اللغة العربية كائن حي/الألفاظ الإسلامية
العصر الاسلامي
نريد بالعصر الاسلامي في صدد اللغة العربية، الزمن الذي مرّ باللغة بعد ظهور الاسلام، حتى كتبت العلوم الاسلامية: كالتفسير، والحديث، وسائر العلوم الشرعية واللغوية ونحوها، الى عصر النهضة العباسية. ولا مشاحة في ان الاسلام، أثّر في اللغة تأثيرا كبيرا، كان تابعا لتأثيره في العادات والآداب والاعتقادات..
ويدخل في ذلك ما طرأ على اللغة من الاصطلاحات الدينية، والفقهية، واللغوية، والأدبية، وما دخلها من الالفاظ الادارية على أثر انشاء الحكومة ودوائرها وفروعها، ثم الالفاظ العلمية، والفلسفية، بترجمة كتب اليونان، والفرس، والهنود، الى العربية..
ولذلك قسّمنا الكلام في العصر الاسلامي الى ثلاثة فصول: نقتصر في هذا الفصل على ما دخل اللغة العربية من التغيير بسبب العلوم الاسلامية وهو ما عبّرنا عنه بالالفاظ الاسلامية، ونفرد لكل من التغييرات الادارية والاجنبية فصلا خاصا.
فتأثير العلوم الاسلامية على اللغة، يكاد يكون محصورا في تنويع الالفاظ العربية وتغيير معانيها للتعبير عما أحدثه الاسلام من المعاني الجديدة، بلا ادخال ألفاظ أعجمية الا نادرا.
1- الاصطلاحات الشرعية والفقهية
[عدل]وأشهر ما حدث من التنوّعات في الالفاظ العربية في العصر الاسلامي، المصطلحات الدينية، والشرعية، والفقهية، واللغوية.. وكانت ألفاظها موجودة قبل الاسلام، ولكنها كانت تدل على معان اخرى، فتحولت للدلالة على ما يقارب من المعاني الجديدة. فلفظ "المؤمن" مثلا كان معروفا في الجاهلية، ولكنه كان يدل عندهم على الامان، او الايمان وهو التصديق، فأصبح بعد الاسلام يدل على المؤمن وهو غير الكافر، وله في الشريعة شروط معينة لم تكن من قبل.. وكذلك المسلم، والكافر، والفاسق، ونحوه. ومما حدث من المصطلحات الشرعية الصلاة، وأصلها في العربية الدعاء، وكذلك الركوع، والسجود، والحج، والزكاة، والنكاح، فقد كان لهذه الالفاظ وأشباهها معان تبدّلت بالاسلام وتنوّعت.
وقس على ذلك في الاصطلاحات الفقهية.. كالابلاء، والطهار، والعدة، والحصانة، والنفقة، والاعتاق، والاستيلاء، والتعزيز، واللقيط، والآبق، والوديعة، والعارية، والشفعة، والمناسخة، والفرائض، والقسامة، وغيرها.
2- الاصطلاحات اللغوية
[عدل]ويقال نحو ذلك في الاصطلاحات اللغوية التي اقتضتها العلوم اللغوية.. كالنحو، والعروض، والشعر، والاعراب، والادغام، والاعلال، والحقيقة، والمجاز، والنقض، والمنع، والقلب، والرفع، والنصب، والخفض، والمديد، والطويل، وغيرها من أسماء البحور وضروب الاعراب والتصريف، وهي كثيرة جدا ولها فروع واشتقاقات.. حتى لقد اصبح للفظ الواحد معنى فقهي، وآخر لغوي، وآخر عروضي، وآخر ديني، مما لا يمكن حصره. وسنذكر أمثلة اخرى عند الكلام على اصطلاحات المنطق وعلم الكلام. واحدث الاسلام تغييرا كبيرا في اساليب التعبير، كقولهم: "أطال الله بفاءك" فان أول من قالها عمر بن الخطاب لـعلي بن ابي طالب.
3- الالفاظ المهملة
[عدل]وكما أحدث الاسلام ألفاظا جديدة للتعبير عن معان جديدة، اقتضاها الشرع الجديد والعلم الجديد.. فقد محا من اللغة ألفاظا قديمة، ذهبت بذهاب بعض اعتقادات الجاهلية وعاداتهم.. منها قولهم: "المرباع" وهو ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية. و"النشيطة" وهي ما أصاب الرئيس قبل ان يصير الى بيضة القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل الوصول الى الموضع الذي قصدوه. و"المكس" وهو دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الاسواق في الجاهلية. وكذلك: الاتاوة، والحلوان. ومما أبطل قولهم: "أنعم صباحا وأنعم ظلاما" وقولهم المملك: "أبيت اللعن" وقول المملوك لمالكه: "ربي". وتسمية من لم يحج "صرورة" وغير ذلك. وقد نرى بعض هذه الالفاظ مستعملا في اللغة الآن فهو، إما مستعمل في غير معناه الاصلي.. وإما أنه قد أرجع اليه بعد إهماله.. على أننا لا نشك في إهمال كثير من الالفاظ العربية في القرنين الاولين للهجرة، ولا سبب لذلك غير ما يقتضيه النمو من التجدد والدثور.. يكفي لتحقيق ذلك، مراجعة المعجمات وتدبر الفاظها، فإنك ترى فيها مئات وألوفا من الالفاظ التي بطل استعمالها، ولا نظنهم جمعوها في صدر الاسلام، إلا لأنها كانت شائعة على ألسنة العرب. وقد يعترض على ذلك ان تلك الالفاظ إنما أهملت في العصور الاخيرة فلا ننكر إهمال بعضها في هذه العصور، ولكن جانبا كبيرا منها أهمل في العصور الأولى، فضلا عمّا قلّ استعماله قبل الاسلام.. حتى لقد كان أحدهم يسمع أعرابيا يتكلّم، فإذا ذكر ألفاظا مهملة أغلق على السامع فهمها ولو كان لغويا..
****
ويُروى عن ابي زيد الانصاري انه قال: "بينما انا في المسجد الحرام، اذ وقف علينا اعرابي، فقال: "يا مسلمون -بعد الحمد لله والصلاة على نبيه- إني امرؤ من هذا الملطاط الشرقي، المواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون محش، فأجتبت الذري، وهشست العري، وجمشت النجم، وأعجبت البهم، وهمت الشحم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا، والنبط قعاع، والضهيل جراعا، والمقام جعجاعا، يصبحنا الهاوي، ويطرقنا العاوي، فخرجت لا أتلفع بوصيده، ولا أتقوّت بمهيده، فالبخصات وقعه، والركبات زلعه، والاطراف فقعه، والجسم مسلهم، والنظر مدرهم، اعشوا فاغطش، وأضحي فاخفش، اسهل ظالعا، وأحزن راكعا، فهل من آمر بمير، أو داع بخير، وقاكم الله سطوة القادر، وملكة الكاهر، وسوء الموارد، وفضوح المصادر.. قال أبو زيد فأعطيته دينارا وكتبت كلامه واستفسرت منه ما لم أعرفه" وابو زيد الأنصاري من فطاحل أئمة اللغة. وأمثال هذه كثيرة في أخبار العرب.