العثمانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
كتاب
العثمانية
  ► ◄  


بسم الله الرحمن الرحيم

عونك اللهم

ثم إنا مخبرون عن مقالة العثمانية، وبالله نستهدي وإياه نستعين، وعليه نتوكل، وما توفيقنا إلا به.

رووا أن أفضل هذه الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة، وكان أول ما دلهم عند أنفسهم على فضيلته وخاصة منزلته، وشدة استحقاقه، إسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد من عالمه وفي عصره. وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما، فقال قوم: أبو بكر بن أبي قحافة، وقال آخرون: زيد بن حارثة، وقال نفر: خباب بن الأرت.

على أنه إذا تفقدنا أخبارهم، وأحصينا أحاديثهم وعدد رجالهم، و [نظرنا في] صحة أسانيدهم. كان الخبر في تقديم أبي بكر أعم، ورجاله أكثر، وإسناده أصح، وهم بذلك أشهر، واللفظ به أظهر، مع الأشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله وبعد وفاته. وليس بين الأشعار وبين الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ، ولكنا ندع هذا المذهب [جانبا]، ونضرب عنه صفحا، اقتدارا على الحجة، وثقة بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى منازل أبي بكر، وننزل على حكم الخصم مع سرفه وميطه فنقول:

لما وجدنا من يزعم أن خبابا وزيدا أسلما قبله، فأوسط الأمور وأعدلها وأقربها من محبة الجميع ورضا المجادل أن نجعل إسلامهم كان معا، إذ ادعوا أن الأخبار في ذلك متكافئة، والآثار متدافعة، [وليس في الأشعار دلالة، ولا في الأمثال حجة]، ولم يجدوا إحدى القضيتين أولى في حجة العقل من الأخرى.

فصل: وقالوا: فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا عليا في هذه الطبقة وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟

قلنا: لأنا قد علمنا بالوجه الصحيح والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير وغلام صغير، فلم نكذب الناقلين، ولم نستطع أن ننزل أن إسلامه كان لاحقا بإسلام البالغين، لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين، والقياس أن يؤخذ بأوسط الروايتين، وبالأمر بين الامرين، وإنما تعرف [حق] ذلك من باطله بأن تحصى سنيه التي ولي فيها، وسني عثمان وسني عمر وسني أبي بكر، وسني الهجرة، ومقام النبي بمكة بعد أن دعا إلى الله وإلى رسالته إلى أن هاجر إلى المدينة، ثم تنظر في أقاويل الناس في عمره، وفي قول المقلل والمكثر، فتأخذ أوسطها وهو أعدلها، وتطرح قول المقصر والغالي، ثم تطرح ما حصل في يديك من أوسط ما روى من عمره [و] سنيه، وسني عثمان وسني عمر وسني أبي بكر، والهجرة ومقام النبي بمكة إلى وقت إسلامه، فإذا فعلت ذلك وجدت الأمر على ما قلنا وعلى ما فسرنا.

وهذه التأريخات والأعمار معروفة لا يستطيع أحد جهلها والخلاف عليها، لأن الذين نقلوا التاريخ لم يعتمدوا تفضيل بعض على بعض، وليس يمكن ذلك مع اختلاف عللهم وأسبابهم، فإذا ثبت عندك بالذي أوضحنا وشرحنا أنه كان يومئذ ابن سبع سنين أقل بسنة أو أكثر بسنة، علمت بذلك أنه لو كان أيضا ابن أكثر من ذلك بسنتين وثلاث وأربع لا يكون إسلامه إسلام المكلف العارف بفضيلة ما دخل فيه ونقصان ما خرج منه.

والتاريخ المجتمع عليه أن عليا قتل سنة أربعين في شهر رمضان.

وقالوا: فإن قالوا فلعله وهو ابن سبع سنين وثمان سنين قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حسه وانكشاف العواقب له وإن لم يكن جرب الأمور، ولا فاتح الرجال، ولا نازع الخصوم، ما يعرف جميع ما يجب على البالغ معرفته والإقرار به.

قلنا: إنما نتكلم على ظاهر الأحكام وما شاهدنا عليه طباع الأطفال. وجدنا حكم ابن سبع سنين، وثمان سنين وتسع سنين، حيث قرأناه وبلغنا خبره - ما لم يعلم مغيب أمره، وخاصة طباعه - حكم الأطفال، وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه والذي نعرف من شكله بلعل وعسى، لأنا كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله أن يكون ذا نقص فيها. أجاب منهم بهذا الجواب من يجوز أن يكون علي في المغيب قد أسلم إسلام البالغ المختار، غير أن الحكم فيه عنده على مجرى أمثاله وأشكاله الذين إذا أسلموا وهم في مثل سنه كان إسلامهم على تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة السائس.

فصل: فأما علماء العثمانية ومتكلموهم، وأهل القدم والرياسة منهم، فإنهم قالوا: إن عليا لو كان وهو ابن ست سنين وسبع سنين، وثمان سنين وتسع سنين، يعرف فصل ما بين الأنبياء والكهنة، وفرق ما بين الرسل والسحرة، وفرق ما بين خبر المنجم والنبي، وحتى يعرف الحجة من الحيلة، وقهر الغلبة من قهر المعرفة، ويعرف كيد المريب وبعد غور المتنبي، وكيف يلبس على العقلاء، ويستميل عقول الدهماء، ويعرف الممكن في الطبائع من الممتنع فيها، وما يحدث بالاتفاق وما يحدث بالأسباب، ويعرف أقدار القوى في مبلغ الحيلة ومنتهى البطش، وما لا يحتمل إحداثه إلا الخالق، وما يجوز على الله مما لا يجوز في توحيده وعدله، وكيف التحفظ من الهوى، وكيف الاحتراس من تقدم الخادع في الحيلة - كان كونه بهذه الحال وعلى هذه الصفة مع فرط الصبا والحداثة، وقلة التجارب والممارسة، خروجا من نشوء العادة، والمعروف مما عليه تركيب الأمة. ولو كان على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية، كان حجة على العامة، وآية تدل على المباينة، ولم يكن الله ليخصه بمثل هذه الآية وبمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها له، ويخبر بها عنه، ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد، وحجة على الغائب، ولا يضيعها هدرا، ولا يكتمها باطلا.

ولو أراد الاحتجاج بها شهر أمرها وكشف قناعها، وحمل النفوس على معرفتها، وسخر الألسنة لنقلها، والأسماع لإدراكها، لئلا يكون لغوا ساقطا، ونسيا منسيا، لأن الله لا يبتدع أعجوبة ولا يخترع آية ولا ينقض العادة إلا للتعريف والإعذار، والمصلحة والاستبصار. ولولا ذلك لم يكن لفعلها معنى، ولا لرسالته حجة. والله يتعالى أن يترك الأمور سدى، والتدبير نشرا. ولا يصل أحد إلى معرفة صدق نبي وكذب متنبئ حتى تجتمع له هذه المعارف التي ذكرنا، وهذه الأسباب التي فصلنا.

ولولا أن الله سبحانه خبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا، وأنه أنطق عيسى في المهد رضيعا، ما كانا في الحكم ولا في المغيب إلا كسائر الرسل، وما عليه طبع البشر.

فإذ لم ينطق لعلي بذلك قرآن. ولا جاء الخبر به مجئ الحجة القاطعة، والشهادة الصادقة، فالمعلوم عندنا في الحكم وفي المغيب جميعا أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه، وكطباع جعفر وعقيل أخويه، وكطباع أبويه ورجال عصره وسادة رهطه. ولو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعمه حمزة أو لعمه العباس - وهو حليم قريش - ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه.

فصل: ولو لم تعرف الروافض ومن ذهب مذهبها في هذا باطل هذه الدعوى، وفساد هذا المعنى إذا صدقت أنفسها ولم تقلد رجالها، وتحفظت من الهوى وآثرت التقوى، [إلا بترك] على ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه وأهل دهره، منذ نازع الرجال، وخاصم الأكفاء، وجامع أهل الشورى وولي وولي عليه، والناس بين معاند يحتاج إلى التقريع، ومرادّ يحتاج إلى الإرشاد، وولي يحتاج إلى المادة، وغفل يحتاج إلى أن يكثر له من الحجة، ويتابع له بين الأمارات والدلالات مع حاجة القرن الثاني إلى معرفة الحق ومعدن الامر، لأن الحجة إذا لم تصح لعلي في نفسه، ولم يقو على أهل دهره، فهي عن ولده أعجز، وعنهم أضعف.

ثم لم ينقل ناقل واحد أن عليا احتج بذلك في موقف، ولا ذكره في مجلس، ولا قام به خطيبا، ولا أدلى به واثقا، ولا همس به إلى موافق، ولا احتج به على مخالف.

فصل: وقد ذكر فضائله وفخر بقرابته وسابقته، وكاثر بمحاسنه ومواقفه، منذ جامع الشورى وناضلهم. إلى أن ابتلي بمساورة معاوية له، وطمعه فيه، وجلوس أكثر أصحاب رسول الله عن عونه، والشد على عضده، كما قال عامر الشعبي: لقد وقعت الفتنة وبالمدينة عشرون ألفا من أصحاب رسول الله ، ما خف فيها منهم عشرون، ومن زعم أنه شهد الجمل ممن شهد بدرا أكثر من أربعة فقد كذب، كان علي وعمار في شق وطلحة والزبير في شق.

وكيف يجوز عليه ترك الاحتجاج على المخالف وتشجيع الموافق وقد نصب نفسه للخاصة والعامة، وللخاذل والعادي، ومن لا يحل له في دينه ترك الإعذار إليهم، إذ كان يرى أن قتالهم كان واجبا، وقد نصبه الرسول مفزعا ومعلما، ونص عليه قائما، وجعله للناس إماما، وأوجب طاعته، وجعله حجة في الناس يقوم مقامه.

فصل: وأعجب من ذلك أنه لم يدع هذا له أحد في دهره كما لم يدعه لنفسه، مع عظيم ما قالوا فيه في عسكره وبعد وفاته، حتى يقول إنسان واحد إن الدليل على إمامته أن النبي دعاه إلى الإسلام، فكلف التصديق قبل بلوغه وإدراكه، ليكون ذلك آية له في عصره، وحجة له ولولده على من بعده. وقد كان علي أعلم بالأمور من أن يدع ذكر أكبر حججه والذي بان به من شكله، ويذكر أصغر حججه والذي يشاركه فيه غيره، وقد كان في عسكره من لا يألو في الإفراط، ومن يحسب أن الإفراط زيادة في القدر.

والعجب له، إن كان الأمر كما ذكرتم، كيف لم يقف يوم الجمل ويوم صفين أو يوم النهر في موقف يكون من عدوه بمرأى ومسمع، فيقول: "تبا لكم وتعسا، كيف تقاتلوني وتجحدون فضلي وقد خصصت بآية حتى كنت كيحيى بن زكريا وعيسى بن مريم" ولا يمتنع الناس من أن يقولوا ويموجوا، فإذا ماجوا تكلموا على أقدار عللهم، وعللهم مختلفة، ولا ينشب أمرهم أن يعود إلى فرقة، فمن ذاكر قد كان ناسيا، ومن نازع قد كان مصرا. وكم مترنح قد كان غالطا، مع ما كان يشيع من الحجة في الآفاق، ويستفيض في الأطراف، ويحتمله الركبان ويتهادى في المجالس.

فهذا كان أشد على طلحة والزبير، وعائشة ومعاوية، وعبد الله بن وهب، من مائة ألف سنان طرير، وسيف مشهور.

فصل: ومعلوم عند ذوي التجربة والعارفين بطبائع الأتباع وعلل الأجناد، أن العساكر تنتقض مرائرها وينتشر أمرها، وتنقلب على قادتها بأيسر من هذه الحجة، وأخفى من هذه الشهادة.

فصل: وقد علمتم ما صنعت المصاحف في طبائع أصحاب علي، حين رفعها عمرو بن العاص أشد ما كان أصحاب علي استبصارا في قتالهم، ثم لم ينتقض على علي من أصحابه إلا أهل الجد والنجدة، وأصحاب البرانس والبصيرة.

وكما علمتم من تحول شطر عسكر عبد الله بن وهب حين اعتزلوا مع فروة بن نوفل، لكلمة سمعوها من عبد الله بن وهب كانت تدل عندهم على ضعف الاستبصار والوهن في اليقين.

وهذا الباب أكثر من أن يحتاج مع ظهوره ومعرفة الناس به إلى أن نحشوا به كتابنا.

فصل: فأما إسلامه وهو حدث غرير وغلام صغير، فهذا ما لا ندفعه، غير أنه إسلام تلقين وتأديب وتربية. وبين إسلام التكليف والامتحان وبين التلقين والتربية فرق عظيم، ومحجة واضحة.

وقالت العثمانية: إن قالت الشيع: إن الأمور ليس كما حكيتم، ولا كما هيأتموه لأنفسكم، بل نزعم أنه قد كانت هناك في أيام صباه وحداثته فضيلة فطنة، ومزية ذكاء، ولم يبلغ الأمر قدر الأعجوبة والآية.

قلنا: إن الذي ذهبتم إليه أيضا لا بد فيه من أحد وجهين:

إما أن يكون قد كان لا يزال يوجد في الصبيان مثله في الفطنة والذكاء وإن كان ذلك عزيزا قليلا، أو كان وجود ذلك ممتنعا، ومن العادة خارجا. فإذا كان قد كان يوجد مثله على عزته وقلته فما كان إلا كبعض من نرى اليوم ممن يتعجب من حسه وفطنته، وحفظه وحكايته وسرعة قبوله على صغر سنه وقلة تجريبه. وإن كانت حاله هذه الحال، وطبيعته على هذا المثال، فإنا لم نجد صبيا قط وإن أفرط كيسه وحسنت فطنته وأعجب [به] أهله يحتمل ولاية الله سبحانه وعداوته، والتمييز بين الأمور التي ذكرنا. مع أنه ما جاءنا ولا صح عند أحد منا بخبر صادق، ولا كتاب ناطق، أنه كان لعلي خاصة دون قريش عامة في صباه من إتقان الأمور وصحة المعارف وجودة المخارج ما لم يكن لأحد من إخوته وأعمامه وآبائه.

وإن كان القدر الذي كان عليه على من الذكاء والمعرفة القدر الذي لم نجد له [فيه] مثلا، ولا رأينا له شكلا - وهذا هو البديع الذي به يحتج على المنكرين، ويفلج على المعارضين، ويبين للمسترشدين - فهذا باب قد فرغنا منه مرة.

فصل: ولو كان الأمر في علي على ما يقولون لكانت في ذلك حجة للرسول في رسالته، ولعلي في إمامته. والآية إذا كانت للرسول وخليفة الرسول كان أشهر لها، لأن وضوح أمر الرسول يزيد على ما للامام ويزيده إشراقا واستنارة وبيانا. ولا يجوز أن يكون الله قد عرف أهل عصرهما ذلك، وهم الشهداء على من بعدهم من القرون ثم يسقط حجته، فلا تخلو تلك الحجة وتلك الشهادة من ضربين: إما أن تكون ضاعت وضلت، وإما أن تكون قد قامت وظهرت.

فإن كانت قد ضاعت فلعل كثيرا من حجج الرسول قد ضاع معها، وما جعل الباقي منها أولى بالتمام من الساقط، والساقط من شكل الثابت. على أن مع الساقط خاصة ليست مع الثابت لأنه حجة على شيئين، والثابت حجة على شئ. ولا يخلو أمر الساقط من ضربين: إما أن يكون الله لم يرد تمامه، أو يكون قد أراده.

وأي ذين [كان] ففساده واضح عند قارئ الكتاب.

وإن كانت الآية قد تمت إذ كانت الشهادة قد قامت علينا بها كما كانت شهادة العيان قائمة عليهم [فيها] فليس في الأرض عثماني إلا وهو يكابر عقله ويجحد علمه.

