اللغة العربية كائن حي/الألفاظ العامة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كل ما ذكرناه من أمثلة نمو اللغة العربية في العصر الاسلامي، انما هو قاصر على تفرع ألفاظها وتجددها، بما اقتضاه الشرع، والعلم، والفلسفة، والادارة، والسياسة. وهناك تغييرات اخرى، نتجت عما طرأ على الآداب الاجتماعية من التغيير، فضلا عن التجارة والصناعة، وما اقتضاه كل منها من تنوع الالفاظ العربية او اقتباس الالفاظ الاجنبية، كأسماء الانغام الموسيقية، والألحان وفروعها.. عدا ما اقتبسه المسلمون من العادات الاجنبية، وما يتبع ذلك من أسماء الملابس، والأطعمة، والاحتفالات مما تغني شهرته عن ايراده.
وهناك تغييرات اخرى اصابت الفاظ اللغة بغير داع من الدواعي التي قدمناها، بل هي جرت في ذلك على ناموس الارتقاء العام القاضي على الاحياء بالتجدد والتنوع والتفرع، لاسباب بعضها معلوم، وبعضها غير معلوم. والغالب في هذا التنوع ان يكون بالانتقال من معنى كلي الى معنى جزئي، او من معنى الى ما يشبهه، او يتعلق به، مما يعبرون عنه بالتوليد.. فالالفاظ المولدة هي التي احدثها المولَّدون بعد ان دُوّنت اللغة وضبطت الفاظها في اوائل الاسلام. والالفاظ المولدة أكثر كثيرا مما يظن اللغويون، بل هي تتولد على الدوام بلا انقطاع. وكل ما تقدم ذكره من الالفاظ الاسلامية، والادارية، والعلمية، والتجارية، انما هو من قبيل المولد، لكنهم قلما يسمونها مولدة.. وعندهم ان القاموس هو الحكم الفصل في العربي والمولد العامي، فما لا يذكره القاموس بين الالفاظ العربية عدوه عاميا او مولدا وحظروا استعماله.
ولكن القاموس وحده لا يكفي للحكم في ذلك، لأنه لم يتضمن كل ما تناقلته ألسنة البلغاء او تداولته أقلام الكتاب، ولا كل ما نطقت به العرب.. وقد فطن الى ذلك أئمة اللغة في العصر الاسلامي وما بعده ونبهوا اليه.. قال ابن فارس: "ان لغة العرب لم تنته الينا بكليتها، وان الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير" وقال السيوطي: "ومع كثرة ما في القاموس من النوادر والشوارد، فقد فاته اشياء ظفرتُ بها في اثناء مطالعتي لكتب اللغة، حتى هممت ان أجمعها في جزء مذيلا عليه".
فعدم ورود اللفظ في القاموس لا يدل دائما على أنه عامي او ضعيف.. ناهيك بألفاظ كثيرة، اكتسبت بالحضارة معاني جديدة لم يدونها القاموس، لأن الأئمة اعتبروها من قبيل الالفاظ العامية.. ولكن الكُتّاب استعملوها، وفيهم المشاهير المشهود لهم بالبلاغة وسلامة الذوق.

                                *****

فالأصل في معنى "البيت" في القاموس البناء المعروف، والشرف، والشريف. فكاموا يقولون بيت بني تميم اي شرفهم، وفلان بيت قومه أي شريفهم، وبيت القصيدة احسن أبياتها قال "والعامة تقول هو من بيت فلان، أي من عائلته" مع أن استعمال البيت بمعنى العائلة مما تداولته أقلام البلغاء وفي مقدمتهم ابن خلدون، وقد عرفه بقوله: "البيت ان يعد الرجل في آبائه أشرافا مذكورين تكون له بولادتهم اياه والانتساب اليهم تجلة في اهل جلدته" وقال: "وكان بنو اسرائيل من اعظم بيوت العالم".
و"الحضارة" الاصل في معناها سكني المدن اي ضد البداوة.. فلما تحضر العرب، وكثر الترف في مدنهم، صار معنى الحضارة عندهم "التفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والفرش وغيرها".
ويقال نحو ذلك في "العمران" فان اصل معناها من عمّر الرجل في المكان سكن فيه، ثم صارت تدل على معنى المدنية والحضارة. وهذا ما اصاب لفظ "التمدن" فانها من تمدن الرجل، اي تخلق بأخلاق اهل المدن، ثم دلوا بها على مثل ما تدل عليه الحضارة او العمران او المدنية. وقد استعملوا "ركاب السلطان" بمعنى موكبه، ولا تجد لهذه اللفظة هذا المعنى في القاموس، ولكن الكتاب استعملوها له. وكذلك "كافة" فقد نبه القاموس انها تستعمل في مثل: "جاء الناس كافة" اي كلهم، وانها لا تدخل عليها أل التعريف ولا تضاف. ولكن بلغاء الكتاب قد استعملوها في الحالين مرارا: قال ابن خلدون: "لما كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الاسلام". وقال صاحب أدب الدنيا والدين: "وفرض جميعه على الكافة كان أولى مما لم يجب فرضه على الاعيان ولا على الكافة".

