المدينة المسحورة (1946)/الليلة الثالثة
فلما كانت الليلة الثالثة قالت :
تركنا الفتاة يا مولاي سابحة في أحلامها الجميلة، وقد أغمض النوم عينيها بأنامله الرفيقة. ولكن الفتاة ما لبثت أن سمعت ضجة وجلبة ، فاستيقظت ملهوفة… لقد خيل إليها — وهى بين النوم واليقظة – أنها في الغابة ، وأنها ضجة الخيل. وتوسمت من بين كوكبة الفرسان وجه فارسها الجميل !
ولكن ماذا ؟
إنهما الشيخان… فماذا يصنعان ؟
إنهما يقوضان أركان الكوخ المنعزل ، ويحزمان متاعهما القليل الذي يحويه… وها هما ذان يوقظان ساسو في عجلة. فإن هنالك لأمراً..
وربعت الفتاة وتوجست في نفسها شرا.
– احلى يا ساسو هذا الحمل فإنه نصيبك !
– ولكن إلى أين يا أماه والدنيا لم تزل في الظلام ؟
– إلى أين ؟ ليس هذا من شئون الفتيات. إننا راحلون ياساسو، راحلون وكفى ! راحلون إلى الشمال، فما عاد لنا عيش في هذه البقعة من الأرض بعد أن كان بالأمس ما كان !!!
وغصت الفتاة بريقها، ودارت بها الأرض، واختنقت في فيها الكلمات. ولكنها انحنت على الحمل فرفعته، كما انحنى الشيخ والشيخة على حمليهما… وانطلق الثلاثة في غبش الفجر، وأمامهم الشويهات !.. إلى الشمال.
ولما كان الوالد خبيراً بالدروب والمسالك منذ رحلته الأولى إلى الجنوب، فقد تنكب الطريق لمسلوك، حذراً، وحيطة، إلى مسالك أخرى لا يمر بها إلا الخبراء !.
وسار الركب الطليح : الشيخ الماني والعجوز المعروقة يدبان على الأرض كالمال، والشويهات يطول عليها السرى وتشتد عليها الهاجرة فتهزل وتضعف عن المسير ، وساسو تسير كالذي يقاد إلى الموت، ويخطو على الشوك. وكلما خطت بقدميها خطوة تلفت قلبها إلى الخلف لفتات… إلى الكوخ العزيز، و إلى الغابة المسحورة. إلى هنالك حيث الحلم الذي أشرق في حياتها لحظة ثم غاب. إلى الرؤيا المجنحة التي لازالت ترفرف هناك… !
— إلى أين يا ساسو ؟ إلى أين أيتها المسكينة ؟ إلى أين يراد بك، وهناك في الغابة حلمك الجميل؟… ومضت ليلة إثر ليلة والركب العاني يسير ، والشيخ الفاني يبدو عليه الملل ، فإذا الشيخة المعروقة تتشدد لتصخب على الشيخ وتثور :
— أتراك كنت باقياً هنالك حتى تفسد علينا ساسو ؟ لوكان من لداتها لتركنا الأمور تسير ، واقلنا : نظرة فخطبة ، فعرس.. ولكن هذا ! هذا الفارس الثري الذي يلقى بهذه المرة من نقود الذهب كما يلقى بالحصاة ، أتراه يتزوجها زواج الشرفاء الأحرار ؟ أم تراه يسرقها من بيننا بنقوده الذهبية حيث تغدو ساسو الشريفة خليلة في عداد الرقيق ؟.. أتقول لي : تعبنا وهلكنا ؟ النار ولا العار أيها الشيخ الخرف. النار ولا العار ، أليس كذلك أيها الرجل الشريف ؟ !
ثم يعطو ذلك الركب الكليل. حتى تدركه الهاجرة فيستظل و يقيل.
فأما الملك – يا مولاي – فقد لوى عنان فرسه إلى الغابة كما قلنا وخلفه تابعه الأمين، وكانت الشمس قد أوشكت أن تتوسط السماء، ودار بها دورة ودورة قبل أن ينظر حور إلى وجه مولاه، فيرتجف، ويعلو وجهه الاصفرار.. إنه الشر !
فلن تعود الأمور منذ اليوم تسير كما كانت من قبل تسير !
