الكتاب الأخضر/الفصل الثالث/الأمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الأمة هي مظلة سياسية قومية للفرد أبعد من المظلة الاجتماعية التي توفرها القبيلة لأفرادها… والقبلية هي إفساد القومية ، فالولاء القبلي يضعف الولاء القومي ويكون على حسابه.مثلما الـولاء العائلي يكون على حساب الولاء القبلي فيضعفه كذلك . والتعصب القومي بقدر ما هو ضروري للأمة هو مهدد للإنسانية. إن الأمة في المجتمع الدولي هي مثل الأسرة في القبيلة ، فكلما تناحرت عائلات القبيلة الواحدة وتعصبت لنفسها تهددت القبيلة بطبيعة الحال . مثل أفراد الأسرة الواحدة إذا تناحروا وتعصب كل فرد لذاته تهددت الأسرة . وإذا تناحرت قبائل الأمة وتعصبت كل قبيلة لنفسها تهددت تلك الأمة ، والتعصب القومي واستخدام القوة القومية ضد الأمة غير القوية أو التقدم القومي نتيجة استحواذ ما لأمة أخرى هو شر وضار للإنسانية . ومع هذا فالفرد القوي والمحترم لذاته والمدرك لمسؤولياته الفردية مهم ونافع للأسرة . والأسرة المحترمة والقوية المدركة لأهميتها مفيدة اجتماعياً ومادياً للقبيلة . والأمة المتقدمة والمنتجة والمتحضرة مفيدة للعالم كله. والبناء السياسي والقومي يفسد إذا نزل إلى المستوى الاجتماعي ، أي المستوى العائلي والقبلي وتفاعل معه وأخذ اعتباراته . بما أن الأمة عبارة عن أسرة كبيرة بعد أن مرت بمرحلة القبيلة وتعدد القبائل المتفرعة من أصل واحد ، وكذلك المنتمية إلى ذلك الأصل انتماء مصيرياً . والأسرة لا تصير أمة إلا بعد مرورها بمراحل القبيلة وتفرعها ومرحلة الانتماء نتيجـة الاختلاط المختلف … وذلك يتحقق حتماً اجتماعياً بعد زمن لا يمكن إلا أن يكون طويلاً . ومع هذا ، فإن طول الزمن كما ينشئ أمماً جديدة يساعد على تفتيت أمم قديمة ، ولكن الأصل الواحد والانتماء المصيري هما الأساسان التاريخيان لأي أمة . ويبقى الأصل في المرتبة الأولى والانتماء في المرتبة الثانية ، فالأمة ليست أصلاً فقط ،حتى وإن كان الأصل هو أساسها ومنشأها ، ولكن الأمة علاوة على ذلك هي تراكمات تاريخية بشرية تجعل مجموعة من الناس تعيش على رقعة واحدة من الأرض… وتصنع تاريخا واحداً… ويتكون لها تراث واحد.. وتصبح تواجه مصيراً واحداً . وهكذا فالأمة بغض النظر عن وحدة الدم هي في النهاية انتماء ومصير . ولكن لماذا شهدت خريطة الأرض دولاً عظمى ثم اختفت وظهرت على خريطتها دول أخرى والعكس ؟ هل السبب سياسي ولا علاقة له بالركن الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة ، أم السبب اجتماعي ويخص هذا الفصل من الكتاب الأخضر ؟لنر : لا خلاف على أن الأسرة تكوين اجتماعي وليس سياسياً، والقبيلة كذلك، لأنها أسرة توالدت وتكاثرت فأصبحت أسراً عديدة.والأمة هي القبيلة بعد أن كبرت وتعددت أفخاذها وبطونها وتحولت إلى عشائر ثم قبائل. فالأمة أيضاً تكوين اجتماعي علاقته (القومية)… والقبيلة تكوين اجتماعي علاقته (القبلية)… والأسرة تكوين اجتماعي علاقته (الأسرية). وأمم العالم تكوين اجتماعي علاقته (الإنسانية)..هذه بديهيات . ثم هنـاك تكويـن سيـاسي يكون الدولة هو الذي يشكل خريطة العالم السياسية… ولكن لماذا تتغير خريطة العالم من عصر إلى آخر ؟ السبب هو أن التكوين السياسي هذا قد يكون منطبقا على التكوين الاجتماعي وقد لا يكون كذلك . فعند انطباقه على الأمة الواحدة يدوم ولا يتغير ، وإذا تغير نتيجة استعمار خارجي أو تدنى يعود للظهور مرة أخـرى تحت شعار الكفاح القومي ، أو النهوض القومي ، والوحدة القومية . أما إذا كان التكوين السياسي يجمـع أكثر من أمة ، فإن خريطته تتمزق من جراء استقلال كل أمة تحت شعار قوميتها. وهكذا تمزقت خريطة الإمبراطوريات التي شهدها العالم لأنها تجمع عدة أمم ما تلبث حتى تتعصب كل أمة لقوميتها ، وتطلب الاستقلال فتتمزق الإمبراطورية السياسية لتعود مكوناتها إلى أصولها الاجتماعية، والدليل واضح تمام الوضوح في تاريخ العالم إذا راجعناه في كل عصر من عصوره. ولكن لماذا تتكون تلك الإمبراطوريات من أمم مختلفة ؟ . الجواب هو أن تكوين الدولة ليس تكويناً اجتماعيـاً فقـط كالأسرة والقبيلة والأمة، فالدولة كيان سياسي تخلقه عدة عوامل أبسطها وأولها القومية . فالدولة القومية هي الشكل السياسي الوحيد المنسجم مع التكوين الاجتماعي الطبيعي وهي التي يدوم بقاؤها ما لم تتعرض لطغيان قومية أخرى أقـوى منهـا، أو أن يتـأثر تكوينهـا السيـاسي كدولة بتكوينهـا الاجتمـاعي كقبائل وعشائر وأسر. فلو خضع التكوين السياسي للتكوين الاجتماعي العائلي والقبلي أو الطائفي وأخذ اعتباراته لفسد. أما العوامل الأخرى لتكوين الدولة غير الدولة البسيطة ( الدولة القومية ) فهي عوامل دينية واقتصادية وعسكرية . فالدين الواحد قد يكون دولة من عدة قوميات… والضرورة الاقتصادية كذلك … والفتوحات العسكرية أيضاً... وهكذا يشهد العالم في عصر ما تلك الدولة أو الإمبراطورية ، ثم يراها قد اختفت في عصر آخر.فعندما تظهر الروح القومية أقوى من الروح الدينية ، ويشتد الصراع بين القوميات المختلفة التي يجمعها دين واحد مثلاً ، تستقل كل أمة راجعة إلى تكوينها الاجتماعي فتختفي تلك الإمبراطورية… ثم يأتي الدور الديني مرة أخرى عندما تظهر الروح الدينية أقوى من الروح القوميـة فتتحد القوميـات المختلفة تحت علم الدين الواحد.. حتى يأتي الدور القومي مرة أخرى وهكذا . فكل الدول المتكونـة من قوميـات مختـلفة بسـبب ديني أو اقتصادي أوعسكري أو عقائدي وضعي سوف يمزقهاالصراع القومي حتى تستقل كل قومية.. أي ينتصر حتماً العامل الاجتماعي علىالعامل السياسي. وهكذا فبالرغم من الضرورات السياسيةالتي تحتم قيام الدولة ، إلا أن أساس حياة الأفراد هو الأسرة ثم القبيلة ثم الأمة إلىالإنسانية ، فالعامل الأساسي هو العامل الاجتماعي وهو الثابت .. أي القومية. فيجب التركيز على الحقيقة الاجتماعية والعناية بالأسرة ليظهر الإنسان السوي المربى ، ثم القبيلة كمظلة اجتماعية ومدرسة اجتماعية طبيعية تربي الإنسان اجتماعياً فيما فوق الأسرة ثم الأمة ، إذإن الفرد لا يعرف قيمة القيم الاجتماعية إلا من الأسرة والقبيلة ، وهما التكوين الاجتماعي الطبيعي الذي لا دخل لأحد في صنعه ، العناية بالأسرة من أجل الفرد والقبيلة ، من أجل الأسرة، من أجل الفرد والأمة..أي القومية ، فالعامل الاجتماعي هو المحرك الحقيقي والدائم للتاريخ ( أي العامل القومي ) . إن تجاهل الرابطة القومية للجماعات البشرية ، وبناء نظام سياسي متعارض مع الوضع الاجتماعي هو بناء مؤقت سيتهدم بحـركـة العـامل الاجتماعي لتلك الجماعات ، أي الحركة القومية لكل أمة. تلك كلها حقائق معطاة أصلاً في حياة الإنسان ، وليست تصورات اجتهادية، وعلى كل فرد في العالم أن يعيها ويعمل وهو مدرك لها حتى يكون عمله صالحاً. أي من الضروري معرفة هذه الحقائق الثابتة حتى لا يقع انحراف وخلل وإفساد لحياة الجماعات البشرية نتيجة عدم فهم واحترام هذه الأصول للحياة الإنسانية. ا.