: إنَّ سَمُرَةَ أَخَذَ مِنْ تُجَّارِ الْيَهُودِ الْخَمْرَ فِي الْعُشُورِ، وَخَلَّلَهَا، وَبَاعَهَا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ أَمَا عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» ؟ فَقَاسَ عُمَرُ الْخَمْرَ عَلَى الشَّحْمِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَهَا تَحْرِيمٌ لِثَمَنِهَا. ، وَكَذَلِكَ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا لَمْ يُكَمِّلْ نِصَابَ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهُ جَاءَ شَاهِدًا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا قَاذِفًا، لَكِنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْقَاذِفِ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ لَا تُبَاعَ وَرَأَيْتُ الْآنَ بَيْعَهُنَّ " فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالْقَوْلِ بِالرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ عَهِدَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: " اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ، وَالْأَمْثَالَ ثُمَّ قِسْ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ ". وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: " إنْ اتَّبَعْتَ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَسَدُّ، وَإِنْ تَتَّبِعْ رَأْيَ مَنْ قَبْلَكَ فَنِعْمَ الرَّأْيُ كَانَ "، فَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَمَا صَوَّبَهُمَا جَمِيعًا، وَقَالَ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ: " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ". ، وَقَضَى عُثْمَانُ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ بِالرَّأْيِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِّ الشُّرْبِ مَنْ شَرِبَ هَذَى، وَمَنْ هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي "، وَهُوَ قِيَاسٌ لِلشُّرْبِ عَلَى الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ، الْتِفَاتًا إلَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُنَزِّلُ مَظِنَّةَ الشَّيْءِ مَنْزِلَتَهُ، كَمَا أَنْزَلَ النَّوْمَ مَنْزِلَةَ الْحَدِيثِ، وَالْوَطْءَ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ مَنْزِلَةَ حَقِيقَةِ شُغْلِ الرَّحِمِ، وَنَظَائِرِهِ. ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ بِرَأْيِهِ بَعْدَ أَنْ اسْتَمْهَلَ شَهْرًا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُوصِي مَنْ يَلِي الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ، وَيَقُولُ: " الْأَمْرُ فِي الْقَضَاءِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَقَضَايَا الصَّالِحِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ "، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي عِنْدَ فَقْدِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ فَزَكَّاهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَنْ قَضَى بِتَفَاوُتِ الدِّيَةِ فِي الْأَسْنَانِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا: " كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرُوا الْأَصَابِعَ؟ ".

وَقَالَ فِي الْعَوْلِ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ " الْحَدِيثَ، وَلَمَّا سَمِعَ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ قَالَ: " لَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مِثْلَهُ "، وَقَالَ فِي الْمُتَطَوِّعِ إذَا بَدَا لَهُ الْإِفْطَارُ أَنَّهُ كَالْمُتَبَرِّعِ أَرَادَ التَّصَدُّقَ بِمَالٍ فَتَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَجْب، وَمِيرَاثِ الْجَدِّ. وَلَمَّا وَرَّثَ زَيْدٌ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ، وَأَبَوَيْنِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْنَ، وَجَدْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ؟ فَقَالَ زَيْدٌ: أَقُولُ بِرَأْيِي، وَتَقُولُ بِرَأْيِكَ. فَهَذَا، وَأَمْثَالُهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ مَشْهُورٌ، وَمَا مِنْ مُفْتٍ إلَّا، وَقَدْ قَالَ بِالرَّأْيِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ؛ فَلِأَنَّهُ أَغْنَاهُ غَيْرُهُ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمْ فِي الرَّأْيِ فَانْعَقَدَ إجْمَاعٌ قَاطِعٌ عَلَى جَوَازِ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ. وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفُوا وَاجْتَهَدُوا فِيهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ حَكَمُوا بِمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ فَقَدْ ثَبَتَ الِاجْتِهَادُ، وَإِنْ كَانَ فَمُحَالٌ إذْ كَانَ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ أَنْ لَا يَكْتُمَهُ، وَلَوْ أَظْهَرَهُ، وَكَانَ قَاطِعًا لَمَا خَالَفَهُ أَحَدٌ، وَلَوْ خَالَفَهُ لَوَجَبَ تَفْسِيقُهُ، وَتَأْثِيمُهُ، وَنِسْبَتُهُ إلَى الْبِدْعَةِ، وَالضَّلَالِ، وَلَوَجَبَ مَنْعُهُ مِنْ الْفَتْوَى، وَمَنْعُ الْعَامَّةِ مِنْ تَقْلِيدِهِ، هَذَا أَقَلُّ مَا يَجِبُ فِيهِ إنْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ، وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَاهُ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَوْ كَانَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَكَانَ الْمُخَالِفُ فَاسِقًا، وَكَانَ الْمُحِقُّ بِالسُّكُوتِ عَنْ الْمُخَالِفِ، وَتَرْكِ دَعْوَتِهِ إلَى الْحَقِّ فَاسِقًا، فَيَعُمُّ الْفِسْقُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ بَلْ يَعُمُّ الْعِبَادَ جَمِيعَهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَقْلِيَّاتِ، فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا غَامِضَةٌ قَدْ لَا يُدْرِكُهَا بَعْضُ الْخَلْقِ فَلَا يَكُونُ مُعَانِدًا. أَمَّا الْقَاطِعُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ نَصٌّ ظَاهِرٌ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: إنَّمَا يُحْكَمُ بِنَصٍّ مَنْطُوقٍ بِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ فِيمَا لَيْسَ مَنْطُوقًا بِهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَمَعْقُولُ هَذَا أَنَّ لِأَبِيهِ الثُّلُثَيْنِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فَمَعْقُولُهُ تَحْرِيمُ التِّجَارَةِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْبَيْتِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] ، وَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، وَ {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ إلَّا فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَلَا يَخْفَى هَذَا عَلَى عَامِّيٍّ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِمْ حَتَّى نَشَأَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ؟ هَذَا تَمْهِيدُ الدَّلِيلِ، وَتَمَامُهُ بِدَفْعِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَقَدْ يَعْتَرِضُ الْخَصْمُ عَلَيْهِ تَارَةً بِإِنْكَارِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ، وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ إثْبَاتِهِ، وَتَارَةً بِإِنْكَارِ تَمَامِ الْإِجْمَاعِ فِي الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا ذَكَرْنَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْبَاقِينَ إلَّا السُّكُوتُ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ بَعْضِهِمْ إنْكَارَ الرَّأْيِ، وَتَارَةً يُسَلِّمُونَ السُّكُوتَ لَكِنْ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُجَامَلَةِ فِي تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ لَا عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الرَّأْيِ، وَتَارَةً يُقِرُّونَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِتَفْسِيقِ الصَّحَابَةِ، وَتَارَةً يَرُدُّونَ رَأْيَهُمْ إلَى الْعُمُومَاتِ، وَمُقْتَضَى الْأَلْفَاظِ، وَتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ دُونَ الْقِيَاسِ. فَهَذِهِ مَدَارِكُ اعْتِرَاضَاتِهِمْ، وَهِيَ خَمْسَةٌ: الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجَاحِظُ - حِكَايَةً عَنْ النَّظَّامِ -: إنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ لَزِمُوا الْعَمَلَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا مَا كُفُوا الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ إعْمَالِ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ، لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ التَّهَارُجُ، وَالْخِلَافُ، وَلَمْ يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ، لَكِنْ لَمَّا عَدَلُوا عَمَّا كُلِّفُوا، وَتَخَيَّرُوا، وَتَآمَرُوا، وَتَكَلَّفُوا الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ جَعَلُوا الْخِلَافَ طَرِيقًا، وَتَوَرَّطُوا فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ، وَالْقِتَالِ وَكَذَلِكَ الرَّافِضَةُ

بِأَسْرِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ السَّلَفَ بِأَسْرِهِمْ تَآمَرُوا، وَغَصَبُوا الْحَقَّ أَهْلَهُ، وَعَدَلُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَحْكَامِ إلَى الْقِيَامَةِ، فَتَوَرَّطُوا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْخِلَافِ. وَهَذَا اعْتِرَاضُ مَنْ عَجَزَ عَنْ إنْكَارِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الرَّأْيِ فَفَسَقَ، وَضَلَّ، وَنَسَبَهُمْ إلَى الضَّلَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، وَمَا دَلَّ عَلَى مَنْصِبِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ ثَنَاءِ الْقُرْآنِ، وَالْأَخْبَارِ عَلَيْهِمْ كَمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْإِمَامَةِ، وَكَيْفَ يَعْتَقِدُ الْعَاقِلُ الْقَدْحَ فِيمَنْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِ مُبْتَدِعٍ مِثْلِ النَّظَّامِ؟ الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: لَا يَصِحُّ الرَّأْيُ، وَالْقِيَاسُ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ، وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَسْكُتْ عَنْ الِاعْتِرَاضِ قَالَ النَّظَّامُ فِيمَا حَكَاهُ الْجَاحِظُ عَنْهُ: إنَّهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْ قُدَمَائِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَنَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي ثَلْبِ الْعَبَادِلَةِ، وَقَالَ: كَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَثْنَى عَلَى الْعَبَّاسِ، وَالزُّبَيْرِ إذْ تَرَكَا الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ، وَلَمْ يَشْرَعَا. ، وَقَالَ الدَّاوُدِيَّةُ: لَا نُسَلِّمُ سُكُوتَ جَمِيعِهِمْ عَنْ إنْكَارِ الرَّأْيِ، وَالتَّخْطِئَةِ فِيهِ، إذْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، وَقَالَ: أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قِصَّةِ الْجَنِينِ: إنْ اجْتَهَدُوا فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدُوا فَقَدْ غَشُّوا.، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَخْبِرُوا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ لِفَتْوَاهُ بِالرَّأْيِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ.، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْمَالِ النِّصْفَ، وَالثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ: إنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عُمَرُ: إيَّاكُمْ، وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا، وَقَالَ عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ فَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا تَكَلُّفٌ، وَظَنٌّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مَنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ بِآرَائِهِمْ، وَلَوْ نَزَلَ الْقُرْآنَ لَنَزَلَ بِخِلَافِ مَا يُفْتُونَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُرَّاؤُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يَقِيسُونَ مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا كَانَ، وَقَالَ أَيْضًا: إنْ حَكَمْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالرَّأْيِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي دِينِهِ بِرَأْيِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ} [النساء: 105] ، وَلَمْ يَقُلْ " بِمَا رَأَيْت "، وَقَالَ: إيَّاكُمْ، وَالْمَقَايِيسَ فَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَرُونِي مِنْ أَرَأَيْتَ وَأَرْأَيْتَ. وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ التَّابِعُونَ الْقِيَاسَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا أَخْبَرُوك عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَاقْبَلْهُ، وَمَا أَخْبَرُوك عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ إنَّ السَّنَةَ لَمْ تُوضَعْ بِالْمَقَايِيسِ.، وَقَالَ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ: لَا أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا بِالْقَوَاطِعِ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ الِاجْتِهَادَ

وَالْقَوْلَ بِالرَّأْيِ، وَالسُّكُوتَ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فِي وَقَائِعَ مَشْهُورَةٍ، كَمِيرَاثِ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَتَعْيِينِ الْإِمَامِ بِالْبَيْعَةِ، وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَالْعَهْدِ إلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ، وَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مِنْ آحَادِ الْوَقَائِعِ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ مَا أَوْرَثَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِقَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ ضَرُورَةً كَمَا عُرِفَ سَخَاءُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ فَجَاوَزَ الْأَمْرُ حَدًّا يُمْكِنُ التَّشَكُّكُ فِي حُكْمِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا نَقَلُوهُ بِخِلَافِهِ فَأَكْثَرُهَا مَقَاطِيعُ، وَمَرْوِيَّةٌ عَنْ غَيْرِ ثَبْتٍ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْ صَاحِبِهَا بِنَقِيضِهِ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً بِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ؟ وَلَوْ تَسَاوَتْ فِي الصِّحَّةِ لَوَجَبَ اطِّرَاحُ جَمِيعِهَا، وَالرُّجُوعُ إلَى مَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَاجْتِهَادِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَتَوَاتَرَتْ أَيْضًا لَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْمَشْهُورِ مِنْ اجْتِهَادَاتِهِمْ. فَيُحْمَلُ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ أَوْ الرَّأْيِ الصَّادِرِ عَنْ الْجَهْلِ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ أَوْ وَضْعُ الرَّأْيِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالرَّأْيُ الْفَاسِدُ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ، وَيَرْجِعُ إلَى مَحْضِ الِاسْتِحْسَانِ، وَوَضْعِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ نَسْجٍ عَلَى مِنْوَالٍ سَابِقٍ، وَفِي أَلْفَاظِ رِوَايَتِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إذْ قَالَ: اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، وَقَالَ: لَوْ قَالُوا بِالرَّأْيِ لَحَرَّمُوا الْحَلَالَ، وَأَحَلُّوا الْحَرَامَ. فَإِذًا الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ مُقِرُّونَ بِإِبْطَالِ أَنْوَاعٍ مَنْ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ لَا يُقِرُّونَ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهُ أَصْلًا، وَنَحْنُ نُقِرُّ بِفَسَادِ أَنْوَاعٍ مِنْ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ كَقِيَاسِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ، إذْ قَالُوا: الْأُصُولُ لَا تُثْبِتُ قِيَاسًا فَلْتَكُنْ الْفُرُوعُ كَذَلِكَ وَلَا تَثْبُتُ الْأُصُولُ بِالظَّنِّ فَكَذَلِكَ الْفُرُوعُ، وَقَالُوا لَوْ كَانَ فِي الشَّرِيعَةِ عِلَّةٌ لَكَانَتْ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَقَاسُوا الشَّيْءَ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ. فَإِذًا إنْ بَطَلَ كُلُّ قِيَاسٍ فَلْيَبْطُلْ قِيَاسُهُمْ وَرَأْيُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ أَيْضًا، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْمَذْهَبَيْنِ. الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا تَمَّ بِسُكُوتِ الْبَاقِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ. فَنَقُولُ: لَعَلَّهُمْ سَكَتُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُجَامَلَةِ، وَالْمُصَالَحَةِ خِيفَةً مِنْ ثَوَرَانِ فِتْنَةِ النِّزَاعِ أَوْ سَكَتُوا عَنْ إظْهَارِ الدَّلِيلِ لِخَفَائِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ فِيهَا قَوَاطِعُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَصِيغَةِ الْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ، وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَأَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ فِي أَصْلِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَصْلِ الْقِيَاسِ، وَأَصْلِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ عِنْدَكُمْ فِي النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ التَّأْثِيمُ، وَالتَّفْسِيقُ فِيهَا ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَمْلَ سُكُوتِهِمْ عَلَى الْمُجَامَلَةِ، وَالْمُصَالَحَةِ، وَاتِّقَاءِ الْفِتْنَةِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ، وَتَنَاظَرُوا، وَتَحَاجُّوا، وَلَمْ يَتَجَامَلُوا، ثُمَّ افْتَرَقَتْ بِهِمْ الْمَجَالِسُ عَنْ اجْتِهَادَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَالِغًا مَبْلَغًا قَطْعِيًّا لَبَادَرُوا إلَى التَّأْثِيمِ، وَالتَّفْسِيقِ كَمَا فَعَلُوا بِالْخَوَارِجِ، وَالرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَكُلُّ مَنْ عُرِفَ بِقَاطِعِ فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ. وَأَمَّا سُكُوتُهُمْ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فَمُحَالٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: لَسْتَ شَارِعًا، وَلَا مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَلِمَ تَضَعُ أَحْكَامَ اللَّهِ بِرَأْيِك، لَيْسَ كَلَامًا خَفِيًّا تَعْجِزُ عَلَى دَرْكِهِ الْأَفْهَامُ، وَكُلُّ مَنْ قَاسَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَقَدْ شَرَّعَ. فَلَوْلَا عِلْمُهُمْ حَقِيقَةً بِالْإِذْنِ لَكَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُسَامِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، وَاخْتِرَاعِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلَيْسَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ، وَلَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ بَلْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ

وَبِإِجْمَاعِهِمْ تَمَسُّكُنَا فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ. وَأَمَّا الْعُمُومُ، وَالْمَفْهُومُ وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فَقَلَّمَا خَاضُوا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِتَجْرِيدِ النَّظَرِ فِيهَا خَوْضَ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَكِنْ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ بِالْعُمُومِ، وَالصِّيغَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّا نَتَمَسَّكُ بِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْر قَرِينَةٍ بَلْ كَانَتْ الْقَرَائِنُ الْمُعَرِّفَةُ لِلْأَحْكَامِ الْمُقْتَرِنَةُ بِالصِّيَغِ فِي زَمَانِهِمْ غَضَّةً طَرِيَّةً مُتَوَافِرَةً مُتَظَاهِرَةً فَمَا جَرَّدُوا النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ سِوَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَصْلُ الْقِيَاسِ، وَالْإِجْمَاعِ أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ بَلْ هِيَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ؟ فَمَنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ انْدَفَعَ عَنْهُ الْإِشْكَالُ. ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَرْضِيًّا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ هَذِهِ أُصُولُ الْأَحْكَامِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ إلَّا بِقَاطِعٍ لَكِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُجَرِّدُوا النَّظَرَ فِيهَا، وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ اعْتَقَدَ فِي مَسْأَلَةٍ دَلِيلًا قَاطِعًا فَلَا يَسْكُتُ عَنْ تَعْصِيَةِ مُخَالِفِهِ، وَتَأْثِيمِهِ كَمَا سَبَقَ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ، وَالرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ. الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ إنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ نَقْلٌ لِلْحُكْمِ بِالظَّنِّ، وَالِاجْتِهَادِ، فَلَعَلَّهُمْ عَوَّلُوا فِيهِ عَلَى صِيغَةِ عُمُومٍ وَصِيغَةِ أَمْرٍ، وَاسْتِصْحَابِ حَالٍ، وَمَفْهُومِ لَفْظٍ، وَاسْتِنْبَاطِ مَعْنَى صِيغَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ، وَاللُّغَةُ فِي جَمْعٍ بَيْنَ آيَتَيْنِ، وَخَبَرَيْنِ وَصِحَّةِ رَدِّ مُقَيَّدٍ إلَى مُطْلَقٍ، وَبِنَاءِ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ، وَتَرْجِيحِ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ، وَتَقْرِيرٍ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، وَمَا جَاوَزَ هَذَا، فَكَانَ اجْتِهَادُهُمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ لَا فِي تَنْقِيحِهِ، وَاسْتِنْبَاطِهِ، وَالْحُكْمُ إذَا صَارَ مَعْلُومًا بِضَابِطٍ فَتَحْقِيقُ الضَّابِطِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ لَا نُنْكِرُهُ فَقَدْ عَلِمُوا قَطْعًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إمَامٍ ، وَعَلِمُوا أَنَّ الْأَصْلَحَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ، وَعَرَفُوا بِالِاجْتِهَادِ الْأَصْلَحَ إذْ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ، وَعَرَفُوا أَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ، وَالنِّسْيَانِ وَاجِبٌ قَطْعًا، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى حِفْظِهِ إلَّا الْكَتَبَةَ فِي الْمُصْحَفِ. فَهَذِهِ أُمُورٌ عُلِّقَتْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ نَصًّا، وَإِجْمَاعًا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَشْخَاصِ، وَالْأَحْوَالِ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ لِلْحُكْمِ، وَمَا جَاوَزَ هَذَا مِنْ تَشْبِيهِ مَسْأَلَةٍ بِمَسْأَلَةٍ، وَاعْتِبَارِهَا بِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ النَّقْضِ بِخَيَالٍ فَاسِدٍ لَا فِي مَعْرِضِ اقْتِبَاسِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دِيَةِ الْأَسْنَانِ كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِالْأَصَابِعِ إذْ عَلَّلُوا اخْتِلَافَ دِيَةِ الْأَسْنَانِ بِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا، وَذَلِكَ مَنْقُوضٌ بِالْأَصَابِعِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّقْضَ مِنْ طُرُقِ إفْسَادِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا بِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ أَيْضًا: أَرَأَيْت لَوْ اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ حَيْثُ تَوَقَّفَ عُمَرُ عَنْ قَتْلِ سَبْعَةٍ بِوَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا تَخَيَّلَ كَوْنَ الشَّرِكَةِ مَانِعًا بِنَوْعٍ مِنْ الْقِيَاسِ نَقَضَهُ عَلِيٌّ بِالسَّرِقَةِ فَإِذًا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ مَا يُصَحِّحُ الْقِيَاسَ أَصْلًا، وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْحُكْمِ إلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالظَّنِّ جَائِزٌ ، وَالْإِنْصَافُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الظَّنِّ لَكِنَّا لَا نَقِيسُ ظَنَّ الْقِيَاسِ عَلَى ظَنِّ الِاجْتِهَادِ فِي مَفْهُومِ الْأَلْفَاظِ، وَتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْأَحْكَامِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِنَوْعٍ مِنْ الظَّنِّ دُونَ نَوْعٍ، وَلَكِنْ بَانَ لَنَا عَلَى الْقَطْعِ أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ بَلْ جَاوَزُوا ذَلِكَ إلَى الْقِيَاسِ، وَالتَّشْبِيهِ، وَحَكَمُوا بِأَحْكَامٍ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقِيَاسِ، وَتَعْلِيلِ النَّصِّ، وَتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ كَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ قَاسَ الْعَهْدَ

عَلَى الْعَقْدِ بِالْبَيْعَةِ، وَقِيَاسُ أَبِي بَكْرٍ الزَّكَاةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قِتَالِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَرُجُوعُ أَبِي بَكْرٍ إلَى تَوْرِيثِ أُمِّ الْأَبِ قِيَاسًا عَلَى أُمِّ الْأُمِّ. ، وَقِيَاسُ عُمَرَ الْخَمْرَ عَلَى الشَّحْمِ فِي تَحْرِيمِ ثَمَنِهِ، وَقِيَاسُهُ الشَّاهِدَ عَلَى الْقَاذِفِ فِي حَدِّ أَبِي بَكْرَةَ، وَتَصْرِيحُ عَلِيٍّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الِافْتِرَاءِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ، وَلَسْنَا نَعْنِي بِالْقِيَاسِ إلَّا هَذَا الْجِنْسَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ ضَرُورَةً فِي وَقَائِعَ لَا تُحْصَى، وَلَا تَنْحَصِرُ، وَلْنُعَيِّنْ مَسْأَلَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ نُقِلَتَا عَلَى التَّوَاتُرِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرَامِ. أَمَّا فِي قَوْلِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَلْحَقَهُ بَعْضُهُمْ بِالظِّهَارِ، وَبَعْضُهُمْ بِالطَّلَاقِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْيَمِينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قِيَاسٌ، وَتَشْبِيهٌ فِي مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا، إذْ النَّصُّ وَرَدَ فِي الْمَمْلُوكَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، وَالنِّزَاعُ وَقَعَ فِي الْمَنْكُوحَةِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا: هَذِهِ لَفْظَةٌ لَا نَصَّ فِيهَا فِي النِّكَاحِ فَلَا حُكْمَ لَهَا، وَيَبْقَى الْحِلُّ، وَالْمِلْكُ مُسْتَمِرًّا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْحِلِّ، وَالْمِلْكِ أَوْ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ يُعْرَفُ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَلَا نَصَّ، وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ فَلَا حُكْمَ، فَلِمَ قَاسُوا الْمَنْكُوحَةَ عَلَى الْأَمَةِ؟ وَلِمَ قَاسُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى لَفْظِ الظِّهَارِ، وَعَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ أَغْنَاكُمْ اللَّهُ عَنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا؟ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَحْدَهُ عَصَبَةٌ بِالنَّصِّ، وَالْأَخُ وَحْدَهُ عَصَبَةٌ، وَلَا نَصَّ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فَقَضَوْا حَيْثُ لَا نَصَّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَصَرَّحُوا بِالتَّشْبِيهِ بِالْحَوْضَيْنِ، وَالْخَلِيجَيْنِ وَصَرَّحَ مَنْ قَدَّمَ الْجَدَّ، وَقَالَ: ابْنُ الِابْنِ ابْنٌ فَلْيَكُنْ أَبُو الْأَبِ أَبًا وَصَرَّحَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَخَ يُدْلَى بِالْأَبِ، وَالْجَدَّ أَيْضًا يُدْلِي بِهِ، وَالْمُدَلَّى بِهِ وَاحِدٌ، وَالْإِدْلَاءُ مُخْتَلِفٌ؛ فَقَاسُوا الْإِدْلَاءَ بِجِهَةِ الْأُبُوَّةِ عَلَى الْإِدْلَاءِ بِجِهَةِ الْبُنُوَّةِ مَعَ أَنَّ الْبُنُوَّةَ قَدْ تُفَارِقُ الْأُبُوَّة فِي أَحْكَامٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدٌ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ، وَأَبَوَيْنِ: لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْنَ رَأَيْت فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُلُث مَا بَقِيَ؟ فَقَالَ: أَقُولُ بِرَأْيِي، وَتَقُولُ بِرَأْيِك فَزَيْدٌ قَاسَ حَالَ وُجُودِ الزَّوْجِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجٌ، إذْ يَكُونُ لِلْأَبِ ضِعْفُ مَا لِلْأُمِّ، فَقَالَ: نُقَدِّرُ كَأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ كُلُّ الْمَالِ، وَنُقَدِّرُ كَأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَكُنْ. ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَتَّشَ عَنْ اخْتِلَافَاتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَغَيْرِهَا عَلِمَ ضَرُورَةَ سُلُوكِهِمْ طُرُقَ الْمُقَايَسَةِ، وَالتَّشْبِيهِ، وَأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا فَارِقًا بَيْنَ مَحَلِّ النَّصِّ، وَغَيْرِهِ وَرَأَوْا جَامِعًا. وَكَانَ الْجَامِعُ فِي اقْتِضَاءِ الِاجْتِمَاعِ أَقْوَى فِي الْقَلْبِ مِنْ الْفَارِقِ فِي اقْتِضَاءِ الِافْتِرَاقِ مَالُوا إلَى الْأَقْوَى الْأَغْلَبِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَا طَلَبُوا الْمُشَابَهَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذْ لَوْ تَشَابَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَاتَّحَدَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَلَمْ تَتَعَدَّدْ، فَيَبْطُلُ التَّشْبِيهُ، وَالْمُقَايَسَةُ، وَكَانُوا لَا يَكْتَفُونَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي أَيِّ وَصْفٍ كَانَ بَلْ فِي وَصْفٍ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مَنَاطًا لَوْ عَرَفُوهُ بِالنَّصِّ لَمَا بَقِيَ لِلِاجْتِهَادِ، وَالْخِلَافِ مَجَالٌ، فَكَانُوا يُدْرِكُونَ ذَلِكَ بِظُنُونٍ، وَأَمَارَاتٍ، وَنَحْنُ أَيْضًا نَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِي كُلِّ قِيَاسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ إنْ قَالُوا بِالْقِيَاسِ اخْتِرَاعًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ قَالُوا بِهِ عَنْ سَمَاعٍ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَجِبُ إظْهَارُ مُسْتَنَدِهِمْ، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَإِنَّكُمْ تُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيمَا أَبْدَعُوهُ، وَوَضَعُوهُ. وَنَحْنُ نُسَلِّمُ وُجُوبَ الِاتِّبَاعِ فِيمَا سَمِعُوهُ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ بَعْضُ الْأَوْصَافِ فَاتَّبِعُوهُ. فَإِنَّ الْأَمْرَ كَمَا ظَنَنْتُمُوهُ أَوْ حُكْمَ الظَّانِّ عَلَى مَا ظَنَّهُ فَهِيَ عَلَامَةٌ فِي حَقِّهِ، وَغَيْرُ عَلَامَةٍ فِي حَقِّ مَنْ ظَنَّهُ

بِخِلَافِهِ فَلَا يُنْكِرُ وُجُوبَ قَبُولِ هَذَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: إذَا ظَنَنْتُمْ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ فَاعْلَمُوا أَنَّ عَمْرًا فِي الدَّارِ، وَاعْلَمُوا أَنِّي حَرَّمْت الرِّبَا فِي الْبُرِّ، لَكِنَّا نَقْطَعُ بِتَحْرِيمِ الْبُرِّ، وَكَوْنُ عَمْرٍو فِي الدَّارِ مَهْمَا ظَنَنَّا أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ فَهِمَ الصَّحَابَةُ هَذَا، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ مُؤْنَةٌ كُفِينَاهَا، فَإِنَّهُمْ مَهْمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْقِيَاسِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ لَوْ وَضَعُوا الْقِيَاسَ، وَاخْتَرَعُوا اسْتِصْوَابًا بِرَأْيِهِمْ، وَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَلَا يَجْمَعُ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْخَطَأِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى الْبَحْثِ عَنْ مُسْتَنِدِهِمْ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنْ مُسْتَنَدَاتٍ كَثِيرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ، وَعَنْ دَلَالَاتٍ، وَقَرَائِنِ أَحْوَالٍ، وَتَكْرِيرَاتٍ، وَتَنْبِيهَاتٍ تُفِيدُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَرَبْطِ الْحُكْمِ بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ، لَكِنْ انْقَسَمَتْ تِلْكَ الْمُسْتَنَدَاتُ إلَى مَا انْدَرَسَ فَلَمْ يُنْقَلْ اكْتِفَاءٌ بِمَا عَلِمَتْهُ الْأُمَّةُ ضَرُورَةً، وَإِلَى مَا نُقِلَ، وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ إلَّا نَقْلُ الْآحَادِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَلَا يُورِثُ الْعِلْمَ، وَإِلَى مَا تَوَاتَرَ، وَلَكِنْ آحَادُ لَفْظِهَا يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ، وَالتَّأْوِيلُ إلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِآحَادِهَا، وَإِلَى مَا هِيَ قَرَائِنُ أَحْوَالٍ يَعْسُرُ وَصْفُهَا، وَنَقْلُهَا فَلَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا فَكُفِينَا مُؤْنَةَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُسْتَنَدِ لِمَا عَلِمْنَاهُ عَلَى التَّوَاتُرِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ. وَنَحْنُ مَعَ هَذَا نُشِيعُ الْقَوْلَ فِي شَرْحِ مُسْتَنَدَاتِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ مَدَارِكُ تَنْبِيهَاتِهِمْ لِلتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] إذْ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ الْعُبُورُ مِنْ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ إذَا شَارَكَهُ فِي الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَلَّا اعْتَبَرُوا بِالْأَصَابِعِ وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وَقَوْلُهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةُ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرَامِ إذَا لَمْ يَكُنِ الِاقْتِبَاسُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْكِتَابِ. ، وَقَدْ تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَيْسَتْ مَرْضِيَّةً؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِهَا نُصُوصًا صَرِيحَةً إنْ لَمْ تَنْضَمَّ إلَيْهَا قَرَائِنُ، وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ: بِمَ تَحْكُمُ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ» . وَهَذَا حَدِيثٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ فِيهِ طَعْنًا، وَإِنْكَارًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُهُ مُرْسَلًا بَلْ لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ إسْنَادِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» وَ «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا عَلِمَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كَافَّةً، إلَّا أَنَّهُ نَصٌّ فِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَعَلَّهُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَتَعْيِينِ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا عُلِّقَ أَصْلُهُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْقِيَاسَ إلَّا بِعُمُومِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لِعُمَرَ حِين تَرَدَّدَ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ أَكَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: فَلِمَ إذًا؟» فَشَبَّهَ مُقَدِّمَةَ الْوِقَاعِ بِمُقَدِّمَةِ الشُّرْبِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ إلَّا بِقَرِينَةٍ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَقْضًا لِقِيَاسِهِ حَيْثُ أَلْحَقَ مُقَدِّمَةَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَقَالَ: إنْ كُنْت تَقِيسُ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ فَأَلْحِقْ الْمَضْمَضَةَ بِالشُّرْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ»

فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى قِيَاسِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَيْنِ الْخَلْقِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ تُعَرِّفُ الْقَصْدَ أَيْضًا، إذْ لَوْ كَانَ لِتَعْلِيمِ الْقِيَاسِ لَقِيسَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ أَيْ: الْقَافِلَةُ فَادَّخِرُوا» فَبَيَّنَ أَنَّهُ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ الْعِلَّةِ فَقَدْ كَانَ النَّهْيُ لِعِلَّةٍ، وَقَدْ زَالَتْ الْعِلَّةُ فَزَالَ الْحُكْمُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلَا إذًا» . وقَوْله تَعَالَى {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، وَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ: «أَلَا أَخْبَرْتِيهِ أَنِّي أُقَبِّلُ، وَأَنَا صَائِمٌ» تَنْبِيهًا عَلَى قِيَاسِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ» ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، وَلَيْسَ الرَّأْيُ إلَّا تَشْبِيهًا، وَتَمْثِيلًا بِحُكْمِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الشَّيْءِ، وَأَشْبَهُ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا بِالْأَمْرِ، وَثَبَتَ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ اجْتَهَدُوا بِالْأَمْرِ، وَقَالَ عُمَرُ يَا أَيّهَا النَّاسُ إنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُصِيبًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُسَدِّدُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الظَّنِّ، وَالتَّكَلُّفِ، فَلَمْ يُفَرِّقْ إلَّا فِي الْعِصْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ «أَمْرُهُ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِرَأْيِهِ فَأَمَرَهُمْ بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَقَدْ وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي عُقُوبَةِ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْحَدِّ» ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا، وَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» عَلَّلَ تَحْرِيمَ ثَمَنِهَا بِتَحْرِيمِ أَكْلِهَا، وَاسْتَدَلَّ عُمَرُ بِهَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى سَمُرَةَ حَيْثُ أَخَذَ الْخَمْرَ فِي عُشُورِ الْكُفَّارِ، وَبَاعَهَا. وَمِنْ تَعْلِيلَاتِهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ مُلَبِّيًا» ، وَقَوْلُهُ فِي الشُّهَدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَالطَّوَّافَاتِ» ، وَقَوْلُهُ «فِي الَّذِي ابْتَاعَ غُلَامًا، وَاسْتَغَلَّهُ ثُمَّ رَدَّهُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» : فَهَذِهِ أَجْنَاسٌ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَآحَادُهَا لَا تَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً، وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ تَأْثِيرُ اقْتِرَانِهَا مَعَ نَظَائِرِهَا فِي إشْعَارِ الصَّحَابَةِ بِكَوْنِهِمْ مُتَعَبَّدِينَ بِالْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقَوْلُ فِي شُبَهِ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ وَالصَّائِرِينَ إلَى حَظْرِهِ] ِ شُبَهُ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ، وَالصَّائِرِينً إلَى حَظْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ،، وَهِيَ سَبْعٌ. الْأُولَى: تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وَقَوْلُهُ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] قَالُوا: مَعْنَاهُ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا شَرَعَ لَكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا فَلْيَكُنْ كُلُّ مَشْرُوعٍ فِي الْكِتَابِ، وَمَا لَيْسَ مَشْرُوعًا، فَيَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَسْأَلَةُ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَالْعَوْلِ، وَالْمَبْتُوتَةِ، وَالْمُفَوَّضَةِ، وَأَنْتِ عَلِيَّ حَرَامٌ، وَفِيهَا حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى شَرْعِيٌّ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى طَلَبِهِ، وَالْكِتَابُ بَيَانٌ لَهُ إمَّا بِتَمْهِيدِ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْقِيَاسُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالسُّنَّةِ، فَيَكُونُ الْكِتَابُ قَدْ بَيَّنَهُ. الثَّانِي: أَنَّكُمْ حَرَّمْتُمْ الْقِيَاسَ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانُ تَحْرِيمِهِ، فَيَلْزَمُكُمْ تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا خُصِّصَ قَوْلُهُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] {وَأُوتِيَتْ مِنْ

كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وَ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، وَهَذَا حُكْمٌ بِغَيْرِ الْمُنَزَّلِ. قُلْنَا: الْقِيَاسُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ، كَيْفَ، وَمَنْ حَكَمَ بِمَعْنَى اُسْتُنْبِطَ مِنْ الْمُنَزَّلِ فَقَدْ حَكَمَ بِالْمُنَزَّلِ؟ ثُمَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ قَاسُوا عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَأَقَرُّوا بِالْقِيَاسِ فِي مَعْرِضِ إبْطَالِ الْقِيَاسِ مَعَ انْقِدَاحِ الْفَرْقِ إذْ قَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَجُزْ الِاجْتِهَادُ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَيْ لَا يُتَّهَمَ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّبْلِيغِ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ الْأُمَّةِ. ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44] الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَ {إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12] قُلْنَا: إذَا عَلِمْنَا أَنَّا إذَا ظَنَنَّا كَوْنَ زَيْدٍ فِي الدَّارِ حُرِّمَ عَلَيْنَا الرِّبَا فِي الْبُرِّ ثُمَّ ظَنَنَّا كَانَ الْحُكْمُ مَقْطُوعًا بِهِ لَا مَظْنُونًا كَمَا إذَا ظَنَّ الْقَاضِي صِدْقَ الشُّهُودِ، وَكَمَا فِي الْقِبْلَةِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَأَبْوَابِ تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا عَامٌّ أَرَادَ بِهِ ظُنُونَ الْكُفَّارِ الْمُخَالِفَةَ لِلْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ. ثُمَّ نَقُول: أَلَسْتُمْ قَاطِعِينَ بِإِبْطَالِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِخَطَئِكُمْ؟ فَلَا تَحْكُمُوا بِالظَّنِّ، وَلَيْسَ مِنْ الْجَوَابِ الْمَرْضِيِّ قَوْلُ الْقَائِلِ: الظَّنُّ عِلْمٌ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ، وَبَاطِنٌ. الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] قَالُوا: وَأَنْتُمْ تُجَادِلُونَ فِي الْقِيَاسِ قُلْنَا: وَأَنْتُمْ تُجَادِلُونَ فِي نَفْيِهِ، وَإِبْطَالِهِ فَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَادَ بِهِ الْجِدَالَ الْبَاطِلَ فَهُوَ عُذْرُنَا، فَإِنَّهُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي جِدَالِهِمْ بِخِلَافِ النَّصِّ حَيْثُ قَالُوا: نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَاهُ، وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ، وَكَمَا قَاسُوا الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] . الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قَالُوا: وَأَنْتُمْ تَرُدُّونَ إلَى الرَّأْيِ. قُلْنَا: لَا بَلْ نَرُدُّهُ إلَى الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ نُصُوصِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْقِيَاسُ عِبَارَةٌ عَنْ تَفَهُّمِ مَعَانِي النُّصُوصِ بِتَجْرِيدِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَحَذْفِ الْحَشْوِ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ، وَأَنْتُمْ فَقَدْ رَدَدْتُمْ الْقِيَاسَ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى نَصِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا إلَى مَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ مِنْ النَّصِّ. السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تَعْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بُرْهَةً بِالْكِتَابِ، وَبُرْهَةً بِالسُّنَّةِ، وَبُرْهَةً بِالْقِيَاسِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ ضَلُّوا» قُلْنَا أَرَادَ بِهِ الرَّأْيَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي نَيِّفًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» ، وَمَا نَقَلُوا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ. السَّابِعَةُ: قَوْلُ الشِّيعَةِ، وَأَهْلِ التَّعْلِيمِ إنَّكُمْ اعْتَرَفْتُمْ بِبُطْلَانِ الْقِيَاسِ بِخِلَافِ النَّصِّ، وَالنُّصُوصُ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، وَهُوَ نَائِبُ الرَّسُولِ، فَيَجِبُ

مُرَاجَعَتُهُ، قَالُوا: وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْوَقَائِعِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَكَوْنُ النُّصُوصِ مُتَنَاهِيَةً؛ لِأَنَّ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى أَحْكَامُ الْأَشْخَاصِ كَحُكْمِ زَيْدٍ، وَعَمْرٍو فِي أَنَّهُ عَدْلٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَمْ لَا، وَفَقِيرٌ تُصْرَفُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا، وَمُسَلَّمٌ أَنَّ هَذَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، أَمَّا الرَّوَابِطُ الْكُلِّيَّةُ لِلْأَحْكَامِ فَيُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالنَّصِّ بِأَنْ نَقُولَ مَثَلًا: مَنْ سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، وَمَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ أَثِمَ بِهِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ. لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ فَمَا تَنَاوَلَتْهُ الرَّابِطَةُ الْجَامِعَةُ يَجْرِي فِيهِ الْحُكْمُ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ مِمَّا لَا يَتَنَاهَى يَبْقَى عَلَى الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَتَكُونُ مُحِيطَةً بِهَذِهِ الطُّرُقِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ، وَنُسَلِّمُ إمْكَانَ الرَّبْطِ بِالضَّوَابِطِ، وَالرَّوَابِطِ الْكُلِّيَّةِ، لَكِنَّكُمْ اخْتَرَعْتُمْ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ، وَالْحَرَامِ، وَالْمُفَوَّضَةِ، وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ مَنْ سَمِعَ فِيهَا حَدِيثًا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِمْ الْمَعْصُومُ بِزَعْمِكُمْ، وَكَانُوا يُشَاوِرُونَهُ، وَيُرَاجِعُونَهُ فَتَارَةً وَافَقُوهُ، وَتَارَةً خَالَفُوهُ، وَلَمْ يَنْقُلْ قَطُّ حَدِيثًا، وَلَا نَصًّا إلَّا سَاعَدُوهُ، بَلْ قَبِلُوا النَّقْلَ مِنْ كُلِّ عَدْلٍ فَضْلًا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَلِمَ كَتَمَ النَّصَّ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَتَرَكَهُمْ مُخْتَلِفِينَ إنْ كَانَتْ النُّصُوصُ مُحِيطَةً؟ فَبِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ مِنْ اجْتِهَادِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ تَكُنْ مُحِيطَةً، فَدَلَّ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَبَّدِينَ بِالِاجْتِهَادِ. [الْقَوْلُ فِي الشُّبَه الْمَعْنَوِيَّةِ للمنكرين لِلْقِيَاسِ وَهِيَ سِتٌّ] الْقَوْلُ فِي شُبَهِهِمْ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَهِيَ سِتٌّ: الْأُولَى: قَوْلُ الشِّيعَةِ وَالتَّعْلِيمِيَّةِ: إنَّ الِاخْتِلَافَ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَدِينُ اللَّهِ وَاحِدٌ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ، وَفِي رَدِّ الْخَلْقِ إلَى الظُّنُونِ مَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ ضَرُورَةً، وَالرَّأْيُ مَنْبَعُ الْخِلَافِ؛ فَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ، وَنَقِيضُهُ دِينًا؟ وَإِنْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا فَهُوَ مُحَالٌ، إذْ ظَنُّ هَذَا كَظَنِّ ذَاكَ، وَالظَّنِّيَّاتُ لَا دَلِيلَ فِيهَا بَلْ تَرْجِعُ إلَى مَيْلِ النُّفُوسِ، وَرُبَّ كَلَامٍ تَمِيلُ إلَيْهِ نَفْسُ زَيْدٍ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ يَنْفِرُ عَنْهُ قَلْبُ عَمْرٍو، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَمِّ الِاخْتِلَافِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . وَقَالَ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، وَقَالَ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْت مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] ، وَكَذَلِكَ ذَمَّ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الِاخْتِلَافَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّكُمْ إنْ اخْتَلَفْتُمْ كَانَ مَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلَافًا "، وَسَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَخْتَلِفَانِ فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَالثَّوْبَيْنِ، فَصَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ، وَقَالَ: " اخْتَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ الْمُسْلِمُونَ؟ لَا أَسْمَعُ اثْنَيْنِ يَخْتَلِفَانِ بَعْد مَقَامِي هَذَا إلَّا فَعَلْتُ وَصَنَعْتُ "، وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ كُلَيْبٍ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، وَعَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا فَقُلْت: إنَّ بَيْنَكُمَا لَشَرًّا، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا بَيْنَنَا إلَّا خَيْرٌ، وَلَكِنْ خَيْرُنَا أَتْبَعُنَا لِهَذَا الدِّينِ.، وَكَتَبَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى قُضَاتِهِ أَيَّامَ الْخِلَافَةِ: أَنْ اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ فَإِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ، وَأَرْجُو أَنْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي نَرَاهُ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَوْلُهُمْ إنَّ الشَّيْءَ، وَنَقِيضَهُ كَيْف يَكُونُ دِينًا؟ قُلْنَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ

شَخْصَيْنِ كَالصَّلَاةِ، وَتَرْكِهَا فِي حَقِّ الْحَائِضِ، وَالطَّاهِرِ، وَالْقِبْلَةِ فِي حَقِّ مَنْ يَظُنُّهَا إذَا اخْتَلَفَ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ، وَكَجَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَتَحْرِيمِهِ فِي حَقِّ رَجُلَيْنِ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ أَحَدِهِمَا السَّلَامَةُ، وَعَلَى ظَنِّ الْآخَرِ الْهَلَاكُ، وَكَتَصْدِيقِ الرَّاوِي، وَالشَّاهِدِ، وَتَكْذِيبِهِمَا فِي حَقِّ قَاضِيَيْنِ، وَمُفْتِيَيْنِ يَظُنُّ أَحَدُهُمَا الصِّدْقَ، وَالْآخَرُ الْكَذِبَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَيْفَ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ مَأْمُورًا بِهِ؟ قُلْنَا: بَلْ يُؤْمَرُ الْمُجْتَهِدُ بِظَنِّهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، فَلَيْسَ رَفْعُهُ دَاخِلًا تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، فَالِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ ضَرُورَةً لَا أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] مَعْنَاهُ التَّنَاقُضُ، وَالْكَذِبُ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُلْحِدَةُ أَوْ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَلَاغَةِ وَاضْطِرَابُ اللَّفْظِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَى كَلَامِ الْبَشَرِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فِي نَظْمِهِ، وَنَثْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ، وَالْمِلَلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْقُرْآنُ فِيهِ أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَإِبَاحَةٌ، وَوَعْدٌ، وَوَعِيدٌ، وَأَمْثَالٌ، وَمَوَاعِظُ، وَهَذِهِ اخْتِلَافَاتٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَفَرَّقُوا وَلَا تَنَازَعُوا فَكُلُّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أُصُولِ جَمِيعِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] أَرَادَ بِهِ التَّخَاذُلَ عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ. ، وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي ذَمِّ الِاخْتِلَافِ فَكَيْفَ يَصِحُّ، وَهُمْ أَوَّلُ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالْمُجْتَهِدِينَ؟ وَاخْتِلَافُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ مَعْلُومٌ تَوَاتُرًا كَيْف تَدْفَعُهَا رِوَايَاتٌ يَتَطَرَّقُ إلَى سَنَدِهَا ضَعْفٌ، وَإِلَى مَتْنِهَا تَأْوِيلٌ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ الدِّينِ أَوْ نُصْرَةِ الدِّينِ أَوْ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالْخِلَافِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ أَوْ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَالْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ أَوْ نَهْيِ الْعَوَامّ عَنْ الِاخْتِلَافِ بِالرَّأْيِ، وَلَيْسُوا أَهْلَ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا إنْكَارُ عُمَرَ اخْتِلَافَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ سَبَقَ إجْمَاعٌ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ خَالَفَ ظَنَّ أَنَّ انْقِضَاءَ الْعَصْرِ شَرْطٌ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: عَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ الْمُسْلِمُونَ؟ وَأَنْتُمْ جَمِيعًا تَرْوُونَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ لَعَلَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَثَّمَ صَاحِبَهُ، وَبَالَغَ فِيهِ. فَنَهَى عَنْ وَجْهِ الِاخْتِلَافِ لَا عَنْ أَصْلِهِ، أَوْ لَعَلَّهُمَا اخْتَلَفَا عَلَى مُسْتَفْتٍ وَاحِدٍ فَتَحَيَّرَ السَّائِلُ، فَقَالَ: عَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ النَّاسُ؟ أَيْ: الْعَامَّةُ، بَلْ إذَا ذَكَرَ الْمُفْتِي فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي الْآخَرِ أَنْ يُخَالِفَهُ بَيْن يَدَيْهِ، فَيَتَحَيَّرُ السَّائِلُ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ نَقْلُهُ تَحْرِيمَ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَلُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ كَيْف، وَقَدْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ جَوَّزُوا الِاجْتِهَادَ؟ أَمَّا كِتَابُ عَلِيٍّ إلَى قُضَاتِهِ، وَكَرَاهِيَةُ الِاخْتِلَافِ، فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رُبَّمَا كَتَبُوا إلَيْهِ يَطْلُبُونَ رَأْيَهُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ فَقَالَ: اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ إذْ لَوْ خَالَفْتُمُوهُمْ الْآنَ لَا نَفْتُقُ بِهِ فَتْقًا آخَرَ، وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى تَعَصُّبٍ مِنِّي، وَمُخَالَفَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ اسْتَأْذَنُوهُ فِي مُخَالَفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ظَنٍّ أَنَّ الْعَصْرَ لَمْ يَنْقَرِضْ بَعْدُ، فَيَجُوزُ الْخِلَافُ فَكَرِهَ لَهُمْ مُخَالَفَةَ السَّابِقِينَ، وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ، وَغَيْرِهِمْ أَوْ رَدِّهَا فَأَمَرَهُمْ بِقَبُولِهَا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ حَارَبُوا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِمْ تَعَصُّبٌ، وَتَجْدِيدُ خِلَافٍ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ مَعْلُومٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَنْهُ بِالنَّصِّ مَعْلُومٌ، فَيَبْقَى الْمَسْكُوتُ عَنْهُ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ، فَكَيْفَ يَنْدَفِعُ الْمَعْلُومُ عَلَى الْقَطْعِ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ؟ قُلْنَا: الْعُمُومُ، وَالظَّوَاهِرُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُ الْمُقَوِّمِ فِي أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَصِدْقِ الشُّهُودِ وَصِدْقِ الْمُخَالِفِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ كُلُّ ذَلِكَ مَظْنُونٌ، وَيُرْفَعُ بِهِ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ ثُمَّ نَقُولُ: نَحْنُ لَا نَرْفَعُ ذَلِكَ إلَّا بِقَاطِعٍ، فَإِنَّا إذَا تُعُبِّدْنَا بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ، وَظَنَنَّا فَنَقْطَعُ بِوُجُودِ الظَّنِّ، وَنَقْطَعُ بِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ فَلَا يُرْفَعُ ذَلِكَ إلَّا بِقَاطِعٍ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يُتَصَرَّفُ بِالْقِيَاسِ فِي شَرْعٍ مَبْنَاهُ عَلَى التَّحَكُّمِ، وَالتَّعَبُّدِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقَاتِ؟ إذْ قَالَ: يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ، وَيَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ، وَلَا يَجِبُ مِنْ الْبَوْلِ، وَالْمَذْيِ، وَفَرَّقَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ بَيْنَ قَضَاءِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَأَبَاحَ النَّظَرَ إلَى الرَّقِيقَةِ دُونَ الْحُرَّةِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فَأَوْجَبَ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفَرَّقَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ، وَالتَّطَيُّبِ بَيْنَ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ، وَالْيَمِينِ، وَالْإِفْطَارِ، وَأَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَى الزَّانِي، وَالْكَافِرِ، وَالْقَاتِلِ، وَتَارِكِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ: «تُجْزِي عَنْكَ، وَلَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك فِي الْأُضْحِيَّةِ» ، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ، وَكَيْفَ يَتَجَاسَرُ فِي شَرْعٍ هَذَا مِنْهَاجُهُ عَلَى إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ، وَمَا مِنْ نَصٍّ عَلَى مَحَلٍّ إلَّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا، وَتَعَبُّدًا؟ قُلْنَا: لَا نُنْكِرُ اشْتِمَالَ الشَّرْعِ عَلَى تَحَكُّمَاتٍ، وَتَعَبُّدَاتٍ فَلَا جَرَمَ، نَقُولُ: الْأَحْكَامُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ لَا يُعَلَّلُ أَصْلًا، وَقِسْمٌ يُعْلَمُ كَوْنُهُ مُعَلَّلًا، كَالْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ، وَقِسْمٌ يُتَرَدَّدُ فِيهِ. وَنَحْنُ لَا نَقِيسُ مَا لَمْ يَقُمْ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا، وَدَلِيلٌ عَلَى عَيْنِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، وَلَمَّا كَثُرَتْ التَّعَبُّدَاتُ فِي الْعِبَادَاتِ لَمْ يُرْتَضَ قِيَاسٌ غَيْرُ التَّكْبِيرِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالْفَاتِحَةِ عَلَيْهَا، وَلَا قِيَاسَ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَإِنَّمَا نَقِيسُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَغَرَامَاتِ الْجِنَايَاتِ، وَمَا عُلِمَ بِقَرَائِنَ كَثِيرَةٍ بِنَاؤُهَا عَلَى مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ، وَمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ. الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْوَجِيزَ الْمُفْهِمَ، وَيَعْدِلَ إلَى الطَّوِيلِ الْمُوهِمِ، فَيَعْدِلَ عَنْ قَوْلِهِ: حَرَّمْت الرِّبَا فِي كُلِّ مَطْعُومٍ أَوْ كُلِّ مَكِيلٍ، إلَى عَدِّ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ لِيَرْتَبِكَ الْخَلْقُ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ؟ قُلْنَا: وَلَوْ ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ، وَذَكَرَ مَعَهَا أَنَّ مَا عَدَاهَا لَا رِبَا فِيهِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ حَرَامٌ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ أَصْرَحَ وَلِلْجَهْلِ، وَالِاخْتِلَافِ أَدْفَعَ، فَلِمَ لَمْ يُصَرِّحْ، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا بِبَلَاغَتِهِ عَلَى قَطْعِ الِاحْتِمَالِ لِلْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ، وَالظَّوَاهِرِ، وَعَلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْجَمِيعَ فِي الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ لِيَحْسِمَ الِاحْتِمَالَ عَنْ الْمَتْنِ، وَالسَّنَدِ جَمِيعًا، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى رَفْعِ احْتِمَالِ التَّشْبِيهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصْرِيحِ بِالْحَقِّ فِي جَمِيعِ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَإِذْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّحَكُّمِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا صَرَّحَ، وَنَبَّهَ وَطَوَّلَ، وَأَوْجَزَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ نَقُولُ: إنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى لُطْفًا، وَسِرًّا فِي تَعَبُّدِ الْعُلَمَاءِ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَمْرِهِمْ بِالتَّشْمِيرِ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ فِي اسْتِنْبَاطِ أَسْرَارِ الشَّرْعِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ

أَنْ يَذْكُرَ الْبَعْضَ، وَيَسْكُتَ عَنْ الْبَعْضِ، وَيُنَبِّهَ عَلَيْهَا تَنْبِيهًا يُحَرِّكُ الدَّوَاعِيَ لِلِاجْتِهَادِ {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُوجِبُ الصَّلَاحَ، وَعِنْدَنَا فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ بِعِبَادِهِ مَا يَشَاءُ. الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ إنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ بِالْعِلَّةِ، وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِطَرِيقٍ سِوَى طَرِيقِ الْأَصْلِ؟ وَإِنْ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَاطِعٌ، وَالْعِلَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَكَيْفَ يُحَالُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ؟ قُلْنَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ، وَفَائِدَةُ اسْتِنْبَاطِ الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ إمَّا تَعْدِيَةُ الْعِلَّةِ، وَإِمَّا الْوَقْفُ عَلَى مَنَاطِ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَإِمَّا زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْد زَوَالِ الْمَنَاطِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَإِمَّا الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لِلْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ أَصْلٌ لِلنَّظَرِيَّاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لَهَا فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ لَزِمَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُكْمِ. السَّادِسَةُ: وَهِيَ عُمْدَتُهُمْ الْكُبْرَى -: أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ،، وَالْعِلَّةُ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، فَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ: اتَّقُوا الرِّبَا فِي كُلِّ مَطْعُومٍ، فَهُوَ تَوْقِيفٌ عَامٌ، وَلَوْ قَالَ: اتَّقُوا الرِّبَا فِي الْبُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ، فَهَذَا لَا يُسَاوِيهِ، وَلَا يَقْتَضِي الرِّبَا فِي غَيْرِ الْبُرِّ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: أَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي كُلَّ أَسْوَدَ عَتَقَ كُلُّ أَسْوَدَ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ غَانِمًا لِسَوَادِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ، لَمْ يَعْتِقْ جَمِيعَ عَبِيدِهِ السُّودِ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّلَ بِمُخَيَّلٍ، وَقَالَ: أَعْتِقُوا غَانِمًا؛ لِأَنَّهُ سَيِّئُ الْخُلُقِ حَتَّى أَتَخَلَّصَ مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْ عِتْقُ سَالِمٍ، وَإِنْ كَانَ أَسْوَأَ خُلُقًا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهَا لِقُصُورِ لَفْظِهَا فَالْمُسْتَنْبَطَةُ كَيْفَ تُعَدَّى؟ أَوْ كَيْفَ يُفَرَّقُ بَيْنَ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَبَيْنَ كَلَامِ غَيْرِهِ فِي الْفَهْمِ؟ وَإِنَّمَا مِنْهَاجُ الْفَهْمِ وَضْعُ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ ثَلَاثُ فِرَقٍ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ مِنْ فَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ مِنْ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ، إذْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ كَذِكْرِ اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْن قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، وَبَيْن قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ، فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ لَكِنْ بِطَرِيقِ اللَّفْظِ لَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بَلْ فَائِدَةُ قَوْلِهِ " لِشِدَّتِهَا " إقَامَةُ الشِّدَّةِ مُقَامَ الِاسْمِ الْعَامِّ فَقَدْ أَقَرَّ هَذَا الْقَائِلُ بِالْإِلْحَاقِ إنَّمَا أَنْكَرَ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْ الْقَاشَانِيَّةِ، والنهروانية؛ فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا الْقِيَاسَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ فَقَالُوا: إذَا كَشَفَ النَّصُّ أَوْ دَلِيلٌ آخَرُ عَنْ الْأَصْلِ كَانَتْ الْعِلَّةُ جَامِعَةً لِلْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَجَارِيهَا، وَمَا فَارَقَهُمْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ إلَّا فِي التَّسْمِيَةِ حَيْثُ لَمْ يُسَمُّوا هَذَا الْفَنَّ قِيَاسًا، وَالْفَرِيقَانِ مُقِرَّانِ بِأَنَّ هَذَا فِي الْعِتْقِ، وَالْوَكَالَةِ لَا يَجْرِي فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الِاسْتِشْهَادُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْفَرْقِ. أَمَّا الْفَرِيقُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَنْ أَنْكَرَ الْإِلْحَاقَ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ فَتَسْتَقِيمُ لَهُمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَجَوَابُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَتَشَوَّفُ إلَى التَّسْوِيَةِ، فَقَالَ: لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ هَذَا الْعَبْدَ لِسَوَادِهِ فَاعْتَبِرُوا قِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ، لَعَتَقَ كُلُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ، وَهُوَ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْقِيَاسِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ التَّعَبُّدُ بِهِ لَكَانَ مُجَرَّدُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ لَا يُرَخَّصُ فِي الْإِلْحَاقِ إذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ شِدَّةَ الْخَمْرِ خَاصَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ عُلِمَ قَطْعًا قَصْدُهُ إلَى عِتْقِهِ

