العقد الفريد (1953)/الجزء الأول/مقدمة المؤلف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يسّر وأعن

قال أبو عمرو أحمد بن عبد ربّه الأندلسيّ:

الحمد لله الأوّل بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء؛ المنفرد بقدرته، المتعالي في سلطانه؛ الذي لا تحويه الجهات ولا تنعته الصّفات؛ ولا تدركه العيون، ولا تبلغه الظنّون؛ البادئ بالإحسان، العائد بالامتنان؛ الدالّ على بقائه بفناء خلقه، وعلى قدرته بعجز كلّ شيء سواه؛ المغتفر إساءة المذنب بعفوه، وجهل المسيء بحمله؛ الذي جعل معرفته اضطرارا، وعبادته اختيارا؛ وخلق الخلق من [بين] ناطق معترف بوحدانيّته، وصامت متخشّع لربوبيّته؛ لا يخرج شيء عن قدرته، ولا يعزب عن رؤيته؛ الذي قرن بالفضل رحمته، وبالعدل عذابه؛ فالناس مدينون بين فضله وعدله، آذنون بالزّوال، آخذون في الانتقال؛ من دار بلاء، إلى دار جزاء.

أحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ فإنّه رضي الحمد ثمنا لجزيل نعمائه، وجليل آلائه ؛ وجعله مفتاح رحمته، وكفاء نعمته، وآخر دعوى أهل جنّته، بقوله جلّ وعزّ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

وصلّى الله على النبيّ المكرّم، الشافع المقرّب، الذي بعث آخرا واصطفي أوّلا، وجعلنا من أهل طاعته، وعتقاء شفاعته. وبعد:

فإنّ أهل كلّ طبقة، وجهابذة كلّ أمّة؛ قد تكلّموا في الأدب وتفلسفوا في العلوم على كلّ لسان، ومع كلّ زمان؛ وإنّ كلّ متكلّم منهم قد استفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار بديع معاني المتقدّمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين؛ وأكثروا في ذلك حتى احتاج المختصر منها إلى اختصار، والمتخيّر إلى اختيار. ثم إني رأيت آخر كلّ طبقة، وواضعي كلّ حكمة ومؤلّفي كل أدب، أعذب ألفاظا وأسهل بنية وأحكم مذهبا وأوضح طريقة من الأوّل، لأنه ناكص متعقّب، والأوّل باديء متقدّم. فلينظر الناظر إلى الأوضاع المحكمة والكتب المترجمة بعين إنصاف، ثم يجعل عقله حكما عادلا قاطعا؛ فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع، طيّبة المنبت، زكيّة التّربة، يانعة الثّمرة. فمن أخذ بنصيبه منها كان على إرث من النّبوّة، ومنهاج من الحكمة؛ لا يستوحش صاحبه، ولا يضلّ من تمسّك به.

وقد ألّفت هذا الكتاب وتخيّرت جواهره من متخيّر جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الّلباب؛ وإنّما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كلّ كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله.

وقال الشاعر:

قد عرفناك باختيارك إذ كا
ن دليلا على الّلبيب اختياره

وقال أفلاطون: عقول الناس مدوّنة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم. فتطلّبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال، ثم قرنت كلّ جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته؛ ليستدلّ الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كلّ باب. وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرا، وأظهرها رونقا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة؛ آخذا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

وقال يحيى بن خالد: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون: ويتحدّثون بأحسن ما يحفظون.

وقال ابن سيرين: العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كلّ شيء أحسنه، وفيما بين ذلك سقطات1 الرأي، وزلل القول؛ ولكلّ عالم هفوة ولكل صارم نبوة.

وفي بعض الكتب: انفرد الله تعالى بالكمال، ولم يبرأ أحد من النّقصان.

وقيل للعتّابي: هل تعلم أحدا لا عيب فيه؟ قال: إنّ الذي لا عيب فيه لا يموت أبدا، ولا سبيل إلى السّلامة من ألسنة العامّة.

وقال العتّابي: من قرض شعرا أو وضع كتابا فقد استهدف للخصوم واستشرف للألسن، إلا عند من نظر فيه بعين العدل، وحكم بغير الهوى، وقليل ما هم.

وحذفت الأسانيد من أكثر الأخبار طلبا للاستخفاف والإيجاز، وهربا من التثقيل والتّطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتّصاله، ولا يضرّها ما حذف منها. وقد كان بعضهم يحذف أسانيد الحديث من سنّة متّبعة، وشريعة مفروضة؛ فكيف لا نحذفه من نادرة شاردة، ومثل سائر، وخبر مستطرف.

سأل حفص بن غياث الأعمش عن إسناد حديث. فأخذ بحلقه وأسنده إلى حائط وقال: هذا إسناد.

وحدّث ابن السّمّاك بحديث، فقيل له: ما إسناده؟ فقال: هو من المرسلات عرفا.

وحدّث الحسن البصريّ بحديث، فقيل له: يا أبا سعيد، عمّن؟ قال: وما تصنع بعمّن يا بن أخي؟ أمّا أنت فنالتك موعظته، وقامت عليك حجّته.

وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة فوجدتها غير متصرّفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار؛ فجعلت هذا الكتاب كافيا جامعا لأكثر المعاني التي تجري على أفواه العامّة والخاصّة. وتدور على ألسنة الملوك والسّوقة. وحلّيت كلّ كتاب منها بشواهد من الشّعر، تجانس الاخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها؛ وقرنت بها غرائب من شعري، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته لما فيه من 2 و بلدنا على انقطاعه حظا من المنظم والمنشور . وسميته کتاب و العقد الفريد ، مختلف جواهر الكلام ، مع و السلك وحسن النظام و جرأته على خمسة وعشرين كتابا كل كتاب منها جز آن ، فتاك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا ، قد انفرد كل كتاب منها بأسم جوهرة من جواهر العقد . فأولها كتاب اللؤلؤة في السلطان . ثم كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها . ثم كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد . ثم كتاب الجمانة في الوفود . ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك . ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب . ثم كتاب الجوهرة في الأمثال . ثم كتاب الزمردة في المواعظ والزهد . ثم كتاب الدرة في التعازی والمراثي . ثم كتاب اليتيمة في النسب و فضائل العرب . ثم كتاب العسجدة في كلام الأعراب ، ثم كتاب المجية في الأجوبة . ثم كتاب الواسطة في الخطب . ثم كتاب المجتبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة . ثم كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم ، ثم كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة . ثم كتاب الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم . ثم كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر ومقاطعه و مخارجه . ثم كتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي . ثم كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان و اختلاف الناس فيه . ثم كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن . ثم كتاب الجماعة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين . ثم كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان . ثم كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب . ثم کتاب اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا والفكاهات والملح . و۱


  1. في بعض الأصول «سقطة» وفي سائرها «سقط»