ولعمري إنا لنجد في الصبيان من لو لقنته وسددته أو كتبت له أغمض المعاني وألطفها، وأغوص الحجج وأبعدها، وأكثرها لفظا وألطفها، وأطولها، ثم أخذته بدرسه وحفظه لحفظه حفظا عجيبا، ولهذه هذا ذليقا. فأما معرفته صحيحه من سقيمه، وحقه من باطله، وفصل ما بين المقرب والدليل، والاحتراس من حيث يؤتى المخدوعون، والتحفظ من مكر الخادعين، وتأتي المجرب، ورفق الساحر، وخلابة المتنبئ، وزجر الكاهن وإخبار المنجمين، وفرق ما بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه - فليس يعرف فروق النظر واختلاف البحث إلا من عرف القصيد من الزجر، والمخمس من الأسجاع، والمزاوج من المنثور، والخطب من الرسائل، وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه من العجز الذي هو صفة في الذات.

فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام، ثم لم يكتف بذلك حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله عن مثله، وأن حكم البشر حكم واحد في العجز الطبيعي وإن تفاوتوا في العجز العارض.

وهذا ما لا يوجد عند صبي ابن سبع سنين وثمان سنين وتسع سنين أبدا، عرف ذلك عارف أو جهله جاهل. ولا يجوز أن يعرف عارف معنى الرسالة إلا بعد الفراغ من هذه الوجوه، إلا أن يجعل جاعل التقليد والنشو والألف لما عليه الآباء وتعظيم الكبراء، معرفة ويقينا.

وليس بيقين ما اضطرب ودخله الخلاج عند ورود معاني لعل وعسى، وما لا يمكن في العقول إلا بحجة تخرج القلب إلى اليقين عن التجويز.

ولقد أعيانا أن نجد هذه المعرفة إلا في الخاص من الرجال وأهل الكمال في الأدب، فكيف بالطفل الصغير والحدث الغرير؟ مع أنك لو أدرت معاني بعض ما وصفت لك على أذكى صبي في الأرض وأسرعه قبولا وأحسنه حكاية وبيانا، وقد سويته [له] ودللته، وقربته [منه] وكفيته مؤونة الروية ووحشة الفكرة. لم يعرف قدره ولا فصل بين حقه من باطله، ولا فرق بين الدلالة وشبيه الدلالة، فكيف له بأن يكون هو المتولي لتجربته وحل عقده، وتخليص متشابهه، واستثارته من معدنه؟

وكل كلام خرج من التعارف فهو رجيع بهرج، ولغو ساقط.

فصل: وقد نجد الصبي الذكي يعرف من العروض وجها، ومن النحو صدرا، ومن الفرائض أبوابا، ومن الغناء أصواتا. فأما العلم بأصول الأديان ومخارج الملل، وتأويل الدين، والتحفظ من البدع، وقبل ذلك الكلام في حجج العقول، والتعديل والتجوير، والعلم بالأخبار وتقدير الاشكال فليس هذا موجودا إلا عند العلماء. فأما الحشوة والطغام فإنما هم أداة للقادة، وجوارح للسادة. وإنما يعرف شدة الكلام في أصول الأديان من قد صلى به وعجمه، وسلك في مضايقه، وجاثى الأضداد، ونازع الأكفاء.

فإن قالت الشيع: الدليل على أن إسلام علي كان اختيارا ولم يكن تلقينا، أن عليا أسلم بدعاء النبي له، وفي ذكر الدعاء والإقرار به دليل على أن الإجابة اختيار، لأن المسلم بالدعاء مجيب للدعاء. ولا نعلم الدعاء يكون من حكيم لمدعو لا يختار ولا تحتمل فطرته تمييز الأمور وفضل ما بين ما دعا إليه وبين ما دعا إليه غيره. وليس بين قول القائل: دعا النبي فلانا إلا الإسلام وبين قوله: كلف النبي فلانا الإسلام فرق. وقول المسلمين: دعا النبي عليا كقولهم: دعا جميع العرب فمن مجيب طائع كعلي، ومن ممتنع عاص كفلان وفلان.

قالت العثمانية عند ذلك: قد عرفنا أن بعضهم قد نقل أن عليا كان أول من أسلم، وقد نقلوا بأجمعهم أنه كان أول من أسلم. وبين قول القائل أسلم فلان أول الناس وبين أن يقول أسلم في أوائل الناس فرق. فأما أن يكون واحد من جميع الصنفين من البعض والجميع فسر مع روايته ومخرج خبره كيف كان إسلامه، أعلى وجه الدعاء والتكليف أم على وجه التلقين والتربية، فلم نر أحدا منهم ميز ذلك ولا فرقه في مخرج الخبر. ونحن لم ندع أن إسلامه كان إسلام تلقين من قبل تفسير الناقلين وتمييز المحدثين، ولكنا نظرنا في التاريخ فعرفنا عمره وابن كم كان يوم توفي، وعرفنا موضع اختلافهم واجتماعهم، فأخذنا أوسطه إذ كان أعدل ما فيه، وأسقطنا قول من كثر وقلل، ثم ألقينا منه سنيه إلى عام إسلامه، فوجدنا ذلك يوجب أنه كان ابن سبع. ولو أخذنا أيضا بقول المكثر فجعلناه ابن تسع، وتركنا قول من قلل وقول المقتصد، علمنا بذلك أيضا أن إسلامه كان إسلام تربية وتأديب وتلقين، كما أخذ الله على المسلمين أن يأخذوا به أولادهم.

وقالت العثمانية للعلوية: إنا لم ندع أنه أسلم وهو ابن سبع فإنا وجدنا ذلك قائما في خبرهم مفسرا في شهادتهم، ولكنه علم مستنبط من أخبارهم، ومستخرج من آثارهم عند المقابلة والموازنة. ومثل ذلك لو أن رجلا قال لرجل: خذ عشرة في عشرة، كان ذلك في المعنى كقوله: "خذ مائة" وإن لم يكن سماها له ولا ذكرها بلسانه.

وقالوا: ولولا أن من شأننا الأخذ بالقسط والحكم بالعدل لأخذنا الشيع بقولهم في عمره وبقول ولده، فإن أحدهما يزعم أن عليا توفي وهو ابن سبع وخمسين. وقال الآخرون: بل توفي وهو ابن ثمان وخمسين. ولو كان كما تقول الرافضة وولده ما كان أسلم إلا وهو ابن خمس أو ابن ست. وهم لا يألون ما نقصوا من عمره وصغروا من سنه لكي يجعلوا إسلامه آية له وحجة على إمامته.

ولعمري لو كان الذين نقلوا أنه كان أول من أسلم نقلوا مع خبرهم أنه أسلم بالدعاء والتكليف، لقد كان ما ذهبتهم إليه مذهبا، وما اعتصمتم به متعلقا، ولكن ما في الأرض كلها حامل خبر ولا صاحب أثر كان في خبره أنه أسلم بدعاء، ولا أنه أسلم بتلقين، وإنما هذا مستخرج من الأخبار.

فإن قالت الروافض: بل الدليل على أن إسلامه كان طاعة ولم يكن تلقينا قول جميع الأمة إن عليا كان من أول من أسلم، فنفس قولهم أسلم هو كقولهم أطاع واختار، وكذلك قولهم إذا قالوا: كفر فلان، فهو كقولهم: عصا واختار، وإن لم يفسروا. وليس بين قولهم أسلم فلان وكفر فلان فرق، لأن المخبر الصادق إذا قال كفر فلان فحكمه عند السامع العداوة والبراءة. ولو قال أسلم فلان كان حكمه المحبة والولاية: فإذا كانوا كلهم قد قالوا: أسلم علي، وحكم "أسلم" يثبت الاختيار وإجابة الولاية، قبل أن يجمعوا على أنه كان على التلقين والتربية. فعلي على هذا القياس مطيع في إسلامه، مختار له على غيره. وكذلك لو قالوا: كفر فلان، كان حكمه حكم العاصي المختار حتى يجمعوا أن كفره كان عن إكراه أو غلط أو هيج مرة، أو هجر النائم أو تلقين المؤدب. فلما كان هذا قياسا موجبا صحيحا، لم يكن لأحد أن يجعل إسلام علي إسلام تلقين إلا بمثل الحجة التي جعله بها مسلما، لأنهم قد أطبقوا بأجمعهم على إسلامه واختلفوا في السنة. فيجب ألا نزيل حكم أسلم إلا بإجماع منهم أنه كان عن تلقين وتربية.

قلنا لهم: لعمري لو لم يكن ها هنا إجماع يخبر أن إسلامه كان إسلام تلقين ونشو، كان حكم قولهم أسلم علي على ما قلتم، لا تجحدون حكمه ولا تظلمون معناكم فيه، ولكن الذين قالوا إنه توفي وهو ابن كذا وكذا فأخذنا بأوسطها نقصوا من سنيه فإذا هو قد أسلم وهو ابن سبع سنين. ولو أخذنا بقول المكثر وبخسنا القياس حظه كان أيضا إسلامه وهو ابن تسع سنين إسلام تلقين. فبهم عرفنا تقدمه في الإسلام، وبهم عرفنا صغر سنه وحداثته، إذ كان الصبي إذا كان ابن خمس سنين إلى عشر سنين لا يستتاب إن كفر، ولا يلام إن جهل، ولا يعذب إن ضيع. فإذا كانوا بأجمعهم قد قالوا إنه أسلم وهو ابن خمس أو ست أو ثمان أو سبع، فقد قالوا بأجمعهم إنه أسلم إسلام تلقين وإن لم يقولوا بأفواههم، كما قلتم إن قول القائل كفر فلان وأسلم فلان - وإن لم يذكره - [حكم] بالطاعة والمعصية.

قلنا: فكذلك إذا قال رجل أسلم فلان وهو ابن سبع سنين أو ثمان أو تسع، فقد قال إن إسلامه كان إسلام تلقين وإن لم يذكره ولم يتفوه به كما قلتم، حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل. فإذا ثبت أن إسلام علي إسلام تلقين في ذلك الدهر، فإسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه. ولو أن عليا كان أيضا بالغا كان إسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه، لأن إسلام المقتضب الذي لم يغذ به ولم يعوده ولم يمرن عليه أفضل من إسلام الناشئ الذي قد ربي فيه ونشأ عليه وحبب إليه، لأن خبابا وزيدا يعانيان من الفكر ويتخلصان إلى أمور، وصاحب التربية يبلغ حين يبلغ وقد أسقط إلفه عنه مؤونة الروية، والخطار بالجهالة، وقد أورثه الألف السكون، وكفاه اختلاج الشك واضطراب النفس وجولان القلب.

فصل: ولو كان علي أيضا بالغا وكان مقتضبا كزيد وخباب لم يكن إسلامه ليبلغ قدر إسلامهما، لأن إسلام التربية يكفي مؤونتين: إحداهما الخطار والتغرير، والأخرى شدة فراق الألف ومكابدة العادة ونزاع الطبيعة، مع أن من كان بحضرة الأعلام وفي منزل الوحي وفي رحال الرسل فالأعلام له أشد انكشافا، والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا. وعلى قدر الكلفة في دفع الشبهة والإقرار بخلاف الألف والعادة، والمخاطرة باعتقاد الجهالة، يعظم الفضل، ويكثر الأجر.

ولو كان أيضا علي أسلم بالغا مدركا، وكان مع إدراكه وبلوغه كهلا، وكان مع كهولته مقتضبا، كان إسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه، لأن من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب، وردءا كبني هاشم، وموضعا في بني عبد المطلب، ليس كالحليف ولا المولى، والنزيل والتابع والعسيف، وكالرجل من عرض قريش وقاطني مكة. [أ] وما علمت أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي ما كان أبو طالب حيا قائما؟ ولقد منع أبو طالب أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي لأنه كان ابن أخته، فما قدرت بنو مخزوم مع خيلائها وعرام شبابها ومع عزها وشدة عداوتها أن تحص منه شعرة ولا تسمعه كلمة حتى مشت إليه بأجمعها، للذي ترى له في أنفسها، فكان من قولهم له: هذا ابن أخيك قد فرق جماعتنا وسفه أحلامنا وشتم آلهتنا وقد منعته منا، فما بال صاحبنا؟ قال: من لم يمنع ابن أخته لم يمنع ابن أخيه!

فإذا كانت قريش وأهل مكة لا يقدرون على ابن أخيه وابن أخته معه فهم عن ابنه أعجز، وعنه أقعد، وله أعفى، وهو لابنه أحضر نصرا وأشد غضبا، وأحمى أنفا، وليس الممنوع كالمخذول، ولا الضعيف كالقوي، ولا الآمن كالخائف. فإذا كان إسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه في ذلك الدهر كما عددنا من الطبقات، ورتبنا من المنازل، ونزلنا من الحالات، فإسلام أبي بكر أفضل من إسلامهما. فقد سقطت المنازعة، وارتفعت الخصومة عند من فهم كتابنا ولم يمنع نفسه الحظ بصحبتنا، لفرط التباين وعظم الفرق.

فصل: والدليل على أن إسلام أبي بكر كان أفضل من إسلام زيد وخباب أن زيدا كان رجلا غير مذكور بعلم، ولا مزن بمالـ ولا مغشى المجلس، ولا مزور الرحل، وكذلك كان خباب، وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلم العرب بالعرب كلهم، وأرواها لمناقبها ومثالبها، وأعرفها بخيرها وشرها، ولذلك قال النبي لحسان مع سن حسان وعلمه وتحاكم الشعراء إليه، حيث أمره النبي عليه السلام أن يهجو أبا سفيان بن الحارث، وحيث قال له: "اهجهم ومعك روح القدس". وحيث قال له: هيج الغطاريف على بني عبد مناف - في قتل أبي أزيهر - والقَ أبا بكر فإنه أعلم الناس بهم.

فصل: ولذلك كان جبير بن مطعم أعلم قريش بالعرب بعد أبي بكر، لأنه كان المتولي لتأديبه وتثقيفه، وقد كان أبو بكر قد سمى عائشة له، للذي رأى من حسن أثره عليه.

وكان أبو بكر، مع علمه بالناس وحسن معرفته، ذا مال كثير ووجه عريض، وتجارة واسعة، وكان جميلا عتيقا، ومزورا مغشيا، ومحببا أديبا، صاحب ضيافات، ويعين في الحمالات، ويجتمع إلى مجلسه كبراء أهل مكة، لما يجدون عنده من طريف الحديث وغريب الشعر، حتى كان مثل عتبة وشيبة يجلسان إليه، ويعجبان بحديثه، ثم يتخذ لهم ما يتحدثون عليه ويطول مجلسهم به، من شراب العسل والزبيب واللبن، فكانت قريش بعد إسلام أبي بكر وكثرة مستجيبيه بمكة تريد تنفير عتبة بن ربيعة من مجلسه وإيحاشه منه، مخافة أن يستميله بحسن دعائه، وتأتيه ورفقه، ورقة دموعه وشدة خشوعه، فتقول له: أما إنك ما تأتي ابن أبي قحافة إلا لطيب عسله وإلا لمذقته، وإنما نفروه بهذا وشبهه لأنه كان ذا عيال مملقا ثقيل المؤونة، خفيف ذات اليد، مع سنه وسؤدده وحلمه ورأيه.

ولا سواء إسلام ذي اليسر والمال الدثر، المنفق حريرة كسبه وعقيلة ملكه، والمفرق عنه جمعه والموحش منه أنيسه، الخارج من عز الغنى وكثرة الصديق، إلى ذل القلة وعجز الفاقة، وإسلام من لا حراك به ولا جدا عنده، تابع غير متبوع، ومستجد غير مجد. لأن من أشد ما يبتلى به الكريم السب بعد التحية، والضرب بعد الهيبة، والعسر بعد اليسر.

ولا سواء إسلام العالم الأديب الأريب، ذي الرأي السديد، وإسلام غيره.

ثم كان داعية من دعاة الرسول مقبول القول، متبوع الرأي. ومن كان في صفة أبي بكر فالخوف عليه أشد، والمكروه إليه أسرع، لأنه لم يكن على ظهرها عدو النبي إلا وأبو بكر يتلوه عنده في العداوة.

ولا سواء إسلام من أسلم على أن يمون ويكلف، وإسلام من كان يمان قبل إسلامه ويكلف بعد إسلامه.

ولا سواء إسلام الكهل النبيه الذي يحسن عند قريش مطالبته، ولا يستحي من طلب الثأر عنده، وإسلام الحدث الذي لا يفي بعداوة الجلة، ولا تستجيز مجازاته العلية.

