الكاهن الشرير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الكاهن الشرير
The Evil Clergyman​
 المؤلف هوارد فيليبس لافكرافت
ملاحظات: (ترجمات ويكي مصدر) قصة مأخوذة عن إحدى رسائل لافكرافت وأستقاها عن حلم رآه ونشرت بعد موته في عدد أبريل 1939 من مجلة حكايات غريبة


أدخلني إلى الغرفة العلوية رجل ذكي المظهر وقور المحيا، له ثياب عادية ولحية رمادية، وتحدّث معي بهذا الشكل:

"نعم، كان يعيش هنا – لكنني لا أنصحك بفعل أي شيء، ذلك أن الفضول يجعلك طائشا. نحن لا نأتي إلى هذا المكان أبدا في الليل، ونحن نبقي الأمر هكذا بإرادته فقط. أنت تعرف ما فعله. تلك الجماعة الكريهة تولّت الأمر، ونحن لا نعرف أين مكان دفنه. ليس بإمكان القانون أو أي شيء آخر الوصول إلى تلك الجماعة.

"أتمنّى ألا تبقى حتى يحل الظلام. وأتمنى أن تترك ذلك الشيء على الطاولة وشأنه... ذاك الشيء الذي يبدو مثل علبة ثقاب. نحن لا نعرف ماهيته، لكنّنا نشكّ أن له علاقة بما فعله. نحن نتجنب النظر إليه".

بعد فترة تركني الرجل وحيدا في العلية. كانت الغرفة قذرة ويعلوها التراب، ذات أثاث بسيط، لكنّها كان مرتبة وليست ملك رجل فقير. كانت هناك رفوف مليئة بالكتب اللاهوتية والكلاسيكية، ومكتبة أخرى بها أبحاث عن السحر – باراسيلسوس، ألبرتوس ماغنوس، تريثيميوس، هرمس تريسميغيستوس، بوريلوس، وآخرون كتبت أعمالهم بأبجدية غريبة لا أعرفها. كان الأثاث بسيطا جدا. كان هناك باب ولكنّه قاد إلى خزانة. وكان المخرج الوحيد هو فتحة في الأرضية ينتهي إليها السلم العتيق. بنيت النوافذ على نمط عين الثور، أما عوارض البلّوط السوداء فبنيت على طراز عصر قديم. بدا أن هذا البيت كان من العالم القديم. كنت أعرف مكاني وقتها، ولكني لا أتذكره الآن. وأنا متأكد أن تلك البلدة لم تكن لندن، وأظنها كانت ميناءا صغيرا.

سحرني ذاك الشيء الصغير على الطاولة. أحسست أني أعرف ما سأفعل به، وأخرجت من جيبي مصباحا كهربائيا وجرّبت نوره وكانت يدي ترتعش. لم يكن نور المصباح أبيضا بل كان بنفسجيا، ولم يبد مثل نور عادي بل كان مثل وابل من الأشعة. أتذكّر أنّني لم أعتبره مصباحا عاديا، وأتذكر أنه كان لدي مصباح في الجيب الآخر.

حل الظلام، وبدت أسطح البيوت القديمة وأعمدة المداخن غريبة وأنا أناظرها من خلال النافذة. أخيرا استجمعت شجاعتي وأسندت الشيء الصغير على الطاولة قبالة كتاب – ثم وجّهت النور البنفسجي الغريب فوقه. بدا النور الآن مثل زخات من المطر والبَرَد وليس شعاعا متصلا. نزلت جزيئات الأشعة البنفسجية على السطح الزجاجي للشيء الغريب، وسمعتها تصدر فرقعة مثل صوت شرارات تعبر أنبوبا مفرغا. تلوّن السطح الزجاجي المظلم بوهج وردي، ورأيت شكلا أبيض غامضا يتشكل في داخله. ثمّ لاحظت أنني لم أكن لوحدي في الغرفة – وأعدت المصباح إلى جيبي.