لِسَوَادِهِ عَتَقَ كُلُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ بِقَوْلِهِ: " أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكْفِي أَنْ يُعْلَمَ قَصْدُهُ إلَى عِتْقِهِ بِمُجَرَّدِ السَّوَادِ مَا لَمْ يَنْوِ بِهَذَا اللَّفْظِ عِتْقَ جَمِيعِ السُّودَانِ، فَإِنْ نَوَى كَفَاهُ هَذَا اللَّفْظُ لِإِعْتَاقِ جَمِيعِ السُّودَانِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا إرَادَتُهُ مَعْنًى عَامًّا بِلَفْظٍ خَاصٍّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُنْكَرٍ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت لِفُلَانٍ خُبْزًا، وَلَا شَرِبْتُ مِنْ مَائِهِ جَرْعَةً، وَنَوَى بِهِ دَفْعَ الْمِنَّةِ حَنِثَ بِأَخْذِ الدَّرَاهِمِ، وَالثِّيَابِ، وَالْأَمْتِعَةِ وَصَلَحَ اللَّفْظُ الْخَاصُّ مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ كَمَا صَلَحَ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] لِلنَّهْيِ عَنْ الْإِتْلَافِ الْعَامِّ. وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] لِلنَّهْيِ عَنْ الْإِيذَاءِ الْعَامِّ، فَإِذَا اسْتَتَبَّ لِهَؤُلَاءِ الْفِرَقِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يُعَمِّمُونَ الْحُكْمَ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إرَادَةِ الشَّرْعِ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالشِّدَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدنَا بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا غَانِمٌ بِقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَإِنْ نَوَى عِتْقَ السُّودَانِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِ غَانِمٍ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ، وَالْإِرَادَةِ فَلَا تُؤَثِّرُ. الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْجَوَابِ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ، إذْ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ مَهْمَا قَالَ " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا فَقِيسُوا عَلَيْهَا كُلَّ مُشْتَدٍّ "، وَلَوْ قَالَ " أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ " اقْتَصَرَ الْعِتْقُ عَلَى غَانِمٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَكَيْفَ يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْفَرْقِ؟ ، وَإِنَّمَا اعْتَرَفُوا بِالْفَرْقِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ فِي أَمْلَاكِ الْعِبَادِ، وَفِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْ عَلَّقَ أَحْكَامَ الْأَمْلَاكِ حُصُولًا، وَزَوَالًا بِالْأَلْفَاظِ دُونَ الْإِرَادَاتِ الْمُجَرَّدَةِ. وَأَمَّا أَحْكَامُ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى رِضَا الشَّرْعِ، وَإِرَادَتِهِ مِنْ قَرِينَةٍ، وَدَلَالَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بِيعَ مَالٌ لِتَاجِرٍ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ بِأَضْعَافِ ثَمَنِهِ فَاسْتَبْشَرَ، وَظَهَرَ أَثَرُ الْفَرَحِ عَلَيْهِ لَمْ يُنَفَّذْ الْبَيْعُ إلَّا بِتَلَفُّظِهِ بِإِذْنٍ سَابِقٍ أَوْ إجَازَةٍ لَاحِقَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ جَرَى بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلٌ فَسَكَتَ عَلَيْهِ دَلَّ سُكُوتُهُ عَلَى رِضَاهُ، وَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فَكَيْفَ يَتَسَاوَيَانِ؟ بَلْ ضَيَّقَ الشَّرْعُ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ حَتَّى لَمْ تَحْصُلْ أَحْكَامُهَا بِكُلِّ لَفْظٍ بَلْ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: فَسَخْتُ النِّكَاحَ، وَقَطَعْتُ الزَّوْجِيَّةَ وَرَفَعْتُ عِلَاقَةَ الْحِلِّ بَيْنِي، وَبَيْنَ زَوْجَتِي، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ؛ فَإِذَا تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَقَعَ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الطَّلَاقِ فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ الْأَحْكَامُ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ بَلْ بِبَعْضِهَا فَكَيْفَ تَحْصُلُ بِمَا دُونَ اللَّفْظِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " لَا تَأْكُلْ هَذِهِ الْحَشِيشَةَ؛ لِأَنَّهَا سُمٌّ، وَلَا تَأْكُلْ الْإِهْلِيلَجَ فَإِنَّهُ مُسْهِلٌ، وَلَا تَأْكُلْ الْعَسَلَ فَإِنَّهُ حَارٌّ، وَلَا تَأْكُلْ أَيُّهَا الْمَفْلُوجُ الْقِثَّاءَ فَإِنَّهُ بَارِدٌ، وَلَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَلَا تُجَالِسْ فُلَانًا فَإِنَّهُ أَسْوَدُ فَأَهْلُ اللُّغَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَعْقُولَ هَذَا التَّعْلِيلِ تَعَدَّى النَّهْيَ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ الْعِلَّةُ، هَذَا مُقْتَضَى اللُّغَةِ ، وَهَذَا أَيْضًا مُقْتَضَاهُ فِي الْعِتْقِ؛ لَكِنَّ التَّعَبُّدَ مَنَعَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعِتْقِ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اللَّفْظِ الصَّرِيحِ الْمُطَابِقِ لِلْمَحَلِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ فِي الشَّرْعِ إذْ كُلُّ مَا عُرِفَ بِإِشَارَةٍ، وَأَمَارَةٍ، وَقَرِينَةٍ فَهُوَ كَمَا عُرِفَ بِاللَّفْظِ فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْفَرْقِ؟ ؛ لِأَنَّ الْمُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ كَالْجَامِعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فَمَنْ أَثْبَتَ الْحُكْمَ لِلْخِلَافَيْنِ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَيُطْلَبُ مِنْهُ الْجَامِعُ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْن الْمِثْلَيْنِ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ لِمَاذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: إنْ قَالَ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ: بِعْ هَذِهِ الدَّابَّةَ لِجِمَاحِهَا، وَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ لِسُوءِ خُلُقِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَأْمُورِ بَيْعُ مَا شَارَكَهُ فِي الْعِلَّةِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ

يَجُوزُ فَقَدْ خَالَفْتُمْ الْفُقَهَاءَ، وَإِنْ مَنَعْتُمْ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ كَلَامِهِ وَبَيْنَ كَلَامِ الشَّارِعِ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؟ وَإِنْ ثَبَتَ تَعَبُّدٌ فِي لَفْظِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ بِخُصُوصِ الْجِهَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي لَفْظِ الْوَكَالَةِ قُلْنَا: إنْ كَانَ قَدْ قَالَ لَهُ: إنَّ مَا ظَهَرَ لَكَ إرَادَتِي إيَّاهُ أَوْ رِضَايَ بِهِ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ صَرِيحِ اللَّفْظِ فَافْعَلْهُ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ وَهُوَ وِزَانُ حُكْمِ الشَّرْعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِبَيْعِهِ لِمُجَرَّدِ سُوءِ الْخُلُقِ لَا لِسُوءِ الْخُلُقِ مَعَ الْقُبْحِ أَوْ مَعَ الْخُرْقِ فِي الْخِدْمَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ بَعْضَ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَطْعًا وَلَكِنْ ظَنَّهُ ظَنًّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ لَهُ: ظَنُّكَ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ فِي تَسْلِيطِكَ عَلَى التَّصَرُّفِ فَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَازَ التَّصَرُّفُ، وَهُوَ وِزَانُ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ قَالَ: مَا عَرَفْتُمُوهُ بِالْقَرَائِنِ وَالدَّلَائِلِ مِنْ رِضَايَ وَإِرَادَتِي فَهُوَ كَمَا عَرَفْتُمُوهُ بِالصَّرِيحِ، فَلَمْ يَقُلْ: إنِّي إذَا ذَكَرْتُ عِلَّةَ شَيْءٍ ذَكَرْتُ تَمَامَ أَوْصَافِهِ، فَلَعَلَّهُ عَلَّلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِشِدَّةِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمَ الرِّبَا بِطَعْمِ الْبُرِّ خَاصَّةً لَا لِلشِّدَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلِلَّهِ أَسْرَارٌ فِي الْأَعْيَانِ فَقَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَالْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ لِخَوَاصَّ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ لِشِدَّةِ الْخَمْرِ مِنْ الْخَاصِّيَّةِ مَا لَيْسَ لِشِدَّةِ النَّبِيذِ؟ فَبِمَاذَا يَقَعُ الْأَمْرُ عَنْ هَذَا؟ وَهَذَا أَوْقَعُ كَلَامٍ فِي مُدَافَعَةِ الْقِيَاس. وَالْجَوَابُ: أَنَّ خَاصَّةَ الْمَحَلِّ قَدْ يُعْلَمُ ضَرُورَةُ سُقُوطِ اعْتِبَارِهَا، كَقَوْلِهِ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَوْلَى بِمَتَاعِهِ» ، إذْ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مَعْنَاهُ، وَقَوْله «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي» ، فَالْأَمَةُ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا بِتَصَفُّحِ أَحْكَامِ الْعِتْقِ وَالْبَيْعِ وَبِمَجْمُوعِ أَمَارَاتٍ وَتَكْرِيرَاتٍ وَقَرَائِنَ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْأُنُوثَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَقَدْ يُعْلَمُ ذَلِكَ ظَنًّا بِسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَوَّلُوا عَلَى الظَّنِّ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطْعًا إلْحَاقَ الظَّنِّ بِالْقَطْعِ، وَلَوْلَا سِيرَةُ الصَّحَابَةِ لَمَا تَجَاسَرْنَا عَلَيْهِ؛ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ وَلَوْ كَانَتْ قَطْعِيَّةً لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الظَّنَّ كَالْعِلْمِ أَمَّا حَيْثُ انْتَفَى الظَّنُّ وَالْعِلْمُ وَحَصَلَ الشَّكُّ فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ أَصْلًا مَسْأَلَةٌ قَالَ النَّظَّامُ: الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ تُوجِبُ الْإِلْحَاقَ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ بَلْ بِطَرِيقِ اللَّفْظِ وَالْعُمُومِ، إذْ لَا فَرْقَ فِي اللُّغَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: " حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا ". وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا " لَا يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْوَضْعُ إلَّا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ النَّبِيذِ مَا لَمْ يَرِدْ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ، فَهُوَ كَقَوْلِ " أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إعْتَاقَ جَمِيعِ السُّودَانِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَلِلَّهِ أَنْ يُنَصِّبَ شِدَّةَ الْخَمْرِ خَاصَّةً عِلَّةً، وَيَكُونَ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْعِلَّةِ زَوَالَ التَّحْرِيمِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ خَاصِّيَّةً فِي شِدَّةِ الْخَمْرِ تَدْعُو إلَى رُكُوبِ الْقَبَائِحِ وَيَعْلَمُ فِي شِدَّةِ النَّبِيذِ لُطْفًا دَاعِيًا إلَى الْعِبَادَاتِ؟ فَإِذًا قَدْ ظُنَّ النَّظَّامُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقِيَاسِ وَقَدْ زَادَ عَلَيْنَا إذْ قَاسَ حَيْثُ لَا نَقِيسُ لَكِنَّهُ أَنْكَرَ اسْمَ الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُ السَّيِّدِ وَالْوَالِدِ لِعَبْدِهِ " لَا تَأْكُلْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ سُمٌّ وَكُلْ هَذَا فَإِنَّهُ غِذَاءٌ " يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ عَنْ أَكْلِ سُمٍّ آخَرَ، وَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاغْتِذَاءِ قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِقَرِينَةِ اطِّرَادِ الْعَادَاتِ وَمَعْرِفَةِ أَخْلَاقِ الْآبَاءِ وَالسَّادَاتِ فِي مَقَاصِدِهِمْ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْأَبْنَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْن سُمٍّ وَسُمٍّ، وَإِنَّمَا يَتَّقُونَ الْهَلَاكَ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ شَيْئًا بِمُجَرَّدِ

إرَادَتهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُبِيحَ مِثْلَهُ وَأَنْ يُحَرِّمَ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا وَمَصْلَحَةً، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ مِثْلَهُ مَفْسَدَةٌ؛ لِأَنَّ تَضَمُّنَهُ الصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ لَيْسَ لِطَبْعِهِ وَلِذَاتِهِ وَلِوَصْفٍ هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي فِعْلِ شَيْءٍ وَقْتَ الزَّوَالِ مَصْلَحَةٌ وَفِيهِ وَقْتُ الْعَصْرِ مَفْسَدَةٌ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِيَوْمِ السَّبْتِ وَالْجُمُعَةِ وَالْمَكَانِ وَالْحَالِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ شِدَّةُ الْخَمْرِ شِدَّةَ النَّبِيذِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ النَّبِيذُ مِنْ الْخَمْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْهَمُ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَالْأَذَى مِنْ التَّأْفِيفِ. قُلْنَا: الْحَقُّ عِنْدَنَا غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الْعَارِي عَنْ الْقَرِينَةِ لَكِنْ إذَا دَلَّتْ قَرِينَةُ الْحَالِ عَلَى قَصْدِ الْإِكْرَامِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَدُلُّ لَفْظُ التَّأْفِيفِ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ أَسْبَقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ التَّأْفِيفِ الْمَذْكُورِ؛ إذْ التَّأْفِيفُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ بَلْ يُقْصَدُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَنْعِ الْإِيذَاءِ بِذِكْرِ أَقَلِّ دَرَجَاتِهِ، وَكَذَلِكَ النَّقِيرُ وَالْقِطْمِيرُ وَالذَّرَّةُ وَالدِّينَارُ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ عَلَى مَا فَوْقَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ} [آل عمران: 75] وَفِي قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ مَا شَرِبْتُ لِفُلَانٍ جَرْعَةً وَلَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ حَبَّةً، بَلْ بِقَرِينَةِ دَفْعِ الْمِنَّةِ، وَإِظْهَارِ جَزَاءِ الْعَمَلِ؛ وَلَيْسَ إلْحَاقُ الضَّرْبِ بِالتَّأْفِيفِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ الْمُلْحَقَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ هُوَ الَّذِي يُتَصَوَّرُ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهُ الْمُتَكَلِّمُ وَلَا يَقْصِدَهُ بِكَلَامِهِ، وَهَا هُنَا الْمَسْكُوتُ عَنْهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَصْدِ الْبَاعِثِ عَلَى النُّطْقِ بِالتَّأْفِيفِ، وَهُوَ الْأَسْبَقُ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ، فَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ لَحْنِ الْقَوْلِ وَفَحْوَاهُ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ رُبَّمَا تَظْهَرُ قَرِينَةٌ أُخْرَى تَمْنَعُ هَذَا الْفَهْمَ، إذْ الْمَلِكُ قَدْ يَقْتُلُ أَخَاهُ الْمُنَازِعَ لَهُ فَيَقُولُ لِلْجَلَّادِ: اُقْتُلْهُ وَلَا تُهِنْهُ وَلَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ. أَمَّا تَحْرِيمُ النَّبِيذِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ إلَّا الْقِيَاسُ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ فَقَوْلُ: " حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا " لَا يُفْهِمُ تَحْرِيمَ النَّبِيذِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ " حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ. مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ الْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيُّ إلَى الْإِقْرَارِ بِالْقِيَاسِ لِأَجْلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ خَصَّصُوا ذَلِكَ بِمَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً كَقَوْلِهِ «حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا» وَ «فَإِنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» الثَّانِي: الْأَحْكَامُ الْمُعَلَّقَةُ بِالْأَسْبَابِ، كَرَجْمِ مَاعِزٍ لِزِنَاهُ، وَقَطْعِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ. وَكَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ تَنْقِيحَ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ. قُلْنَا: هَذَا الْمَذْهَبُ يُمْكِنُ تَنْزِيلُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَشْتَرِطُوا مَعَ هَذَا أَنْ يَقُولَ: " وَحَرَّمْتُ كُلَّ مُشَارِكٍ لِلْخَمْرِ فِي الشِّدَّةِ " وَيَقُولَ: فِي رَجْمِ مَاعِزٍ " وَحُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ " فَهَذَا لَيْسَ قَوْلًا بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالْعُمُومِ فَلَا يَحْصُلُ هَذَا التَّفَصِّي بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يُشْتَرَطَ هَذَا وَلَا يُشْتَرَطَ أَيْضًا وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَيْنَا وَقَوْلٌ بِالْقِيَاسِ حَيْثُ لَا نَقُولُ بِهِ كَمَا رَدَدْنَاهُ عَلَى النَّظَّامِ الثَّالِثِ: أَنْ يَقُولَ " مَهْمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ جَازَ الْإِلْحَاقُ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ " فَهَذَا قَوْلُ حَقٍّ فِي الْأَصْلِ خَطَأٌ فِي الْحَصْرِ، فَإِنَّهُ قَصَرَ طَرِيقَ إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ عَلَى النَّصِّ، وَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ بَلْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَوْ دَلِيلٌ آخَرُ وَمَا لَمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَنَحْنُ لَا نُجَوِّزُ

الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَلِيلٍ وَدَلِيلٍ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً كَانَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ مَعْلُومًا وَلَمْ يَكُنْ مَظْنُونًا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ الْخَطَأِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً لَمْ يُؤْمَنْ الْخَطَأُ. قُلْنَا: أَخْطَأْتُمْ فِي طَرَفَيْ الْكَلَامِ حَيْثُ ظَنَنْتُمْ حُصُولَ الْأَمْنِ بِالنَّصِّ وَإِمْكَانَ الْخَطَأِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ نَصَّ عَلَى شِدَّةَ الْخَمْرِ فَلَا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ شِدَّةَ النَّبِيذِ فِي مَعْنَاهَا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّلًا بِشِدَّةِ الْخَمْرِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ وَيَقُولَ: " يَتْبَعُ الْحُكْمُ مُجَرَّدَ الشِّدَّةِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ " فَيَكُونُ ذَلِكَ لَفْظًا عَامًّا وَلَا يَكُونُ حُكْمًا بِالْقِيَاسِ فَلَا يَحْصُلُ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ النَّبِيذَ فِي مَعْنَاهُ وَلَا نَقْطَعُ، فَلِلظَّنِّ مُثَارَانِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ: أَحَدُهُمَا: أَصْلُ الْعِلَّةِ، وَالْآخَرُ: إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، فَإِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ الْفَوَارِقِ؛ وَفِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ مُثَارُ الظَّنِّ وَاحِدٌ وَهُوَ إلْحَاقُ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى جَمِيعِ أَوْصَافِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، وَإِنَّهُ الشِّدَّةُ بِمُجَرَّدِهَا دُونَ شِدَّةِ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِنَصٍّ يُوجِبُ عُمُومَ الْحُكْمِ وَيَدْفَعُ الْحَاجَةَ إلَى الْقِيَاسِ. أَمَّا قَوْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ " إنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا الْخَطَأُ " فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ، إذْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ، كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَالْقَاضِي فِي أَمْنٍ مِنْ الْخَطَأِ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مُزَوِّرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِاتِّبَاعِ الصِّدْقِ بَلْ بِاتِّبَاعِ ظَنِّ الصِّدْقِ، وَكَذَلِكَ هَهُنَا لَمْ يُتَعَبَّدْ بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ بَلْ ظَنِّ الْعِلَّةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الظَّنُّ. نَعَمْ هَذَا الْإِشْكَالُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْخَطَأَ، وَلَا دَلِيلَ يُمَيِّزُ الصَّوَابَ عَنْ الْخَطَأِ، إذْ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَكَانَ آثِمًا إذَا أَخْطَأَ كَمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ. ثُمَّ نَقُولُ: إنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهَذَا الْقِيَاسِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ، إذْ قَاسُوا فِي قَوْلِهِ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَفِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْأُخُوَّةِ، وَفِي تَشْبِيهِ حَدِّ الشُّرْبِ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الِافْتِرَاءِ وَالْقَذْفِ أَوْجَبَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لِأَنَّهُ نَفْسُ الِافْتِرَاءِ لَا الْخَوْفِ مِنْ الِافْتِرَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا الشَّارِعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَقَامَ مَظِنَّةَ الشَّيْءِ مَقَامَ نَفْسِهِ فَشَبَّهُوا هَذَا بِهِ بِنَوْعٍ مِنْ الظَّنِّ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَدَلَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا النَّصَّ وَلَا الْقَطْعَ بَلْ اكْتَفَوْا بِالظَّنِّ. ثُمَّ نَقُولُ: إذَا جَازَ الْقِيَاسُ بِالْعِلَّةِ الْمَعْلُومَةِ فَلْنُلْحِقْ بِهَا الْمَظْنُونَةَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَمَا الْتَحَقَ رِوَايَةُ الْعَدْلِ بِالتَّوَاتُرِ وَشَهَادَةُ الْعَدْلِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمَعْصُومِ وَالْقِبْلَةُ الْمَظْنُونَةُ بِالْقِبْلَةِ الْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا وَإِنْ أَثْبَتنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ وَقَوْلَ الشَّهَادَةِ بِأَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ فَقَوْلُ الشَّرْعِ الظَّنَّ فِي مَوْضِعٍ لَا يُرَخِّصُ لَنَا فِي قِيَاسِ ظَنٍّ آخَرَ عَلَيْهِ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ كَمَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ. مَسْأَلَةٌ فَرَّقَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. فَقَالُوا: إذَا عَلَّلَ الشَّارِعُ وُجُوبَ فِعْلٍ بِعِلَّةٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ إلَّا بِتَعَبُّدٍ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْ عَلَّلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِعِلَّةٍ وَجَبَ قِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَيْهِ دُونَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْعَسَلَ لِحَلَاوَتِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ حُلْوٍ وَمَنْ تَرَكَ الْخَمْرَ لِإِسْكَارِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مُسْكِرٍ، أَمَّا مَنْ شَرِبَ الْعَسَلَ لِحَلَاوَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْرَبَ كُلَّ حُلْوٍ، وَمَنْ صَلَّى؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ عِبَادَةٍ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ، بَلْ مَنْ تَرْكَ ذَنْبًا لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً لَزِمَهُ تَرْكُ كُلِّ ذَنْبٍ، أَمَّا مَنْ أَتَى بِعِبَادَةٍ لِكَوْنِهَا طَاعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ طَاعَةٍ هَذَا مُحَالٌ فِي الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي جَانِبِ التَّحْرِيمِ

أَنْ يُحَرِّمَ الْخَمْرَ لِشِدَّةِ الْخَمْرِ خَاصَّةً وَيُفَرِّقَ بَيْنَ شِدَّةِ الْخَمْرِ وَشِدَّةِ النَّبِيذِ، وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْفِعْلِ فَمَنْ تَنَاوَلَ الْعَسَلَ لِحَلَاوَتِهِ، وَلِفَرَاغِ مَعِدَتِهِ وَصِدْقِ شَهْوَتِهِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ عَسَلٍ وَعَسَلٍ نَعَمْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْكُلَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِزَوَالِ الشَّهْوَةِ وَامْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ وَاخْتِلَافِ الْحَالِ، فَمَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي تَرْكٍ أَوْ فِعْلٍ؛ لَكِنَّ الْمَثَلَ الْمُطْلَقَ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ الِاثْنَيْنِيَّةُ شَرْطُ الْمِثْلِيَّةِ وَمِنْ شَرْطِ الِاثْنَيْنِيَّةِ مُغَايَرَةٌ وَمُخَالَفَةٌ، وَإِذَا جَاءَتْ الْمُخَالَفَةُ بَطَلَتْ الْمُمَاثَلَةُ وَهَذَا لَهُ غَوْرٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَيَانِهِ. هَذَا تَمَامُ النَّظَرِ فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ. [الْبَابُ الثَّانِي فِي طَرِيقِ إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ] ِ وَكَيْفِيَّةِ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ آحَادِ الْأَقْيِسَةِ وَنُنَبِّهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ عَلَى مُثَارَاتِ الِاحْتِمَالِ فِي كُلِّ قِيَاسٍ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَى الدَّلِيلِ إلَّا فِي مَحَلِّ الِاحْتِمَالِ، ثُمَّ عَلَى انْحِصَارِ الدَّلِيلِ فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، ثُمَّ عَلَى انْقِسَامِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ إلَى ظَنِّيَّةٍ وَقَطْعِيَّةٍ. فَهَذِهِ ثَلَاثُ مُقَدِّمَاتٍ. الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي مَوَاضِعِ الِاحْتِمَالِ مِنْ كُلِّ قِيَاسٍ، وَهِيَ سِتَّةٌ: الْأَوَّلُ: يَجُوز أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْلُولًا عِنْد اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونَ الْقَائِسُ قَدْ عَلَّلَ مَا لَيْسَ بِمُعَلَّلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ إنْ كَانَ مُعَلَّلًا فَلَعَلَّهُ لَمْ يُصِبْ مَا هُوَ الْعِلَّةُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ عَلَّلَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ أَصَابَ فِي أَصْلِ التَّعْلِيلِ، وَفِي عَيْنِ الْعِلَّةِ فَلَعَلَّهُ قَصُرَ عَلَى وَصْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِهِ مَعَ قَرِينَةٍ أُخْرَى زَائِدَةٍ عَلَى مَا قَصُرَ اعْتِبَارُهُ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ جَمَعَ إلَى الْعِلَّةِ وَصْفًا لَيْسَ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ فَزَادَ عَلَى الْوَاحِدِ. الْخَامِسُ: أَنْ يُصِيبَ فِي أَصْلِ الْعِلَّةِ وَتَعْيِينِهَا وَضَبْطِهَا لَكِنْ يُخْطِئُ فِي وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ فَيَظُنُّهَا مَوْجُودَةً بِجَمِيعِ قُيُودِهَا وَقَرَائِنِهَا وَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ الْقِيَاسُ، وَإِنْ أَصَابَ الْعِلَّةَ، كَمَا لَوْ أَصَابَ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ وَالْحَدْسِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَكَمَا لَوْ ظَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَصَلَّى، فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ. وَزَادَ آخَرُونَ احْتِمَالًا سَابِعًا، وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْقِيَاسِ، إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ بَاطِلًا. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقِيَاسِ لَيْسَ مَظْنُونًا بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَلَوْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمَالٌ لَتَطَرَّقَ إلَى جَمِيعِ الْقَطْعِيَّاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْمُثَارَاتُ السِّتَّةُ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ إنَّمَا تَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَفِي مَوْضِعٍ يُقَدَّرُ نَصْبُ اللَّهِ تَعَالَى أَدِلَّةً قَاطِعَةً يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحِيطَ بِهَا النَّاظِرُ، أَمَّا مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَيْسَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ مُعَيَّنٌ هُوَ الْعِلَّةُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُخْطِئَ أَصْلَهَا أَوْ وَصْفَهَا، بَلْ الْعِلَّةُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا ظَنَّهُ عِلَّةً فَلَا يُتَصَوَّرُ الْخَطَأُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَدِلَّةً ظَنِّيَّةً. الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا سَمْعِيَّةً، بَلْ لَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي هَذِهِ الْمُثَارَاتِ إلَّا فِي تَحْقِيقِ وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ مَحْسُوسَةً كَالسُّكْرِ وَالطَّعْمِ وَالطَّوْفِ فِي السُّؤْرِ فَوُجُودُ ذَلِكَ فِي النَّبِيذِ وَالْأُرْزِ وَالْفَأْرَةِ قَدْ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَبِالْأَدِلَّةِ

الْعَقْلِيَّةِ أَمَّا أَصْلُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتُ عَيْنِ الْعِلَّةِ وَوَصْفُهَا فَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ بِذَاتِهَا، إنَّمَا مَعْنَى كَوْنِهَا عِلَّةً نَصْبُ الشَّرْعِ إيَّاهَا عَلَامَةً، وَذَلِكَ وَضْعٌ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَضْعِ الْحُكْمِ وَبَيْنَ وَضْعِ الْعَلَامَةِ وَنَصْبِهَا أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ، فَالشِّدَّةُ الَّتِي جُعِلَتْ أَمَارَةَ التَّحْرِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا الشَّرْعُ أَمَارَةَ الْحِلِّ فَلَيْسَ إيجَابُهَا لِذَاتِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الشَّارِعِ «اُرْجُمُوا مَاعِزًا» وَبَيْنَ قَوْلِهِ «جَعَلْتُ الزِّنَا عَلَامَةَ إيجَابِ الرَّجْمِ» فَإِنْ قِيلَ: فَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ إلَّا تَوْقِيفًا وَنَصًّا فَلْتَكُنْ الْعِلَّةُ كَذَلِكَ. قُلْنَا: لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا تَوْقِيفًا، لَكِنْ لَيْسَ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ التَّوْقِيفِ فِي الْأَحْكَامِ مُجَرَّدَ النَّصِّ بَلْ النَّصَّ، وَالْعُمُومَ وَالْفَحْوَى وَمَفْهُومَ الْقَوْلِ وَقَرَائِنَ الْأَحْوَالِ وَشَوَاهِدَ الْأُصُولِ وَأَنْوَاعَ الْأَدِلَّةِ، فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ تَتَّسِعُ طُرُقُهُ وَلَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى النَّصِّ. الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ يَنْقَسِمُ إلَى مَقْطُوعٍ وَمَظْنُونٍ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ كَقَوْلِهِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فَإِنَّهُ أَفْهَمَ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ» فَإِنَّهُ أَفْهَمَ تَحْرِيمَ الْغُلُولِ فِي الْغَنِيمَةِ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَكَنَهْيِهِ عَنْ الضَّحِيَّةِ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ، فَإِنَّهُ أَفْهَمَ الْمَنْعَ مِنْ الْعَمْيَاءِ وَمَقْطُوعَةِ الرِّجْلَيْنِ، وَكَقَوْلِهِ: «الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» فَإِنَّ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ وَالسُّكْرَ وَكُلَّ مَا أَزَالَ الْعَقْلَ أَوْلَى بِهِ مِنْ النَّوْمِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَةِ هَذَا قِيَاسًا وَتَبْعُدُ تَسْمِيَتُهُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى فِكْرٍ وَاسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ، وَلِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ هَاهُنَا كَأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَمَنْ سَمَّاهُ قِيَاسًا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ. وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَسَامِي، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْإِلْحَاقِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ فَإِنَّمَا مُخَالَفَتُهُ فِي عِبَارَةٍ. وَهَذَا الْجِنْسُ قَدْ يَلْتَحِقُ بِأَذْيَالِهِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ وَجْهٍ وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ دُونَ الْعِلْمِ كَقَوْلِهِمْ: " إذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ فَبِأَنْ تَجِبَ فِي الْعَمْدِ أَوْلَى "؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا فِي الْخَطَأِ وَزِيَادَةَ عُدْوَانٍ، وَ " إذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فَالْكَافِرُ أَوْلَى "؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ فِسْقٌ وَزِيَادَةٌ، " وَإِذَا أُخِذَتْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكِتَابِيِّ فَمِنْ الْوَثَنِيِّ أَوْلَى "؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ مَعَ زِيَادَةِ جَهْلٍ. وَهَذَا يُفِيدُ الظَّنَّ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ بَلْ جِنْسُ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ " إذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ فَشَهَادَةُ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى " وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ الْأَوَّلَ وَزِيَادَةً وَالْعَمْيَاءُ عَوْرَاءُ مَرَّتَيْنِ، وَمَقْطُوعُ الرِّجْلَيْنِ أَعْرَجُ مَرَّتَيْنِ، فَأَمَّا الْعَمْدُ فَيُخَالِفُ الْخَطَأَ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا تَقْوَى الْكَفَّارَةُ عَلَى مَحْوِهِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ، بَلْ جِنْسُ الْأَوَّلِ قَوْلُنَا مَنْ وَاقَعَ أَهْلَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ " فَالزَّانِي بِهِ أَوْلَى إذْ وُجِدَ فِي الزِّنَا إفْسَادُ الصَّوْمِ بِالْوَطْءِ وَزِيَادَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعَمْدِ الْخَطَأُ وَزِيَادَةٌ، كَذَلِكَ الْوَثَنِيُّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالْفَرْقِ بَيْن هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَمْ تَنْفِرْ النَّفَسُ عَنْ قَبُولِهِ، وَلَوْ قِيلَ تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ دُونَ الْعَوْرَاءِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ثَلَاثَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَنْفِرُ النَّفْسُ عَنْ قَبُولِهِ؛ وَإِنَّمَا نَفَرَتْ النَّفَسُ عَنْ قَبُولِهِ لِمَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ أَنَّ مَنْعَ الْعَوْرَاءِ لِأَجْلِ نُقْصَانِهَا وَقَبُولَ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ لِظُهُورِ صِدْقِ الدَّعْوَى وَتَحْرِيمَ التَّأْفِيفِ لِإِكْرَامِ الْآبَاءِ، فَمَعَ فَهْمِ هَذِهِ الْمَعَانِي يَتَنَاقَصُ الْفَرْقُ وَلَمْ يُفْهَمْ مِثْل ذَلِكَ

مِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ وَشَهَادَةِ الْكَافِرِ وَجِزْيَةِ الْوَثَنِيِّ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَا يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مِثْلَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَلَا يَكُونُ أَوْلَى مِنْهُ وَلَا هُوَ دُونَهُ، فَيُقَال: إنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ. وَرُبَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي» فَإِنَّ الْأَمَةَ فِي مَعْنَاهُ، قَوْلُهُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ» فَالْمَرْأَةُ فِي مَعْنَاهُ، وقَوْله تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَالْعَبْدُ فِي مَعْنَاهَا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» فَإِنَّ الْجَارِيَةَ فِي مَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ فِي مَوْتِ الْحَيَوَانِ فِي السَّمْنِ إنَّهُ «يُرَاقُ الْمَائِعُ، وَيُقَوَّرُ مَا حَوَالَيْ الْجَامِدِ» فَإِنَّ الْعَسَلَ لَوْ كَانَ جَامِدًا فِي مَعْنَاهُ. وَهَذَا جِنْسٌ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَالْمَنْطُوقِ بِهِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ بِاسْتِقْرَاءِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَمَوَارِدِهِ وَمَصَادِرِهِ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ لَيْسَ يَخْتَلِفُ بِذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ، كَمَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَلَا يَجْرِي هَذَا فِي جِنْسٍ مِنْ الْحُكْمِ تُؤَثِّرُ الذُّكُورَةُ فِيهِ، وَالْأُنُوثَةُ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَأَمْثَالِهَا وَضَابِطُ هَذَا الْجِنْسِ أَنْ لَا يُحْتَاجَ إلَى التَّعَرُّضِ لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَلْ يُتَعَرَّضَ لِلْفَارِقِ وَيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَارِقَ إلَّا كَذَا وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ قَطْعًا، فَإِنْ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَى قَوْلِنَا " لَا فَارِقَ إلَّا كَذَا بِأَنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ فَارِقٌ آخَرُ، أَوْ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَى قَوْلِنَا " لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ " بِأَنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ، لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِلْحَاقُ مَقْطُوعًا بِهِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَظْنُونًا وَيَتَعَلَّقُ بِأَذْيَالِ هَذَا الْجِنْسِ مَا هُوَ مَظْنُونٌ كَقَوْلِنَا: إنَّهُ لَوْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى عُضْوٍ مُعَيَّنٍ سَرَى، فَإِنَّهُ إذَا أَضَافَ إلَى النِّصْفِ سَرَى؛ لِأَنَّهُ بَعْضٌ وَالْيَدُ بَعْضٌ، وَهَذَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُسَاوَاةُ الْبَعْضِ الْمُعَيَّنِ لِلْبَعْضِ الشَّائِعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمُفَارَقَةِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي التَّأْثِيرِ وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، «كَقَوْلِهِ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً» فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التُّرْكِيَّ وَالْهِنْدِيَّ فِي مَعْنَى الْعَرَبِيِّ، إذْ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي مَعْنَى الْحُرِّ فَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَلَا نَرَى الصَّبِيَّ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي اللُّزُومِ وَلِلُّزُومِ مَدْخَلٌ فِي التَّأْثِيرِ وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْمَحَلِّ فَقَدْ وَاقَعَ أَهْلَهُ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ وَاقَعَ مَمْلُوكَتَهُ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ، بَلْ لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَهُوَ بِالْكَفَّارَةِ أَوْلَى أَمَّا اللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ وَالْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ هَلْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ؟ رُبَّمَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللِّوَاطَ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الصَّوْمِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَقَدْ جَرَى وِقَاعُ الْأَعْرَابِيِّ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَشَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ سَائِرَ الْأَيَّامِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَسَائِرَ شُهُورِ رَمَضَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَالْقَضَاءُ وَالنَّذْرُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ رَمَضَانَ أَعْظَمُ فَهَتْكُهَا أَفْحَشُ، وَلِلْحُرْمَةِ مَدْخَلٌ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى نَفْسِ هَذَا الْفِعْلِ فَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ الْمُفْطِرَاتِ؟ هَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِتَفْوِيتِ الصَّوْمِ، وَالْوَطْءُ آلَتُهُ كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَفْوِيتِ الدَّمِ ثُمَّ السَّيْفُ وَالسِّكِّينُ وَسَائِرُ الْآلَاتِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْكَفَّارَةُ زَجْرٌ وَدَوَاعِي الْوِقَاعِ لَا

تَنْخَنِسُ بِمُجَرَّدِ وَازِعِ الدِّينِ فَافْتَقَرَ إلَى كَفَّارَةٍ زَاجِرَةٍ بِخِلَافِ دَاعِيَةِ الْأَكْلِ. وَهَذِهِ ظُنُونٌ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَلْ يُسَمَّى إلْحَاقُ الْأَكْلِ هَهُنَا بِالْجِمَاعِ قِيَاسًا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا قِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى تَجْرِيدِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَحَذْفِ الْحَشْوِ مِنْهُ، وَلَفْظَةُ الْقِيَاسِ اصْطِلَاحٌ لِلْفُقَهَاءِ فَيَخْتَلِفُ إطْلَاقُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَلَسْتُ أَرَى الْإِطْنَابَ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ أَوْ إفْسَادِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ تَدْوَارِ النَّظَرِ فِيهِ عَلَى اللَّفْظِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يُظَنُّ بِالظَّاهِرِ فِي الْمُنْكِرِ لِلْقِيَاسِ إنْكَارَ الْمَعْلُومِ وَالْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتِ، لَكِنْ لَعَلَّهُ يُنْكِرُ الْمَظْنُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ: مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ فَيَجِبُ حَذْفُهُ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ أَمَّا مَا يُحْتَمَلُ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ بِالظَّنِّ. وَإِذَا بَانَ لَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِالظَّنِّ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُزُولِ الظَّنِّ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا اجْتَهَدُوا كَمَسْأَلَةِ الْحَرَامِ وَمَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَحَدِّ الْخَمْرِ وَالْمُفَوَّضَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ ظَنِّيَّةٌ وَلَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلِإِلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ طَرِيقَانِ مُتَبَايِنَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَعَارَضَ إلَّا لِلْفَارِقِ وَسُقُوطِ أَثَرِهِ فَيَقُولُ: لَا فَارِقَ إلَّا كَذَا، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ وَلَا مَدْخَلَ لِهَذَا الْفَارِقِ فِي التَّأْثِيرِ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أُخْرَى؛ فَيَلْزَمُ مِنْهُ نَتِيجَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ، وَهَذَا إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا ظَهَرَ التَّقَارُبُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ كَقُرْبِ الْأَمَةِ مَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعَرُّضِ لِلْجَامِعِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْجَامِعِ وَيَقْصِدَ نَحْوَهُ، وَلَا يَلْتَفِتَ إلَى الْفَوَارِقِ، وَإِنْ كَثُرَتْ وَيَظْهَرُ تَأْثِيرُ الْجَامِعِ فِي الْحُكْمِ فَيَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ كَذَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْفَرْعِ فَيَجِبُ الِاجْتِمَاعُ فِي الْحُكْمِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى قِيَاسًا بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا خِلَافٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا قُصِدَ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَذَلِكَ قُصِدَ فِيهِ نَفْيُ الْفَرْقِ فَحَصَلَ الِاجْتِمَاعُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى صُورَةِ الْمُقَايَسَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ التَّعَرُّضُ لِلْفَارِقِ وَنَفْيِهِ يَنْتَظِمُ حَيْثُ لَمْ تُعْرَفْ عِلَّةُ الْحُكْمِ، بَلْ يَنْتَظِمُ فِي حُكْمٍ لَا يُعَلَّلُ وَيَنْتَظِمُ حَيْثُ عُرِفَ أَنَّهُ مُعَلَّلٌ لَكِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْعِلَّةُ، فَإِنَّا نَقُولُ: الزَّبِيبُ فِي مَعْنَى التَّمْرِ فِي الرِّبَا قَبْلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ عِنْدَنَا عِلَّةُ الرِّبَا أَنَّهُ الطَّعْمُ أَوْ الْكَيْلُ أَوْ الْقُوتُ وَيَنْتَظِمُ حَيْثُ ظَهَرَ أَصْلُ الْعِلَّةِ وَتَعَيَّنَ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَمْ تَتَلَخَّص بَعْدُ أَوْصَافُهُ وَلَمْ تَتَحَرَّرْ بَعْدُ قُيُودُهُ وَحُدُودُهُ. أَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ الْجَمْعُ، فَلَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ تَعَيُّنِ الْعِلَّةِ وَتَلْخِيصِهَا بِحَدِّهَا وَقُيُودِهَا وَبَيَانِ تَحْقِيقِ وُجُودِهَا بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْعِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ يَنْقَسِمُ إلَى مَقْطُوعٍ بِهِ وَإِلَى مَظْنُونٍ. فَإِذَا تَمَهَّدَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فَيَرْجِعُ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ بَيَانُ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ رَدُّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا الْقِيَاسُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَثَلًا: أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْإِسْكَارُ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْإِسْكَارَ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ. أَمَّا الثَّانِيَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ بِالْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعُرْفِ وَبِدَلِيلِ الشَّرْعِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ، أَمَّا الْأُولَى فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَوْ نَوْعِ اسْتِدْلَالٍ مُسْتَنْبَطٍ، فَإِنَّ كَوْنَ الشِّدَّةِ عَلَامَةَ التَّحْرِيمِ وَضْعٌ شَرْعِيٌّ كَمَا أَنَّ نَفْسَ التَّحْرِيمِ كَذَلِكَ وَطَرِيقُهُ.

طَرِيقُهُ [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ] ٍ وَجُمْلَةُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ تَرْجِعُ إلَى أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَنَحْصُرُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ: وَذَلِكَ إنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ صَرِيحِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ الْإِيمَاءِ أَوْ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَى الْأَسْبَابِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: الصَّرِيحُ وَذَلِكَ أَنْ يَرِدَ فِيهِ لَفْظُ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: " لِكَذَا أَوْ لِعِلَّةِ كَذَا أَوْ لِأَجْلِ كَذَا أَوْ لِكَيْ لَا يَكُونَ كَذَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيلِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَ {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] وَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ لِأَجْلِ الْبَصَرِ» وَ «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ» فَهَذِهِ صِيَغُ التَّعْلِيلِ إلَّا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَا قَصَدَ التَّعْلِيلَ فَيَكُونُ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ لِأَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ قَالَ الْقَاضِي: قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] مِنْ هَذَا الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالدُّلُوكُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَمَعْنَاهُ " صَلِّ عِنْدَهُ " فَهُوَ لِلتَّوْقِيتِ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ إذْ الزَّوَالُ وَالْغُرُوبُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْصِبَهُ الشَّرْعُ عَلَامَةً لِلْوُجُوبِ، وَلَا مَعْنَى لِعِلَّةِ الشَّرْعِ إلَّا الْعَلَامَةُ الْمَنْصُوبَةُ، وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْأَوْقَاتُ أَسْبَابٌ؛ وَلِذَلِكَ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِهَا وَلَا يَبْعُدُ تَسْمِيَةُ السَّبَبِ عِلَّةً. الضَّرْبُ الثَّانِي: التَّنْبِيهُ وَالْإِيمَاءُ عَلَى الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْهِرَّةِ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ» فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهَا أَوْ لِأَجْلِ أَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ لَكِنْ أَوْمَأَ إلَى التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ وَصْفِ الطَّوَافِ مُفِيدًا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: إنَّهَا سَوْدَاءُ أَوْ بَيْضَاءُ لَمْ يَكُنْ مَنْظُومًا إذَا لَمْ يَرِدْ التَّعْلِيلُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَ «إنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا» وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ حَتَّى يَطَّرِدَ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الصِّفَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فَهُوَ تَعْلِيلٌ حَتَّى يُفْهَمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْإِتْيَانِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى؛ لِأَنَّ الْأَذَى فِيهِ دَائِمٌ وَلَا يَجْرِي فِي الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ، وَلَيْسَ بِطَبِيعِيٍّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيلًا لِاسْتِعْمَالِهِ لَمَا كَانَ الْكَلَامُ وَاقِعًا فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَاءً نَبَذَ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ الزَّبِيبُ وَغَيْرُهُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَرَقَةُ وَالْعَصِيدَةُ وَمَا انْقَلَبَ شَيْئًا آخَرَ بِالطَّبْخِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيَنْقُصُ الرَّطْبُ إذَا يَبِسَ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلَا إذًا» فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ لَوْلَا التَّعْلِيلُ بِهِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ " إذًا " فَإِنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ. الثَّالِثُ: " الْفَاءُ " فِي قَوْلِهِ " فَلَا إذًا " فَإِنَّهُ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بِذِكْرِ نَظِيرِهَا كَقَوْلِهِ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟» «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ؟» فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيلِ لَمَا كَانَ التَّعَرُّض لِغَيْرِ مَحَلِّ السُّؤَالِ مُنْتَظِمًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْصِلَ الشَّارِعُ بَيْن قِسْمَيْنِ بِوَصْفٍ وَيَخُصُّهُ بِالْحُكْمِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الظَّاهِرِ

عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا، وَلَيْسَ هَذَا لِلْمُنَاسَبَةِ بَلْ لَوْ قَالَ: الطَّوِيلُ لَا يَرِثُ أَوْ الْأَسْوَدُ لَا يَرِثُ لَكِنَّا نَفْهَمُ مِنْهُ جَعْلَهُ الطُّولَ وَالسَّوَادَ عَلَامَةً عَلَى انْفِصَالِهِ عَنْ الْوَرَثَةِ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَكْثُرُ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ فَوُجُوهُ التَّنْبِيهِ لَا تَنْضَبِطُ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي تَفْصِيلِهَا فِي " كِتَابِ شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ هَهُنَا. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَسْبَابِ بِتَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ وَبِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا الْقِسْمِ مَا يُرَتِّبُهُ الرَّاوِي بِفَاءِ التَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ: زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ، وَسَهَا النَّبِيُّ فَسَجَدَ، وَرَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ فَرَضَخَ النَّبِيُّ رَأْسَهُ؛ فَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْبِيبِ، وَلَيْسَ لِلْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبْ بَلْ يَلْتَحِقُ بِهَذَا الْجِنْسِ كُلُّ حُكْمٍ حَدَثَ عَقِيبَ وَصْفٍ حَادِثٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ كَحُدُوثِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّصَرُّفَاتِ أَوْ مِنْ الْأَفْعَالِ كَاشْتِغَالِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ أَوْ مِنْ الصِّفَاتِ كَتَحْرِيمِ الشُّرْبِ عِنْد طَرَيَانِ الشِّدَّةِ عَلَى الْعَصِيرِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ عِنْدَ طَرَيَانِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ يَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَتَجَدَّدُ إلَّا بِتَجَدُّدِ سَبَبٍ وَلَمْ يَتَجَدَّدْ إلَّا هَذَا فَإِذًا هُوَ السَّبَبُ، وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبْ فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ دَلَالَةً قَاطِعَةً أَوْ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً؟ قُلْنَا: أَمَّا مَا رُتِّبَ عَلَى غَيْرِهِ بِفَاءِ التَّرْتِيبِ وَصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَصْلِ الِاعْتِبَارِ أَمَّا اعْتِبَارُهُ بِطَرِيقِ كَوْنِهِ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا مُتَضَمِّنًا لِلْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ أَوْ شَرْطًا يَظْهَرُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ أَوْ يُفِيدُ الْحُكْمُ عَلَى تَجَرُّدِهِ حَتَّى يَعُمَّ الْحُكْمُ الْمُحَالَ أَوْ يُضَمَّ إلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ حَتَّى يَخْتَصَّ بِبَعْضِ الْمُحَالِ فَمُطْلَقُ الْإِضَافَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ صَرِيحًا فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَقَدْ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ وَجْهَيْنِ فَيَتَّبِعَ فِيهِ مُوجِبَ الْأَدِلَّةِ. وَإِنَّمَا الثَّابِتُ بِالْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ كَوْنُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ مُعْتَبَرًا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ مِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وَهُوَ تَنْبِيهٌ أَنَّ الْغَضَبَ عِلَّةٌ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ لَكِنْ قَدْ يَتَبَيَّنُ بِالنَّظَرِ أَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةً لِذَاتِهِ بَلْ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الدَّهْشَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ حَتَّى يُلْحَقَ بِهِ الْجَائِعُ وَالْحَاقِنُ وَالْمُتَأَلِّمُ فَيَكُونُ الْغَضَبُ مَنَاطًا لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَعْنًى يَتَضَمَّنُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " سَهَا فَسَجَدَ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ هُوَ السَّهْوُ لِعَيْنِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَرْكِ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا رُبَّمَا قِيلَ يَسْجُدُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ " احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ زَنَى وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الزِّنَا مِنْ إيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ قَطْعًا، مُشْتَهًى طَبْعًا حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى اللِّوَاطِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِ الْجِمَاعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى الْأَكْلِ وَالظَّاهِرُ الْإِضَافَةُ إلَى الْأَصْلِ وَمَنْ صَرَفَهُ عَنْ الْأَصْلِ

إلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى الْأَكْلِ افْتَقَرَ إلَى دَلِيلٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْإِضَافَاتِ اللَّفْظِيَّةِ إيمَاءً كَانَ أَوْ صَرِيحًا؛ أَمَّا مَا يَحْدُثُ بِحُدُوثِ وَصْفٍ كَحُدُوثِ الشِّدَّةِ فَفِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ] ِ: مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ: إذَا قُدِّمَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمِيرَاثِ التَّقْدِيمُ بِسَبَبِ امْتِزَاجِ الْأُخُوَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْجَهْلُ بِالْمَهْرِ يُفْسِدُ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ بِعِوَضٍ فِي مُعَاوَضَةٍ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، إذْ الْجَهْلُ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِفْسَادِ فِي الْبَيْعِ بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ، وَإِنْ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ فَيَضْمَنُ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْغَصْبِ اتِّفَاقًا: وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيُّ: صَغِيرَةٌ، فَيُوَلِّي عَلَيْهَا قِيَاسًا لِلثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، فَالْمُطَالَبَةُ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا بِالِاتِّفَاقِ مُؤَثِّرَةٌ وَيَبْقَى سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ قُلْتُمْ إذَا أَثَّرَ امْتِزَاجُ الْأُخُوَّةِ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْإِرْثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ فِي النِّكَاحِ؟ وَإِذَا أَثَّرَ الصِّغَرُ فِي الْبِكْرِ فَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الثَّيِّبِ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ إمَّا أَنْ يُوَجِّهَهُ الْمُجْتَهِدُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ يُوَجِّهَهُ الْمُنَاظِرُ فِي الْمُنَاظَرَةِ؛ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَيَدْفَعُهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنْ يَعْرِفَ مُنَاسَبَةَ الْمُؤَثِّرِ كَالصِّغَرِ فَإِنَّهُ يُسَلِّطُ الْوَلِيَّ عَلَى التَّزْوِيجِ لِلْعَجْزِ، فَنَقُولُ: الثَّيِّبُ كَالْبِكْرِ فِي هَذِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا كَذَا، وَكَذَا وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي إلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ وَنَظَائِرِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْقِيَاسُ تَمَامَهُ بِالتَّعَرُّضِ لِلْجَامِعِ وَنَفْيِ الْفَارِقِ جَمِيعًا، وَإِنْ ظَهَرَتْ الْمُنَاسَبَةُ اُسْتُغْنِيَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْفَارِقِ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ مِنْ مُنَاظِرٍ فَيَكْفِي أَنْ يُقَالَ الْقِيَاسُ لِتَعْدِيَةِ الْعِلَّةِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، وَمَا مِنْ تَعْدِيَةٍ إلَّا وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا هَذَا السُّؤَالُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَحَ هَذَا الْبَابُ بَلْ يُكَلَّفُ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ أَوْ التَّنْبِيهَ عَلَى مُثَارِ خَيَالِ الْفَرْقِ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: أُخُوَّةُ الْأُمِّ أَثَّرَتْ فِي الْمِيرَاثِ فِي التَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَهَا يُؤَثِّرُ فِي التَّوْرِيثِ؟ فَلِمَ قُلْتَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي التَّرْجِيحِ مَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّأْثِيرِ فَيُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لَا يَسْتَقِلُّ فَتُقْبَلُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ إبْدَائِهِ فِي مَعْرِضِ الْفَرْقِ ابْتِدَاءً؟ أَمَّا إذَا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى مُثَارِ خَيَالِ الْفَرْقِ، وَأَصَرَّ عَلَى صَرْفِ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْطَلِحَ الْمُنَاظِرُونَ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَحُ بَابًا مِنْ اللَّجَاجِ لَا يَنْسَدُّ، وَلَا يَجُوزُ إرْهَافُهُ إلَى طَلَبِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرٌ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَهُوَ عِلَّةٌ نَاسَبَ أَوْ لَمْ يُنَاسِبْ فَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» فَنَحْنُ نَقِيسُ عَلَيْهِ ذِكْرَ غَيْرِهِ وَلَا مُنَاسَبَةَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْمَسِّ وَلَا مَدْخَلَ لِلْفَارِقِ فِي التَّأْثِيرِ. فَإِنَّهُ، وَإِنْ ظَهَرَ مُنَاسَبَتُهُ أَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ اعْتِبَارُ الْمُنَاسِبِ بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ، إذْ السَّرِقَةُ تُنَاسِبُ الْقَطْعَ، ثُمَّ تَخْتَصُّ بِالنِّصَابِ، وَالزِّنَا يُنَاسِبُ الرَّجْمَ ثُمَّ يَخْتَصُّ بِالْمُحْصَنِ، فَيَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُنَاسِبِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: لِمَ قُلْتَ إذَا أَثَّرَ هَذَا الْمُنَاسِبُ، وَهُوَ الصِّغَرُ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ فِي وِلَايَةِ الْبُضْعِ، وَإِذَا أَثَّرَ فِي الْبِكْرِ يُؤَثِّرُ فِي الثَّيِّبِ، وَإِذَا أَثَّرَ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ الِابْنِ يُؤَثِّرُ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ الْبِنْتِ؟ وَمِنْ الْمُنَاسَبَاتِ مَا يَخْتَصُّ

بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَهَذَا السُّؤَالُ يُسْتَمَدُّ مِنْ خَيَالِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ] الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فِي إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ النَّوْعُ الْأَوَّلُ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّلٌ وَلَا عِلَّةَ لَهُ إلَّا كَذَا أَوْ كَذَا، وَقَدْ بَطَلَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَإِذَا اسْتَقَامَ السَّبْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُنَاسَبَةٍ بَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ حُرِّمَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَلَا بُدَّ مِنْ عَلَامَةٍ تَضْبُطُ مَجْرَى الْحُكْمِ عَنْ مَوْقِعِهِ وَلَا عَلَامَةَ إلَّا الطَّعْمُ أَوْ الْقُوتُ أَوْ الْكَيْلُ وَقَدْ بَطَلَ الْقُوتُ وَالْكَيْلُ بِدَلِيلِ كَذَا، وَكَذَا فَثَبَتَ الطَّعْمُ لَكِنْ يَحْتَاجُ هَهُنَا إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَلَامَةٍ إذْ قَدْ يُقَالُ هُوَ مَعْلُومٌ بِاسْمِ الْبُرِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى عَلَامَةٍ وَعِلَّةٍ فَنَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَارَ دَقِيقًا وَخُبْزًا وَسَوِيقًا نُفِيَ حُكْمُ الرِّبَا وَزَالَ اسْمُ الْبُرِّ فَدَلَّ أَنَّ مَنَاطَ الرِّبَا أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْ اسْمِ الْبُرِّ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَبْرُهُ حَاصِرًا فَيَحْصُرُ جَمِيعَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً إمَّا بِأَنْ يُوَافِقَهُ الْخَصْمُ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ مَا ذَكَرَهُ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ أَوْ لَا يُسَلِّمُ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَعَلَيْهِ سَبْرٌ بِقَدْرِ إمْكَانِهِ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ إيرَادِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُنَاظِرًا فَيَكْفِيه أَنْ يَقُولَ هَذَا مُنْتَهَى قُدْرَتِي فِي السَّبْرِ فَإِنْ شَارَكْتَنِي فِي الْجَهْلِ بِغَيْرِهِ لَزِمَك مَا لَزِمَنِي، وَإِنْ اطَّلَعْتَ عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى فَيَلْزَمُكَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِهَا فَإِنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُنِي وَلَا أُظْهِرُ الْعِلَّةَ، وَإِنْ كُنْتُ أَعْرِفُهَا فَهَذَا عِنَادٌ مُحَرَّمٌ وَصَاحِبُهُ إمَّا كَاذِبٌ وَإِمَّا فَاسِقٌ بِكِتْمَانِ حُكْمٍ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى إظْهَارِهِ وَمِثْلُ هَذَا الْجَدَلِ حَرَامٌ، وَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ إفْسَادُ سَائِرِ الْعِلَلِ تَارَةً يَكُونُ بِبَيَانِ سُقُوطِ أَثَرِهَا فِي الْحُكْمِ بِأَنْ يَظْهَرَ بَقَاءُ الْحُكْمِ مَعَ انْتِفَائِهَا أَوْ بِانْتِقَاضِهَا بِأَنْ يَظْهَرَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهَا. [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِإِبْدَاءِ مُنَاسَبَتِهَا لِلْحُكْمِ] ِ وَالِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَيَنْشَأُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنَاسِبِ مَا هُوَ عَلَى مِنْهَاجِ الْمَصَالِحِ بِحَيْثُ إذَا أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ انْتَظَمَ مِثَالُهُ قَوْلُنَا: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ؛ لِأَنَّهَا تُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لَا كَقَوْلِنَا: حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا تَقْذِفُ بِالزَّبَدِ؛ أَوْ لِأَنَّهَا تُحْفَظُ فِي الدَّنِّ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَقِيقَةَ الْمُنَاسِبِ وَأَقْسَامَهُ وَمَرَاتِبَهُ فِي آخِرِ الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَالِاسْتِصْلَاحِ فَلَا نُعِيدُهُ لَكِنَّا نَقُولُ: الْمُنَاسِبُ يَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ وَمُلَائِمٍ وَغَرِيبٍ وَمِثَالُ الْمُؤَثِّرِ: التَّعْلِيلُ لِلْوِلَايَةِ بِالصِّغَرِ وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا أَنَّهُ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ، وَإِذَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْمُنَاسَبَةِ بَلْ قَوْلُهُ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» لَمَّا دَلَّ عَلَى تَأْثِيرِ الْمَسِّ قِسْنَا عَلَيْهِ مَسَّ ذَكَرِ غَيْرِهِ. أَمَّا الْمُلَائِمُ فَعِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ عَيْنَ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا فِي الصِّغَرِ لَكِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مِثَالُهُ قَوْلُهُ: لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ لِمَا فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ مِنْ الْحَرَجِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ لِجِنْسِ الْمَشَقَّةِ تَأْثِيرًا فِي التَّخْفِيفِ أَمَّا هَذِهِ الْمَشَقَّةُ نَفْسُهَا، وَهِيَ مَشَقَّةُ التَّكَرُّرِ فَلَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ نَعَمْ لَوْ كَانَ قَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِسُقُوطِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ الْحَرَائِرِ الْحُيَّضِ وَقِسْنَا عَلَيْهِنَّ الْإِمَاءَ لَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا بِمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ لَكِنْ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ فَعَدَّيْنَاهُ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ وَمِثَالُهُ أَيْضًا

قَوْلُنَا: إنَّ قَلِيلَ النَّبِيذِ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى قَلِيلِ الْخَمْرِ، وَتَعْلِيلُنَا قَلِيلَ الْخَمْرِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، فَهَذَا مُنَاسِبٌ لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ لَكِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ إذْ الْخَلْوَةُ لَمَّا كَانَتْ دَاعِيَةً إلَى الزِّنَا حَرَّمَهَا الشَّرْعُ كَتَحْرِيمِ الزِّنَا، فَكَانَ هَذَا مُلَائِمًا لِجِنْسِ تَصَرُّفِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْغَرِيبُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ وَلَا مُلَاءَمَتُهُ لِجِنْسِ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ فَمِثَالُهُ قَوْلُنَا: إنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِكَوْنِهَا مُسْكِرَةً فَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ مُسْكِرٍ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ السُّكْرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَكِنَّهُ مُنَاسِبٌ، وَهَذَا مِثَالُ الْغَرِيبِ لَوْ لَمْ يُقَدَّر التَّنْبِيهُ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ} [المائدة: 91] وَمِثَالُهُ أَيْضًا قَوْلُنَا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَصَدَ الْفِرَارَ مِنْ مِيرَاثِهَا فَيُعَارَضُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ قِيَاسًا عَلَى الْقَاتِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْجِلُ الْمِيرَاثَ فَعُورِضَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَإِنَّ تَعْلِيلَ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ بِهَذَا تَعْلِيلٌ بِمُنَاسِبٍ لَا يُلَائِمُ جِنْسَ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّا لَا نَرَى الشَّرْعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَدْ الْتَفَتَ إلَى جِنْسِهِ فَتَبْقَى مُنَاسَبَةٌ مُجَرَّدَةٌ غَرِيبَةٌ وَلَوْ عُلِّلَ الْحِرْمَانُ بِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِالْقَتْلِ وَجُعِلَ هَذَا جَزَاءً عَلَى الْعُدْوَانِ كَانَ تَعْلِيلًا بِمُنَاسِبٍ مُلَائِمٍ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِعَيْنِهَا، وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِي الْعُقُوبَاتِ فَلَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهَا فِي الْحِرْمَانِ عَنْ الْمِيرَاثِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا أَثَّرَ فِي جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُلَائِمِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُؤَثِّرِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْغَرِيبِ فَإِذَا عَرَفْتَ مِثَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَقْبُولٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَقَصَرَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا يُقْبَلُ إلَّا مُؤَثِّرٌ، وَلَكِنْ أَوْرَدَ لِلْمُؤَثِّرِ أَمْثِلَةً عُرِفَ بِهَا أَنَّهُ قِبَلَ الْمُلَائِمِ لَكِنَّهُ سَمَّاهُ أَيْضًا مُؤَثِّرًا وَذَكَرْنَا تَفْصِيلَ أَمْثِلَتِهِ وَالِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ شِفَاءِ الْغَلِيلِ " وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَمَنْ اسْتَقْرَأَ أَقْيِسَةَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَاجْتِهَادَاتهمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي كُلِّ قِيَاسٍ كَوْنَ الْعِلَّةِ مَعْلُومَةً بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ فَهَذَا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَدُلُّ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ اجْتِهَادِهِ فَإِنْ قِيلَ: يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ أَنَّهُ مُتَحَكَّمٌ بِالتَّعْلِيلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَشْهَدُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى عِلَّتِهِ قُلْنَا إثْبَاتُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ يَشْهَدُ لِمُلَاحَظَةِ الشَّرْعِ لَهُ وَيَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى الظَّنِّ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ إثْبَاتُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ تَلْبِيسٌ إذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَقَاضَى الْحُكْمَ بِمُنَاسَبَةٍ، وَبَعَثَ الشَّارِعُ عَلَى الْحُكْمِ فَأَجَابَ بَاعِثَهُ وَانْبَعَثَ عَلَى وَفْق بَعْثِهِ وَهَذَا تَحَكُّمٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الشَّرْعِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَعَبُّدًا وَتَحَكُّمًا كَتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ مَعَ تَحْلِيلِ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ عَلَى بَعْضِ الْمَذَاهِبِ وَهِيَ تَحَكُّمَاتٌ لَكِنْ اتَّفَقَ مَعْنَى الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ فَظُنَّ أَنَّهُ لِأَجْلِ الْإِسْكَارِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهُ فِي الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ فَقِيلَ إنَّهُ تَحَكُّمٌ وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّنْبِيهِ فِي الْقُرْآنِ بِذِكْرِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى آخَرُ مُنَاسِبٌ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِسْكَارِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ فَالْحُكْمُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَبِمَ يَتَرَجَّحُ هَذَا الِاحْتِمَالُ؟ وَهَذَا لَا يَنْقَلِبُ فِي الْمُؤَثِّرِ، فَإِنَّهُ عُرِفَ كَوْنُهُ عِلَّةً بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا كَالصِّغَرِ وَتَقْدِيمِ الْأَخِ

لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجَوَابُ أَنَّا نُرَجِّحُ هَذَا الِاحْتِمَالَ عَلَى احْتِمَالِ التَّحَكُّمِ بِمَا رَدَدْنَا بِهِ مَذْهَبَ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ كَمَا فِي الْمُؤَثِّرِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا أُضِيفَ الْحُكْمُ فِي مَحَلٍّ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ الْمَحَلِّ كَمَا اخْتَصَّ تَأْثِيرُ الزِّنَا بِالْمُحْصَنِ وَتَأْثِيرُ السَّرِقَةِ بِالنِّصَابِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُؤَثِّرَ الصِّغَرُ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ دُونَ وِلَايَةِ الْبُضْعِ وَامْتِزَاجِ الْأُخُوَّةِ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْوِلَايَةِ، وَبِهِ اعْتَصَمَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ قِيلَ لَهُمْ: عُلِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتِّبَاعُ الْعِلَلِ وَاطِّرَاحُ تَنْزِيلِ الشَّرْعِ عَلَى التَّحَكُّمِ مَا أَمْكَنَ فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَلَا فَرْقَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَعَلَّ فِيهِ مَعْنًى آخَرَ مُنَاسِبًا هُوَ الْبَاعِثُ لِلشَّارِعِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا، وَإِنَّمَا مَالَتْ أَنْفُسُنَا إلَى الْمَعْنَى الَّذِي ظَهَرَ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْآخَرِ لَا لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، فَهُوَ وَهْمٌ مَحْضٌ؛ فَنَقُولُ: غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَسْتَنِدُ إلَى مِثْلِ هَذَا الْوَهْمِ وَتَعْتَمِدُ انْتِفَاءَ الظُّهُورِ فِي مَعْنًى آخَرَ لَوْ ظَهَرَ لَبَطَلَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمْ يَسْتَقِمْ قِيَاسٌ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَإِنَّمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الْإِجْمَاعُ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْفَرْقِ وَلَعَلَّ فِيهِ مَعْنًى لَوْ ظَهَرَ لَزَالَتْ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَلِعَدَمِ عِلَّةٍ مُعَارِضَةٍ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، فَلَوْ ظَهَرَ أَصْلٌ آخَرُ يَشْهَدُ لِلْفَرْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُنَاقِضُ الْعِلَّةَ الْأُولَى لَانْدَفَعَ غَلَبَةُ الظَّنِّ بَلْ يَحْصُلُ الظَّنُّ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَالظَّوَاهِرِ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ قَرِينَةٍ مُخَصِّصَةٍ لَوْ ظَهَرَتْ لَزَالَ الظَّنُّ لَكِنْ إذَا لَمْ تَظْهَرْ جَازَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الِاجْتِهَادِ إلَّا اتِّبَاعُ الرَّأْي الْأَغْلَبِ وَإِلَّا فَلِمَ يَضْبِطُوا أَجْنَاسَ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلَمْ يُمَيِّزُوا جِنْسًا عَنْ جِنْسٍ، فَإِنْ سَلَّمْتُمْ حُصُولَ الظَّنِّ بِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا ظَنٌّ بَلْ هُوَ وَهْمٌ مُجَرَّدٌ، فَإِنَّ التَّحَكُّمَ مُحْتَمَلٌ وَمُنَاسِبٌ آخَرُ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا مُحْتَمَلٌ، وَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ مُحْتَمَلٌ، وَوَهْمُ الْإِنْسَانِ مَائِلٌ إلَى طَلَبِ عِلَّةٍ وَسَبَبٍ لِكُلِّ حُكْمٍ، ثُمَّ إنَّهُ سَبَّاقٌ إلَى مَا ظَهَرَ لَهُ وَقَاضٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَّا مَا ظَهَرَ لَهُ فَتَقْضِي نَفْسُهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ وَلَا سَبَبَ إلَّا هَذَا، فَإِذَا هُوَ السَّبَبُ، فَقَوْلُهُ " لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ " إنْ سَلَّمْنَاهُ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى التَّحَكُّمِ وَنَقُولُ بِلَا عِلَّةٍ وَلَا سَبَبٍ فَقَوْلُهُ: " لَا سَبَبَ إلَّا هَذَا " تَحَكُّمٌ مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا هَذَا فَجَعَلَ عَدَمَ عِلْمِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ عِلْمًا بِعَدَمِ سَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ غَلَطٌ. وَبِمِثْلِ هَذَا الطَّرِيقِ أَبْطَلْتُمْ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ إذْ مُسْتَنَدُ الْقَائِلِ بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَاعِثٍ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا بَاعِثٌ سِوَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ، فَإِذًا هُوَ الْبَاعِثُ، إذْ قُلْتُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ أَنَّهُ لَا بَاعِثَ سِوَاهُ؟ فَلَعَلَّهُ بَعَثَهُ عَلَى التَّخْصِيصِ بَاعِثٌ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ؟ وَهَذَا كَلَامٌ وَاقِعٌ فِي إمْكَانِ التَّعْلِيلِ بِمُنَاسِبٍ لَا يُؤَثِّرُ وَلَا يُلَائِمُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا اسْتِمْدَادٌ مِنْ مَأْخَذِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مُنْقَلِبٌ فِي الْمُؤَثِّرِ وَالْمُلَائِمِ، فَإِنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِهِ أَيْضًا يُقَابِلهُ احْتِمَالُ التَّحَكُّمِ وَاحْتِمَالُ فَرْقٍ يَنْقَدِحُ وَاحْتِمَالُ عِلَّةٍ تُعَارِضُ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنِ الْإِلْحَاقُ مَظْنُونًا بَلْ مَقْطُوعًا كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ وَفَهْمِ الضَّرْبِ مِنْ التَّأْفِيفِ وَقَوْلِ الْقَائِلِ: إنَّ هَذَا وَهْمٌ وَلَيْسَ بِظَنٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُرَجِّحٍ وَالظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَيْلِ بِسَبَبٍ، وَمَنْ بَنَى أَمْرَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى الْوَهْمِ سُفِّهَ فِي عَقْلِهِ وَمَنْ بَنَاهُ عَلَى الظَّنِّ كَانَ مَعْذُورًا حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِي مَالِ الطِّفْلِ بِالْوَهْمِ ضَمِنَ وَلَوْ تَصَرَّفَ بِالظَّنِّ لَمْ يَضْمَنْ، فَمَنْ رَأَى مَرْكَبَ الرَّئِيسِ عَلَى بَابِ دَارِ السُّلْطَانِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الرَّئِيسَ لَيْسَ فِي دَارِهِ بَلْ فِي دَارِ

السُّلْطَانِ وَبَنَى عَلَيْهِ مَصْلَحَتَهُ لَمْ يُعَدَّ مُتَوَهِّمًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الرَّئِيسُ قَدْ أَعَارَ مَرْكَبَهُ أَوْ رَكِبَهُ الرِّكَابِيُّ فِي شُغْلٍ، وَمَنْ رَأَى الرَّئِيسَ أَمَرَ غُلَامَهُ بِضَرْبِ رَجُلٍ وَكَانَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ يَشْتُمُ الرَّئِيسَ فَحَمَلَ ضَرْبَهُ عَلَى أَنَّهُ شَتَمَهُ كَانَ مَعْذُورًا وَمَنْ رَأَى مَاعِزًا أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ رَأَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ لِزِنَاهُ وَرَوَى ذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا ظَانًّا وَلَمْ يَكُنْ مُتَوَهِّمًا، وَمَنْ عَرَفَ شَخْصًا بِأَنَّهُ جَاسُوسٌ ثُمَّ رَأَى السُّلْطَانَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَهِّمًا فَإِنْ قِيلَ: لَا بَلْ يَكُونُ مُتَوَهِّمًا، فَإِنَّهُ لَوْ عَرَفَ مِنْ عَادَةِ الرَّئِيسِ أَنَّهُ يُقَابِلُ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ وَلَا يَضْرِبُ مَنْ يَشْتُمُهُ وَعَرَفَ مِنْ عَادَةِ الْأَمِيرِ الْإِغْضَاءَ عَنْ الْجَاسُوسِ إمَّا اسْتِهَانَةً أَوْ اسْتِمَالَةً ثُمَّ رَآهُ قَتَلَ جَاسُوسًا فَحَكَمَ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِتَجَسُّسِهِ فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ مُتَحَكِّمٌ أَمَّا إذَا عَرَفَ مِنْ عَادَتِهِ ذَلِكَ فَتَكُونُ عَادَتُهُ الْمُطَّرِدَةُ عَلَامَةً شَاهِدَةً لِحُكْمِ ظَنِّهِ؛ وَوِزَانُهُ مِنْ مَسْأَلَتِنَا الْمُلَائِمُ الَّذِي الْتَفَتَ الشَّرْعُ إلَى مِثْلِهِ وَعَرَفَ مِنْ عَادَتِهِ مُلَاحَظَةَ عَيْنِهِ أَوْ مُلَاحَظَةَ جِنْسِهِ، وَكَلَامُنَا فِي الْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ بِمُلَائِمٍ وَلَا مُؤَثِّرٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَهُنَا ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: إحْدَاهَا: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الرَّئِيسِ الْإِحْسَانَ إلَى الْمُسِيءِ وَمِنْ عَادَةِ الْأَمِيرِ الْإِغْضَاءَ عَنْ الْجَاسُوسِ، فَهَذَا يَمْنَعُ تَعْلِيلَ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ بِالشَّتْمِ وَالتَّجَسُّسِ، وَوِزَانُهُ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِمُنَاسِبٍ أَعْرَضَ الشَّرْعُ مِنْهُ وَحَكَمَ بِنَقِيضِ مُوجِبِهِ، فَهَذَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَمَا الْتَفَتَ إلَى مَصَالِحَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ مَصَالِحَ فَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ لَا يُعَلَّلُ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْرَفَ مِنْ عَادَةِ الرَّئِيسِ وَالْأَمِيرِ ضَرْبُ الشَّاتِمِ وَقَتْلُ الْجَاسُوسِ، فَوِزَانُهُ الْمُلَائِمُ، وَهَذَا مَقْبُولٌ وِفَاقًا مِنْ الْقَائِسِينَ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي رُتْبَةٍ ثَالِثَةٍ، وَهُوَ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ عَادَةٌ أَصْلًا فِي الشَّاتِمِ وَالْجَاسُوسِ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ ضَرَبَ وَقَتَلَ غُلِبَ عَلَى ظُنُونِ الْعُقَلَاءِ الْحَوَالَةَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْمُكَافَأَةِ؛ لِأَنَّ الْجَرِيمَةَ تُنَاسِبُ الْعُقُوبَةَ. فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ أَغْلَبَ عَادَةِ الْمُلُوكِ ذَلِكَ وَالْأَغْلَبُ أَنَّ طَبَائِعَهُمْ تَتَقَارَبُ قُلْنَا: فَلَيْسَ فِي هَذَا إلَّا الْأَخْذُ بِالْأَغْلَبِ، وَكَذَلِكَ أَغْلَبُ عَادَاتِ الشَّرْعِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ اتِّبَاعُ الْمُنَاسَبَاتِ وَالْمَصَالِحِ دُونَ التَّحَكُّمَاتِ الْجَامِدَةِ، فَتَنْزِيلُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَيَبْقَى أَنْ يُقَالَ لَعَلَّهُ حُكِمَ بِمُنَاسِبٍ آخَرَ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا. فَنَقُولُ: مَا بَحَثْنَا عَنْهُ بِحَسَبِ جَهْدِنَا فَلَمْ نَعْثُرْ عَلَيْهِ فَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّنَا، وَلَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ أَقْيِسَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّمَسُّكُ بِالْمُؤَثِّرِ وَالْمُلَائِمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟» مَعْنَاهُ: لِمَ لَمْ تَفْهَمْ أَنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْوِقَاعِ وَالْمَضْمَضَةَ مُقَدِّمَةُ الشُّرْبِ؟ فَلَوْ قَالَ عُمَرُ: لَعَلَّكَ عَفَوْتَ عَنْ الْمَضْمَضَة لِخَاصِّيَّةٍ فِي الْمَضْمَضَةِ أَوْ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ لَمْ يَظْهَرْ لِي، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْقُبْلَةِ. لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ وَعُدَّ ذَلِكَ مُجَادَلَةً. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ؟» وَكَذَلِكَ كُلّ قِيَاسٍ نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَبِالْجُمْلَةِ إذَا فُتِحَ بَابُ الْقِيَاسِ فَالضَّبْطُ بَعْدَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَكِنْ يَتْبَعُ الظَّنَّ، وَالظَّنُّ عَلَى مَرَاتِبَ وَأَقْوَاهُ الْمُؤَثِّرُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُهُ إلَّا احْتِمَالُ التَّعْلِيلِ بِتَخْصِيصِ الْمَحَلِّ، وَدُونَهُ الْمُلَائِمُ، وَدُونَهُ الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَا يُلَائِمُ، وَهُوَ أَيْضًا دَرَجَاتٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَعْفٍ، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَرُبَّمَا يُورِثُ الظَّنَّ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلَا يُقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ. وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُ دَرَجَاتِ الْمُنَاسَبَةِ أَصْلًا بَلْ لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ ذَوْقٌ آخَرُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ، وَأَمَّا الْمَفْهُومُ فَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يُغَلَّبَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى ظَنِّ بَعْضِ

الْمُجْتَهِدِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ وَحْدَهُ أَوْ بِهِ مَعَ قَرِينَةٍ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مَقْطُوعًا، فَإِنَّهُ ظَهَرَ لَنَا صِيغَةُ الْعُمُومِ بِمُجَرَّدِهَا إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ الْقَرَائِنِ أَفَادَتْ الْعُمُومَ، وَلَيْسَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ مُجَرَّدِ لَفْظِ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ انْقِدَاحُهُ فِي النَّفْسِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ خَرَجَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ الْمُلَاءَمَةِ وَشَهَادَةِ الْأَصْلِ الْمُعَيَّنِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مُلَائِمٌ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يُقْبَلُ قَطْعًا عِنْدَ الْقَائِسِينَ وَمُنَاسِبٌ لَا يُلَائِمُ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يُقْبَل قَطْعًا عِنْد الْقَائِسِينَ، فَإِنَّهُ اسْتِحْسَانٌ وَوَضْعٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ، وَمِثَالُهُ حِرْمَانُ الْقَاتِلِ لَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ لِمُعَارَضَتِهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَهَذَا وَضْعٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ وَمُنَاسِبٌ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ لَكِنْ لَا يُلَائِمُ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَمُلَائِمٌ لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْمُرْسَلُ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الِاسْتِصْلَاح فِي آخِرِ الْقُطْبِ الثَّانِي وَبَيَّنَّا مَرَاتِبَهُ. [الْقَوْلُ فِي الْمَسَالِكِ الْفَاسِدَةِ فِي إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ] ِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّةِ الْأَصْلِ سَلَامَتُهَا عَنْ عِلَّةٍ تُعَارِضُهَا تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا، وَسَلَامَتُهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ دَلِيلُ صِحَّتِهَا. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَلِمَ عَنْهُ فَإِنَّمَا سَلِمَ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا لَا يَسْلَمُ عَنْ مُفْسِدٍ آخَرَ، وَإِنْ سَلِمَ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ أَيْضًا لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، كَمَا لَمْ نُسَلِّمْ شَهَادَةَ الْمَجْهُولِ عَنْ عِلَّةٍ قَادِحَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ مُعَدِّلَةٌ مُزَكِّيَةٌ، فَكَذَلِكَ لَا يَكْفِي لِلصِّحَّةِ انْتِفَاءُ الْمُفْسِدِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الصِّحَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: دَلِيلُ صِحَّتِهَا انْتِفَاءُ الْمُفْسِدِ. قُلْنَا: لَا بَلْ دَلِيلُ فَسَادِهِ انْتِفَاءُ الْمُصَحِّحِ، فَهَذَا مُنْقَلِبٌ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ الْمَسْلَكُ الثَّانِي: الِاسْتِدْلَال عَلَى صِحَّتِهَا بِاطِّرَادِهَا وَجَرَيَانِهَا فِي حُكْمِهَا وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا سَلَامَتُهَا عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ النَّقْضُ فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ عَالِمٌ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يُفْسِدُ دَعْوَى الْعِلْمِ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّهُ جَاهِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ يُفْسِدُ دَعْوَى الْجَهْلِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِانْتِفَاءِ دَلِيلِ الْجَهْلِ وَلَا كَوْنُهُ جَاهِلًا بِانْتِفَاءِ دَلِيلِ الْعِلْمِ بَلْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ إلَى ظُهُورِ الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ. فَإِنْ قِيلَ ثُبُوتُ حُكْمِهَا مَعَهَا وَاقْتِرَانُهُ بِهَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا عِلَّةً. قُلْنَا: غَلِطْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ ثُبُوتُ حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ إضَافَةٌ لِلْحُكْمِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهَا عِلَّةً، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا بَلْ بِحَالِ غَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَيْهِ كَانَ حُكْمَ عِلَّتِهِ، وَاقْتَرَنَ بِهَا، وَالِاقْتِرَانُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِضَافَةِ، فَقَدْ يَلْزَمُ الْخَمْرَ لَوْنٌ وَطَعْمٌ يَقْتَرِنُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَيَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ وَالْعِلَّةُ الشِّدَّةُ وَاقْتِرَانُهُ بِمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ كَاقْتِرَانِ الْأَحْكَامِ بِطُلُوعِ كَوْكَبٍ وَهُبُوبِ رِيحٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَنَصْبُ الْعِلَّةِ مَذْهَبٌ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ كَوَضْعِ الْحُكْمِ وَلَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ أَنَّهُ لَا نَقْضَ عَلَيْهِ وَلَا مُفْسِدَ لَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ فَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ. الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: الْوَصْفُ إذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ مَعَهُ، وَزَالَ مَعَ زَوَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ. وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ الْمَخْصُوصَةَ مَقْرُونَةٌ بِالشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ، وَيَزُولُ التَّحْرِيمُ عِنْدَ زَوَالِهَا وَيَتَجَدَّدُ عِنْد تَجَدُّدِهَا وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ بَلْ هُوَ مُقْتَرِنٌ بِالْعِلَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ

الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ طَرْدٌ مَحْضٌ فَزِيَادَةُ الْعَكْسِ لَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ الْعَكْسَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا أَثَرَ لِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ؛ وَلِأَنَّ زَوَالَهُ عِنْدَ زَوَالِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمُلَازَمَتِهِ لِلْعِلَّةِ كَالرَّائِحَةِ أَوْ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَشَرْطًا مِنْ شُرُوطِهَا وَالْحُكْمُ يَنْفِي بَعْضَ شُرُوطِ الْعِلَّةِ وَبَعْضَ أَجْزَائِهَا فَإِذَا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَكُّمِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَنُسَلِّمُ أَنَّ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ فَهُوَ عِلَّةٌ، فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ أَنَّهُ زَالَ بِزَوَالِهِ؟ أَمَّا مَا ثَبَتَ مَعَ ثُبُوتِهِ وَزَالَ مَعَ زَوَالِهِ فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ عِلَّةً، كَالرَّائِحَةِ الْمَخْصُوصَةِ مَعَ الشِّدَّةِ. أَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ سَبْرٌ وَتَقْسِيمٌ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا الْحُكْمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِحُدُوثِ حَادِثٍ وَلَا حَادِثَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ إلَّا كَذَا، وَكَذَا وَقَدْ بَطَلَ الْكُلُّ إلَّا هَذَا فَهُوَ الْعِلَّةُ، وَمِثْلُ هَذَا السَّبْرِ حُجَّةٌ فِي الطَّرْدِ الْمَحْضِ وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْعَكْسُ. وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا شَذَّ عَنْهُ وَصْفٌ آخَرُ هُوَ الْعِلَّةُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إلَّا سَبْرٌ بِحَسَبِ وُسْعِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِر غَيْرُ ذَلِكَ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِي وَصْفًا آخَرَ إبْرَازُهُ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى إبْطَالِكُمْ التَّمَسُّكَ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَقَدْ رَأَيْتُمْ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَدْ غَلَبَ هَذَا عَلَى ظَنِّ قَوْمٍ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِهِ فَمُحَالٌ إذْ لَيْسَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إلَّا الْحُكْمُ بِالظَّنِّ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِمْ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ قَوْمٍ لَوْلَاهُ لَمَا حَكَمُوا بِهِ. قُلْنَا: أَجَابَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: نَعْنِي بِإِبْطَالِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي حَقِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّنَا، أَمَّا مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُصِيبٌ إذَا اسْتَوْفَى النَّظَرَ وَأَتَمَّهُ، وَأَمَّا إذَا قَضَى بِسَابِقِ الرَّأْيِ وَبَادِئِ الْوَهْمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، فَإِنْ سَبَرَ وَقَسَمَ فَقَدْ أَتَمَّ النَّظَرَ وَأَصَابَ. أَمَّا حُكْمُهُ قَبْلَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ بِأَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِشَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فِيهِ تَحَكُّمٌ وَوَهْمٌ، إذْ تَمَامُ دَلِيلِهِ أَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِشَيْءٍ فَهُوَ عِلَّتُهُ وَهَذَا قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ فَهُوَ إذًا عِلَّتُهُ، وَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى مَنْقُوضَةٌ بِالطَّمِّ وَالرَّمِّ فَإِذًا كَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ وَلَمْ يُتَمِّمْ النَّظَرَ وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى مُنَاسَبَةِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ. وَمَنْ كَشَفَ هَذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ بِالطَّرْدِ الْمُجَرَّدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا نَاقِصَ الرُّتْبَةِ عَنْ دَرَجَة الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَنْ اجْتَهَدَ وَلَيْسَ أَهْلًا لَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدِي الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ وَاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الظَّنَّ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَيْسَ يَقُومُ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، مَنْ عَرَفَهُ مُحِقَ ظَنُّهُ بِخِلَافِ الطَّرْدِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ سَبْرٌ وَتَقْسِيمٌ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَلْنَشْرَعْ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ. [الْبَابُ الثَّالِثُ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ وَفِيهِ أَطْرَاف] [الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فِي حَقِيقَة الشَّبَهِ وَأَمْثِلَتِهِ] الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ بِثَلَاثَةِ أَطْرَافٍ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ: فِي حَقِيقَةِ الشَّبَهِ وَأَمْثِلَتِهِ وَتَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فِيهِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الشَّبَهِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ قِيَاسٍ، فَإِنَّ الْفَرْعَ يُلْحَقُ بِالْأَصْلِ بِجَامِعٍ يُشْبِهُهُ فِيهِ فَهُوَ إذًا يُشْبِهُهُ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الطَّرْدِ؛ لِأَنَّ الِاطِّرَادَ شَرْطُ كُلِّ عِلَّةٍ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ. وَمَعْنَى الطَّرْدِ السَّلَامَةُ عَنْ النَّقْضِ لَكِنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ إنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً أَوْ مُنَاسِبَةً عُرِفَتْ بِأَشْرَفِ صِفَاتهَا وَأَقْوَاهَا وَهُوَ التَّأْثِيرُ وَالْمُنَاسَبَةُ دُونَ الْأَخَسِّ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ الِاطِّرَادُ وَالْمُشَابَهَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِلَّةِ خَاصِّيَّةٌ إلَّا الِاطِّرَادَ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ أَوْصَافِ الْعِلَلِ وَأَضْعَفُهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّحَّةِ خُصَّ بِاسْمِ الطَّرْدِ لَا لِاخْتِصَاصِ الِاطِّرَادِ بِهَا لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَا

خَاصِّيَّةَ لَهَا سِوَاهُ، فَإِنْ انْضَافَ إلَى الِاطِّرَادِ زِيَادَةٌ وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى دَرَجَةِ الْمُنَاسِبِ وَالْمُؤَثِّرِ سُمِّيَ شَبَهًا وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ هِيَ مُنَاسَبَةُ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبْ نَفْسَ الْحُكْمِ بَيَانُهُ أَنَّا نُقَدِّرُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حُكْمٍ سِرًّا، وَهُوَ مَصْلَحَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ، وَرُبَّمَا لَا يُطَّلَعُ عَلَى عَيْنِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ لَكِنْ يُطَّلَعُ عَلَى وَصْفٍ يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَيُظَنُّ أَنَّهُ مَظِنَّتُهَا، وَقَالِبُهَا الَّذِي يَتَضَمَّنُهَا وَإِنْ كُنَّا لَا نَطَّلِعُ عَلَى عَيْنِ السِّرِّ، فَالِاجْتِمَاعُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ يُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ فِي الْحُكْمِ وَيَتَمَيَّزُ عَنْ الْمُنَاسِبِ بِأَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَتَقَاضَاهُ بِنَفْسِهِ كَمُنَاسَبَةِ الشِّدَّةِ لِلتَّحْرِيمِ، وَيَتَمَيَّزُ عَنْ الطَّرْدِ بِأَنَّ الطَّرْدَ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا الْمَصْلَحَةَ الْمُتَوَهَّمَةَ لِلْحُكْمِ بَلْ نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْجِنْسَ لَا يَكُونُ مَظِنَّةَ الْمَصَالِحِ وَقَالِبَهَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْخَلُّ مَائِعٌ لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ فَلَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ كَالدُّهْنِ، وَكَأَنَّهُ عَلَّلَ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ بِأَنَّهُ تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ وَاحْتَرَزَ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تُبْنَى عَلَى جِنْسِهِ، فَهَذِهِ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ لَا نَقْضَ عَلَيْهَا لَيْسَ فِيهَا خَصْلَةٌ سِوَى الِاطِّرَادِ وَنَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُنَاسِبُ الْعِلَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي الْحُكْمَ بِالتَّضَمُّنِ لَهَا وَالِاشْتِمَالِ عَلَيْهَا، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَاءَ جُعِلَ مُزِيلًا لِلنَّجَاسَةِ لِخَاصِّيَّةٍ وَعِلَّةٍ وَسَبَبٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْهَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ بِنَاءَ الْقَنْطَرَةِ مِمَّا لَا يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَيْهَا وَلَا يُنَاسِبُهَا، فَإِذًا مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِوَصْفٍ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَيْسَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِخِلَافِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ جَمْعٌ بِمَا هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْأُصُولِيُّونَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هَذَا الْجِنْسَ فَلَسْتُ أَدْرِي مَا الَّذِي أَرَادُوا وَبِمَ فَصَلُوهُ عَنْ الطَّرْدِ الْمَحْضِ، وَعَنْ الْمُنَاسِبِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَنَحْنُ نُرِيدُ هَذَا بِالشَّبَهِ، فَعَلَيْنَا الْآنَ تَفْهِيمُهُ بِالْأَمْثِلَةِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ. أَمَّا أَمْثِلَةُ قِيَاسِ الشَّبَهِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَلَعَلَّ جُلَّ أَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ تَرْجِعُ إلَيْهَا، إذْ يَعْسُرُ إظْهَارُ تَأْثِيرِ الْعِلَلِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحِيَّةِ. الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مَسْحُ الرَّأْسِ لَا يَتَكَرَّرُ " تَشْبِيهًا لَهُ بِمِسْحِ الْخُفِّ وَالتَّيَمُّمِ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّكْرَارُ قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْخُفِّ. وَلَا مَطْمَعَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَسْحِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ هَذَا مِثَالًا لِلْقِيَاسِ الْمُؤَثِّرِ، وَقَالَ: ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ فِي الْخُفِّ وَالتَّيَمُّمِ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ بِمُؤَثِّرٍ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ إذْ لَيْسَ يُسَلِّمُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِ مَسْحًا بَلْ لَعَلَّهُ تَعَبُّدٌ وَلَا عِلَّةَ لَهُ أَوْ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى آخَرَ مُنَاسِبٍ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا. وَالنِّزَاعُ وَاقِعٌ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ لِمَ لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهُ، أَيُقَالُ إنَّهُ تَعَبُّدٌ لَا يُعَلَّلُ؟ ؛ أَوْ لِأَنَّ تَكْرَارَهُ يُؤَدِّي إلَى تَمْزِيقِ الْخُفِّ؟ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ وَظِيفَةٌ تَعَبُّدِيَّةٌ تَمْرِينِيَّةٌ لَا تُفِيدُ فَائِدَةَ الْأَصْلِ إذْ لَا نَظَافَةَ فِيهِ لَكِنْ وُضِعَ لِكَيْ لَا تَرْكَنَ النَّفَسُ إلَى الْكَسَلِ؟ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ وَظِيفَةٌ عَلَى بَدَلِ مَحَلِّ الْوُضُوءِ لَا عَلَى الْأَصْلِ؟ فَمَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمَسْحُ يَلْزَمُهُ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: أَصْلٌ يُؤَدَّى بِالْمَاءِ فَيَتَكَرَّرُ كَالْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هِيَ إحْدَى الْوَظَائِفِ الْأَرْبَعِ فِي الْوُضُوءِ؛ فَالْأَشْبَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ التَّأْثِيرِ وَالْمُنَاسَبَةِ فِي الْعِلَّتَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَلَا يُنْكَرُ تَأْثِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّبَهَيْنِ فِي تَحْرِيكِ الظَّنِّ إلَى أَنْ يَتَرَجَّحَ. الْمِثَالُ الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ يَفْتَرِقَانِ؟ وَقَدْ يُقَالُ: طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ مُوجِبِهَا فَتَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ وَهَذَا يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي مُنَاسِبٍ هُوَ مَأْخَذُ النِّيَّةِ وَأَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُنَاسِبِ. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: تَشْبِيهُ الْأُرْزِ وَالزَّبِيبِ بِالتَّمْرِ وَالْبُرِّ لِكَوْنِهِمَا مَطْعُومَيْنِ أَوْ قُوتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا قُوبِلَ بِالتَّشْبِيهِ بِكَوْنِهِمَا مُقَدَّرَيْنِ أَوْ مَكِيلَيْنِ ظَهَرَ الْفَرْقُ، إذْ يُعْلَمُ أَنَّ الرِّبَا ثَبَتَ لِسِرٍّ وَمَصْلَحَةٍ وَالطَّعْمُ وَالْقُوتُ وَصْفٌ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنًى بِهِ قِوَامُ النَّفْسِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ فِي ضِمْنِهِمَا لَا فِي ضِمْنِ الْكَيْلِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ الْأَجْسَامِ. وَالْمِثَالُ الرَّابِعُ: تَعْلِيلُنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي يَدِ السَّوْمِ بِأَنَّهُ أُخِذَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَنُعَدِّيهِ إلَى يَدِ الْعَارِيَّةِ، وَتَعْلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ أُخِذَ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ وَالْمَأْخُوذُ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ كَالْمَأْخُوذِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُعَدِّيهِ إلَى الرَّهْنِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ لَيْسَتْ مُنَاسِبَةً وَلَا مُؤَثِّرَةً إذْ لَمْ يَظْهَرْ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي غَيْرِ يَدِ السَّوْمِ، وَهُوَ فِي يَدِ السَّوْمِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ. الْمِثَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُنَا: إنَّ قَلِيلَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ يُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ كَالْكَثِيرَةِ، فَإِنَّا نَقُولُ: ثَبَتَ ضَرْبُ الدِّيَةِ وَضَرْبُ أَرْشِ الْيَدِ وَالْأَطْرَافِ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ مَعْنًى مُنَاسِبًا يُوجِبُ الضَّرْبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُنَاسِبِ، لَكِنْ يُظَنُّ أَنَّ ضَابِطَ الْحُكْمِ الَّذِي تَمَيَّزَ بِهِ عَنْ الْأَمْوَالِ هُوَ أَنَّهُ بَدَلُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فَهُوَ مَظِنَّةُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي غَابَتْ عَنَّا. الْمِثَالُ السَّادِسُ: قَوْلُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّبْيِيتِ: إنَّهُ صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَافْتَقَرَ إلَى التَّبْيِيتِ كَالْقَضَاءِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: صَوْمُ عَيْنٍ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّبْيِيتِ كَالتَّطَوُّعِ، وَكَأَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِي التَّطَوُّع وَمَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ، فَظَهَرَ لَنَا أَنَّ فَاصِلَ الْحُكْمِ هُوَ الْفَرْضِيَّةُ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَكْثُرُ شَبَهُهُ، رُبَّمَا يَنْقَدِحُ لِبَعْضِ الْمُنْكِرِينَ لِلشَّبَهِ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِتَأْثِيرٍ أَوْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ بِالتَّعَرُّضِ لِلْفَارِقِ وَإِسْقَاطِ أَثَرِهِ فَيَقُولُ: هِيَ مَأْخَذُ الَّذِي ظَهَرَ لِهَذَا النَّاظِرِ، وَعِنْدَ انْتِفَائِهِ يَبْقَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيهَامِ وَهُوَ كَتَقْدِيرِنَا فِي تَمْثِيلِ الْمُنَاسِبِ بِإِسْكَارِ الْخَمْرِ عَدَمَ وُرُودِ الْإِيمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمِثَالَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنْ انْقَدَحَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ فَلْيُقَدَّرْ انْتِفَاؤُهُ هَذَا حَقِيقَةُ الشَّبَهِ وَأَمْثِلَتُهُ. وَأَمَّا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْمُنَاظِرِ أَوْ يَطْلُبَهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَهَذَا الْجِنْسُ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَا مِنْ مُجْتَهِدٍ يُمَارِسُ النَّظَرَ فِي مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ إلَّا وَيَجِدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَمَنْ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ فَهُوَ كَالْمُنَاسِبِ وَلَمْ يُكَلَّفْ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَغْلِبْ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ فَلَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ. وَلَيْسَ مَعَنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُبْطِلُ الِاعْتِمَادَ عَلَى هَذَا الظَّنِّ بَعْدَ حُصُولِهِ بِخِلَافِ الطَّرْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عَلَى الْخَصْمِ الْمُنْكِرِ؛ فَإِنَّهُ إنْ خَرَجَ إلَى طَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ كَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا مُسْتَقِلًّا لَوْ سَاعَدَ مِثْلُهُ فِي الطَّرْدِ لَكَانَ دَلِيلًا، وَإِذَا لَمْ يُسْبَرْ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي مَأْخَذِ الْحُكْمِ وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وَالْخَصْمُ يُجَاحِدُ إمَّا مُعَانِدًا جَاحِدًا، وَإِمَّا صَادِقًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُوهَمُ عِنْدَهُ وَلَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ خَصْمِهِ، وَالْمُجْتَهِدُونَ الَّذِينَ أَفْضَى بِهِمْ النَّظَرُ إلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْطَلِحُوا فِي الْمُنَاظَرَةِ عَلَى فَتْحِ بَابِ الْمُطَالَبَةِ

أَصْلًا كَمَا فَعَلَهُ الْقُدَمَاءُ مِنْ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْتَحُوا هَذَا الْبَابَ، وَاكْتَفَوْا مِنْ الْعِلَلِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِوَصْفٍ جَامِعٍ كَيْفَ كَانَ، وَأَخْرَجُوا الْمُعْتَرِضَ إلَى إفْسَادِهِ بِالنَّقْضِ أَوْ الْفَرْقِ أَوْ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ وَصْفٍ آخَرَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى مَا جَعَلَهُ عِلَّةَ الْأَصْلِ وَإِبْدَاءُ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ قَطْعِ الْجَمْعِ أَهْوَنُ مِنْ تَكْلِيفِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مُغَلَّبًا عَلَى الظَّنِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ طَرِيقَ النَّظَرِ فِي أَوْصَافِ الْأَصْلِ، وَالْمُطَالَبَةُ تَحْسِمُ سَبِيلَ النَّظَرِ وَتُرْهِقُ إلَى مَا لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى إرْهَاقِ الْخَصْمِ وَإِفْحَامِهِ، وَالْجَدَلُ شَرِيعَةٌ وَضَعَهَا الْجَدَلِيُّونَ فَلْيَضَعُوهَا. عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الِانْتِفَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: وَضْعُهَا كَذَلِكَ يَفْتَحُ بَابَ الطَّرْدِيَّاتِ الْمُسْتَقْبَحَةِ وَذَلِكَ أَيْضًا شَنِيعٌ. قُلْنَا الطَّرْدُ الشَّنِيعُ يُمْكِنُ إفْسَادُهُ عَلَى الْفَوْرِ بِطَرِيقٍ أَقْرَبَ مِنْ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنَّهُ إذَا عُلِّلَ الْأَصْلُ بِوَصْفٍ مُطَّرِدٍ يَشْمَلُ الْفَرْعَ فَيُعَارَضُ بِوَصْفٍ مُطَّرِدٍ يَخُصُّ الْأَصْلَ وَلَا يَشْمَلُ الْفَرْعَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعَارَضَةَ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ، وَهُوَ مُسْكِتٌ مَعْلُومٌ عَلَى الْفَوْرِ وَالِاصْطِلَاحُ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَهُ قُدَمَاءُ الْأَصْحَابِ أَوْلَى، بَلْ لَا سَبِيلَ إلَى الِاصْطِلَاحِ عَلَى غَيْرِهِ لِمَنْ يَقُولُ بِالشَّبَهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَحْسِنْ هَذَا الِاصْطِلَاحَ فَلْيَقَعْ الِاصْطِلَاحُ عَلَى أَنْ يَسْبُرَ الْمُعَلِّلُ أَوْصَافَ الْأَصْلِ، وَيَقُولُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ مَنَاطٍ وَعَلَامَةٍ ضَابِطَةٍ وَلَا عِلَّةَ وَلَا مَنَاطَ إلَّا كَذَا، وَكَذَا وَمَا ذَكَرْتُهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مَا ذَكَرْتُهُ فَهُوَ مَنْقُوضٌ وَبَاطِلٌ، فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ سُؤَالٌ إلَّا أَنْ يَقُولَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ الِاسْمُ أَوْ الْمَعْنَى الَّذِي يَخُصُّ الْمَحَلَّ كَقَوْلِهِ الْحُكْمُ فِي الْبُرِّ مَعْلُومٌ بِاسْمِ الْبُرِّ، فَلَا حَاجَةَ إلَى عَلَامَةٍ أُخْرَى، وَفِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مَعْلُومٌ بِالنَّقْدِيَّةِ الَّتِي تَخُصُّهَا؛ أَوْ يَقُولَ مَنَاطُ الْحُكْمِ وَصْفٌ آخَرُ لَا أَذْكُرُهُ وَلَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَذْكُرَهُ وَعَلَيْكَ تَصْحِيحُ عِلَّةِ نَفْسِكَ. وَهَذَا الثَّانِي مُجَادَلَةٌ مُحَرَّمَةٌ مَحْظُورَةٌ، إذْ يُقَالُ لَهُ: إنْ لَمْ يَظْهَرْ لَك إلَّا مَا ظَهَرَ لِي لَزِمَك مَا لَزِمَنِي بِحُكْمِ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي السَّبْرِ، وَإِنْ ظَهَرَ لَك شَيْءٌ آخَرُ يَلْزَمُكَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ بِذِكْرِهِ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ فَأُفْسِدَهُ أَوْ أُرَجِّحَ عِلَّتِي عَلَى عِلَّتِكَ فَإِنْ قَالَ: هُوَ اسْمُ الْبُرِّ أَوْ النَّقْدِيَّةِ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ، وَعَلَى الْمُعَلِّلِ أَنْ يُفْسِدَ مَا ذَكَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الْمَنَاطُ اسْمَ الْبُرِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا صَارَ دَقِيقًا أَوْ عَجِينًا أَوْ خُبْزًا دَامَ حُكْمُ الرِّبَا وَزَالَ اسْمُ الْبُرِّ فَدَلَّ أَنَّ عَلَامَةَ الْحُكْمِ أَمْرٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ طَعْمٍ أَوْ قُوتٍ أَوْ كَيْلٍ، وَالْقُوتُ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْمِلْحُ فَالطَّعْمُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْمِلْحُ أَوْلَى وَالْكَيْلُ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنًى يُشْعِرُ بِتَضَمُّنِ الْمَصَالِحِ بِخِلَافِ الطَّعْمِ، فَهَكَذَا نَأْخُذُ مِنْ التَّرْجِيحِ وَنَتَجَاذَبُ أَطْرَافَ الْكَلَامِ؛ فَإِذًا الطَّرِيقُ إمَّا اصْطِلَاحُ الْقُدَمَاءِ وَإِمَّا الِاكْتِفَاءُ بِالسَّبْرِ. وَإِمَّا إبْطَالُ الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ رَأْسًا وَالِاكْتِفَاءُ بِالْمُؤَثِّرِ الَّذِي دَلَّ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ السَّبْرُ الْقَاطِعُ عَلَى كَوْنِهِ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا تَرْكُ الْمُنَاسِبِ وَإِنْ كَانَ مُلَائِمًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ غَرِيبًا، فَإِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ مُنَاسَبَتُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى مُنَاسِبٍ أَظْهَرَ وَأَشَدَّ إخَالَةً مِمَّا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ، وَمَا أَنْتَ إلَّا كَمَنْ رَأَى إنْسَانًا أَعْطَى فَقِيرًا شَيْئًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ وَلَوْ اطَّلَعَ لَمْ يَظُنَّ مَا ظَنَّهُ، وَكَمَنْ رَأَى مَلِكًا قَتَلَ جَاسُوسًا فَظَنَّ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى حَرِيمِهِ وَفَجَرَ بِأَهْلِهِ، وَلَوْ عَلِمَ لَمَا ظَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْ الْمُتَمَسِّكِ بِالْمُنَاسِبِ أَنْ يَقُولَ هَذَا ظَنِّي بِحَسَبِ سَبْرِي وَجَهْدِي وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِي فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْ الْمُشَبَّهِ بَلْ مِنْ الطَّارِدِ وَيُلْزَمُ إبْدَاءُ مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ حَتَّى يُمْحَقُ ظَنُّهُ. وَهَذَا تَحْقِيقُ قِيَاسِ الشَّبَهِ وَتَمْثِيلُهُ وَدَلِيلُهُ

أَمَّا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ وَنَقْلُ الْأَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْهِيمِهِ فَقَدْ آثَرْتُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ لِقِلَّةِ فَائِدَتِهِ، فَمَنْ عَرَفَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ غَوْرُ مَا سِوَاهُ وَمَنْ طَلَبَ الْحَقَّ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّاسِ دَارَ رَأْسُهُ وَحَارَ عَقْلُهُ، وَقَدْ اسْتَقْصَيْتُ ذَلِكَ فِي تَهْذِيبِ الْأُصُولِ. [الطَّرَفُ الثَّانِي فِي بَيَانِ التَّدْرِيجِ فِي مَنَازِلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ مِنْ أَعْلَاهَا إلَى أَدْنَاهَا] وَأَدْنَاهَا الطَّرْدُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَهُ كُلُّ قَائِلٍ بِالْقِيَاسِ وَأَعْلَاهَا مَا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقِرَّ بِهِ كُلُّ مُنْكِرٍ لِلْقِيَاسِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: الْمُؤَثِّرُ؛ ثُمَّ الْمُنَاسِبُ، ثُمَّ الشَّبَهُ، ثُمَّ الطَّرْدُ. وَالْمُؤَثِّرُ يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُؤَثِّرًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ سَبْرٍ حَاصِرٍ، وَأَعْلَاهَا الْمُؤَثِّرُ وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُكْمِ أَيْ الَّذِي عُرِفَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ، وَجَعْلُهُ مَنَاطًا، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إلَى عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِهَا وَعَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِهِ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْم، فَإِنْ أَظْهَرَ تَأْثِيرَ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: إنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي رُبَّمَا يَعْتَرِفُ بِهِ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ إذْ لَا يُبْقِي الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ مُبَايَنَةً إلَّا تَعَدُّدُ الْمَحَلِّ، فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ عَيْنَ السُّكْرِ أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ عَيْنِ الشُّرْبِ فِي الْخَمْرِ فَالنَّبِيذُ مُلْحَقٌ بِهِ قَطْعًا وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي التَّمْرِ الطَّعْمُ فَالزَّبِيبُ مُلْحَقٌ بِهِ قَطْعًا إذْ لَا يَبْقَى إلَّا اخْتِلَافُ عَدَدِ الْأَشْخَاصِ الَّتِي هِيَ مَجَارِي الْمَعْنَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَظُهُورِ أَثَرِ الْوِقَاعِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ إذْ يَكُونُ الْهِنْدِيُّ وَالتُّرْكِيُّ فِي مَعْنَاهُ. الثَّانِي فِي الْمَرْتَبَةِ: أَنْ يَظْهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَا فِي عَيْنِهِ كَتَأْثِيرِ أُخُوَّةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْمِيرَاثِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَيْسَتْ هِيَ عَيْنَ الْمِيرَاثِ. لَكِنْ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ وَذَلِكَ حَقٌّ فَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ بَيْنَ جِنْسٍ وَجِنْسٍ غَيْر بَعِيدٍ بِخِلَافِ الْمُفَارَقَةِ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ لَا يَفْتَرِقَانِ أَصْلًا فِيمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي التَّأْثِيرِ. الثَّالِثُ فِي الْمَرْتَبَةِ: أَنْ يُؤَثِّرَ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَإِسْقَاطِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عَنْ الْحَائِضِ تَعْلِيلًا بِالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْحَرَجِ فِي إسْقَاطِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ كَتَأْثِيرِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ فِي إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ بِالْقَصْرِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي خَصَّصْنَاهُ بِاسْمِ الْمُلَائِمِ، وَخَصَّصْنَا اسْمَ الْمُؤَثِّرِ بِمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ. الرَّابِعُ فِي الْمَرْتَبَةِ: مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ الْمُنَاسِبَ الْغَرِيبَ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ الْأَعَمَّ لِلْمَعَانِي كَوْنُهَا مَصْلَحَةً وَالْمُنَاسِبُ مَصْلَحَةٌ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ إذْ عُهِدَ مِنْ الشَّرْعِ الِالْتِفَاتُ إلَى الْمَصَالِحِ، فَلِأَجْلِ هَذَا الِاسْتِمْدَادِ الْعَامِّ مِنْ مُلَاحَظَةِ الشَّرْعِ جِنْسَ الْمَصَالِحِ اقْتَضَى ظُهُورُ الْمُنَاسَبَةِ تَحْرِيكَ الظَّنِّ، وَلِأَجْلِ شَمَّةٍ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى عَادَةِ الشَّرْعِ أَيْضًا أَفَادَ الشَّبَهُ الظَّنَّ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْوَاعٍ مِنْ الصِّفَاتِ عُهِدَ مِنْ الشَّرْعِ ضَبْطُ الْأَحْكَامِ بِجِنْسِهَا، كَكَوْنِ الصِّيَامِ فَرْضًا فِي مَسْأَلَةِ التَّثْبِيتِ وَكَكَوْنِ الطَّهَارَةِ تَعَبُّدًا مُوجِبُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ مُوجِبِهَا وَكَوْنِ الْوَاجِبِ بَدَلَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي مَسْأَلَةِ ضَرْبِ الْقَلِيلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِخِلَافِ بِنَاءِ الْقَنْطَرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى جِنْسِهِ، وَالْمَأْلُوفُ مِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ، وَالْعَادَةُ تَارَةً تَثْبُتُ فِي جِنْسٍ وَتَارَةً تَثْبُتُ فِي عَيْنٍ. ثُمَّ لِلْجِنْسِيَّةِ أَيْضًا مَرَاتِبُ بَعْضُهَا

أَعَمُّ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُهَا أَخَصُّ وَإِلَى الْعَيْنِ أَقْرَبُ، فَإِنَّ أَعَمَّ أَوْصَافِ الْأَحْكَامِ كَوْنُهُ حُكْمًا تَنْقَسِمُ إلَى تَحْرِيمٍ وَإِيجَابٍ وَنَدْبٍ وَكَرَاهَةٍ، وَالْوَاجِبُ مَثَلًا يَنْقَسِمُ إلَى عِبَادَةٍ، وَالْعِبَادَةُ تَنْقَسِمُ إلَى صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ تَنْقَسِمُ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْفَرْضِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الصَّلَاةِ وَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الصَّلَاةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْعِبَادَةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ فِي جِنْسِ الْوَاجِبَاتِ وَمَا ظَهَرَ فِي جِنْسِ الْوَاجِبَاتِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ، وَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمَعْنَى أَعَمُّ أَوْصَافِهِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا تُنَاطُ الْأَحْكَامُ بِجِنْسِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ الْأَشْبَاهُ، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ مَصْلَحَةً حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ الْمُنَاسِبُ دُونَ الشَّبَهِ، وَأَخَصُّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً خَاصَّةً كَالرَّدْعِ وَالزَّجْرِ أَوْ مَعْنَى سَدِّ الْحَاجَاتِ أَوْ مَعْنَى حِفْظِ الْعَقْلِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُسْكِرَاتِ، فَلَيْسَ كُلُّ جِنْسٍ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَالْأَشْبَاهُ أَضْعَفُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْتَضِدُ بِالْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوْصَافِ الَّتِي قَدْ يَضْبِطُ الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ بِهَا؛ وَأَقْوَاهَا الْمُؤَثِّرُ الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ قِيَاسَ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فِي وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ رُبَّمَا كَانَ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى وِلَايَةِ الْمَالِ فَإِنَّ الصِّغَرَ. إنْ أَثَّرَ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ فَوِلَايَةُ الْبُضْعِ جِنْسٌ آخَرُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الِابْنِ الصَّغِيرِ فِي نَفْسِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ رُبَّمَا كَانَ أَقْرَبَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى وِلَايَةِ الْمَالِ فَقَدْ عَرَفْتَ بِهَذَا أَنَّ الظَّنَّ لَيْسَ يَتَحَرَّكُ وَالنَّفْسُ لَيْسَتْ تَمِيلُ إلَّا بِالِالْتِفَاتِ إلَى عَادَةِ الشَّرْعِ فِي الْتِفَاتِ الشَّرْعِ إلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ، وَأَنَّ لِلْجِنْسِيَّةِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ لَا تَنْحَصِرُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الظَّنِّ وَالْأَعْلَى مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَسْفَلِ وَالْأَقْرَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَبْعَدِ فِي الْجِنْسِيَّةِ، وَلِكُلِّ مَسْأَلَةٍ ذَوْقٌ مُفْرَدٌ يَنْظُرُ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ، وَمَنْ حَاوَلَ حَصْرَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ فِي عَدَدٍ وَضَبْطٍ فَقَدْ كَلَّفَ نَفْسَهُ شَطَطًا لَا تَتَّسِعُ لَهُ قُوَّةُ الْبَشَرِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْإِشَارَةِ إلَى الْأَجْنَاسِ وَمَرَاتِبِهَا وَفِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ. تَنْبِيهٌ آخَرُ عَلَى خَوَاصِّ الْأَقْيِسَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ مِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ السَّبْرِ وَالْحَصْرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي الْأَصْلِ مُؤَثِّرٌ آخَرُ لَمْ يُطْرَحْ بَلْ يَجِبُ التَّعْلِيلُ بِهِمَا، فَإِنَّ الْحَيْضَ وَالرِّدَّةَ وَالْعِدَّةَ قَدْ تَجْتَمِعُ عَلَى امْرَأَةٍ وَيُعَلَّلُ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ بِإِضَافَةِ الشَّرْعِ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ. أَمَّا الْمُنَاسِبُ فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَهَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى انْمَحَقَتْ الشَّهَادَةُ الْأُولَى، كَمَا فِي إعْطَاءِ الْفَقِيرِ الْقَرِيبَ، فَإِنَّا لَا نَدْرِي أَنَّهُ أَعْطَى لِلْفَقْرِ أَوْ لِلْقَرَابَةِ أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا يَتِمُّ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ فِي التَّعْلِيلِ بِالْمُنَاسِبِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ نَفْيَ مُنَاسِبٍ آخَرَ أَقْوَى، وَلَمْ يَتَوَصَّلْ بِالسَّبْرِ إلَيْهِ أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى مِنْهُ بِإِظْهَارِ الْمُنَاسَبَةِ وَلَا يُطَالَبُ بِالسَّبْرِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ تُحَرِّكُ الظَّنَّ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ اطَّلَعَ عَلَى مُنَاسِبٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ إظْهَارُهُ إنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلْيَعْتَرِضْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالْمُؤَثِّرِ. وَأَمَّا الشَّبَهُ فَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نَوْعِ ضَرُورَةٍ فِي اسْتِنْبَاطِ مَنَاطِ الْحُكْمِ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةً فَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ. وَلَيْسَ هَذَا بَعِيدًا عِنْدِي فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ قَصْرُ

الْحُكْمِ عَلَى الْمَحَلِّ وَكَانَ الْمَحَلُّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مُعَرَّفًا بِوَصْفٍ مَضْبُوطٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى طَلَبِ ضَابِطٍ آخَرَ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ؟ فَكَانَ تَمَامُ النَّظَرِ فِي الشَّبَهِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ عَلَامَةٍ وَلَا عَلَامَةَ أَوْلَى مِنْ هَذَا فَإِذًا هُوَ الْعَلَامَةُ، كَمَا تَقُولُ: الرِّبَا جَارٍ فِي الدَّقِيقِ وَالْعَجِينِ فَلَمْ يَنْضَبِطْ بِاسْمِ الْبُرِّ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ وَلَا ضَابِطَ أَوْلَى مِنْ الطَّعْمِ، وَالضَّرْبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَرَدَ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ وَفَارَقَ الْمَالَ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ وَلَا ضَابِطَ إلَّا أَنَّهُ بَدَلُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ، وَهَذَا يَجْرِي فِي الْقَلِيلِ. وَالتَّطَوُّعُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّبْيِيتِ، وَالْقَضَاءُ لَا يَسْتَغْنِي، وَالْأَدَاءُ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ لِلْقِسْمَيْنِ وَالْفَرْضِيَّةُ أَوْلَى الْفَوَاصِلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ، فَإِنَّهُ يَجْذِبُ الظَّنَّ وَيُحَرِّكُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَى طَلَبِ الْعِلَّةِ ضَرُورَةٌ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ حَتَّى جَازَ أَنْ يُقَالَ لَا بُدَّ مِنْ عَلَامَةٍ وَتَمَّ السَّبْرُ حَتَّى لَمْ تَظْهَرْ عَلَامَةٌ إلَّا الطَّرْدُ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يُوهِمُ جَازَ الْقِيَاسُ بِهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ خَاصِّيَّةٌ تَنْفِي الشَّبَهَ وَإِيهَامَ الِاشْتِمَالِ عَلَى مُخَيَّلٍ. قُلْنَا: لِهَذَا السُّؤَالِ قَالَ قَائِلُونَ: لَا تُشْتَرَطُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي الشَّبَهِ كَمَا فِي الْمُنَاسِبِ، فَإِنْ شَرَطْنَاهُ فَيَكَادُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الشَّبَهِ وَالطَّرْدِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ فَرْقٌ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، فَإِنْ جَعَلْنَا الطَّرْدَ عِبَارَةً عَمَّا بَعُدَ عَنْ ذَاتِ الشَّيْءِ كَبِنَاءِ الْقَنْطَرَةِ فَيَقْضِي بَادِي الرَّأْي بِبُطْلَانِهِ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ سِوَاهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ صِفَاتٌ هِيَ أَحْرَى بِتَضَمُّنِ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَيَكُونُ فَسَادُهُ لِظُهُورِ مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ لَا لِذَاتِهِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَمَهْمَا ظَهَرَ الْأَقْرَبُ وَالْأَخَصُّ امَّحَقَ الظَّنُّ الْحَاصِلُ بِالْأَبْعَدِ، وَقَدْ يَكُونُ ظُهُورُ الْأَقْرَبِ بَدِيهِيًّا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ فَيَصِيرُ بُطْلَانُ الْأَبْعَدِ بَدِيهِيًّا فَيُظَنُّ أَنَّهُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِانْمِحَاقِ الظَّنِّ بِهِ مِنْ حَيْثُ وُجِدَ مَا هُوَ أَقْرَبُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ضَبْطَ هَذَا الْجِنْسِ بِالضَّوَابِطِ الْكُلِّيَّةِ عَسِيرٌ بَلْ لِلْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ ذَوْقٌ يَخْتَصُّ بِهَا فَلْنُفَوِّضْ ذَلِكَ إلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ الَّذِي قَطَعْنَا بِهِ فِي إبْطَالِ الطَّرْدِ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ لَا يُحَرِّكُ الظَّنَّ لِلتَّعْلِيلِ بِهِ مَا لَمْ يُسْتَمَدَّ مِنْ شَمَّةِ إخَالَةٍ أَوْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ إيهَامِ مُنَاسَبَةٍ أَوْ سَبْرٍ وَحَصْرٍ مَعَ ضَرُورَةِ طَلَبِ مَنَاطٍ، وَقَدْ يَنْطَوِي الذِّهْنُ عَلَى مَعْنَى تِلْكَ الضَّرُورَةِ وَالسَّبْرُ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ صَاحِبُهُ بِشُعُورِ نَفْسِهِ بِهِ، فَإِنَّ الشُّعُورَ بِالشَّيْءِ غَيْرُ الشُّعُورِ بِالشُّعُورِ، فَلَوْ قُدِّرَ تَجَرُّدُهُ عَنْ هَذَا الشُّعُورِ لَمْ يُحَرِّكْ ظَنَّ عَاقِلٍ أَصْلًا. [الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ الشَّبَهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ وَلَيْسَ مِنْهُ] ُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَا عُرِفَ مِنْهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ قَطْعًا وَافْتَقَرَ إلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، مِثَالُهُ طَلَبُ الشَّبَهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَبِهِ فَسَّرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ الشَّبَهَ؛ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فَعُلِمَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْمِثْلُ، وَلَيْسَ فِي النَّعَمِ مَا يُمَاثِلُ الصَّيْدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَشْبَهُ الْأَمْثَلُ فَوَجَبَ طَلَبُهُ كَمَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ مَهْرَ الْمِثْلِ وَكِفَايَةَ الْمِثْلِ فِي الْأَقَارِبِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْمُقَايَسَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نِسَاءِ الْعَشِيرَةِ وَبَيْنَ شَخْصِ الْقَرِيبِ الْمَكْفِيِّ فِي السِّنِّ وَالْحَالِ وَالشَّخْصِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَشْخَاصِ لِتُعْرَفَ الْكِفَايَةُ، فَذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَكَيْفَ يُمَثَّلُ بِهِ الشَّبَهُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الَّذِي يَصْعُبُ الدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِهِ؟