ثم كان الذي يلقى أبو بكر في الله ورسوله ببطن مكة، وعلي خلي الروع آمن السرب رخي البال، كما لقي يوم دعا طلحة إلى الإسلام فأسلم ومضى به إلى النبي وخذلتهما تيم، وأخذهما نوفل بن خويلد بن أسد - فأما ابن إسحاق فزعم أنه كان من شياطين قريش، وأما الواقدي وغيره فزعموا أنه كان يلقب أسد قريش، وهو الذي يقال له ابن العدوية - فقرنهما في حبل، وفتنهما على دينهما وعذبهما، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة "القرينين".

وأبو بكر الذي قام دون النبي بمكة وقد اعتوره المشركون حين قال: "أما والله لقد جئتكم بالذبح!" قال أبو بكر ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله! فصدعوا فودى رأسه.

ثم الذي لقي في مسجده الذي كان بناه على بابه في بني جمح، وحيث رد الجوار وقال: لا أريد جارا سوى الله. وقد كان بنى مسجدا يصلي فيه ويدعو الناس إلى الإسلام، وله صوت رقيق ووجه عتيق، فكان إذا قرأ وبكى، وقعت عليه المارة والنساء والصبيان والعبيد، فلما أوذي في الله حتى بلغ جهده استأذن النبي في الهجرة، فأذن له، فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني سيد الأحابيش، فعقد له جوارا وقال: والله لا أدع مثلك يخرج من بين أخشبي مكة. فرجع وقد عقد له الكناني جوارا. كل ذلك رغبة في قرب النبي ، فلما رجع إلى مكة عاد إلى مسجده وصنيعه. فمشت قريش إلى جاره وعظموا الأمر عنده وأجلبوا عليه فقالوا: قد أفسد أحداثنا، وعبيدنا وإماءنا ونساءنا، في منازلنا! فمشى إليه الكناني وقال: ليس على هذا أعطيتك الجوار، ادخل بيتك واصنع فيه ما بدا لك! قال له أبو بكر: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ فلما قطع الجوار وترادا العهد وتباريا لقي أبو بكر رضي الله عنه من الأذى والذل والضرب والاستخفاف ما بلغك. وهو أمر موجود في جميع السير. وليس المفتون كالوادع. قال الله سبحانه: {والفتنة أشد من القتل}. وذلك أن المشركين كانوا قد صاروا إلى أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتعذيب، والمسلمون نفر يسير، قد خذلتهم عشائرهم، وأسلمتهم أهلوهم. فألقوا خبابا على الرضف، حتى ذهب ماء متنه. وكان أبو ذر حليفا مستضعفا فكان يدخل بالنهار في خلال أستار الكعبة ويخرج بالليل مستخفيا. وكانت بنو مخزوم تعذب عمارا وأباه وأمه برمضاء مكة، فيمر بهم النبي فيقول: "صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة!" فذكر عمار عند ذلك عياذ أبي بكر لبلال حين أعتقه من العذاب فيمن أعتق، فقال:

جزى الله خيرا عن بلال ودينه * عتيقا وأخزى فاكها وأبا جهل

وقال سعيد بن جبير: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويعطشونه حتى لا يقدر أن يستوى جالسا من الجهد، حتى إن كان أحدهم ليعطيهم الذي سألوه، من الفتنة، وحتى يقال له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، وحتى إن الجعل ليمر بهم فيقال له: هذا إلهك؟ فيقول: نعم.

فلو كان علي بن أبي طالب قد ساوى أبا بكر في الإسلام لقد كان فضله أبو بكر بأن أعتق من المفدين المفتونين بمكة، وحتى [لو] لم يكن غير ذلك لكان لحاقه عسيرا، ولو كان ذلك يوما واحدا لكان عظيما، فكيف وكان بين ظهور النبي عليه السلام ودعائه إلى أن هاجر إلى المدينة ثلاث عشرة سنة، في كل ذلك أبو بكر وخباب وأصحاب النبي يتجرعون المرار وعلي وادع رافه، غير طالب ولا مطلوب. وليس أنه لم يكن في طباعه النجدة والشهامة، وفي غريزته الدفع والحماية، ومن أكرم عنصر وأطيب مغرس، ولكن لم تكن تمت له أداته، ولم تستجمع له قواه ولم تتكامل آدابه، لأن العقل وإن اشتد مغرزه وثبتت أواخيه وجاد نحته فإنه لا يبلغ بنفسه درك الغاية، دون كثرة السماع والتجربة، ولأن رجال الطلب وأصحاب الثأر وأهل السن والقدر يغمطون ذا الحداثة، ويزرون على [ذي] الصبا والغرارة إلى أن يلحق بالرجال يصير من الأكفاء. حتى كان آخر ما لقي هو وأهله في أمر الغار، وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير كما جعلت في النبي ، فلقي أبو جهل أسماء بنت أبي بكر - وهي ذات النطاقين - منصرفها من الغار، فسألها فكتمته فلطمها، فقالت أسماء: لقد لطمني لطمة أندر منها قرطا كان في أذني.

فصل: ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام وحسن احتجاجه حتى أسلم على يديه طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وعثمان، لأنه ساعة ما أسلم دعا إلى الله ورسوله. وكان مألفا، لأدبه وعلمه ورحب عطنه.

وقالت أسماء: "ما عرفت أبي إلا وهو يدين بالدين، ولقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام فما رمنا حتى أسلمنا وأسلم أكثر جلسائه"، ولذلك قالوا: لمن أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف. ولم يذهبوا من قولهم إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر، لأن من أسلم على يده خمسة من الشورى، كلهم يفي بالخلافة، وهم أكفاء علي ومنازعوه الرياسة والإمامة. فقد أسلم على يده أكثر ممن أسلم بالسيف، لأن هؤلاء أكثر من جميع الناس.

فصل: وممن أسلم على يده بلال، وهو الذي يقول فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "بلال سيدنا ومولى سيدنا". ورووا أنه قال: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا". وقال النبي : "بلال سابق الحبش". وبلال مولى أبي بكر ثلاث مرات، أسلم على يده فأعتقه من رق الكفر، وأعتقه من رق العذاب حيث كان يفتن في الله ورسوله، وأعتقه من رق العبودية.

وكان من قصة بلال أنه كان عبدا لبني جمح، وكانت دار أبي بكر ومسجده في حي جمح، ولم يكن ببطن مكة مسجد سواه، فلما سمع دعاء أبي بكر أسلم وحده، فلما سمع أمية بن خلف فكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يضع صخرة على صدره، ثم يحلف بإلهه لا ينزعها عن صدره أو يكفر بمحمد وإلهه ويؤمن باللات والعزى! وبلال يأبى وهو يقول: أحد أحد! وكان يمر به ورقة بن نوفل فيقول: نعم يا بلال، أحد أحد! فمر به أبو بكر وهو يريد داره في بني جمح. فرأى أمية وما يصنع بلال، فقال: ألا تتقي الله؟ إلى متى تعذب هذا المسكين؟ قال: أنت أفسدته! يعني أنت دعوته حتى أسلم - فأنقذه! قال أبو بكر: عندي غلام أسود جلد، على دينك، أعطيكه وآخذه. فأعتقه، فهو عتيقه ثلاث مرات.

ثم أعتق بعد ذلك من المعذبين في الله ست رقاب. منهم عامر بن فهيرة، شهد بدرا وهاجر مع رسول الله عليه السلام وأبي بكر. لأنه كان في موضع الثقة. حيث خرجا إلى الغار هاربين من المشركين متوجهين إلى المدينة. واستشهد يوم بئر معونة.

وأعتق زنيرة ثلاث مرات. فلما اشتراها وأعتقها ذهب بصرها، وكانت تعذب في الله فيمن يعذب بمكة، فقال المشركون: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى! قالت: كذبوا ما يضران ولا ينفعان! فرد الله عليها بصرها. فزعم الزهري أن موليين لابن الغيطلة أسلما حين رد الله عليها بصرها. وقالا: هذا بلا شك من إله محمد وابن أبي قحافة!

ثم أعتق النهدية وابنتها وقد كانتا تعذبان في الله، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار. ومر بهما أبو بكر وقد بعثت العبدرية معهما بطحين وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا. قال أبو بكر: حلا يا أم فلان؟ قالت: حلا! أنت أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكأين هما يا أم فلان؟ قالت: بكذا وكذا. قال: فقد أخذتهما، وهما حرتان. أرجعا إليها طحينها. قالت: أونفرغ منه يا أبا بكر؟ قال: وذاك إن شئتما.

ومر بجارية بني مؤمل - حي من بني عدي بن كعب - وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يضربها، فإذا مل قال: أعتذر إليك إني لم أتركك إلا ملالة! فابتاعها فأعتقها.

وأعتق أم عبيس.

فقال له أبو قحافة: أي بني، أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا منعوك وقاموا دونك؟ قال: يا أبت إنما أعتق المعذبين! فأنزل الله: {أما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى} إلى قوله: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى}. فتفهم معنى قوله: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى} وتفهم معنى قوله: {ولسوف يرضى}.

وقد سمعت قول الله سبحانه حيث خاطب جماعة المسلمين وذكر الأموال وعظم قدرها في عيونهم، وشدة إخراجها عليهم، وأنه لو كلفهم ذلك لأخرجهم ثقل التكليف إلى غاية البخل بها والشح عليها والإيثار لحبسها، فقال: {لا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم، إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} ثم قال: {ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم}. فتفهم معنى هذا الكلام وأن الله لم ينزله عبثا. ثم قال: {هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء} ألا تراه خاطب جميع المسلمين فقال: {ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أصغانكم}.

ثم قد علمتم ما قد صنع أبو بكر بماله، وكان المال أربعين ألفا، فأنفقه على نوائب الإسلام وحقوقه، ولم يكن ماله ميراثا لم يكد فيه فهو غزير لا يشعر بعسر اجتماعه وامتناع رجوعه، ولا كان هبة ملك فيكون أسمح لطبيعته وأخرق في إنفاقه، بل كان ثمرة كده وكسب جولانه وتعرضه. ثم لم يكن خفيف الظهر قليل النسل قليل العيال، فيكون قد جمع اليسارين، [لأن المثل الصحيح السائر: قلة العيال أحد اليسارين!] بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وأحشام، يعول مع ذلك أبويه وما ولدا، ولم يكن فتى حدثا فتهزه أريحية الشباب وغرارة الحداثة. ولم يكن بحذاء إنفاقه طمع يدعوه، ولا رغبة تحدوه، ولم يكن للنبي قبل ذلك عنده يد مشهورة فيخاف العار في ترك مواساته وإنفاقه عليه، ولا كان من رهطه دنيا فيسب بترك مكانفته ومعاونته وإرفاقه. فكان [إنفاقه] على الوجه الذي لا نجد أبلغ في غاية الفضل منه، ولا أدل على غاية الصدق والبصيرة منه.

وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي عليه السلام ببطن مكة من المشركين، وقد تعلمون حسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه، فبلغ في هامته، في نصرة النبي ، وأبو جهل يومئذ أمنع البطحاء، وهو رأس الكفر.

ثم صنيع عمر حيث يقول يوم أسلم: "والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم!" حتى قال بعد موته عبد الله بن مسعود: "ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر".

ثم كان الذي لقي في ذلك اليوم بعينه من المشركين، ثم مضيه من فوره حتى يقرع على أبي جهل الباب، فلما حس به أبو جهل خرج إليه وهو يقول: مرحبا بابن أختنا - وكانت أمه حنتمة بنت هاشم ذي الرمحين ابن المغيرة - قال: أتدري ما صرت بعدك يا أبا الحكم! قال: خير، فليكن. قال: إنه خير، إني آمنت بالله وبرسوله وخلعت الأنداد، وجعلت اللات والعزى، وصدقت محمدا. قال: فلا قرب الله قرابتك!

ألا ترى إلى قوة شهامته وجلده، وصدق نيته في كشف القناع، والمبادأة لرأس الكفر وسيد البطحاء عند نفسه ورهطه.

وقوله بعد ذلك لجميع المشركين: أما والله لو قد صرنا مائة لتركتموها لنا أو تركناها لكم - يعني مكة.

ثم صنيع [الزبير] في سله السيف شادا به مستقبل المشركين، يريد خبط من لقيه منهم. فتلقاه النبي مقبلا فقال: ما لك يا زبير؟ قال: بأبي أنت وأمي، سمعت قائلا يقول: قد أخذ محمد وأوذي! فكان أول من شهر سيفا في الإسلام.

ثم صنيع سعد وضربه عظيما من عظمائهم على أم رأسه بلحي بعير، فكان أول من أراق دما في الإسلام. وهو الذي يقول لرسل علي حين أتوه يدعونه إلى بيعته: ثكلتني أمي، لئن كنت مع رسول الله سادس ستة ما لنا طعام إلا ورق البشام. ثم جاءني أعراب الأوس تعلمني دين الله؟

وإنما ذكرت لك هذا لتعلم أقدار القوم والذي لقوا من الجهد والخوف والذل والتطراد والضرب. ولم نسمع لعلي في جميع ذلك ذكرا.

ولم يكن ذلك المكروه سنة ولا سنتين، ولكن ثلاث عشرة سنة، وهذا أمر لا يلحق ولا يدرك الفائت منه. كما قال الله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى}.

فإذا كان من أنفق وقاتل قبل الفتح أعظم درجة، لأن النبي قال: "لا هجرة بعد الفتح" فما ظنك بمن قاتل وأنفق قبل الهجرة، ومن لدن مبعث النبي إلى الهجرة أعظم من القيام بأمر الإسلام بعد الهجرة [و] أفضل من القيام بأمر الإسلام بعد الفتح.

فإن قالوا: قد عرفنا أن أبا بكر قد أنفق قبل الهجرة ولا نعرفه قاتل قبل الهجرة. فقتال علي بعد الهجرة أفضل من إنفاق أبي بكر قبل الهجرة.

قلنا: إن أبا بكر وإن لم يقاتل قبل الهجرة فقد قتل مرارا وإن لم يمت قبل الهجرة. ولأنه لو جمع جميع المكروه الذي لقي أبو بكر ثلاث عشرة سنة لكان أكثر من عشرين قتلة.

ولو كان في ذلك الزمان القتال ممكنا والوثوب مطمعا لقاتل أبو بكر ونهض كما نهض في الردة. وإنما قاتل علي في الزمان الذي [قد] أقرن [فيه] أهل الإسلام لأهل الشرك، فطمعوا أن تكون الحرب سجالا، وقد أعلمهم الله أن العاقبة للمتقين، وأبو بكر مفتون مفرد [ومطرود مشرد، ومضروب معذب] في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة، ولذلك قال أبو بكر بعد أن استفاض الإسلام وضرب بجرانه وظهر أمره: "طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام" يقول: في أيام ضعفه وقلته، حيث كانت الطاعة أعظم، لفرط الاحتمال، والبلاء أغلظ، لشدة الجهد، لأن الاحتمال كلما كان أشد وأدوم كانت الطاعة أفضل، والعزم فيه أقوى.

ولا سواء مفتون مشرد لا حيلة عنده، ومضروب معذب لا انتصار به ولا دفع عنده، ومباطش مقرن [يشفى غيظه ويرون غليله، وله مقدم يكنفه ويشجعه.

ولا سواء مقهور] لا يغاث، ولم ينزل القرآن بعد بظفره، وقد هتك اليأس لطول ما لقي حجاب قلبه. ونقض قوى طمعه حتى بقي وليس معه إلا احتسابه. ومقاتل في عسكر معه عز الرجاء وقوة الطمع، وطيب نفس الآمل.

فليس لعلي موقف من المواقف إلا ولأبي بكر أفضل منه إما في ذلك الموقف وإما في غيره. ولأبي بكر مواقف لا يشركه فيها علي ولا غيره.

وإنما محص علي وامتحن من لدن يوم بدر إلى آخر غزوات النبي وبين المحنة في الدهر الذي كان أصحاب النبي فيه مقرنين لأهل مكة ومشركي العرب ومعهم أهل يثرب أصحاب النخيل والآطام، والإرب والإقدام، والصبر والمواساة، والإيثار والمحاماة، والعدد الدثر والفعل الجزل، وبين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون ويشتمون ويضربون ويشردون، ويجوعون ويعطشون، مقهورين لا حراك بهم، وأذلاء لا دفع عندهم، وفقراء لا مال لهم، ومغيظين ولا يمكنهم السفهاء، ومستخفين لا يمكنهم اللقاء - فرق بين.

