الكبائر للذهبي/الكبيرة الثامنة : عقوق الوالدين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال الله تعالى : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أي برا و شفقة و عطفا عليهما { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما } : أي لا تقل لهما بتبرم إذا كبرا و أسنا و ينبغي أن تتولى خدمتهما ما توليا من خدمتك على أن الفضل للمتقدم و كيف يقع التساوي و قد كانا يحملان أذاك راجين حياتك و أنت إن حملت أذاهما رجوت موتهما ثم قال الله تعالى : { و قل لهما قولا كريما } أي لينا لطيفا { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } و قال الله تعالى : { أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير } فانظر رحمك الله كيف قرن شكرهما بشكره قال ابن عباس رضي الله عنهما : ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها ( إحداهما ) قول الله تعالى : { أطيعوا الله و أطيعوا الرسول } فمن أطاع الله و لم يطع الرسول لم يقبل منه ( الثانية ) قول الله تعالى : { و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة } فمن صلى و لم يزك لم يقبل منه ( الثالثة ) قول الله تعالى : { أن اشكر لي و لوالديك } فمن شكر الله و لم يشكر لوالديه لم يقبل منه و لذا قال النبي [ رضى الله في رضى الوالدين و سخط الله في سخط الوالدين ]

و [ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل يستأذن النبي في الجهاد معه فقال النبي  : قال أحي والداك ؟ : نعم قال : ففيهما فجاهد ] مخرج في الصحيحين فانظر كيف فضل بر الوالدين و خدمتهما على الجهاد !

و في الصحيحين [ أن رسول الله قال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر : الإشراك بالله و عقوق الوالدين ] فانظر كيف قرن الإساءة إليهما و عدم البر و الإحسان بالإشراك و في الصحيحين أيضا [ أن رسول الله قال : لا يدخل الجنة عاق و لا منان و لا مدمن خمر ] و عنه قال : [ لو علم الله شيئا أدنى من الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة و ليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار ] و قال  : [ لعن الله العاق لوالديه ] و قال  : [ لعن الله من سب أباه لعن الله من سب أمه ] و قال  : [ كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة ]

و قال كعب الأحبار رحمه الله : إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقا لوالديه ليعجل له العذاب و أن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارا بوالديه ليزيده برا و خيرا و من برهما أن ينفق عليهما إذا احتاجا فقد جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله إن أبي يريد أن يحتاج مالي فقال  : [ أنت و مالك لأبيك ] و سئل كعب الأحبار عن عقوق الوالدين ما هو ؟ قال هو إذا أقسم عليه أبوه أو أمه لم يبر قسمها و إذا أمره بأمر لم يطع أمرهما و إذا سألاه شيئا لم يعطهما و إذا ائتمناه خانهما

و سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أصحاب الأعراف من هم و ما الأعراف ؟ فقال : أما الأعراف فهو جبل بين الجنة و النار و إنما سمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة و النار و عليه أشجار و ثمار و أنهار و عيون و أما الرجال الذين يكونون عليه فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير رضا آبائهم و أمهاتهم فقتلوا في الجهاد فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار و منعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيهم أمره

و في الصحيحين [ أن رجلا جاء إلى رسول الله فقال يا رسول الله من أحق الناس مني بحسن الصحبة ؟ قال أمك قال ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك ثم الأقرب فالأقرب ] فحض على بر الأم ثلاث مرات و على بر الأب مرة واحدة و ما ذاك إلا لأن عناءها أكثر و شفقتها أعظم مع ما تقاسيه من حمل و طلق و ولادة و رضاعة و سهر ليل

رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلا قد حمل أمه على رقبته و هو يطوف بها حول الكعبة فقال : يابن عمر أتراني جازيتها ؟ قال : و لا بطلقة واحدة من طلقاتها و لكن قد أحسنت و الله يثيبك على القليل كثيرا و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : أربعة نفر حق على الله أن لا يدخلهم الجنة و لا يذيقهم نعيمها : مدمن خمر و آكل ربا و آكل مال اليتيم ظلما و العاق لوالديه إلا أن يتوبوا ] و قال  : [ الجنة تحت أقدام الأمهات ] و جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال : يا أبا الدرداء إني تزوجت امرأة و إن أمي تأمرني بطلاقها فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله يقول : [ الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه ] و قال  : [ ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة المظلوم و دعوة المسافر و دعوة الوالد على ولده ] و قال  : [ الخالة بمنزلة الأم أي في البر و الإكرام و الصلة و الإحسان ] و عن وهب بن منبه قال : إن الله تعالى أوحى إلى موسى صلوات الله و سلامه عليه يا موسى وقر والديك فإن من وقر والديه مددت في عمره و وهبت له ولدا يوقره و من عق والديه قصرت في عمره و وهبت له ولدا يعقه و قال أبو بكر بن أبي مريم : قرأت في التوراة أن من يضرب أباه يقتل و قال وهب : قرأت في التوراة : على من صك والده الرجم

و عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس و صمت رمضان و أديت الزكاة و حججت البيت فماذا لي ؟ فقال رسول الله  : [ من فعل ذلك كان مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين إلا أن يعق والديه ] و قال  : [ لعن الله العاق والديه ] و جاء عن رسول الله قال : [ رأيت ليلة أسري بي أقواما في النار معلقين في جذوع من نار فقلت : يا جبريل من هؤلاء قال : الذين يشتمون آباءهم و أمهاتهم في الدنيا ]

و روي أن من شتم والديه ينزل عليه في قبره جمر من نار بعدد كل قطر ينزل من السماء إلى الأرض و يروى أنه إذا دفن عاق والديه عصره القبر حتى تختلف فيه أضلاعه و أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المشرك و الزاني و العاق لوالديه