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا عُرِفَ مِنْهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ ثُمَّ اجْتَمَعَ مَنَاطَانِ مُتَعَارِضَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَجِبُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَنَاطَيْنِ ضَرُورَةً فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّبَهِ، مِثَالُهُ: أَنَّ بَدَلَ الْمَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَبَدَلَ النَّفْسِ مُقَدَّرٌ وَالْعَبْدُ نَفْسٌ كَالْحُرِّ وَمَالٌ كَالْفَرَسِ فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ بَدَلُهُ أَوْ لَا يُقَدَّرَ، فَتَارَةً يُشَبَّهُ بِالْفَرَسِ وَتَارَةً بِالْحُرِّ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ ظَهَرَ كَوْنُ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ مِنْ الشَّبَهِ جَعْلُ الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ مَنَاطًا مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ، وَهَهُنَا بِالِاتِّفَاقِ الْحُكْمُ يَنْضَافُ إلَى هَذَيْنِ الْمَنَاطَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: لَمْ يُوجَدْ فِيهِ كُلُّ مَنَاطٍ عَلَى الْكَمَالِ لَكِنْ تَرَكَّبَتْ الْوَاقِعَةُ مِنْ مَنَاطَيْنِ وَلَيْسَ يَتَمَحَّضُ أَحَدُهُمَا فَيُحْكَمُ فِيهِ بِالْأَغْلَبِ، مِثَالُهُ: أَنَّ اللِّعَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ مَحْضٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ، وَالْمُلَاعِنُ مُدَّعٍ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَفِي اللِّعَانِ لَفْظُ الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ؛ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ لَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَتَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَبَانَ لَنَا غَلَبَةُ إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِهِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنْ الشَّبَهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ لَفْظٌ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ كَلِمَةُ زُورٍ فَيَدُورُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تُرَدَّدُ بَيْنَ الْمُؤْنَةِ وَالْقُرْبَةِ، وَالْكَفَّارَةُ تُرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَفِي مُشَابِهِهِمَا. فَإِذَا تَنَاقَضَ حُكْمُ الشَّائِبَتَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ إخْلَاءُ الْوَاقِعَةِ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَظَهَرَ دَلِيلٌ عَلَى غَلَبَةِ إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَعْنًى مُنَاسِبٌ فِي الطَّرَفَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِالْأَغْلَبِ الْأَشْبَهِ. وَهَذَا أَشْبَهُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِمَأْخَذِ الشَّبَهِ، فَإِنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنْ الشَّهَادَةِ لِسِرٍّ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَمُمَكَّنٌ مِنْ الْيَمِينِ لِمَصْلَحَةٍ، وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ فِي اللِّعَانِ وَبَانَ أَنَّ إحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ أَغْلَبُ فَيَكُونُ الْأَغْلَبُ عَلَى ظَنِّنَا بَقَاءَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الْمُودَعَةِ تَحْتَ الْمَعْنَى الْأَغْلَبِ. فَإِنْ قِيلَ: وَبِمَ يُعْلَمُ الْمَعْنَى الْأَغْلَبُ الْمُعَيَّنُ؟ قُلْنَا: تَارَةً بِالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الذَّاتِ، وَتَارَةً بِالْأَحْكَامِ وَكَثْرَتِهَا، أَوْ تَارَةً بِقُوَّةِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَخَاصِّيَّتِهِ فِي الدَّلَالَةِ؛ وَهُوَ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنَّمَا يَتَوَلَّى بَيَانَهُ الْفَقِيهُ دُونَ الْأُصُولِيِّ. وَالْغَرَضُ أَنَّهُ إذَا سُلِّمَ أَنَّ أَحَدَ الْمَنَاطَيْنِ أَغْلَبُ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِالْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُخَلِّيَ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يُحْكَمَ بِالْمَغْلُوبِ أَوْ بِالْغَالِبِ فَيَتَعَيَّنُ الْحُكْمُ بِالْغَالِبِ، فَكَيْفَ يُلْحَقُ هَذَا بِالشَّبَهِ الْمُشْكِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ؟ نَعَمْ لَوْ دَارَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَأَشْبَهَ أَحَدَهُمَا وَصْفٌ لَيْسَ مَنَاطًا وَأَشْبَهَ الْآخَرَ فِي وَصْفَيْنِ لَيْسَا مَنَاطَيْنِ، فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ وَالْإِلْحَاقِ بِالْأَشْبَهِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْمُجْتَهِدِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُشَارَكَة فِي الْوَصْفَيْنِ تُوهِمُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمَجْهُولَةِ عِنْدَهُ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ أَغْلَبَ فِي نَفْسِهِ مِنْ مُشَارَكَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يُشْبِهْهُ إلَّا فِي صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَحُكِمَ هُنَا بِظَنِّهِ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ، أَمَّا كُلُّ وَصْفٍ ظَهَرَ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ فَاتِّبَاعُهُ مِنْ قَبِيلِ، قِيَاسِ الْعِلَّةِ لَا مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِ الشَّبَهِ. هَذَا مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ تَتِمَّةِ الْبَابِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ نَظَرٌ فِي طَرِيقِ إثْبَاتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، لَكِنَّا أَفْرَدْنَاهُ بِبَابٍ لِكَيْ لَا يَطُولَ الْكَلَامُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَإِذْ فَرَغْنَا مِنْ طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعِلَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَشُرُوطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ

[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَشُرُوطِ كُلِّ رُكْنٍ] [الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلْقِيَاسِ] الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَشُرُوطِ كُلِّ رُكْنٍ وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ فَلْنُمَيِّزْ الْقَوْلَ فِي شَرْطِ كُلِّ رُكْنٍ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الضَّبْطِ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصْلُ وَلَهُ شُرُوطٌ ثَمَانِيَةٌ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتًا فَإِنَّهُ إنْ أَمْكَنَ تَوْجِيهُ الْمَنْعِ عَلَيْهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ النَّاظِرُ وَلَا الْمُنَاظِرُ قَبْلَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ سَمْعِيٍّ شَرْعِيٍّ، إذْ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقٍ عَقْلِيٍّ أَوْ لُغَوِيٍّ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالْحُكْمُ اللُّغَوِيُّ وَالْعَقْلِيُّ لَا يُثْبِتُ قِيَاسًا عِنْدَنَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ أَسَاسِ الْقِيَاسِ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ الَّذِي بِهِ عُرِفَ كَوْنُ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْأَصْلِ عِلَّةً سَمْعًا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَوَضْعٌ شَرْعِيٌّ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ بَلْ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَلَا مَعْنَى لِقِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْأُرْزِ ثُمَّ قِيَاسُ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ إنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ كَالطَّعْمِ مَثَلًا فَتَطْوِيلُ الطَّرِيقِ عَبَثٌ، إذْ لَيْسَتْ الذُّرَةُ بِأَنْ تُجْعَلَ فَرْعًا لِلْأُرْزِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْأَصْلِ فَبِمَ يُعْرَفُ كَوْنُ الْجَامِعِ عِلَّةً؟ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُ الشَّبَهِ وَالْمُنَاسِبِ عِلَّةً بِشَهَادَةِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى وَفْقِ الْمَعْنَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَمْ يَصْلُحْ لَأَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْمَعْنَى الْمَقْرُونِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ إلَى أَنْ يُشَبَّهَ بِالْفَرْعِ الثَّالِثِ رَابِعٌ وَبِالرَّابِعِ خَامِسٌ فَيَنْتَهِي الْأَخِيرُ إلَى حَدٍّ لَا يُشْبِهُ الْأَوَّلَ، كَمَا لَوْ الْتَقَطَ حَصَاةً وَطَلَبَ مَا يُشْبِهُهَا ثُمَّ طَلَبَ مَا يُشْبِهُ الثَّانِيَةَ ثُمَّ طَلَبَ مَا يُشْبِهُ الثَّالِثَةَ ثُمَّ يَنْتَهِي بِالْآخِرَةِ إلَى أَنْ لَا يُشْبِهَ الْعَاشِرُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْفُرُوقَ الدَّقِيقَةَ تَجْتَمِعُ فَتَظْهَرُ الْمُفَارَقَةُ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِفَرْضِ الْمُنَاظِرِ الْكَلَامَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ؟ قُلْنَا: لِلْفَرْضِ مَحَلَّانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُمَّ السَّائِلُ بِسُؤَالِهِ جُمْلَةً مِنْ الصُّوَرِ فَيُخَصِّصُ الْمُنَاظِرُ بَعْضَ الصُّوَرِ إذْ يُسَاعِدُهُ فِيهِ خَبَرٌ أَوْ دَلِيلٌ خَاصٌّ أَوْ يَنْدَفِعُ فِيهِ بَعْضُ شُبَهِ الْخَصْمِ الثَّانِي: أَنْ تَبْنِيَ فَرْعًا عَلَى فَرْعٍ آخَرَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى النَّاظِرِ الْمُجْتَهِدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا قَبُولُهُ مِنْ الْمُنَاظِرِ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى اصْطِلَاحِ الْجَدَلِيِّينَ، فَالْجَدَلُ شَرِيعَةٌ وَضَعَهَا الْمُتَنَاظِرُونَ وَنَظَرْنَا فِي الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، وَمُوَافَقَةُ الْخَصْمِ عَلَى الْفَرْعِ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَجْعَلُهُ أَصْلًا إذْ الْخَطَأُ مُمْكِنٌ عَلَى الْخَصْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مُطْلَقًا فَيَصِيرُ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، مَخْصُوصًا بِالْأَصْلِ لَا يَعُمُّ الْفَرْعَ، مِثَالُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: السَّفَرْجَلُ مَطْعُومٌ فَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الطَّعْمِ عِلَّةً بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» أَوْ قَالَ فَضُلَ الْقَاتِلُ الْقَتِيلَ بِفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ الْمُعَاهَدَ، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي إثْبَاتِ عِلَّتِهِ إلَى قَوْلِهِ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»

فَهَذَا قِيَاسٌ مَنْصُوصٌ عَلَى مَنْصُوصٍ وَهُوَ كَقِيَاسِ الْبُرِّ عَلَى الشَّعِيرِ وَالدَّرَاهِمِ عَلَى الدَّنَانِيرِ. السَّادِسُ: قَالَ: قَوْمٌ: شَرْطُ الْأَصْلِ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ وَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَلٌّ لَا أَصْلَ لَهُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ حَيْثُ قَاسُوا لَفْظَ الْحَرَامِ عَلَى الظِّهَارِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْيَمِينِ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عِنْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلٍ أَوْ جَوَازِهِ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ إنْ انْقَدَحَ فِيهِ مَعْنًى مُخَيَّلٌ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اتِّبَاعُهُ، وَتُرِكَ الِالْتِفَاتُ إلَى الْمَحَلِّ الْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ مَنْ قَبِيلِ الشَّبَهِ كَالطَّعْمِ الَّذِي يُنَاسِبُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَوْلَا ضَرُورَةُ جَرَيَانِ الرِّبَا فِي الدَّقِيقِ وَالْعَجِينِ وَامْتِنَاعِ ضَبْطِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الْبُرِّ لَمَا وَجَبَ اسْتِنْبَاطُ الطَّعْمِ. فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ هَذَا فَلَا وَجْهَ لَهُ. السَّابِعُ: أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ حُكْمُ الْأَصْلِ بِالتَّعْلِيلِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عَكَّرَتْ عَلَى الْأَصْلِ بِالتَّخْصِيصِ فَلَا تُقْبَلُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّأْوِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَبْدَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْنَى إنْ كَانَ سَابِقًا إلَى الْفَهْمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ؛ أَمَّا الْمُسْتَنْبَطُ بِالتَّأَمُّلِ فَفِيهِ نَظَرٌ. الثَّامِنُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْخَارِجَ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَهَذَا مِمَّا أُطْلِقَ وَيَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ، فَنَقُولُ: قَدْ اشْتَهَرَ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْخَارِجَ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُطْلَقُ اسْمُ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَتَارَةً عَلَى مَا اُسْتُفْتِحَ ابْتِدَاءً مِنْ قَاعِدَةٍ مُقَرَّرَةٍ بِنَفْسِهَا لَمْ تُقْطَعْ مِنْ أَصْلٍ سَابِقٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَفْتَحِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَإِلَى مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَخُصِّصَ بِالْحُكْمِ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَى التَّخْصِيصِ فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ فُهِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَفِي الْقِيَاسِ إبْطَالُ الْخُصُوصِ الْمَعْلُومِ بِالنَّصِّ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ. بَيَانُهُ مَا فُهِمَ مِنْ تَخْصِيصِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْتِثْنَائِهِ فِي تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَفِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِصَفِيِّ الْمَغْنَمِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ تَخْصِيصِهِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتَخْصِيصِهِ أَبَا بُرْدَةَ فِي الْعَنَاقِ أَنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ فِي الضَّحِيَّةِ، فَهَذَا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ وُرُودَ النَّسْخِ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ بَلْ وُرُودَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ إبْقَاءِ الْقَاعِدَةِ فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهِ؟ وَكَوْنُهُ خَاصِّيَّةً لِمَنْ وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَارَةً يُعْلَمُ وَتَارَةً يُظَنُّ فَالْمَظْنُونُ كَاخْتِصَاصِ قَوْلِهِ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَقَوْلُهُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُرْفَعُ بِهِ قَاعِدَةُ الْغُسْلِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِينَ وَالشُّهَدَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ خَاصٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى إخْلَاصِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ، وَنَحْنُ لَا نَطَّلِعُ عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَضْلًا عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالشَّهَادَةِ. وَلَمَّا قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَاقَعَ أَهْلَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» وَلَمْ يُقِرَّ الْكَفَّارَةَ فِي ذِمَّتِهِ عِنْد عَجْزِهِ وَجَعَلَ

الشَّبَقَ عَجْزًا عَنْ الصَّوْمِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ خَاصِّيَّةٌ وَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: يَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ يُسَاوِيهِ فِي الشَّبَقِ وَالْعَجْزِ. وَمَنْ جَعَلَهُ خَاصَّةً اسْتَنَدَ فِيهِ إلَى أَنَّهُ لَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ فَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ وَاجِبٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي الْعَجْزِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْخَاصِّيَّةِ أَهْوَنُ مِنْ هَدْمِ الْقَوَاعِدِ الْمَعْلُومَةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ قَاعِدَةٍ سَابِقَةٍ وَيَتَطَرَّقُ إلَى اسْتِثْنَائِهِ مَعْنًى، فَهَذَا يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ دَارَتْ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَبْقَى وَشَارَكَ الْمُسْتَثْنَى فِي عِلَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، مِثَالُهُ اسْتِثْنَاءُ الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَاسِخًا لِقَاعِدَةِ الرِّبَا وَلَا هَادِمًا لَهَا لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ لِلْحَاجَةِ، فَنَقِيسُ الْعِنَبَ عَلَى الرُّطَبِ؛ لِأَنَّا نَرَاهُ فِي مَعْنَاهُ. وَكَذَلِكَ إيجَابُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ لَمْ يَرِدْ هَادِمًا لِضَمَانِ الْمِثْلِيَّاتِ بِالْمِثْلِ، لَكِنْ لَمَّا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ الْحَادِثُ بِالْكَائِنِ فِي الضَّرْعِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّمْيِيزِ وَلَا إلَى مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ وَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَطْعُومٍ يُقَرِّبُ الْأَمْرَ فِيهِ خَلَّصَ الشَّارِعُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مِنْ وَرْطَةِ الْجَهْلِ بِالتَّقْدِيرِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، فَلَا جَرَمَ، نَقُولُ لَوْ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ بِعَيْبٍ آخَرَ لَا بِعَيْبِ التَّصْرِيَةِ فَيُضَمَّنُ اللَّبَنُ أَيْضًا بِصَاعٍ وَهُوَ نَوْعُ إلْحَاقٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَلَوْلَا أَنَّا نَشُمُّ مِنْهُ رَائِحَةَ الْمَعْنَى لَمْ نَتَجَاسَرْ عَلَى الْإِلْحَاقِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَّقَ فِي بَوْلِ الصِّبْيَانِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَقَالَ: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَيُرَشُّ عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ» وَلَمْ يَنْقَدِحْ فِيهِ مَعْنًى لَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ الْفَرْقَ فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ بَيْنَ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا؛ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّرْعِ بِبَقَاءِ صَوْمِ النَّاسِي عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْمَأْمُورَاتِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا نَقِيسُ عَلَيْهِ كَلَامَ النَّاسِي فِي الصَّلَاةِ وَلَا أَكْلَ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئَ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَلَكِنْ قَالَ: جِمَاعُ النَّاسِي فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ بَابٌ وَاحِدٌ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ: الصَّوْمُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورَاتِ بِمَعْنَاهُ إذْ افْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ وَالْتُحِقَ بِأَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْهِيَّاتِ فِي نَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَرْكٌ يُتَصَوَّرُ مِنْ النَّائِمِ جَمِيعَ النَّهَارِ، فَإِسْقَاطُ الشَّرْعِ عُهْدَةُ النَّاسِي تَرْجِيحٌ لِنُزُوعِهِ إلَى الْمَنْهِيَّاتِ فَنَقِيسُ عَلَيْهِ كَلَامَ النَّاسِي وَنَقِيسُ عَلَيْهِ الْمُكْرَهَ وَالْمُخْطِئَ عَلَى قَوْلٍ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْقَاعِدَةُ الْمُسْتَقِلَّةُ الْمُسْتَفْتَحَةُ الَّتِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ فَيُسَمَّى خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ تَجَوُّزًا، إذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُنْقَاسًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ عُمُومَ قِيَاسٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ حَتَّى يُسَمَّى الْمُسْتَثْنَى خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ بَعْدَ دُخُولٍ فِيهِ؛ وَمِثَالُهُ: الْمُقَدَّرَاتُ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَجَمِيعِ التَّحَكُّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي لَا يَنْقَدِحُ فِيهَا مَعْنًى، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْقَلُ عِلَّتُهَا. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فِي الْقَوَاعِدِ الْمُبْتَدَأَةِ الْعَدِيمَةِ النَّظِيرِ، لَا يُقَاسُ، عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ يُعْقَلُ مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهَا نَظِيرٌ خَارِجٌ مِمَّا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَانِعُ مِنْ الْقِيَاسِ فَقْدُ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ، فَكَأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ؛ وَمِثَالُهُ: رُخَصُ السَّفَرِ: فِي الْقَصْرِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَرُخْصَةُ الْمُضْطَرِّ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَتَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وَإِيجَابُ غُرَّةِ الْجَنِينِ وَالشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ وَخَاصِّيَّةُ الْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَحُكْمُ اللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِرهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ مُتَبَايِنَةُ الْمَأْخَذِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الْبَعْضِ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ مَعْنًى مُنْفَرِدٌ بِهِ لَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِيهِ، فَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَنْ يُوضَعَ أَصْلًا وَيُجْعَلَ الْآخَرُ

خَارِجًا عَنْ قِيَاسِهِ بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَقِلَّتِهِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ لِعُسْرِ النَّزْعِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِصْحَابِهِ فَلَا نَقِيسُ عَلَيْهِ الْعِمَامَةَ وَالْقُفَّازَيْنِ وَمَا لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْقَدَمِ لَا؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْحَاجَةِ وَعُسْرِ النَّزْعِ وَعُمُومِ الْوُقُوعِ، وَكَذَلِكَ رُخْصَةُ السَّفَرِ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهَا بِالْمَشَقَّةِ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا لَا يُشَارِكهَا غَيْرُهَا فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهَا وَمَصَالِحِهَا؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ يُحْوِجُ إلَى الْجَمْعِ لَا إلَى الْقَصْرِ، وَقَدْ يَقْضِي فِي حَقِّهِ بِالرَّدِّ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ وَلَمَّا سَاوَاهُ فِي حَاجَةِ الْفِطْرِ سَوَّى الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ رُخْصَةً خَارِجَةً عَنْ الْقِيَاسِ غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُضْطَرِّ؛ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَإِلَّا فَلْنَقِسْ الْخَمْرَ عَلَى الْمَيْتَةِ، وَالْمُكْرَهَ عَلَى الْمُضْطَرِّ فَهُوَ مُنْقَاسٌ. وَكَذَلِكَ بَدَاءَةُ الشَّرْعِ بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ لِشَرَفِ أَمْرِ الدَّمِ وَلِخَاصِّيَّةٍ لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَأَقْرَبُ شَيْءٍ إلَيْهِ الْبُضْعُ وَقَدْ وَرَدَ تَصْدِيقُ الْمُدَّعِي بِاللِّعَانِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ قَرَّرَهُ الشَّرْعُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْخَطَأِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى مُمَارَسَةِ السِّلَاحِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي غَيْرِ الدِّيَةِ وَهَذَا مِمَّا يَكْثُرُ فَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ " تَأَقُّتُ الْإِجَارَةِ " خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ خَطَأٌ كَقَوْلِهِمْ: " تَأَبُّدُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الْإِجَارَةِ " وَتَأَقُّتِ الْمُسَاقَاةِ " خَارِجٌ عَنْ تَأَبُّدِ الْقِرَاضِ، بَلْ تَأَبُّدُ الْقِرَاضِ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ تَأَقُّتِ الْمُسَاقَاةِ. فَإِذًا هَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِهَا وَبِفَهْمِ بَيَانِهَا يَحْصُلُ الْوُقُوفُ عَلَى سِرِّ هَذَا الْأَصْلِ [الرُّكْنُ الثَّانِي لِلْقِيَاسِ] ِ: وَلَهُ خَمْسَةُ شُرُوطٍ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ، فَإِنْ تَعَدَّى الْحُكْمُ فَرْعًا تَعَدَّى الْعِلَّةَ فَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لَكِنَّهُ مَظْنُونٌ صَحَّ الْحُكْمُ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُشَارَكَتَهُ لِلْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ لَمْ تُعْلَمْ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِالْقِيَاسِ أَنَّ الْحُكْمَ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَحَلِّ، أَمَّا إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْعِلَّةِ فَلَا يُلْحَقُ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّجَاسَةَ هِيَ عِلَّةُ بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ قِسْنَا عَلَيْهِ الْكَلْبَ إذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا نَجَاسَةُ الْكَلْبِ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عِلَّةُ الْكَفَّارَةِ الْعِصْيَانَ وَيُدْرَكُ تَحْقِيقُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَإِذَا ثَبَتَ الْتَحَقَ بِالْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَطَرَحَ فِيهِ التُّرَابَ، فَإِنْ كَانَ التُّرَابُ سَائِرًا كَالزَّعْفَرَانِ لَمْ تَزُلْ النَّجَاسَةُ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَطُولِ الْمُدَّةِ زَالَتْ النَّجَاسَةُ، وَرُبَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، فَالظَّنُّ كَالْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ الْفَرْعُ فِي الثُّبُوتِ عَلَى الْأَصْلِ، وَمِثَالُهُ: قِيَاسُ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي النِّيَّةِ، وَالتَّيَمُّمُ مُتَأَخِّرٌ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَالدَّلِيلُ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْمَدْلُولِ، فَإِنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ دَلَّ عَلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَحْدُثُ بِحُدُوثِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْمَعْلُولِ؟ لَكِنْ يُمْكِنُ الْعُدُولُ إلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ إثْبَاتَ الشَّرْعِ الْحُكْمَ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ يَشْهَدُ لِكَوْنِهِ مَلْحُوظًا بِعَيْنِ

الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ لِلْعِلَّةِ دَلِيلٌ آخَرُ سِوَى التَّيَمُّمِ فَلَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ وَحْدَهُ دَلِيلًا لِعِلَّةِ الْوُضُوءِ السَّابِقِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُفَارِقَ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي جِنْسِيَّةٍ وَلَا فِي زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْدِيَةِ حُكْمٍ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَكَيْفَ يَخْتَلِفُ بِالتَّعْدِيَةِ؟ وَلَيْسَ مِنْ شَكْلِ الْقِيَاسِ قَوْلُ الْقَائِلِ بَلَغَ رَأْسُ الْمَالِ أَقْصَى مَرَاتِبِ الْأَعْيَانِ فَلْيَبْلُغْ الْمُسْلِمُ فِيهِ أَقْصَى مَرَاتِبِ الدُّيُونِ قِيَاسًا لِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي إثْبَاتِ خِلَافِ حُكْمِهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ مِمَّا ثَبَتَتْ جُمْلَتُهُ بِالنَّصِّ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ تَفْصِيلُهُ، وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو هَاشِمٍ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِمِيرَاثِ الْجَدِّ جُمْلَةً لَمَا نَظَرَتْ الصَّحَابَةُ فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ وَرَدَ فِيهِ حُكْمٌ لَا عَلَى الْعُمُومِ وَلَا عَلَى الْخُصُوصِ، بَلْ الْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ تَعَدَّى بِتَعَدِّي الْعِلَّةِ كَيْفَمَا كَانَ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُطْلَبُ الْحُكْمُ بِقِيَاسِ أَصْلٍ آخَرَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قِسْتُمْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالظِّهَارُ أَيْضًا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَاسْمُ الرَّقَبَةِ يَشْمَل الْكَافِرَةَ؟ قُلْنَا: اسْمُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ نَصًّا فِي إجْزَاءِ الْكَافِرَةِ لَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ كَمَا فِي الْمَعِيبَةِ، وَعِلَّةُ اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ عَرَفْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ آيَةِ الظِّهَارِ فَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْزَاءُ الْكَافِرَةِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَطَلَبْنَا حُكْمَهُ بِالْقِيَاسِ لِذَلِكَ [الرُّكْنُ الثَّالِثُ لِلْقِيَاسِ] الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْحُكْمُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يُتَعَبَّدْ فِيهِ بِالْعِلْمِ، وَبَيَانُهُ بِمَسَائِلَ. مَسْأَلَةٌ: الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ وَالِاسْمُ اللُّغَوِيُّ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلنَّبِيذِ وَالزِّنَا لِلِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ لِلنَّبْشِ وَالْخَلِيطِ لِلْجَارِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْخَمْرَ إذَا حَمُضَتْ خَلًّا لِحُمُوضَتِهِ وَلَا تُجْرِيهِ فِي كُلِّ حَامِضٍ، وَتُسَمِّي الْفَرَسَ أَدْهَمَ لِسَوَادِهِ وَلَا تُجْرِيهِ فِي كُلِّ أَسْوَدَ وَتُسَمِّي الْقَطْعَ فِي الْأَنْفِ جَدْعًا وَلَا تَطْرُدُهُ فِي غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ قَدَّمْنَاهَا فَلَا نُعِيدُهَا وَكَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمُكْرَهِ قَاتِلًا، وَالشَّاهِدُ قَاتِلًا، وَالشَّرِيكُ قَاتِلًا بِالْقِيَاسِ، بَلْ يَتَعَرَّفُ حَدَّ الْقَتْلِ بِالْبَحْثِ الْعَقْلِيِّ. وَكَذَلِكَ غَاصِبُ الْمَاشِيَةِ هَلْ هُوَ غَاصِبٌ لِلنِّتَاجِ؟ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَى الْعَقَارِ هَلْ هُوَ غَاصِبٌ لِلْغَلَّةِ؟ فَهَذِهِ مَبَاحِثُ عَقْلِيَّةٌ تُعْرَفُ بِصِنَاعَةِ الْجَدَلِ. نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَلْحَقَ الشَّرْعُ الشَّرِيكَ بِالْمُنْفَرِدِ بِالْقَتْلِ حُكْمًا فَنَقِيسُ عَلَيْهِ الشَّرِيكَ فِي الْقَطْعِ، وَأَلْحَقَ الْمُكْرِهَ بِالْقَاتِلِ فَنَقِيسُ عَلَيْهِ الشَّاهِدَ إذَا رَجَعَ، وَذَلِكَ إلْحَاقُ مَنْ لَيْسَ قَاتِلًا بِالْقَاتِلِ فِي الْحُكْمِ. مَسْأَلَةٌ مَا تُعُبِّدَ فِيهِ بِالْعِلْمِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، كَمَنْ يُرِيدُ إثْبَاتَ خَبَرِ الْوَاحِدِ

بِالْقِيَاسِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِذَلِكَ أُورِدُ فِي مِثَالِ هَذَا الْبَابِ إثْبَاتَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ أَوْ صَوْمِ شَوَّالٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُصُولِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوِتْرَ صَلَاةٌ سَادِسَةٌ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهَا فَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ تَكُونَ السَّادِسَةُ مَعْلُومَةَ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَطْعِ بَلْ سَبَبُ بُطْلَانِ هَذَا الْقِيَاسِ عِلْمُنَا بِبُطْلَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ صَوْمُ شَوَّالٍ وَصَلَاةٌ سَادِسَةٌ لَكَانَتْ الْعَادَةُ تُحِيلُ أَنْ لَا يَتَوَاتَرَ، أَوْ لِأَنَّا لَا نَجِدُ أَصْلًا نَقِيسَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ قِيَاسُ شَوَّالٍ عَلَى رَمَضَانَ إذْ لَمْ يَثْبُتْ لَنَا، أَوْ وُجُوبُ صَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ شَهْرٌ مِنْ الشُّهُورِ أَوْ وَقْتٌ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ لِوَصْفٍ يُشَارِكُهُ فِيهِ شَوَّالٌ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّفْيَ الْأَصْلِيَّ هَلْ يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ؟ وَأَعْنِي بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ الْبَقَاءَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ لَا قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْ مِثْلِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ ضَمَّ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَهُوَ بِاسْتِصْحَابِ مُوجِبِ الْعَقْلِ النَّافِي لِلْأَحْكَامِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ مُسْتَغْنٍ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّظَرِ أَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَلَا يَجْرِي؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ السَّادِسَةَ وَصَوْمَ شَوَّالٍ انْتَفَى وُجُوبُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لَهُمَا كَمَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمًا حَادِثًا سَمْعِيًّا حَتَّى تُطْلَبَ لَهُ عِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بَلْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بَلْ هُوَ نَفْيُ الشَّرْعِ وَلَا عِلَّةَ لَهُ إنَّمَا الْعِلَّةُ لِمَا يَتَجَدَّدُ، فَحُدُوثُ الْعَالَمِ لَهُ سَبَبٌ وَهُوَ إرَادَةُ الصَّانِعِ أَمَّا عَدَمُهُ فِي الْأَزَل فَلَمْ تَكُنْ لَهُ عِلَّةٌ، إذْ لَوْ أُحِيلَ عَلَى إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَوَجَبَ أَنْ يَنْقَلِبَ مَوْجُودًا لَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ الْمُرِيدِ وَالْإِرَادَةِ، كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ لَوْ قُدِّرَ انْتِفَاؤُهَا لَانْتَفَى وُجُودُ الْعَالَمِ فِي وَقْتِ حُدُوثِهِ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الِانْتِفَاءُ الْأَصْلِيُّ حُكْمًا شَرْعِيًّا عَلَى التَّحْقِيقِ لَمْ يَثْبُتْ بِعِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ، أَمَّا النَّفْيُ الطَّارِئُ كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ عَنْ الدَّيْنِ فَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَفْتَقِرُ إلَى عِلَّةٍ فَيَجْرِي فِيهِ قِيَاسُ الْعِلَّةِ. مَسْأَلَةٌ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْكَنَ تَعْلِيلُهُ فَالْقِيَاسُ جَارٍ فِيهِ وَحُكْمُ الشَّرْعِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: نَفْسُ الْحُكْمِ وَالثَّانِي: نَصْبُ أَسْبَابِ الْحُكْمِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى فِي إيجَابِ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ عَلَى الزَّانِي وَالسَّارِقِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا إيجَابُ الرَّجْمِ، وَالْآخَرُ: نَصْبُ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فَيُقَالُ: وَجَبَ الرَّجْمُ فِي الزِّنَا لِعِلَّةِ كَذَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي اللِّوَاطِ فَنَجْعَلُهُ سَبَبًا وَإِنْ كَانَ لَا يُسَمَّى زِنًا. وَأَنْكَرَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْلِيلِ وَقَالَ: الْحُكْمُ يَتْبَعُ السَّبَبَ دُونَ حِكْمَةِ السَّبَبِ وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ ثَمَرَةٌ، وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ جَعَلَ الْقَتْلَ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى شُهُودِ الْقِصَاصِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الزَّجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْقَتْلُ وَهَذَا فَاسِدٌ، وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ شَرْعِيٌّ أَعْنِي نَصْبَ الْأَسْبَابِ لِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ فَيُمْكِنُ أَنْ تُعْقَلَ عِلَّتُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى سَبَبٍ آخَرَ، فَإِنْ اعْتَرَفُوا بِإِمْكَانِ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ وَإِمْكَانِ تَعْدِيَتِهِ ثُمَّ تَوَقَّفُوا عَنْ التَّعْدِيَةِ كَانُوا مُتَحَكِّمِينَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ، كَمَنْ يَقُولُ: يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ لَا فِي الْقِصَاصِ وَفِي الْبَيْعِ لَا فِي النِّكَاحِ؛ وَإِنْ ادَّعَوْا الْإِحَالَةَ فَمِنْ أَيْنَ عَرَفُوا اسْتِحَالَتَهُ؟ أَبِضَرُورَةٍ أَوْ نَظَرٍ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ، كَيْفَ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ إمْكَانَهُ بِالْأَمْثِلَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: الْإِمْكَانُ مُسَلَّمٌ فِي الْعَقْلِ لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْفَى لِلْأَسْبَابِ عِلَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ تَتَعَدَّى فَنَقُولُ: الْآنَ قَدْ ارْتَفَعَ النِّزَاعُ

الْأُصُولِيُّ إذْ لَا ذَاهِبَ إلَى تَجْوِيزِ الْقِيَاسِ حَيْثُ لَا تُعْقَلُ الْعِلَّةُ أَوْ لَا تَتَعَدَّى، وَهُمْ قَدْ سَاعَدُوا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ حَيْثُ أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ وَتَعْدِيَتُهَا فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ. الْجَوَاب الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَذْكُرُ إمْكَانَ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ عَلَى مَنْهَجَيْنِ: الْمَنْهَجِ الْأَوَّلِ: مَا لَقَّبْنَاهُ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فَتَقُول: قِيَاسُنَا اللَّائِطَ وَالنَّبَّاشَ عَلَى الزَّانِي وَالسَّارِقِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِخُرُوجِ النَّبَّاشِ وَاللَّائِطِ عَنْ اسْم الزَّانِي وَالسَّارِقِ - كَقِيَاسِكُمْ الْأَكْلَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُسَمَّى وِقَاعًا، وَقَدْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاقَعْتُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا قِيَاسًا فَإِنَّا نَعْرِفُ بِالْبَحْثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَيْسَتْ كَفَّارَةَ الْجِمَاعِ بَلْ كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ نَقُولُ: لَيْسَ الْحَدُّ حَدَّ الزِّنَا بَلْ حَدُّ إيلَاجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ قَطْعًا الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَالْقَطْعُ قَطْعُ أَخْذِ مَالٍ مُحْرَزٍ لَا شُبْهَةَ لِلْآخِذِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالزِّنَا لِعِلَّةِ كَذَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ الزِّنَا، وَعُلِّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْوِقَاعِ لِعِلَّةِ كَذَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَكْلِ، كَمَا يُقَالُ أُثْبِتَ التَّحْرِيمُ فِي الْخَمْرِ لِعِلَّةِ الشِّدَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّبِيذِ، وَنَحْنُ فِي الْكَفَّارَةِ نُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ لِلْجِمَاعِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ فَنَتَعَرَّفُ مَحَلَّ الْحُكْمِ الْوَارِدِ شَرْعًا أَنَّهُ أَيْنَ وَرَدَ وَكَيْفَ وَرَدَ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا، فَإِنْ اسْتَمَرَّ لَكُمْ مِثْلُ هَذَا فِي اللَّائِطِ وَالنَّبَّاشِ فَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيهِ. قُلْنَا: فَهَذَا الطَّرِيقُ جَارٍ لَنَا فِي اللَّائِطِ وَالنَّبَّاشِ بِلَا فَرْقٍ، وَهُوَ نَوْعُ إلْحَاقٍ لِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ بِفَهْمِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فَيُرْجَعُ النِّزَاعُ إلَى الِاسْمِ. الْمَنْهَجِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَقُول: إذَا انْفَتَحَ بَابُ الْمَنْهَجِ الْأَوَّلِ تَعَدَّيْنَا إلَى إيقَاعِ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ بِهَا، فَإِنَّا لَسْنَا نَعْنِي بِالْحِكْمَةِ إلَّا الْمَصْلَحَةَ الْمُخَيَّلَةَ الْمُنَاسِبَةَ، كَقَوْلِنَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» إنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ الْغَضَبُ سَبَبَ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يُدْهِشُ الْعَقْلَ وَيَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطِ وَالْأَلَمِ الْمُبَرِّحِ، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهِ؛ وَكَقَوْلِنَا: إنَّ الصَّبِيَّ يُوَلَّى عَلَيْهِ لِحِكْمَةٍ وَهِيَ عَجْزُهُ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ الصِّبَا سَبَبَ الْوِلَايَةِ لِذَاتِهِ بَلْ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، فَنَنْصِبُ الْجُنُونَ سَبَبًا قِيَاسًا عَلَى الصِّغَرِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ اتِّفَاقُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالشَّرِيكُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ عَلَى الْكَمَالِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا اُقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ لِأَجْلِ الزَّجْرِ وَعِصْمَةِ الدِّمَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي إلْحَاقَ الْمُشَارِكِ بِالْمُنْفَرِدِ وَنَزِيدُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَنَقُولُ: هَذِهِ الْحِكْمَةُ جَرَيَانُهَا فِي الْأَطْرَافِ كَجَرَيَانِهَا فِي النُّفُوسِ، فَيُصَانُ الطَّرَفُ فِي الْقِصَاصِ عَنْ الْمُشَارِكِ كَمَا يُصَانُ عَنْ الْمُنْفَرِدِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجَارِحِ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ وَعِصْمَةِ الدِّمَاءِ، فَالْمُثْقَلُ فِي مَعْنَى الْجَارِحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ. فَهَذِهِ تَعْلِيلَاتٌ مَعْقُولَةٌ فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالشِّدَّةِ وَتَعْلِيلِ وِلَايَةِ الصِّغَرِ بِالْعَجْزِ وَمَنْعِ الْحُكْمِ بِالْغَضَبِ فَإِنْ قِيلَ: الْمَانِعُ مِنْهُ أَنَّ الزَّجْرَ حِكْمَةٌ، وَهِيَ ثَمَرَةٌ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْقِصَاصِ، وَتَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ عِلَّةَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ؟ بَلْ عِلَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ قُلْنَا مُسَلَّمٌ أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ، لَكِنْ عِلَّةُ كَوْنِ الْقَتْلِ عِلَّةً لِلْقِصَاصِ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ هِيَ الْعِلَّةُ دُونَ نَفْسِ الزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ سَابِقَةٌ، وَحُصُولُ الزَّجْرِ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ؛ إذْ يُقَالُ: خَرَجَ الْأَمِيرُ عَنْ الْبَلَدِ لِلِقَاءِ زَيْدٍ وَلِقَاءُ زَيْدٍ يَقَعُ بَعْدَ خُرُوجِهِ، لَكِنْ تَكُونُ

الْحَاجَةُ إلَى اللِّقَاءِ عِلَّةً بَاعِثَةً عَلَى الْخُرُوجِ سَابِقَةً عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُ نَفْسُ اللِّقَاءِ، فَكَذَلِكَ الْحَاجَةُ إلَى عِصْمَةِ الدِّمَاءِ هِيَ الْبَاعِثَةُ لِلشَّرْعِ عَلَى جَعْلِ الْقَتْلِ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ، وَالشَّرِيكُ فِي هَذَا الْمَعْنَى يُسَاوِي الْمُنْفَرِدَ وَالْمُثْقَلُ يُسَاوِي الْجَارِحَ فَأُلْحِقَ بِهِ قِيَاسًا. مَسْأَلَةٌ نُقِلَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ يُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّ إلْحَاقَ الْأَكْلِ بِالْجِمَاعِ قِيَاسٌ وَإِلْحَاقَ النَّبَّاشِ بِالسَّارِقِ قِيَاسٌ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَنْقِيحٌ لِمَنَاطِ الْحُكْمِ لَا اسْتِنْبَاطٌ لِلْمَنَاطِ، فَمَا ذَكَرُوهُ حَقٌّ، وَالْإِنْصَافُ يَقْتَضِي مُسَاعَدَتَهُمْ إذَا فَسَّرُوا كَلَامَهُمْ بِهَذَا. فَيَجِبُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ الْجَارِيَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ بَلْ وَفِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ، الْمَنْهَجُ الْأَوَّلُ فِي الْإِلْحَاقِ دُونَ الْمَنْهَجِ الثَّانِي، وَأَنَّ الْمَنْهَجَ الثَّانِيَ يَرْجِعُ إلَى تَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمَنْهَجُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّا إذَا أَلْحَقْنَا الْمَجْنُونَ بِالصَّبِيِّ بَانَ لَنَا أَنَّ الصِّبَا لَمْ يَكُنْ مَنَاطَ الْوِلَايَةِ بَلْ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْهُ، وَهُوَ فَقْدُ عَقْلِ التَّدْبِيرِ وَإِذَا أَلْحَقْنَا الْجُوعَ بِالْغَضَبِ بَانَ لَنَا أَنَّ الْغَضَبَ لَمْ يَكُنْ مَنَاطًا بَلْ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يُدْهِشُ الْعَقْلَ عَنْ النَّظَرِ، وَعِنْد هَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ لَلْمُنْصِفِ بَيْنَ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ وَتَعْلِيلِ السَّبَبِ، فَإِنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ عَنْ مَحَلِّهِ وَتَقْرِيرِهِ فِي مَحَلِّهِ؛ فَإِنَّا نَقُولُ: حَرَّمَ الشَّرْعُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالْخَمْرُ مَحَلُّ الْحُكْمِ وَنَحْنُ نَطْلُبُ مَنَاطَ الْحُكْمِ وَعِلَّتَهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَتْ لَنَا الشِّدَّةُ عَدَّيْنَاهَا إلَى النَّبِيذِ فَضَمَّنَّا النَّبِيذَ إلَى الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَلَمْ نُغَيِّرْ مِنْ أَمْرِ الْخَمْرِ شَيْئًا، أَمَّا هَهُنَا إذَا قُلْنَا عَلَّقَ الشَّرْعُ الرَّجْمَ بِالزِّنَا لِعِلَّةِ كَذَا فَيُلْحَقُ بِهِ غَيْرُ الزِّنَا يُنَاقِضُ آخِرُ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا إنْ كَانَ مَنَاطًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا فَإِذَا أَلْحَقْنَا بِهِ مَا لَيْسَ بِزِنًا فَقَدْ أَخْرَجْنَا الزِّنَا عَنْ كَوْنِهِ مَنَاطًا، فَكَيْفَ يُعَلَّلُ كَوْنُهُ مَنَاطًا بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَنَاطًا؟ وَالتَّعْلِيلُ تَقْرِيرٌ لَا تَغْيِيرٌ، وَمِنْ ضَرُورَةِ تَعْلِيلِ الْأَسْبَابِ تَغْيِيرُهَا، فَإِنَّك إذَا اعْتَرَفْتَ بِكَوْنِهِ سَبَبًا ثُمَّ أَثْبَت ذَلِكَ الْحُكْمَ بِعَيْنِهِ عِنْدَ فَقْدِ ذَلِكَ السَّبَبِ فَقَدْ نَقَضْتَ قَوْلَكَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ سَبَبٌ، فَإِنَّا إذَا أَلْحَقْنَا الْأَكْلَ بِالْجِمَاعِ بَانَ لَنَا بِالْآخِرَةِ أَنَّ الْجِمَاعَ لَمْ يَكُنْ هُوَ السَّبَبُ بَلْ مَعْنًى أَعَمُّ مِنْهُ وَهُوَ الْإِفْطَارُ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ هَذَا تَعْلِيلًا لَوْ بَقِيَ الْجِمَاعُ مَنَاطًا وَانْضَمَّ إلَيْهِ مَنَاطٌ آخَرُ يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ كَمَا بَقِيَ الْخَمْرُ مَحَلًّا لِلتَّحْرِيمِ وَانْضَمَّ إلَيْهِ مَحَلٌّ آخَرُ وَهُوَ النَّبِيذُ، فَلَمْ يَخْرُجْ الْمَحَلُّ الَّذِي طَلَبْنَا عِلَّةَ حُكْمِهِ عَنْ كَوْنِهِ مَحَلًّا لَكِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ مَحَلٌّ آخَرُ وَهُوَ النَّبِيذُ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْرُجَ الْجِمَاعُ عَنْ كَوْنِهِ مَنَاطًا وَيَنْضَمَّ إلَيْهِ مَنَاطٌ آخَرُ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ بَلْ إلْحَاقُ الْأَكْلِ يُخْرِجُ وَصْفَ الْجِمَاعِ عَنْ كَوْنِهِ مَنَاطًا وَيُوجِبُ حَذْفَهُ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ وَيُوجِبُ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى مَعْنًى آخَرَ حَتَّى يَصِيرَ وَصْفُ الْجِمَاعِ حَشْوًا زَائِدًا وَكَذَلِكَ يَصِيرُ وَصْفُ الزِّنَا حَشْوًا زَائِدًا وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ مَنَاطَ الرَّجْمِ وَصْفٌ زَائِدٌ؛ لِأَنَّ مَنَاطَ الرَّجْمِ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ إيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ حَرَامٍ. فَإِذًا مَهْمَا فُسِّرَ مَذْهَبُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اقْتَضَى الْإِنْصَافَ وَالْمُسَاعَدَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [الرُّكْنُ الرَّابِعُ لِلْقِيَاسِ] الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعِلَّةُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ حُكْمًا كَقَوْلِنَا: بَطَلَ بَيْعُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ حُرِّمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُكْمَ أَيْضًا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مَحْسُوسًا عَارِضًا كَالشِّدَّةِ أَوْ لَازِمًا كَالطَّعْمِ وَالنَّقْدِيَّةِ وَالصِّغَرِ أَوْ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ كَالْقَتْلِ

وَالسَّرِقَةِ أَوْ وَصْفًا مُجَرَّدًا أَوْ مُرَكَّبًا مِنْ أَوْصَافٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا وَغَيْرَ مُنَاسِبٍ أَوْ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ مُنَاسِبَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعِلَّةِ رِقِّ الْوَلَدِ، وَتُفَارِقُ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " التَّهْذِيب " وَلَمْ نَرَ فِيهِ فَائِدَةً؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ مِمَّا لَا نَرَاهَا أَصْلًا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ الْعِلْمُ عِلَّةُ كَوْنِ الْعَالِمَ عَالِمًا لَا كَوْنِ الذَّات عَالِمَةً وَلَا أَنَّ الْعَالِمِيَّةَ وَرَاءَ قِيَامِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ فَلَا وَجْهَ لِهَذَا عِنْدَنَا فِي الْمَعْقُولَاتِ بَلْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ عَالِمًا إلَّا قِيَامُ الْعِلْمِ بِذَاتِهِ، وَأَمَّا الْفِقْهِيَّاتُ فَمَعْنَى الْعِلَّةِ فِيهَا الْعَلَامَةُ، وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَهَا الشَّارِعُ عَلَامَةً فَاَلَّذِي يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي هَذَا الرُّكْنِ كَيْفِيَّةُ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ: وَيَتَهَذَّبُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: تَخَلُّفُ الْحُكْم عَنْ الْعِلَّةِ مَعَ وُجُودِهَا وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالنَّقْضِ وَالتَّخْصِيصِ. وَالثَّانِيَةُ: وُجُودُ الْحُكْمِ دُونَ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالْعَكْسِ وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ يُضَافُ إلَى النَّصِّ أَوْ إلَى الْعِلَّةِ، وَعَنْهُ تَتَشَعَّبُ. الرَّابِعَةُ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ. [مَسْأَلَةٌ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ فَقْدَ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ يُبَيِّنُ فَسَادَ الْعِلَّةِ وَانْتِقَاضَهَا أَوْ يُبْقِيهَا عِلَّةً، وَلَكِنْ يُخَصِّصُهَا بِمَا وَرَاءَ مَوْقِعِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ يَنْقُضُ الْعِلَّةَ وَيُفْسِدُهَا وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً إذْ لَوْ كَانَتْ لَاطَّرَدَتْ وَوُجِدَ الْحُكْمُ حَيْثُ وُجِدَتْ وَقَالَ قَوْمٌ: تَبْقَى عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَ النَّقْضِ وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا يُخَصِّصُهَا كَتَخَلُّفِ حُكْمِ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ بِمَا وَرَاءَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً مَظْنُونَةً انْتَقَضَتْ وَفَسَدَتْ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا تَخَصَّصَتْ وَلَمْ تُنْتَقَضْ وَسَبِيلُ كَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْ الْحَقِّ أَنْ نَقُولَ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ يَعْرِضُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْرِضَ فِي صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ مَا يَمْنَعُ اطِّرَادَهَا وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى نَقْضًا، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَرَدَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ، وَإِلَى مَا لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْهُ فَمَا ظَهَرَ أَنَّهُ وَرَدَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ اسْتِبْقَاءِ الْقِيَاسِ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْقِيَاسِ وَلَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ بَلْ يُخَصِّصُهَا بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَتَكُونُ عِلَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ عَلَى عِلَّةٍ مَقْطُوعَةٍ أَوْ مَظْنُونَةٍ. مِثَالُ الْوَارِدِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَقْطُوعَةِ: إيجَابُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ فَإِنَّ عِلَّةَ إيجَابِ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتْلَفَةِ تُمَاثِلُ الْأَجْزَاءِ وَالشَّرْعُ لَمْ يَنْقُضْ هَذِهِ الْعِلَّةَ إذْ عَلَيْهَا تَعْوِيلُنَا فِي الضَّمَانَاتِ لَكِنْ اسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةَ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لَا يُبَيِّنُ لِلْمُجْتَهِدِ فَسَادَ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَلَّفَ الْمُنَاظِرُ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ حَتَّى يَقُولَ فِي عِلَّتِهِ تَمَاثُلُ أَجْزَاءٍ فِي غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ فَيَقْتَضِي إيجَابَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ قَبِيحٌ وَكَذَلِكَ صُدُورُ الْجِنَايَةِ مِنْ الشَّخْصِ عِلَّةُ وُجُوبِ الْغَرَامَةِ عَلَيْهِ فَوُرُودُ الضَّرْبِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَنْقُضْ هَذِهِ الْعِلَّةَ وَلَمْ يُفْسِدْ هَذَا الْقِيَاسَ لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ هَذِهِ الصُّورَةُ فَتُخُصِّصَتْ الْعِلَّةُ بِمَا وَرَاءَهَا وَمِثَالُ مَا يَرِدُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ مَسْأَلَةُ الْعَرَايَا، فَإِنَّهَا لَا تَنْقُضُ التَّعْلِيلَ بِالطَّعْمِ إذْ فُهِمَ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ لِرُخْصَةِ الْحَاجَةِ وَلَمْ يَرِدْ وُرُودَ النَّسْخِ لِلرِّبَا وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مُسْتَثْنًى أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى عِلَّةِ الْكَيْلِ وَعَلَى كُلِّ عِلَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا عِبَادَةٌ مَفْرُوضَةٌ فَتَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَمْ تُنْتَقَضْ بِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ وَرَدَ عَلَى

خِلَافِ قِيَاسِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَهَلَّ بِإِهْلَالِ زَيْدٍ صَحَّ وَلَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ أَمَّا إذَا لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَرِد عَلَى الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ أَوْ عَلَى الْمَظْنُونَةِ فَإِنْ وَرَدَ عَلَى الْمَنْصُوصَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا إلَّا بِأَنْ يَنْعَطِفَ مِنْهُ قَيْدٌ عَلَى الْعِلَّةِ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَكُنْ تَمَامَ الْعِلَّةِ مِثَالُهُ قَوْلُنَا: " خَارِجٌ " فَيَنْقُضُ الطَّهَارَةَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: «الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ» ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ الْحِجَامَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ بِتَمَامِهَا لَمْ يَذْكُرْهَا، وَأَنَّ الْعِلَّةَ خَارِجٌ مِنْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ بَعْضَ الْعِلَّةِ فَالْعِلَّةُ إنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً وَلَمْ يَرِدْ النَّقْضُ مَوْرِدَ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُتَصَوَّرْ إلَّا كَذَلِكَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَيَجِبُ تَأْوِيلُ التَّعْلِيلِ إذْ قَدْ يَرِدُ بِصِيغَةِ التَّعْلِيلِ مَا لَا يُرَادُ بِهِ التَّعْلِيلُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4] وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُشَاقِقُ اللَّهَ يُخْرِبُ بَيْتَهُ فَتَكُونُ الْعِلَّةُ مَنْقُوضَةً وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ عِلَّةٌ فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ تَهَافُتًا فِي الْكَلَامِ، بَلْ نَقُولُ: تَبَيَّنَ بِآخِرِ الْكَلَامِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْخَرَابِ بَلْ اسْتِحْقَاقُ الْخَرَابِ خَرَّبَ أَوْ لَمْ يُخَرِّبْ أَوْ نَقُولُ: لَيْسَ الْخَرَابُ مَعْلُولًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِكَوْنِهِ خَرَابًا بَلْ لِكَوْنِهِ عَذَابًا وَكُلُّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ مُعَذَّبٌ إمَّا بِخَرَابِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّفْ مِثْلَ هَذَا كَانَ الْكَلَامُ مُنْتَقِضًا أَمَّا إذَا وَرَدَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ لَا فِي مَعْرِضِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَانْقَدَحَ جَوَابٌ عَنْ مَحَلِّ النَّقْضِ مِنْ طَرِيقِ الْإِخَالَةِ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُخَيَّلَةً أَوْ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ إنْ كَانَتْ شَبَهًا فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ تَمَامَ الْعِلَّةِ وَانْعَطَفَ قَيْدٌ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّقْضِ بِهِ يَنْدَفِعُ النَّقْضُ أَمَّا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُخَيَّلَةً وَلَمْ يَنْقَدِحْ جَوَابٌ مُنَاسِبٌ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُعَرِّفًا اخْتِصَاصَ الْعِلَّةِ بِمَجْرَاهَا بِوَصْفٍ مِنْ قَبِيلِ الْأَوْصَافِ الشَّبَهِيَّةِ يَفْصِلُهَا عَنْ غَيْرِ مَجْرَاهَا فَهَذَا الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُهِمٌّ فِي الْجَدَلِ لِلْمُتَنَاظِرِينَ لَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ النَّاظِرَ مَاذَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ: الِانْتِقَاضَ وَالْفَسَادَ أَوْ التَّخْصِيصَ؟ هَذَا عِنْدِي فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَيَتْبَعُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا: صَوْمُ رَمَضَانَ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَنْعَطِفُ عَلَى مَا مَضَى وَصَوْمُ جَمِيعِ النَّهَارِ وَاجِبٌ، وَإِنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَنْتَقِضُ هَذَا بِالتَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ وَلَا يَتَجَزَّأُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ وَلَا مُبَالَاةَ بِمَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ صَائِمٌ بَعْضَ النَّهَارِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْقَدِحَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فَسَادُ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِسَبَبِ التَّطَوُّعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْقَدِحَ لَهُ أَنَّ التَّطَوُّعَ وَرَدَ مُسْتَثْنًى رُخْصَةً لِتَكْثِيرِ النَّوَافِلِ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ سَامَحَ فِي النَّفْلِ بِمَا لَمْ يُسَامِحْ بِهِ الْفَرْضَ فَالْمُخَيَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَرْضِ وَيَكُونُ وَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ فَاصِلًا بَيْنَ مَجْرَى الْعِلَّةِ وَمَوْقِعِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ وَصْفًا شَبَهِيًّا اُعْتُبِرَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُخَيَّلِ وَتَمَيَّزَ مَجْرَاهُ عَنْ مَوْقِعِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ قِيَاسَ الشَّبَهِ جَوَّزَ الِاحْتِرَازَ عَنْ النَّقْضِ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ، فَأَكْثَرُ الْعِلَلِ الْمُخَيَّلَةِ خَصَّصَ الشَّرْعُ اعْتِبَارَهَا بِمَوَاضِعَ لَا يَنْقَدِحُ فِي تَعْيِينِ الْمَحَلِّ مَعْنًى مُنَاسِبٌ عَلَى مَذَاقِ أَصْلِ الْعِلَّةِ وَهَذَا التَّرَدُّدُ إنَّمَا يَنْقَدِحُ فِي مَعْنًى مُؤَثِّرٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ فَإِنَّ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْقِيَاسِ مُؤَثِّرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ قَوْلِنَا إنَّ كُلَّ الْيَوْمِ وَاجِبٌ وَإِنَّ النِّيَّةَ عَزْمٌ لَا يَنْعَطِفُ عَلَى الْمَاضِي، وَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُنَاسِبَةً بِحَيْثُ تَفْتَقِرُ إلَى أَصْلٍ يُسْتَشْهَدُ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْهَدُ

لِصِحَّتِهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى وَفْقهِ فَتُنْتَقَضُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ الْمَعْنَى إنْ دَلَّ عَلَى الْتِفَاتِ الشَّرْعِ فَقَطْعُ الْحُكْمِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِ الشَّرْعِ؛ وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَنَا أَتَّبِعُهُ إلَّا فِي مَحَلِّ إعْرَاضِ الشَّرْعِ بِالنَّصِّ، لَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ قَالَ: أَعْرِضُ عَنْهُ إلَّا فِي مَحَلِّ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ يَجُوزُ أَنْ يُصَرِّحَ الشَّرْعُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاسْتِثْنَاءِ صُورَةِ حُكْمٍ عَنْهَا، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ وَاحْتُمِلَ نَفْيُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ قَطْعِيَّةً كَانَ تَنْزِيلُهَا عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ التَّنْزِيلِ عَلَى نَسْخِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَظْنُونَةً وَلَا مُسْتَنَدَ لِلظَّنِّ إلَّا إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ عَلَى وَفْقِهَا فَيَنْقَطِعُ هَذَا الظَّنُّ بِإِعْرَاضِ الشَّرْعِ عَنْ اتِّبَاعِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً مُؤَثِّرَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. الْوَجْهُ الثَّانِي لِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْعِلَّةِ: أَنْ يَنْتَفِيَ لَا لِخَلَلٍ فِي نَفْسِ الْعِلَّةِ، لَكِنْ يَنْدَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى دَافِعَةٍ. مِثَالُهُ قَوْلُنَا: إنَّ عِلَّةَ رِقِّ الْوَلَد مِلْكُ الْأُمِّ ثُمَّ الْمَغْرُورُ بِحُرِّيَّةِ جَارِيَةٍ يَنْعَقِدُ وَلَدُهُ حُرًّا وَقَدْ وُجِدَ رِقُّ الْأُمِّ وَانْتَفَى رِقُّ الْوَلَدِ، لَكِنَّ هَذَا انْعِدَامٌ بِطَرِيقِ الِانْدِفَاعِ بِعِلَّةٍ دَافِعَةٍ مَعَ كَمَالِ الْعِلَّةِ الْمُرِقَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْغُرْمَ يَجِبُ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَلَوْلَا أَنَّ الرِّقَّ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ الْمُنْدَفِعِ لَمَا وَجَبَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ فَهَذَا النَّمَطُ لَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْمُنَاظِرِ وَلَا يُبَيِّنُ لِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَسَادًا فِي الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا كَأَنَّهُ حَاصِلٌ تَقْدِيرًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ مَائِلًا عَنْ صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ وَيَكُونُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلَّهَا أَوْ شَرْطَهَا أَوْ أَهْلَهَا، كَقَوْلِنَا: السَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي النَّبَّاشِ فَلْيَجِبْ الْقَطْعُ. فَقِيلَ: يَبْطُلُ بِسَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَسَرِقَةِ الصَّبِيِّ وَالسَّرِقَةُ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ، وَنَقُولُ: الْبَيْعُ عِلَّةُ الْمِلْكِ وَقَدْ جَرَى فَلْيَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ. فَقِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ بِبَيْعِ الْمُسْتَوْلَدَةِ وَالْمَوْقُوفِ وَالْمَرْهُونِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَهَذَا جِنْسٌ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ دُونَ شَرْطِهَا وَمَحَلِّهَا فَهُوَ مَائِلٌ عَنْ صَوْبِ نَظَرِهِ. أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ أَوْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْعُذْرُ بِأَنَّ هَذَا مُنْحَرِفٌ عَنْ مَقْصَدِ النَّظَرِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْمَحَلِّ وَالشَّرْطِ؟ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِيهِ وَالْخَطْبُ فِيهِ يَسِيرٌ، فَالْجَدَلُ شَرِيعَةٌ وَضَعَهَا الْجَدَلِيُّونَ، وَإِلَيْهِمْ وَضْعُهَا كَيْف شَاءُوا وَتَكَلُّفُ الِاحْتِرَازِ أَجْمَعُ لِنَشْرِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: بَيْعٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَصَادَفَ مَحَلَّهُ وَجَمَعَ شَرْطَهُ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ، وَيَقُولُ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فَيُفِيدُ الْقَطْعَ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ النَّقْضَ إذَا وَرَدَ عَلَى صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ، وَكَانَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ لَمْ يُقْبَلْ، فَبِمَ يُعْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَا مِنْ مُعَلِّلٍ يَرِدُ عَلَيْهِ نَقْضٌ إلَّا وَهُوَ يَدَّعِي ذَلِكَ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يُعَانِدُ نَفْسَهُ فَيَتَّبِعُ فِيهِ مُوجِبَ ظَنِّهِ، وَأَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ اضْطِرَارَ الْخَصْمِ إلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ قِيَاسَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ يُوجِبُ افْتِقَارَ الْحَجِّ إلَى التَّعْيِينِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِهِ أَيْضًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ إبْرَازُ قِيَاسٍ سِوَى مَسْأَلَةِ النَّقْضِ عَلَى قِيَاسِ نَفْسِهِ كَانَتْ عِلَّتُهُ الْمُطَّرِدَةُ أَوْلَى مِنْ عِلَّتِهِ الْمَنْقُوضَةِ وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْمُعَلِّلِ

أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ فَإِنْ قِيلَ فَحَيْثُ أَوْرَدْتُمْ مَسْأَلَةَ الْمُصَرَّاةِ مِثَالًا فَهَلْ تَقُولُونَ إنَّ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ وَهِيَ تَمَاثُلُ الْأَجْزَاءِ لَكِنْ انْدَفَعَ الْحُكْمُ بِمَانِعِ النَّصِّ كَمَا تَقُولُونَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ؟ قُلْنَا: لَا. لِأَنَّ التَّمَاثُلَ لَيْسَ عِلَّةً لِذَاتِهِ بَلْ بِجَعْلِ الشَّرْعِ إيَّاهُ عَلَامَةً عَلَى الْحُكْمِ فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ لَمْ يَجْعَلْهُ عَلَامَةً فَلَمْ يَكُنْ عِلَّةً كَمَا أَنَّا لَا نَقُولُ الشِّدَّةَ الْمَوْجُودَةَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانَتْ عِلَّةً لَكِنْ لَمْ يُرَتِّبْ الشَّرْعُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بَلْ مَا صَارَتْ عِلَّةً إلَّا حَيْثُ جَعَلَهَا الشَّرْعُ عِلَّةً وَمَا جَعَلَهَا عِلَّةً إلَّا بَعْدَ نَسْخِ إبَاحَةِ الشُّرْبِ، فَكَذَلِكَ التَّمَاثُلُ لَيْسَ عِلَّةً فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ ثَابِتٌ تَقْدِيرًا وَكَأَنَّهُ ثَبَتَ ثُمَّ انْدَفَعَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُنْقَطِعِ لَا فِي حُكْمِ الْمُمْتَنِعِ، وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً ثُمَّ مَاتَ فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ لَقُضِيَ مِنْهُ دُيُونُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهُ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الشَّبَكَةِ سَبَبُ مِلْكِ النَّاصِبِ لِلصَّيْدِ وَلَكِنَّ الْمَوْتَ حَالَةَ تَعَقُّلِ الصَّيْدِ دَفَعَ الْمِلْكَ فَتَلَقَّاهُ الْوَارِثُ وَهُوَ فِي حُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَيِّتِ الْمُنْتَقِلِ إلَى الْوَارِثِ، فَلْيُفْهَمْ دَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ التَّمَاثُلُ عِلَّةً فِي الْمُصَرَّاةِ فَقَدْ انْعَطَفَ بِهِ قَيْدٌ عَلَى التَّمَاثُلِ، أَفَتَقُولُونَ: الْعِلَّةُ فِي غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ التَّمَاثُلُ الْمُطْلَقُ أَوْ تَمَاثُلٌ مُضَافٌ إلَى غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ هُوَ مُطْلَقُ التَّمَاثُلِ وَمُجَرَّدُهُ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْمُصَرَّاةِ وَلَا حُكْمَ، وَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ تَمَاثُلٌ مُضَافٌ فَلْيَجِبْ عَلَى الْمُعَلِّلِ الِاحْتِرَازُ فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ التَّمَاثُلَ الْمُطْلَقَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْعِلَّةِ إذْ لَيْسَتْ الْعِلَّةُ مُجَرَّدَ التَّمَاثُلِ بَلْ التَّمَاثُلُ مَعَ قَيْدِ الْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ وَعِنْدَ هَذَا يَكُونُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْعِلَّةِ وَلَا تَخْصِيصًا، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: اُقْتُلُوا زَيْدًا لِسَوَادِهِ. اقْتَضَى ظَاهِرُهُ قَتْلَ كُلِّ أَسْوَدَ فَلَوْ ظَهَرَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ أَنَّهُ لَيْسَ يُقْتَلُ إلَّا زَيْدٌ فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تَكُنْ السَّوَادَ الْمُطْلَقَ بَلْ سَوَادُ زَيْدٍ وَسَوَادُ زَيْدٍ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي زَيْدٍ فَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ غَيْرُهُ فَلِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِخُصُوصِ الْعِلَّةِ وَلَا لِانْتِفَاضِهَا وَلَا لِاسْتِثْنَائِهَا عَنْ الْعِلَّةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مَنْشَأُ تَخَبُّطِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَسَبَبُ غُمُوضِهَا أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي تَسْمِيَةِ مُطْلَقِ التَّمَاثُلِ عِلَّةً قَبْلَ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ تُسَمَّى عِلَّةً بِأَيِّ اعْتِبَارٍ وَقَدْ أَطْلَقَ النَّاسُ اسْمَ الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِهَا ثُمَّ تَنَازَعُوا فِي تَسْمِيَةِ مِثْلِ هَذَا عِلَّةً وَفِي تَسْمِيَةِ مُجَرَّدِ السَّبَبِ عِلَّةً دُونَ الْمَحْمَلِ وَالشَّرْطِ. فَنَقُولُ: اسْمُ الْعِلَّةِ مُسْتَعَارٌ فِي الْعَلَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ اسْتَعَارُوهَا مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ عَلَى أَوْجُهٍ مُخْتَلِفَةٍ. الْأَوَّلِ: الِاسْتِعَارَةُ مِنْ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُوجِبُ الْحُكْمَ لِذَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُسَمَّى التَّمَاثُلُ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُسَمَّى السَّوَادُ عِلَّةً بَلْ سَوَادُ زَيْدٍ وَلَا تُسَمَّى الشِّدَّةُ الْمُجَرَّدَةُ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بَلْ شِدَّةٌ فِي زَمَانٍ. الثَّانِي: الِاسْتِعَارَةُ مِنْ الْبَوَاعِثِ، فَإِنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْفِعْلِ يُسَمَّى عِلَّةَ الْفِعْلِ فَمَنْ أَعْطَى فَقِيرًا فَيُقَالُ: أَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ فَلَوْ عُلِّلَ بِهِ ثُمَّ مَنَعَ فَقِيرًا آخَرَ فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تُعْطِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ؟ فَيَقُولُ: لِأَنَّهُ عَدُوِّي. وَمَنَعَ فَقِيرًا ثَالِثًا وَقَالَ: لِأَنَّهُ مُعْتَزِلِيٌّ فَلِذَلِكَ لَمْ أُعْطِهِ. فَمَنْ تَغَلَّبَ عَلَى عَجْرَفَةِ الْكَلَامِ وَجَدَلِهِ فَقَدْ يَقُولُ: أَخْطَأْتَ فِي تَعْلِيلِكَ الْأَوَّلِ فَكَانَ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَقُولَ: أَعْطَيْتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَلَيْسَ عَدُوًّا وَلَا هُوَ مُعْتَزِلِيٌّ، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا أَصْلُ الْفِطْرَةِ وَطَبْعُ الْمُحَاوَرَةِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدَّهُ مُتَنَاقِضًا وَجَوَّزَ أَنْ يَقُولَ أَعْطَيْتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ؛ لِأَنَّ بَاعِثَهُ هُوَ الْفَقْرُ، وَقَدْ لَا يَحْضُرُهُ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ الْعَدَاوَةُ وَالِاعْتِزَالُ وَلَا انْتِفَاؤُهُمَا وَلَوْ كَانَا جُزْأَيْنِ

مِنْ الْبَاعِثِ لَمْ يَنْبَعِثْ إلَّا عِنْدَ حُضُورِهِمَا فِي ذِهْنِهِ وَقَدْ انْبَعَثَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ إلَّا مُجَرَّدُ الْفَقْرِ، فَمَنْ جَوَّزَ تَسْمِيَةَ الْبَاعِثِ لَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ مُجَرَّدَ التَّمَاثُلِ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَبْعَثُنَا عَلَى إيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا إضَافَتُهُ إلَى غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا تَحْضُرُنَا مَسْأَلَةُ الْمُصَرَّاةِ أَصْلًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ لِاسْمِ الْعِلَّةِ عِلَّةُ الْمَرِيضِ وَمَا يُظْهِرُ الْمَرَضَ عِنْدَهُ كَالْبُرُودَةِ، فَإِنَّهَا عِلَّةُ الْمَرَضِ مَثَلًا، وَالْمَرَضُ يَظْهَرُ عَقِيبَ غَلَبَةِ الْبُرُودَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبُرُودَةِ بَلْ رُبَّمَا يَنْضَافُ إلَيْهَا مِنْ الْمِزَاجِ الْأَصْلِيِّ أُمُورٌ مَثَلًا كَالْبَيَاضِ، لَكِنْ انْضَافَ الْمَرَضُ إلَى الْبُرُودَةِ الْحَادِثَةِ؛ وَكَمَا يَنْضَافُ الْهَلَاكُ إلَى اللَّطْمِ الَّذِي تَحْصُلُ التَّرْدِيَةُ بِهِ فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ اللَّطْمِ لَا يُهْلِكُ دُونَ الْبِئْرِ لَكِنْ يُحَالُ بِالْحُكْمِ عَلَى اللَّطْمِ لَا عَلَى التَّرْدِيَةِ الَّتِي ظَهَرَ بِهَا الْهَلَاكُ دُونَ مَا تَقَدَّمَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ سَمَّى الْفُقَهَاءُ الْأَسْبَابَ عِلَلًا فَقَالُوا: عِلَّةُ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ وَعِلَّةُ الْقَطْعِ السَّرِقَةُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى الْمَحَلِّ وَالشَّرْطِ؛ فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى التَّمَاثُلُ الْمُطْلَقُ عِلَّةً وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْمَأْخَذُ فَمَنْ قَالَ: مُجَرَّدُ التَّمَاثُلِ: هَلْ هُوَ عِلَّةٌ؟ فَيُقَالُ لَهُ: مَا الَّذِي تَفْهَمُ مِنْ الْعِلَّةِ وَمَا الَّذِي تَعْنِي بِهَا؟ فَإِنْ عَنَيْتَ بِهَا الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ فَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ طَبْعُ الْكَلَامِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً وَقَالَ: يَصِيرُ التَّخْصِيصُ قَيْدًا مَضْمُومًا إلَى الْعِلَّةِ وَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْعِلَّةُ، وَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ وَفَاءٌ بِالْعِلَّةِ وَلَيْسَ بِنَقْضٍ لَهَا. وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ الْبَاعِثَ أَوْ مَا يَظْهَرُ الْحُكْمُ بِهِ عِنْدَ النَّاظِرِ وَإِنْ غَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ عِلَّةً. هَذَا حُكْمُ النَّظَرِ فِي التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ، أَمَّا الِاحْتِرَازُ فِي الْجَدَلِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلِاصْطِلَاحِ، وَيَقْبُحُ أَنْ يُكَلَّفَ الِاحْتِرَازَ فِيهِ فَيَقُولَ: تَمَاثُلٌ فِي غَيْرِ الْمُصَرَّاةِ وَشِدَّةٌ فِي غَيْرِ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ إنْ أُخِذَتْ مِنْ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحَلِّ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ مَعْنًى، بَلْ الْعِلَّةُ الْمَجْمُوعُ وَالْمَحَلُّ وَالْأَهْلُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْعَلَامَةُ وَإِنَّمَا الْعَلَامَةُ جُمْلَةُ الْأَوْصَافِ وَالْإِضَافَاتِ. نَعَمْ لَا يُنْكَرُ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فِي أَحْكَامِ الضَّمَانِ وَغَيْرِهَا إذْ يَحِلُّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْدِي دُونَ الْحَافِرِ وَإِنْ كَانَ الْهَلَاكُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا لِنَوْعٍ مِنْ التَّرْجِيحِ، وَكَذَلِكَ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، لَكِنْ رُبَّمَا لَا يَنْقَدِحُ لِلْمُجْتَهِدِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَيَرَاهَا مُتَفَاوِتَةً فِي مُنَاسَبَةِ الْحُكْمِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا الِاصْطِلَاحُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ الْبَعْضِ بِالْمَحَلِّ وَعَنْ الْبَعْضِ بِرُكْنِ الْعِلَّةِ. وَهَذَا فِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الْغَلِيلِ وَلَمْ نُورِدْهُ هَهُنَا؛ لِأَنَّهَا مَبَاحِثُ فِقْهِيَّةٌ قَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي الْفِقْهِ فَلَا نُطَوِّلُ الْأُصُولَ بِهَا [مَسْأَلَةٌ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَامَةٌ وَلَا يَمْتَنِعُ نَصْبُ عَلَامَتَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ هَذَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَدَلِيلُ جَوَازِهِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ مَنْ لَمَسَ وَمَسَّ وَبَالَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ وَلَا يُحَالُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَمَنْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةُ أَخِيكَ وَأُخْتُكَ أَيْضًا أَوْ جُمِعَ لَبَنُهُمَا وَانْتَهَى إلَى حَلْقِ الْمُرْضَعِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّكَ خَالُهَا وَعَمُّهَا، وَالنِّكَاحُ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَتَحْرِيمُهُ حُكْمٌ

وَاحِدٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحِلَّ عَلَى الْخُؤُولَةِ دُونَ الْعُمُومَةِ أَوْ بِعَكْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُمَا تَحْرِيمَانِ وَحُكْمَانِ، بَلْ التَّحْرِيمُ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ مِثْلَيْنِ. نَعَمْ لَوْ فُرِضَ رَضَاعٌ وَنَسَبٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَجَّحَ النَّسَبُ لِقُوَّتِهِ، أَوْ اجْتَمَعَ رِدَّةٌ وَعِدَّةٌ وَحَيْضٌ فَيُحَرَّمُ الْوَطْءُ فَيَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ تَعْدِيدُ التَّحْرِيمَاتِ، وَلَوْ قَتَلَ وَارْتَدَّ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمُسْتَحَقُّ قَتْلَانِ وَلَوْ قَتَلَ شَخْصَيْنِ، فَكَذَلِكَ وَلَوْ بَاعَ حُرًّا بِشَرْطِ خِيَارٍ مَجْهُولٍ رُبَّمَا قِيلَ: عِلَّةُ الْبُطْلَانِ الْحُرِّيَّةُ دُونَ الْخِيَارِ. فَهَذِهِ أَوْهَامٌ رُبَّمَا تَنْقَدِحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَإِنَّمَا فَرَضْنَاهُ فِي اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْخُؤُولَةِ وَالْعُمُومَةِ لِدَفْعِ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى إمْكَانِ نَصْبِ عَلَامَتَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ وَعَلَى وُقُوعِهِ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قَاسَ الْمُعَلِّلُ عَلَى أَصْلٍ بِعِلَّةٍ فَذَكَر الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى فِي الْأَصْلِ بَطَلَ قِيَاسُ الْمُعَلِّلِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ عِلَّتَيْنِ فَلِمَ يُقْبَلُ هَذَا الِاعْتِرَاضُ؟ فَنَقُولُ: إنَّمَا يَبْطُلُ بِهِ اسْتِشْهَادُهُ بِالْأَصْلِ إنْ كَانَتْ عِلَّتُهُ ثَابِتَةً بِطَرِيقِ الْمُنَاسَبَةِ الْمُجَرَّدَةِ دُونَ التَّأْثِيرِ أَوْ بِطَرِيقِ الْعَلَامَةِ الشَّبَهِيَّةِ، أَمَّا إنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّأْثِيرِ أَعْنِي مَا دَلَّ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً فَاقْتِرَانُ عِلَّةٍ أُخْرَى بِهَا لَا يُفْسِدُهَا كَالْبَوْلِ وَالْمَسِّ وَالْخُؤُولَةِ وَالْعُمُومَةِ فِي الرَّضَاعِ، إذْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عِلَّةٌ عَلَى حِيَالِهَا، أَمَّا إذَا كَانَ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَةِ الْحُكْمِ وَالْمُنَاسَبَةِ انْقَطَعَ الظَّنُّ بِظُهُورِ عِلَّةٍ أُخْرَى. مِثَالُهُ: أَنَّ مَنْ أَعْطَى إنْسَانًا فَوَجَدْنَاهُ فَقِيرًا ظَنَنَّا أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِفَقْرٍ وَعَلَّلْنَا بِهِ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ قَرِيبًا عَلَّلْنَا بِالْقَرَابَةِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَنَا الْفَقْرُ بَعْدَ الْقَرَابَةِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْطَاءُ لِلْفَقْرِ لَا لِلْقَرَابَةِ أَوْ يَكُونَ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فَيَزُولَ ذَلِكَ الظَّنُّ؛ لِأَنَّ تَمَامَ ذَلِكَ الظَّنِّ بِالسَّبْرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَاعِثٍ عَلَى الْعَطَاءِ، وَلَا بَاعِثَ إلَّا الْفَقْرُ فَإِذًا هُوَ الْبَاعِثُ، أَوْ لَا بَاعِثَ إلَّا الْقَرَابَةُ فَإِذًا هُوَ الْبَاعِثُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةٌ أُخْرَى بَطَلَتْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ السَّبْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بَاعِثَ إلَّا كَذَا، وَكَذَلِكَ عَتَقَتْ بَرِيرَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ خَيَّرَهَا لِمِلْكِهَا نَفْسَهَا وَلِزَوَالِ قَهْرِ الرِّقِّ عَنْهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ مَقْهُورَةً فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ فَيُبْنَى عَلَيْهِ تَخْيِيرُهَا وَإِنْ عَتَقَتْ تَحْتَ حُرٍّ، فَقُلْنَا: الْعِلَّةُ خَيَّرَهَا لِتَضَرُّرِهَا بِالْمُقَامِ تَحْتَ عَبْدٍ وَلَا يَجْرِي ذَلِكَ فِي الْحُرِّ فَكَيْفَ يَلْحَقُ بِهِ؟ وَإِمْكَانُ هَذَا يَقْدَحُ فِي الظَّنِّ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَيْهِ إلَّا الْمُنَاسَبَةُ؛ وَدَفْعُ الضَّرَرِ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لَيْسَتْ الْحَوَالَةُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ هَذَا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَأَمَّا مِثَالُ الْعَلَامَةِ الشَّبَهِيَّةِ فَعِلَّةُ الرِّبَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُوتِ وَالطَّعْمِ وَالْكَيْلِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عِلَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بَلْ طَرِيقُهُ إظْهَارُ الضَّرُورَةِ فِي طَلَبِ عَلَامَةٍ ضَابِطَةٍ مُمَيِّزَةٍ مَجْرَى الْحُكْمِ عَنْ مَوْقِعِهِ، إذْ جَرَى الرِّبَا فِي الْخُبْزِ وَالْعَجِينِ مَعَ زَوَالِ اسْمِ الْبُرِّ فَلَا يَتِمُّ النَّظَرُ إلَّا بِقَوْلِنَا: وَلَا بُدَّ مِنْ عَلَامَةٍ، وَلَا عَلَامَةَ أَوْلَى مِنْ الطَّعْمِ، فَإِذًا هُوَ الْعَلَامَةُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عَلَامَةٌ أُخْرَى مُسَاوِيَةٌ بَطَلَتْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ النَّظَرِ فَانْقَطَعَ الظَّنُّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَعْلِيلٍ يَفْتَقِرُ إلَى السَّبْرِ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ اتِّحَادُ الْعِلَّةِ وَإِلَّا انْقَطَعَ شَهَادَةُ الْحُكْمِ لِلْعِلَّةِ، وَمَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى السَّبْرِ كَالْمُؤَثِّرِ فَوُجُودُ عِلَّةٍ أُخْرَى لَا يَضُرُّ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي خَوَاصِّ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مَعْنَى لَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلٍ. وَقَبْلَ التَّفْصِيلِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَلَامَاتِ الشَّرْعِيَّةَ دَلَالَاتٌ، فَإِذَا جَازَ اجْتِمَاعُ

دَلَالَاتٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ بَعْضِهَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لَكِنَّا نَقُولُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحُكْمِ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَالْعَكْسُ لَازِمٌ. لَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ، بَلْ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، فَإِذَا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ وَانْتَفَتْ فَلَوْ بَقِيَ الْحُكْمُ لَكَانَ ثَابِتًا بِغَيْرِ سَبَبٍ، أَمَّا حَيْثُ تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْعِلَلِ، بَلْ عِنْدَ انْتِفَاءِ جَمِيعِهَا. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْعَكْسِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ أَنَّا إذَا قُلْنَا: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا لِلشَّرِيكِ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ مِنْ التَّزَاحُمِ عَلَى الْمَرَافِقِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْمَطْبَخِ وَالْخَلَاءِ وَالْمَطْرَحِ لِلتُّرَابِ وَمِصْعَدِ السَّطْحِ وَغَيْرِهِ فَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ فَإِنَّ الشُّفْعَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْعَرْصَةِ الْبَيْضَاءِ وَمَا لَا مَرَافِقَ لَهُ، فَهَذَا الْآنَ عَكْسٌ وَهُوَ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا مَنَاطًا لِلْحُكْمِ لَانْتَفَى الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، فَنَقُولُ: السَّبَبُ فِيهِ ضَرَرُ مُزَاحَمَةِ الشَّرِكَةِ. فَتَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَثَبَتَ فِي شَرِكَةِ الْعَبِيدِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمَنْقُولَاتِ، فَإِنْ قُلْنَا: ضَرَرُ الشَّرِكَةِ فِيمَا يَبْقَى وَيَتَأَبَّدُ. فَيَقُولُ: فَلْتَجُزْ فِي الْحَمَّامِ الصَّغِيرِ وَمَا لَا يَنْقَسِمُ، فَلَا يَزَالُ يُؤَاخِذُنَا بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَهِيَ مُؤَاخَذَةٌ صَحِيحَةٌ إلَى أَنْ نُعَلِّلَ بِضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَنَأْتِيَ بِتَمَامِ قُيُودِ الْعِلَّةِ بِحَيْثُ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا، وَهَذَا لِمَكَانِ أَنَّا أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْعِلَّةَ بِالْمُنَاسَبَةِ وَشَهَادَةِ الْحُكْمِ لَهَا لِوُرُودِهِ عَلَى وَفْقِهَا، وَشَرْطُ مِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الِاتِّحَادُ وَشَرْطُ الِاتِّحَادِ الْعَكْسُ. فَإِنْ قِيلَ: وَلَفْظُ الْعَكْسِ هَلْ يُرَادُ بِهِ مَعْنًى سِوَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ؟ قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَشْهَرُ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقِ التَّوَهُّمِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقَتْلُ بِصَغِيرِ الْمُثْقَلِ لَمْ يَجِبْ بِكَبِيرِهِ بِدَلِيلِ عَكْسِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِكَبِيرِ الْجَارِحِ وَجَبَ بِصَغِيرِهِ؛ وَقَالُوا: لَمَّا سَقَطَ بِزَوَالِ الْعَقْلِ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ بِرُجُوعِ الْعَقْلِ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِكُلِّ جَارِحٍ وَإِنْ صَغُرَ ثُمَّ يُخَصَّصُ فِي الْمُثْقَلِ بِالْكَبِيرِ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ شَرْطًا فِي الْعِبَادَاتِ ثُمَّ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُهُ لِلْوُجُوبِ بَلْ يَسْتَدْعِي شَرْطًا آخَرَ. [مَسْأَلَةٌ الْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ صَحِيحَةٌ] وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى إبْطَالِهَا. وَنَحْنُ نَقُولُ: أَوَّلًا يَنْظُرُ النَّاظِرُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْعِلَّةِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا بِالْإِيمَاءِ أَوْ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوْ تَضَمُّنِ الْمَصْلَحَةِ الْمُبْهَمَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْ النَّصِّ عَدَّى حُكْمَهَا وَإِلَّا اقْتَصَرَ، فَالتَّعْدِيَةُ فَرْعُ الصِّحَّةِ فَكَيْف يَكُونُ مَا يَتْبَعُ الشَّيْءَ مُصَحِّحًا لَهُ؟ فَإِنْ قِيلَ: كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يُرَادُ لِلْمِلْكِ؛ وَالنِّكَاحَ لِلْحِلِّ فَإِذَا تَخَلَّفَتْ فَائِدَتُهُمَا قِيلَ: إنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ تُرَادُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِهَا كَانَتْ بَاطِلَةً لِخُلُوِّهَا عَنْ الْفَائِدَةِ. وَلِلْجَوَابِ مَنْهَجَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نُسَلِّمَ عَدَمَ الْفَائِدَةِ، وَنَقُولَ: إنْ عَنَيْتُمْ بِالْبُطْلَانِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِالصِّحَّةِ إلَّا أَنَّ النَّاظِرَ يَنْظُرُ وَيَطْلُبُ الْعِلَّةَ وَلَا نَدْرِي أَنَّ مَا سَيُفْضِي إلَيْهِ نَظَرُهُ قَاصِرٌ أَوْ مُتَعَدٍّ وَيُصَحِّحُ الْعِلَّةَ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَضَمُّنِ مَصْلَحَةٍ ثُمَّ يَعْرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعَدِّيَهُ أَوْ قُصُورَهُ فَمَا ظَهَرَ مِنْ قُصُورِهِ لَا يَنْعَطِفُ فَسَادًا عَلَى مَأْخَذِ ظَنِّهِ وَنَظَرِهِ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ قَلْبِهِ مَا قَرَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ التَّعْلِيلِ، فَإِذَا فَسَّرْنَا الصِّحَّةَ بِهَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُمْكِنْ جَحْدُهُ وَإِذَا فَسَّرُوا الْبُطْلَانَ بِمَا ذَكَرُوهُ لَمْ نَجْحَدْهُ وَارْتَفَعَ

الْخِلَافُ. الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْفَائِدَةِ بَلْ لَهُ فَائِدَتَانِ: الْأُولَى مَعْرِفَةُ بَاعِثِ الشَّرْعِ وَمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ اسْتِمَالَةً لِلْقُلُوبِ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالْقَوْلِ بِالطَّبْعِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى التَّصْدِيقِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ إلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى ذَوْقِ الْمَصَالِحِ أَمْيَلُ مِنْهَا إلَى قَهْرِ التَّحَكُّمِ وَمَرَارَةِ التَّعَبُّدِ، وَلِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ اُسْتُحِبَّ الْوَعْظُ وَذِكْرُ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَلَطَائِفِ مَعَانِيهَا، وَكَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مُطَابِقَةً لِلنَّصِّ وَعَلَى قَدْرِ حَذْقِهِ يَزِيدُهَا حُسْنًا وَتَأْكِيدًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمُنَاسِبِ دُونَ الْأَوْصَافِ الشَّبَهِيَّةِ مِثْلَ النَّقْدِيَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَقَدْ جَوَّزْتُمْ التَّعْلِيلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ. قُلْنَا: تَعْرِيفُ الْأَحْكَامِ بِمَعَانٍ تُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى مَصْلَحَةٍ وَمُنَاسَبَةٍ أَقْرَبُ إلَى الْعُقُولِ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِمُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ إلَى الْأَسَامِي فَلَا تَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ، ثُمَّ إنْ لَمْ تَجْرِ هَذِهِ الْفَائِدَةُ فِي الْعِلَّةِ الشَّبَهِيَّةِ فَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ جَارِيَةٌ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ مِنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ ظُهُورِ عِلَّةٍ أُخْرَى مُتَعَدِّيَةٍ إلَّا بِشَرْطِ التَّرْجِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: تَمْتَنِعُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ لَا بِظُهُورِ عِلَّةٍ قَاصِرَةٍ بَلْ بِأَنْ لَا تَظْهَرَ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ؟ وَإِنْ ظَهَرَتْ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ بَلْ يُعَلَّلُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ وَفِي الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ؟ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ عِلَّةٍ مُخِيلَةٍ أَوْ شَبَهِيَّةٍ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْحُكْمِ وَتَتِمُّ بِالسَّبْرِ وَشَرْطُهُ الِاتِّحَادُ كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةٌ أُخْرَى انْقَطَعَ الظَّنُّ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ يَجِبُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فَإِنْ أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ عَارَضَتْ الْمُتَعَدِّيَةَ وَدَفَعَتْهَا إلَّا إذَا اخْتَصَّتْ الْمُتَعَدِّيَةُ بِنَوْعِ تَرْجِيحٍ، فَإِذَا أَفَادَتْ الْقَاصِرَةُ دَفْعَ الْمُتَعَدِّيَةِ الَّتِي تُسَاوِيهَا وَالْمُتَعَدِّيَةُ دَفْعَ الْقَاصِرَةِ وَتَقَاوَمَا بَقِيَ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى النَّصِّ وَلَوْلَا الْقَاصِرَةُ لَتَعَدَّى الْحُكْمُ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تَصِحُّ الْعِلَّةُ بِفَائِدَتِهَا الْخَاصَّةِ. وَفَائِدَةُ الْعِلَّةِ الْحُكْمُ بِالْفَرْعِ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ، إنَّمَا الَّذِي يُثْبِتُ الْعِلَّةَ حُكْمُ الْفَرْعِ إذْ فَائِدَتُهَا تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ تَعْدِيَةٌ فَلَا حُكْمَ لِلْعِلَّةِ. قُلْنَا: قَوْلُكُمْ فَائِدَةُ الْعِلَّةِ حُكْمُ الْفَرْعِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ طَعْمُ الْبُرِّ وَلَا تُحَرَّمُ الذُّرَةُ بِطَعْمِ الْبُرِّ بَلْ بِطَعْمِ الذُّرَةِ، فَحُكْمُ الْفَرْعِ فَائِدَةُ عِلَّةٍ فِي الْفَرْعِ لَا فَائِدَةُ عِلَّةٍ فِي الْأَصْلِ. وَقَوْلُكُمْ: حُكْمُهَا التَّعْدِيَةُ مُحَالٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْدِيَةِ تَجَوُّزٌ وَاسْتِعَارَةٌ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ لَا يَتَعَدَّى الْأَصْلَ إلَى الْفَرْعِ بَلْ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ عِنْدَ وُجُودِ مِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فَلَا حَقِيقَةَ لِلتَّعَدِّي. وَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا النَّظَرِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فَالْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ أَوْ إلَى النَّصِّ؟ فَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُضَافُ إلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْمَنْصُوصِ وَالْعِلَّةُ مَظْنُونَةٌ فَكَيْفَ يُضَافُ مَقْطُوعٌ إلَى مَظْنُونٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ. وَهُوَ نِزَاعٌ لَا تَحْقِيقَ تَحْتَهُ، فَإِنَّا لَا نَعْنِي بِالْعِلَّةِ إلَّا بَاعِثَ الشَّرْعِ عَلَى الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ جَمِيعَ الْمُسْكِرَاتِ بِأَسْمَائِهَا فَقَالَ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ وَالنَّبِيذَ، وَكَذَا، وَكَذَا، وَنَصَّ عَلَى جَمِيعِ مَجَارِي الْحُكْمِ لَكَانَ اسْتِيعَابُهُ مَجَارِيَ الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نَظُنَّ أَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ الْإِسْكَارُ، فَنَقُولُ: الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَى الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ بِالنَّصِّ وَلَكِنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ مُعَلَّلَةٌ بِالشِّدَّةِ بِمَعْنَى أَنَّ بَاعِثَ الشَّرْعِ عَلَى التَّحْرِيمِ هُوَ الشِّدَّةُ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مَظْنُونٌ. فَنَقُولُ: وَنَحْنُ لَا نَزِيدُ عَلَى أَنْ نَقُولَ: نَظُنُّ أَنَّ بَاعِثَ الشَّرْعِ الشِّدَّةُ، فَلَا يَسْقُطُ هَذَا الظَّنُّ بِاسْتِيعَابِ مَجَارِي الْحُكْمِ وَلَا حَجْرَ عَلَيْنَا فِي أَنْ نُصَدِّقَ فَنَقُولَ: إنَّمَا نَظُنُّ

كَذَا مَهْمَا ظَنَنَّا ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الظَّنُّ جَهْلٌ إنَّمَا يَجُوزُ لِضَرُورَةِ الْعَمَلِ وَالْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَيْهَا بِرَجْمِ الظُّنُونِ وَعِنْدَ هَذَا كَاعَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَقَالَ: إنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً جَازَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ كَالسَّرِقَةِ مَثَلًا وَإِلَّا فَلَا. وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الظَّنِّ لِلْفَائِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا اسْتِمَالَةُ الْقُلُوبِ إلَى حُسْنِ التَّصْدِيقِ وَالِانْقِيَادِ، وَأَكْثَرُ الْمَوَاعِظِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ظَنِّيَّةٌ وَخُلِقَتْ طِبَاعُ الْآدَمِيِّينَ مُطِيعَةً لِلظُّنُونِ بَلْ لِلْأَوْهَامِ، وَأَكْثَرُ بَوَاعِثِ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ فِي مَصَادِرهِمْ وَمَوَارِدِهِمْ ظُنُونٌ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: مُدَافَعَةُ الْعِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ لَهُ كَمَا سَبَقَ. [خَاتِمَةٌ فِيمَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ قَطْعًا وَمَا يُفْسِدُهَا ظَنًّا وَاجْتِهَادًا] خَاتِمَةٌ لِهَذَا الْبَابِ: فِيمَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ قَطْعًا وَمَا يُفْسِدُهَا ظَنًّا وَاجْتِهَادًا. وَمُثَارَاتُ فَسَادِ الْعِلَلِ الْقَطْعِيَّةِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: الْأَصْلُ، وَشُرُوطُهُ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَإِنْ كَانَ عَقْلِيًّا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّلَ بِعِلَّةٍ تُثْبِتُ حُكْمًا سَمْعِيًّا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَإِنْ كَانَ مَقِيسًا عَلَى أَصْلٍ فَهُوَ فَرْعٌ فَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ قَطْعًا إنْ لَمْ يَكُنْ الْجَامِعُ هُوَ عِلَّةُ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ تِلْكَ الْعِلَّةَ فَتَعْيِينُ الْفَرْعِ مَعَ إمْكَانِ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ عَبَثٌ بِلَا فَائِدَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قَابِلًا لِلتَّعْلِيلِ لَا كَوُجُوبِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَتَقْدِيرِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَأَمْثَالِهِ، وَكَانَ هَذَا فَاسِدًا مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْهُ غَيْرَ مَنْسُوخٍ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ كَانَ أَصْلًا وَلَيْسَ هُوَ الْآنَ أَصْلًا، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيَاسُ رَمَضَانَ عَلَى صَوْمِ عَاشُورَاءَ فِي التَّبْيِيتِ، فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ وُجُوبَهُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَسَلَّمَ افْتِقَارَهُ إلَى التَّبْيِيتِ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهِ عَلَى رَمَضَانَ الَّذِي أَبْدَلَ وُجُوبَ عَاشُورَاءَ بِهِ؛ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ نَفْسُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ نَقِيسُ فِي الْوُجُوبِ لَكِنْ فِي مَأْخَذِ دَلَالَةِ الْوُجُوبِ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى التَّبْيِيتِ، وَهَذَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ. الْمَثَارُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْفَرْعِ وَلَهُ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ خِلَافُ حُكْمِ الْأَصْلِ مِثَالُهُ قَوْلُهُ: بَلَغَ رَأْسُ الْمَالِ فِي السَّلَمِ أَقْصَى مَرَاتِبِ الْأَعْيَانِ فَلْيَبْلُغْ بِعِوَضِهِ أَقْصَى مَرَاتِبِ الدُّيُونِ قِيَاسًا لِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ صُورَةِ الْقِيَاسِ إذْ الْقِيَاسُ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ وَلَيْسَ هَذَا تَعْدِيَةً. الثَّانِي أَنْ تَثْبُتَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ حُكْمًا مُطْلَقًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ إلَّا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صُورَةِ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ قِيَاسًا. مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ: شُرِعَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ رُكُوعٌ زَائِدٌ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ فَتَخْتَصُّ بِزِيَادَةٍ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالتَّكْبِيرَاتِ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يُتَمَكَّنُ مِنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِهِ وَتَفْصِيلِهِ. الثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ اسْمًا لُغَوِيًّا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللُّغَةَ لَا تُثْبِتُ قِيَاسًا وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ وَرُبَّمَا جَعَلَهَا قَوْمٌ مَسْأَلَةً اجْتِهَادِيَّةً. وَإِثْبَاتُ اسْمِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْخَمْرِ لِلَّائِطِ وَالنَّبَّاشِ وَالنَّبِيذِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَكَانَ هَذَا بِالْمَثَارِ الْأَوَّلِ أَلْيَقَ.

الْمَثَارُ الثَّالِثُ أَنْ يَرْجِعَ الْفَسَادُ إلَى طَرِيقِ الْعِلَّةِ وَهُوَ عَلَى أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ انْتِفَاءُ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى فَسَادِهَا فَمَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا فَقِيَاسُهُ بَاطِلٌ قَطْعًا وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَدَلَّ بِمُجَرَّدِ الِاطِّرَادِ إنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ سَبْرٌ وَرُبَّمَا رَأَى بَعْضُهُمْ إبْطَالَ الطَّرْدِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. الثَّانِي أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ. الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ دَافِعَةً لِلنَّصِّ وَمُنَاقِضَةً لِحُكْمٍ مَنْصُوصٍ فَالْقِيَاسُ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَكَذَا عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ مَا يُخَالِفُ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِغَيْرِ الْإِسْكَارِ الْمُثِيرِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلَيْسَ التَّعْلِيلُ بِالْكَيْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِنْ دُفِعَ قَوْلُهُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ عِلَّةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ مَعَ تَقْرِيرِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ عِلَّةٍ أُخْرَى وَلِذَلِكَ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا عَلَّلَ بِهِ الصَّحَابَةُ إذَا لَمْ تُدْفَعْ عِلَّتُهُمْ إذْ لَمْ يَكُنْ فَرْضُ الصَّحَابَةِ اسْتِنْبَاطَ جَمِيعِ الْعِلَلِ. الْمَثَارُ الرَّابِعُ: وَضْعُ الْقِيَاسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْقِيَاسِ أَوْ أَصْلَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ فَقَاسَ الرِّوَايَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَكَذَلِكَ الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا بِالْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ، فَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيهَا وَضْعٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. هَذِهِ الْمُفْسِدَاتُ الْقَطْعِيَّةُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي الْمُفْسِدَاتِ الظَّنِّيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ: الَّتِي نَعْنِي بِفَسَادِهَا أَنَّهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا وَفِي حَقِّنَا إذْ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى ظَنِّنَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ، وَمَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فَيَقُولُ هِيَ فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا بِالْإِضَافَةِ، إلَّا أَنِّي أُجَوِّزُ أَنْ أَكُونَ أَنَا الْمُخْطِئُ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ لَا تَأْثِيمَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَمَنْ خَالَفَ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ فَهُوَ آثِمٌ. وَهَذِهِ الْمُفْسِدَاتُ تِسْعٌ: الْأَوَّلُ: الْعِلَّةُ الْمَخْصُومَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، صَحِيحَةٌ عِنْدَ مَنْ يَبْقَى ظَنُّهُ مَعَ التَّخْصِيصِ. الثَّانِي: عِلَّةٌ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ هِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ رَأَى تَقْدِيمَ الْعُمُومِ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّالِثُ: عِلَّةٌ عَارَضَتْهَا عِلَّةٌ تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، صَحِيحَةٌ عِنْدَ مَنْ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَهُمَا عَلَامَتَانِ لِحُكْمَيْنِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدَيْنِ وَفِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي حَالَتَيْنِ فَإِنْ اجْتَمَعَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ نَقُولُ: إنَّهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ كَمَا سَيَأْتِي. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهَا إلَّا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ وَقَدْ يُقَالُ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ الِاطِّرَادِ فَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ. السَّادِسُ: الْقِيَاسُ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا مَا يُظَنُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ. السَّابِعُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ انْتِزَاعُ الْعِلَّةِ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ وَلَا يَبْعُدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَسَادُهُ مَقْطُوعًا بِهِ. الثَّامِنُ: عِلَّةٌ تُخَالِفُ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ مَسْأَلَةً اجْتِهَادِيَّةً فَهَذَا مُجْتَهِدٌ فِيهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ: بُطْلَانُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ مَقْطُوعٌ بِهِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مَظْنُونًا

مَقْطُوعًا بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ خِلَافًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذِهِ هِيَ الْمُفْسِدَاتُ، وَوَرَاءَ هَذَا اعْتِرَاضَاتٌ مِثْلَ الْمَنْعِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْكَسْرِ وَالْفَرْقِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَالتَّعْدِيَةِ وَالتَّرْكِيبِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ تَصْوِيبُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ انْطَوَى تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ نَظَرٌ جَدَلِيٌّ يَتْبَعُ شَرِيعَةَ الْجَدَلِ الَّتِي وَضَعَهَا الْجَدَلِيُّونَ بِاصْطِلَاحِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَشِحَّ عَلَى الْأَوْقَاتِ أَنْ تُضَيِّعَهَا بِهَا، وَتَفْصِيلُهَا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا فَائِدَةٌ مِنْ ضَمِّ نَشْرِ الْكَلَامِ وَرَدِّ كَلَامِ الْمُنَاظِرِينَ إلَى مَجْرَى الْخِصَامِ كَيْ لَا يَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ عَرْضًا وَطُولًا فِي كَلَامِهِ مُنْحَرِفًا عَنْ مَقْصِدِ نَظَرِهِ، فَهِيَ لَيْسَتْ فَائِدَةً مِنْ جِنْسِ أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ هِيَ مِنْ عِلْمِ الْجَدَلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُفْرَدَ بِالنَّظَرِ وَلَا تُمْزَجَ بِالْأُصُولِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا تَذْلِيلُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ لِلْمُجْتَهِدِينَ. وَهَذَا آخِرُ الْقُطْبِ الثَّالِثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى طُرُقِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ إمَّا مِنْ صِيغَةِ اللَّفْظِ وَمَوْضُوعِهِ أَوْ إشَارَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَمَعْقُولِهِ وَمَعْنَاهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقُطْبُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْمِرِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدِ] [الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي الِاجْتِهَادِ] [النَّظَرِ الْأَوَّل فِي أَرْكَانِ الإجتهاد وَأَحْكَامِهِ] الْقُطْبُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْمِرِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ. وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْقُطْبُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: فَنٌّ فِي الِاجْتِهَادِ، وَفَنٌّ فِي التَّقْلِيدِ، وَفَنٌّ فِي تَرْجِيحِ الْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا عَلَى دَلِيلٍ عِنْدَ التَّعَارُضِ. الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي أَرْكَانِهِ وَأَحْكَامِهِ أَمَّا أَرْكَانُهُ فَثَلَاثَةٌ: الْمُجْتَهِدُ، وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ، وَنَفْسُ الِاجْتِهَادِ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَجَهْدٌ، فَيُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ حَجَرِ الرَّحَا، وَلَا يُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ، لَكِنْ صَارَ اللَّفْظُ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ مَخْصُوصًا بِبَذْلِ الْمُجْتَهِدِ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. وَالِاجْتِهَادُ التَّامُّ أَنْ يَبْذُلَ الْوُسْعَ فِي الطَّلَبِ بِحَيْثُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ الرُّكْنُ الثَّانِي الْمُجْتَهِدُ وَلَهُ شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِمَدَارِكِ الشَّرْعِ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِثَارَةِ الظَّنِّ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُجْتَنِبًا لِلْمَعَاصِي الْقَادِحَةِ فِي الْعَدَالَةِ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى فَتْوَاهُ فَمَنْ لَيْسَ عَدْلًا فَلَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ، أَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَلَا، فَكَأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ الْقَبُولِ لِلْفَتْوَى لَا شَرْطُ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ. فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَكُونُ مُحِيطًا بِمَدَارِكِ الشَّرْعِ؟ وَمَا تَفْصِيلُ الْعُلُومِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِتَحْصِيلِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْفَتْوَى بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَدَارِكَ الْمُثْمِرَةَ لِلْأَحْكَامِ، وَأَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِثْمَارِ. وَالْمَدَارِكُ الْمُثْمِرَةُ لِلْأَحْكَامِ كَمَا فَصَّلْنَاهَا أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْعَقْلُ. وَطَرِيقُ الِاسْتِثْمَارِ يَتِمُّ بِأَرْبَعَةِ عُلُومٍ اثْنَانِ مُقَدَّمَانِ وَاثْنَانِ مُتَمِّمَانِ وَأَرْبَعَةٌ فِي الْوَسَطِ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ فَلْنُفَصِّلْهَا وَلْنُنَبِّهْ فِيهَا عَلَى دَقَائِقَ أَهْمَلَهَا الْأُصُولِيُّونَ. أَمَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الْأَصْلُ وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ أَمْرَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ بَلْ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْهُ وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ. الثَّانِيَ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوَاضِعِهَا بِحَيْثُ

يَطْلُبُ فِيهَا الْآيَةَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى أُلُوفٍ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ وَفِيهَا التَّخْفِيفَانِ الْمَذْكُورَانِ إذْ لَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالْمَوَاعِظِ وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِهَا. الثَّانِي، لَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ بَلْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ مُصَحَّحٌ لِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ لِأَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ، أَوْ أَصْلٌ وَقَعَتْ الْعِنَايَةُ فِيهِ بِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ. وَيَكْفِيهِ أَنْ يَعْرِفَ مَوَاقِعَ كُلِّ بَابٍ فَيُرَاجِعَهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَى الْفَتْوَى، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَكْمَلُ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَوَاقِعُ الْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِهَا. وَالتَّخْفِيفُ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ بَلْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ يُفْتِي فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَتْوَاهُ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ؛ إمَّا بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ مَذْهَبًا مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَيِّهِمْ كَانَ، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ فِي الْعَصْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيهَا خَوْضٌ، فَهَذَا الْقَدْرُ فِيهِ كِفَايَةٌ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَنَعْنِي بِهِ مُسْتَنَدَ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لِلْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ قَدْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَعَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ عَنْهَا مِنْ صُوَرٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا أَمَّا مَا اسْتَثْنَتْهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْمُسْتَثْنَاةُ مَحْصُورَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ إلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيَّرُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ فَيَأْخُذَ فِي طَلَبِ النُّصُوصِ، وَفِي مَعْنَى النُّصُوصِ الْإِجْمَاعُ وَأَفْعَالُ الرَّسُولِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ. هَذِهِ الْمَدَارِكُ الْأَرْبَعَةُ، فَأَمَّا الْعُلُومُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي بِهَا يَعْرِفُ طُرُقَ الِاسْتِثْمَارِ، فَعِلْمَانِ مُقَدَّمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَشُرُوطِهَا الَّتِي بِهَا تَصِيرُ الْبَرَاهِينُ وَالْأَدِلَّةُ مُنْتِجَةً، وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا تَعُمُّ الْمَدَارِكَ الْأَرْبَعَةَ وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ عَلَى وَجْهٍ يَتَيَسَّرُ لَهُ بِهِ فَهْمُ خِطَابِ الْعَرَبِ وَهَذَا يَخُصُّ فَائِدَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ تَفْصِيلٌ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ وَتَثْقِيلٌ، أَمَّا تَفْصِيلُ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَقْسَامَ الْأَدِلَّةِ وَأَشْكَالَهَا وَشُرُوطَهَا، فَيَعْلَمَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ ثَلَاثَةٌ: عَقْلِيَّةٌ تَدُلُّ لِذَاتِهَا، وَشَرْعِيَّةٌ صَارَتْ أَدِلَّةً بِوَضْعِ الشَّرْعِ، وَوَضْعِيَّةٌ وَهِيَ الْعِبَارَاتُ اللُّغَوِيَّةُ. وَيَحْصُلُ تَمَامُ الْمَعْرِفَةِ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْأُصُولِ مِنْ مَدَارِكِ الْعُقُولِ لَا بِأَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شُرُوطَ الْأَدِلَّةِ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ وَلَا حَقِيقَةَ الشَّرْعِ وَلَمْ يَعْرِفْ مُقَدِّمَةَ الشَّارِعِ وَلَا عَرَفَ مَنْ أَرْسَلَ الشَّارِعَ. ثُمَّ قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَافْتِقَارَهُ إلَى مُحْدِثٍ مَوْصُوفٍ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مُنَزَّهٍ عَمَّا يَسْتَحِيلُ وَأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ عِبَادَهُ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَتَصْدِيقِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلْيَكُنْ عَارِفًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَتِهِ، وَالتَّخْفِيفُ فِي هَذَا عِنْدِي أَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ إذْ بِهِ يَصِيرُ مُسْلِمًا وَالْإِسْلَامُ شَرْطُ الْمُفْتِي لَا مَحَالَةَ. فَأَمَّا مُجَاوَزَةُ حَدِّ التَّقْلِيدِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا لِذَاتِهِ، لَكِنَّهُ يَقَعُ مِنْ ضَرُورَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلْمِ إلَّا وَقَدْ قَرَعَ سَمْعَهُ أَدِلَّةُ خَلْقِ الْعَالَمِ وَأَوْصَافُ الْخَالِقِ وَبَعْثَةُ الرُّسُلِ وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ، وَذَلِكَ مُحَصِّلٌ لِلْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ مُجَاوِزٌ بِصَاحِبِهِ حَدَّ التَّقْلِيدِ

وَإِنْ لَمْ يُمَارِسْ صَاحِبُهُ صَنْعَةَ الْكَلَامِ فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ مُقَلِّدٌ مَحْضٌ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ لَجَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَعِلْمُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، أَعْنِي الْقَدْرَ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ خِطَابُ الْعَرَبِ وَعَادَتُهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بَيْنَ صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ وَنَصِّهِ وَفَحْوَاهُ وَلَحْنِهِ وَمَفْهُومِهِ. وَالتَّخْفِيفُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْخَلِيلِ وَالْمُبَرِّدِ وَأَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ اللُّغَةِ وَيَتَعَمَّقَ فِي النَّحْوِ، بَلْ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَسْتَوْلِي بِهِ عَلَى مَوَاقِعِ الْخِطَابِ وَدَرْكِ حَقَائِقِ الْمَقَاصِدِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْعِلْمَانِ الْمُتَمِّمَانِ فَأَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ فِي آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ مَخْصُوصَةٍ. وَالتَّخْفِيفُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ عَلَى حِفْظِهِ بَلْ كُلُّ وَاقِعَةٍ يُفْتِي فِيهَا بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَتِلْكَ الْآيَةِ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْسُوخِ وَهَذَا يَعُمُّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. الثَّانِي وَهُوَ يَخُصُّ السُّنَّةَ: مَعْرِفَةُ الرِّوَايَةِ وَتَمْيِيزُ الصَّحِيحِ مِنْهَا عَنْ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُولِ عَنْ الْمَرْدُودِ، فَإِنَّ مَا لَا يَنْقُلُهُ الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَالتَّخْفِيفُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ يُفْتِي بِهِ مِمَّا قَبِلَتْهُ الْأُمَّةُ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى النَّظَرِ فِي إسْنَادِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ رُوَاتَهُ وَعَدَالَتَهُمْ فَإِنْ كَانُوا مَشْهُورِينَ عِنْدَهُ كَمَا يَرْوِيهِ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَثَلًا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ النَّاسِ عَدَالَتُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ. وَالْعَدَالَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْخِبْرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ، فَمَا نَزَلَ عَنْهُ فَهُوَ تَقْلِيدٌ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَلِّدَ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا فِي أَخْبَارِ الصَّحِيحَيْنِ وَأَنَّهُمَا مَا رَوَوْهَا إلَّا عَمَّنْ عَرَفُوا عَدَالَتَهُ فَهَذَا مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ، وَإِنَّمَا يَزُولُ التَّقْلِيدُ بِأَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَ الرُّوَاةِ بِتَسَامُعِ أَحْوَالِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي سِيَرِهِمْ أَنَّهَا تَقْتَضِي الْعَدَالَةَ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ طَوِيلٌ وَهُوَ فِي زَمَانِنَا مَعَ كَثْرَةِ الْوَسَائِطِ عَسِيرٌ، وَالتَّخْفِيفُ فِيهِ أَنْ يُكْتَفَى بِتَعْدِيلِ الْإِمَامِ الْعَدْلَ بَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي التَّعْدِيلِ مَذْهَبٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا يُعَدَّلُ بِهِ وَيُجَرَّحُ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَنَا بِزَمَانٍ امْتَنَعَتْ الْخِبْرَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ فِي حَقِّهِ وَلَوْ شُرِطَ أَنْ تَتَوَاتَرَ سِيرَتُهُ فَذَلِكَ لَا يُصَادَفُ إلَّا فِي الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، فَيُقَلِّدُ فِي مَعْرِفَةِ سِيرَتِهِ عَدْلًا فِيمَا يُخْبِرُ فَنُقَلِّدُهُ فِي تَعْدِيلِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا صِحَّةَ مَذْهَبِهِ فِي التَّعْدِيلِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا لِلْمُفْتِي الِاعْتِمَادَ عَلَى الْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ارْتَضَى الْأَئِمَّةُ رُوَاتَهَا قَصُرَ الطَّرِيقُ عَلَى الْمُفْتِي وَإِلَّا طَالَ الْأَمْرُ وَعَسُرَ الْخَطْبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَعَ كَثْرَةِ الْوَسَائِطِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ يَزْدَادُ شِدَّةً بِتَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ. فَهَذِهِ هِيَ الْعُلُومُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي يُسْتَفَادُ بِهَا مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ، وَمُعْظَمُ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ فُنُونٍ: عِلْمُ الْحَدِيثِ وَعِلْمُ اللُّغَةِ وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ. فَأَمَّا الْكَلَامُ وَتَفَارِيعُ الْفِقْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِمَا، وَكَيْفَ يَحْتَاجُ إلَى تَفَارِيعِ الْفِقْهِ وَهَذِهِ التَّفَارِيعُ يُوَلِّدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ وَيَحْكُمُونَ فِيهَا بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ؟ فَكَيْفَ تَكُونُ شَرْطًا فِي مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ، وَتَقَدُّمُ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهَا شَرْطٌ؟ نَعَمْ إنَّمَا يَحْصُلُ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ، فَهُوَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ الْآنَ سُلُوكُ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا. دَقِيقَةٌ فِي التَّخْفِيفِ يَغْفُلُ عَنْهَا الْأَكْثَرُونَ: اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْعُلُومِ الثَّمَانِيَةِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي

حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ عِنْدِي مَنْصِبًا لَا يَتَجَزَّأُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْعَالِمِ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ، فَمَنْ عَرَفَ طَرِيقَ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، فَمَنْ يَنْظُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ النَّفْسِ عَارِفًا بِأُصُولِ الْفَرَائِضِ وَمَعَانِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَّلَ الْأَخْبَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرَاتِ أَوْ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، فَلَا اسْتِمْدَادَ لِنَظَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهَا وَلَا تَعَلُّقَ لِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِهَا، فَمِنْ أَيْنَ تَصِيرُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا أَوْ الْقُصُورُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا نَقْصًا؟ وَمَنْ عَرَفَ أَحَادِيثَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ وَطَرِيقَ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَمَا يَضُرُّهُ قُصُورُهُ عَنْ عِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُعَرِّفُ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وَقِسْ عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي أَنْ يُجِيبَ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي. وَكَمْ تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بَلْ الصَّحَابَةُ فِي الْمَسَائِلِ فَإِذًا لَا يُشْتَرَطُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يُفْتِي فَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا لَا يَدْرِي وَبَيْنَ مَا يَدْرِي فَيَتَوَقَّفُ فِيمَا لَا يَدْرِي وَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي [مَسْأَلَةٌ جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ] الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُجْتَهَدُ فِيهِ وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ. وَاحْتَرَزْنَا بِالشَّرْعِيِّ عَنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَمَسَائِلِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ وَالْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئَ آثِمٌ. وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْمُجْتَهَدِ فِيهِ مَا لَا يَكُونُ الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمًا؛ وَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَوَاتِ وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ جَلِيَّاتِ الشَّرْعِ فِيهَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ يَأْثَمُ فِيهَا الْمُخَالِفُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ. فَهَذِهِ هِيَ الْأَرْكَانُ، فَإِذَا صَدَرَ الِاجْتِهَادُ التَّامُّ مِنْ أَهْلِهِ وَصَادَفَ مَحَلَّهُ، كَانَ مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ حَقًّا وَصَوَابًا كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ ظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّ شَرْطَ الْمُجْتَهِدِ أَنْ لَا يَكُونَ نَبِيًّا فَلَمْ يُجَوِّزُوا الِاجْتِهَادَ لِلنَّبِيِّ، وَأَنَّ شَرْطَ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يَقَعَ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ؛ فَنَرْسُمُ فِيهِ مَسْأَلَتَيْنِ: مَسْأَلَةً اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَنَعَهُ قَوْمٌ وَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ لِلْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فِي غَيْبَتِهِ لَا فِي حُضُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ بِالْإِذْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكْفِي سُكُوتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ فِي وُقُوعِهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَضْرَتِهِ وَغَيْبَتِهِ وَأَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِالْإِذْنِ أَوْ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعَبُّدِ بِهِ اسْتِحَالَةٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا يُفْضِي إلَى مُحَالٍ وَلَا إلَى مَفْسَدَةٍ. وَإِنْ أَوْجَبْنَا الصَّلَاحَ فَيَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ لُطْفًا يَقْتَضِي ارْتِبَاطَ صَلَاحِ الْعِبَادِ بِتَعَبُّدِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ لَهُمْ عَلَى قَاطِعٍ لَبَغَوْا وَعَصَوْا. فَإِنْ قِيلَ: الِاجْتِهَادُ مَعَ النَّصِّ مُحَالٌ وَتَعَرُّفُ الْحُكْمِ بِالنَّصِّ بِالْوَحْيِ الصَّرِيحِ مُمْكِنٌ فَكَيْف يَرُدُّهُمْ إلَى وَرْطَةِ الظَّنِّ؟ قُلْنَا: فَإِذَا قَالَ لَهُمْ: أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُكُمْ وَقَدْ تَعَبَّدَكُمْ بِالِاجْتِهَادِ، فَهَذَا نَصٌّ. وَقَوْلُهُمْ: الِاجْتِهَادُ مَعَ النَّصِّ مُحَالٌ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَنْزِلْ نَصٌّ فِي الْوَاقِعَةِ، وَإِمْكَانُ النَّصِّ لَا يُضَادُّ الِاجْتِهَادَ وَإِنَّمَا يُضَادُّهُ نَفْسُ النَّصِّ كَيْف وَقَدْ تَعَبَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَضَاءِ بِقَوْلِ الشُّهُودِ حَتَّى قَالَ: «إنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؟»

وَكَانَ يُمْكِنُ نُزُولُ الْوَحْيِ بِالْحَقِّ الصَّرِيحِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إلَى رَجْمٍ بِالظَّنِّ وَخَوْفِ الْخَطَأِ. فَأَمَّا وُقُوعُهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي غَيْبَتِهِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ مُعَاذٍ فَأَمَّا فِي حَضْرَتِهِ فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلِيلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «اُحْكُمْ فِي بَعْضِ الْقَضَايَا. فَقَالَ: أَجْتَهِدُ وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنْ أَصَبْتَ فَلَكَ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ» وَقَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَلِرَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ «اجْتَهِدَا فَإِنْ أَصَبْتُمَا فَلَكُمَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتُمَا فَلَكُمَا حَسَنَةٌ» قُلْنَا: حَدِيثُ مُعَاذٍ مَشْهُورٌ قَبِلَتْهُ الْأُمَّةُ، وَهَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تَثْبُتُ وَإِنْ ثَبَتَتْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِمَا أَوْ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا فِي زَمَانِهِ. [مَسْأَلَةٌ النَّبِيِّ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي النَّبِيِّ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؟ وَالنَّظَرُ فِي الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ، وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعَبُّدِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ فِي ذَاتِهِ وَلَا يُفْضِي إلَى مُحَالٍ وَمَفْسَدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَانِعُ مِنْهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِكْشَافِ الْحُكْمِ بِالْوَحْيِ الصَّرِيحِ فَكَيْفَ يَرْجُمُ بِالظَّنِّ؟ قُلْنَا: فَإِذَا اسْتَكْشَفَ فَقِيلَ لَهُ حَكَمْنَا عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ وَأَنْتَ مُتَعَبِّدٌ بِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُنَازِعَ اللَّهَ فِيهِ أَوْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ صَلَاحَهُ فِيمَا تُعُبِّدَ بِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ نَصٌّ قَاطِعٌ يُضَادُّ الظَّنَّ وَالظَّنُّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ. قُلْنَا: إذَا قِيلَ لَهُ ظَنُّكَ عَلَامَةُ الْحُكْمِ فَهُوَ يَسْتَيْقِنُ الظَّنَّ وَالْحُكْمَ جَمِيعًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ كَظَنِّهِ صِدْقَ الشُّهُودِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مُزَوِّرًا فِي الْبَاطِنِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ سَاوَاهُ غَيْرُهُ فِي كَوْنِهِ مُصِيبًا بِكُلِّ حَالٍ فَلْيَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يُخَالِفَ قِيَاسَهُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ. قُلْنَا: لَوْ تُعُبِّدَ بِذَلِكَ لَجَازَ، وَلَكِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ اجْتِهَادِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ الْأُمَّةِ كَافَّةً، وَكَمَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْخَلْقِ فِي اتِّبَاعِ رَأْيِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ وَكَافَّةِ الْأُمَّةِ فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ. وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ يُرَجَّحُ اجْتِهَادُهُ لِكَوْنِهِ مَعْصُومًا عَنْ الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَلَكِنْ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِمُخَالَفَةِ اجْتِهَادِهِ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الِاتِّبَاعَ وَيُنَفِّرُ عَنْ الِانْقِيَادِ؟ قُلْنَا: إذَا عَرَّفَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِأَنَّ حُكْمَهُمْ اتِّبَاعُ ظَنِّهِمْ وَإِنْ خَالَفَ ظَنَّ النَّبِيِّ كَانَ اتِّبَاعُهُ فِي امْتِثَالِ مَا رَسَمَهُ لَهُمْ كَمَا فِي الْقَضَاءِ بِالشُّهُودِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَضَى النَّبِيُّ بِشَهَادَةِ شَخْصَيْنِ لَمْ يُعْرَفْ فِسْقُهُمَا فَشَهِدَا عِنْدَ حَاكِمٍ عَرَفَ فِسْقَهُمَا لَمْ يَقْبَلْهُمَا وَأَمَّا التَّنْفِيرُ فَلَا يَحْصُلُ بَلْ تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ فِيهِ كَمُخَالَفَتِهِ فِي الشَّفَاعَةِ، وَفِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَاسَ فَرْعًا عَلَى أَصْلٍ أَفَيَجُوزُ إيرَادُ الْقِيَاسِ عَلَى فَرْعِهِ أَمْ لَا؟ إنْ قُلْتُمْ: لَا. فَمُحَالٌ لِأَنَّهُ صَارَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ. فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْفَرْعِ؟ قُلْنَا: يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ فَرْعٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِأَصْلٍ لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ، فَلَا يُنْظَرُ إلَى مَأْخَذِهِمْ؛ وَمَا أَلْحَقَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ عِلَّةُ الْأَصْلِ. أَمَّا الْوُقُوعُ فَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ وَتَوَقَّفَ فِيهِ فَرِيقٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ قَاطِعٌ. احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِأَنَّهُ عُوتِبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَسَارَى بَدْرٍ وَقِيلَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]

وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ» لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَشَارَ بِالْقَتْلِ وَلَوْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِالنَّصِّ لَمَا عُوتِبَ. قُلْنَا: لَعَلَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بِالنَّصِّ فِي إطْلَاقِ الْكُلِّ أَوْ قَتْلِ الْكُلِّ أَوْ فِدَاءِ الْكُلِّ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِتَعْيِينِ الْإِطْلَاقِ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ عَنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَ الْعِتَابُ مَعَ الَّذِينَ عَيَّنُوا لَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُولَئِكَ خَاصَّةً. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» قَالَ الْعَبَّاسُ إلَّا الْإِذْخِرَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إلَّا الْإِذْخِرَ " وَقَالَ فِي الْحَجِّ: " هُوَ لِلْأَبَدِ وَلَوْ قُلْتُ لِعَامِنَا لَوَجَبَ، «وَنَزَلَ مَنْزِلًا لِلْحَرْبِ فَقِيلَ لَهُ: إنْ كَانَ بِوَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ فَهُوَ مَنْزِلُ مَكِيدَةٍ، فَقَالَ: بَلْ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ» فَرَحَلَ. قُلْنَا: أَمَّا الْإِذْخِرُ فَلَعَلَّهُ كَانَ نَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنْ لَا يُسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ إلَّا عِنْدَ قَوْلِ الْعَبَّاسِ أَوْ كَانَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرًا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ الْعَبَّاسِ وَأَمَّا الْحَجُّ فَمَعْنَاهُ: لَوْ قُلْتُ لِعَامِنَا لَمَا قُلْتُهُ إلَّا عَنْ وَحْيٍ وَلَوَجَبَ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا الْمَنْزِلُ فَذَلِكَ اجْتِهَادٌ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أُمُورِ الدِّينِ. احْتَجَّ الْمُنْكِرُونَ لِذَلِكَ بِأُمُورٍ: أَحَدِهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَأَجَابَ عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ وَلَمَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ. الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَاسْتَفَاضَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ اجْتِهَادُهُ وَيَتَغَيَّرَ فَيُتَّهَمَ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الرَّأْي. قُلْنَا: أَمَّا انْتِظَارُ الْوَحْيِ فَلَعَلَّهُ كَانَ حَيْثُ لَمْ يَنْقَدِحْ لَهُ اجْتِهَادٌ أَوْ فِي حُكْمٍ لَا يَدْخُلهُ الِاجْتِهَادُ أَوْ نُهِيَ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. وَأَمَّا الِاسْتِفَاضَةُ بِالنَّقْلِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ النَّاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ إذَا لَمْ يَنْزِلْ نَصٌّ وَكَانَ يَنْزِلُ النَّصُّ فَيَكُونُ كَمَنْ تَعَبَّدَ بِالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ إنْ مَلَكَ النِّصَابَ وَالزَّادَ فَلَمْ يَمْلِكْ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا. وَأَمَّا التُّهْمَةُ بِتَغَيُّرِ الرَّأْيِ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهَا، فَقَدْ اُتُّهِمَ بِسَبَبِ النَّسْخِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحَالَةِ النَّسْخِ، كَيْفَ وَقَدْ عُوِّضَ هَذَا الْكَلَامُ بِجِنْسِهِ فَقِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ لَفَاتَهُ ثَوَابُ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَكَانَ ثَوَابُ الْمُجْتَهِدِينَ أَجْزَلَ مِنْ ثَوَابِهِ؟ وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ تَحَمُّلِ الرِّسَالَةِ وَالْأَدَاءِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ ثَوَابٍ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِوَضْعِ الْعِبَادَاتِ وَنَصْبِ الزَّكَوَاتِ وَتَقْدِيرَاتِهَا بِالِاجْتِهَادِ؟ قُلْنَا: لَا مُحِيلَ لِذَلِكَ وَلَا يُفْضِي إلَى مُحَالٍ وَمَفْسَدَةٍ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاحَ عِبَادِهِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ رَسُولِهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَبْنِيًّا عَلَى الصَّلَاحِ. وَمَنَعَ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا وَقَالُوا: إنْ وَافَقَ ظَنُّهُ الصَّلَاحَ فِي الْبَعْضِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُوَافِقَ الْجَمِيعَ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ فِي اجْتِهَادِ رَسُولِهِ مَا فِيهِ صَلَاحُ عِبَادِهِ، هَذَا هُوَ الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ أَمَّا وُقُوعُهُ فَبَعِيدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ عَنْ وَحْيٍ صَرِيحٍ نَاصٍّ عَلَى التَّفْصِيلِ. [النَّظَرُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ] [الْحُكْمِ الْأَوَّل فِي تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ] النَّظَرُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ فِي تَأْثِيمِهِ وَتَخْطِئَتِهِ وَإِصَابَتِهِ وَتَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ وَتَحْرِيمِ نَقْضِ حُكْمِهِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، فَهَذِهِ أَحْكَامُ النَّظَرِ. الْأَوَّلُ: فِي تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْإِثْمُ يَنْتَفِي عَنْ كُلِّ مَنْ جَمَعَ صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا تَمَّمَ الِاجْتِهَادَ فِي مَحَلِّهِ فَكُلُّ اجْتِهَادٍ تَامٍّ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَصَادَفَ مَحَلَّهُ فَثَمَرَتُهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَالْإِثْمُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ مَنْفِيٌّ. وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْإِثْمَ وَالْخَطَأَ مُتَلَازِمَانِ، فَكُلُّ مُخْطِئٍ آثِمٌ وَكُلُّ

آثِمٍ مُخْطِئٌ، وَمَنْ انْتَفَى عَنْهُ الْإِثْمُ انْتَفَى عَنْهُ الْخَطَأُ. فَلْنُقَدِّمْ حُكْمَ الْإِثْمِ أَوَّلًا فَنَقُولُ: النَّظَرِيَّاتُ تَنْقَسِمُ إلَى ظَنِّيَّةٍ وَقَطْعِيَّةٍ، فَلَا إثْمَ فِي الظَّنِّيَّاتِ إذْ لَا خَطَأَ فِيهَا، وَالْمُخْطِئُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ آثِمٌ. وَالْقَطْعِيَّاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: كَلَامِيَّةٌ، وَأُصُولِيَّةٌ، وَفِقْهِيَّةٌ. أَمَّا الْكَلَامِيَّةُ فَنَعْنِي بِهَا الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةَ، وَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَمَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ فِيهَا فَهُوَ آثِمٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتُ الْمُحْدِثِ وَصِفَاتُهُ الْوَاجِبَةُ وَالْجَائِزَةُ وَالْمُسْتَحِيلَةُ وَبَعْثَةُ الرُّسُلِ وَتَصْدِيقُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ وَجَوَازُ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقُ الْأَعْمَالِ وَإِرَادَةُ الْكَائِنَاتِ وَجَمِيعُ مَا الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُبْتَدِعَةِ. وَحَدُّ الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الْمَحْضَةِ مَا يَصِحُّ لِلنَّاظِرِ دَرْكُ حَقِيقَتِهِ بِنَظَرِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ آثِمٌ، فَإِنْ أَخْطَأَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِيمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَأَمْثَالِهَا فَهُوَ آثِمٌ مِنْ حَيْثُ عَدَلَ عَنْ الْحَقِّ وَضَلَّ، وَمُخْطِئٌ مِنْ حَيْثُ أَخْطَأَ الْمُتَيَقَّنَ وَمُبْتَدِعٌ مِنْ حَيْثُ قَالَ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلْمَشْهُورِ بَيْنَ السَّلَفِ وَلَا يَلْزَمُ الْكُفْرُ. وَأَمَّا الْأُصُولِيَّةُ فَنَعْنِي بِهَا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَكَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَكَوْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَمِنْ جُمْلَتِهِ خِلَافُ مَنْ جَوَّزَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ الْمُنْبَرِمِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَصْرِ وَخِلَافَ الْإِجْمَاعِ الْحَاصِلِ عَنْ اجْتِهَادٍ وَمَنَعَ الْمَصِيرَ إلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمُصِيبِ وَاحِدًا فِي الظَّنِّيَّاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ مَسَائِلُ أَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ وَالْمُخَالِفُ فِيهَا آثِمٌ مُخْطِئٌ. وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى الْقَطْعِيَّاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ فِي أَدْرَاجِ الْكَلَامِ فِي جُمْلَةِ الْأُصُولِ. وَأَمَّا الْفِقْهِيَّةُ فَالْقَطْعِيَّةُ مِنْهَا وُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، وَكُلِّ مَا عُلِمَ قَطْعًا مِنْ دِينِ اللَّهِ فَالْحَقُّ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْلُومُ وَالْمُخَالِفُ فِيهَا آثِمٌ. ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ أَنْكَرَ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ كَإِنْكَارِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ مُكَذِّبٍ بِالشَّرْعِ، إنْ عُلِمَ قَطْعًا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَا بِالضَّرُورَةِ كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَكَوْنِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَكَذَلِكَ الْفِقْهِيَّاتُ الْمَعْلُومَةُ بِالْإِجْمَاعِ فَهِيَ قَطْعِيَّةٌ فَمُنْكِرُهَا لَيْسَ بِكَافِرٍ لَكِنَّهُ آثِمٌ مُخْطِئٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْف حَكَمْتُمْ بِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ضَرُورِيٌّ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِصِدْقِ الرَّسُولِ، وَصِدْقُ الرَّسُولِ نَظَرِيٌّ؟ قُلْنَا: نَعْنِي بِهِ أَنَّ إيجَابَ الشَّارِعِ لَهُ مَعْلُومٌ تَوَاتُرًا أَوْ ضَرُورَةً، أَمَّا أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ فَهُوَ وَاجِبٌ فَذَلِكَ نَظَرِيٌّ يُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ الْمُصَدِّقَةِ وَمَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ صِدْقُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ فَذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِ الشَّارِعَ، وَمُكَذِّبُهُ كَافِرٌ فَلِذَلِكَ كَفَّرْنَاهُ بِهِ. أَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ الْفِقْهِيَّاتِ الظَّنِّيَّةِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَلَيْسَ فِيهَا عِنْدَنَا حَقٌّ مُعَيَّنٌ، وَلَا إثْمَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إذَا تَمَّمَ اجْتِهَادَهُ وَكَانَ مِنْ أَهْلِهِ. فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ قِسْمَانِ: قَطْعِيَّةٌ وَظَنِّيَّةٌ، فَالْمُخْطِئُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ آثِمٌ وَلَا إثْمَ فِي الظَّنِّيَّاتِ أَصْلًا لَا عِنْدَ مَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ. وَلَا عِنْدَ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ. وَقَدْ ذَهَبَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ إلَى إلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ وَقَالَ فِيهَا حَقٌّ وَاحِدٌ مُتَعَيِّنٌ وَالْمُخْطِئُ آثِمٌ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجَاحِظُ وَالْعَنْبَرِيُّ إلَى إلْحَاقِ الْأُصُولِ بِالْفُرُوعِ، وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي

الْأُصُولِ أَيْضًا مُصِيبٌ وَلَيْسَ فِيهَا حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ. وَقَالَ الْجَاحِظُ فِيهَا: حَقٌّ وَاحِدٌ مُتَعَيِّنٌ لَكِنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا مَعْذُورٌ غَيْرُ آثِمٍ كَمَا فِي الْفُرُوعِ. فَلْنَرْسُمْ فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ: مَسْأَلَةَ ذَهَبَ الْجَاحِظُ إلَى أَنَّ مُخَالِفَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالدَّهْرِيَّةِ إنْ كَانَ مُعَانِدًا عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِهِ فَهُوَ آثِمٌ، وَإِنْ نَظَرَ فَعَجَزَ عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ فَهُوَ أَيْضًا مَعْذُورٌ. وَإِنَّمَا الْآثِمُ الْمُعَذَّبُ هُوَ الْمُعَانِدُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَجَزُوا عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ وَلَزِمُوا عَقَائِدَهُمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ اسْتَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ عَقْلًا لَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ جَائِزٌ، وَلَوْ وَرَدَ التَّعَبُّدُ كَذَلِكَ لَوَقَعَ وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ، فَإِنَّا كَمَا نَعْرِفُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ضَرُورَةً فَيُعْلَمُ أَيْضًا ضَرُورَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَذَمَّهُمْ عَلَى إصْرَارِهِمْ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَاتَلَ جَمِيعَهُمْ وَكَانَ يَكْشِفُ عَنْ مُؤْتَزَرٍ مَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ وَيَقْتُلُهُ وَيَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمُعَانِدَ الْعَارِفَ مِمَّا يَقِلُّ، وَإِنَّمَا الْأَكْثَرُ الْمُقَلِّدَةُ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا دِينَ آبَائِهِمْ تَقْلِيدًا وَلَمْ يَعْرِفُوا مُعْجِزَةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصِدْقَهُ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا لَا تُحْصَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ} [ص: 27] وقَوْله تَعَالَى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] وقَوْله تَعَالَى: {وإنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] وَقَوْلِهِ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18] وقَوْله تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] أَيْ: شَكٌّ وَعَلَى الْجُمْلَةِ ذَمُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمُكَذِّبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَيْفَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ؟ قُلْنَا: نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ، أَمَّا أَنَّهُمْ يُطِيقُونَ أَوْ لَا يُطِيقُونَ فَلْنَنْظُرْ فِيهِ؛ بَلْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ وَنَصَبَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَبَعَثَ مِنْ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِينَ نَبَّهُوا الْعُقُولَ وَحَرَّكُوا دَوَاعِيَ النَّظَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَى اللَّهِ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ كَمَا فِي الْفُرُوعِ. فَنَقُولُ لَهُ: إنْ أَرَدْتَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا إلَّا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْتَهَى مَقْدُورِهِمْ فِي الطَّلَبِ فَهَذَا غَيْرُ مُحَالٍ عَقْلًا وَلَكِنَّهُ بَاطِلٌ إجْمَاعًا وَشَرْعًا كَمَا سَبَقَ رَدُّهُ عَلَى الْجَاحِظِ، وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ أَنَّ مَا اعْتَقَدَهُ فَهُوَ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ فَنَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ قِدَمُ الْعَالَمِ وَحُدُوثُهُ حَقًّا وَإِثْبَاتُ الصَّانِعِ وَنَفْيُهُ حَقًّا وَتَصْدِيقُ الرَّسُولِ وَتَكْذِيبُهُ حَقًّا وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ وَضْعِيَّةً كَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؟ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَرَامًا عَلَى زَيْدٍ وَحَلَالًا لِعَمْرٍو إذَا وُضِعَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْأُمُورُ الذَّاتِيَّةُ فَلَا تَتْبَعُ الِاعْتِقَادَ بَلْ الِاعْتِقَادُ يَتْبَعُهَا، فَهَذَا الْمَذْهَبُ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ؛ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَلَكِنْ جَعَلَ الْمُخْطِئَ مَعْذُورًا، بَلْ هُوَ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ السُّوفُسْطائيَّةِ لِأَنَّهُمْ نَفَوْا حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَهَذَا قَدْ أَثْبَتَ الْحَقَائِقَ ثُمَّ جَعَلَهَا تَابِعَةً لِلِاعْتِقَادَاتِ، فَهَذَا أَيْضًا لَوْ وَرَدَ بِهِ

الشَّرْعُ لَكَانَ مُحَالًا بِخِلَافِ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ وَقَدْ اسْتَبْشَعَ إخْوَانُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا الْمَذْهَبَ فَأَنْكَرُوهُ وَأَوَّلُوهُ، وَقَالُوا: أَرَادَ بِهِ اخْتِلَافَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ فِيهَا تَكْفِيرٌ كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارَ فِيهَا مُتَشَابِهَةٌ، وَأَدِلَّةَ الشَّرْعِ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّ فَرِيقٍ ذَهَبَ إلَى مَا رَآهُ أَوْفَقَ لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَلْيَقَ بِعَظَمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَثَبَاتِ دِينِهِ فَكَانُوا فِيهِ مُصِيبِينَ وَمَعْذُورِينَ. فَنَقُولُ: إنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِيهِ مُصِيبُونَ فَهَذَا مُحَالٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ ذَاتِيَّةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ قَدِيمًا وَمَخْلُوقًا أَيْضًا بَلْ أَحَدُهُمَا، وَالرُّؤْيَةُ مُحَالًا وَمُمْكِنًا أَيْضًا وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَارِجَةً عَنْ إرَادَتِهِ أَوْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا فِي حَقِّ زَيْدٍ قَدِيمًا فِي حَقِّ عَمْرٍو بِخِلَافِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ إلَى أَوْصَافِ الذَّوَاتِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ لَكِنَّ الْمُخْطِئَ مَعْذُورٌ غَيْرُ آثِمٍ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُحَالٍ عَقْلًا لَكِنَّهُ بَاطِلٌ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَمِّ الْمُبْتَدِعَةِ وَمُهَاجَرَتِهِمْ وَقَطْعِ الصُّحْبَةِ مَعَهُمْ وَتَشْدِيدِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَرْكِ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَفُرُوعِ الْفِقْهِ. فَهَذَا مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ جَهْلٌ، وَالْجَهْلُ بِاَللَّهِ حَرَامٌ مَذْمُومٌ، وَالْجَهْلُ بِجَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِدَمِ كَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ وَشُمُولِ إرَادَتِهِ الْمَعَاصِيَ وَشُمُولِ قُدْرَتِهِ فِي التَّعَلُّقِ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ، كُلُّ ذَلِكَ جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَجَهْلٌ بِدِينِ اللَّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَمَهْمَا كَانَ الْحَقُّ فِي نَفْسِهِ وَاحِدًا مُتَعَيِّنًا كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْتَقِدًا لِلشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ جَاهِلًا. فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالْجَهْلِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَبِالْجَهْلِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَجَهْلِهِ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَمِيرَ فِي الدَّارِ وَلَيْسَ فِيهَا وَأَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ مِمَّا هِيَ عَلَيْهَا. قُلْنَا: أَمَّا الْفِقْهِيَّاتُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْجَهْلُ فِيهَا إذْ لَيْسَ فِيهَا حَقٌّ مُعَيَّنٌ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّاتُ فَلَا ثَوَابَ فِي مَعْرِفَتِهَا وَلَا عِقَابَ عَلَى الْجَهْلِ فِيهَا، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَفِيهَا ثَوَابٌ وَفِي الْجَهْلِ بِهَا عِقَابٌ وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ الْإِجْمَاعُ دُونَ دَلِيلِ الْعَقْلِ وَإِلَّا فَدَلِيلُ الْعَقْلِ لَا يُحِيلُ حَطَّ الْمَأْثَمِ عَنْ الْجَاهِلِ بِاَللَّهِ فَضْلًا عَنْ الْجَاهِلِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَأْثَمُ بِالْجَهْلِ فِيمَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالْأَدِلَّةُ غَامِضَةٌ، وَالشُّبُهَاتُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُتَعَارِضَةٌ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَتَمْيِيزِ الْمُعْجِزَةِ عَنْ السِّحْرِ فَفِيهَا أَدِلَّةٌ غَامِضَةٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَهِ الْغُمُوضُ إلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ فِيهِ تَمْيِيزُ الشُّبْهَةِ عَنْ الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَنَا أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى الْحَقِّ؛ وَلَوْ تُصُوِّرَتْ مَسْأَلَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا لَكِنَّا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الْخَلْقِ فِيهَا. مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ إلَى أَنَّ الْإِثْمَ غَيْرُ مَحْطُوطٍ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ بَلْ فِيهَا حَقٌّ مُعَيَّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَمَنْ أَخْطَأَ فَهُوَ آثِمٌ كَمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ، لَكِنَّ الْمُخْطِئَ قَدْ يَكْفُرُ كَمَا فِي أَصْلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَقَدْ يَفْسُقُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَظَائِرِهَا، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّأْثِيمِ كَمَا فِي الْفِقْهِيَّاتِ. وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ ابْنُ عُلَيَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَوَافَقَهُ جَمِيعُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَمِنْهُمْ الْإِمَامِيَّةُ وَقَالُوا: لَا مَجَالَ لِلظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ لَكِنَّ الْعَقْلَ قَاضٍ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ، فَمَا

أَثْبَتَهُ قَاطِعٌ سَمْعِيٌّ فَهُوَ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَمَا لَمْ يُثْبِتْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَطْعًا وَلَا مَجَالَ لِلظَّنِّ فِيهِ. وَإِنَّمَا اسْتَقَامَ هَذَا لَهُمْ لِإِنْكَارِهِمْ الْقِيَاسَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ، وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا أَيْضًا الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ الْمُحْتَمَلِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لَهُمْ هَذَا الْمَذْهَبُ. وَمَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ اللَّازِمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَيَلْزَمُهُمْ عَلَيْهِ مَنْعُ الْمُقَلِّدِ مِنْ اسْتِفْتَاءِ الْمُخَالِفِينَ. وَقَدْ رَكِبَ بَعْضُ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ رَأْسَهُ فِي الْوَفَاءِ بِهَذَا الْقِيَاسِ وَقَالَ: يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ النَّظَرُ وَطَلَبُ الدَّلِيلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَلِّدُ الْعَالِمَ أَصَابَ الْمُقَلَّدُ أَمْ أَخْطَأَ. وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ دَلِيلَانِ: الْأَوَّلُ: مَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَنُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَلَا فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، وَالْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ لَا تَدُلُّ لِذَاتِهَا وَتَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ فَتَكْلِيفُ الْإِصَابَةِ لِمَا لَمْ يُنْصَبْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَإِذَا بَطَلَ الْإِيجَابُ بَطَلَ التَّأْثِيمُ، فَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ يُنْتِجُ نَفْيَ التَّكْلِيفِ وَنَفْيُ التَّكْلِيفِ يُنْتِجُ نَفْيَ الْإِثْمِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَدَلُّ تَارَةً بِنَفْيِ الْإِثْمِ عَلَى نَفْيِ التَّكْلِيفِ كَمَا يُسْتَدَلُّ فِي مَسْأَلَةِ التَّصْوِيبِ وَيُسْتَدَلُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِانْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِثْمِ فَإِنَّ النَّتِيجَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُنْتَجِ كَمَا يَدُلُّ الْمُنْتَجُ عَلَى النَّتِيجَةِ. الدَّلِيلُ الثَّانِي إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَمَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَمَسْأَلَةِ الْحَرَامِ وَسَائِرِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، فَكَانُوا يَتَشَاوَرُونَ وَيَتَفَرَّقُونَ مُخْتَلِفِينَ وَلَا يَعْتَرِضُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ فَتْوَى الْعَامَّةِ وَلَا يَمْنَعُ الْعَامَّةَ مِنْ تَقْلِيدِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا لَا شَكَّ فِيهِ. وَقَدْ بَالَغُوا فِي تَخْطِئَةِ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَمَنْ نَصَبَ إمَامًا مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ أَوْ رَأَى نَصْبَ إمَامَيْنِ، بَلْ لَوْ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَتَحْرِيمَ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا لَبَالَغُوا فِي التَّأْثِيمِ وَالتَّشْدِيدِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَدِلَّةً قَاطِعَةً، فَلَوْ كَانَ سَائِرُ الْمُجْتَهَدَاتِ كَذَلِكَ لَأَثِمُوا وَأَنْكَرُوا. فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: لَعَلَّهُمْ أَثِمُوا وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا وَأَضْمَرُوا التَّأْثِيمَ وَلَمْ يُظْهِرُوا خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَالْهَرَجِ. قُلْنَا: الْعَادَةُ تُحِيلُ انْدِرَاسَ التَّأْثِيمِ وَالْإِنْكَارِ لِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ وَالْوَقَائِعِ، بَلْ لَوْ وَقَعَ لَتَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى النَّقْلِ كَمَا نَقَلُوا الْإِنْكَارَ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ وَمَنْ اسْتَبَاحَ الدَّارَ عَلَى الْخَوَارِجِ فِي تَكْفِيرِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَعَلَى قَاتِلِي عُثْمَانَ؛ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ انْدِرَاسُ مِثْلِ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَضَ حُكْمَ بَعْضٍ وَأَنَّهُمْ اقْتَتَلُوا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَمَنَعُوا الْعَوَامَّ مِنْ التَّقْلِيدِ لِلْمُخَالِفِينَ أَوْ لِلْعُلَمَاءِ أَوْ أَوْجَبُوا عَلَى الْعَوَامّ النَّظَرَ أَوْ اتِّبَاعَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ مَعْصُومٍ. ثُمَّ نَقُولُ: تَوَاتَرَ إلَيْنَا تَعْظِيمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَعَ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافَاتِ، إذْ كَانَ تَوْقِيرُهُمْ وَتَسْلِيمُهُمْ لِلْمُجْتَهِدِ الْعَمَلَ بِاجْتِهَادِهِ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ التَّوْقِيرِ وَالْمُجَامَلَةِ وَالتَّسْلِيمِ فِي زَمَانِنَا وَمِنْ عُلَمَائِنَا، وَلَوْ اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ فِي الْبَعْضِ التَّعْصِيَةَ وَالتَّأْثِيمَ بِالِاخْتِلَافِ لَتَهَاجَرُوا وَارْتَفَعَتْ الْمُجَامَلَةُ وَامْتَنَعَ التَّوْقِيرُ وَالتَّعْظِيمُ. فَأَمَّا امْتِنَاعُهُمْ مِنْ التَّأْثِيمِ لِلْفِتْنَةِ فَمُحَالٌ، فَإِنَّهُمْ حَيْثُ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ لَمْ تَأْخُذْهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَلَا مَنَعَهُمْ ثَوَرَانُ الْفِتْنَةِ وَهَيَجَانُ الْقِتَالِ حَتَّى جَرَى فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَفِي وَاقِعَةِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَالْخَوَارِجِ مَا جَرَى، فَهَذَا تَوَهُّمٌ مُحَالٌ؛ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نُقِلَ الْإِنْكَارُ وَالتَّشْدِيدُ وَالتَّأْثِيمُ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْمَالِ النِّصْفَ وَالثُّلُثَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:

أَخْبِرُوا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أُحْبِطَ جِهَادُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ. قُلْنَا: مَا تَوَاتَرَ إلَيْنَا مِنْ تَعْظِيمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَتَسْلِيمِهِمْ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَحْكُمَ وَيُفْتِيَ وَلِكُلِّ عَامِّيٍّ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ جَاوَزَ حَدًّا لَا يُشَكُّ فِيهِ فَلَا يُعَارِضُهُ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يُوثَقُ بِهَا. ثُمَّ نَقُولُ: مَنْ ظَنَّ بِمُخَالَفَةٍ أَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا فَعَلَيْهِ التَّأْثِيمُ وَالْإِنْكَارُ، وَإِنَّمَا نُقِلَ إلَيْنَا فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ ظَنَّ أَصْحَابُهَا أَنَّ أَدِلَّتَهَا قَاطِعَةٌ فَظَنَّ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحِسَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي الْمَالِ نِصْفٌ وَثُلُثَانِ، وَظَنَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ حَسْمَ الذَّرَائِعِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَمَنَعَتْ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ؛ وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي هَذَا الظَّنِّ، فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ أَيْضًا ظَنِّيَّةٌ وَلَا يَجِبُ عِصْمَتُهَا عَنْ مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ، أَمَّا عِصْمَةُ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ عَنْ الْعِصْيَانِ بِتَعْظِيمِ الْمُخَالِفِينَ وَتَرْكِ تَأْثِيمِهِمْ لَوْ أَثِمُوا فَوَاجِبٌ. [الْحُكْمُ الثَّانِي فِي الِاجْتِهَادِ التَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ] الْحُكْمُ الثَّانِي فِي الِاجْتِهَادِ وَالتَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُصِيبٌ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فِي أَنَّهُ هَلْ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ؟ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمُصَوِّبَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ يُطْلَبُ بِالظَّنِّ بَلْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ الظَّنَّ وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْمُصَوِّبَةِ إلَى أَنَّ فِيهِ حُكْمًا مُعَيَّنًا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الطَّلَبُ، إذْ لَا بُدَّ لِلطَّلَبِ مِنْ مَطْلُوبٍ لَكِنْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ مُصِيبًا وَإِنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِإِصَابَتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ فَأَصَابَ مَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ فِيهِ حُكْمًا مُعَيَّنًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يَعْثُرُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ فَلِمَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ أَجْرَانِ وَلِمَنْ حَادَ عَنْهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ لِأَجْلِ سَعْيِهِ وَطَلَبِهِ. وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا أَوْ ظَنِّيًّا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ قَاطِعٌ وَلَكِنَّ الْإِثْمَ مَحْطُوطٌ عَنْ الْمُخْطِئِ لِغُمُوضِ الدَّلِيلِ وَخَفَائِهِ. وَمِنْ هَذَا تَمَادَى بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ فِي إتْمَامِ هَذَا الْقِيَاسِ فَقَالَ: إذَا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا أَثِمَ الْمُخْطِئُ كَمَا فِي سَائِرِ الْقَطْعِيَّاتِ. وَهُوَ تَمَامُ الْوَفَاءِ بِقِيَاسِ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. ثُمَّ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا ظَنِّيًّا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ هَلْ أُمِرَ قَطْعِيًّا بِإِصَابَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا. وَقَالَ قَوْمٌ: أُمِرَ بِطَلَبِهِ وَإِذَا أَخْطَأَ لَمْ يَكُنْ مَأْجُورًا لَكِنْ حُطَّ الْإِثْمُ عَنْهُ تَخْفِيفًا. هَذَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَهُوَ الَّذِي نَقْطَعُ بِهِ وَنُخَطِّئُ الْمُخَالِفَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُصِيبٌ وَأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَنَكْشِفُ الْغِطَاءَ عَنْ ذَلِكَ بِفَرْضِ الْكَلَامِ فِي طَرَفَيْنِ. الطَّرَفِ الْأَوَّلِ: مَسْأَلَةٌ فِيهَا نَصٌّ لِلشَّارِعِ وَقَدْ أَخْطَأَ مُجْتَهِدُ النَّصِّ. فَنَقُولُ: يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ النَّصُّ مِمَّا هُوَ مَقْدُورٌ عَلَى بُلُوغِهِ لَوْ طَلَبَهُ الْمُجْتَهِدُ بِطَرِيقِهِ فَقَصَّرَ وَلَمْ يَطْلُبْ فَهُوَ مُخْطِئٌ

وَآثِمٌ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلِّفَ الطَّلَبَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ فَعَصَى وَأَثِمَ وَأَخْطَأَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَمَّا إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ لَا لِتَقْصِيرٍ مِنْ جِهَتِهِ لَكِنْ لِعَائِقٍ مِنْ جِهَةِ بُعْدِ الْمَسَافَةِ وَتَأْخِيرِ الْمَبْلَغِ وَالنَّصُّ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ فَقَدْ يُسَمَّى مُخْطِئًا مَجَازًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَخْطَأَ بُلُوغَ مَا لَوْ بَلَغَهُ لَصَارَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ فَلَيْسَ مُخْطِئًا حَقِيقَةً؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُخْبِرَهُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَكُونُ النَّبِيُّ مُخْطِئًا؛ لِأَنَّ خِطَابَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ بَعْدُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَلَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِي صَلَاتِهِ، فَلَوْ نَزَلَ فَأَخْبَرَهُ وَأَهْلُ مَسْجِدِ قُبَاءَ يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يَخْرُجْ بَعْدُ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا مُنَادٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَيْسُوا مُخْطِئِينَ، إذْ ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ بُلُوغِهِ؛ فَلَوْ بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاسْتَمَرَّ سُكَّانُ مَكَّةَ عَلَى اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهِمْ فَلَيْسُوا مُخْطِئِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُقَصِّرِينَ. وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ: إنَّا كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ النَّهْيَ عَنْ الْمُخَابَرَةِ» فَلَيْسَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُمْ قَبْلَ بُلُوغٍ لِأَنَّ الرَّاوِيَ غَابَ عَنْهُمْ أَوْ قَصَّرَ فِي الرِّوَايَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْخَطَأُ فِيهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: فَرَضْتُمْ الْمَسْأَلَةَ حَيْثُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ وَنَحْنُ نُخَطِّئُهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَوَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ فَلَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ. قُلْنَا: عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ أَوْ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ؟ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ وَيَجِبُ تَأْثِيمُهُ وَحَيْثُ وَجَبَ تَأْثِيمُهُ وَجَبَتْ تَخْطِئَتُهُ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ فِقْهِيَّةً أَوْ أُصُولِيَّةً أَوْ كَلَامِيَّةً، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي مَسَائِلَ لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَلَوْ كَانَ لَنَبَّهَ عَلَيْهِ مَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرُهُ وَلَشَدَّدَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ صَرِيحٌ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ بِهِ وَلَا يَتَطَرَّقُ الشَّكُّ إلَيْهِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ سَهْلٌ، أَفَيَقُولُونَ: لَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَأَخْطَأَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ الْحَقَّ أَوْ عَرَفَهُ بَعْضُهُمْ وَكَتَمَهُ أَوْ أَظْهَرَهُ فَلَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُونَ أَوْ فَهِمُوهُ فَعَانَدُوا الْحَقَّ وَخَالَفُوا النَّصَّ الصَّرِيحَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ؟ وَجَمِيعُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ مَقْطُوعٌ بِبُطْلَانِهَا. وَمَنْ نَظَرَ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا عَلِمَ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ فِيهَا، وَإِذَا انْتَفَى الدَّلِيلُ فَتَكْلِيفُ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ، فَإِذَا انْتَفَى التَّكْلِيفُ انْتَفَى الْخَطَأُ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ بِالِاتِّفَاقِ. فَمَنْ أَخْطَأَ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ فَقَدْ أَخْطَأَ. قُلْنَا: الْأَمَارَاتُ الظَّنِّيَّةُ لَيْسَتْ أَدِلَّةً بِأَعْيَانِهَا بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْإِضَافَاتِ، فَرُبَّ دَلِيلٍ يُفِيدُ الظَّنَّ لِزَيْدٍ وَهُوَ بِعَيْنِهِ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ لِعَمْرٍو مَعَ إحَاطَتِهِ بِهِ، وَرُبَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، بَلْ قَدْ يَقُومُ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَوْ انْفَرَدَ لَأَفَادَ الظَّنَّ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ تَعَارُضٌ. وَبَيَانُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَأَى التَّسْوِيَةَ فِي الْعَطَاءِ، إذْ قَالَ: الدُّنْيَا بَلَاغٌ، كَيْفَ وَإِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ قَالَ عُمَرُ كَيْف تُسَاوِي بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ؟ وَرَأَى عُمَرُ التَّفَاوُتَ لِكَوْنِ ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي طَلَبِ الْفَضَائِلِ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فَيُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ. وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فَهِمَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يُفِدْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَمَا رَآهُ عُمَرُ فَهِمَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يُفِدْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ

وَلَا مَالَ قَلْبُهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمَا، فَمَنْ خُلِقَ خِلْقَةَ أَبِي بَكْرٍ فِي غَلَبَةِ التَّأَلُّهِ وَتَجْرِيدِ النَّظَرِ فِي الْآخِرَةِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لَا مَحَالَةَ مَا ظَنَّهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَنْقَدِحْ فِي نَفْسِهِ إلَّا ذَلِكَ، وَمَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ خِلْقَةَ عُمَرَ وَعَلَى حَالَتِهِ وَسَجِيَّتِهِ فِي الِالْتِفَاتِ إلَى السِّيَاسَةِ وَرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ وَضَبْطِهِمْ وَتَحْرِيكِ دَوَاعِيهِمْ لِلْخَيْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَمِيلَ نَفْسُهُ إلَى مَا مَالَ إلَيْهِ عُمَرُ مَعَ إحَاطَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلِ صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُمَارَسَاتِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الظُّنُونِ، فَمَنْ مَارَسَ عِلْمَ الْكَلَامِ نَاسَبَ طَبْعَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَتَحَرَّكُ بِهَا ظَنُّهُ لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ طَبْعَ مَنْ مَارَسَ الْفِقْهَ. وَلِذَلِكَ مَنْ مَارَسَ الْوَعْظَ صَارَ مَائِلًا إلَى جِنْسِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ شَهَامَةٌ وَانْتِقَامٌ، وَمَنْ لَانَ طَبْعُهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ نَفَرَ عَنْ ذَلِكَ وَمَالَ إلَى مَا فِيهِ الرِّفْقُ وَالْمُسَاهَلَةُ. فَالْأَمَارَاتُ كَحَجَرِ الْمِغْنَاطِيسِ تُحَرِّكُ طَبْعًا يُنَاسِبُهَا كَمَا يُحَرِّكُ الْمِغْنَاطِيسُ الْحَدِيدَ دُونَ النُّحَاسِ بِخِلَافِ دَلِيلِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى الشَّكْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَدَارِكِ الْعُقُولِ يُوجِبُ التَّصْدِيقَ ضَرُورَةً بِالنَّتِيجَةِ فَإِذًا لَا دَلِيلَ فِي الظَّنِّيَّاتِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَمَا يُسَمَّى دَلِيلًا فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ وَبِالْإِضَافَةِ إلَى مَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ فَإِذًا أَصْلُ الْخَطَأِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إقَامَةُ الْفُقَهَاءِ لِلْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَزْنًا حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا أَدِلَّةٌ فِي أَنْفُسِهَا لَا بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ فِيهِ أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَثَّمْ الْمُخْطِئُ لِغُمُوضِ الدَّلِيلِ؟ قُلْنَا: الشَّيْءُ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْجُوزٍ عَنْهُ مُمْتَنِعٍ وَإِلَى مَقْدُورٍ عَلَيْهِ عَلَى يُسْرٍ وَإِلَى مَقْدُورٍ عَلَيْهِ عَلَى عُسْرٍ؛ فَإِنْ كَانَ دَرْكُ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ مَعْجُوزًا عَنْهُ مُمْتَنِعًا فَالتَّكْلِيفُ بِهِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَى يُسْرٍ فَالتَّارِكُ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْثَمَ قَطْعًا لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَقَدْ أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَى عُسْرٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعُسْرُ صَارَ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ وَحَطِّ التَّكْلِيفِ كَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَوْ بَقِيَ التَّكْلِيفُ مَعَ الْعُسْرِ، فَإِنْ بَقِيَ التَّكْلِيفُ مَعَ الْعُسْرِ فَتَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ إثْمٌ كَالصَّبْرِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ مَعَ تَضَاعُفِ عَدَدِهِمْ فَإِنَّهُ شَدِيدٌ جِدًّا وَعَسِيرٌ وَلَكِنْ يَعْصِي إذَا تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَمْ يَزُلْ بِهَذَا الْعُسْرِ وَكَذَلِكَ صَبْرُ الْمَرْأَةِ عَلَى الضَّرَّاتِ وَحُسْنِ التَّبَعُّلِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ جِهَادٌ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ وَلَكِنَّهَا تَأْثَمُ بِتَرْكِهِ مَعَ ضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، وَكَذَلِكَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالشُّبْهَةِ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ وَتَمْيِيزِهَا عَنْ السِّحْرِ فِي غَايَةِ الْغُمُوضِ وَمَنْ أَخْطَأَ فِيهِ أَثِمَ بَلْ كَفَرَ وَاسْتَحَقَّ التَّخْلِيدَ فِي النَّارِ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ مَعَ الْعُسْرِ إنْ أُمِرَ بِهِ فَالْمُخْطِئُ آثِمٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ بَلْ بِحَسَبِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَأَصَابَ مَا هُوَ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ وَأَخْطَأَ مَا لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ، بَلْ هُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ لَوْ خُوطِبَ بِهِ أَوْ نُصِبَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ. فَإِذًا الْحَاصِلُ أَنَّ الْإِصَابَةَ مُحَالٌ أَوْ مُمْكِنٌ وَلَا تَكْلِيفَ بِالْمُحَالِ، وَمَنْ أُمِرَ بِمُمْكِنٍ فَتَرَكَهُ عَصَى وَأَثِمَ، وَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، لَكِنْ إنْ خَالَفَ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَأْثَمْ وَكَانَ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ حَدَّ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ إذْ حَدُّ الْإِيجَابِ مَا يَتَعَرَّضُ تَارِكُهُ لِلْعِقَابِ وَالذَّمِّ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ قَاطِعٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ مَعَ كُلِّ مُنْصِفٍ وَيَرُدُّ النِّزَاعَ إلَى عِبَارَةٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ قَدْ أَخْطَأَهُ، وَذَلِكَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ نَوْعُ مَجَازٍ كَتَخْطِئَةِ الْمُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ

ثُمَّ هَذَا الْمَجَازُ أَيْضًا إنَّمَا يَنْقَدِحُ فِي حُكْمٍ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ وَنَطَقَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْمُخَابَرَةِ، أَمَّا سَائِرُ الْمُجْتَهَدَاتِ الَّتِي يُلْحَقُ فِيهِ الْمَسْكُوتُ بِالْمَنْطُوقِ قِيَاسًا وَاجْتِهَادًا فَلَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَصْلًا، إذْ الْحُكْمُ خِطَابٌ مَسْمُوعٌ أَوْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَلَيْسَ فِيهَا خِطَابٌ وَنُطْقٌ فَلَا حُكْمَ فِيهَا أَصْلًا إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ. وَسَنُفْرِدُ لِهَذَا مَسْأَلَةً وَنُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَذْكُرُ الْآنَ شُبَهَ الْمُخَالِفِينَ وَهِيَ أَرْبَعٌ. الشُّبْهَةُ الْأُولَى قَوْلُهُمْ: هَذَا الْمَذْهَبُ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ النَّبِيذِ مَثَلًا حَلَالًا حَرَامًا وَالنِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ صَحِيحًا بَاطِلًا وَالْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ كَافِرًا مُهْدَرًا وَمُقَادًا إذْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ، فَإِذًا الشَّيْءُ وَنَقِيضُهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ. وَتَبَجَّحَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الدَّلِيلِ حَتَّى قَالَ: هَذَا مَذْهَبٌ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَجْعَلُ الشَّيْءَ وَنَقِيضَهُ حَقًّا وَبِالْآخَرِ يَرْفَعُ الْحَجْرَ وَيُخَيِّرُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ وَيُخَيِّرُ الْمُسْتَفْتِيَ لِتَقْلِيدِ مَنْ شَاءَ وَيَنْتَقِي مِنْ الْمَذَاهِبِ أَطْيَبَهَا عِنْدَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ فَقِيهٍ سَلِيمِ الْقَلْبِ جَاهِلٍ بِالْأُصُولِ وَبِحَدِّ النَّقِيضَيْنِ وَبِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ، ظَانٍّ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ، فَيَقُولُ: يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيذُ حَلَالًا حَرَامًا كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قَدِيمًا حَادِثًا، وَلَيْسَ يَدْرِي أَنَّ الْحُكْمَ خِطَابٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ بَلْ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا يَتَنَاقَضُ أَنْ يَحِلَّ لِزَيْدٍ مَا يَحْرُمُ عَلَى عَمْرٍو كَالْمَنْكُوحَةِ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَكَالْمَيْتَةِ تَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ دُونَ الْمُخْتَارِ وَكَالصَّلَاةِ تَجِبُ عَلَى الطَّاهِرِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ، وَإِنَّمَا الْمُتَنَاقِضُ أَنْ يَجْتَمِعَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا تَطَرَّقَ التَّعَدُّدُ وَالِانْفِصَالُ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ انْتَفَى التَّنَاقُضُ حَتَّى نَقُولَ: الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ حَرَامٌ قُرْبَةٌ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لَكِنْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِذًا اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ يَنْفِي التَّنَاقُضَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَوْ بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ أَوْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَالصَّلَاةُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْدِثِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ إذَا جَهِلَ كَوْنَهُ مُحْدِثًا؛ وَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ: يَحِلُّ رُكُوبُ الْبَحْرِ لِمَنْ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلَاكُ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْجَبَانِ الْهَلَاكُ وَعَلَى ظَنِّ الْجَسُورِ السَّلَامَةُ حَرُمَ عَلَى الْجَبَانِ وَحَلَّ لِلْجَسُورِ لِاخْتِلَافِ حَالِهِمَا وَكَذَلِكَ لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ وَقَالَ: مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ النَّبِيذَ بِالْخَمْرِ أَشْبَهُ فَقَدْ حَرَّمْتُهُ عَلَيْهِ وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ بِالْمُبَاحَاتِ أَشْبَهُ فَقَدْ حَلَّلْتُهُ لَهُ لَمْ يَتَنَاقَضْ، فَصَرِيحُ مَذْهَبِنَا أَنْ لَوْ نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا وَلَا مُحَالًا وَمَذْهَبُ الْخَصْمِ لَوْ صَرَّحَ بِهِ الشَّرْعُ كَانَ مُحَالًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كَلَّفْتُكَ الْعُثُورَ عَلَى مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولَ: كَلَّفْتُكَ الْعُثُورَ عَلَى مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَكِنْ لَوْ تَرَكْتَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ تَأْثَمْ فَيَكُونَ الْأَوَّلُ مُحَالًا مِنْ جِهَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَيَكُونَ الثَّانِي مُحَالًا مِنْ جِهَةِ تَنَاقُضِ حَدِّ الْأَمْرِ إذْ حَدُّ الْأَمْرِ مَا يَعْصِي تَارِكُهُ. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ أَيْضًا لَمْ يَتَنَاقَضْ، إذْ يَكُونُ مِنْ الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ، وَلَا

يَتَنَاقَضُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ أَبًا ابْنًا لَكِنْ لِشَخْصَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَجْهُولًا وَمَعْلُومًا لَكِنْ لِاثْنَيْنِ وَتَكُونَ الْمَرْأَةُ حَلَالًا حَرَامًا لِرَجُلَيْنِ كَالْمَنْكُوحَةِ حَرَامٌ لِلْأَجْنَبِيِّ حَلَالٌ لِلزَّوْجِ وَالْمَيْتَةِ حَرَامٌ لِلْمُخْتَارِ حَلَالٌ لِلْمُضْطَرِّ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ التَّنَاقُضَ مَا رَكِبَهُ الْخَصْمُ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ كُلُّ مُحَصِّلٍ لَمْ يَهْذِ هَذَيَانَ الْمَرِيسِيِّ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَعْصِي بِتَرْكِهِ، فَالْمُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا اسْتِقْبَالُ جِهَةٍ يَحْرُمُ عَلَى الْآخَرِ اسْتِقْبَالُهَا، فَإِنَّ الْمُصِيبَ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ الْمُخْطِئِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَمَلُ بِنَقِيضِ مَا يَعْمَلُ بِهِ الْآخَرُ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ: إنْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ لَيْسَ بِمُحَالٍ فِي نَفْسِهِ وَلَوْ صَرَّحَ الشَّرْعُ بِهِ فَهُوَ مُؤَدٍّ إلَى الْمُحَالِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ فَهُوَ مُحَالٌ، فَأَدَاؤُهُ إلَى الْمُحَالِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ بِأَنْ يَتَقَاوَمَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ فَيَتَحَيَّرَ عِنْدَكُمْ بَيْنَ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ فَإِذَا نَكَحَ مُجْتَهِدٌ مُجْتَهِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ، وَرَاجَعَهَا وَالزَّوْجُ شَفْعَوِيٌّ يَرَى الرَّجْعَةَ وَالزَّوْجَةُ حَنَفِيَّةٌ تَرَى الْكِنَايَاتِ قَاطِعَةً لِلْعِصْمَةِ وَالرَّجْعَةِ فَيُسَلَّطُ الزَّوْجُ عَلَى مُطَالَبَتِهَا بِالْوَطْءِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا مَعَ تَسَلُّطِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا مَنْعُهُ؛ وَكَذَلِكَ إذَا نَكَحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَوَّلًا ثُمَّ نَكَحَ آخَرُ بِوَلِيٍّ فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ حَقًّا فَالْمَرْأَةُ حَلَالٌ لِلزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا مُحَالٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ هَذَا فِي نُصْرَةِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَفْعِ التَّنَاقُضِ وَرَدِّهِ إلَى شَخْصَيْنِ فَقَدْ تَكَلَّفُوا تَقْرِيرَهُ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا اسْتِحَالَةَ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ فَيَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَخْتَصُّ إشْكَالُهُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، أَمَّا الْمُجْتَهِدُ إذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ فَلَنَا فِيهِ رَأْيَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَنْصُرُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَيَطْلُبُ الدَّلِيلَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ غَالِبِ الظَّنِّ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ، فَقَوْلُنَا فِيهِ قَوْلُكُمْ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَقًّا عِنْدَكُمْ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ، وَهَذَا يَقْطَعُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ وَعَلَى رَأْيِي نَقُولُ: يَتَخَيَّرُ بِأَيِّ دَلِيلٍ شَاءَ، وَسَنُفْرِدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ وَنُنَبِّهُ عَلَى غَوْرِهَا. أَمَّا الثَّانِيَةُ: فَقَوْلُنَا فِيهَا أَيْضًا قَوْلُكُمْ، فَإِنَّ الْمُصِيبَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا عِنْدَهُمْ فَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ الْمُخْطِئِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ فِي الْحَالِ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ لِجَهْلِهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا إذْ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ صَاحِبِهِ فَقَدْ أَوْجَبُوا عَلَيْهَا الْمَنْعَ وَأَبَاحُوا لِلزَّوْجِ الطَّلَبَ فَقَدْ رَكِبُوا الْمُحَالَ إنْ كَانَ هَذَا مُحَالًا، فَسَيَقُولُونَ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ؛ وَهُوَ جَوَابُنَا الثَّانِي، وَوَجْهُهُ أَنَّ إيجَابَ الْمَنْعِ عَلَيْهَا لَا يُنَاقِضُ إبَاحَةَ الطَّلَبِ لِلزَّوْجِ وَلَا إيجَابَهُ، بَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِأَحَدِ عَبْدَيْهِ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ سَلَبَ فَرَسِ الْآخَرِ، وَيَقُولَ لِلْآخَرِ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ مَنْعَهُ وَدَفْعَهُ، وَيَقُولُ لِهَذَا: إنْ لَمْ تَسْلُبْ عَاقَبْتُكَ، وَيَقُولَ لِلْآخَرِ: إنْ لَمْ تَحْفَظْ عَاقَبْتُكَ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الطِّفْلِ أَنْ يَطْلُبَ غَرَامَةَ مَالِ الطِّفْلِ إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ طِفْلٌ آخَرُ، وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الطِّفْلِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِتْلَافِ إذَا عَايَنَ صُدُورَ الْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ الطِّفْلِ أَوْ عَلِمَ كَذِبَ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَمْنَعَ وَيَدْفَعَ، فَيَجِبُ الطَّلَبُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالدَّفْعُ عَلَى الْآخَرِ مُؤَاخَذَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ. نَعَمْ السُّؤَالُ يَحْسُنُ مِنْ مُنْكِرِي الِاجْتِهَادِ مِنْ التَّعْلِيمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إذْ يَقُولُونَ: أَصْلُ

الِاجْتِهَادِ بَاطِلٌ لِأَدَائِهِ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّنَاقُضِ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَنُقَابِلُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَيْضًا بِمَا لَا يَجِدُ عَنْهُ مَحِيصًا فَنَقُولُ: إنْ أَنْكَرْتَ الظُّنُونَ لَمْ تُنْكِرْ الْقَوَاطِعَ، وَسَعْيُ الْإِنْسَانِ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ أَوْ إهْلَاكِ غَيْرِهِ حَرَامٌ بِالْقَوَاطِعِ، فَلَوْ اُضْطُرَّ شَخْصَانِ إلَى قَدْرٍ مِنْ الْمَيْتَةِ لَا يَفِي إلَّا بِسَدِّ رَمَقِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ قَسَمَاهُ أَوْ تَرَكَاهُ مَاتَا وَلَوْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا هَلَكَ الْآخَرُ وَلَوْ وَكَّلَهُ إلَيْهِ أَهْلَكَ نَفْسَهُ، فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَكَيْفَمَا قَالَ فَهُوَ مُنَاقِضٌ وَلَا مُخَلِّصَ، فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَأْخُذَ فَقَدْ أَوْجَبَ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا وَأَوْجَبَ الدَّفْعَ عَنْ ذَاكَ فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا التَّرْكَ فَقَدْ أَوْجَبَ إهْلَاكَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنْ خَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْأَخْذِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ، وَإِنْ قَالَ: يَتَخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ فَقَدْ سُلِّطَ هَذَا عَلَى الْأَخْذِ وَذَاكَ عَلَى الدَّفْعِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اخْتَارَ الْأَخْذَ وَاخْتَارَ الْآخَرُ الدَّفْعَ جَازَ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَنَاقِضٌ بِزَعْمِهِمْ، فَمَاذَا يَقُولُونَ؟ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّخْيِيرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْأَخْذُ إذَا لَمْ يُهْلِكْ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّرْكُ وَالْإِيثَارُ إذَا لَمْ يُهْلِكْ نَفْسَهُ، فَإِذَا تَعَارَضَا تَخَيَّرَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا كَبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا نَشِبَ الْخِصَامُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ، أَحَدَهُمَا: أَنْ يَقُولَ: يَلْزَمُهُمَا الرَّفْعُ إلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ فَإِنْ قَضَى بِثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لَزِمَ تَقْدِيمُ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ عَلَى اجْتِهَادِهِمَا أَنْفُسِهِمَا وَحَلَّ لَهُمَا مُخَالَفَةُ اجْتِهَادِ أَنْفُسِهِمَا، إذْ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ أَوْلَى مِنْ اجْتِهَادِهِمَا لِضَرُورَةِ رَفْعِ الْخُصُومَاتِ، فَإِنْ عَجَزَا عَنْ حَاكِمٍ فَعَلَيْهِمَا تَحْكِيمُ عَالِمٍ فَيَقْضِي بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا أَثِمَا وَعَصَيَا وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِمَالَاتٌ فِقْهِيَّةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُتْرَكَا مُتَنَازِعَيْنِ وَلَا يُبَالِي بِتَمَانُعِهِمَا، فَإِنَّهُ تَكْلِيفٌ بِنَقِيضَيْنِ فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ فَلَا يَتَنَاقَضُ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ أَنْ تَنْكِحَ بِوَلِيٍّ مَنْ نَكَحَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَنَقُولُ: إنَّ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ صَدَرَ مِنْ حَنَفِيٍّ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ، وَالنِّكَاحُ الثَّانِي بَعْدَهُ بَاطِلٌ قَطْعِيًّا لِأَنَّهَا صَارَتْ زَوْجَةً لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَ الْحَنَفِيُّ عَقَدَهُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ وَاتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ حَنَفِيٍّ فَذَلِكَ أَوْكَدُ، فَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَقَدْ صَحَّ أَيْضًا فِي حَقِّهِ، وَإِنْ صَدَرَ الْعَقْدُ مِنْ شَفْعَوِيٍّ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقِدِهِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَحَدَهُمَا: أَنْ نَقْطَعَ بِبُطْلَانِهِ فَإِنَّا إنَّمَا نَجْعَلُهُ حَقًّا إذْ صَدَرَ مِنْ مُعْتَقِدِهِ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوْ اجْتِهَادٍ حَيْثُ لَا يَأْثَمُ وَلَا يَعْصِي وَهَذَا قَدْ عَصَى فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَيَتَحَمَّلُ أَنْ يُقَالَ: مَا لَمْ يُطَلِّقْ أَوْلَمَ يَقْضِ حَاكِمٌ بِبُطْلَانِهِ فَلَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بِصَدَدِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ حَنَفِيٌّ فَيَنْحَسِمَ سَبِيلُ نَقْضِهِ فَلَا يُعْقَدُ نِكَاحٌ آخَرُ قَبْلَ نَقْضِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْحَنَفِيَّ لَوْ قَضَى لِشَفْعَوِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجَارِ أَوْ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ فَهَلْ يُؤَثِّرُ قَضَاؤُهُ فِي الْإِحْلَالِ بَاطِنًا؟ فَغَلَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَعَلَ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يُغَيِّرُ الْحُكْمَ بَاطِنًا فِيمَا لِلْقَاضِي فِيهِ وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْعَقْدِ، وَغَلَا قَوْمٌ فَقَالُوا: لَا يُحِلُّ الْقَضَاءُ شَيْئًا بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَضَاؤُهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ قَوْمٌ يُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَيُغَيِّرُ الْحُكْمَ بَاطِنًا، وَلَا يُؤَثِّرُ حَيْثُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ فِقْهِيَّةٌ لَا يَسْتَحِيلُ شَيْءٌ مِنْهَا، فَنَخْتَارُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فَلَا يَتَنَاقَضُ، وَلَا يَلْزَمُنَا فِي الْأُصُولِ تَصْحِيحُ وَاحِد مِنْ هَذِهِ الِاخْتِيَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا ظَنِّيَّاتٌ مُحْتَمَلَةٌ كُلُّ مُجْتَهِدٍ أَيْضًا فِيهَا مُصِيبٌ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ تَمَسُّكُهُمْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَجَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ

مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ وَالْإِنَاءَيْنِ إذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمَا أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ، فَلِمَ لَا يَقْتَدِي بِمَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؟ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ الشَّافِعِيِّ بِحَنَفِيٍّ إذَا تَرَكَ الْفَاتِحَةَ، وَصَلَاةُ الْحَنَفِيِّ أَيْضًا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهَا عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَلَمَّا اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاقْتِدَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الِاقْتِدَاءَ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَهُوَ مُنْقَدِحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ وَلَا يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ إلَّا بِمَنْ هُوَ فِي صَلَاةٍ، وَصَلَاةُ الْإِمَامِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِبُطْلَانِهَا فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ الِاقْتِدَاءُ؟ وَلَوْ بَانَ كَوْنُ الْإِمَامِ جُنُبًا رُبَّمَا لَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلَاةِ. وَلَوْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: إنَّمَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَلِلْمُقْتَدِي أَنْ يَقُولَ: صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى وَفْقِ اعْتِقَادِهِ فَاسِدَةٌ فِي حَقِّي؛ لِأَنَّهَا عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِي، فَظَهَرَ أَثَرُ صِحَّتِهَا فِي كُلِّ مَا يَخُصُّ الْمُجْتَهِدَ؛ أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَتِهِ فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَاطِلِ. وَالِاقْتِدَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُقْتَدِي، فَصَلَاتُهُ لَا تَصْلُحُ لِقُدْوَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ فَاتِحَةٍ فَيَحْتَمِلُ صَلَاتُهُ الصِّحَّةَ بِالِاتِّفَاقِ إذْ الشَّافِعِيُّ لَا يَقْطَعُ بِخَطَئِهِ فَلِمَ فَسَدَ اقْتِدَاؤُهُ بِمَنْ تَجُوزُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ وَيَجُوزُ بُطْلَانُهَا وَكُلُّ إمَامٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً بِحَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ لَا يَعْرِفُهَا الْمُقْتَدِي وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِالِاحْتِمَالِ، فَلَا سَبَبَ لَهَا إلَّا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي اعْتِقَادِهِ وَبِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ بَاطِلَةٌ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ إمَامِهِ وَبُطْلَانُهَا فِي حَقِّهِ كَافٍ لِبُطْلَانِ اقْتِدَائِهِ. الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ: إنْ صَحَّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ نَطْوِيَ بِسَاطَ الْمُنَاظَرَاتِ فِي الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُنَاظَرَةِ دَعْوَةُ الْخَصْمِ إلَى الِانْتِقَالِ عَنْ مَذْهَبِهِ فَلَمْ يُدْعَ إلَى الِانْتِقَالِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا اعْتَقَدْتُهُ فَهُوَ حَقٌّ فَلَازِمْهُ فَإِنَّهُ لَا فَضْلَ لِمَذْهَبِي عَلَى مَذْهَبِكَ، فَالْمُنَاظَرَةُ إمَّا وَاجِبَةٌ وَإِمَّا نَدْبٌ وَإِمَّا مُفِيدَةٌ، وَلَا يَبْقَى لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ مَعَ التَّصْوِيبِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ ضَعَفَةِ الْفُقَهَاءِ يَتَنَاظَرُونَ لِدَعْوَةِ الْخَصْمِ إلَى الِانْتِقَالِ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، بَلْ لِاعْتِقَادِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ الْمُصِيبُونَ وَأَنَّ خَصْمَهُمْ مُخْطِئٌ عَلَى التَّعْيِينِ، أَمَّا الْمُحَصِّلُونَ فَلَا يَتَنَاظَرُونَ فِي الْفُرُوعِ لِذَلِكَ لَكِنْ يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الْمُنَاظَرَةِ لِغَرَضَيْنِ وَاسْتِحْبَابَهَا لِسِتَّةِ أَغْرَاضٍ أَمَّا الْوُجُوبُ فَفِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ مَا فِي مَعْنَى النَّصِّ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ فِيمَا يُتَنَازَعُ فِيهِ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَلَوْ عُثِرَ عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ الظَّنُّ وَالِاجْتِهَادُ فَعَلَيْهِ الْمُبَاحَثَةُ وَالْمُنَاظَرَةُ حَتَّى يَنْكَشِفَ انْتِفَاءُ الْقَاطِعِ الَّذِي يَأْثَمُ وَيَعْصَى بِالْغَفْلَةِ عَنْهُ. الثَّانِي: أَنْ يَتَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ فَيَسْتَعِينَ بِالْمُبَاحَثَةِ عَلَى طَلَبِ التَّرْجِيحِ، فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا عَلَى رَأْيٍ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ إذَا حَصَلَ الْيَأْسُ عَنْ طَلَبِ التَّرْجِيحِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْيَأْسُ بِكَثْرَةِ الْمُبَاحَثَةِ. وَأَمَّا النَّدْبُ فَفِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلِ: أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مُعَانِدٌ فِيمَا يَقُولُهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُخَالِفُ حَسَدًا أَوْ عِنَادًا أَوْ نُكْرًا، فَيُنَاظِرُ لِيُزِيلَ عَنْهُمْ مَعْصِيَةَ سُوءِ الظَّنِّ وَيُبَيِّنَ أَنَّهُ يَقُولُهُ عَنْ اعْتِقَادٍ وَاجْتِهَادٍ. الثَّانِي: أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا، فَيُعْلَمَ جَهْلُهُمْ،

فَيُنَاظِرَ لِيُزِيلَ عَنْهُمْ الْجَهْلَ كَمَا أَزَالَ فِي الْأَوَّلِ مَعْصِيَةَ التُّهْمَةِ. الثَّالِثِ: أَنْ يُنَبِّهَ الْخَصْمَ عَلَى طَرِيقِهِ فِي الِاجْتِهَادِ حَتَّى إذَا فَسَدَ مَا عِنْدَهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ وَلَمْ يَتَخَيَّرْ وَكَانَ طَرِيقُهُ عِنْدَهُ عَتِيدًا يَرْجِعُ إلَيْهِ إذَا فَسَدَ مَا عِنْدَهُ وَتَغَيَّرَ فِيهِ ظَنُّهُ. الرَّابِعِ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَثْقَلُ وَأَشَدُّ وَهُوَ لِذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَجْزَلُ ثَوَابًا فَيَسْعَى فِي اسْتِجْرَارِ الْخَصْمِ مِنْ الْفَاضِلِ إلَى الْأَفْضَلِ وَمِنْ الْحَقِّ إلَى الْأَحَقِّ. الْخَامِسِ: أَنَّهُ يُفِيدُ الْمُسْتَمِعِينَ مَعْرِفَةَ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ وَيُذَلِّلُ لَهُمْ مِلْكَهُ وَيُحَرِّكُ دَوَاعِيَهُمْ إلَى نَيْلِ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى طَرِيقِهِ فَيَكُونُ كَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْقُرُبَاتِ. السَّادِسِ، وَهُوَ الْأَهَمُّ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَفِيدَ هُوَ وَخَصْمُهُ تَذْلِيلَ طُرُقِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ حَتَّى يَتَرَقَّى فِي الظَّنِّيَّاتِ إلَى مَا أُلْحِقَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْأُصُولِ، فَيَحْصُلُ بِالْمُنَاظَرَةِ نَوْعٌ مِنْ الِارْتِيَاضِ وَتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَقْوِيَةِ الْمِنَّةِ فِي طَلَبِ الْحَقَائِقِ لِيَتَرَقَّى بِهِ إلَى نَظَرٍ هُوَ فَرْضُ عَيْنِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ بِهِ أَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ أَوْ إلَى مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ بَلَدٍ مِنْ عَالِمٍ مَلِيٍّ يَكْشِفُ مُعْضِلَاتِ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ إلَيْهِ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ إلَيْهِ طَرِيقٌ سِوَاهُ فَيَكُونُ هُوَ إحْدَى خِصَالِ الْوَاجِبِ، فَهَذَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَلْتَحِقُ بِالْمُنَاظَرَةِ الْوَاجِبَةِ. فَهَذِهِ فَوَائِدُ مُنَاظَرَاتِ الْمُحَصِّلِينَ دُونَ الضُّعَفَاءِ الْمُغْتَرِّينَ حِينَ يَطْلُبُونَ مِنْ الْخَصْمِ الِانْتِقَالَ وَيُفْتُونَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى خَصْمِهِمْ الْعَمَلُ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَأَنَّهُ لَوْ وَافَقَهُ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِ نَفْسِهِ عَصَى وَأَثِمَ وَهَلْ فِي عَالَمِ اللَّهِ تَنَاقُضٌ أَظْهَرُ مِنْهُ. فَهَذِهِ شُبَهُهُمْ الْعَقْلِيَّةُ، أَمَّا الشُّبَهُ النَّقْلِيَّةُ فَخَمْسٌ الْأُولَى: تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ سُلَيْمَانَ بِمُدْرَكِ الْحَقِّ وَأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ. الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ صَحَّ أَنَّهُمَا بِالِاجْتِهَادِ حَكَمَا وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ مَنَعَ اجْتِهَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَقْلًا وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ سَمْعًا وَمَنْ أَجَازَ أَحَالَ الْخَطَأَ عَلَيْهِمْ؟ فَكَيْفَ يُنْسَبُ الْخَطَأُ إلَى دَاوُد؟ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ عَنْ اجْتِهَادٍ؟ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ أَدَلُّ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِهِمْ إذْ قَالَ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَالْبَاطِلُ وَالْخَطَأُ يَكُونُ ظُلْمًا وَجَهْلًا لَا حُكْمًا وَعِلْمًا، وَمَنْ قَضَى بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ وَأَنَّهُ الْحُكْمُ وَالْعِلْمُ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ لَا سِيَّمَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ؟} [الأنبياء: 79] قُلْنَا: لَا يَلْزَمُنَا ذِكْرُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلْنَا نِسْبَةَ الْخَطَإِ إلَى دَاوُد الْجَوَابِ الثَّالِثِ: التَّأْوِيلُ، وَهُوَ أَنَّهَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مَأْذُونَيْنِ فِي الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِمَا فَحَكَمَا وَهُمَا مُحِقَّانِ ثُمَّ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى وَفْقِ اجْتِهَادِ سُلَيْمَانَ فَصَارَ ذَلِكَ حَقًّا مُتَعَيِّنًا بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى سُلَيْمَانَ بِخِلَافِهِ، لَكِنْ لِنُزُولِهِ عَلَى سُلَيْمَانَ أُضِيفَ إلَيْهِ وَيَتَعَيَّنُ تَنْزِيلُ ذَلِكَ عَلَى الْوَحْيِ، إذْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ سُلَيْمَانَ حَكَمَ بِأَنَّهُ يُسَلِّمُ الْمَاشِيَةَ إلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَصُوفِهَا حَوْلًا كَامِلًا؛ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ حَقًّا وَعَدْلًا إذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ يُسَاوِي مَا فَاتَ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ، وَذَلِكَ يُدْرِكُهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَلَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ.

الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي مَجَالِ النَّظَرِ حَقًّا مُتَعَيِّنًا يُدْرِكُهُ الْمُسْتَنْبِطُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ فِيمَا الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ وَالْقَطْعِيَّاتِ، إذْ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِطَرِيقٍ قَاطِعٍ نَظَرِيٍّ مُسْتَنْبَطٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَا أَفْضَى إلَيْهِ نَظَرُ عَالِمٍ فَهُوَ اسْتِنْبَاطُهُ وَتَأْوِيلُهُ وَهُوَ حَقٌّ مُسْتَنْبَطٌ وَتَأْوِيلٌ أُذِنَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ دُونَ الْعَوَامّ وَجُعِلَ الْحَقُّ فِي حَقِّ الْعَوَامّ الْحَقَّ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ بِنَظَرِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْطِئَةِ الْبَعْضِ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» فَدَلَّ أَنَّ فِيهِ خَطَأً وَصَوَابًا، وَقَدْ ادَّعَيْتُمْ اسْتِحَالَةَ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُصِيبٌ إذْ لَهُ أَجْرٌ وَإِلَّا فَالْمُخْطِئُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، كَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ؟ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ إطْلَاقَ اسْمِ الْخَطَإِ عَلَى سَبِيلِ الْإِضَافَةِ إلَى مَطْلُوبِهِ لَا إلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَطْلُبُ رَدَّ الْمَالِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَقَدْ يُخْطِئُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُخْطِئًا فِيمَا طَلَبَهُ مُصِيبًا فِيمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَهُوَ اتِّبَاعُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ صِدْقِ الشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ، يُقَالُ: أَخْطَأَ أَيْ: أَخْطَأَ مَا طَلَبَهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَطْلُوبِهِ بَلْ الْوَاجِبُ اسْتِقْبَالُ جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّ مَطْلُوبَهُ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ كَانَ لِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ وَهُمَا فِي التَّكْلِيفِ وَأَدَاءِ مَا كُلِّفَا سَوَاءٌ؟ قُلْنَا: لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَ لِلْمُخْطِئِ أَجْرَيْنِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يُضَاعِفَ الْأَجْرَ عَلَى أَخَفِّ الْعَمَلَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَفَضُّلٌ ثُمَّ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَحَكَمَ بِالنَّصِّ إذْ بَلَغَهُ، وَالْآخَرُ حَرَّمَ الْحُكْمَ بِالنَّصِّ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَمْ يُكَلَّفْ إصَابَتَهُ لِعَجْزِهِ فَفَاتَهُ فَضْلُ التَّكْلِيفِ وَالِامْتِثَالِ، وَهَذَا يَنْقَدِحُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ وَفِي كُلِّ اجْتِهَادٍ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقَدْرِ كِفَايَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ فِيهَا حَقِيقَةً مُتَعَيِّنَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ طَلَبَهَا، وَهُوَ جَارٍ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمٌ مُتَعَيِّنٌ وَأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَيَأْتِي وَجْهُ فَسَادِهِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَت اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 103] {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْفُرْقَةِ، فَدَلَّ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَمَذْهَبُكُمْ أَنَّ دِينَ اللَّهِ مُخْتَلِفٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فِي الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالظَّنِّ كَاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْ يَحْكُمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ، وَالْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الْمُخْتَلِفِ أَمْرٌ بِالِاخْتِلَافِ، فَهَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكُمْ إشْكَالُهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ مُنْكِرِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ. الثَّالِثِ: وَهُوَ جَوَابُ مُنْكِرِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ

أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ أَنْ يُصَلُّوا إلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ أَنَّ الْقِبْلَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ وَلَمَّا جَازَ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنْ يُعْتِقَ وَاحِدٌ وَيَصُومَ آخَرُ وَلَمَا جَازَ لِلْمُضْطَرِّينَ إلَى مَيْتَةٍ لَا تَفِي بِرَمَقِ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَتَقَارَعُوا وَلَمَّا جَازَ الِاجْتِهَادُ فِي أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ وَفِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ وَكُلِّ مَا سَمَّيْنَاهُ بِتَحْقِيقٍ مَنَاطَ الْحُكْمِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ مُرَادُنَا الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَلْ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَعَلَى الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ. الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُمْ: حَسَمْتُمْ إمْكَانَ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالصَّحَابَةُ مُجْمِعُونَ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ الْخَطَإِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنْ الشَّيْطَانِ وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " إنْ لَمْ يَجْتَهِدُوا فَقَدْ غَشُّوا وَإِنْ اجْتَهَدُوا فَقَدْ أَخْطَئُوا، أَمَّا الْإِثْمُ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَنْكَ زَائِلًا وَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَيْكَ " وَلَمَّا كَتَبَ أَبُو مُوسَى كِتَابًا عَنْ عُمَرَ كَتَبَ فِيهِ " هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ عُمَرَ " فَقَالَ امْحُهْ وَاكْتُبْ هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ فَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ عُمَرَ وَقَالَ فِي جَوَابِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَدَّتْ عَلَيْهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَهْرِ حَيْثُ ذَكَرَتْ الْقِنْطَارَ فِي الْكِتَابِ: " أَصَابَتْ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ: " إنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ " بَعْدَ أَنْ اجْتَهَدَ شَهْرًا. الْجَوَابُ أَنَّا نُثْبِتُ الْخَطَأَ فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ: " أَنْ يَصْدُرَ الِاجْتِهَادُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، أَوْ لَا يَسْتَتِمَّ الْمُجْتَهِدُ نَظَرَهُ، أَوْ يَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ بَلْ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، أَوْ يُخَالِفَ فِي اجْتِهَادِهِ دَلِيلًا قَاطِعًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ مُثَارَاتِ إفْسَادِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّا ذَكَرْنَا عَشَرَةَ أَوْجُهٍ تُبْطِلُ الْقِيَاسَ قَطْعًا لَا ظَنًّا، فَجَمِيعُ هَذَا مَجَالُ الْخَطَإِ. وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْخَطَأُ مَتَى صَدَرَ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَهْلِهِ وَتَمَّ فِي نَفْسِهِ وَوُضِعَ فِي مَحَلِّهِ وَلَمْ يَقَعْ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَثْبُتُ اسْمُ الْخَطَإِ بِالْإِضَافَةِ إلَى طَلَبٍ لَا إلَى مَا وَجَبَ كَمَا فِي الْقِبْلَةِ وَتَحْقِيقِ مَنَاطِ الْأَحْكَامِ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَأَمَّا إنْ كَانَ اعْتَقَدَ أَنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ وَذَهَبَ مَذْهَبَ مَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا غَفَلَ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَسْتَتِمَّ نَظَرَهُ وَلَمْ يَسْتَفْرِغْ تَمَامَ وُسْعِهِ، أَوْ يَخَافَ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ أَمِنَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَكِنْ قَالَ مَا قَالَ إظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ: " أَنَا مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ " مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي إيمَانِهِمْ. ثُمَّ جَمِيعُ مَا ذَكَرُوا أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهَا الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: [مَسْأَلَةٌ نَفْيِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ] مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ فِي نَفْيِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَقَدْ وَضَعَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ قِبْلَةُ الطَّالِبِ وَمَقْصِدُ طَلَبِهِ فَيُصِيبُ أَوْ يُخْطِئُ؛ أَمَّا الْمُصَوِّبَةُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى إثْبَاتِهِ وَإِلَيْهِ تُشِيرُ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلطَّالِبِ مِنْ مَطْلُوبٍ، وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّ مَطْلُوبَ الْمُجْتَهِدِ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَشْبَهُ مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْبُرْهَانُ الْكَاشِفُ لِلْغِطَاءِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبْهَمِ هُوَ أَنَّا نَقُولُ: الْمَسَائِلُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى مَا وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ وَإِلَى مَا لَمْ يَرِدْ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ فَالنَّصُّ كَأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَكِنْ لَا يَصِيرُ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ إلَّا إذَا بَلَغَهُ وَعَثَرَ عَلَيْهِ أَوَ كَانَ عَلَيْهِ

دَلِيلٌ قَاطِعٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ الْعُثُورُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِهِ، فَهَذَا مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ وَطَلَبُهُ وَاجِبٌ وَإِذَا لَمْ يُصِبْ فَهُوَ مُقَصِّرٌ آثِمٌ. أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَيْهِ طَرِيقٌ مُتَيَسِّرٌ قَاطِعٌ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ وَتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَهُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ؛ لَكِنَّهُ عُرْضَةٌ أَنْ يَصِيرَ حُكْمًا فَهُوَ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا بِالْبُلُوغِ أَوْ تَيَسُّرِ طَرِيقِهِ عَلَى وَجْهٍ يَأْثَمُ مَنْ لَا يُصِيبُهُ. فَمَنْ قَالَ: فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَرَادَ بِهِ أَنَّهُ حُكْمٌ مَوْضُوعٌ لِيَصِيرَ حُكْمًا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ إذَا بَلَغَهُ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ وَتَيَسُّرِ الطَّرِيقِ لَيْسَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ بِالْفِعْلِ بَلْ بِالْقُوَّةِ فَهُوَ صَادِقٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ. أَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ فِيهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى خِطَابُهُ وَخِطَابُهُ يُعْرَفُ بِأَنْ يُسْمَعَ مِنْ الرَّسُولِ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ سُكُوتِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَرِّفُنَا خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اسْتِمَاعِ صِيغَةٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خِطَابٌ لَا مَسْمُوعٌ وَلَا مَدْلُولٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِيهِ حُكْمٌ؟ فَقَلِيلُ النَّبِيذِ إنْ اُعْتُقِدَ فِيهِ كَوْنُهُ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا فَمَعْنَى تَحْرِيمِهِ أَنَّهُ قِيلَ فِيهِ: لَا تَشْرَبُوهُ. وَهَذَا خِطَابٌ وَالْخِطَابُ يَسْتَدْعِي مُخَاطَبًا وَالْمُخَاطَبُ بِهِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ الْجِنُّ أَوْ الْآدَمِيُّونَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ هُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَمَتَى خُوطِبُوا وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ نَصٌّ بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ وَلَا مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ سِوَى النُّطْقِ؛ فَإِذًا لَا يُعْقَلُ خِطَابٌ لَا مُخَاطَبَ بِهِ كَمَا لَا يُعْقَلُ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ لَهُ وَقَتْلٌ لَا مَقْتُولَ لَهُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُخَاطَبَ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْخِطَابَ وَلَا يَعْرِفُهُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَمَارَاتِ أَدِلَّةً مَجَازٌ، فَإِنَّ الْأَمَارَاتِ لَا تُوجِبُ الظَّنَّ لِذَاتِهَا بَلْ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ، فَمَا لَا يُفِيدُ الظَّنَّ لِزَيْدٍ فَقَدْ يُفِيدُ لِعَمْرٍو وَمَا يُفِيدُ لِزَيْدٍ حُكْمًا فَقَدْ يُفِيدُ لِعَمْرٍو وَنَقِيضُهُ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ فِي حَقِّ زَيْدٍ فِي حَالَتَيْنِ فَلَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْمَعْرِفَةِ وَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لَعَصَى إذَا لَمْ يُصِبْهُ، فَسَبَبُ هَذَا الْغَلَطِ إطْلَاقُ اسْمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْأَمَارَاتِ مَجَازًا فَظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ مُحَقَّقٌ وَإِنَّمَا الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ النَّفْسِ إلَى شَيْءٍ وَاسْتِحْسَانُ الْمَصَالِحِ كَاسْتِحْسَانِ الصُّوَرِ، فَمَنْ وَافَقَ طَبْعُهُ صُورَةً مَالَ إلَيْهَا وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْحُسْنِ، وَذَلِكَ قَدْ يُخَالِفُ طَبْعَ غَيْرِهِ فَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْقُبْحِ حَيْثُ يَنْفِرُ عَنْهُ؛ فَالْأَسْمَرُ حَسَنٌ عِنْدَ قَوْمٍ قَبِيحٌ عِنْدَ قَوْمٍ، فَهِيَ أُمُورٌ إضَافِيَّةٌ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْأَسْمَرُ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ قَبِيحٌ؟ قُلْنَا: لَا حَقِيقَةَ لِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا مُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ الطِّبَاعِ وَمُخَالَفَتُهُ لِبَعْضِهَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا هُوَ عِنْدَ النَّاسِ، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ عِنْدَ زَيْدٍ قَبِيحٌ عِنْدَ عَمْرٍو، إذْ لَا مَعْنَى لَحُسْنِهِ إلَّا مُوَافَقَتُهُ طَبْعَ زَيْدٍ وَلَا مَعْنَى لِقُبْحِهِ إلَّا مُخَالَفَتُهُ لِطَبْعِ عَمْرٍو. وَكَذَلِكَ تَحْرِيكُ الرَّغْبَةِ لِلْفَضَائِلِ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْعَطَاءِ هُوَ حَسَنٌ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُوَافِقٌ لِرَأْيِهِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ مُوَافِقًا لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلْ الْحَسَنُ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا بَلَاغًا وَلَا يَلْتَفِتَ إلَيْهَا. فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ فِي الظُّنُونِ يَنْبَغِي أَنْ تُفْهَمَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْغِطَاءُ، وَإِنَّمَا غَلَطَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ كَمَا ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ وَصْفٌ لِلذَّوَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نُطْقٌ وَلَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ نَازِلٌ مَوْضُوعٌ، لَكِنْ نَعْنِي بِالْأَشْبَهِ فِيمَا هُوَ قِبْلَةٌ لِلطَّالِبِ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُ لَوْ نَزَّلَهُ وَرُبَّمَا كَانَ الشَّارِعُ يَقُولُهُ لَوْ رُوجِعَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. قُلْنَا: هَذَا هُوَ

الْحُكْمُ بِالْقُوَّةِ وَمَا كَانَ يَنْزِلُ لَوْ نَزَلَ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمًا وَلَوْ نَزَلَ فَقَبْلَ نُزُولِهِ لَيْسَ حُكْمًا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حُكْمَ؛ وَمَنْ أَخْطَأَ لَمْ يُخْطِئْ الْحُكْمَ بَلْ أَخْطَأَ مَا كَانَ لَعَلَّهُ سَيَصِيرُ حُكْمًا لَوْ جَرَى فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ إنْزَالُهُ وَلَمْ يَجْرِ فِي تَقْدِيرِهِ فَلَا مَعْنَى لَهُ وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَجُوزَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا فِي تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَةُ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يَنْزِلُ لَوْ أُنْزِلَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَتَصْوِيبُ كُلِّ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا كَيْفَمَا قَالَ أَوْ يَنْزِلُ تَخْطِئَةُ كُلِّ مَنْ قَطَعَ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ حَيْثُ لَمْ يَتَخَيَّرْ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّجْوِيزَاتِ لَا تَنْحَصِرُ فَرُبَّمَا يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْعِبَادِ فِي أَنْ لَا يَضَعَ فِي الْوَقَائِعِ حُكْمًا بَلْ يَجْعَلَ حُكْمَهَا تَابِعًا لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ فَتَعَبُّدُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَ وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ مَنْ يَقُولُ فِيهَا بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ فَيَكُونُ فِي هَذَا تَخْطِئَةُ كُلِّ مَنْ أَثْبَتَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ حُكْمًا مُعَيَّنًا نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا. احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: إنَّمَا اضْطَرَّنَا إلَى هَذَا ضَرُورَةُ الطَّلَبِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا؛ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَمَادَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يُطْلَبَ الظَّنُّ أَوْ الْعِلْمُ بِجَهْلِهِ وَعِلْمِهِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ خَالٍ عَنْ وَصْفِ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَطْلُبَ مَا يَعْتَقِدُ انْتِفَاءَهُ؟ فَإِذَا اعْتَقَدَ الطَّالِبُ أَنَّ قَلِيلَ النَّبِيذِ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا وَلَا حَلَالًا فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ أَحَدِهِمَا؟ قُلْنَا: فَقَدْ أَخْطَأْتُمْ إذْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَطْلُبُ حُكْمَ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ خِطَابُهُ، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا خِطَابَ بَلْ إنَّمَا يَطْلُبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَهُوَ كَمَنْ كَانَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَقِيلَ لَهُ: إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ السَّلَامَةُ أُبِيحَ لَك الرُّكُوبُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ الْهَلَاكُ حَرُمَ عَلَيْكَ الرُّكُوبُ. وَقَبْلَ حُصُولِ الظَّنِّ لَا حُكْمَ لِلَّهِ عَلَيْكَ وَإِنَّمَا حُكْمُهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ظَنِّكَ وَيَتْبَعُ ظَنَّكَ بَعْدَ حُصُولِهِ، فَهُوَ يَطْلُبُ الظَّنَّ دُونَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الْبَحْرِ مَعْقُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي أَمَارَاتِ الْهَلَاكِ وَالسَّلَامَةِ فَذَلِكَ مَطْلُوبُهُ، وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ أَمْرٌ وَرَاءَهُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا مَطْلُوبَ سِوَى الْحُكْمِ. قُلْنَا: مِنْ هَهُنَا غَلِطْتُمْ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ؛ وَنَحْنُ نَكْشِفُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ فَنَقُولُ: لَوْ قُلْنَا لِلشَّارِعِ: مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَطَاءِ الْوَاجِبِ التَّسْوِيَةَ أَوْ التَّفْضِيلَ؟ ؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ إمَامٍ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي التَّسْوِيَةِ هُوَ التَّسْوِيَةُ، وَحُكْمُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي التَّفْضِيلِ التَّفْضِيلُ، وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ تَحْصِيلِ الظَّنِّ إنَّمَا يَتَجَدَّدُ حُكْمُهُ بِالظَّنِّ وَبَعْدَهُ كَمَا يَتَجَدَّدُ الْحُكْمُ عَلَى رَاكِبِ الْبَحْرِ بَعْدَ الظَّنِّ وَيَتَجَدَّدُ عَلَى قَاضِيَيْنِ شَهِدَ عِنْدَهُمَا فِي وَاقِعَتَيْنِ شَخْصَانِ وُجُوبُ الْقَبُولِ وَوُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَظَنِّ الْكَذِبِ، فَيَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا التَّصْدِيقُ وَعَلَى الْآخَرِ التَّكْذِيبُ. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: مَا حُكْمُهُ فِي قَلِيلِ النَّبِيذِ؟ فَقَالَ: حُكْمُهُ تَحْرِيمُ الشُّرْبِ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ قَلِيلَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ إلَى كَثِيرِهِ وَالتَّحْلِيلُ لِمَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا إلَّا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى قَبْلَ هَذَا الظَّنِّ. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: مَا حُكْمُ اللَّهِ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَتُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَمْ عَلَى الْجَانِي؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِالْحُرِّ أَشْبَهَ الضَّرْبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَعَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِالْبَهِيمَةِ أَشْبَهَ الضَّرْبَ عَلَى الْجَانِي. وَكَذَلِكَ نَقُولُ: مَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي بَيْعِ الْجَصِّ وَالْبِطِّيخِ؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبُرِّ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ تَحْرِيمُ الْبِطِّيخِ دُونَ الْجَصِّ وَعَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُهُ لِلْكَيْلِ تَحْرِيمُ الْجَصِّ دُونَ الْبِطِّيخِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْبُرِّ عِنْدَ اللَّهِ أَهِيَ الطَّعْمُ أَمْ

الْكَيْلُ أَوْ الْقُوتُ؟ فَنَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّعْمِ وَالْكَيْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِذَاتِهَا بَلْ مَعْنَى كَوْنِهَا عِلَّةً أَنَّهَا عَلَامَةٌ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكَيْلَ عَلَامَةٌ فَهُوَ عَلَامَةٌ فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَامَتَهُ الطَّعْمُ وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ وَصْفًا ذَاتِيًّا كَالْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ حَتَّى يَجِبَ أَنْ يَكُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا مَحَالَةَ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ وَالْوَضْعُ يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ وَقَدْ وَضَعْتُهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ بِهِ فَهُوَ مَعْقُولٌ وَجَانِبُ الْخَصْمِ لَوْ صَرَّحَ بِهِ كَانَ مُحَالًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حُكْمٌ لَيْسَ بِخِطَابٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُخَاطَبٍ وَمُكَلَّفٍ، فَإِنَّ هَذَا يُضَادُّ حَدَّ الْحُكْمِ وَحَقِيقَتَهُ، أَوْ يَقُولُ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ يَقُولُ: لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَقَدْ أُمِرَ بِهِ لَكِنَّهُ لَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُضَادُّ حَدَّ الْوَاجِبِ وَيُضَادُّ حَدَّ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ ضِدُّهُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ يُقَالَ: الْقِبْلَةُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى؟ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ خَالَفَ اجْتِهَادَ نَفْسِهِ وَاسْتَقْبَلَ جِهَةً أُخْرَى فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَاسْتَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ الشَّرْعِيُّ عَلَى الْمُمْكِنِ دُونَ الْمُحَالِ. هَذَا حُكْمُ التَّأْثِيمِ وَالتَّصْوِيبِ، وَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ فِي صُوَرِ مَسَائِلَ. [مَسْأَلَة تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ] مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ وَلَمْ يَجِدْ دَلِيلًا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَتَحَيَّرَ. فَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ يَقُولُونَ: هَذَا بِعَجْزِ الْمُجْتَهِدِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ تَعَارُضٌ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَيَلْزَمُ التَّوَقُّفُ أَوْ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ آخَرَ عَثَرَ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَأَمَّا الْمُصَوِّبَةُ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَوَقَّفُ لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِاتِّبَاعِ غَالِبِ الظَّنِّ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ ظَنُّ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ الْأَسْلَمُ الْأَسْهَلُ، وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَهَذَا رُبَّمَا يُسْتَنْكَرُ وَيُسْتَبْعَدُ، وَيُقَالُ: كَيْفَ يَتَخَيَّرُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ؟ وَلَيْسَ هَذَا مُحَالًا؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ صَرَّحَ الشَّرْعُ بِالتَّخْيِيرِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَدْ اُضْطُرِرْنَا إلَى التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يُؤْخَذُ مِنْ النَّصِّ وَتَارَةً مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَتَارَةً مِنْ الشَّبَهِ وَتَارَةً مِنْ الِاسْتِصْحَابِ. فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى النَّصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَارَضَ فِي حَقِّنَا نَصَّانِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ تَارِيخٌ أَوْ يَتَعَارَضَ عُمُومَانِ وَلَا يَتَبَيَّنُ تَرْجِيحٌ أَوْ يَتَعَارَضَ اسْتِصْحَابَانِ كَمَا فِي مَسَائِلِ تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ يَتَعَارَضَ شَبَهَانِ بِأَنْ تَدُورَ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَيَكُونَ شَبَهُهُ هَذَا كَشَبَهِهِ ذَاكَ أَوْ يَتَعَارَضَ مَصْلَحَتَانِ بِحَيْثُ لَا تَرْجِيحَ. فَلَوْ قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ، فَإِلَى مَتَى يَتَوَقَّفُ؟ وَرُبَّمَا لَا يَقْبَلُ الْحُكْمُ التَّأْخِيرَ وَلَا نَجِدُ مَأْخَذًا آخَرَ لِلْحُكْمِ وَلَا نَجِدُ مُفْتِيًا آخَرَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَوْ وُجِدَ مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِخَيَالٍ هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، فَكَيْفَ يُرَجِّحُ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ؟ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَّا التَّخَيُّرُ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ عَلَى الْعَامِّيِّ مُفْتِيَانِ اسْتَوَى حَالُهُمَا عِنْدَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ، وَلَمْ يَجِدْ ثَالِثًا فَلَا طَرِيقَ إلَّا التَّخْيِيرُ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ مَذَاهِبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَقْسِمُ الْمَالَ بَيْنَهُمَا وَمَعْنَاهُ تَصْدِيقُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَتَقْدِيرُ أَنَّهُ قَامَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَبَبُ كَمَالِ الْمِلْكِ، لَكِنْ ضَاقَ الْمَحَلُّ عَنْ الْوَفَاءِ بِهِمَا وَلَا تَرْجِيحَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّاهُ بِالشُّفْعَةِ إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ سَبَبٌ كَامِلٌ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ لَكِنْ ضَاقَ الْمَحَلُّ

فَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا. وَعَلَى الْجُمْلَةِ الِاحْتِمَالَاتُ أَرْبَعَةٌ: إمَّا الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ جَمِيعًا أَوْ إسْقَاطُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا بِالتَّحَكُّمِ أَوْ التَّخْيِيرُ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ عَمَلًا وَإِسْقَاطًا؛ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فَإِنَّ فِيهِ تَعْطِيلًا، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّحَكُّمِ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا؛ فَلَا يَبْقَى إلَّا الرَّابِعُ وَهُوَ التَّخْيِيرُ كَمَا فِي اجْتِمَاعِ الْمُفْتِيَيْنِ عَلَى الْعَامِّيِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَمَا اسْتَحَالَتْ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ فَالتَّخْيِيرُ أَيْضًا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَهُوَ مُحَالٌ. قُلْنَا: الْمُحَالُ مَا لَوْ صَرَّحَ الشَّرْعُ بِهِ لَمْ يُعْقَلْ، وَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ: مَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَيَّ جِدَارٍ أَرَادَ فَيَتَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِدَارًا أَوْ يَسْتَدْبِرَهُ، كَانَ مَعْقُولًا لِأَنَّهُ كَيْفَمَا فَعَلَ فَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ شَيْئًا مِنْ الْكَعْبَةِ، وَكَيْفَمَا تَقَلَّبَ فَإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: تَعَبَّدْتُكُمْ بِاتِّبَاعِ الِاسْتِصْحَابِ، ثُمَّ تَعَارَضَ اسْتِصْحَابَانِ فَكَيْفَمَا تَقَلَّبَ فَهُوَ مُسْتَصْحِبٌ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا غَائِبًا انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اشْتِغَالِ الذِّمَّةِ فَقَدْ تَعَارَضَا. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْمُجْتَهِدُ أَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ مَصْلَحَةً وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنْ وَحْشَةِ الصُّدُورِ بِمِقْدَارِ التَّفَاوُتِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّرُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَفِي التَّفَاوُتِ مَصْلَحَةُ تَحْرِيكِ رَغَبَاتِ الْفَضَائِلِ وَهُمَا مَصْلَحَتَانِ رُبَّمَا تَسَاوَتَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، فَكَيْفَمَا فَعَلَ فَقَدْ مَالَ إلَى مَصْلَحَةٍ. وَكَذَلِكَ قَدْ تُشْبِهُ الْمَسْأَلَةُ أَصْلَيْنِ شَبَهًا مُتَسَاوِيًا وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ الشَّبَهِ فَكَيْفَمَا فَعَلَ فَهُوَ مُمْتَثِلٌ، وَمِثَالُهُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» فَمَنْ لَهُ مِنْ الْإِبِلِ مِائَتَانِ فَإِنْ أَخْرَجَ الْحِقَاقَ فَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» وَإِنْ أَخْرَجَ بَنَاتِ لَبُونٍ فَقَدْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» وَلَيْسَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَتَخَيَّرُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ الِاسْتِصْحَابِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالشَّبَهِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَنَقِيضِهِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَتَرْكِهِ يَرْفَعُ الْوُجُوبَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مَمْلُوكَتَيْنِ إمَّا أَنْ يُحَرِّمَ أَوْ لَا يُحَرِّمَ، فَإِنْ قُلْنَا بِهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ. قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرْجَعَ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ وَالْمُسْقِطِ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّسَاقُطِ وَيُطْلَبَ الدَّلِيلُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَيُخَصَّ وَجْهُ التَّخْيِيرِ بِمَا لَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّخْيِيرِ لَمْ يَتَنَاقَضْ مِمَّا يُضَاهِي مَسْأَلَةَ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقِ وَكَالِاخْتِلَافِ فِي الْمُحْرِمِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّحْلِيلَيْنِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ إذْ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا مَعْقُولٌ فَيَحْصُلُ فِي تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ وَجْهٌ فِي التَّسَاقُطِ، وَوَجْهٌ فِي التَّخْيِيرِ، وَوَجْهٌ فِي التَّفْصِيلِ؛ وَفَصْلٌ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ إذْ يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهَا وَبَيْنَ مَا يَتَعَارَضُ فِيهِ الْمُوجِبُ وَالْمُبِيحُ أَوْ الْمُحَرِّمُ وَالْمُبِيحُ فَلَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيهِ فَيَرْجِعُ إلَى التَّسَاقُطِ. وَإِنْ أَرَدْنَا الْإِصْرَارَ عَلَى وُجُوبِ التَّخْيِيرِ مُطْلَقًا فَلَهُ وَجْهٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يُنَاقِضُ الْوُجُوبُ جَوَازَ التَّرْكِ مُطْلَقًا أَمَّا جَوَازُهُ بِشَرْطٍ فَلَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى التَّرَاخِي وَإِذَا أَخَّرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمْ يَلْقَ اللَّهَ عَاصِيًا عِنْدَنَا إذَا أَخَّرَ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَجَوَازُ تَرْكِهِ بِشَرْطِ الْعَزْمِ لَا يُنَافِي فِي الْوُجُوبِ بَلْ الْمُسَافِرُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَرْضًا وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ رَكْعَتَيْنِ، فَالرَّكْعَتَانِ وَاجِبَتَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا وَلَكِنْ جَازَ تَرْكُهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ التَّرَخُّصَ وَيَقْبَلَ صَدَقَةً قَدْ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَهُوَ كَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ عَلَى غَيْرِهِ فَقَالَ لَهُ: تَصَدَّقْتُ عَلَيْكَ بِدِرْهَمَيْنِ إنْ قَبِلْتَ وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ وَأَتَيْتَ بِالْأَرْبَعَةِ قَبِلْتُ

الْأَرْبَعَةَ عَنْ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ الصَّدَقَةَ وَأَتَى بِدِرْهَمَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَتَى بِالْأَرْبَعَةِ عَنْ الْوَاجِبِ وَلَا يَتَنَاقَضُ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا إذَا اقْتَضَى اسْتِصْحَابُ شَغْلِ الذِّمَّةِ إيجَابَ عِتْقٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا غَائِبًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ اسْتِصْحَابَ الْحَيَاةِ وَيَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ، فَمَنْ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ أَوْ خَطَرَ لَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ الْعَمَلَ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] حُرِّمَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ إذَا قَصَدَ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ فَوَافَقَ يَوْمَ الْعِيدِ فَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا " مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ فَيَحْرُمُ صَوْمُ الْعِيدِ بِالنَّهْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَصُومَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ جَوَازًا بِشَرْطٍ فَلَا يَتَنَاقَضُ الْوَاجِبُ، وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ التَّخْيِيرُ الْمُطْلَقُ كَالْوَلِيِّ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ اللَّبَنِ إلَّا مَا يَسُدُّ رَمَقَ أَحَدِ رَضِيعَيْهِ وَلَوْ قَسَمَ عَلَيْهِمَا أَوْ مَنَعَهُمَا لَمَاتَا وَلَوْ أَطْعَمَ أَحَدَهُمَا مَاتَ الْآخَرُ فَإِذَا أَشَرْنَا إلَى رَضِيعٍ مُعَيَّنٍ كَانَ إطْعَامُهُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَهُ وَحَرَامًا؛ لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ غَيْرِهِ، فَنَقُولُ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُطْعِمَ هَذَا فَيَهْلِكَ ذَاكَ أَوْ ذَاكَ فَيَهْلِكَ هَذَا، فَلَا سَبِيلَ إلَّا التَّخْيِيرُ، فَإِذًا مَهْمَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ فِي وَاجِبَيْنِ كَالشَّاةِ وَالْبَدَنَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التَّحْلِيلَيْنِ تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ تَعَارَضَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ تَخَيَّرَ بِشَرْطِ قَصْدِ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ كَمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ تَرْكِ الرَّكْعَتَيْنِ قَصْدًا وَبَيْنَ إتْمَامِهِمَا لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ، وَإِنْ تَعَارَضَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ حَصَلَ التَّخْيِيرُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا. هَذَا طَرِيقُ نُصْرَةِ اخْتِيَارِ الْقَاضِي فِي التَّخْيِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعَارُضُ دَلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا يَخْفَى التَّرْجِيحُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ. قُلْنَا: وَبِمَ عَرَفْتُمْ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ؟ فَكَمَا تَعَارَضَ مُوجِبُ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقِ فَلَمْ يَسْتَحِلْ أَنْ يَتَعَارَضَ اسْتِصْحَابَانِ وَشَبَهَانِ وَمَصْلَحَتَانِ وَيَنْتَفِي التَّرْجِيحُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ؟ قُلْنَا: هُوَ التَّخْيِيرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَالتَّرَدُّدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، كَتَرَدُّدِهِ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ هَلْ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ بِإِضَافِيٍّ فَيَكُونَ الْحَقُّ فِيهِ وَاحِدًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَذْهَبُ التَّخْيِيرِ يُفْضِي إلَى مُحَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ الْحَاكِمُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ أَوْ اسْتِغْرَاقِ الْجَدِّ لِلْمِيرَاثِ أَوْ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ الْخِيَرَةُ، وَكَذَلِكَ يُخَيِّرُ الْمُفْتِي الْعَامِّيَّ، وَكَذَلِكَ يَحْكُمُ لِزَيْدٍ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَلِعَمْرٍو بِنَقِيضِهِ وَيَوْمَ السَّبْتِ بِاسْتِغْرَاقِ الْجَدِّ لِلْمِيرَاثِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ بِالْمُقَاسَمَةِ بَلْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ وَتُسْتَرَدُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِالرَّأْيِ الْآخَرِ. قُلْنَا: لَا تَخْيِيرَ لِلْمُتَخَاصَمَيْنِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَفْصِلَ الْخُصُومَةَ بِأَيِّ رَأْيٍ أَرَادَ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ السَّاعِي وَالْمَالِكُ فِي بَنَاتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقِ وَفِي الشَّاةِ وَالدَّرَاهِمِ فِي الْجُبْرَانِ فَالْحَاكِمُ يَحْكُمُ بِمَا أَرَادَ أَمَّا الرُّجُوعُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ عِنْدَكُمْ تُغَيَّرُ فَتْوَاهُ وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ السَّابِقُ لِلْمَصْلَحَةِ، أَمَّا قَضَاؤُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ بِخِلَافِ قَضَائِهِ يَوْمَ السَّبْتِ

وَفِي حَقِّ زَيْدٍ بِخِلَافِ مَا فِي حَقِّ عَمْرٍو فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ؟ أَلَيْسَ ذَلِكَ جَائِزًا؟ فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ دَلِيلَانِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا كَمَا فِي الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ يَجُوزُ أَنْ يُشِيرَ بِإِشَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيَأْمُرَ زَيْدًا بِبَنَاتِ اللَّبُونِ وَعَمْرًا بِالْحِقَاقِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ يَجُوزُ أَنْ يُغَايِرَ أَمْرُ الْحُكْمِ أَمْرَ الْفَتْوَى لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ الِاجْتِهَادُ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمَاضِيَ وَيَحْكُمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ إذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ فِي جِهَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ لَا تَقْبَلُ التَّأْخِيرَ وَلَا مُجْتَهِدَ يُقَلِّدُ فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَّا أَنْ يَتَخَيَّرَ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيُصَلِّيَ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْجِهَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ دَلَّ اجْتِهَادُهُ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ لَيْسَتْ فِيهِمَا، فَهَذِهِ أُمُورٌ لَوْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهَا مِنْ الشَّارِعِ كَانَ مَقْبُولًا وَمَعْقُولًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ: " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ " [مَسْأَلَةٌ فِي نَقْضِ الِاجْتِهَادِ] ِ. الْمُجْتَهِدُ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ فَنَكَحَ امْرَأَةً خَالَعَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَزِمَهُ تَسْرِيحُهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إمْسَاكُهَا عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ حَاكِمٌ بَعْدَ أَنْ خَالَعَ الزَّوْجُ ثَلَاثًا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُنْقَضْ اجْتِهَادُهُ السَّابِقُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ نُقِضَ الِاجْتِهَادُ لَنُقِضَ النَّقْضُ أَيْضًا وَلَتَسَلْسَلَ فَاضْطَرَبَتْ الْأَحْكَامُ وَلَمْ يُوثَقْ بِهَا. أَمَّا إذَا نَكَحَ الْمُقَلِّدُ بِفَتْوَى مُفْتٍ وَأَمْسَكَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ دَوْرِ الطَّلَاقِ وَقَدْ نَجَّزَ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدَّوْرِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُفْتِي فَهَلْ عَلَى الْمُقَلِّدِ تَسْرِيحُ زَوْجَتِهِ؟ هَذَا رُبَّمَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ تَسْرِيحُهَا كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ هُوَ الَّذِي يُنْقَضُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَ نَصًّا وَلَا دَلِيلًا قَاطِعًا فَإِنْ أَخْطَأَ النَّصَّ نَقَضْنَا حُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَنَبَّهْنَا لِأَمْرٍ مَعْقُولٍ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ أَوْ تَنْقِيحِهِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَنَبَّهَ لَهُ لَعَلِمَ قَطْعًا بُطْلَانَ حُكْمِهِ فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مُخَالِفَ النَّصِّ مُصِيبٌ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ فَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ. قُلْنَا: نَعَمْ، هُوَ مُصِيبٌ بِشَرْطِ دَوَامِ الْجَهْلِ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَحُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ فَحُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ، لَكِنْ عِنْدَ الْجَهْلِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وُجُوبًا حَاصِلًا نَاجِزًا وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ أَيْ هِيَ بِصَدَدِ أَنْ تَصِيرَ حَرَامًا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَمَهْمَا عَلِمَ لَزِمَهُ تَدَارُكُ مَا مَضَى وَكَانَ ذَلِكَ صَلَاةً بِشَرْطِ دَوَامِ الْجَهْلِ وَكَذَلِكَ مَهْمَا بَلَغَ الْمُجْتَهِدَ النَّصُّ نُقِضَ حُكْمُهُ الْوَاقِعُ، فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ الْآخَرُ الْعَالِمُ بِالنَّصِّ يُنْقَضُ حُكْمُهُ. وَعِنْدَ هَذَا نُنَبِّهُ عَلَى دَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ حَالِ الْمُكَلَّفِ فِي الظَّنِّ وَالْعِلْمِ كَاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالطُّهْرِ وَالْحَيْضِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبٌ لِسَفَرِهِ أَوْ عَجْزِهِ فَلَا يَجِبُ إزَالَةُ سَفَرِهِ وَعَجْزِهِ لِيَتَحَقَّقَ الْوُجُوبُ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ لِجَهْلِهِ وَجَبَ إزَالَةُ جَهْلِهِ فَإِنَّ التَّعْلِيمَ وَتَبْلِيغَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَتَعْرِيفَ أَسْبَابِهِ وَاجِبٌ وَكَذَلِكَ نَقُولُ: مَنْ صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَا يَعْرِفُهَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَا يَقْضِيهَا عَلَى قَوْلٍ، فَمَنْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ تِلْكَ النَّجَاسَةَ يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهُ وَلَوْ

تَيَمَّمَ لِيُصَلِّيَ وَقَدَرَ غَيْرُهُ عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَجْزَهُ بِحَمْلِ مَاءٍ إلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَفِي هَذِهِ الدَّقِيقَةِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَحُكْمُ سَائِرِ الْأَوْصَافِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ خَالَفَ الْحَاكِمُ قِيَاسًا جَلِيًّا هَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ؟ قُلْنَا: قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُنْقَضُ. فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ قِيَاسًا مَظْنُونًا مَعَ كَوْنِهِ جَلِيًّا فَلَا وَجْهَ لَهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ظَنٍّ وَظَنٍّ، فَإِذَا انْتَفَى الْقَاطِعُ فَالظَّنُّ يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ وَمَا يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَتَبُّعِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ حَكَمَ عَلَى خِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ بِمُجَرَّدِ صِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْ حَكَمَ فِي الْفَسَادِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ فَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ وَقَدْ قَطَعْتُمْ بِصِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنَّهْيَ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى الْفَسَادِ؟ قُلْنَا مَهْمَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّهُ حُكْمٌ لِرَدِّهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْ أَنَّهُ حُكْمٌ بِمُجَرَّدِ صِيغَةِ الْأَمْرِ، بَلْ لَعَلَّهُ كَانَ حُكْمُ الدَّلِيلِ آخَرَ ظَهَرَ لَهُ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَكَمَ لِذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ وَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَعَ ذَلِكَ ظَنِّيَّةً اجْتِهَادِيَّةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الظَّنِّيَّةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَقَدْ حَكَمَ بِمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فَلَيْسَ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْحُكْمِ بَلْ حَكَمَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْحُكْمُ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ لَيْسَ حُكْمًا بِرَدِّ الْخَبَرِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْمَقْطُوعُ بِهِ كَوْنُ الْخَبَرِ حُجَّةً عَلَى الْجُمْلَةِ، أَمَّا آحَادُ الْمَسَائِلِ فَلَا يُقْطَعُ فِيهَا بِحُكْمٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ حَكَمَ بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ لَكِنْ وَافَقَ مُجْتَهِدًا آخَرَ وَقَلَّدَهُ فَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ؟ وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ مُقَلِّدٌ بِخِلَافِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَهَلْ يُنْقَضُ؟ قُلْنَا: هَذَا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ لَا يُعْرَفُ يَقِينًا بَلْ يُحْتَمَلُ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِهِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَا يَصِحُّ حُكْمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْنُ وَإِنْ حَكَمْنَا بِتَنْفِيذِ حُكْمِ الْمُقَلِّدِينَ فِي زَمَانِنَا لِضَرُورَةِ الْوَقْتِ فَإِنْ قَضَيْنَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَتْبَعَ أَيَّ مُفْتٍ شَاءَ بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ إمَامِهِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالصَّوَابِ فِي ظَنِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْقَضَ حُكْمُهُ، وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ؛ فَإِذَا وَافَقَ مَذْهَبَ ذِي مَذْهَبٍ فَقَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ. وَهَذِهِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ أَعْنِي نَقْضَ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ فِي شَيْءٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةٌ فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَتَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ] وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُخَالِفَهُ وَيَعْمَلَ بِنَظَرِ غَيْرِهِ وَيَتْرُكَ نَظَرَ نَفْسِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَجْتَهِدْ بَعْدُ وَلَمْ يَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الِاجْتِهَادِ كَالْعَامِّيِّ فَلَهُ التَّقْلِيدُ، وَهَذَا لَيْسَ مُجْتَهِدًا لَكِنْ رُبَّمَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَعَاجِزًا عَنْ الْبَعْضِ إلَّا بِتَحْصِيلِ عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ مَثَلًا فِي مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ وَعِلْمِ صِفَاتِ الرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ خَبَرِيَّةٍ وَقَعَ النَّظَرُ فِيهَا فِي صِحَّةِ الْإِسْنَادِ؛ فَهَذَا مِنْ حَيْثُ حَصَّلَ بَعْضَ الْعُلُومِ وَاسْتَقَلَّ بِهَا لَا يُشْبِهُ الْعَامِّيَّ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ هَذَا الْعِلْمَ فَهُوَ كَالْعَامِّيِّ، فَيَلْحَقُ بِالْعَامِّيِّ أَوْ بِالْعَالِمِ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَالْأَشْهَرُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ، وَإِنَّمَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ الَّذِي صَارَتْ الْعُلُومُ عِنْدَهُ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ، أَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى تَعَبٍ كَثِيرٍ فِي التَّعْلِيمِ بَعْدُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ عَاجِزٌ، وَكَمَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ فَالْعَامِّيُّ أَيْضًا يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ وَلَا يَلْزَمُهُ بَلْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الِاجْتِهَادِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُبْتَدِئِ فِي الْعِلْمِ وَبَيْنَ رُتْبَةِ الْكَمَالِ مَنَازِلُ وَاقِعَةٌ بَيْنَ

طَرَفَيْنِ، وَلِلنَّظَرِ فِيهَا مَجَالٌ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا الْآنَ فِي الْمُجْتَهِدِ. لَوْ بَحَثَ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَنَظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ لَاسْتَقَلَّ بِهَا وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعَلُّمِ عِلْمٍ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُجْتَهِدُ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ أَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ؟ هَذَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَنَّ مَنْ وَرَاءَ الصَّحَابَةِ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ وَقَالَ قَوْمٌ: مَنْ وَرَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ؟ وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْلِيدِ الْعَالِمِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُقَلِّدُ الْعَالِمُ الْأَعْلَمَ وَلَا يُقَلِّدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ الْعَالِمَ فِيمَا يُفْتِي وَفِيمَا يَخُصُّهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يُفْتِي وَخَصَّصَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَخُصُّهُ مَا يَفُوتُ وَقْتُهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ وَاخْتَارَ الْقَاضِي مَنْعَ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلصَّحَابَةِ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ تَقْلِيدَ مَنْ لَا تَثْبُتُ عِصْمَتُهُ وَلَا يُعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ إصَابَتُهُ بَلْ يَجُوزُ خَطَؤُهُ وَتَلْبِيسُهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ وَلَا نَصَّ وَلَا مَنْصُوصَ إلَّا الْعَامِّيَّ وَالْمُجْتَهِدَ، إذْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَأْخُذَ بِنَظَرِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَلِلْعَامِّيِّ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ؛ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِظَنِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْعِلْمِ فَالضَّرُورَةُ دَعَتْ إلَيْهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ. أَمَّا الْعَامِّيُّ فَإِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ لِلْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ بِنَفْسِهِ، وَالْمُجْتَهِدُ غَيْرُ عَاجِزٍ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعَاجِزِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى الْعَالِمِ بِوَضْعِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَالْمُبَادَرَةِ قَبْلَ اسْتِتْمَامِ الِاجْتِهَادِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ فِي بَعْضِهَا إلَى الْيَقِينِ وَفِي بَعْضِهَا إلَى الظَّنِّ، فَكَيْفَ يَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَى عَمَايَةٍ كَالْعُمْيَانِ وَهُوَ بَصِيرٌ بِنَفْسِهِ؟ وَهُوَ لَيْسَ يَقْدِرُ إلَّا عَلَى تَحْصِيلِ ظَنٍّ وَظَنُّ غَيْرِهِ كَظَنِّهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَكُمْ وَقَدْ صَوَّبْتُمْ كُلَّ مُجْتَهِدٍ. قُلْنَا: مَعَ هَذَا إذَا حَصَلَ ظَنُّهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ اتِّبَاعُ ظَنِّ غَيْرِهِ فَكَانَ ظَنُّهُ أَصْلًا وَظَنُّ غَيْرِهِ بَدَلًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْمُبْدَلِ فَلَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَبْدَالِ وَالْمُبْدَلَاتِ إلَّا إنْ وَرَدَ نَصٌّ بِالتَّخْيِيرِ فَتَرْتَفِعُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ يَرِدَ نَصٌّ بِأَنَّهُ بَدَلٌ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا عِنْدَ الْعَدَمِ، كَبِنْتِ مَخَاضٍ وَابْنِ لَبُونٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّ وُجُوبَ بِنْتِ مَخَاضٍ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ ابْنِ لَبُونٍ وَالْقُدْرَةُ عَلَى شِرَائِهِ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: حَصَرْتُمْ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي الْإِلْحَاقِ ثُمَّ قَطَعْتُمْ طَرِيقَ الْإِلْحَاقِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَأْخَذَهُ الْإِلْحَاقُ بَلْ عُمُومَاتٌ تَشْمَلُ الْعَامِّيَّ وَالْعَالِمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَمَا أَرَادَ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَصْلًا فَإِنَّ ذَاكَ مَجْنُونٌ أَوْ صَبِيٌّ بَلْ مَنْ لَا يَعْلَمُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَهُمْ الْعُلَمَاءُ. قُلْنَا: أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَمْرُ الْعَوَامّ بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ إذْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَيَّزَ السَّائِلُ عَنْ الْمَسْئُولِ فَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَسْئُولٌ وَلَيْسَ بِسَائِلٍ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنْ لَا تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ حَاضِرَةً فِي ذِهْنِهِ إذْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مَعْرِفَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: سَلُوا لِتَعْلَمُوا، أَيْ سَلُوا عَنْ الدَّلِيلِ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ، كَمَا يُقَالُ: كُلْ لِتَشْبَعَ، وَاشْرَبْ لِتُرْوَى.