ولقد كانوا في حال أخرجت لوطا - وهو نبي، والنبي خير من جميع الناس - إلى أن قال لقومه حين لقي منهم ما لقي: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}. [وقال النبي صلى الله عليه وآله: "عجبت من أخي لوط كيف قال: {أو آوي إلى ركن شديد} وهو يأوي إلى الله سبحانه!

ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين، ولا شهرا ولا شهرين، ولا عاما ولا عامين، ولكن السنين بعد السنين.

وكان أغلظ القوم محنة وأشدهم احتمالا بعد رسول الله أبو بكر الصديق، لأنه أقام ما أقام رسول الله بمكة، وذلك ثلاث عشرة سنة. وإنما قلنا ذلك من أجل أن الناس اختلفوا في مقدار مبعث النبي إلى هجرته. فقال قائل: خمس عشرة سنة، وقال آخرون: ثلاث عشرة سنة، وقال قوم: عشر سنين، فكان أعدل الأمور وأقسطها طرح الطرفين، والأخذ بأوسط الروايات، كما صنعنا في عمر علي بن أبي طالب، حيث وجدنا ولده جعفر بن محمد [و] هو دونه، يخبر أن عليا استشهد وهو ابن سبع وخمسين، وقالت علماء الرافضة: نحن أعلم به من ولده إلا الأئمة منهم. ولم يقل هذا القول إمام منهم قط، ولكن علي استشهد وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ثم روى الناس بعد أنه استشهد وهو ابن ستين وابن ثلاث وستين وابن أربع وستين، أخذنا بأوسط ما قالوا فطرحنا سنيه وسني عمر وعثمان وأبي بكر والهجرة ومقام النبي بمكة، فحصل العدد الذي أثبتناه في صدر ذكرنا القضية.

فإن قالوا: قد صنع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة أفضل من جميع ما ذكرتم، ولقي أشد مما لقي أفضلهم، وذلك أن النبي أباته في مضجعه وعلى فراشه والمشركون يرصدونه، وقد سقط إليهم أن النبي يريد المدينة، فقد تحزموا واجتمعوا وقلبوا الرأي، فرأوا أن يبيتوه على فراشه إن لم يظهر لهم. فقال لعلي: "نم على فراشي وتغش ببردي الحضرمي، فإنهم إن رأوا حجمك فوق الفراش ودون البرد لم يستريبوا، وخفي لهم أمري، ولم يتبعوا أثري". فنام علي على فراشه ينتظر وقع السيوف، ويتوقع رضخ الحجارة، باذلا نفسه مصطبرا. وليس فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب. وإن كان أبو بكر قد أحسن في خروجه وهجرته وصحبته، وهربه مع النبي ، واستخفائه في الغار. فإن ذلك لن يبلغ من الاحتمال والخطار والخوف، قدر ما كان فيه علي رضي الله عنه، لأن طمع النجاة في أحدهما أقوى، والنفس له أرجى.

قيل لهم: لو كان الأمر كما تقولون في هذين الخوفين لم يقم صرف ما بينهما بقدر عشر ما لقي أبو بكر من جميع ما وصفنا وما صنع أبو بكر في ثلاثة عشر سنة، من كثرة الإنفاق، وإيثار الفقر على الغنى، والوحدة على الأنسة، والهوان بعد الكرامة، والخوف بعد الامن، والضرب والافتتان بعد الاكرام والتعظيم، مع عتق المعذبين وكثرة المستجيبين، ومع صرف وزن ما بين الطاعتين، لأن طاعة الشاب الغرير أو الحدث الصغير، الذي في عز صاحبه عزه، ليس كطاعة الحكيم المحتنك الأريب، الذي لا يرجع تسويده لمن سوده [و] إلى رهطه.

وفرق آخر: أن أمر الغار وقصة أبي بكر وصحبته مع النبي وكونه معه فيه، نطق [به] القرآن وصح به الإجماع، كالصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، والغسل من الجنابة، حتى إن من أنكر ذلك عند الأمة مجنون أو كافر، وأمر علي ونومه على الفراش إنما جاء مجئ الحديث، وكما تجئ روايات السير وأشعارها. وهذا لا يوازن ذا ولا يكايله.

وأول مراتب العالم أن يعرف المعارضة والمقابلة، والمنقوص والمتساوي، ولو أن رجلا من أوساط الناس أظهر شكا في قصة علي ومبيته، وقال: قد سمعت ذلك ولعله، ولكني مشفق للذي أعرف من أكاذيب الشيع، وتوليد حمال السير، لم يكن عليه بأس من الإمام.

ولو قال رجل لك، وهو رجل من أوسط الناس: والله ما أدري والله، لعل الله إنما عنى بقوله: {ثاني اثنين إذ هما في الغار} علي بن أبي طالب، لوجد عند الإمام غاية النكير.

وفرق آخر: أنه لو كان مبيت علي على فراش النبي جاء مجئ كون أبي بكر في الغار مع النبي، لم يكن في ذلك كبير طاعة، فضلا عن أن يساوي أبا بكر أو يبرز عليه، لأن الذين نقلوا - كاذبين كانوا أو صادقين - أن النبي أبات عليا على فراشه، هم الذين نقلوا أن النبي عليه السلام قال: "تغش ببردي، ونم في مضجعي، فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه" وهكذا لفظ هذا الحديث، لا يشك في ذلك أحد. ولم ينقل إلينا أن النبي قال لأبي بكر: أنفق واحتمل، ولن تعطب ولن يصل إليك مكروه.

فإن قالوا: إن عليا وإن كان حدثا - كما تزعمون - أيام مكة، فإنه قد لحق السابق له ثم برز عليه بصنيعه يوم بدر وأحد والخندق، ويوم خيبر، وفي حروب النبي ، إلى أن قبضه الله سبحانه إلى جنبه، فجمع أمرين: كثرة التعرض للمنايا، وعظم الغناء بقتل الأقران والفرسان، والقادة والسادة، لأن من له من قتل الأنجاد والأمجاد ما ليس لغيره، فله من التعرض والاحتمال والصبر والاحتساب ما ليس لغيره.

قلنا: إن كثرة القتل وكثرة المشي بالسيف لو كان أشد المحن وأعظم الغناء وأدل على الرياسة، كان ينبغي أن يكون لعلي والزبير وأبي دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء والبراء بن مالك من عظم الغناء واحتمال المكروه بالقدر العظيم ما ليس للنبي ، لأن النبي لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا. وقد علمنا أنه ليس أحد أشد احتمالا ولا أعظم غناء، ولا أظهر فضلا منه .

وقد تجد الرجل يقتل الأقران والفرسان وهو لا يستطيع أن يرفع طرفه في ذلك العسكر إلى رجل آخر ليس فيه من قتل الأقران قليل ولا كثير، لمعان هي عندهم أكثر من مشي ذلك المقاتل بسيفه، وقتله لقرنه.

وإذا ثبت أن رئيس العسكر وأشباهه قد ثبتت لهم الرياسة واستحقوا التقديم بغير التقدم والمباشرة، ثبت أن قتل الأقران ليس بدليل على الفضيلة والرياسة. أوما تعلم أن مع الرئيس من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقد، ما ليس لغيره، لأنه المخصوص بالمطالبة، وعليه مدار الامر، وبه يستنصر المقاتل، وباسمه ينهزم العدو، وبتعبيته ورايته ومعرفته يفل الحد، ولأن اختيار الحكيم دليل على احتمال طبيعته واستقلال نفسه، ولأن فرته أو عردته أعظم من المأثم والعار من عردة غيره وفرة غيره.

[و] لو لم يكن من بليته وشدة ما محص به إلا أن القوم لو ضيعوا جميعا وحفظ ما أضيفت الهزيمة إلا إليه، ولا كان المطلوب غيره، ولا كان الذليل المهان غيره. ولهذا وأشباهه يكون الرئيس أعظم غناء، وأشد احتمالا، لأنك [لو] قذفت فضل صبر المقاتل الواحد في خصاله لم تجد له أثرا ولم تحس له حسا.

واعلم أن المشي إلى القرن بالسيف ليس هو على ما يتوهمه الغمر من الشدة والفضل، وإن كان شديدا فاضلا. ولو كان كما يظنون ويتوهمون ما انقادت النفس ولا استصحبت للقتال، لأن النفس المستطيعة المختارة التي قتالها طاعة وفرارها معصية قد عدلت كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه، فإذا لم يكن بحذاء سيفه إلى السيف ومكروه ما يأتي به، ما يعادله ويوازنه لم يكن النفس أن تختار الإقدام على الكف، ولكن معه في وقت مشيه إلى القرن أمور تنفحه مشجعة، وإن لم يبصرها الناس وقضوا على ظاهر ما أبصروا من إقدام. والسبب المشجع ربما كان الغضب، وربما كان الشراب، وربما كان الغرارة والحداثة، وربما كان الإحراج، وربما كان الغيرة، وربما كان الحمية وحب الأحدوثة، وربما كان طباعا كطباع القاسي والرحيم، والسخي والبخيل، والجزوع من وقع السوط والصبور، وربما كان السبب الدين، ولكن لا يبلغ الرجل بقوة الدين في قلبه ما لم يشيعه بعض ما ذكرناه أن يمشي إلى السيف، لأن الدين مكتسب مجتلب، وليس بأصلي ولا طبيعي، ولأن ثوابه مؤجل، والخصال التي ذكرناها طبيعية أصلية. وثوابها معجل.

وقد يكون مع الإنسان أسباب محذرة مجبنة، فيكون ركونه وجلوسه طباعا لا يمتنع منه. وربما كانت الأسباب من المشجعات والمجبنات سواء، فيكون جلوسه عن الحرب وقتاله فيها اختيارا، وربما فضلت قوى مشجعاته حتى يكون إقدامه أشرا ومرحا، واهتزازا وطباعا، ولا يكون ذلك طاعة وإن كان في الحكم طاعة. وكذلك الجبن إذا أفرط على صاحبه حتى يكون فراره طباعا لا يكون معصية وإن كان في الحكم معصية.

ولم نرد بهذا الكلام تنقص علي رحمه الله ولا إخراجه من الغناء واحتمال المكروه. كما لم نرد تنقص الزبير وأبي دجانة وابن عفراء ومحمد بن مسلمة، ولكن هكذا صفة المستطيع المكلف، والمطيع والعاصي.

وإذا كان مع صاحب الإقدام من الأمور المشجعة أمور فاضلة على أسباب جبنه وجلوسه، كان عند الله غير مأجور وإن كان في الحكم الظاهر مأجورا.

وإن كانت الأسباب المشجعة في وزن الأسباب المجبنة كان مطيعا ولم يكن حيث وضعه القوم، لأنهم توهموا مع مشيه بالسيف إلى القرن احتمال المكروه كله، ورفعوا من أوهامهم الأسباب التي لولاها لم يمكنه المشي إلى القرن بالسيف.

ووجه آخر: أن عليا لو كان كما يقول شيعته، ما كان له بكثرة المشي إلى القرن بالسيف وبقتله له كثير طاعة، ولا احتمال مشقة، لأن الشيعة [تزعم] أن رسول الله قال لعلي: "إنك ستقاتل من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين". والناكثون طلحة والزبير وأصحابهما، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون عبد الله بن وهب وأصحابه.

فإن كانوا قد [صدقوا وما] كذبوا، فما عسى أن يبلغ من احتمال من هو من البقاء والسلامة على ثقة. فالزبير وطلحة وأبو دجانة وابن عفراء ومحمد بن مسلمة أعظم طاعة منه، لأنهم أشد احتمالا منه، لأنهم يقدمون والمنايا شارعة وهم يرجون ويخافون، وعلي على ثقة من أمره، ويقين من بقائه وسلامته، إلا أن النبي لم يقل هذا القول إلا قبيل وفاته. ولا سبيل لهم إلى علم ذلك. فيقال لهم: فكذلك خصومكم يمكنهم أن يقولوا لكم: إن النبي قال هذه الكلمة بعيد إسلامه، وإذا لم يكن في قولكم إن النبي قالها له قبيل وفاته دليل، ولا في قول خصومكم إن النبي قالها بعيد إسلامه دليل، فأعدل الأمور وأنصفها بينكم وبينهم أن تجعلوا الخبر في النصف مما بين إسلامه إلى وفاة النبي . فإذا كان ذلك كذلك فقد صار الزبير وطلحة وأبو دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء أفضل منه، لأن الفضل في احتمال المكروه.

وقد لزمكم أن تزعموا أن النبي قال هذا الكلام لعلي قبل وقعة بدر، وأنتم إنما تفخرون بوقعة بدر وقتاله بعد ذلك. فما عسى يبلغ من قتال رجل قد وثق بالسلامة والبقاء إلى أن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعد وفاة رسول الله بدهر.

فإذا كان رئيس الجيش أعظم غناء وأشد احتمالا، للذي وصفنا، فأشبه القوم حالا به أعظم غناء وأشدهم احتمالا، على قياس في الرئيس والكثير المشي بالسيف، ولا أحد أشبه بالرئيس ممن اختاره الرئيس وزيرا وصاحبا، ومكانفا ومعينا، لأن الرجل إذا كان في رأي العين صاحب أمر الرئيس والمتولى على الخاصة والقربة منه في ظعنه ومقامه، وخلواته، وهربه واستخفائه، وكان هو المبتدئ بالكلام عنده، والمفزع في الحوائج بعده، والثاني في الدعاء إلى الله ودينه، ولا نعلم هذه الخصال اجتمعت في غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لأنه صاحبه في كتاب الله سبحانه، قال الله عز وجل: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا". فسماه الله صاحبا في كتابه ثم سماه النبي صديقه من بين خلق الله، حتى غلب على اسمه واسم أبيه ولقبه ونسبه، حتى كان الناس أيام رسول الله وبعد وفاته يقولون: قال علي وفعل علي، وقال عثمان وفعل عثمان، وقال عمر وفعل عمر، وقال طلحة وفعل طلحة، وقال الزبير وفعل، وجميع العشرة الذين هم في الجنة، حتى إذا صاروا إليه قالوا: قال الصديق وقال أبو بكر الصديق، وفعل أبو بكر الصديق. ثم قول النبي فيه، وهو القول الذي كان يعيده في كل دار ومنزل: "ما أحد أمنّ علينا بصحبته وماله من أبي بكر" وفي قوله: "ما أحد أمن علينا بصحبته وماله من أبي بكر" معان كثيرة، فهمه الناس أم ذهبوا عنه. فهذا هذا.

ثم كان النبي عليه السلام بمكة ثلاث عشرة سنة، في كل يوم ذر شارقه يأتي منزل أبي بكر إما صباحا وإما مساء. حتى كان اليوم الذي أذن الله سبحانه له في الهجرة، وإنه أتاه مهجرا فقال له أبو بكر: بأبي أنت وأمي، كيف جئت اليوم في هذا الوقت؟ ونزل عن سريره وجلس النبي وجلس أبو بكر بين يديه، قال النبي: هل عندك أحد؟ قال: لا يا رسول الله، إلا أسماء وعائشة. قال: "فإن ربي قد أذن لي في الهجرة". فصان صحبته من خلق الله غيره. ثم لم يعلم بخروجه غير ابنتيه أسماء وعائشة، وغير ابنه عبد الله بن أبي بكر قتيل يوم الطائف، وكان هو الذي يتجسس لهما الأخبار ويأتي بها إليهما في الغار، لأنهما استخفيا في الغار ثلاثا ولم يطلعا على أمرهما غير عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، بدري استشهد يوم بئر معونة، فإنه كان يؤنسهما ويحدثها ويخدمهما في تلك السفرة كلها. وكانت أسماء هي التي تأتيهم بأقواتهم في الغار، فكان صاحبه في الغار، وبمكة في طريقه إلى المدينة، وعلى ظهره ركب النبي ، والنفاثي أجيره وعامر بن فهيرة خادم النبي ومؤنسه عتيقه ثلاث مرات ومولاه، والظهر ظهره، والمؤونة مؤونته، وصحبة النبي مقصورة عليه، محبوسة له، مصونة عن سواه، يطلبان معا، وتجعل فيهما قريش شيئا سواء.