وكرا راجعين إلى القصر، فإذا الهمس الحذر يتلصص في جميع جوانبه، والأميرة العروس قلقة تتطلع من نوافذ قصرها في طرف الميدان الآخر، تترقب عودة العريس الشاب الذي ستزف إليه بعد أيام قلائل، ثم هي لا تعلم فيم يذهب إلى الغابة منذ يومين ؟ وفيم يبيت ليلته لا يخلع ملابس الصيد ؟ وفيم يخرج اليوم منفرداً لا يتبعه إلا حور؟
ألا إنه لأمر !.. ولكن أولا تعلم العروس الحبيبة هذا الأمر ؟
ولم يستطع أحد وهو يرى وجه الملك العائد أن ينبس بكلمة حتى آوى الملك إلى جناحه الخاص ؛ ثم استدعى تابعه الأمين حور فكلفه أن يتخفى في زي الرعاة، ثم يتحسس من خير الفتاة بين
الأكواخ، دون أن يشعر أحداً بتحسسه.
وانطلق حور ينفذ أمر مولاه، وبقى الملك ينتظر، ولكنه لم ينتظر ساكنا ولا صابرا. لقد ظلت عشرات من الصور والخيالات تغزو نفسه وخاطره، وكان بهش لها جميعا، إلا خاطرا واحدا أسود كان يرتجف له كيانه :
– ترى قضى الأمر كله فلا لقاء بعد اليوم ولا اجتماع ؟ ! ولكنه سرعان ما كان يهرب من مواجهة هذا الخاطر الأسود حتى إذا ألح على خاطره حرك يده بعنف كمن يطرد شيطانا مساوراً، ثم قام يتمشى في اضطراب، أو يطل من الشرفة وهو يخطو خطوات مرتجلة لا هدف لها ولا اتجاه.
… ثم عاد الرسول !
لو أن صاعقة انقضت على رأس الملك في هذه اللحظة لكانت أخف وقعا… . – لقد رحلت ساسو مع أبويها إلى حيث لا يدرى أحـد من الرعاة ! ساسو… ما أحلى هذا الاسم الجميل. ساسو وتاسو. ما أحلى اجتماع الاسمين. أتراها الأقدار قد وفقت هذا التوفيق العجيب بين اسم في القصر واسم آخر في الكوخ ؟.. ولكنها رحلت ! رحلت ؟ – إذن هي حية – وهذا يكفى. وهنا تنبثق في صدر الملك أشعة الرجاء… ولكن منذا يدريه أنها لن تصاب بمكروه في الطريق ؛ ثم منذا يعلمه مكانها الآن أو بعد الآن ؟ ! ولم تمض ساعة حتى كان الملك يستدعى كبير وزرائه – وهو مشير أبيه – لينهى إليه أمراً :
– تبطل مراسم العرس. وتوقف جميع الاستعدادات.
وقال الملك :
– وتنوب عنى أيها المشير المخلص في سياسة الرعية، حتى أؤوب من رحلة لا أدرى مداها. فإذا أنا لم أعد فالملك لك ولأبنائك عن جدارة واستحقاق !
وصمت الملك كأنما هذه آخر كلمة تقال !
ولكن المشير الذي يدل عليه بالتربية والرعاية لم يسكت. فالأمر جد، ومن واجبه أن يرد الملك عما يريد، ومن حقه أن يعرف على الأقل ماذا يريد.
قال المشير الشيخ :
– يا مولاي. أليس لي بحكم خدمتي الطويلة لأبيك من قبل، وحتى إخلاصي لك أنت من بعد، أن أقول كلمة ؟ قال الملك :
– بل تقول كل ما تريد أيها المشير الأمين.
قال : أليس لي أن أسأل : فيم هذا كله ؟ وفيم هذه الرحلة المجهولة المدى ؟ وفيم ترويع الشعب الذي يحبك و يتطلع إلى شبابك ؟ وفيم – على الأخص – ترويع الأميرة التي تنتظر اليوم السعيد منذ سنوات ؟
قال الملك :
لقد وددت أن أفصح لك – أيها المشير الناصح – عن هذا كله، بحق ما لك على وعلى أبي من حقوق. ولكنني لا أملك هذا الآن. وكل ما أستطيع أن أقول لك : إننى لم أعد صالحا لشيء من هذا كله، إلا أن تتحقق لى أمنية واحدة هي التي أرحل في سبيلها هذه الرحلة المجهولة…
وصمت الملك برهة و بدا على عينيـه أنه يجوب بخياله آفاقا بعيدة ثم قال :
– الحياة هناك. هناك أيها المشير المخلص. هناك حيث لا أدرى أين تكون ! وغلب عليه التأثر، فتغرغرت عيناه بالدموع…
وتهيأ الملك الشاب يا مولاي للرحيل. الرحيل إلى حيث لا يدرى. ولكنه تزيا بزي التجار، وأمر فأعدت سرا قافلة محملة بالزاد والمتاجر من بضاعة الجنوب، يصحبها جماعة من الخدم والحشم، وعلى رأسهم حور حارسه الخاص، الذي كان وحده يعلم سر الرحلة ولا يبوح.
