المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين/المذهب المالكي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



مذهب أهل الحديث:


ينسب هذا المذهب إلى الإمام مالك بن أنَس الأَصْبَحِيّ، رضي الله عنه، المولود سنة ٩٣هـ على الأشهر، والمتوفي بالمدينة سنة ١٧٩هـ على الصحيح. وهو ثاني المذاهب الأربعة في القدم، ويقال لأصحابه: أهل الحديث، واختص إمامُه بمُدْرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة1.

وقد نشأ المذهب المالكيّ بالمدينة موطن الإمام مالك، ثم انتشر في الحجاز، وغلب عليه وعلى البصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان.

وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً، ثم ضعف فيها بعد القرن الرابع،

وضعف بالبصرة بعد الخامس، وغلب في خراسان على «قَزْوين» وأبُهر، وظهر بنَيْسابور أولاً، وكان له بها وبغيرها أئمةٌ ومدرسون.

وكان ببلاد فارس، وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام2 وكان قد خَمَل بالمدينة، فلما تولَّى قضاءها ابن فرحون سنة ٧٩٣هـ أظهره بعد خموله3.

المالكية في مصر:


وأول من قدم به إلى مصر - على ما في «خطط المقريزي» عبد الرحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى، مولى جُمح، ثم نشره بها عبد الرحمن بن القاسم، فاشتهر بها أكثر من مذهب أبي حنيفة لتوافر أصحاب مالك بها، ولم يكن مذهب أبي حنيفة يعرف بمصر.

ويوافق هـذا ما في «الأوائل» للسيوطي، ولكنه ذكر في «حسن المحاضرة» نقلاً عن «الديباج» أن المشهور أنه من أصحاب مالك المصريين، وهو أول من أدخل علم مالك بمصر، «ولم تنبت مصر أنبل منه» إلى أن قال: وتوفى سنة ١٦٣هـ: وكلا القولين صحيح.

ففي ترجمة عثمان الجذامي من «تهذيب التهذيب» للحافظ بن حجر ما نصه وقال ابن وهب:

أوّل من قَدِمَ مصر بمسائل مالك: «عثمان بن الحكم، وعبد الرحيم بن خالد بن يزيد» انتهى. فالظاهر أنهما بعد أن أتما الأخذ عن الإمام، عادا معاً إلى مصر ونشرا بها عامه.

وفي «خطط المقريزي» أن هذا المذهب مازال معمولاً به بمصر مع الشافعي، وتولى القضاء من يذهب إليهما أو إلى مذهب أبي حنيفة إلى أن قدم القائد جوهر، فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة، وعمل به في القضاء والفتيا، وأنكر ما خالفه.

قلنا. ثم عاد الانتعاش إلى المذهب المالكي في الدولة الأيوبية، وبنيت لفقهائه المدارس، ثم عمل به في القضاء استقلالاً لمَّـا أحدث الظاهر بيبرس في الدولة التركية البحرية القضاة الأربعة، وصار قاضيه الثاني في المرتبة بعد الشافعي وكان القضاء في الدولة الأيوبية للشافعية، ولقاضيهم نواب من المذاهب الثلاثة، ولم يزل منتشراً بمصر إلى الآن معادلاً للشافعي، وأكثر انتشاره في الصعيد.

في أفريقية والأندلس:


وكان الغالب على أهل أفريقية السُّنن، ثم غلب الحنفي كما تقدم فلما تولّى عليها المعزّ بن باديس سنة ٤٠٧هـ حمل أهلها وأهل ما والاها من بلاد المغرب على المذهب المالكي، وحسم مادة الخلاف في المذاهب4 فاستمرت له الغلبة عليها وعلى سائر بلاد المغرب. وفي ذلك يقول مالك بن المُرحل المالكي شاعر المغرب.

مَذْهَبِي تَقْبِيلُ خَدِّ مُذْهبِ
سيِّدِي ماذا تَرى في مَذْهَبِي
لا تخالف مالكاً في رأيه
فعليه جُلُّ أهل المغرب5

وهو الغالب على هذه البلاد إلى اليوم. وذكر الفاسي في «العقد الثمين – في تاريخ البلد الأمين»: أن المغاربة كلّهم مالكيّة، إلا النادر ممن ينتحلون الأثر.