وقالت الأنصار: لما سمعنا بمخرج النبي وقدومه كنا نخرج إلى ظاهر حرتنا ننتظره، حتى إذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة، حتى إذا كان في اليوم الذي قدم فيه النبي فعلنا ذلك ثم دخلنا منازلنا، فكان أول من أبصره رجل من يهود، فصاح: يا بني قيلة! فخرجنا إلى النبي وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر، في مثل سنه وهيئته، وأكثرنا لم يكن رآه، وركبه الناس وما نعرفه من أبي بكر حتى زال الظل عن النبي عليه السلام، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك. فهذا هذا.

ثم لما كان بعد ذلك في يوم بدر. ودلك أن النبي لما عزم على محاربة قريش قال له سعد: يا نبي الله، لنبني لك عريشا فتكون فيه ونقاتل بين يديك، فأذن لهم فبنوه له، فعدل إليه بعد أن عبأهم وأقامهم على مصافهم وعلى مراتبهم. فدخله وأدخل معه أبا بكر وحده، فلما استقر في العريش قال له أبو بكر: بعض مناشدتك يا رسول الله فإن الله منجز لك ما وعدك. فخفق النبي خفقة في العريش فانتبه وهو يقول: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع!

فكان النبي وأبو بكر من بين يديه خلق الله في العريش، والناس موقوفون على مراتبهم، فكانت هذه مرتبة أبي بكر. ورتب لسعد بن معاذ بعد أن كان قائما على رأسه على باب العريش متوشحا السيف في نفر من الأنصار يحرسون العريش ومن فيه مخافة كر العدو والجولة.

فإذا كان النبي في ذلك اليوم في العريش، وغير ماش إلى السيف ومعه صاحبه وصديقه، وسيد الأنصار وأفضلهم على باب العريش، عرف أن عظم الغناء وشدة الاحتمال والسبب الدال على الرياسة غير الذي خصه القوم وجعلوه دليلا. فمن أولى أن يكون أشبههم برسول الله في عظم الغناء واحتمال المكروه، والحال الرفيعة، ممن كان ثاني اثنين في التقدم في الإسلام، وثاني اثنين في الدعاء إلى الله ورسوله، وثاني اثنين في كثرة المستجيبين والاتباع، وثاني اثنين في الغار، وثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في العريش، وفي أشباه لهذا كثيرة.

وأما ما ذكرتم من يوم بدر وقتل على الأقران وفضله على من سواه بذلك، فقد قلنا في ذلك بما قد سمعتم.

ونحن ذاكرون وجها آخر ليزيد في الحجة ويكشف من الدلالة. نزعم أنه لم يشهد بدرا بعد رسول الله [من له] مثل غناء أبي بكر ونباهته وكرم موضعه، لأن من شهد بدرا مثل الزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن وعثمان، وبلال ومسطح بن أثاثة وعامر بن فهيرة، وكان في العريش، فلا أحد يعدله في النباهة، ولا في الغناء والرفعة، والاحتمال لقدر الخلافة، لأن الذين عددنا على ثلاثة أصناف: رجل أسلم على يده وبدعائه وشرحه فهو سبب حضوره وحسن بلائه، ورجل أسلم على يده وأعتقه بعد ذلك من رق العذاب ورق العبودية وشهد بدرا وقبل ذلك بمؤونته وكلفته. وإما ربيب ونسيب وابن خالة كمسطح بن أثاثة، فقد كان ربيبه وابن خالته وعلى يده أسلم، وبه استبصر، ولم يزل في مؤونته قبل بدر وبعد ذلك وفي أيامه، إلا ما كان من يمينه أيام حلف ألا يقربه ولا ينفق عليه ولا يطأ رحله، للذي كان كبر على عائشة مع حسان بن ثابت، حتى أنزل الله سبحانه على رسوله براءة عائشة، وأمر أبا بكر بالإنفاق على مسطح وعياله، وبالعفو عنه، وأن يعيده إلى رحله وتحت جناحه، فأنزل الله في محكم كتابه على نبيه يريد أبا بكر - وبين أن يفرد الله الآي ويخصه بمخاطبته وبين أن يريده في الجمهور فرق عظيم، كما أثنى على جملة المهاجرين والأنصار - فقال الله وهو يريد أبا بكر: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا ليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}. قال أبو بكر: بلى يا رب. فرده إلى رحله وعفا عنه كما أمره الله، وأجرى عليه وعلى عياله مثل الذي كان يجريه.

وإنما ذكر الله في هذه الآية القربى لأنه كان ابن خالته، وجعل أهله وعياله مساكين أبي بكر، وهو أحد بني المطلب بن عبد مناف، وشأنه عظيم.

وكان أول من حث على قتال المشركين ببدر وتكلم فيه عند رسول الله أبو بكر.

فإذا شهد بنفسه ورأيه وماله ومستجيبيه وأتباعه الذين هم أكفاء ضده عندكم، مع أن بعضهم قد اختير عليه وهو عثمان، والباقون لم يخايرهم ويواز [نهم] فيعرف موضع أفضلهم، وقد فخر عليه سعد فلم يعارضه. فأين مبلغ ما ذكرتم مما ذكرنا، إذا كان مثل سعد من مستجيبيه - وهو المستجاب الدعوة، وأول من أراق دما في الإسلام، وأول من رمى بسهم يوم بدر، وله يقول النبي : "ارم فداك أبي وأمي"، فجمع له أبويه ولم يجمعهما لأحد قبله. وفيه يقول النبي : "هذا خالي أباهي فيه، فليأت كل امرئ بخاله" وهو أزال كسرى عن قصره وملكه وعن مستقره. ومثل حواري رسول الله وابن عمته، مع فروسيته وشدة بأسه، والذي عظم الله من شأنه ببدر حين نزلت الملائكة في زيه، عليها عمائم صفر.

ثم الذي كان منه ببدر حين أتى الخبر النبي عن قريش بمسيرهم، فاستشار النبي ، فكان أول من قام أبو بكر، فتكلم وحث على الجهاد والنصرة، ثم قام عمر، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق أن لو سرت بنا إلى برك ذات الغماد لجالدنا من دونه حتى نبلغه.

فإن قالوا: إن أبا بكر لم يشهد [له] احتمال كاحتمال علي، لأن عليا كان يمشي إلى السيف وأبو بكر وادع رافه في العريش، ودونه الحرس سعد بن معاذ وأصحابه، والركاب له مناخة.

قلنا: قد طعنتم على النبي ، لأن الشأن لو كان كما تقولون لكان النبي وادعا وكان علي محتملا صابرا. وهذا كلام قد فرغنا منه مرة.

أوما علمت أن صاحب اللواء وإن كان لا يبارز ولا يمشي بالسيف أنه يحتاج من المعرفة بالحرب وعورتها، وإقبال أمرها وإدباره، ويحتاج مع اجتماع القلب واليقظة وقلة الحيرة، والثبات عند الجولة، والعلم بموضع الشدة والانحياز إلى أكثر مما يحتاج إليه المبارز، لأن حفظ الجميع أشد من حفظ الواحد، ولأن كل العدو يطالبه ويريد ختله، وكل ذلك بعلمه وعينه، لأن خطأه وضعفه أقرب إلى هلكة الجميع من ضعف المبارز وخطئه.

ولو كان الأمر كما تقولون ما كان أحد أسقط في الحرب ولا أصغر حظا ولا أقل أجرا ومكانا من الإمام الأكبر والرئيس الأعظم لبعد ما بين بلاد عدوه من بلاده، ولكان عامله أفضل منه.

مع أنكم تزيدون في كثرة القتلى وتعظمون شأنهم لتعظموا به من شأن علي، كصنيعكم في أمر علي ومرحب. حيث فخمتموه بالأشعار ونفختموه بالبلاغات، وسكتم عن قتيل الزبير في ذلك اليوم. ومرحب وياسر أخوان شهدا الوقعة، والنباهة لياسر. فقصدتم إلى الأخمل فرفعتموه وشهرتموه إذ كان قتيل علي، وقصدتم إلى الارفع فأخملتموه وأخفيتموه إذ كان قتيل الزبير. أوما علمت أن الزبير وياسرا التقيا فاضطربا بأسيافهما فلم يغنيا شيئا مرارا، حتى لحجا في موضع واعترضت بينهما شجرة، فجذباها ضربا وخبطا، ثم جمع الزبير نفسه ومكن سيفه فضرب رأس ياسر ضربة قد منها البيضة ومر السيف حتى عض ثنيتيه، فقيل له: يا أبا عبد الله، ما أجود سيفك! فغضب.

وقصدتم إلى عمرو بن عبد ود، فتركتموه أشد من عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث، وبسطام بن قيس.

وقد سمعنا بأحاديث حروب الفجار، والذي كان بين المطيبين والأحلاف، وما كان بين قريش ودوس، وأمر خزاعة وحلف الفضول، وجميع أمر قريش من خير وشر، فما سمعنا لعمرو بن عبد ود في شئ من ذلك ذكرا.

وكذا قتيل علي الوليد بن عتبة يوم بدر، وما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها ولا بعدها، ولا ذكر فيها بطائل.

فلو ذهبتم إلى أن عليا قد بارز وقتل، وأبلى واحتمل، كان ذلك جميلا، وكان قصدا مقبولا، ولكنكم أخرجتموه من حد الشجاعة، وظننتم أن السرف أمثل وأجل.

وزعمتم أن الذي منع العرب وقريشا أن تجعله الخليفة بعد النبي أنه كان قتل أبناءها وإخوتها وأعمامها، وما يعلم موضع رجل واحد يوم توفي النبي تسمع له الخاصة والعامة وترى له طاعة، قتل علي أباه أو ابنه أو أخاه، غير أبي سفيان بن حرب، فقد كان علي قتل ابنه حنظلة، وما كان أحد من علية قريش والعرب أقرب إلى أن يخالفه في الحق والباطل في ذلك الدهر من أبي سفيان، وقد كان أكره الناس لأبي بكر حين قال لبني هاشم وبني أمية: "رضيتم معشر بني عبد مناف أن يلي أموركم رجل من بني تيم" فإذا كان الذي قتل علي ابنه هو الذي أظهر كراهية أبي بكر من بين الناس، فكيف حولتم القضية وقلبتم المعنى؟

فإن ذكروا أبا حذيفة بن عتبة لأن عليا قتل أخاه. قيل: أيكون أبو حذيفة ممن أبى عليا بهذه العلة، وأبو حذيفة شهد بدرا فقاتل أباه وأخاه وعمه، واحتملت نفسه وعزمه وصحة إسلامه هذا الصنيع، ثم يجزع من أقل منه بعد الزيادة في الاستبصار، وبعد طول الدهر وموت الأحقاد؟ وهذا ما لا يشبه ولا يجوز. وكيف يجوز ذلك عليه وهو من المهاجرين الأولين، والسابقين الأولين، وشهد بدرا والمشاهد كلها، وقبض النبي وهو عنه راض، واستشهد يوم اليمامة ولواء المهاجرين في يده.

وكيف يظن هذا بأبي حذيفة، ولم يرو عنه في كراهية على حرف قط، ولا قبض لذلك وجها ولا أظهر تعجبا؟

وكيف يظن هذا بالبدريين والمهاجرين الأولين ومنع على القيام بأمر الناس على هذا الوجه وعلى هذا المعنى كفر بالله ورسوله، وكيف يضطغن امرؤ على علي ويسلم قلبه لرسول الله ؟ لأنه إن كان يعتد صنيع علي ذنبا حتى يولد له حقدا والذي تفرد علي بذلك أعظم ذنبا وأجدر أن يولد حقدا. وهذا أفحش قبحا وأبين خطأ من أن يحوجنا إلى كشفه وتبيينه.

وكيف يجوز هذا على أبي حذيفة، ولا نعلم رجلا في الأرض أبعد من حمية الجاهلية منه، ولا أسمح نفسا بما وافق كتاب الله منه. ولقد بلغ من إخلاصه ورسوخ الإسلام في قلبه وحبه عليه وبغضته فيه أن طرح كل ما سواه، وأخرجه ذلك إلى أن زوج أخته فاطمة بنت عتبة ابن عبد شمس من سالم مولى أبي حذيفة، وقال له: والله إني لأزوجكها وأعلم أنك خير منها! فعاتبه على ذلك بعض من نكره ذكره فقال: أفي سالم تعاتبني وقد سمعت رسول الله يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم.

مع أن لأبي بكر من حسن الأثر في حروب النبي ومن احتمال المكروه وتجرع المرار ما ليس لأحد.

من ذلك أن أبا بكر خرج إلى ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ليبارزه يوم أحد، لأن عبد الرحمن طلع يوم أحد على فرس وهو مكفر في السلاح لا يرى منه إلا عيناه وهو يقول: [هل] من مبارز! ثلاثا، كل ذلك يقول: أنا عبد الرحمن بن عتيق. فنهض أبو بكر يسعى إليه بسيفه، فقال له النبي حين رأى غضبه وحدته وعرف الذي عليه من الشدة في قتل ابنه: "شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك".

وإنما يمكن أبا بكر بذل الجهد، فإذا فعل ذلك فلا حال أفضل من حاله.

فاجتمع له في ذلك أمران: أحدهما الثواب على شدة الاحتمال، والثاني صيانة النبي وإشفاقه عليه، وقوله: "ارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك" فليس في الأرض معنى شريف فاضل من معاني الدين والدنيا إلا وهو في هذه الكلمة.

وأبو بكر الذي لما رمي النبي في يوم أحد أقبل يسعى، وإذا إنسان قبل المشرق يطير طيرانا، فلما رآه أبو بكر قال: اللهم اجعله طلحة! فلما توافيا عند النبي إذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فبدره أبو عبيدة وقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فوليتني نزعها - يعني حدائد الزرد اللواتي نشبن في وجهه [و] جبينه من المغفر - فقال النبي : عليكم صاحبكم! يعني طلحة.

وثرم أبو عبيدة يومئذ من نزع حلقة امتنعت عليه.

ولصنيع طلحة وأبي بكر وموقفهما قالوا: "يوم أحد لبني تيم!" لأن الذين صبروا مع النبي من المهاجرين والأنصار سبعة: أبو بكر وطلحة من تيم، وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وعلي من بني هاشم، والزبير من بني أسد، وأبو عبيدة من بني عامر. وإنما قالوا: "يوم أحد لبني تيم" لأنه لم يكن من كل قبيلة إلا رجل واحد من المهاجرين، وكان فيه رجلان من بني تيم كما ذكرنا.

وكان من الأنصار سبعة: الحباب بن المنذر بن الجموح، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.

وأبو بكر أول من تكلم يوم بدر وحث الناس على الجهاد.

وأبو بكر الذي لما قال النبي يوم الحديبية: "كيف ترون يا معشر المسلمين في هؤلاء الذين قد ... إلينا من أطاعهم ليصدونا عن المسجد الحرام" قام أول الناس فقال: نرى - والله ورسوله أعلم - أن نمضي لوجهنا، فمن صدنا عن البيت الحرام قتلناه.

وأبو بكر الذي لما أتى بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الحديبية في نفر من أصحابه فأقبل على النبي قال: يا محمد، لقد اغتررت بقتال قومك وإن قريشا ستقاتلكم عن ذراريهم وأموالهم، قد استنفروا الأحابيش وخرجوا إلى بَلْدَح، معهم العوذ المطافيل، والله ما أرى معك أحدا له وجه، مع أني أراكم قوما لا سلاح لكم، ولو قد عض هؤلاء الحديد لقد أسلموكم، قال أبو بكر: عضضت ببظر اللات، أنحن نسلمه؟ قال له بديل: أما والله لولا يد لك عندي لأجبتك، والله إني وقومي لنحب أن يظهر محمد!

وأقبل عروة بن مسعود في نفر من قومه حتى أناخ راحلته عند النبي وقال: إني تركت كعبا وعامرا على أعداد الحديبية معهم العوذ المطافيل، وما أرى معك أحدا أعرف وجهه ونسبه، وإنهم لخلقاء أن يخذلوك - والقوم سكوت - فغضب أبو بكر وقال: امصص ببظر اللات، أنحن نخذله؟ قال عروة: أما والله لولا يد لك عندي لأجبتك! وكان عروة قد استعان في حمالة، فكان الرجل يعينه بالفريضتين والثلاث، فمشى إلى أبي بكر فأعطاه عشر فرائض.