ولما كان المشير شيخا مجربا أريبا، فقد خاف إن هو أشاع بسفر الملك في مثل هذه الرحلة الغريبة أن يحدث ذلك رجة في المملكة لا تحمد عقباها، فاتفق مع الملك ألا يعرف أحد بالخبر، وأن يعلن في القصر أن الملك مريض، وأن الأطباء قد قرروا ألا يدخل عليه أحد حتى يشفى… ورجا بهذه الحيلة أن يدبر الأمور حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا
وعند ما حان الفراق ودع المشير مليكه وربيبـه، والدموع تبلل شيبته الوقور ؛ ثم تماسك ليواجه العبء الضخم الذي سينهض به منذ الغد وهو شيخ كبير.
أما الشعب فقد شاهد قافلة تمر بالمدينة إلى الشمال كالقوافل
الكثيرة التي تهبط في الحين بعد الحين. وعنـد ما أعلن إليه في الصباح نبأ المرض الخطير، خطفت القلوب، واهتزت الأعصاب
وتوجه الناس بالصلوات والدعوات أن ينجى الإله الملك… ثم
انصرف كل إلى شواغله ليرتزق منها ويعيش !
بقى قلب واحد لا يطمئن إلى هذا الذي يقال ، ولا يرضى بالحيلولة بينه وبين من يهواه. ذلك هو قلب الأميرة تيتى. فما بال اللك الشاب ينقلب بين الصبح والمساء من الصحة الموفورة ، والشباب المنصور ، إلى المرض الداهم والداء الخطير !
وما بالها تحجب عن الملك المريض وهو ابن عمها القريب وخطيبها الحبيب ؟ أو ممكن أن يتم هذا الانقلاب كله ما بين يوم وليلة ؟
ثم ما بالها لا ترى وجه دور تابعه الأمين ؟ لقد قيل لها :
إنه بعث في رحلة إلى الصحراء لإحضار بعض العقاقير النباتية التي أشار بها الأطباء. ولكن هذا كله لم يكن ليطمئن فؤادها المضطرب ، أو يأخذ طريقه إلى قلبها المتوجس. لقد ظلت هواجس سوداء تندس في نفسها وتوسوس في صدرها : إن هنالك لأمراً. و إنها لا تدرى ما الأمر ، ولكنها تحس أنه شيء آخر غير الذين يقولون !!!
وعندما غادرت القافلة حدود المدينة وجد الملك نفسه يعرج على الغابة دون قصد. فيتبعه حور مشيراً إلى سائقي القافلة أن ينتطروهما عند العدوة الأخرى، والملك في شبه ذهول عما يجرى خلفه من أمور
وسار التاجران تحملهما بغلتان فارهتان يجوسان خلال الغابة، ويطوفان بمنعرجاتها، و يتدسسان في منحنياتها… وفجأة ينتبه الملك من ذهوله، فيلتفت إلى تابعه ليقول : — ما هذا الذي نصنع يا حور ؟ لماذا نجوس خلال الغابة كالمشردين ؟ ألم ترحل ساسو عن الغابة ؟ فلماذا نضيع الوقت في هذا التجوال السخيف ؟ !
وصمت حور برهة لا يدرى كيف يجيب. ثم تمتم : — لقد رأيتك يا مولاى تسير، فأشفقت أن أتركك وحدك، فسرت خلفك، لأحرسك وأفديك !