وَأَمَّا أُولُو الْأَمْرِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِمْ الْوُلَاةَ إذْ أَوْجَبَ طَاعَتَهُمْ كَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ اتِّبَاعُ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْوُلَاةَ فَالطَّاعَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَالطَّاعَةُ عَلَى الْعَوَامّ وَلَا نَفْهَمُ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ نَقُولُ: يُعَارِضُ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ عُمُومَاتٌ أَقْوَى مِنْهَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا ابْتِدَاءً فِي الْمَسْأَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَقَوْلِهِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَقَوْلِهِ {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وَقَوْلِهِ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ بِالتَّدَبُّرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاعْتِبَارِ، وَلِيس خِطَابًا مَعَ الْعَوَامّ، فَلَمْ يَبْقَ مُخَاطَبٌ إلَّا الْعُلَمَاءُ وَالْمُقَلِّدُ تَارِكٌ لِلتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] وَ {ولَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إلَى الْكِتَابِ فَقَطْ لَكِنْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةُ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْقِيَاسِ وَصَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُنَزَّلًا فَهُوَ الْمُتَّبَعُ دُونَ أَقْوَالِ الْعِبَادِ. فَهَذِهِ ظَوَاهِرُ قَوِيَّةٌ وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ يَقْوَى فِيهَا التَّمَسُّكُ بِأَمْثَالِهَا، وَيُعْتَضَدُ ذَلِكَ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ تَشَاوَرُوا فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْعَوْلِ وَالْمُفَوِّضَةِ وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَحَكَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِظَنِّ نَفْسِهِ وَلَمْ يُقَلِّدْ غَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمْ أَهْلُ الشُّورَى نَظَرٌ فِي الْأَحْكَامِ مَعَ ظُهُورِ الْخِلَافِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِقَوْلِ غَيْرِهِمْ. قُلْنَا: كَانُوا لَا يُفْتُونَ اكْتِفَاءً بِمَنْ عَدَاهُمْ فِي الْفَتْوَى، أَمَّا عَمَلُهُمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِمَا سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكِتَابِ وَعَرَفُوهُ، فَإِنْ وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ لَمْ يَعْرِفُوا دَلِيلَهَا شَاوَرُوا غَيْرَهُمْ لِتَعَرُّفِ الدَّلِيلِ لَا لِلتَّقْلِيدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ؟ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مَا وَافَقَ الْأَعْلَمَ فَذَاكَ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خِلَافُهُ فَمَا يَنْفَعُ كَوْنُهُ أَعْلَمَ وَقَدْ صَارَ رَأْيُهُ مُزَيَّفًا عِنْدَهُ، وَالْخَطَأُ جَائِزٌ عَلَى الْأَعْلَمِ وَظَنُّهُ أَقْوَى فِي نَفْسِهِ مِنْ ظَنِّ غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِظَنِّ نَفْسِهِ وِفَاقًا وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَقْلِيدُهُ؛ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ تَقْلِيدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ لِأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَلِأَبِي بَكْرٍ وَلِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يَخُصُّهُ وَبَيْنَ مَا يُفْتِي بِهِ؟ قُلْنَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ لِلْمُسْتَفْتِي مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَكِنْ لَا يُفْتِي مَنْ يَسْتَفْتِيهِ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، إذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الْفَتْوَى لِلْعَوَامِّ وَأَمَّا مَا يَخُصُّهُ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَكَانَ فِي الْبَحْثِ تَفْوِيتٌ فَهَذَا هَلْ يُلْحِقُهُ بِالْعَاجِزِ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ؟ فِيهِ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُدُولِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَتَنَاوُبِ جَمَاعَةٍ عَلَى بِئْرِ مَاءٍ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُحْتَمَلَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْفَنُّ الثَّانِي فِي التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ وَحُكْمِ الْعَوَامّ فِيهِ] [مَسْأَلَةٌ التَّقْلِيدُ هُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّة] الْفَنُّ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْقُطْبِ فِي التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ وَحُكْمِ الْعَوَامّ فِيهِ وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: مَسْأَلَةٌ: التَّقْلِيدُ هُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا

فِي الْفُرُوعِ وَذَهَبَ الْحَشَوِيَّةُ وَالتَّعْلِيمِيَّة إلَى أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ التَّقْلِيدُ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ وَأَنَّ النَّظَرَ وَالْبَحْثَ حَرَامٌ. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ مَسَالِكُ، الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ صِدْقَ الْمُقَلِّدِ لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ. وَدَلِيلُ الصِّدْقِ الْمُعْجِزَةُ فَيُعْلَمُ صِدْقُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمُعْجِزَتِهِ وَصِدْقُ كَلَامِ اللَّهِ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ صِدْقِهِ وَصِدْقُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ عِصْمَتِهِمْ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْحُكْمُ بِقَوْلِ الْعُدُولِ لَا بِمَعْنَى اعْتِقَادِ صِدْقِهِمْ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى تَعَبُّدِ الْقُضَاةِ بِاتِّبَاعِ غَلَبَةِ الظَّنِّ صَدَقَ الشَّاهِدُ أَمْ كَذَبَ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ اتِّبَاعُ الْمُفْتِي؛ إذْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَوَامّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ كَذَبَ الْمُفْتِي أَمْ صَدَقَ أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ. فَنَقُولُ: قَوْلُ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ لَزِمَ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِحُجَّةٍ فَلَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا، فَإِنَّا نَعْنِي بِالتَّقْلِيدِ قَبُولَ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ فَحَيْثُ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ وَلَمْ يُعْلَمْ الصِّدْقُ بِضَرُورَةٍ وَلَا بِدَلِيلٍ فَالِاتِّبَاعُ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْجَهْلِ. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: أَتُحِيلُونَ الْخَطَأَ عَلَى مُقَلَّدِكُمْ أَمْ تُجَوِّزُونَهُ؟ فَإِنْ جَوَّزْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ شَاكُّونَ فِي صِحَّةِ مَذْهَبِكُمْ، وَإِنْ أَحَلْتُمُوهُ فَبِمَ عَرَفْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ بِضَرُورَةٍ أَمْ بِنَظَرٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَلَا ضَرُورَةَ وَلَا دَلِيلَ؟ فَإِنْ قَلَّدْتُمُوهُ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَذْهَبَهُ حَقٌّ فَبِمَ عَرَفْتُمْ صِدْقَهُ فِي تَصْدِيقِ نَفْسِهِ؟ وَإِنْ قَلَّدْتُمْ فِيهِ غَيْرَهُ فَبِمَ عَرَفْتُمْ صِدْقَ الْمُقَلَّدِ الْآخَرِ؟ وَإِنْ عَوَّلْتُمْ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إلَى قَوْلِهِ فَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ سُكُونِ نُفُوسِكُمْ وَسُكُونِ نُفُوسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ؟ وَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ مُقَلَّدِكُمْ: إنِّي صَادِقٌ مُحِقٌّ وَبَيْنَ قَوْلِ مُخَالِفِكُمْ؟ وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا فِي إيجَابِ التَّقْلِيدِ: هَلْ تَعْلَمُونَ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ فَلِمَ قَلَّدْتُمْ وَإِنْ عَلِمْتُمْ فَبِضَرُورَةٍ أَمْ بِنَظَرٍ أَوْ تَقْلِيدٍ؟ وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ السُّؤَالُ فِي التَّقْلِيدِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ فَلَا يَبْقَى إلَّا إيجَابُ التَّقْلِيدِ بِالتَّحَكُّمِ. فَإِنْ قِيلَ: عَرَفْنَا صِحَّتَهُ بِأَنَّهُ مَذْهَبٌ لِلْأَكْثَرِينَ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ. قُلْنَا: وَبِمَ أَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ يَقُولُ: الْحَقُّ دَقِيقٌ غَامِضٌ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا الْأَقَلُّونَ وَيَعْجَزُ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّفَرُّغِ لِلنَّظَرِ وَنَفَاذِ الْقَرِيحَةِ وَالْخُلُوِّ عَنْ الشَّوَاغِلِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُحِقًّا فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَهُوَ فِي شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى خِلَافِ الْأَكْثَرِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] كَيْفَ وَعَدَدُ الْكُفَّارِ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرُ؟ ثُمَّ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَتَوَقَّفُوا حَتَّى تَدُورُوا فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَتَعُدُّوا جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ، فَإِنْ سَاوَوْهُمْ تَوَقَّفُوا وَإِنْ غَلَبُوا رَجَحُوا، كَيْفَ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْكُنَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ «وَالشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» قُلْنَا: أَوَّلًا، بِمَ عَرَفْتُمْ صِحَّةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ تَقْلِيدٍ فَبِمَ تَتَمَيَّزُونَ عَنْ مُقَلَّدٍ اعْتَقَدَ فَسَادَهَا؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَمُتَّبِعُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ بَلْ عَلِمَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ وَذَلِكَ قَبُولُ قَوْلٍ بِحُجَّةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْإِجْمَاعِ " وَأَنَّهُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوَافَقَةِ الْإِمَامِ أَوْ مُوَافَقَةِ الْإِجْمَاعِ. وَلَهُمْ شُبَهٌ: الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّاظِرَ مُتَوَرِّطٌ فِي شُبُهَاتٍ

وَقَدْ كَثُرَ ضَلَالُ النَّاظِرِينَ فَتَرْكُ الْخَطَرِ وَطَلَبُ السَّلَامَةِ أَوْلَى. قُلْنَا: وَقَدْ كَثُرَ ضَلَالُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَقْلِيدِكُمْ وَتَقْلِيدِ سَائِرِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ؟ ثُمَّ نَقُولُ: إذَا وَجَبَتْ الْمَعْرِفَةُ كَانَ التَّقْلِيدُ جَهْلًا وَضَلَالًا فَكَأَنَّكُمْ حَمَلْتُمْ هَذَا خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ، كَمَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ عَطَشًا وَجُوعًا خِيفَةً مِنْ أَنْ يَغَصَّ بِلُقْمَةٍ أَوْ يَشْرَقَ بِشَرْبَةٍ لَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ، وَكَالْمَرِيضِ يَتْرُكُ الْعِلَاجَ رَأْسًا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعِلَاجِ، وَكَمَنْ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَالْحِرَاثَةَ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ صَاعِقَةٍ فَيَخْتَارُ الْفَقْرَ خَوْفًا مِنْ الْفَقْرِ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجِدَالِ فِي الْقَدَرِ وَالنَّظَرُ يَفْتَحُ بَابَ الْجِدَالِ قُلْنَا: نَهَى عَنْ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5] بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فَأَمَّا الْقَدَرُ فَنَهَاهُمْ عَنْ الْجِدَالِ فِيهِ؛ إمَّا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَفَهُمْ عَلَى الْحَقِّ بِالنَّصِّ فَمَنَعَهُمْ عَنْ الْمُمَارَاةِ فِي النَّصِّ أَوْ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَاحْتَرَزَ عَنْ أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُخَالِفُ فَيَقُولَ: هَؤُلَاءِ بَعْدُ لَمْ تَسْتَقِرَّ قَدَمُهُمْ فِي الدِّينِ أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَدْفُوعِينَ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ إنَّا نُعَارِضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] ، هَذَا كُلُّهُ نَهْيٌ عَنْ التَّقْلِيدِ وَأَمْرٌ بِالْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ عَظُمَ شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ» وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِالتَّقْلِيدِ بَلْ بِالْعِلْمِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " لَا تَكُونَنَّ إمَّعَةً " قِيلَ: وَمَا إمَّعَةٌ؟ قَالَ: " أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَنَا مَعَ النَّاسِ إنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ وَإِنْ اهْتَدَوْا اهْتَدَيْتُ، أَلَا لَا يُوَطِّنَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَكْفُرَ إنْ كَفَرَ النَّاسُ ". [مَسَالَةٌ الْعَامِّيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتَاءُ وَاتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ] وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ: يَلْزَمُهُمْ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِمَسْلَكَيْنِ: أَحَدِهِمَا: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ الْعَوَامَّ وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عَلَى الضَّرُورَةِ وَالتَّوَاتُرِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْإِمَامِيَّةِ: كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ عَلِيٍّ لِعِصْمَتِهِ وَكَانَ عَلِيٌّ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ تُقْيَةً وَخَوْفًا مِنْ الْفِتْنَةِ. قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي حَالِ وَلَايَتِهِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي اضْطِرَابٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَعَلَّ جَمِيعَ مَا قَالَهُ خَالَفَ فِيهِ الْحَقَّ خَوْفًا وَتَقِيَّةً الْمَسْلَكِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ مُكَلَّفٌ بِالْأَحْكَامِ، وَتَكْلِيفُهُ طَلَبَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ وَتَتَعَطَّلَ الْحِرَفُ وَالصَّنَائِعُ وَيُؤَدِّي إلَى خَرَابِ الدُّنْيَا لَوْ اشْتَغَلَ النَّاسُ بِجُمْلَتِهِمْ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يَرُدُّ الْعُلَمَاءَ إلَى طَلَبِ الْمَعَايِشِ وَيُؤَدِّي إلَى انْدِرَاسِ الْعِلْمِ بَلْ إلَى إهْلَاكِ الْعُلَمَاءِ وَخَرَابِ الْعَالَمِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ هَذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ التَّقْلِيدَ وَهَذَا عَيْنُ التَّقْلِيدِ. قُلْنَا: التَّقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ وَهَؤُلَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أَفْتَى بِهِ الْمُفْتِي بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ قَبُولُ الشُّهُودِ

وَوَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ وَذَلِكَ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَالظَّنُّ مَعْلُومٌ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ مَعْلُومٌ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ فَهَذَا الْحُكْمُ قَاطِعٌ، وَالتَّقْلِيدُ جَهْلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَفَعْتُمْ التَّقْلِيدَ مِنْ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا يَحِلُّ تَقْلِيدُ أَحَدٍ سِوَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ أَثْبَتَ تَقْلِيدًا. قُلْنَا: قَدْ صَرَّحَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ رَأْسًا إلَّا مَا اسْتَثْنَى فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الِاسْتِفْتَاءَ وَقَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَهَادَةَ الْعُدُولِ تَقْلِيدًا، نَعَمْ، يَجُوزُ تَسْمِيَةُ قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ تَقْلِيدًا وَتَوَسُّعًا وَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ لِحُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِ جُمْلَةً فَلَا تَطْلُبْ مِنْهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَكَأَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ خَاصَّةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ تَقْلِيدًا مَجَازًا. [مَسْأَلَةٌ لَا يَسْتَفْتِي الْعَامِّيُّ إلَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ] أَمَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْلِ فَلَا يَسْأَلُهُ وِفَاقًا، وَإِنْ سَأَلَ مَنْ لَا يَعْرِفُ جَهْلَهُ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَحْثُ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُ قَوْلِ غَيْرِهِ فَيَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ حَالِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ مَعْرِفَةُ حَالِ الرَّسُولِ بِالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَتِهِ فَلَا يُؤْمَنُ بِكُلِّ مَجْهُولٍ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ مَعْرِفَةُ حَالِ الشَّاهِدِ فِي الْعَدَالَةِ وَالْمُفْتِي مَعْرِفَةُ حَالِ الرَّاوِي وَعَلَى الرَّعِيَّةِ مَعْرِفَةُ حَالِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ كَيْفَ يُسْأَلُ مَنْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَجْهَلَ مِنْ السَّائِلِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَةَ الْمُفْتِي هَلْ يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ؟ إنْ قُلْتُمْ يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ فَقَدْ خَالَفْتُمْ الْعَادَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلْدَةً فَيَسْأَلُ عَالِمَ الْبَلْدَةَ وَلَا يَطْلُبُ حُجَّةً عَلَى عَدَالَتِهِ، وَإِنْ جَوَّزْتُمْ مَعَ الْجَهْلِ فَكَذَلِكَ فِي الْعِلْمِ. قُلْنَا: مَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ فَلَا يَسْأَلُهُ وَمَنْ عَرَفَهُ بِالْعَدَالَةِ فَيَسْأَلُهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَهْجُمُ بَلْ يَسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَلْبِيسَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: ظَاهِرُ حَالِ الْعَالِمِ الْعَدَالَةُ لَا سِيَّمَا إذَا اُشْتُهِرَ بِالْفَتْوَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ظَاهِرُ حَالِ الْخَلْقِ الْعِلْمُ وَنَيْلُ دَرَجَةِ الْفَتْوَى وَالْجَهْلُ أَغْلَبُ عَلَى الْخَلْقِ فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عَوَامُّ إلَّا الْأَفْرَادَ بَلْ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ إلَّا الْآحَادَ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ وَجَبَ السُّؤَالُ لِمَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ أَوْ عِلْمِهِ فَيُفْتَقَرُ إلَى التَّوَاتُرِ أَمْ لَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ؟ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَكْفِي غَالِبَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِقَوْلِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ، وَقَدْ جَوَّزَ قَوْمٌ الْعَمَلَ بِإِجْمَاعٍ نَقَلَهُ الْعَدْلُ الْوَاحِدُ وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ وَجْهٍ [مَسْأَلَةٌ مُرَاجَعَة العامى للمفتى] مَسْأَلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلْدَةِ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ مُرَاجَعَتُهُ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ وَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الْأَعْلَمِ كَمَا فُعِلَ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ إذْ سَأَلَ الْعَوَامُّ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى الْخَلْقِ فِي سُؤَالِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَجِبُ مُرَاجَعَةُ الْأَفْضَلِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا تَخَيَّرَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ إذْ لَمْ يَحْجُرْ الْفَاضِلُ عَلَى الْمَفْضُولِ الْفَتْوَى بَلْ لَا تَجِبُ إلَّا مُرَاجَعَةُ مَنْ عَرَفَهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَقَدْ عُرِفَ كُلُّهُمْ بِذَلِكَ. نَعَمْ، إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ فِي حُكْمٍ فَإِنْ تَسَاوَيَا رَاجَعَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ تَنَاقَضَ فَتْوَاكُمَا تَسَاوَيْتُمَا عِنْدِي، فَمَا الَّذِي يَلْزَمُنِي؟ فَإِنْ خَيَّرَاهُ تَخَيَّرَ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ الْمَيْلِ إلَى جَانِبٍ مُعَيَّنٍ فَعَلَ وَإِنْ أَصَرَّا عَلَى الْخِلَافِ لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْطِيلِ الْحُكْمِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَالْأَئِمَّةُ كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَى

اهْتَدَى، أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ وَأَعْلَمَ فِي اعْتِقَادِهِ اخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَوْ انْفَرَدَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَزِيَادَةُ الْفَضْلِ لَا تُؤَثِّرُ وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ الْأَفْضَلِ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَعْلَمُ وَالصَّوَابَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَغْلَبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِمَذْهَبِ مُخَالِفِهِ بِالتَّشَهِّي وَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَنْتَقِيَ مِنْ الْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَطْيَبَهَا عِنْدَهُ فَيَتَوَسَّعَ بَلْ هَذَا التَّرْجِيحُ عِنْدَهُ كَتَرْجِيحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عِنْدَ الْمُفْتِي فَإِنَّهُ يَتْبَعُ ظَنَّهُ فِي التَّرْجِيحِ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَإِنْ صَوَّبْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَلَكِنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَبِالْحُكْمِ قَبْلَ تَمَامِ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، وَالْغَلَطُ عَلَى الْأَعْلَمِ أَبْعَدُ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا التَّحْقِيقُ وَهُوَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سِرًّا فِي رَدِّ الْعِبَادِ إلَى ظُنُونِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا مُهْمَلِينَ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى مُسْتَرْسِلِينَ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُمَّهُمْ لِجَامُ التَّكْلِيفِ فَيَرُدَّهُمْ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ فَيَتَذَكَّرُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَنَفَاذَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ، فَمَا دُمْنَا نَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِهِمْ بِضَابِطٍ فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَخْيِيرِهِمْ وَإِهْمَالِهِمْ كَالْبَهَائِمِ وَالصِّبْيَانِ، أَمَّا إذَا عَجَزْنَا عِنْدَ تَعَارُضِ مُفْتِيَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ دَلِيلَيْنِ فَذَلِكَ ضَرُورَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَوْ يُصَوَّبُ فِيهَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِيهَا النَّظَرُ بَلْ يَتَخَيَّرُ فَيَفْعَلُ مَا شَاءَ، إذْ مَا مِنْ جَانِبٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ مُجْتَهِدٍ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا تَحْصِيلُ الظَّنِّ ثُمَّ يَتْبَعُ مَا ظَنَّهُ؛ فَكَذَلِكَ ظَنُّ الْعَامِّيِّ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ ظَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ طُرُقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَالْعَامِّيُّ يَحْكُمُ بِالْوَهْمِ وَيَغْتَرُّ بِالظَّوَاهِرِ وَرُبَّمَا يُقَدِّمُ الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ فَلْيَنْظُرْ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ وَلْيَحْكُمْ بِمَا يَظُنُّهُ فَلِمَعْرِفَةِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ أَدِلَّةٌ غَامِضَةٌ لَيْسَ دَرْكُهَا مِنْ شَأْنِ الْعَوَامّ. وَهَذَا سُؤَالٌ وَاقِعٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مَنْ مَرِضَ لَهُ طِفْلٌ وَهُوَ لَيْسَ بِطَبِيبٍ فَسَقَاهُ دَوَاءً بِرَأْيِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا مُقَصِّرًا ضَامِنًا، وَلَوْ رَاجَعَ طَبِيبًا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ طَبِيبَانِ فَاخْتَلَفَا فِي الدَّوَاءِ فَخَالَفَ الْأَفْضَلَ عُدَّ مُقَصِّرًا، وَيُعْلَمُ فَضْلُ الطَّبِيبَيْنِ بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ وَبِإِذْعَانِ الْمَفْضُولِ لَهُ وَبِتَقْدِيمِهِ بِأَمَارَاتٍ تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ يُعْلَمُ الْأَفْضَلُ بِالتَّسَامُعِ وَبِالْقَرَائِنِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ نَفْسِ الْعِلْمِ، وَالْعَامِّيُّ أَهْلٌ لَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالِفَ الظَّنَّ بِالتَّشَهِّي. فَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا وَالْأَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ فِي ضَبْطِ الْخَلْقِ بِلِجَامِ التَّقْوَى وَالتَّكْلِيفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْفَنُّ الثَّالِثُ فِي التَّرْجِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ] [الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ] الْفَنُّ الثَّالِثُ مِنْ الْقُطْبِ الرَّابِعِ فِي التَّرْجِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَيَشْتَمِلُ هَذَا الْفَنُّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثٍ وَبَابَيْنِ أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَفِي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ. فَنَقُولُ: يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَنْ يَرُدَّ نَظَرَهُ إلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ثُمَّ يَبْحَثَ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ فَيَنْظُرَ أَوَّلَ شَيْءٍ فِي الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعًا تَرَكَ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

فَإِنَّهُمَا يَقْبَلَانِ النَّسْخَ، وَالْإِجْمَاعُ يَقْبَلُهُ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى النَّسْخِ إذْ لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى الْخَطَإِ. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَاطِعَ وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ السَّمْعِيَّةِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا، فَمَا وُجِدَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أُخِذَ بِهِ، وَيَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَظَوَاهِرِهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمِنْ الْأَقْيِسَةِ فَإِنْ عَارَضَ قِيَاسٌ عُمُومًا أَوْ خَبَرُ وَاحِدٍ عُمُومًا فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَفْظًا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا نَظَرَ إلَى قِيَاسِ النُّصُوصِ، فَإِنْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ أَوْ خَبَرَانِ أَوْ عُمُومَانِ طَلَبَ التَّرْجِيحَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِنْ تَسَاوَيَا عِنْدَهُ تَوَقَّفَ عَلَى رَأْيٍ وَتَخَيَّرَ عَلَى رَأْيٍ آخَرَ كَمَا سَبَقَ. [الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَقِيقَةِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّة وَمَحَلِّهِ] الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَقِيقَةِ التَّعَارُضِ وَمَحَلِّهِ. اعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَجْرِي بَيْنَ ظَنَّيْنِ؛ لِأَنَّ الظُّنُونَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مَعْلُومَيْنِ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْعُلُومِ أَقْوَى وَأَغْلَبَ مِنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى وَأَقْرَبَ حُصُولًا وَأَشَدَّ اسْتِغْنَاءً عَنْ التَّأَمُّلِ، بَلْ بَعْضُهَا يَسْتَغْنِي عَنْ أَصْلِ التَّأَمُّلِ وَهُوَ الْبَدِيهِيُّ وَبَعْضُهَا غَيْرُ بَدِيهِيٍّ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ لَكِنَّهُ بَعْدَ الْحُصُولِ مُحَقَّقٌ يَقِينِيٌّ لَا يَتَفَاوَتُ فِي كَوْنِهِ مُحَقَّقًا فَلَا تَرْجِيحَ لِعِلْمٍ عَلَى عِلْمٍ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ قَاطِعَانِ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّرْجِيحِ، بَلْ إنْ كَانَا مُتَوَاتِرَيْنِ حُكِمَ بِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَعَرَفْنَا التَّارِيخَ أَيْضًا حَكَمْنَا بِالْمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ فَصِدْقُ الرَّاوِي مَظْنُونٌ فَنُقَدِّمُ الْأَقْوَى فِي نُفُوسِنَا. وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ نَصَّيْنِ قَاطِعَيْنِ فَكَذَلِكَ فِي عِلَّتَيْنِ قَاطِعَتَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصِبَ اللَّهُ عِلَّةً قَاطِعَةً لِلتَّحْرِيمِ فِي مَوْضِعٍ، وَعِلَّةً قَاطِعَةً لِلتَّحْلِيلِ فِي مَوْضِعٍ، وَتَدُورُ بَيْنَهُمَا مَسْأَلَةٌ تُوجَدُ فِيهَا الْعِلَّتَانِ، وَنَتَعَبَّدُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ قَاطِعٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَقَاطِعٌ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي فَرْعٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ لَا كَالْعِلَلِ الْمَظْنُونَةِ؛ لِأَنَّ الظُّنُونَ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَاتِ فَلَا تَجْتَمِعُ فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَقَاوَمَ ظَنَّانِ أَوْجَبْنَا التَّوَقُّفَ عَلَى رَأْيٍ كَمَا لَوْ تَعَارَضَ قَاطِعَانِ وَمَنْ أَمَرَ بِالتَّخْيِيرِ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ نَصَّانِ قَاطِعَانِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ التَّخْيِيرَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ، فَكَذَلِكَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْلِيلِ تَصْرِيحٌ بِالنَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَيَكُونَ مُتَنَاقِضًا. أَمَّا الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى تَعَبُّدِ الْمُجْتَهِدِ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ فَيَصْلُحُ لَأَنْ يَنْزِلَ عَلَى اتِّبَاعِ أَغْلَبِ الظَّنَّيْنِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِ الْمَصْلَحَةِ وَبِالتَّشْبِيهِ وَبِالِاسْتِصْحَابِ فَإِذَا تَعَارَضَا فَكَيْفَمَا فَعَلَ فَهُوَ مُسْتَصْحِبٌ وَمُشَبِّهٌ وَمُتَّبِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ. أَمَّا الْقَوَاطِعُ فَمُتَضَادَّةٌ وَمُتَنَاقِضَةٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا فَلَا تَقْبَلُ الْجَمْعَ، نَعَمْ لَوْ أُشْكِلَ التَّارِيخُ وَعَجَزْنَا عَنْ طَلَبِ دَلِيلٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُتَخَيَّرَ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ مَعَ تَضَادِّهِمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ عِلْمٌ وَظَنٌّ؟ قُلْنَا: لَا فَإِنَّ الظَّنَّ لَوْ خَالَفَ الْعِلْمَ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَا عُلِمَ كَيْفَ يُظَنُّ خِلَافُهُ؟ وَظَنُّ خِلَافِهِ شَكٌّ، فَكَيْفَ يُشَكُّ فِيمَا يُعْلَمُ وَإِنْ وَافَقَهُ؟ فَإِنْ أَثَّرَ الظَّنُّ بِالْكُلِّيَّةِ بِالْعِلْمِ فَلَا يُؤَثِّرُ مَعَهُ. [الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ فِي دَلِيلِ وُجُوبِ التَّرْجِيحِ] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ رَجَّحْتُمْ أَحَدَ الظَّنَّيْنِ وَكُلُّ

ظَنٍّ لَوْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ؟ وَهَلَّا قَضَيْتُمْ بِالتَّخْيِيرِ أَوْ التَّوَقُّفِ قُلْنَا: كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الظَّنَّيْنِ وَإِنْ تَفَاوَتَا، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ السَّلَفِ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَلَى بَعْضٍ لِقُوَّةِ الظَّنِّ بِسَبَبِ عِلْمِ الرُّوَاةِ وَكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ؛ فَلِذَلِكَ قَدَّمُوا خَبَرَ أَزْوَاجِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى غَيْرِهِنَّ مِنْ النِّسَاءِ وَقَدَّمُوا خَبَرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ عَلَى خَبَرِ مَنْ رَوَى «لَا مَاءَ إلَّا مِنْ الْمَاءِ» وَخَبَرَ مَنْ رَوَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا عَلَى مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» وَكَمَا قَوَّى عَلِيٌّ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يُحَلِّفْهُ وَحَلَّفَ غَيْرَهُ وَقَوَّى أَبُو بَكْرٍ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لَمَّا رَوَى مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَوَّى عُمَرُ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ بِمُوَافَقَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الرِّوَايَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَتَبُّعُهُ. وَكَذَلِكَ إذَا غَلَب عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ الْفَرْعِ أَشْبَهَ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ فُهِمَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ تَعَبَّدُوا بِمَا هُوَ عَادَةٌ لِلنَّاسِ فِي حِرَاثَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ الطُّرُقَ الْمَخُوفَةَ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَسْبَابِ الْمَخُوفَةِ يُرَجِّحُونَ وَيَمِيلُونَ إلَى الْأَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ تُرَجِّحُوا فِي الشَّهَادَةِ بِالْكَثْرَةِ وَقُوَّةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بَلْ يُقْضَى بِالتَّعَارُضِ عِنْدَ تَنَاقُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لَمْ يُرَجِّحُوا فِي الشَّهَادَةِ وَقَدْ رَجَّحُوا فِي الرِّوَايَةِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّعَبُّدِ حَتَّى لَوْ أَتَى عَشَرَةٌ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ دُونَ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مِائَةِ امْرَأَةٍ وَلَا مِائَةِ عَبْدٍ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ. هَذِهِ هِيَ الْمُقَدِّمَاتُ. [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِيمَا تُرَجَّحُ بِهِ الْأَخْبَارُ] اعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ هُوَ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ كَانَ فِي خَبَرَيْنِ فَأَحَدُهُمَا كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمَيْنِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ فَالْجَمْعُ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَذِبًا أَوْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا نَاسِخًا، وَإِمْكَانُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالتَّنْزِيلِ عَلَى حَالَتَيْنِ كَمَا إذَا قَالَ: الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أُمَّتِي الصَّلَاةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى أُمَّتِي؛ فَنَقُولُ: أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَرَادَ بِالثَّانِي الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ أَوْ فِي حَالَتَيْ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ أَوْ فِي زَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ. وَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ الْجَمْعِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ رَجَّحْنَا وَأَخَذْنَا بِالْأَقْوَى. وَتَقَوِّي الْخَبَرِ فِي نُفُوسِنَا بِصِدْقِ الرَّاوِي وَصِحَّتِهِ، وَتَضْعِيفُ الْخَبَرِ فِي نُفُوسِنَا إمَّا بِاضْطِرَابٍ فِي مَتْنِهِ أَوْ بِضَعْفٍ فِي سَنَدِهِ أَوْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ؛ أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ وَالْمَتْنِ فَسَبْعَةَ عَشَرَ: الْأَوَّلُ سَلَامَةُ مَتْنِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ دُونَ الْآخَرِ فَسَلَامَتُهُ مُرَجِّحَةٌ فَإِنَّ مَا لَا يَضْطَرِبُ فَهُوَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ أَشْبَهُ، فَإِنْ انْضَافَ إلَى اضْطِرَابِ اللَّفْظِ اضْطِرَابُ الْمَعْنَى كَانَ أَبْعَدَ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ الرَّسُولِ فَيَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ وَتَسَاهُلِ الرَّاوِي فِي الرِّوَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الزِّيَادَةِ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ اضْطِرَابًا يُوجِبُ اطِّرَاحَهُ. قُلْنَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى خَبَرَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ مُحَدِّثٌ بِكَثْرَةِ الِانْفِرَادِ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْحُفَّاظِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ خَبَرُ غَيْرِهِ عَلَى خَبَرِهِ. الثَّانِي اضْطِرَابُ السَّنَدِ بِأَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِهِمَا ذِكْرُ رِجَالٍ تَلْتَبِسُ أَسْمَاؤُهُمْ وَنُعُوتُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ بِأَسْمَاءِ قَوْمٍ ضُعَفَاءَ وَصِفَاتِهِمْ بِحَيْثُ يَعْسُرُ التَّمْيِيزُ. الثَّالِثُ أَنْ يَرْوِيَ أَحَدُهُمَا فِي تَضَاعِيفِ قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ مُتَدَاوَلَةٍ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ وَمُعَارِضُهُ قَدْ

انْفَرَدَ بِهِ الرَّاوِي لَا فِي جُمْلَةِ الْقِصَّةِ، فَمَا رَوَى فِي الْجَمَاعَةِ أَقْوَى فِي النُّفُوسِ وَأَقْرَبُ إلَى السَّلَامَةِ مِنْ الْغَلَطِ مِمَّا يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ عَارِيًّا عَنْ قِصَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ. الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ مَعْرُوفًا بِزِيَادَةِ التَّيَقُّظِ وَقِلَّةِ الْغَلَطِ، فَالثِّقَةُ بِرِوَايَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ أَشَدُّ. الْخَامِسُ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا سَمِعْنَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْآخَرُ أَنْ يَقُول كَتَبَ إلَيَّ بِكَذَا، فَإِنَّ التَّحْرِيفَ وَالتَّصْحِيفَ فِي الْمَكْتُوبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْمَسْمُوعِ. السَّادِسُ: أَنْ يَتَطَرَّقَ الْخِلَافُ إلَى أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الرَّاوِي أَوْ مَرْفُوعٌ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى كَوْنِهِ مَرْفُوعًا أَوْلَى. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ نَصًّا وَقَوْلًا وَالْآخَرُ يُنْسَبُ إلَيْهِ اجْتِهَادًا بِأَنْ يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَمَا نُسِبَ إلَيْهِ قَوْلًا وَنَصًّا أَقْوَى؛ لِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَمَا فِي زَمَانِهِ رُبَّمَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَمَا فِي مَجْلِسِهِ رُبَّمَا غَفَلَ عَنْهُ. الثَّامِنُ: أَنْ يُرْوَى أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ عَمَّنْ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا ضِدُّهُ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَعَارَضْ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارِضَ مُتَسَاقِطٌ فَيَبْقَى الْآخَرُ سَلِيمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَعْرِفَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَرِوَايَةُ مَيْمُونَةَ «تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَحْنُ حَلَالَانِ بَعْدَ مَا رَجَعَ» مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ نَكَحَهَا وَهُوَ حَرَامٌ» الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ أَعْدَلَ وَأَوْثَقَ وَأَضْبَطَ وَأَشَدَّ تَيَقُّظًا وَأَكْثَرَ تَحَرِّيًا. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَفْقِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَهُوَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ مَا رَآهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُجَّةً وَإِجْمَاعًا إنْ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَةَ دَارُ الْهِجْرَةِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ النَّاسِخِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَنْطَوِيَ عَلَيْهِمْ. الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنْ يُوَافِقَ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُرْسَلٌ غَيْرُهُ فَيُرَجَّحُ بِهِ مَنْ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ قَوْمٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ تَعْمَلَ الْأُمَّةُ بِمُوجِبِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ فَيَكُونَ صِدْقُهُ أَقْوَى فِي النَّفْسِ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَشْهَدَ الْقُرْآنُ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ النَّصُّ الْمُتَوَاتِرُ أَوْ دَلِيلُ الْعَقْلِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْخَبَرِ فَيُرَجَّحُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ قَاطِعٌ فِي تَصْدِيقِهِ. قُلْنَا: لَا، بَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ وَالْإِجْمَاعَ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ صِدْقُهُ إذَا اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى صِدْقِهِ لَا إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى عَمَلٍ يُوَافِقُ خَبَرَهُ وَلَعَلَّهُ عَنْ دَلِيلٍ آخَرَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ وَالْآخَرُ أَعَمَّ فَيُقَدَّمَ مَا هُوَ أَخَصُّ بِالْمَقْصُودِ، كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ: «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» فِي إيجَابِهِ عَلَى الطِّفْلِ وَالْبَالِغِ عَلَى قَوْلِهِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» لِأَنَّ هَذَا تَعَرُّضٌ لِنَفْيِ الْخِطَابِ الْعَامِّ وَلَيْسَ بِتَعَرُّضٍ لِلزَّكَاةِ وَلَا لِسُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ الْوَلِيِّ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مُتَعَرِّضٌ لِخُصُوصِ الزَّكَاةِ وَمُتَنَاوِلٌ لِعُمُومِهِ مَالَ الصَّبِيِّ فَهُوَ أَخَصُّ وَأَمَسُّ بِالْمَقْصُودِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْإِفَادَةِ وَمُعَارِضُهُ لَا يُفِيدُ إلَّا بِتَقْدِيرِ إضْمَارٍ أَوْ حَذْفٍ وَذَلِكَ مِمَّا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ زِيَادَةُ الْتِبَاسٍ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْمُسْتَقِلِّ. السَّابِعَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ رُوَاةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ أَكْثَرَ فَالْكَثْرَةُ تُقَوِّي الظَّنَّ وَلَكِنْ رُبَّ عَدْلٍ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ عَدْلَيْنِ لِشِدَّةِ تَيَقُّظِهِ وَضَبْطِهِ، وَالِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ. هَذَا مَا يُوجِبُ التَّرْجِيحَ لِأَمْرٍ فِي سَنَدِ الْخَبَرِ أَوْ فِي مَتْنِهِ؛ وَقَدْ يُرَجَّحُ لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ: كَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» مَعَ

قَوْلِهِ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» لِأَنَّا نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فِي الْإِذْنِ لَا فِي الْعَقْدِ، وَاللَّفْظُ يَعُمُّ الْإِذْنَ وَالْعَقْدَ وَهُمْ يَحْمِلُونَ خَبَرَنَا عَلَى الصَّغِيرَةِ أَوْ الْأَمَةِ أَوْ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي الْكَبِيرَةِ وَهُمْ صَرَفُوا خَبَرَنَا عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَنَحْنُ اسْتَعْمَلْنَا الْخَبَرَيْنِ فِي الْكَبِيرَةِ، فَتَأْوِيلُنَا أَقْرَبُ فَإِنَّهُ لَا يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ بَلْ كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَهُمَا، أَمَّا تَنْزِيلُ خَبَرِنَا عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْأَمَةِ فَبَعِيدٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ يُوجِبُ غَضًّا مِنْ مَنْصِبِ الصَّحَابَةِ فَيَكُونَ أَضْعَفَ، كَمَا رَوَوْا مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحَابَةَ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقَهْقَهَةِ، فَخَبَرُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: «كَانَ يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ لَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ نَوْمٍ» وَلَيْسَ فِيهِ الْقَهْقَهَةُ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مُتَنَازَعًا فِي خُصُوصِهِ، وَالْآخَرُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَطَرُّقِ الْخُصُوصِ إلَيْهِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ لَا مَحَالَةَ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ قَدْ قُصِدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ، فَدَلَالَةُ عُمُومِهِ عَلَى جِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ نَهْيِهِ عَنْ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَا سِيقَ لِبَيَانِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ بَلْ رُبَّمَا نَهَى عَنْ الِافْتِرَاشِ لِلْخُيَلَاءِ أَوْ لِخَاصِّيَّةٍ لَا نَعْقِلُهَا. الْخَامِسُ: أَنْ يَتَضَمَّنَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ إثْبَاتَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُكْمِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تُقَدَّمَ رِوَايَةُ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ حُرٍّ؛ لِأَنَّ ضَرُورَةَ الرِّقِّ فِي الْخِيَارِ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ وَلَا يَجْرِي ذَلِكَ فِي الْحُرِّ [الْقَوْلُ فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ تَرْجِيحٌ وَلَيْسَ بِتَرْجِيحٍ] وَلَهُ أَمْثِلَةٌ سِتَّةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْمَلَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ بِالْخَبَرِ دُونَ الْآخَرِ أَوْ يَعْمَلَ بَعْضُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِمُوجِبِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ فَلَا يُرَجَّحَ بِهِ إذْ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ، فَالْمَعْمُولُ بِهِ وَغَيْرُ الْمَعْمُولِ بِهِ وَاحِدٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا غَرِيبًا لَا يُشْبِهُ الْأُصُولَ كَحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ وَغُرَّةِ الْجَنِينِ وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَخَبَرِ نَبِيذِ التَّمْرِ وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فِي إحْدَى عَيْنَيْ الْفَرَسِ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَوْ صَحَّتْ لَا تُؤَخَّرُ عَنْ مُعَارِضِهَا الْمُوَافِقِ لِلْأُصُولِ؛ لِأَنَّ لِلشَّارِعِ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِالْغَرِيبِ وَالْمَأْلُوفِ، نَعَمْ لَوْ ثَبَتَ التَّقَاوُمُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ تَسَاقَطَا وَرَجَعْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ التَّرْجِيحِ فِي شَيْءٍ. الثَّالِثُ: الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَدْرَأُ الْحَدَّ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْمُوجِبِ وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَقَالَ قَوْمٌ: الرَّافِعُ أَوْلَى؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ تَفَاوُتًا فِي صِدْقِ الرَّاوِي فِيمَا يَنْقُلُهُ مِنْ لَفْظِ الْإِيجَابِ أَوْ الْإِسْقَاطِ. الرَّابِعُ: إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ فَلَا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِمَا فِي حَالَيْنِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَحَلَّ امْتِنَاعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ الْخَامِسُ: خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الْعِتْقَ وَالْآخَرُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَهُ، قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: الْمُثْبِتُ لِلْعِتْقِ أَوْلَى لِغَلَبَةِ الْعِتْقِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ تَفَاوُتًا فِي صِدْقِ الرَّاوِي وَثُبُوتِ نَقْلِهِ السَّادِسُ: الْخَبَرُ الْحَاظِرُ لَا يُرَجَّحُ عَلَى الْمُبِيحِ

عَلَى مَا ظَنَّهُ قَوْمٌ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ صِدْقُ الرَّاوِي فِيهِمَا عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ [الْبَابُ الثَّانِي فِي تَرْجِيحِ الْعِلَلِ] الْبَابُ الثَّانِي تَرْجِيحِ الْعِلَلِ وَمَجَامِعِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ تَرْجِيحُ الْعِلَلِ خَمْسَةٌ. الْأَوَّلُ: مَا يَرْجِعُ إلَى قُوَّةِ الْأَصْلِ الَّذِي مِنْهُ الِانْتِزَاعُ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْأَصْلِ تُؤَكِّدُ الْعِلَّةَ الثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إلَى تَقْوِيَةِ نَفْسِ الْعِلَّةِ فِي ذَاتِهَا. الثَّالِثُ: مَا يَرْجِعُ إلَى قُوَّةِ طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ أَمَارَةٍ. الرَّابِعُ: مَا يُقَوِّي حُكْمَ الْعِلَّةِ الثَّابِتَ بِهَا. الْخَامِسُ: أَنْ تَتَقَوَّى بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ وَمُوَافَقَتِهَا لَهَا. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَرْجِعُ إلَى قُوَّةِ الْأَصْلِ وَهِيَ عَشَرَةٌ: أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مُنْتَزَعَةً مِنْ أَصْلٍ مَعْلُومٍ اسْتِقْرَارُهُ فِي الشَّرْعِ ضَرُورَةً وَالْأُخْرَى مِنْ أَصْلٍ مَعْلُومٍ لَكِنْ بِنَظَرٍ وَدَلِيلٍ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ فَجَاحِدُ الضَّرُورِيِّ يَكْفُرُ وَجَاحِدُ النَّظَرِيِّ لَا يَكْفُرُ فَذَلِكَ أَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَدَّمْتُمْ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ مَعْلُومٌ عَلَى مَعْلُومٍ؟ قُلْنَا: الْعِلَّتَانِ مَظْنُونَتَانِ وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ أَصْلَاهُمَا وَالتَّرْجِيحُ لِلْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مُحْتَمِلًا لِلنَّسْخِ أَوْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى نَسْخِهِ فَمَا سَلِمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالِاحْتِمَالِ أَوْلَى وَأَقْوَى الثَّالِثُ: أَنْ يَثْبُتَ أَصْلُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْآخَرِ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ وَأَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا قَطْعًا فَهُوَ حَقٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَنْ ظَنَّ صِدْقَ الرَّاوِي وَالْآخَرُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا بِالْإِضَافَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ ثَابِتًا بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ وَالْآخَرُ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ عِنْدَ مَنْ يُرَجِّحُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَلَا يُرَجَّحُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ ثَابِتًا بِعُمُومٍ لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِعُمُومٍ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ لِضَعْفِهِ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ ثَابِتًا بِصَرِيحِ النَّصِّ وَالْآخَرُ ثَبَتَ بِتَقْدِيرِ إضْمَارٍ أَوْ حَذْفٍ دَقِيقٍ، فَالنَّصُّ الصَّرِيحُ أَوْلَى. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ أَصْلًا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ، فَالْفَرْعُ ضَعِيفٌ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَالْأَظْهَرُ مَنْعُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَصْلٌ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ أَصْلٍ ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مِمَّا اتَّفَقَ الْقَائِسُونَ عَلَى تَعْلِيلِهِ وَالْآخَرُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى تَعْلِيلِهِ مِنْ الْقَائِسِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كُلَّ الْأُمَّةِ أَقْرَبُ إلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مَكْشُوفًا مُعَيَّنًا وَالْآخَرُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَيُقَدَّمُ الْمَكْشُوفُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ رُتْبَتِهِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمَجْهُولُ لَا يُدْرَى مَا رُتْبَتُهُ وَمَا وَجْهُ مُعَاوَضَتِهِ لِغَيْرِهِ وَمُسَاوَاتِهِ لَهُ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مُغَيِّرًا لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالْآخَرُ مُقَرِّرًا، فَالْمُغَيِّرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَأَصْلٌ سَمْعِيٌّ وَالْآخَرُ نَفْيٌ لِلْحُكْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ، وَنَرْجِعُ إلَى بَقِيَّةِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ نُورِدُهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِتَعَلُّقِ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى قَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا. الْأَوَّلُ: أَنْ تَثْبُتَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ وَهَذَا قَدْ أُورِدَ فِي التَّرْجِيحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ يَنْمَحِي فِي مُقَابَلَةِ الْقَاطِعِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى تَرْجِيحٍ، إذْ لَوْ بَقِيَ مَعَهُ لَتَطَرَّقَ شَكُّنَا إلَيْهِ وَيَخْرُجُ عَنْ

كَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ وَلَا لِمَظْنُونٍ عَلَى مَظْنُونٍ. الثَّانِي: أَنْ تَعْتَضِدَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِمُوَافَقَةِ قَوْلِ صَحَابِيٍّ انْتَشَرَ وَسَكَتَ عَنْهُ الْآخَرُونَ، وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ إجْمَاعًا أَمَّا مَنْ اعْتَقَدَهُ إجْمَاعًا صَارَ عِنْدَهُ قَاطِعًا وَيَسْقُطُ الظَّنُّ فِي مُقَابَلَتِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُعْتَضَدَ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ وَحْدَهُ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ حُجَّةٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْوَى الْقِيَاسُ بِهِ فِي ظَنِّ مُجْتَهِدٍ، إذْ يَقُولُ إنْ كَانَ مَا قَالَهُ عَنْ تَوْقِيفٍ فَهُوَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ قَالَ مَا قَالَهُ عَنْ ظَنٍّ وَقِيَاسٍ فَهُوَ أَوْلَى بِفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ مِنَّا. وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَتَرَجَّحَ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يَتَرَجَّحَ بِمُوَافَقَتِهِ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ أَوْ بِخَبَرٍ مَرْدُودٍ عِنْدَهُ، لَكِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. فَهَذَا مُرَجَّحٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ قَاطِعًا بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِهِ، بَلْ يَرَى ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ الْخَامِسُ: أَنْ تَشْهَدَ الْأُصُولُ بِمِثْلِ حُكْمِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ أَعْنِي لِجِنْسِهَا لَا لِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُ إنْ شَهِدَتْ لِعَيْنِهَا كَانَ قَاطِعًا رَافِعًا لِلظُّنُونِ إلَى النِّيَّاتِ وَشَهَادَةِ الْكَفَّارَاتِ لِاسْتِوَاءِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي النِّيَّةِ، فَهَذَا أَيْضًا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ عِنْدَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ نَفْسُ وُجُودِ الْعِلَّةِ ضَرُورِيًّا فِي أَحَدِهِمَا نَظَرِيًّا فِي الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَيَقَّنًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا فَإِنَّ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ مَا يُتَيَقَّنُ كَكَوْنِ الْبُرِّ قُوتًا وَكَوْنِ الْخَمْرِ مُسْكِرًا وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ كَكَوْنِ الْكَلْبِ نَجِسًا إذَا عَلَّلْنَا مَنْعَ بَيْعِهِ بِنَجَاسَتِهِ وَكَكَوْنِ التُّرَابِ مُبْطِلًا رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُتَغَيِّرِ لَا سَاتِرًا كَذَلِكَ عِلَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ وَصْفَيْنِ: أَحَدِهِمَا: ضَرُورِيٌّ وَالْآخَرِ: نَظَرِيٌّ أَوْ أَحَدُهُمَا مَعْلُومٌ وَالْآخَرُ مَظْنُونٌ إذَا عَارَضَهَا مَا هُوَ ضَرُورِيُّ الْوَصْفَيْنِ أَوْ مَعْلُومُ الْوَصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا عُلِمَ مَجْمُوعُ وَصْفَيْهِ أَوْلَى مِمَّا تَطَرَّقَ الشَّكُّ أَوْ الظَّنُّ إلَى أَحَدِ وَصْفَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا مَحَالَةَ يَتْبَعُ وُجُودَ نَفْسِ الْعِلَّةِ فَمَا قَوِيَ الْعِلْمُ أَوْ الظَّنُّ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ قَوِيَ الظَّنُّ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ. السَّابِعُ: التَّرْجِيحُ بِمَا يَعُودُ إلَى التَّعَلُّقِ بِالْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ، فَإِذَا كَانَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ حُكْمًا كَكَوْنِهِ حَرَامًا أَوْ نَجِسًا، وَالْأُخْرَى حِسِّيًّا كَكَوْنِهِ قُوتًا وَمُسْكِرًا زَعَمُوا أَنَّ رَدَّ الْحُكْمِ إلَى الْحُكْمِ أَوْلَى، حَتَّى إنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالتَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ وَتَعْلِيلَهُ بِالتَّكْلِيفِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالْإِنْسَانِيَّةِ، وَهَذَا مِنْ التَّرْجِيحَاتِ الضَّعِيفَةِ. الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ سَبَبًا أَوْ سَبَبًا لِلسَّبَبِ، كَمَا لَوْ جَعَلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ عِلَّةً لِلْحَدِّ وَالْقَطْعِ كَانَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ عِلَّةً وَمِنْ جَعْلِ إيلَاجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ عِلَّةً حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى النَّبَّاشِ وَاللَّائِطِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ اسْتَنَدَتْ إلَى الِاسْمِ الَّذِي ظَهَرَ الْحُكْمُ بِهِ؛ هَذَا إذَا تَسَاوَتْ الْعِلَّتَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَمَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ بَلْ بِمَعْنًى تَضَمَّنَهُ فَالدَّلِيلُ مُتَّبَعٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا لِلْغَضَبِ وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ فَيَجْرِي فِي الْحَاقِنِ وَالْجَائِعِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْغَضَبِ الَّذِي يُنْسَبُ الْحُكْمُ إلَيْهِ. التَّاسِعُ: التَّرْجِيحُ بِشِدَّةِ التَّأْثِيرِ، وَلَا نَعْنِي بِشِدَّةِ التَّأْثِيرِ قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَقُومُ عَلَى الْمَعْنَى الْكَائِنِ فِي نَفْسِهِ دُونَ الدَّلِيلِ فَلْيَكُنْ لِكَوْنِ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرَةً مَعْنًى، ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَفِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى رُبَّمَا

نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا مُعَرِّفًا أَوْ أَمَارَةً مُعْلَنَةً وَرُبَّمَا لَمْ يَنْصِبْ دَلِيلًا فَإِذًا قُوَّةُ الدَّلِيلِ الْمُعَرِّفِ بِكَوْنِهَا عِلَّةً لَيْسَ مِنْ شِدَّةِ التَّأْثِيرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ فَسَّرُوا شِدَّةَ التَّأْثِيرِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلِهَا انْعِكَاسُ الْعِلَّةِ مَعَ اطِّرَادِهَا فَهِيَ أَوْلَى مِنْ شِدَّةِ الَّتِي لَا تَنْعَكِسُ عِنْدَ قَوْمٍ، إذْ دَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِهَا وَوُجُودِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَأْثِيرِهَا، كَشِدَّةِ الْخَمْرِ إذْ يَزُولُ الْحُكْمُ بِزَوَالِهَا. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَعَ كَوْنِهَا عِلَّةً دَاعِيَةً إلَى فِعْلِ مَا هِيَ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ، كَالشِّدَّةِ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَهِيَ دَاعِيَةٌ إلَى الشُّرْبِ الْمُحَرَّمِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِطْرَابِ وَالسُّرُورِ، فَهِيَ مَعَ تَأْثِيرِهَا فِي الْحُكْمِ أَثَّرَتْ فِي تَحْصِيلِ مَحَلِّ الْحُكْمِ وَهُوَ الشُّرْبُ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةً ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ وَعَارَضَهَا عِلَّةٌ ذَاتُ أَوْصَافٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: الْوَصْفُ الْوَاحِدُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِهِ الْمُخَالِفَ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَكْثَرُ فَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَكْثَرَ فُرُوعًا فَهِيَ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا. وَقَالَ قَوْمٌ: ذَاتُ أَوْصَافٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ حَنِيفِيَّةٌ فَالْبَاقِي عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَكْثَرُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ وُقُوعًا فَهِيَ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فَتَكُونَ أَوْلَى، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ وُجُودِهَا أَمَّا حَيْثُ لَا وُجُودَ لَهَا كَيْفَ يُطْلَبُ تَأْثِيرُهَا. الْخَامِسُ عِلَّةٌ يَشْهَدُ لَهَا أَصْلَانِ أَوْلَى مِمَّا يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهَذَا يَظْهَرُ إنْ كَانَ طَرِيقُ الِاسْتِنْبَاطِ مُخْتَلِفًا وَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا فَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْوَى ظَنُّ مُجْتَهِدٍ بِهِ وَتَكُونَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لِلْخَبَرِ، مِثَالُهُ أَنَّا إذَا تَنَازَعْنَا فِي أَنَّ يَدَ السَّوْمِ لَمْ تُوجِبْ الضَّمَانَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِلَّتُهُ أَنَّهُ أَخَذَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَعَدَّاهُ إلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَقَالَ الْخَصْمُ: بَلْ عِلَّتُهُ أَنَّهُ أَخَذَ لِيَتَمَلَّكَ فَيَشْهَدُ لِلشَّافِعِيِّ فِي عِلَّتِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدُ الْغَاصِبِ وَيَدُ الْمُسْتَعِيرِ مِنْ الْغَاصِبِ، وَلَا يَشْهَدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا يَدُ الرَّهْنِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَغْلِبَ رُجْحَانُ عِلَّةِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ وَيَكُونَ كُلُّ أَصْلٍ كَأَنَّهُ شَاهِدٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ الرِّبَا إذَا عُلِّلَ بِالطَّعْمِ يَشْهَدُ لَهُ الْمِلْحُ أَيْضًا وَإِنْ عُلِّلَ بِالْقُوتِ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ. الْعَاشِرُ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ الْعِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْعُمُومِ الَّذِي مِنْهُ الِاسْتِنْبَاطُ فَهِيَ أَوْلَى مِنْ الْمُخَصِّصَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فَبَرَزَتْ عِلَّةٌ تَقْتَضِي إخْرَاجَ الْمُحْرِمِ وَالصَّغِيرَةِ مِنْ الْعُمُومِ وَبَرَزَتْ عِلَّةٌ أُخْرَى تُوَافِقُ الْعُمُومَ، فَاَلَّذِي يَنْفِي الْعُمُومَ لِمُجَرَّدِهِ حُجَّةٌ فَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّرْجِيحِ بِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُخَصِّصَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا عَرَّفَتْ مَا لَمْ يُعَرِّفْ الْعُمُومُ فَأَفَادَتْ وَالْعِلَّةُ الْمُقَرِّرَةُ لِلْعُمُومِ لَمْ تُفِدْ مَزِيدًا فَكَانَتْ أَوْلَى كَالْمُتَعَدِّيَةِ فَإِنَّهَا أَوْلَى مِنْ الْقَاصِرَةِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَةَ قَرَّرَتْ الْمَلْفُوظَ وَأُلْحِقَ بِهِ الْمَسْكُوتُ وَأَفَادَتْ وَالْقَاصِرَةُ لَمْ تُفِدْ شَيْئًا، حَتَّى قَالَ قَائِلُونَ: هِيَ فَاسِدَةٌ، فَتَخَيَّلَ قَوْمٌ لِذَلِكَ تَرْجِيحَ الْمُتَعَدِّيَةِ؛ وَلِيس ذَلِكَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا، وَأَمَّا الْمُخَصِّصَةُ فَخَالَفَتْ مُوجِبَ الْعُمُومِ فَكَانَتْ أَضْعَفَ مِنْ الَّتِي تُخَالِفُ. الْحَادِيَ عَشَرَ تَرْجِيحُ الْعِلَّةِ بِكَثْرَةِ شَبَهِهَا بِأَصْلِهَا عَلَى الَّتِي هِيَ أَقَلُّ شَبَهًا بِأَصْلِهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الشَّبَهَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ، وَمَنْ رَأَى ذَلِكَ مُوجِبًا فَغَايَتُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَا يَجِبُ تَرْجِيحُ عِلَّتَيْنِ عَلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَرَجَّحُ بِقُوَّتِهِ لَا بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إلَيْهِ كَمَا لَا يَتَرَجَّحُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الثَّابِتِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: رَدُّ الشَّيْءِ إلَى

جِنْسِهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ، حَتَّى يَكُونَ قِيَاسُ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأُصُولِ يُنَاسِبُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا كَانَ جِنْسُ الْمَظْنُونِ وَاحِدًا كَانَ التَّفَاوُتُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ، وَعَنْ هَذَا جُعِلَ مُجَرَّدُ الشَّبَهِ حُجَّةً عِنْدَ قَوْمٍ. الثَّانِي عَشَرَ عِلَّةٌ أَوْجَبَتْ حُكْمًا وَزِيَادَةً مُرَجَّحَةً عَلَى مَا لَا يُوجِبُ الزِّيَادَةَ عِنْدَ قَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُرَدُّ لِحُكْمِهَا فَمَا كَانَتْ فَائِدَتُهَا أَكْثَرَ فَهِيَ أَوْلَى، حَتَّى قَالُوا: مَا أَوْجَبَ الْجَلْدَ وَالتَّغْرِيبَ أَوْلَى مِمَّا لَا يُوجِبُ إلَّا الْجَلْدَ وَعَلَى مَسَاقِهِ قَالُوا: عِلَّةٌ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَوْلَى مِمَّا تَقْتَضِي النَّدْبَ وَمَا تَقْتَضِي النَّدْبَ أَوْلَى مِمَّا تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ؛ لِأَنَّ فِي الْوَاجِبِ مَعْنَى النَّدْبِ وَزِيَادَةً. الثَّالِثَ عَشَرَ تَرْجِيحُ الْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى الْقَاصِرَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ مَنْ لَا يُفْسِدُ الْقَاصِرَةَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفُرُوعِ بَلْ وُجُودَ أَصْلِ الْفُرُوعِ لَا تُبَيِّنُ قُوَّةً فِي ذَاتِ الْعِلَّةِ، بَلْ يَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ: الْقَاصِرَةُ أَوْفَقُ لِلنَّصِّ فَهِيَ أَوْلَى. الرَّابِعَ عَشَرَ تَرْجِيحُ النَّاقِلَةِ عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى الْمُقَرِّرَةِ؛ لِأَنَّ النَّاقِلَةَ أَثْبَتَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَالْمُقَرِّرَةَ أَثْبَتَتْ شَيْئًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ الْمُقَرِّرَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مُعْتَضِدَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ بِالنَّفْيِ لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَّةُ، وَمِثَالُهُ عِلَّةٌ تَقْتَضِي الزَّكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ وَأُخْرَى تَنْفِي الزَّكَاةَ، وَعِلَّةٌ تُوجِبُ الرِّبَا فِي الْأُرْزِ وَأُخْرَى تَنْفِي. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ صَحَّتْ الْعِلَّةُ الْمُبْقِيَةُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ وَلَمْ تُفِدْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً لَكُنَّا نُبْقِي الْحُكْمَ أَيْضًا؟ قُلْنَا: إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ كَمَنْ عَلَّلَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هُبُوبَ الرِّيَاحِ لَا يُوجِبُ الصَّوْمَ وَالْوُضُوءَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَضِيَ تَفْصِيلًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ أَوْ تَقْتَضِيَ زِيَادَةَ شَرْطٍ أَوْ إطْلَاقًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ، كَمَا لَوْ نَصَبَ عِلَّةَ الْجَوَازِ بَيْعَ غَيْرِ الْقُوتِ فَإِنَّ تَخْصِيصَ غَيْرِ الْقُوتِ عَنْ الْقُوتِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: تَقْدِيمُ الْعِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ عَلَى النَّافِيَةِ قَالَ بِهِ قَوْمٌ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا شَرْعًا كَالْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ نَفْيًا أَصْلِيًّا يَرْجِعُ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ النَّاقِلَةِ وَالْمُقَرِّرَةِ، وَقَدْ قَالَ الْكَرْخِيُّ: " الْعِلَّةُ الدَّارِئَةُ لِلْحَدِّ أَوْلَى مِنْ الْمُوجِبَةِ " وَهَذَا يَصِحُّ بَعْدَ ثُبُوتِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَلَا يَجْرِي فِي الْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَمَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، بَلْ إذَا كَانَ لِلْوُجُوبِ وَجْهٌ، وَلِلسُّقُوطِ وَجْهٌ وَتَعَارَضَ الْوَجْهَانِ كَانَ الْمَحَلُّ مَحَلَّ شُبْهَةٍ فَيَسْقُطُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ لَا لِتَرْجِيحِ الدَّارِئَةِ عَلَى الْمُوجِبَةِ السَّادِسَ عَشَرَ تَرْجِيحُ عِلَّةٍ هِيَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى مَا هِيَ، مِثْلُ: كَتَعْلِيلِ قَبُولِ شَهَادَةِ التَّائِبِ وَقِيَاسُهُ عَلَى مَا قَبْلَ إقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ، وَتَعْلِيلِ وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْعَمْدِ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْخَطَإِ وَتَعْلِيلِ صِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ قِيَاسًا عَلَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَهُوَ أَقْوَى السَّابِعَ عَشَرَ رَجَّحَ قَوْمٌ الْعِلَّةَ الْمُلَازِمَةَ عَلَى الَّتِي تُفَارِقُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ إذْ رُبَّ لَازِمٍ لَا يَكُونُ عِلَّةً كَحُمْرَةِ الْخَمْرِ بَلْ كَوُجُودِ الْخَمْرِ وَالْبُرِّ الثَّامِنَ عَشَرَ رَجَّحَ قَوْمٌ عِلَّةً اُنْتُزِعَتْ مِنْ أَصْلٍ سَلِمَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ عَلَى عِلَّةٍ اُنْتُزِعَتْ مِنْ أَصْلٍ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْمُعَارَضَةِ بِمِثْلِهَا. التَّاسِعَ عَشَرَ رَجَّحَ قَوْمٌ عِلَّةً تُوجِبُ حُكْمًا أَخَفَّ؛؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ وَرَجَّحَ آخَرُونَ بِالضِّدِّ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ شَاقٌّ ثَقِيلٌ؛ فَهَذِهِ تَرْجِيحَاتٌ ضَعِيفَةٌ تَرْجِيحُ عِلَّةٍ تُوجِبُ فِي الْفَرْعِ مِثْلَ حُكْمِهَا عَلَى عِلَّةٍ تُوجِبُ فِي الْفَرْعِ خِلَافَ حُكْمِهَا، كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ جَنِينِ الْأَمَةِ يُوجِبُ حُكْمًا مُسَاوِيًا لِلْأَصْلِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَعْلِيلِ

أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْفَرْعِ، وَإِذْ أَوْجَبَ فِي الْأُنْثَى مِنْ الْأَمَةِ عُشْرَ قِيمَتِهَا وَفِي الذَّكَرِ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَالْأَصْلُ هُوَ جَنِينُ الْحُرَّةِ وَفِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهُ خَمْسَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ الْأُنُوثَةِ وَالذُّكُورَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَوْفَقُ لِلْأَصْلِ. فَهَذِهِ وُجُوهُ التَّرْجِيحَاتِ وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ يُفِيدُ الظَّنَّ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَرْجِيحَاتٌ مِنْ جِنْسِهَا. وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي الْقُطْبِ الرَّابِعِ وَبِهِ وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللَّه عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.