ألا ترى كثرة أياديه ونبله وامنعا، وحده وشهامته ورياسته؟ فبهذا وأشباهه يعرف قدر الرجل بمكة وفي قومه، وعند النبي وجماعة أصحابه.

ولو لم يعلم من شدة قلبه وصواب رأيه وقوة عزمه وقلة وحشته ويمن بركته إلا أن كبار المهاجرين دخلوا عليه، منهم عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في جمع كثيف من المهاجرين، فقالوا بأجمعهم: يا خليفة رسول الله، إن العرب قد انتقضت عليك، وإنك لن تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئا، اجعلهم عدة لأهل الردة ترمي بهم نحورهم، وأخرى أنا لا نأمن على المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت بغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه ويعود أهل الردة إلى ما خرجوا منه [أ] و يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ، فتكون قد أنفذت الجيش كما أمر النبي وقد دفعت بهم أهل الردة، ولأنا نخاف الروم أن تزحف إلينا يومنا هذا.

فلما استوعب أبو بكر كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئا؟ قالوا: قد سمعت مقالتنا. قال: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأولى منه، والنبي ينزل عليه الوحي من السماء وهو يقول: "أنفذوا جيش أسامة".

فلما رأى إبطاءهم عن ذلك وتلكؤهم خرج وحده مغضبا نحو أهل الردة حتى لحقه المهاجرون والأنصار في المسلمين، فقالوا: تكفى يا خليفة رسول الله، وننفذ لأمرك، والصواب ما رأيت.

فلو لم تعلم من شدة قلبه واجتماع رأيه وقلة وحشته إلا هذا كان كافيا.

وأبو بكر الذي ولاه النبي يوم حنين ميمنته، وولى عمر ميسرته، فلم يكن النبي ليستكفيهما أهم المواضع إليه وهما لا يكفيانه.

ولقد انكشف الناس وثبتا في مواضعهما. وكان أقرب القوم إلى النبي يومئذ - إذ كان لا بد لصاحب الميمنة والميسرة من أن يكون أبعد ممن يكون في القلب - أبو سفيان بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن عباس، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن عبيد أخو أسامة بن زيد لأمه، وصبر مع النبي بعد هؤلاء مائة وثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار.

ومما نعرف به شدة شكيمته وصدق وصرامة رأيه قوله للمسلمين يوم توفي النبي حيث قام خطيبا وبالمدينة منافقون لا يألونهم خبالا يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وقد انتقض ما حول المدينة، فكان مما قال في خطبته:

من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فليعبده، ومن كان يعبد محمدا أو يراه إلها فقد هلك إلهه، فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمة الله قائمة، والله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهركم، وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمدا، وفيه حلال الله وحرامه.

ثم قال: والله ما نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله المسلولة ما وضعناها عن عواتقنا، ولنجاهدن من خالفنا، فقد جاهدنا مع رسول الله ، فلا يبقين مبق إلا على نفسه.

وإنما قال: "من كان يعبد محمدا أو يراه إلها فقد هلك إلهه" لأنه كان سمع من عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب في ذلك كلاما قبيحا حتى ماج الناس في ذلك وقالوا: والله ما مات، ولكن الله رفعه كما رفع عيسى بن مريم، في كلام سنذكره بعد هذا إن شاء الله.

ومما يدل على خاصة مكانه وتقديم الناس له، ومعرفة الجميع لفضله، الذي كان من صنيع رسول الله ومن صنيع جميع المسلمين، ومن صنيع كفار قريش به، حيث فزعت إليه في أمر أسارى بدر دون غيره. لأنهم لما حبسوا ببدر واقترع المسلمون عليهم طمعوا في الحياة، فقالوا بأجمعهم: لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه! فبعثوا إلى أبي بكر فأتاهم فقالوا: يا أبا بكر، إن فينا الآباء والأبناء، والإخوان والعمومة، وبني العم، وأبعدنا قريب، فكلم صاحبك يمن علينا أو يفادينا، قال: نعم لا آلو كم إن شاء الله خيرا! ثم انصرف إلى النبي . فقالوا: ولو بعثنا إلى عمر، فإنا لا نأمن أن يفسد علينا، فلعله أن يكف عنا شره! فأرسلوا إليه فجاءهم. فقالوا مثل قولهم لأبي بكر، فقال: لا آلوكم إن شاء الله شرا! ثم انصرف إلى النبي وإذا الناس حول النبي، وأبو بكر يفثؤه ويلينه وهو يقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قومك فيهم الآباء والأبناء، والعمومة والإخوان، وبنو العم، وأبعدهم منك قريب، فامنن عليهم من الله عليك، أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار، فما أخذت منهم فهو قوة للمسلمين، ولعل الله أن يقبل بقلوبهم! ثم قام فتنحى ناحية وسكت النبي وجاء عمر فجلس مجلس أبي بكر فقال: يا نبي الله، هم أعداء الله كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، اضرب أعناقهم فإنهم رؤوس الكفر، وأئمة الضلالة، يعز الله بذلك الإسلام ويذل الشرك! فسكت النبي وعاد أبو بكر إلى مجلسه وإلى مثل ذلك الكلام، ثم تنحى وقام عمر فجلس مجلسه وأعاد مثل الكلام الأول، ثم تنحى عمر وجلس أبو بكر، ثلاث مرات. فسكت النبي عليه السلام، ثم قام فدخل قبته فمكث ساعة وخرج والناس يخوضون، يقول بعضهم: القول ما قال أبو بكر، وبعضهم يقول: القول ما قال عمر. فخرج النبي فقال: ما تقولون في صاحبيكم؟ دعوهما فإن لهما مثلا: مثل أبي بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرضا والعفو، ومثله في الأنبياء مثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل، أوقد له قومه النار فطرحوه فيها، فما زاد على أن قال: {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} وقال: {فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ومثله كمثل عيسى إذ يقول: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} ومثل عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة، ومثله في الأنبياء مثل نوح كان أشد على قومه من الحجارة إذ يقول: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الأرض جميعا. ومثله مثل موسى إذ يقول: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}. فهذا يدل على أنه كان المفزع والشفيع، والخاصة والثقة وموضع الفضيلة.

وقبل ذلك لما قص النبي على أهل مكة كيف أسري به، قالت قريش على التكذيب له : والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام ثم يكون إقبالها شهرا، وزعم محمد أنه مضى إلى بيت المقدس ورجع من ليلته! فأتوا بأجمعهم أبا بكر ليحتجوا بذلك عليه وليعرفوه خطأه في اتباعه عند أنفسهم، وظنوا أن الجواب في ذلك يمتنع إذ كان قد امتنع عليهم. فأتوا أبا بكر فقالوا: هلك صاحبك! - ألا ترى أنه المذكور بالصحبة، وموضع الحاجة، وأنه المبتدأ والمفزع - زعم أنه أتى بيت المقدس في ليلة وغدا علينا! قال أبو بكر: إنكم تكذبون عليه، ولئن كان قاله لقد صدق، فما تعجبون من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرنا أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد من مصر. ثم نهض أبو بكر إلى النبي ليسأله عن القضية، فأقبل النبي يصف له وهو يقول: صدقت صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال النبي : وأنت الصديق. وقد كان أبو بكر الصديق أتى الشام وعرف طرقها وأمورها، وقلبها وعرف جميع ما فيها.

ثم الذي كان من تقديم النبي له والمسلمين في قضية الحديبية. وذلك أنهم كتبوا كتابا: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر حجج يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال، وعلى أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها فعل، وعلى أنه من أتى منهم محمدا بغير إذن رده، ومن أتى قريشا من أصحاب محمد لم ترده، وعلى أن محمدا يرجع عامه هذا بأصحابه، ويدخل عليهم قابلا في أصحابه فيقيم ثلاثا، لا يدخل علينا السلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب. شهد أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة؛ وشهد حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف.

ألا ترى أنه كان أول شاهد من المسلمين في صدر الكتاب، والناس كلهم بعده.

ونحر رسول الله الجمل عن سبعة. فأول خلق الله سمى أبو بكر ثم عمر، ثم فلان ثم فلان. فهذا هذا.

ثم لما تحاجز الناس يوم أحد وأراد أبو سفيان الانصراف أقبل يسير على فرس له أنثى قد أشرف على أصحاب النبي في عرض الجبل ينادي بأعلى صوته: أين ابن أبي كبشة؟ يعني النبي . أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يوم بيوم بدر، ألا إن الأيام دول والحرب سجال، وحنظلة بحنظلة! قال عمر: ألا أجيبه يا رسول الله؟ قال: بلى. قال أبو سفيان: اعل هبل! قال عمر: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا عزى ولا عزى لكم! قال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم.

فلو لم يكن أبو بكر أفضل من شهد أحدا وأنبه، أو أغيظ لأبي سفيان والمشركين، ما جعله أبو سفيان - وهو رئيس القوم - ثانيا، والذي يتلو النبي في النداء والمخاطبة، حين يقول: أين ابن أبي كبشة؟ ثم يقول: أين ابن أبي قحافة. فهذا هذا.

وفي نزول أبي بكر قبر حمزة قبل كل نازل بأمر رسول الله دليل على الفضيلة والنباهة، والقدر والوزارة.

ولما دخل أبو سفيان المدينة أتى النبي وقال: يا محمد، إني كنت غائبا في صلح الحديبية فاشدد العهد وزدنا في المدة. قال: أولذلك قدمت يا أبا سفيان؟ قال: نعم. قال: فهل كان فيكم من حدث؟ قال: معاذ الله. قال النبي : فنحن على مدتنا وصلحنا، لا نبدل ولا نغدر. فلما خرج من عنده بدأ بأبي بكر فقال له: هل لك إلى أن تجير بين الناس؟ قال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله. ثم خرج من عنده فأتى عمر فكلمه بمثل ذلك، قال عمر: إني لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم! قال أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرا! ثم أتى عثمان، ثم أتى فاطمة، ثم أتى عليا.

ألا ترى كيف جعلوه المقصد والمعتمد قبل الناس وبعد رسول الله ، ولو لم يكن حال عند أبي سفيان من النبي فوق كل حال ما بدأ به قبل جميع من نزع إليه. فهذا هذا.

ثم الذي كان من تقريب النبي عليه السلام، وإكرامه له يوم فتح مكة، وهي الدار التي خرجا منها هاربين معا ثم رجعا إليها آمنين معا، يتسايران ويتحدثان، حيث طلع النبي على العباس وأبي سفيان، والنبي عليه السلام بين أبي بكر وأسيد بن حضير، أبو بكر عن يمينه. وقبل ذلك في الطريق كان بين أبي بكر وعمر، أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره. فلما صارت الخيل بذي طوى بين الخندمة إلى الحجون، مر النبي وأبو بكر يسايره وحده، وإذا بنات أبي أحيحة قد نشرن شعورهن يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فنظر النبي إلى أبي بكر وتبسم وقال: كيف كان قال حسان:

  • يلطمهن بالخمر النساء *

قال أبو بكر:

  • تظل جيادنا متمطرات *

فهذه حاله وخاصته ومكانه وارتفاع قدره. ألا تراهما خرجا من مكة هاربين مستخفيين مصطحبين، ثم رجعا آمنين ظافرين معلنين مصطحبين.

وصعد أبو قحافة الجبل بصغرى بناته وهو يومئذ مكفوف، فبكت بنته فقال لها: لا تخافي فإن أخاك عتيقا أكبر الناس عنده! فلما دخلوا مكة أقبل أبو بكر بأبيه وهو يومئذ شيخ مكفوف له غديرتان كأن رأسه ثغامة، حتى هجم به على النبي وقال: أتيتك بأبي يا رسول الله ليسلم. قال النبي : هلا تركت الشيخ في رحله حتى آتيه. فمسح النبي يده على صدره، ودعاه إلى الإسلام فأسلم.

وهذا كله يدل على تقديم النبي له.

كما نقل الفقهاء أن النبي أتي بعس من لبن وهو في أصحابه، وأبو بكر عن يساره ورجل من الأعراب عن يمينه، وأصحابه قد أحبوا سؤره، فشرب النبي وأهوى بالقدح نحو الأعرابي. قال عمر: أبو بكر يا رسول الله! قال النبي : الأيمن فالأيمن.

ولم ينقلوا هذا الحديث ليخبروا عن فضيلة أبي بكر ولا عن قرب مقعده ولا عن تقديم عمر له، ولا أن عادة النبي كانت التقديم له، ولا قال عمر ذلك على التذكير له. وإنما أرادوا أن يخبروا عن سنة النبي في الشرب، وعن فضيلة اليمين على اليسار، وعن التعريف لحرمة المجلس.

ولو كان هذا الخبر في علي وعثمان ما كان الأمر إلا كما أخبروا أنهم لم يقصدوا في الحديث إلا تفضيل اليمين على اليسار.

فإن قالوا: فإن عليا كان أفقه من أبي بكر وأعلم بالحرام والحلال منه. والدليل على ذلك أن كثرة ما نقلوا إلينا من اختياراته وأقاويله في الحادثات، من الحلال والحرام، وأبواب الفقه والفتيا والتأويل، مع كثرة الرواية المسندة، وكان يسأل ولا يسأل، ولم يرجع عن شئ قط، وليس أحد من أصحاب النبي إلا وله رجعة وأكثر من ذلك، ولم يسمع لأبي بكر بفتيا كثير ولا كثير رواية، ورأس الدين الفقه فيه والعلم به. فلما كان أبو بكر وعلي بن أبي طالب على ما وصفنا وذكرنا، علمنا أن أفقههما أفضل فضلا وأولى بالإمامة، لأن عمل الفقه أفضل من غيره، لأن أولى الناس بالمسلمين أعلمهم بدينهم، لأن من علم الدين لم يجهل أمر الدنيا، لأن أمور الدنيا مياسرة أو شبيه بعلم المياسرة، وعلم الدين مستنبط وتأويله غامض.

قالت العثمانية عند ذلك: أما العدل والقسط فأن ننظر يوم توفي النبي ، وأبو بكر وعلي حيان ظاهر أمرهما، معروف قدرهما واحتمالهما للعلم والعمل. فلعمري لئن كان لعلي من طول الصحبة وكثرة السماع ومفاوضة الرسول الأ [مر]، والمعرفة، وكثرة الإرشاد للأمة وصحة الرأي وكثرة الصواب، وكان الناس إليه أشد فزعا [و] ظهر من روايته وحاجة الناس إلى فقهه في حياة رسول الله وأيام وفاته وأيام أبي بكر، أكثر مما ظهر من أبي بكر في ذلك الدهر، إنه لأفقه منه في الدين وأعلم بأبواب الدنيا.

[و] لئن كان إنما كثر مما نقل الناس عنه لأنه عاش والحادثات تحدث، وبقي حتى كان يستفتى ويفتي ويسأل ويجيب، ويروى عنه في الزمان الذي كان يستفتى فيه مثل أبي هريرة، وأنس بن مالك، وابن عمر، وابن الزبير، وعبد الله بن عمرو، فكان ذلك منه أيام أبي بكر وهي سنتان، وأيام عمر وهي عشر سنين، وأيام عثمان وهي اثنتا عشرة سنة، وأيام نفسه وهي خمس سنين، فليس في ذلك حجة ولا دليل، لأنك تحصي ما يقول الرجل في الدهر الطويل مع كثرة الحادثات، وما يقول الرجل في الدهر القصير مع قلة الحادثات. وإنما ينبغي أن ننظر يوم توفى النبي من كان أفضل المسلمين، وأفقه في الدين، وأعرف بالأمور، وأصوب رأيا وأشد احتمالا في ذلك الوقت الذي اختير فيه للخلافة، ونحن نعلم أن عليا لو عاش إلى دهر الحسن وابن سيرين لكان قد ازداد فقها وعلما وتجربة على قدره يوم استشهد رضي الله عنه.