وكان الغالب على أهل الأندلس: مذهب الأوزّاعي، وأول من أدخله بها صَعْصَعَة بن سَلام لما انتقل إليها، وبقي بها إلى زمن الأمير هشام بن عبد الرحمن6. ثم انقطع مذهبُ الأوْزَاعِي منها بعد المائتين، وغلب عليها المذهب المالكي.

وفي «نيل الابتهاج» أن أهلَ الأندلس التزموا مذهب الأَوْزَاعِيِّ حتى قَدِمَ عليهم الطبقة الأولى ممتن لقوا الإمام مالكاً، كزياد بن عبد الرحمن، والغازي بن قيس، وقرعوس بن العباس، ونحوهم، فنشروا مذهبه «وأخذ الأمير هشام الناس به، فالتزموه وحُملوا عليه بالسيف، إلا من لا يُؤبَه له».

في «بغية الملتمس للضبيّ: أن هذا المذهب انتشر بالأندلس بيَحْيى ابن يحيى بن كثير، وتفقه به جماعة لا يحصون. وتوفى سنة ٢٣٤ وقيل سنة ٢٣٣هـ.

وفي «خطط المقريزي» و«الديباج» لابن فَرْحُون أنّ أوّل من أدخله بالأندلس: زياد بن عبد الرحمن القرطبيّ الملقب بشَبْطُون قبل يحيى بن يحيى، وكانت وفاة زياد سنة ثلاث ومائتين وقيل سنة أربع ومائتين، وقيل سنة تسع وتسعين ومائة.

وفي «نفح الطيب» تفصيل لذلك ملخّصُه:

أن جماعة من أمثال شَبْطُون كقَرْعوس بن العباس، وعيسى ابن دينار وسعيد بن أبي هند، وغيرهم.. رحلوا - إلى الحج في زمن هشام بن عبد الرحمن، والد الحكم، فلما رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس، فانتشر يومئذ رأيه وعلمه بالأندلس وكان رائد الجماعة شيطونُ، وهو أول من أدخل الموطأ إلى الأندلس مكملاً متقناً، فأخذه عنه يحيى بن يحيى، ثم أشار على يحيى بالرحيل إلى مالك، فرحل وأخذ عنه، فكان انتشار المذهب به، وبزياد، وبعيسى بن دينار.

وقال في موضع آخر:
إن سبب حَمْل ملك الأندلس الناس على المذهب المالكي في بعض الأقوال، أن الإمام مالكاً سأل عن سيرته بعض الأندلسيين فذكروا له منها ما أعجبه. فقال : نسأل الله تعالى أن يزيّن حرمنا بمالككم، أو قال كلاماً هذا معناه، وذلك لأن سيرة بني العبَّاس لم تكن مرضيةً عند مالك، ولَقِي منهم ما لَقى ممّا هو مشهور، فلما بلغ قولُه ملكَ الأندلس - مع ما علم من جلالة مالك ودينه - تحمل الناس على مذهبه وترْكِ مذهب الأوزاعيّ.

قلنا: وقد ذكر هذا السبب ابنُ نباتة أيضاً في «مسرح العيون» إلا أنه جعل ذلك في زمن عبد الرحمن الداخل، والذي أجمع عليه المؤرخون أن دخول المذهب كان في زمن ابنه هشام. ثم زاد انتشار هذا المذهب بالأندلس وبالمغرب، بانتقال الفتيا إليه في دولة الحكَم بن هشام، وكان يحيى بن يحيى بن كثير مكيناً عنده، مقبول القول، فصار لا يولِّي القضاء إلا من أشار به، فانتصر به مذهب مالك، كما انتشر الحنفي بأبي يوسف في المشرق7.

وعلل ابن خلدون غَلَبة هذا المذهب على المغرب والأندلس تعليلاً فقال:

«أما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وإن كان يوجد في غيرهم إلّا أنّهم لم يقلّدوا غيره إلّا في القليل، لأن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دارُ العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة، وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قَبْلِه وتلاميذُه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلّدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته.

وأيضاً فالبداوة كانت غالبةً على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون من الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل، لمناسبة البداوة.

ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضًّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، كما وقع في غيره من المذاهب8 انتهى.

قلنا: وتقدم في الكلام على الحنفي شيء عن سبب انقطاعه بالأندلس وغلبة المالكي فيما رواه المقدسي.

في المغرب الأقصى:


ولما قامت دولة بني تاشفين بالمغرب الأقصى في القرن الخامس، واستولوا على الأندلس، وتولى ثانيهم أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين اشتد إيثارُه لأهل الفقه والدين. فكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، وَأَلزَمَ القْضَاةَ بألا يَبَتُّوا حكومة في صغير الأمور وكبيرها إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فعظم أمر الفقهاء. ولم يكن يقرَّب منه، ويحظَى عنده إلّا من عَلِمَ مَذْهبَ مالك، فنَفَقَتْ في زمنه كتب المذهب، وعمل بمُقْتَضَاها ونُبِذَ ما سواها، وكثر ذلك حتى نُسِيَ النظر في كتاب الله وحديث رسوله صلّى الله عليه وسلم. فلم يكن أحد يعتني بها كل الاعتناء9.

ثم زالت دولتهم، واستولى الموحّدون على مملكتهم في أوائل القرن السادس، وسلك خليفتُهم عبد المؤمن بن علي هذا المسلك، فجمع الناس بالمغرب على مذهب مالك في الفروع، ومذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول10 وكان مقصده في الباطن - هو وابنه يوسف – مَحْوَ المذهب المالِكيّ، وحَمْلَ الناس على العمل بظاهر القرآن والحديث، ولكنها لم يتمكّنا من ذلك11.

فلما تولّى حفيده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، تظاهر بمذهب الظاهرية وأعرض عن مذهب مالك، فعظم أمر الظاهرية في أَيّامِه، وكان بالمغرب منهم خلقٌ كثيرٌ يقال لهم الحَزْمِيَّةُ نسبة لابن حَزْم رئيسهم، إلا أنهم كانوا مغمورين بالمالكية، فظهروا وانتشروا في أيام يعقوب، ثم في آخر أيَّامه استقضَى الشافعيَة على بعض البلاد ومال إليهم12.

قال المراكشي في «المعجب»:

وفي أيامه انقطع علم الفروع، وخَافَه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد مافيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، ففعل ذلك، وأحرق منها جملة في سائر البلاد، «كمدوّنَة» سخنون، و«کتاب» ابن يُونس، و«نوادر» ابن أبي زيد ومختصره، والتهذيب للبرادعي، و«واضحة» ابن حبيب، وما جانس هذه الكتب.

ولقد شهدتها وأنا يومئذ بمدينة فاس، يؤتى منها بالأحمال فتوضع، وتطلق فيها النَّار.

ثم أمر بجمع أحاديث من الصحيحين والترمذِي والموطَّأ وسُنن أبي داود والنَّسائي والبزَّار والدارقطني والبيْهَقيّ ومُسْند ابن أبي شيبة في الصلاة وما يتعلّق بها، فكان يُمْلِي هذا المجموع بنفسه على الناس، ويأخذهم بحفظه. ويجعل لمن يحفظه الجُعْل السنيَّ من الكُسَى والأموال. انتهى ملخصاً. وكان المذهب المالكي في القرن الرابع بالعراق والأهواز، ومنتشراً بمصر وبلاد المغرب، وغالباً على الأندلس على ما ذكره المقدسيُّ في «أحسن التقاسيم».

ويتبع المالكية في الأصول عقيدة أبي الحسن الأشعري بحيث لا يُرَى مالكيٌّ إلا شعرياً – كما في «الطبقات» و«معيد النعم» - للتاج السبكيّ.


  1. عن ابن خلدون.
  2. عن الديباج.
  3. عن نيل الابتهاج.
  4. عن ابن الأثير، وابن خلكان، ومواسم الأدب.
  5. من كناش ابن مفلح
  6. عن «بغية الملتمس»
  7. عن «المقريزي» و«بغية الملتمس» و«نفح الطيب»
  8. عن مقدمة ابن خلدون
  9. عن «المعجب» للمراكشي.
  10. عن كامل ابن الأثير.
  11. عن «المعجب» للمراكشي.
  12. عن «الكامل» لابن الأثير.