قال الملك :
— رعاك الإله يا حور. ما أشد إخلاصك وما أحسن أدبك. عد بنا إلى الخارج. وأين القافلة ؟
قال :
هي تدور بالغابة لتنتظرنا هناك على عدوة الطريق :
عدوة الطريق !… وكأنما فوجئ الملك بهذه الكلمة ! فما الطريق ؟ ما الطريق التي انتوى أن يسلكها ؟ إلى الشمال أم إلى الجنوب ؟ إلى الشرق أم إلى الغرب ؟ إنه لم يسأل نفسه هذا السؤال، ولم يطرحه عليه أحد وهو في هذه الحال. فما كان في موقف يسمح لأحد أن يسأله : إلى أين ؟
إنه يريد الحورية الهاربة، تلك التي مرت كالحلم في حياته ثم أدركه الصحو فلم يجد أثراً لطيفها الجميل. يريد هذه النجمة التي لاحت له فحسبها ملك يديه، ثم إذا هي تبعد في الأفق حتى تغيب، وتتركه قائماً في مكانه لا يدرى كيف يذهب، ولا أين الطريق ؟
أين الطريق ؟
وأين ذهبت هي ليدري ما الطريق ؟ شرقت أم غربت، وانحدرت إلى الشمال أم أصعدت في الجنوب ؟
ثم التفت إلى حور :
— أو لم يقل لك أحد أين توجهت : إلى الشمال أم إلى الجنوب ؟
ونكس حور بصره وهو يقول :
أبصر بها وهي ترحل، فلم أعثر على أحد يعلم عنها شيئا… ولكن شيخاً كبيراً في السن قال : إنه يظن أنهم قد اتجهوا إلى الشمال لأن آثاراً في الرمال تتجه إلى هناك… ولكن هذا كله حدس وتخمين !
— إلى الشمال. إذن هيا بنا إلى الشمال. فإن قلبي وحده دليل. ثم تنهد وهو يقول
— إن قلبي يا حور ليشم رائحتها كما تشم القطاريح الماء من بعد سحيق إلى الشمال ؟ هيا بنا إلى الشمال. هيا بنا قبل فوات الأوان… وانطلق كالمحموم !
و بينما كان الملك والقافلة معه تجوب دروب الصحراء ومسالكها المطروقة، كان العجوزان والفتاة يقطعان الدروب الخفية ويتنكبان الطرق المألوفة، حتى بعدت الشقة بين الركبين، ولم يعد ثمة مجال لالتقاء
وصمتت ساسو طوال الرحلة الكتيبة، وخبا في عينيها ذلك البريق الذي خطف قلب الملك، وشاخت الدورة التي كانت تتنزى في كيانها كله، وخير على نفسها اليأس والظلام، وأحست أن حياتها لا تساوي أن تعاش، بل أحست بالعطب يدب إلى كيانها كله ، كالثمرة الناضجة التي لا تجد من يقطفها في اللحظة المناسبة ، فتعطب و يدب إليها الفساد.
فلما استقر بها وبأبويها المقام في النهاية على مرعى من مراعى الصحراء المتناثرة ، بجانب خيام لبعض الأعراب هناك ، عرفت نهاية المطاف ، وآوت إلى صمت كئيب مخيف ، لم تفلح العجوز الثرثارة أن تخرج فتاتها منه إلا إلى نحيب مؤلم ، و إلى تأفف ثائر ، لا تلبث الفتاة ان تهرب على إثره من وجه العجوز البائسة لتخلو إلى الهم المطبق المقيم
واتصلت العلاقات – بعد قليل – بين الشيخين والأعراب. المقيمين حول المرعى. ولفتت ساسو الجميلة نظر شاب من الأعراب الضار بين في الخيام ، فتن بها قلبه منذ النظرة الأولى، ولكن طابع الحزن القاتم حز في قلبه ، فآلى على نفسه إلا أن يضم هذه الفتاة الحزينة إليه ، لملأ حياتها بهجة وحبوراً.
وحدث أبويه بما يجول في نفسه – وأبوه شيخ القبيلة – فوافقاه ، وتقدما يخطبان ساسو من أبو بيها. ولما كان الشيخ يدرك أمر الفتاة كله ، فقد أشفق أن يجيب ، ولكنه كان محرجاً فهو نزيل في جوار شيخ القبيلة ، ولن يأمن رده خائباً بعد ما أسلف إليه من جميل… عندئذ نفض يده من المسألة وأحالها على زوجه وابنتها…
وراحت الأم تتلطف في نقل الخبر إلى الفتاة، وتثنى على الفتى الذي يتقدم لخطبتها خطبة الشرفاء. و… و… وما سمعت الفتاة خلاصة الحديث حتى أحست لأول مرة بعد الرحلة المشئومة أنها تملك لسانها، فاندفعت ثائرة كاللبؤة الجريح، ترفض وترفض وترفض، وتنحى على الأم والأب بلا ترفق ولا تحرج وتسب الرحلة المشئومة التي ساقتها إلى هذا المكان، وتعلن في تأكيد قاطع أنها لن تكون لأحد من الأناسي، وإذا لم يكن بد من أن تكون لأحد، فلتكن لوحوش الفلاة أو كواسر الجو أو دود التراب !