                                   *****

وقال ابو اسحق الصاحبي الكاتب الشهير من نسخة عهد كتبها عن المطيع لله الى الغضنفر ابن ناصر الدولة: "أمره ان يعرف لركن الدولة ابي علي وعز الدولة ابي منصور موليي امير المؤمنين تولاهما الله حق منزلتهما من امير المؤمنين وغنائهما عن كافة المسلمين". ومن الالفاظ التي استعملها الكتاب القدماء، واقتدى بها كتابنا.. مع ان استعمالها يخالف قول القاموس، تخصيص "القينة" بمعنى المغنية،والاصل اطلاقها على الامة مغينة كانت او غير مغنية.
و"المقراض" و"المقص" فان الاصل في استعمالها بالمثنى، لأنهما مقراضان ومقصان، أي شفرتان. فيقال: "قرضته بالمقراضين" و"قصصته بالمقصين".. وقلما نرى بين الكتّاب القدماء او المحدثين من يستعملهما كذلك، بل هم يقولون: قرضته بالمقراض، وقصصته بالمقص.
والاصل في "المأتم" الاجتماع على العموم، ثم خصصوه بالاجتماع في مجتمع النياحة.
و"أرق" في الاصل للسهر في مكروه، ثم صار عاما.
ومن الاستعمالات الجارية على اقلام الكتاب، وهي خطأ باعتبار القواعد المدونة، قولهم: "بدأ به أولا" والصواب: "بدأ به أول" مثل قولهم قبلُ، وحكمهما واحد.
ومن هذا القبيل، جمع حاجة على حوائج، وعادة على عوائد، وهما شائعتان عند الكتّاب مع مخالفتهما للقاعدة.
وكذلك جمع ريح على أرياح خطأ، ولكن الحريري استعملها ومثله جمع أرض على أراضي وجمع الجواب على أجوبة.
وقولهم: "شفعه بثالث" غلط، اذ لا يُقال شفعه الا للثاني من الشفع.
والاصل في "القافلة" الرفقة الراجعة، فصارت تطلق على الرفقة المسافرين ذهابا وايابا.

                       ******

وقس على ذلك تنوعات كثيرة يعدها القاموس خطأ، وقد نبه الى خطأها فطاحل جماعة من فطاحل البلغاء، وألفوا في تصحيحها الكتب. وأشهر ما ألفوه كتاب دعوة الغواص في أوهام الخواص لـابي محمد الحريري صاحب المقامات، وقد شرحها وعلق عليها كثيرون، ومنهم ابن بيري بن عبد الجبار النحوي المتوفي عام 582هـ، وأبو عبد الله المعروف بـحجة الدين الصقلي المتوفى عام 555هـ، وابن المظفر المكي المتوفي عام 568هـ، وابن خشاب النحوي، وابو بكر الانصاري، وأحمد الخفاجي المصري، وغيرهم.. وكل من هؤلاء اضاف الى ذلك الكتاب ألفاظا من هذا القبيل فاتت صاحب الدرة، ونبهوا الى خطأ استعمالها.. ومع ذلك فالطبيعة غلبت على آرائهم وأقوالهم لأن ما عدوه خطأ، انما هو نتائج النواميس الطبيعية التي لا بد منها.. سُنّة الله في خلقه.