ولا يجوز أن نقدر الرجل بقدر طول الزمان وكثرة الحادثات، وبقدر قصر الزمان وقلة الحادثات. فلئن صح عندنا وعندكم أن أمورا حدثت، وبلايا نزلت في زمن أبي بكر وأيام وفاة النبي ، من حلال وحرام أو سياسة جند أو سد ثغر أو تدبير حرب، أو استصلاح عوام، أو ترتيب خواص، فظهر فيه من رأي علي وصوابه وحسن نظره وإرشاده ما لم يظهر من أبي بكر - فقد أفلح من زعم أن عليا كان أفقه منه فقها، وأصوب رأيا، وأشد للأمور احتمالا! مع أنا قد نجد عنده من دقائق الفتيا وغامضه وعويصه ما لم يبتل به أحد ولا يبتلى به أحد أبدا. ولعل ذلك لا يصاب عند الإمام إلا في جملة الأمور وأصولها. ثم لو دهم الناس عدو، أو حزبهم أمر، أو أعضل بهم ملم من فاتق يختطب الملك بتأويل قد زخرفه، ومن انتشار جند أو اضطراب عوام، أو بدعة شاملة، لم يكن عنده من الغناء والاحتمال والمعرفة بعلاج أدوائها والتأتي لاستصلاحها قليل وكثير. وإنما مدار الأمور على أصالة الرأي، واتساع الصدر، وقوة العزم.

فإن كنا لم نجد لعلي مما ذكرنا شيئا يفضل به أبا بكر في ذلك الدهر فإنا نستدل على صواب رأيه واتساع صدره، وأنه كان المفزع والمرشد بعد رسول الله في المعضلات وعند الشبهات والحادثات، والناس في ذلك الدهر بين مستمع مرشد وبين مستمع مسلم، وبين مطرق واجم وبين خائض قد رنحه الحادثات، واستبهم عليه وجه الصواب، كالذي كان من المسلمين لما اصطلحوا على القضية يوم الحديبية، لأنهم لما صاروا إلى الكتاب وتراضى النبي وسهيل بن عمرو على أن يكتب في الكتاب: "وعلى [أن] من أتى قريشا ممن كان على دين محمد بغير إذن لم ترده إليه" فبلغ من أمر الناس والذي دخل عليهم أن اضطربت قلوبهم، حتى إن النبي قال لأصحابه بعد انصراف سهيل بن عمرو: "قوموا فانحروا وأحلوا واحلقوا". يقولها ثلاثا، كل ذلك ينظرون في وجهه ويسمعون قوله ولا يطيعون أمره، حتى غضب النبي فدخل على أم سلمة فأخبرها بذلك متعجبا، وكانت معه في تلك السفرة، قالت أم سلمة: "انطلق أنت يا رسول الله إلى الهدي فانحره، فإنهم سيقتدون بك". فكان أول من وثب عند الكتاب عمر وهو يقول: يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟ قال النبي : بلى. قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ قال النبي عليه السلام: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره". فأقبل أبو بكر على عمر فقال: يا عمر، الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر [به]، ولن يضيعه الله.

ثم إن عمر بن الخطاب عاد إلى أبي بكر فسأله فقال أبو بكر: سلم لله ولرسوله واتهم رأيك.

وقال أبو عبيدة: لا نعطي الدنية أبدا! فقال أبو بكر: يا عم إنها ليست بدنية، ولو كانت دنية ما أعطاها النبي وتأباها أنت، وما كان الله ليرضى بذلك.

أوما علمت أنه لم يكن في الجميع أشد في ذلك من علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب؟ وذلك أن عليا هو كان كاتب كتاب القضية، فلما كتب: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" قال المشركون: لو نعلم أنك رسوله ما حاربناك، ولكن اكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال النبي لعلي: امحها يا علي. فقال علي: والله لا محوتها أبدا! قال النبي : أرني مكانها. فأراها فمحاها وكتب: "محمد بن عبد الله". قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن هذا كله حدب على الإسلام وغضب له، ولكنهم لم يطلعوا من الأمور ما تطلعه الرسل. فهذا موقف لأبي بكر مشهور.

وإنما عظمت الفتنة على أصحاب النبي لأنهم خرجوا لا يشكون في الفتح، لرؤيا النبي أنه حلق رأسه ودخل البيت وأخذ مفتاح الكعبة وعرف مع المعرفين، ثم تجهز في تلك الأيام وهو يريد مكة عندهم وقد كان تلا عليهم: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم} الآية. فلما رأوا الصلح والشرط وعاينوا الرجوع اضطربوا لذلك، مع الذي كان في نفوسهم من قوله: "إن أتى قريشا أحد ممن كان على دين محمد لم ترده، ومن أتى محمدا ممن هو على دين قريش رده". فأخرجهم ما ذكرت لك إلى ما ذكرت قبل.

وأقبل عمر على أبي بكر فقال: يا أبا بكر، أليس قد أخبرنا النبي عن الله وتلا علينا القرآن: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين}؟ قال أبو بكر: نعم. قال عمر: فما باله رجع بنا ولم ندخلها؟ قال له أبو بكر: وهل قال لك متى؟ إنما قال: لتدخلن، وأنتم داخلوها لا محالة، وإنما كان لك مقالا لو ضرب لك أجلا فرأيت خلافه، واعلم أن الحق ما قال وصنع.

فلم يبق في قلب مخلص جهلا بموضع الحجة في ذلك، ولا في قلب مستريب دخله الشك شيئا إلا أصلحه. فبهذا وشبهه نعرف إخلاص الرجل وقدره، وسعة صدره، وكثرة علمه.

ثم أخرى، أنقذ الله به من الضلالة، والناس بين ساكت لا غناء عنده، أو خائض مستريب يحتاج إلى التعريف، أو موقن يحتاج إلى المادة وتلقين الحجة.

من ذلك أن النبي لما توفي اقتحم الناس عليه في منزل عائشة، فلما نظروا إليه مسجى دخلهم أمر عظيم أذهلهم وحير عامتهم، حتى قالوا: لم يمت، وكيف يموت وهو شهيد علينا ونحن شهداء على الناس؟ وكيف يموت وقد قال الله: {ليظهره على الدين كله} ولم يظهر بعد؟

وكان عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب يرددان هذه الآيات، وتوعدا أصحاب النبي : من قال إنه مات. وثاروا في حجرة عائشة وعلى الباب: لم يمت!

وكان أول من رآه مسجى فأنكر موته عثمان، وقال: إنه والله ما مات، ولكن الله رفعه إليه كما رفع عيسى بن مريم! والله لا نسمع أحدا يقول مات إلا قطعنا لسانه!

واضطرب الناس وماجوا. وقام عمر في الناس خطيبا فقال: لا أسمعن أحدا يقول إن محمدا مات، وإن محمدا لم يمت، ولكن الله رفعه، أرسل إليه كما أرسل إلى موسى عليه السلام فلبث عند قومه أربعين ليلة، وإني لأرجو أن يقطع الله أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن محمدا مات!

فبينما الناس هكذا إذ أقبل أبو بكر، على فرس له من السنح، فسمع مقالة عمر وما يقوله الناس وما خاضوا فيه، فبدأ بالنبي فدخل عليه وهو مسجى، فكشف عن وجهه فقبله، ثم أقبل نحو المنبر وقال: أيها ... الحالف على رسلك! فلما رآه عمر قعد، وقام أبو بكر خطيبا ثم قال: أيها الناس اجلسوا وأنصتوا، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أيها الناس، إن الله قد نعى نبيكم إلى نفسه وهو حي بين أظهركم ونعاكم إلى أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد، ألم تعلموا أن الله قال: {إنك ميت وإنهم ميتون}.

قال عمر: بأبي أنت وأمي! فسكت الناس وأظهروا التسليم، وعرفوا الحق وبكوا، كأنهم لم يكونوا سمعوا بهذه الآية قط.

ثم تلا: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} ثم تلا: {كل نفس ذائقة الموت} ثم تلا: {كل شئ هالك إلا وجهه} ثم مر في خطبته المشهورة المعروفة. فهذا هذا.

ثم أقبل على عمر وعثمان فقال: قال الله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} يقول: إنكم شهداء على من تلقون ممن لم يلق النبي ، كما كان النبي عليكم شهيدا. وقال الله: {ليظهره على الدين كله} وإنما أراد دينه، والله متم نوره ومظهر دينه، فإذا أظهر دينه فقد أظهره.

فهذا علمه وقدره وفهمه وحاجة الناس إليه.

ثم الذي كان من مشي المهاجرين والأنصار إليه وكلامهم له، ليقبل الصلاة من العرب ويترك الزكاة، وقالوا: إنهم لو قد صلوا لقد زكوا. قال: والله لو منعوني عقالا مما أعطوه النبي لجاهدنهم عليه. فقال له المهاجرون والأنصار: أوليس قد قال النبي عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم" قال أبو بكر: إن فيها "إلا بحقها" قالوا: صدقت. ألا ترى إلى أنه قد علم الجميع ما لم يعلموا، أو صيرهم إلى رأيه بقدر المخالفة له.

ونقلوا إلينا أن الأنصار قالت: يا خليفة رسول الله، أليس قد قال النبي : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حجبوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" قال أبو بكر: فهذا من حقها، والله لو كنت وحدي لجاهدتهم حتى أقتل أو يظهر الله الحق ويزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.

ثم مضى نحو أهل الردة يريدهم مغضبا حتى لحقه المهاجرون والأنصار، فمنعوه وكفوه وتقدموا أمامه.

وهذا خبر نقله أصحاب الأخبار مرجئهم وشيعيهم إلا الروافض، فإنهم لا يطاقون، لأن من يجحد المستفيض الشائع بالأسانيد المختلفة في الدهر المتفاوت، ويوجب على خصمه له تصديق الشاذ الذي لا يعرف ولا يدعيه إلا أهل الغلو من الروافض، ممتنع الجانب، عسير المطلب، لا يطاق ولا يجارى.

ثم رأينا عليا يروي عنه، ويزكيه ويفضله، ولم نسمعه روى عن علي شيئا ولا زكاه ولا فضله، على أن عليا قد كان عنده فاضلا عاليا، عالما وجيها.

ثم الذي كان من قول عثمان بن عفان له. وذلك أن عثمان حزن على النبي حزنا لم يحزنه أحد، فأقبل أبو بكر يعزيه للذي يرى به من عظيم ما فدحه وغمره، فقال عثمان: ما آسى على شئ، إنما آسى على أنني لم أسأل النبي عما فيه نجاة هذه الأمة! قال أبو بكر: قد سألت النبي عن ذلك: فقال: "من قبل الكلمة التي عرضتها على عمي فأباها".

ألا ترى إلى حاجة الجميع إليه واستغنائه عنهم.

ولو لم يعلم من سعة علمه إلا قوله للمهاجرين والأنصار حين أشاروا عليه بأن يقبل الصلاة وقالوا إنهم لو قد أقاموا الصلاة لآتوا الزكاة. قال أبو بكر: إن تميما إن أذن لها من الإسلام في نقض عروة لم ترض بمثله بكر بن وائل، ولو أعطيت كنانة وألفافها وأحابيشها أمرا لم ترض قيس حتى تزداد، ولئن سمعت قولكم لأنقضن الإسلام عروة عروة.

وفي مشيهم إليه في تأخير جيش أسامة يشيرون عليه ويقولون ما كتبنا في صدر الكتاب، وفي قوله: "لو بقيت وحدي حتى تأكلني الكلاب ما أخرت جيشا أمر رسول الله بإنفاذه والوحي ينزل عليه". فلئن كان ما وصفنا لا يدل على جودة الرأي وصحة العزم وكثرة العلم، وعلى الشهامة والصرامة، واليمن والبركة، فما في الأرض دليل على فضيلة رجل ونقصه.

ومما يدل على سعة علمه وأنه كان المفزع دون غيره أن المهاجرين عامة وبني هاشم خاصة، اختلفوا في موضع دفن رسول الله ، فقال قائل: خير المدافن البقيع، لأنه كان كثيرا ما يستغفر لأهله. وقال آخرون: خير المواضع موضع مصلاه. وقال آخرون: عند المنبر. قال لهم أبو بكر: إن عندي فيما تختلفون فيه علما. قالوا: فقل يا أبا بكر. قال: سمعت رسول الله يقول: "ما مات نبي قط إلا دفن حيث يقبض" فخطوا حول فراشه ثم حولوا رأس رسول الله بالفراش في ناحية البيت. فلم نجد الناس احتاجوا مع خبره إلى شاهد، ولم يختلف عليه في ذلك رجلان، ولا أظهر الشك في خبره إنسان واحد قريب ولا بعيد. هذا والمنزل منزل ابنته، وهو في موضع جر منفعة وكما تكون المنفعة، وهي المأثرة العظمى والشرف الأعلى.

فمن لم يتهم في خبره على هذه الحال ومع هذه العلة حتى قبلت شهادته وحده، لجدير ألا يتقدمه أحد في القدر والعلم والأمانة والصدق.

ومما يدل على أنه كان ثابتا عندهم قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروايته عنه، وذلك أن عليا قال: كنت إذا سمعت من النبي عليه السلام حديثا ينفعني الله بما شاء منه، فإذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني - وصدق أبو بكر - أن النبي قال: "ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له".

وهذا حديث ما سمعت له براد إلا أهل الغلو من الروافض. وقد قال قوم منهم: إنما كان هذا من علي على التقية للعوام، لطاعة العوام لأبي بكر وعمر. وما في هذا من التقية؟ أن يصدق رجلا على خبره وأن يكذب غيره أو يؤمن غيره. وإن هذا من أخلاق الناس لموجود: أن يزكي بعض بعضا ويفضل. فنرى عليا يحمل عنه ويروي عنه ويزكيه ويفضله، ولم نره صنع بعلي من ذلك شيئا.

ولقد بلغ من تبطنه لأمر النبي أن النبي لما حاصر أهل الطائف قال عمر لأبي محجن: إنما أنت ثعلب في جحر يوشك أن يخرج! قال أبو محجن: هل هو إلا أن قطعتم حبلات عنب، وفي الماء والتراب ما يعيده. قال عمر: لا تقدر أن تخرج إلى ماء وتراب، ولا تبرح باب جحرك حتى تموت جوعا. قال أبو بكر: يا عمر لا تقل هذا فإن النبي لم يؤذن له في فتح الطائف. فسأل عمر النبي فقال: نعم لم يؤذن لي.

قالوا: ولم يكن علم ذلك من أمر رسول الله غير أبي بكر، ولو علمه أحد غيره لكان عمر.

قالوا: في خطبة النبي في شكاته التي توفي فيها والمسلمون شهود، وفي معرفته بالذي أراد النبي بكلامه دون جميع الناس، دليل على أنه المخصوص بحسن المعرفة، وفضيلة الدراية.

وذلك أن أول ما تكلم به النبي على المنبر أن قال: "والذي نفسي بيده، إن لقائم على الحوض الساعة". ثم تشهد فلما قضى تشهده كان أول ما تكلم به أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد، ثم قال: "إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا والآخرة فاختار ما عند الله". فبكى أبو بكر. قالوا: فتعجبنا من بكائه. وقال: بأبي أنت وأمي وبآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا. قالوا: فتعجب الناس من كلام أبي بكر وبكائه وقالوا: أخبر النبي عن رجل!

قالوا: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله.

ولو لم يكن من صواب رأيه وصحة فراسته، وتوفيق الله إياه إلا توليته خالد بن الوليد حرب مسيلمة وطليحة وأهل الردة، وقد عوتب فيه من كل جانب - وعمر تناوله - وهو يقول: لا أشيم سيفا سله الله على أعدائه.

ثم اختياره عمر وفراسته فيه، حيث جعل له الأمر من بعده، وعوتب فيه ونوزع في أمره.

وكذلك قال عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه النبي : "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وكرهت لها ما كره لها ابن أم عبد" قال: أفرس الناس ثلاثة: المرأة التي جاءت على استحياء حين قالت لأبيها في موسى: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} وامرأة العزيز، وأبو بكر في عمر.

فهل رأيته ضام قوما قط وجامعهم فكان لهم الرأي دونه، وهل عوتب في شئ قط إلا والصواب ما عمل به دون رأي المعاتب له. وهل أشير عليه برأي قط إلا وهو المصيب دون المشيرين عليه؟

فأي فقه وأي علم أصلح وأي مذهب أحمد مما عددنا وكثرنا.

ثم أنتم لا تستطيعون أن تخبروا عن علي بن أبي طالب بموقف واحد من هذه الآراء، وكلمة واحدة من هذا الكلام ومن الصواب الذي حكينا عن أبي بكر في حياة النبي ، وعند وفاته، وفي أيام خلافته، حتى كأن عليا ورجلا من عرض المسلمين في ذلك الدهر سواء.