لكن هذا الدخيل لم يتكلم – بل لم أسمع أي صوت على الإطلاق خلال اللحظات التالية. بدا كلّ شيء وكأنه تمثيلية صامتة وسط الظلام، كما لو أنه يقف من بعيد وسط الضباب – وإن بدا هذا الدخيل ومن لحق به عمالقة وقريبين مني، كما لو أنهم كانوا قريبين وبعيدين في نفس الوقت.

كان هذا الدخيل أسمر البشرة ونحيلا، متوسط الطول ويرتدي زي قساوسة الكنيسة الأنجليكانية. بدا الرجل في الثلاثين من العمر، ذا بشرة زيتونية شاحبة وذا ملامح حسنة، لكن جبهته كانت عريضة جدا. كان شعره الأسود مشذبا وممشوطا بعناية، وكان حليق الوجه ولكن نمت على حنكه لحية كبيرة. وضع على عينيه نظارات لا إطار لها وذات أقواس فولاذية. كانت بنيته وملامحه مثل الكهنة الآخرين الذين رأيتهم، لكن جبهته كانت أعرض بكثير، وبدا من محياه أنه أذكى، وبدا أنه يخفى الشر وراء وجهه. بدا الرجل عصبيا ومتوترا في تلك اللحظة، وأنار مصباح زيت ذا نور ضعيف، ولم أدري به إلا وهو يرمي كل كتب السحر في الموقد على جانب الغرفة (حيث كان الحائط يميل بحدّة) وهو ما لم ألاحظ وجوده من قبل. التهمت النيران الكتب بنهم شديد – ترتفع ألسنتها بألوان غريبة وبعثت روائح كريهة لا يمكن وصفها وأنا أرى الأوراق ذات الكتابات الغريبة والأغلفة المسوّسة تستسلم للهب. في نفس الوقت رأيت رجالا آخرين في الغرفة – متجهمين ويرتدون ثيابا كنسية، وكان أحدهم يلبس ثياب أسقف. لم أسمع منهم أي شيء، ولكنني أدركت أنّهم كانوا يتناقشون بما يجب فعله بالقادم الجديد. بدا أنهم يكرهونه ويهابونه في نفس الوقت، وبدا عليه أنه يحس بذات الشعور اتجاههم. كان التجهّم يعلو وجهه، ولكن أمكنني رؤية يده اليمنى تهتزّ وهو يحاول إمساك الكرسي. أشار الأسقف إلى العلبة الفارغة وإلى الموقد (حيث خمدت النيران وتركت وراءها كتلة متفحّمة)، وبدا عليه الاشمئزاز. رسم القادم الجديد ابتسامة مجعّدة على وجهه ومدّ يده اليسرى نحو الشيء الصغير على الطاولة. وعندها بدا الخوف على الجميع. بدأ موكب الكهنة بالنزول أسفل الدرجات الحادّة عبر الباب في الأرضية، واستداروا ولوّحوا بأيديهم وهم يرحلون عن الغرفة. وكان الأسقف آخر من رحل.

ذهب القادم الجديد إلى دولاب على الجانب الداخلي للغرفة وأخذ لفة من الحبال. صعد على كرسي، وربط أحد طرفي الحبل بخطّاف في العمود المركزي الكبير الذي صنع من البلوط الأسود، وبدأ بصنع أنشوطة بالطرف الآخر. أدركت أنه على وشك شنق نفسه، فاتجهت نحوه لأثنيه عن عزمه أو أنقذه. رآني الرجل وتوقف عما يفعل، ونظر إلي بشيء من البهجة وهو ما حيّرني وأزعجني. نزل ببطء من الكرسي وانطلق نحوي بابتسامة وحشية على وجهه الأسمر بشفاهه النحيفة.

شعرت أنني في خطر يهدد حياتي، فأخرجت المصباح الغريب لأدافع به عن نفسي. لا أدري لماذا ظننت أن هذا الشيء سيساعدني. وجّهت كامل نور هذا الشيء على وجهه، ورأيت ملامحه الشاحبة تتوهّج أولا بنور بنفسجي ثم بنور وردي. رأيت تلك الابتسامة الوحشية على وجهه وهي تتحول إلى نظرة خوف عميق، ولكنها لم تمحو تلك البهجة عن وجهه. توقّف في طريقه، وبدأ يلوّح ذراعيه بعنف في الهواء، ثم بدأ يتمايل إلى الخلف. رأيته وهو يتجه نحو باب الدرج المفتوح في الأرضية، وحاولت تحذيره لكنه لم يسمعني. في لحظة أخرى ترنّح للوراء عبر الفتحة واختفى عن ناظري.

