القرن العشرون ما كان وما سيكون/مقدمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


مقدمة

اقتربت مطالع القرن العشرين وأبناء القرن التاسع عشر يحسبون أنهم مقتربون من عصر ځامل الى عصر يشبهه في خموله، وكانوا قد عبروا الأعوام العشرة الأخيرة من القرن وهم يمرون بها مرور الملل وقلة

الاكتراث: رکود لا يستغربونه لأنهم أطلقوا عليه كلمة «آخر القرن» Fin de Siècle كما تقول نحن في اللغة العربية «آخر زمن» ونفسر به كل فعل منتظر على غراره ومن معدنه: معدن الاسفاف والابتذال. فلا اكتراث له ولا غرابة فيه، لأن الشيء من معدنه لا يستغرب كما يقال ويعاد.

وليس أدل على جهل الناس بغدهم القريب من هذه الغفلة في نهاية القرن التاسع عشر عن ضخامة القرن العشرين بين قرون التاريخ القديم والحديث منذ عرف التاريخ، فلم يكن هذا القرن ينتصف حتى التفت العالم من جميع أركانه وأقطاره الى القرن الذي خيل اليه أنه بقية العكارة من أعقاب التاريخ الأخير، فإذا هو عصر العصور في حوادثه وفي مكتشفاته ومخترعاته، وفيما يتوقع بعده من جلائل الآمال. نعم، وجالاكل الأهوال.

حربان عالميتان من عشرته الثانية الى عشرته الرابعة، واقتحام للفضاء، وفتح القمقم عن مارد الطبيعة الأكبر، وهو القمقم الذي يحتويه أصغر ما فيها من ذرات لا تدركها الأبصار.

