اللغة العربية كائن حي/التغيير في الألفاظ
ذكرنا فيما تقدّم أمثلة ممّا دخل اللغة العربية من الالفاظ الاجنبية قبل زمن التاريخ الذي عبّرنا عنه بالعصر الجاهلي..ونذكر الآن ما لحق ألفاظها الأصلية من التنوع والتفرع في ذلك العصر. والأدلة على ذلك كثيرة، نكتفي منها بالوضوح الصريح.. فنذكر أولا ما نستدل عليه من مقابلة العربية بأخواتها العبرانية والسريانية، ثم ما تشهد به حال اللغة العربية نفسها.
مقابلة العربية بأخواتها
[عدل]من الحقائق المقرّرة أن العربية والعبرانية والسريانية، كانت في قديم الزمان لغة واحدة، كما كانت لغات عرب الشام ومصر، والعراق، والحجاز، في صدر الإسلام. فلما تفرق الشعب السامي، أخذت لغة كل قبيلة تتنوع بالنمو والتجدد على مقتضيات أحوالها، فتولدت منها لغات عديدة.. أشهرها اليوم العربية، والعبرانية، والسريانية..كما تفرعت عربية قريش بعد الاسلام الى لغات الشام، ومصر، والعراق، والحجاز، وغيرها .ولكن الفرق بين فروع اللغةالسامية، أبعد مما بين فروع اللغة العربية، لتقيد هذه بالقرآن وكتب اللغة. فاذا راجعت الألفاظ السامية المشتركة في العربية وأخواتها، رأيت مدلولاتها قد اختلفت في كل واحدة عما في الأخرى. والادلة على ذلك لا تحصى، اذ لا تخلوا المعجمات من شاهد أو غير شاهد في كل صفحة من صفحاتها..فنكتفي بالاشارة الى بعضها على سبيل المثال..
فلفظ "الشتاء" في العربية مثلا هو أصل مادة "شتاء" في القاموس، وكل مشتقاتها ترجع في دلالتها الى معنى الشتاء (الفصل المعروف)، فقالوا: شتا في المكان، أقام فيه شتاء، وشتا فلان دخل في شتاء، وأشتى القوم اشتاء أجدبوا في الشتاء..الخ. ولم يدلنا صاحب القاموس على أصل هذا المعنى في هذا اللفظ، ولكنه أورد رأي المبرّد في ذلك، فقال ان الشتاء "جمع شتوة" وان الشتوة "الغبراء التي تهب فيها الرياح والارض يابسة فيهيج الغبار" وفي قوله تكلف..على اننا اذا راجعنا هذه المادة في اللغات السامية، رأينا الاصل في دلالتها "الشرب" او "الري" او "الصب" فهي كذلك في العبرانية والسريانية الى اليوم. وقد شقوا منها الافعال والاسماء لمعان كثيرة ترجع الى الري ونحوه.. الا فصل الشتاء فإنهم شقوا له كلمة من اصل آخر يقرب منه لفظا. ويؤخذ من مراجعات كثيرة ان المادة الاصلية (شتا) كانت تدل على الرطوبة او الري في اللغة السامية، فلما تفرقت القبائل كما تقدم، تولّدت منها المشتقات وتنوعت معانيها على مقتضى الاحوال، فتولد منها لفظ الشتاء للمعنى المعروف له في العربية، وأهمل معنى الشرب والري منها. ومع ذلك فلو تدبرت مشتقات هذه اللفظة في أخوات العربية، لرأيتها تختلف الواحدة عما في الاخرى. وإذا بحثنا عن لفظ "شهر" في العربية بالمقابلة مع اخواتها، رأينا الاصل فيه الدلالة على الاستدارة، ثم سموا القمر به لانه مستدير، ثم أطلقه العرب على التسهر لانهم كانوا يوقّتون بالقمر. على ان دلالته على القمر لا تزال باقية العربية اليوم، وكذلك في السريانية (سهرا) تدل عندهم على الشهر والقمر. وأما العبرانية فإن للقمر فيها لفظا مشتقا من مادة اخرى هي (يرَح) والاصل في معناها "الدوران" فاشتقوا منها "يارح" للدلالة على القمر وعلى الشهر. ومن هذه المادة في العربية "رواح" أي العشي. فكانوا يقولون: "راح فلان" أي جاء أو ذهب في العشي.. أي أن أصل المعنى راجع الى "العشي" بغير تقييد بالذهاب او المجيء مثل قولهم: أصبح وأمسى..ثم غلبت فيها الدلالة على الذهاب في العشي، ثم صارت للدلالة على مطلق الذهاب.. حدث كل ذلك التنوع بلا قصد ولا تواطؤ.