وجدت صعوبة في المشي نحو الدرج، ولكن عندما وصلت إليه لم أجد أي جثة على الأرض من تحتي. بدلا من ذلك رأيت جمعا من الناس بفوانيسهم، وانكسر الصمت الذي أطبق على المكان، وسمعت الأصوات مرة أخرى ورأيت أشكالا ثلاثية الأبعاد. لا بد أن شيئا قد اجتذب الحشد إلى هذا المكان. هل صدر صوت لم أسمعه؟

ثم رآني شخصان من بعيد (بدا أنهم قرويّون بسطاء) ووقفا مشلولين ومصعوقين. صرخ أحدهما بصوت عالي ومدوّ:

"آه!... إنه بي زور؟ مجددا؟"

استداروا جميعهم وهربوا مذعورين. كلهم عدا واحدا. عندما اختفى الحشد رأيت الرجل الملتحي الذي جلبني إلى هذا المكان وهو يقف وحيدا ويحمل فانوسا. كان يحدّق بي بتلهف وافتتان، لكن لم يبد عليه الخوف. ثمّ بدأ بصعود الدرج ولحق بي في العلية. وتكلّم:

"لم تترك الشيء وشأنه! أنا آسف. أعرف ما حدث. حدث هذا الأمر قبل ذلك، لكن ذاك الرجل أصابه الخوف وأطلق النار على نفسه. ما كان يجب أن تجعله يعود. أنت تعرف ما يريده. لكن لا يجب أن تخاف كما فعل الرجل الآخر. شيء غريب وفظيع حدث لك، لكنه لم يؤذي عقلك وشخصيتك. إن حافظت على هدوئك، وقبلت بضرورة القيام بتغييرات جذرية في حياتك، فلا يزال بإمكانك عندها التمتّع بالعالم، والاستفادة من ثمار بحثك. لكن لا يمكنك العيش هنا ولا أعتقد أنك ستتمنّى العودة إلى لندن. أنصحك بالذهاب إلى أمريكا.

"لا يجب أن تفكر بذاك الشيء أكثر من هذا. لا رجوع عما حدث. قد تحدث أمور أسوأ إن فعلت (أو استحضرت) أي شيء. وضعك ليس بالسوء الذي تعتقده، ولكن يجب أن تخرج من هنا حالا وتبقى بعيدا. ويجب أن تشكر السماء أن الأمر لم يسوء أكثر من هذا...

"سأحاول أن أجهزك لمواجهة الحقيقة ما أمكنني. حدث تغيير في مظهرك الشخصي. يحدث هذا دائما. لكنك ستتعود عليه في البلاد الجديدة. هناك مرآة على الجانب الآخر من الغرفة، وسآخذك إليها. ستصدم لما تراه ولكنك لن ترى ما يثير اشمئزازك".

اهتزّ جسدي بخوف مريع، وأخذني الرجل الملتحي بيده عبر الغرفة إلى المرآة، وهو يحمل المصباح الضعيف في يده الأخرى (المصباح الذي كان على الطاولة، وليس الفانوس الأضعف منه والذي دخل به الغرفة). هذا ما رأيته على زجاج المرآة:

رجل نحيل، أسمر البشرة، متوسّط القوام يلبس زيّا كهنوتيا للكنيسة الأنجليكانية، يبلغ عمره في الثلاثين تقريبا، يلبس نظارات ذات قوس فولاذي ودون إطار، على جبهة شاحبة زيتونية عريضة.

كان شكل القادم الجديد الصامت الذي أحرق كتبه.

لبقية حياتي، سيكون مظهري الخارجي بمظهر ذاك الرجل!