و قال بشر : ما من رجل يقرب من أمه حيث حيث يسمع كلامها إلا كان أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله و النظر إليها أفضل من كل شيء [ و جاء رجل و امرأة إلى رسول الله يختصمان في صبي لهما فقال الرجل : يا رسول الله ولدي خرج من صلبي و قالت المرأة : يا رسول الله حمله خفا و وضعه شهوة و حملته كرها و وضعته كرها و أرضعته حولين كاملين فقضى به رسول الله لأمه ] ( موعظة ) : أيها المضيع لآكد الحقوق المعتاض من بر الوالدين العقوق الناسي لما يجب عليه الغافل عما بين يديه بر الوالدين عليك دين و أنت تتعاطاه باتباع الشين تطلب الجنة بزعمك و هي تحت أقدام أمك حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج و كابدت عند الوضع ما يذيب المهج و أرضعتك من ثديها لبنا و أطارت لأجلك وسنا و غسلت بيمينها عنك الأذى و آثرتك على نفسها بالغذاء و صيرت حجرها لك مهدا و أنالتك إحسانا و رفدا فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية و أطالت الحزن و النحيب و بذلت مالها للطبيب و لو خيرت بين حياتك و موتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها هذا و كم عاملتها بسوء الخلق مرارا فدعت لك بالتوفيق سرا و جهارا فلما احتاجت عند الكبر إليك جعلتها من أهون الأشياء عليك فشبعت و هي جائعة و رويت و هي قانعة و قدمت عليها أهلك و أولادك بالإحسان و قابلت أياديها بالنسيان و صعب لديك أمرها و هو يسير و طال عليك عمرها و هو قصير هجرتها و مالها سواك نصير هذا و مولاك قد نهاك عن التأفف و عاتبك في حقها بعتاب لطيف ستعاقب في دنياك بعقوق البنين و في أخراك بالبعد من رب العالمين يناديك بلسان التوبيخ و التهديد ( ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد ) :

( لأمك حق لو علمت كثير ... كثيرك يا هذا لديه يسير ) ( فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي ... لها من جواها أنة و زفير ) ( و في الوضع لو تدري عليها مشقة ... فمن غصص منها الفؤاد يطير ) ( و كم غسلت عنك الأذى بيمينها ... و ما حجرها إلا لديك سرير ) ( و تفديك بما تشتكيه بنفسها ... و من ثديها شرب لديك نمير ) ( و كم مرة جاعت و أعطتك قوتها ... حنانا و إشفاقا و أنت صغير ) ( فآها لذي عقل و يتبع الهوى ... و آها لأعمى القلب و هو بصير ) ( فدونك فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير )

[ حكي أنه كان في زمن النبي شاب يسمى علقمة و كان كثير الإجتهاد في طاعة الله في الصلاة و الصوم و الصدقة فمرض و اشتد مرضه فأرسلت امرأته إلى رسول الله  : إن زوجي علقمة في النزع فأردت أن أعلمك يا رسول الله بحاله فأرسل النبي عمارا و صهيبا و بلالا و قال : امضوا إليه و لقنوه الشهادة فمضوا إليه و دخلوا عليه فوجدوه في النزع فجعلوا يلقنونه ( لا إله إلا الله ) و لسانه لا ينطق بها فأرسلوا إلى رسول الله يخبرونه أنه لا ينطق لسانه بالشهادة فقال النبي  : هل من أبويه أحد حي ؟ قيل : يا رسول الله أم كبيرة السن فأرسل إليها رسول الله و قال للرسول : قل لها إن قدرت على المسير إلى رسول الله و إلا فقري في المنزل حتى يأتيك قال : فجاء إليها الرسول فأخبرها بقول رسول الله فقالت : نفسي لنفسه فداء أنا أحق بإتيانه فتوكأت و قامت على عصا و أتت رسول الله فسلمت فرد عليها السلام و قال لها : يا أم علقمة أصدقيني و إن كذبت جاء الوحي من الله تعالى كيف كان حال ولدك علقمة ؟ قالت : يا رسول الله كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة قال رسول الله فما حالك ؟ قالت : يا رسول الله أنا عليه ساخطة قال : و لم ؟ قالت : يا رسول الله كان يؤثر علي زوجته و يعصيني فقال رسول الله  : إن سخط أم علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة ثم قال : يا بلال انطلق و اجمع لي حطبا كثيرا قالت يا رسول الله و ما تصنع ؟ قال : أحرقه بالنار بين يديك قالت : يا رسول الله ولدي لا يحتمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي قال : يا أم علقمة عذاب الله أشد و أبقى فإن سرك أن يغفر الله له فارضي عنه فوالذي نفسي بيده لا ينتفع علقمة بصلاته و لا بصيامه و لا بصدقته ما دمت عليه ساخطة فقالت : يا رسول الله إني أشهد الله تعالى و ملائكته و من حضرني من المسلمين أني قد رضيت عن ولدي علقمة فقال رسول الله  : انطلق يا بلال إليه وانظر هل يستطيع أن يقول لا إله إلا الله أم لا ؟ فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياء مني فانطلق فسمع علقمة من داخل الدار يقول : لا إله إلا الله فدخل بلال فقال : يا هؤلاء إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة و أن رضاها أطلق لسانه ثم مات علقمة من يومه فحضره رسول الله فأمر بغسله و كفنه ثم صلى عليه و حضر دفنه ثم قام على شفير قبره و قال : يا معشر المهاجرين و الأنصار من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا إلا أن يتوب أن يتوب إلى الله عز و جل و يحسن إليها و يطلب رضاها فرضى الله في رضاها و سخط الله في سخطها فنسأل الله أن يوفقنا لرضاه و أن يجنبنا سخطه إنه جواد كريم رؤوف رحيم ]