ومن بقايا "يرَح" في العربية، مادة أشكل على أئمة اللغة معرفة أصلها، فعدّها بعضهم فارسية وعدّها آخرون يونانية، واكتفى غيرهم بأنها غير عربية. وهي في الحقيقة سامية الأصل، ونعني بها لفظ "آرخ" أو "ورَخ" أو "أرّخ" بمعنى وقّت، والأظهر عندنا أنها من بقايا اسم الشهر عندهم "يرح" -وبالإبدال بين الخاء والحاء هيّن- ومنه "التاريخ" تعريف الوقت، ثم تنوّع معنى هذه اللفظة، فصاروا يدلون بها على علم التاريخ، أي ذكر الوقائع والحوادث.
ومن هذا القبيل "كتب" فان الاصل في دلالتها "حفر في الحجر، أو الخشب" فالظاهر انهم استعملوها في اوّل عهدهم بالكتابة، وكانوا يكتبون على الحجارة أو الخشب حفرا أو نحتا، شأن الكتابة عند الأمم القديمة. فلما صاروا يكتبون بالمداد على الرقوق او الاقمشة، تحوّل معناها الى الكتابة المعروفة، ولم يبق لدلالتها على الحفر أثر في العربية، وإن كنا نرى أثر ذلك في "قطب" ونحوها من تفرعات "قط" حكاية صوت القطع. فيلوح لنا الاصل في دلالة كتب (أو القطب) على الحفر، أنهم كانوا يقولون مثلا "قط بالخشب" اي قطع في الخشب او حفر الخشب، ثم ألصقوا الباء بالفعل فصار "كتب" او "قطب" كما الصق عامتنا الباء المذكورة بفعل المجيء، فبدلا من ان يقولوا "جاء به" قالوا "جابه" وصرفوه فقالوا "يجيبه،جابوه،يجيبوه" بدلا من "يجيء به، جاءوا به، يجيئون به.."
ومثل "كتب" ايضا "سطر" فإنها كانت تدل في الاصل على الحفر، ثم تحوّل معناها للدلالة على الكتابة للسبب عينه. ولا تزال "سطر" تدل على الحفر ايضا في العبرانية، واما في العربية فقد بقيت الدلالة على ذلك في لفظ مجانس لها "شطر" او نحوها.
وكثيرا ما تحوّل المعنى في بعض الالفاظ بانتقاله من الكل الى الجزء، او من الصفة الى الموصوف مثل "اللحم" في اللعربية، فان معناها في اللغات السامية "الطعام" على اجماله، ثم خصصه العرب بالدلالة على اهم الاطعمة عندهم وهو اللحم، وصار في السريانية يدل على الخبز. والاصل في "طبخ" الدلالة على "الذبح" واللفظان متشابهان، فتحول معناها في العربية الى معالجة اللحم للطعام، واستعملوا للذبح كلمة تقرب منها لفظا.
و "الملح" اصل دلالته في اللغات السامية كلها من "ملح او ملأ" اي نبع الماء. ثم تحول معناها الى اكبر مستودعات الماء وهو "البحر". ونظرا لظهور الملوحة في مياه البحر اكثر من سائر صفاتها، ولان الملح يُستخرج منها سمّوا الملح بها. والظاهر أن هذه اللفظة كانت في امهات اللغات اللغات السامية والآرية قبل تفرقها.. فان اسم البحر في اليونانية يشبه ان يكون مبدلا من "ملح" او تكون ملح مبدلة منه، وكذلك في اللغة السنسكريتية.
و "انبوا" كانت تدل في اللغة السامية الاصلية على "الثمر" عموما، وما زالت تدل على ذلك في اللغة الاشورية، والآرامية. اما العبرانية فقد أدغست النون في الباء وعوض عنها بالتشديد فصارت (آبه) بتشديد الباء، عملا بقاعدة جارية في نحو ذلك باللغة العبرانية.. ثم شقوا من هذه اللفظة فعلا فقالوا (ابب) بمعنى أثمر، وأما في السريانية فقد أصاب هذه اللفظة نفس ما اصابها في العبرانية، وصارت (ابا) وهي تدل عندهم على الفاكهة، كالتين، والبطيخ، والزبيب، واللوز، والرمان. وأما في العربية، فقد حدث نحوذلك: ولكن "الأب" صار عندهم للدلالة على الكلأ والمرعى أو ما أنبتت الارض فقالوا: "الاب للبهائم كالفاكهة للناس".
*****
وتحولت "انبو" ايضا بالابدال الى "عنبو" ومنها "عنب" للدلالة على نوع واحد من الاثمار هو ثمر الكرم، وهذه دلالتها الان في اللغات العربية، والعبرانية، والسريانية، بعد ان كانت تدل في اقدم أزمانها على الثمر عموما.