وانطوت على نفسها بعد الثورة الجامحة، وراحت تنشج نشيجاً متواصلا، وجسمها كله يرتجف و يهتز، والعجوز البائسة تنسى ثورة الفتاة وجموحها لتضمها إليها ضما رفيقاً، تسكن جأشها، وتهدىء روعها، وتعدها في حنان بالغ أنها ان تجبر على شيء، وأنها طليقة من كل ضغط، فتهدأ الفتاة رويداً رويداً، وترقأ دموعها المنهلة، و يسكن جسدها المضطرب، ويأخذها النوم في حجر أمها فتنام !
فأما الشيخ وضيفه فقد سمعوا، سمعوا كل شيء ؛ فما كان الخباء الرقيق ليحجب حرفاً ولا نبرة مما دار بين الأم والفتاة، فنظر بعضهم إلى بعض، ثم هم الضيوف بالانصراف معذرين للشيخ الفاني، وإن لم تسترح ضمائرهم لهذا الجموح من فتاة !
وأما الملك الشاب فقد انطلق في الأيام الأولى مؤملا راجياً في قلق واضطراب. فلما انقضت الأيام وطال عليه الأمد وكثر تطوافه بالصحراء وارتداده الريف، يراوح بينهما لتبيع القافلة بعض ما تحمل من بضاعة، وتستعيض عما ينقص من الزاد والماء في الرحلة الطويلة… عندئذ أخذ اليأس يدب إِلى نفسه وهو يطرده فيلح عليه، وكلما امتدت الرحلة نضب معين الرجاء، وحل مكانه في قلبه ذلك الجدب المقفر الموات.
وطال الحال. وانقضت ستة أشهر طويلة مملة. فخبا في نفسه كل بريق، وانطمس في قلبه كل رجاء. ولكنه كان منساقاً إلى البحث والتجوال، لا يدرك ما أصاب رجاله من الإعياء، وما أصابه هو نفسه من البلى. لقد كان يجف كما يجف العود، يجف بدنه و يجف قلبه، وتدب الشيخوخة الباكرة إلى كيانه وهو لا يدرى. لقد أصبح قطعة ميتة من هذه الصحراء الجاثية الجرداء… !
وفي ليلة من الليالي وقد طلع القمر على الصحراء الوسيعة الفسيحة، طافت بنفسه الذكرى : ذكرى الليلة الأولى التي أشرف فيها على الغابة من شرفة القصر، فنسى نفسه يومها ونسى القصر والملك، وأحس أنه هنالك في الغابة يسير والحورية الفاتنة ترافقه، والقمر وحده يشهد جولتهما في قبة السماء…
وتنهد في جوف الليل بحرقة حتى لكاد صدره أن ينشق، وأخذ ينشج نشيجاً حاراً متواصلا، والصمت من حوله مطبق والقمر وحده يشهد في صفحة السماء…
هنا أحس حور بشهقة الملك فانتفض مستيقظا، وتقدم إلى الملك، ناسياً جميع ما بينهما من فوارق. تقدم إليه كما يتقدم الصديق للصديق، يعطف عليه ويواسيه. واتصل قلب الملك بقلب تابعه الأمين، فأخذ يبثه لواعج نفسه في إسهاب، و بلا كلفة ولا احتياط.
واقترح حور أن يقوما بجولة وحدها في هذه القمراء، أمل السير والسمر يفرجان عن نفس الملك الحزينة، فما كان أسرع ما لبى الملك الاقتراح. وسارا على هيئة واتناد، وأخذها الحديث الطويل، والقمر المنير.
لقد كان الملك يقص على حور قصة حبه جميعاً. وكان يصف له كل خاطرة وكل انفعال. وكان يستعرض معه اللحظات القصار التي مرت عليه في حبه، وكأنما هي دهور طوال لفرط ما ازدحمت بالأحاسيس واللفتات والملاحظات والانفعالات.
وما كان حور لينطق بشيء إلا أن يجيب على سؤال ملهوف من الملك : ترى نلقاها كرة أخرى ؟ فيتكلف الرجاء والثقة، و يجيب في توكيد وتشديد : لا بد. لا بد يامولاي… ! وهنا تتفتح للملك أبواب الرجاء على مصاريعها، وكأنما هذه الكلمات التي ينطقها حور تعاويذ سحرية تفتح له أبواب الرجاء !