هل تعجل الإنسانية إلى النصر على الطبيعة أو تعجل إلى الدمار على يد الإنسان بما كشفه من أسرارها? وهل اقترب الإنسان حقا من الحرب التي تختم الحروب فلا حرب بعدها ولا محاربون ، أم هو يقترب شيئا فشيئا من يوم النصر على الطبيعة وعلى ما في طبيعته هو من بوائق الشر والدمار ؟ وذهبت السكرة وجاءت الفكرة : ذهبت نشوة الفتح والانتصار على المارد المكنون في ذرات المادة وانجلت المفاجأة عن حساب طويل لهذا الفتح المبين ، بل حساب عسير . ماذا في وسع العلم أن يهب لنا من علانيته وسره ؟ ماذا عنده من الوعد وماذا عنده من الوفاء ؟ وماذا من الخير المأمول ! بل ماذا في الخير المأمول من محذور يتستر وراءه النفع المنظور ؟ ان غلبة الانسان على الطبيعة سوف تؤتيه الغلبة على السقم والوباء، وسوف يزداد الناس ببركة العلم فماذا عند العلم لهؤلاء الناس من الأزواد ومن الشواغل والأعمال ? أعنده الكفاية لهم من القوت والمأوى أم هو مرسلهم الى عالم يتغالبون عليه ثم يلتمسون الغلب بذلك السلاح الجديد : ذلك السلاح المبيد ؟ وعاد الباحثون الى نذیر « مالثوس » يدرسونه وينقدونه وينقصون منه أو يزيدون عليه ، فوضح لهم أن تذير الأمس قد أصاب في كل شيء الا فيما اعتمد عليه من معلومات وأسانيد . ولم يخطىء حين أنذر بالخطر من زيادة الأحياء على الكفاية في الأرض من الطعام ، ولعله قد ذكر بعض المخاوف ونسى بعضها الذي توارى عنه فلم يبلغ في زمنه مبلغ الخطر الملموس ، وهو زيادة الآلات والأدوات على ما يلزمها من غذائها المدخر في الأرض ، وهو مناجم الوقود . ولجأ الباحثون الى نبوءاتهم يستخبرونها عن الغد المخبوء قبل نهاية القرن العشرين ، ولكنها نبوءات تتسم بطابع القرن وصبغة العلم 9 والصناعة ، كأنها نبوءة المتحدث عن سيار في السماء أو في الأرض ، يعرف مداره ويعرف كم يدور . نبوءات أقرب الى التقديرات والاحصاءات ، ليست من نبوءات الطوبي ولا من نبوءات الأحلام ولا من نبوءات العصـور الذهبية . ولكنها أشبه بأرصاد الفلك ، لو لم يكن فيها شيء من الغيب المجهول قد يخطىء فيه الحساب . ماذا عند هذا العصر . الوعود حقيق أن يتبعه الوفاء ؟ وماذا يحول دون وفائه بوعوده مما في الحساب . ومما يقع وراء كل حساب - عصر الصناعة – من وعود ? وماذا من هذه هي الأسئلة التي تدور على جوابها فصول هذا الكتاب ، وأرجو أن نوفق للاجابة عنها غاية ما تلهمنا ظواهر الأمور ، وغاية ما نهتدي اليه بهداية تلك الظواهر ، وهداية الأمل المصدوق - وسنحاول أن نجيب عنه جوابين متلاحقين لا متقابلين ولا متناقضين ، يضيف أحدهما الى الآخر ، ولا يزحزحه عن مكانه ليلغيه أو يطغى عليه . فمن حيث انتهى بالقرن العشرين تطوره الصناعي يبتدىء النظر الى الممكنات وما يعترض تلك الممكنات من العوائق والعراقيل ، وهذا هو الشطر الأول من الكتاب الذي تعول فيه على خبراء الصناعة حيث بلغت الصناعة غايتها واستعدت للمضى في تقدمها الى ما بعد تلك الغاية ، في حدود القرن العشرين وفيما يليه ، وسننقل في هذا القسم خلاصة كافية للمشكلة التي أحدثتها الصناعة والمشكلة التي تعالجها الصناعة ، ومدارها على تقدير سعة الأرض من المئونة ومن السكان ، وعلى ما يشتبك بذلك من قضايا السلام وقضايا السلاح ، وبخاصة في القرن العشرين · . . شده س وننتقل بعد العرض الموجز لتقديرات الخبراء الى الشطر الثاني من الكتاب شطر التعقيب والمراجعة فنأخذ فيه بحق العلم الذي تحراه أولئك الخبراء الثقات ، ونضيف اليه واجب العلم الذي لا يسقط عنه ولا يخليه منه الحفاظ على حقه . فمن واجب العلم أن يفرض وأن يستكشف ، وأن يجمع بين أشتات اليقين كلما وسعه أن يجمعها الى فكرة مقبولة تهدى الى مزيد من اليقين ، ومن واجبه أن يفتح أبواب الاحتمال فلا يغلق منها بابا يفضى الى المجهول ، ويربط بين الماضي والمستقبل بسبب موصول ، وعلى أضواء هـذا الواجب العلمي تنظر الى مشكلات الانسانية ، والى أكبرها في القرن العشرين مشكلة الصناعة ، لتقابل بين ماضيها وحاضرها و نحاول أن نضعها في مكانها من تاريخ الانسان ، هل فلتات مبعثرة في غياهب من الفوضى وأخـلاط الطواريء والمصادفات ، أو هي سلسلة متلاحقة تشبعها – أو تسبع المعلوم من هی فنفهمها على اتصال بين ماضيها وحاضرها ، ثم تفهمها على حلقاتها أن المقابلة بين اتصال بين حاضرها وما يليه من لواحق العد المنظور ? والذي تفرضه – على أساس الفرض العلمي مشكلات الانسانية وبين أدوار الصناعة في تاريخها تسفر عن معنى يفهم ، ولا تنيه بالذهن في فراغ مبهم خلو من كل معنى مجرد من كل نسق فمشكلات الانسانية جزء من معالم الطريق لم ينفصل عن فتوحها وأطوار انتصارها وارتقائها ، والصناعة – منذ وجدت الآلة البدائية – هي السمة الأولى التي غيرت بين ملامح الحيوان الأعجم وملامح الحيوان الناطق منذ أقدم الأزمان ، وعلى هذه الصورة لا ينقطع المستقبل ولا تزال الصورة آخذة في التمام على استقامة واطراد ، وان تخللتها الفجوات والظلال . - - - ۱۱ ودعوانا التي نؤكدها ولا نتردد في توكيدها أن نظرة التفاؤل والرجاء الى الغد قائمة على أسبابها التي توازن أسباب التشاؤم والقنوط ، وان القول بعبث التاريخ أصعب دليلا من القول بمعنى التاريخ ، واننا نختار معناه على بصيرة بينة ، دون معانيه التي يؤثرها المتشائمون القانطون ، وبحسبنا منه أن يكون معنى واضح المدلول ، أسبابه التي تعززه أوضح من الأسباب التي تنفيه.