ويقال نحو ذلك في "عبَد" فانها في اللغات السامية تدل على العمل، وخاصة الحرث في الحقل، ولم يبق من مشتقات "عبَد" في العربية ما يدل على معناها الاصلي الا "المعبدة" اي "المجرفة" او "المحراث". وفيما خلال ذلك فان "عبَد" ومشتقاتها انما تدل على العبادة، ومنها "العبد" اي الرق و "التعبُّد" لان خدمة الحقول كان اكثرهم من الارقاء. ولما كان اكثر الارقاء من الزنزج، دل المولِّدون بلفظ العبد على الزنوج السود خاصة.
ومن هذا القبيل "الثلج" والاصل فيه الدلالة على البياض، ثم اطلق اشهر الواد البيضاء.
وكذلك "مرءُ" فان اصل دلالتها في اللغات السامية على القوة، ومنها الى الرئاسة، ومنها الى اقوى الكائنات وهو الانسان. ولا تزال في السريانية تدل على الرب فقط، وهي عندهم (مرا) او "مريا" أما في العربية فغلبت فيها الدلالة على الرجُل. وأما العبرانية، والسريانية، فللدلالة على الرجل فيهما الفاظ اخرى ترجع في اصل معناها الى القوة. وكأن هذا اللفظ قديم مشترك في امهات اللغات فانه في اللاتينية Vir ونحوه في الهندية.
****
ولهذا السبب استعمل العرب "بعل" للزوج ، وهو يدل في الاصل على السيد والرب.. ومنه البعل اكبر آلهة الشعوب السامية، ومنها "هبل" كبير أصنام الكعبة.. ويظهر من مراجعة امهات اللغات الآرية ان هذا اللفظ انتقل منها الى اللغات السامية قبل تفرق شعوبها لانه في السنسكريتية "بالا" القوة، وفي اللاتينية Val-ere قوي.. او لعل الآريين نقلوه عن الساميين، أو كان في اللغة الاصلية قبل افتراق الآريين عن الساميين.
ومن امثلة ما فقد اصله من الالفاظ السامية في اللغة العربية وبقي فرعه لفظ "الشعر" بمعنى المنظوم.. فقد شقه صاحب القاموس من "شعر الرجل" بمعنى فطن وأحسّ، فقال: "وسُمّي الشاعر شاعرا لفطنته وشعوره" ويلوح لنا من خلال هذا التعليل تسامح لا يرتاح اليه العقل. والاظهر عندنا ان "الشعر" مشتق من اصل آخر فيه معنى الغناء او الانشاد او الترتيل، فقد من العربية وبقي في بعض أخواتها.. ففي العبرانية أصلٌ فعليّ لفظه (شور) ومعناها صات او غنى او رتّل، ومن مشتقاته (شير) قصيدة او انشودة، وبها سمي نشيد الاناشيد في التوراة، وامثاله من القصائد او الاناشيد التي رتلها اليهود في اسفارهم او حروبهم. واليهود اقدم اشتغالا بالنظم من العرب.. فالظاهر ان العرب اخذوا عنهم كلمة "شير" للقصيدة او الانشودة، كما اخذوا غيرها من الآداب الدينية والاخلاقية، وأبدلوا باءها عينا على عادتهم في كثير من امثال هذا الابدال.. فصارت "شعر"، أطلقوها على الشعر باجماله. فلما جمعت اللغة عدّوا هذا اللفظ من مشتقات "شعَرَ". وأما اصل مادة "شور" فقد ذهب من العربية. والقياس في مقابلة الالفاظ بين العربية والعبرانية، يقضي ان تلفظ هذه الكلمة في العربية "سور" بالسين ولا نجد في هذه المادة عندنا ما يماثل هذا المعنى، الا اذا اعتبرنا تسمية فصول القرآن سُوَرًا واحدتها "سورة" فيكون المراد بها الانشودة او الترتيلة من قبيل التجويد.
ومن امثلة تنوع المعاني ان لفظ "الورق" في العربية اصله من "يرق" اخضر، ومنه ورق الشجر لاخضراره، ولا يزال من هذه المادة في العربية "اليرقان" للمرض المعروف وهو اخضرار الجلد او اصفراره. وقد شقه صاحب القاموس من "ارِق".
وقس على ذلك مئات من الامثلة، وتشهد على ما لحق ألفاظ اللغة العربية من تنوع معانيها ومدلولاتها قبل زمن التأريخ، باعتبار مقابلتها بألفاظ أخواتها السامية.