وأوشك الصبح أن يشرق، فانتبه العاشق المسحور ورفيقه المبهور، وعاما على حين بغتة، أنهما قد أبعدا في الصحراء، الصحراء الجبارة التي يتوه فيها الدليل. وانتفضا كمن يبغت بالخطر، و إن لم يعلما بالضبط أنهما قد أوغلا في التيه
وحينها راحا يتحسسان آثار أقدامهما ليعودا أدراجهما كانت الريح قد عفت على هذه الآثار، وكان أمامهما أن يضربا في الصحراء على غير هدى، يلتمسان العودة إلى محط القافلة على غير جدوى… !
وانقضى اليوم الأول في بحث مضن بين الرمضاء في الصحراء والفزع المستولى على الخاطر، واليأس من الاهتداء للقافلة في التيه، واليأس الأكبر من الأمل الأكبر، والعطش الذي يجفف البدن ويشوى الأعضاء.
وتحنن الله عليهما في اليوم الثاني فإذا سحابة تظلل الشمس، وما تلبث أن تمطر، فيوجد الماء. الماء العزيز الثمين. وحينها يعبان وبرتو يان يعاودها الأمل في الحياة، و ينفتح لها باب الرجاء. و بعد قليل يستشرفان قافلة عن بعد، فيتحاملان على أنفسهما ويجريان إليها هاتفين بأعلى ما تصل إليه أصواتهما. ويجدان عند القافلة شيئاً من الزاد كما يجدان ما هو أعظم : يجدان الهداية إلى الطريق، فلقد مرت القافلة بالقوم يبحثون عن رجليهما الغائبين، فهي تدلها على أقرب طريق إلى قومهما، وتزودها بالقليل من الزاد والماء، فينطلقان على هدى حتى يصلا في نهاية اليوم، وقد أوشك القوم على اليأس من عودتهما سالمين.
هنا يجد حور من الشجاعة ما يسأل به الملك : أو ليس من الخير أن يعودوا إلى مملكتهم بعد ستة أشهر طوال في التجوال، ويدعا الأمر للمقادير، فقد توفقهما إلى ما يريدان من أقصر الطرق، إن كانت قد قدرت في حسابها اللقاء ؟ !
و يقول الملك : الحق معك ياحور. لقد أتعبتك وأتعبت رجالك، فامضوا أنتم إلى هناك في رعاية الإله، ودعوني هنا وحدى، فما عاد لك في خير، ولا عاد لي في نفسي أمل. فإما ، اهتديت إلى من أريد، وإما أكلتني وحوش البرية، أو أهلكني الجوع والعطش، فأستريح من هذا العذاب الذي أقاسيه !
ويأبى حور على الملك، ويظل يتلطف معه أياما وليالي، و يحدثه بالعبر، ويقص عليه من السير، و يعرض له حوادث الفرج بعد الضيق، واللقاء من أقرب طريق، حتى يلين جماح الملك، فيقبل العودة، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
وكرت القافلة عائدة، وكلما خطت خطوة إلى الأمام تلفتت عين االك وقلبه، وأحس بالهزيمة والانكسار. لقد كانت عودة القافلة عودة الجيش الهزيم المنكسر يجلله الخزى واليأس، وكانت الجمال قد هزنت كالرجال، فكان يخيم على الجميع جو من الهمود والوحشة والكلال.
وأيقن الملك أن الحلم المشرق البهيج الذي لاح له في حياته فترة قصيرة قد مضى وانطوى، وأن « ساسو » الجميلة ليست سوى طيف عابر أشعل قلبه وهز روحه، ثم ارتد عائداً إلى المجهول ؛ فأحس أنه لم تعد له صلة بهذا الكون الغريب، ولا علاقة بهذه الدنيا الموحشة ؛ أحس أنه من عالم آخر لا علاقة له بهذا العالم المحسوس. من العالم الذي لاح له فيه ذلك الطيف العابر ثم غاب.
وفكر مرة ومرة والقافلة تقرب من المدينة أن يعود على عقبيه، أو أن ينفلت متخفياً فيهم في الصحراء التي تمتد إلى آفاق غير محدودة، تشبه التيه الذي تهيم فيه روحه، بما فيه من وحشة وظلام ولكنه كان يجد نفسه منساقاً مع القافلة، لأنه لم تعد له العزيمة التي تقرر التخلف والانفراد.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأَنَّ مُدة الحماية الَّتي كان يتمتع بها انقضت وَفقاً لأَحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
|