وما يخيل إلينا إلا أن الذي قطعه عن كثير من ذلك حداثة سنه، وتقديمه للمشيخة على نفسه.

فإن قالوا: إن عليا قد أشار على عمر بكذا. وقال له يوم كذا وكذا: كذا.

قلنا: إنا لم نكن في عمر وعلي، ولو قد صرنا إلى الإخبار عنهما تقدمنا بالذي يعرفكم فضيلة عمر، كما حكينا ووصفنا وتقدمنا في الأخبار عن فضيلة أبي بكر.

ولقد بلغ من صحة فكره وصدق ظنه وقوة حسه أنه كان يظن الأمر فيقع به أو قريبا منه. ولذلك قال عمر: إنك لن تنتفع بعقل المرء حتى تنتفع بظنه.

فمما يدل على صدق ظن أبي بكر وحس نفسه أن عائشة لما دخلت عليه في شكاته التي قبضه الله إليه فيها، أنشدت عنده شعرا تذكر فيه ما رأت في أبيها. قال أبو بكر: لا تقولي هذا يا بنية. ولكن قولي: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}، أي بنية إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي بالعالية، وإنك لم تحوزيه ولم تقبضيه، وإنما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت عائشة: إنما هي أسماء! قال: إنه ألقي في روعي أن ذا بطن بنت خارجة [جارية]، فوضعت جارية فسميت أم كلثوم.

وله مما كان يقع في خلده ويصدق فيه ظنه وتصح فيه فراسته أمور عجيبة.

ولو قالوا: إن عليا كان من فقهاء أصحاب النبي لقد كان ذلك عدلا وقصدا، وحسنا جميلا، كما قال إبراهيم والشعبي: الفقه من أصحاب النبي في ستة: في عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.

وقد زاد قوم أبا الدرداء وأبا موسى. وقد قال مسروق: انتهى علم أصحاب رسول الله إلى هؤلاء الستة: عمر وعلي وعبد الله وأبي ومعاذ وزيد.

وقال الشعبي: كانت القضاة أربعة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري.

فلو أنهم كانوا يرضون بقول الفقهاء ورأي التابعين، ولم يسرفوا وقصدوا، كان ذلك قصدا. ولقد تعدوا فيه الحق حتى قالوا: لم يقل قط قولا يمكن أحسن منه، ولا قال قولا قط فرجع عنه، وقد علمنا أن له غير رجعة، لا اثنتين ولا ثلاثا، وأقاويل لا يجوزها أصحاب الفتيا، وما كان إلا كبعض فقهائهم الذين يكثر صوابهم ويقل خطاؤهم، ولم تكن لتجمع جميع هفوات إنسان وأخطاءه حتى تقرأه مجموعا إلا ظننت به العجز. وليس ذلك كذلك، لأنك لو قذفت بجميع ذلك في محاسنه لخفي عليك موضعه، ولصغر خطره وقدره.

وإنما حكينا هذا لأنهم جمعوا لعمر وعثمان أمورا أرادوا بها عيبهم ونقصهم، ولعمري إن الخطأ لخطأ حيث وقع، ولكن ربما كان خطأ لا يخرج صاحبه من الحكمة. والخطأ أمر لكل بني آدم فيه حظ ونصيب، وهو أمر لم يسلم منه نبي ولا صديق ولا شهيد ولا أحد من العالمين.

ومما نقررهم به مما رواه حمال الآثار من رجوعه وما لا يجوز من فتياه، قوله: أجمع رأيي ورأي عمر على عتق أمهات الأولاد، ثم رأيت أن أربهن.

ونقلوا جميعا أن عمر وعليا اختلفوا في الجد، فقال علي بقول، وقال عمر بقول، ثم رجع عمر إلى قول علي ورجع علي إلى قول عمر.

ونقلوا جميعا أن زيد بن ثابت قال لعلي وهو يحاجه في المكاتب: أرأيت إن زنى أكنت راجمه، قال: لا. قال: أرأيت إن شهد أتقبل شهادته؟ قال: لا. قال زيد: فهو إذن عبد ما بقي عليه درهم. فسكت علي.

وزعم أصحاب داود بن أبي هند، عن داود عن الشعبي، أن عليا رجع عن قوله: "في الحرام ثلاث".

وكلم علي عثمان أن يحجر على عبد الله بن جعفر في شئ كان اشتراه، وقد كان الزبير قال لعبد الله: خذه فأنا شريكك. فقال له عثمان: كيف أحجر على إنسان شريكه الزبير؟ فسكت علي.

وقال في المكاتب، إذا أدى من ثمنه شيئا: إنه يسترق بحساب ويعتق بحساب.

وقال في النصرانية تسلم وهي تحت النصراني قال: هو أحق بها ما لم يخرجها من دار الهجرة.

وقال في رجل قال لامرأته: "اختاري" واختارته، ثم قال: "اختاري" فاختارته، ثم قال الثالثة: "اختاري" فاختارته؟ قال: أفرق بينهما، فإن أنا فعلت كذا وكذا.

وقال في أعور فقأ عين صحيح، فأراد الصحيح أن يفقأ عين الأعور الذي فقأ؟ قال: لا يفقؤها إلا أن يؤدي نصف الدية.

وقال في الجد: إنه سادس ستة، وسابع سبعة، وكتب إلى عبد الله بذلك، وقال: قطع الكتاب واجعله سابعا.

وقال في جارية وثبت عليها امرأة رجل غائب فاقتضت عذرتها بإصبعها، ثم قذفتها لتسقطها من عين بعلها، وكانت خافت أن يتزوجها، فرفع ذلك إليه فقال لبعض بنيه: قل في هذه المسألة. قال: عليها صداق مثلها، قال: لو كلفت الإبل الطحن طحنت! فاشتد تعجب أصحاب عبد الله من هذه المقالة.

وكان يرى حك أصابع الصبيان إذا سرقوا.

وكان إذا قطع الرجل قطع القدم وترك العقب ليمشي عليه المقطوع، وليعتمد به. وكان يقطع اليد من أصول الأصابع ويدع الكف.

وزعم عبد الله بن سلمة وغيره، عن الأعمش، عن الشعبي أو عن غيره، أنه سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق ألف تطليقة، وله أربع نسوة؟ قال: تبين بثلاث وتقسم الباقية على نسائه.

ويقال لهم: هل تعلمون أن الله ذكر آدم وهو أول النبيين فقال: {فنسي ولم نجد له عزما}.

وذكر موسى وقتله النفس. وذكر يونس بن متى فقال: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه}. فالدليل على أن يونس قد كان صنيع وأساء قوله: {سبحانك إني كنت من الظالمين} وقول الله: {فالتقمه الحوت وهو مليم}.

وذكروا داود وسليمان في قضية واحدة ذهب عنها داود وأصابها سليمان، حيث يقول الله: {وفهمناها سليمان} فلم يكن ذهاب داود بمخرجه من قول الله: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}. وقد كان منه ما قد علمت، حتى أنزل الله عليه الملكين يكنيان عن قصته، ويزيدان وعظه في قصة: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب}.

وقد عاتب الله جل ثناؤه نبيه في غير موضع فقال: {عبس وتولى}، وقال: {لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} وقال: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.

وعاتبه في الاسرى وأخبره أنه قد تقدم أمره في إطلاقهم حتى قال: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.

وقال الله وهو يريد جمع المأمورين والمنهيين: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}.

فإذا كان الله قد أخبر بما ترى عن المعصومين فلم يتتبع قوم على عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان خطاياهم وهفواتهم، وللعمرية والعثمانية أن يعودوا عليهم بمثل ذلك وأكثر منه؟

ومن أجهل من رجل زعم أن عليا لم يخط قط ولم يعص قط، ولم يضيع شيئا قط، وقد سمع الله يحكي أمور أنبيائه، ويذكر أحوال رسله؟ ولسنا نحتاج في هذا الباب إلى أكثر من هذا.

وكيف يقولون: علي فوق الناس كلهم في صواب الرأي، والفقه في الدين، ولا يكون كالرجل من عظماء السلف لضرب يخصه فيهما، ونحن إذا سألنا الفقهاء وأصحاب الآثار والعلماء عن أصحاب القرآن الذين كانوا مخصوصين بحفظه على عهد رسول الله ، قالوا: زيد بن ثابت وأبو زيد، وفلان وفلان. ولم يذكروه في باب المخصوصين بحفظ القرآن أيام حياة رسول الله .

فإن سألناهم عن أصحاب الحروف والقراءات والوجوه، الذين بقراءتهم يقرأ الناس، وبقدر اختلافهم اختلف الناس، قالوا: زيد بن ثابت وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود. ولم يذكر معهم. لأنا شاهدنا الناس يقولون: هذا في قراءة عبد الله بن مسعود، وهكذا هو في مصحف عبد الله، وهذا في قراءة أبي، وهكذا هو في مصحف أبي، وهذا في قراءة زيد، وهكذا هو في مصحف زيد. ولم نرهم يقولون: هذا في قراءة علي، وهكذا هو في مصحف علي.

وإن سألناهم عن أصحاب التأويل والتفسير قالوا: عبد الله بن عباس، والحسن، وفلان وفلان. ولم يذكروه في هذا الباب.

وإن سألناهم عن أصحاب الرواية، والمشهورين بكثرة الإسناد عن رسول الله قالوا: ابن عمر وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعائشة وأبو هريرة. ولم يذكر معهم في هذا الباب.

وإن كان الدليل على فقه المتبوع فقه أتباعه فعبد الله بن مسعود وعائشة أفقه منه، لأن أصحاب عبد الله وعائشة أفقه من أصحابه، فكيف صار أفقه خلق الله كلهم. والقصة على ما أنبأناكم ووصفنا لكم.

على أنه كان فقيها عالما، قد أخذ من كل باب بنصيب، ولا نقول فيه - إذ كنا عثمانية وعمرية - قولكم في عمر وعثمان. أوما تعلم أن الخبر مستفيض بأن النبي قال: "أقرؤكم أبي"؟ فترى أبيا كان أقرأ منه. وقال: "أفرضكم زيد" فترى زيدا كان أفرض منه. وقال: "وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ" فترى معاذا كان عند النبي أعلم منه. وقال: "وأقضاكم علي" فينبغي أن يكون علي أقضى منهم. وأنتم لا ترضون أن يكون زيد أفرض منه، ولا أبي أقرأ منه، مع أن" أقضاكم علي" ليس هو في حديث البصريين، فإن كان كما رواه البصريون فهؤلاء النفر أعلم منه. وإن كان كما رواه غيرهم فكل واحد أفقه من الآخرين فيما ذكرته. فهذا هذا.

فإن صرت إلى أن تسأل الناس عن الاختيار، وجودة الرأي، والقوة في السلطان، والضبط للعدو والعوام/ قالوا: أبو بكر وعمر.

وإن سألت عن الفتوح قالوا: أبو بكر وعمر وعثمان، لأن أبا بكر رد الإسلام في نصابه برد أهل الردة، وهو الفتح الأكبر، وقتل مسيلمة، وأسر طليحة، وغزا العدو ومنع الحوزة.

ولأن عمر دون الدواوين، وفرض الأعطية، وجند الأجناد، ومصر الأمصار، وجبى الفئ، وبلغت خيله إفريقية، وأوطأ خيله خراسان وأقصى كرمان، وأزال ملك بني ساسان.

ولأن عثمان هو الذي افتتح الثغور كلها، افتتح إرمينية، افتتحها حبيب بن مسلمة الفهري وافتتح أذربيجان، افتتحها المغيرة بن شعبة، وقد كان الأشعث معه فيها، وافتتح إفريقية، افتتحها له عبد الله بن سعد بن أبي سرح/ وافتتح سحستان، افتتحها له عبد الله بن سمرة.

فهذا باب المخصوصين بالفتوح.

وإن سألت عن الدهاة وأصحاب الإرب والمكايد قالوا: عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان، ولم نذكر فيهم زيادا لأن زيادا لا صحبة له. فهذا باب الدهاة.

وروى الناس عن قبيصة بن جابر الأسدي، وكان علامة داهية حكما، أنه قال: "ما رأيت رجلا قط أخوف لله من أبي بكر، ولا أقوى في دين الله من عمر، ولا أصدق حياء من عثمان، ولا أوصل لرحم ولا أعطى من تلاد مال من طلحة، ولا أكثر مخارج في الأمور من معاوية، ولا أحضر جوابا ولا أكثر صوابا من عمرو" ولم نره ذكره.

ثم الذي كان من أسماء بنت عميس، ومن قولها - وعلي بن أبي طالب شاهد، لما تفاخر عندها بنوها من جعفر وأبي بكر وعلي، قال لها علي: اقضى بينهم - قالت: ما رأيت شابا أطهر من جعفر، ولا رأيت شيخا أفضل من أبي بكر، وإن ثلاثة أنت أخسهم لفضلاء.

فهذه قضيتها، ولم يرو عن علي في ذلك إنكار.

فإن قلتم: إن قولها ليس بحجة. قلنا: قد صدقتم لو كان ليس بحجة إلا قولها فقط، ولكن الأمور إذا جاءت من هاهنا وهاهنا كان اجتماعها دليلا على أنه لم يكن عندها مع فضله وصلاحه وسابقته وقرابته ذا رأي.

ولقد بلغه ذلك عن قريش حتى قام خطيبا معتذرا فقال في خطبته: "حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد مراسا لها ولا أطول تجربة مني. لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، فها أنا الآن قد ذرفت على الستين، ولكنه لا رأي لمن لا يطاع".

وقال الأحنف بن قيس لما قدم عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وهو قتيل المختار بن أبي عبيد في أيام فتنة ابن مخربة العبدي: ما هذا الذي أنتم فيه؟ قالوا: قدم عبيد الله بن علي يدعو الناس، قال: إن كان لا بد فجنبوها حسنا وأبا حسن، فإنا لم نجد عندهم علما بالحرب، ولا إنالة للمال.

وقيل لأبي برزة الأسلمي: لم آثرت صاحب الشام على صاحب العراق؟ قال: وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه، وأنظر لما في نفسه.

وفي قول العباس بن عبد المطلب، وهو حليم قريش - وإذا كان حليم قريش فهو حليم العرب، والحلم اسم جامع للعلم والحزم - وذلك أنه لما قبض عمر وصلى صهيب بالناس دعا العباس عليا فقال: هل أحدثتم شيئا؟ فقال: فاحفظ عني، فإني لم أقدمك في شئ إلا رأيتك مستأخرا، من ذلك أني قلت له ورسول الله ثقيل: ادخل عليه فسله، فإن يكن هذا الأمر فينا أعلمه الناس، وإن يكن في غيرنا أوصى بنا، فتركت ذلك وقد منيت بدهاة قريش، وقد حيل دوني، فلا يعرضن عليك شئ إلا قلت: لا لا، ولا يا أبتي، تعصر عينيك وتحك قفاك بعد فوت الامر.

ففيما ذكرنا دليل أنه كان لا يساوي أبا بكر ولا يجاريه، ولا يدانيه ولا يقاربه. وأنه في طبقة أمثاله طلحة والزبير، وعبد الرحمن وسعد.

فإن قالوا: فإن عليا كان أزهد فيما تناحر الناس عليه، ولأن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة، ولأن أرغبهم في الآخرة أعلمهم بأحوال الآخرة.

قلنا: قد صدقتم في صفة الزهد، ولكن أبا بكر كان أزهد منه. وسندلكم على ذلك.

فمن ذلك أن أبا بكر كان ذا مال كثير، ووجه عريض، وتجارة واسعة، فأنفق ذلك في سبيل الخير وعلى أهله، إيثارا لله ولرسوله، وطلب ما عنده حتى لقى [الله] وما كنت تركته يوم مات غير بعير ناضح. وعبد صيقل، مع الخلافة وكثرة الفتوح والغنائم والخرج والصدقة.

وكان علي بن أبي طالب مقلا مخفقا يعال ولا يعول، فاستفاد الرباع والمزارع، والعيون والنخيل، ومات ذا مال وأوقاف، وما يحسب ماله ووقفه بينبع إلا مثل كل شئ ملكه أبو بكر مذ كان في الدنيا إلى أن فارقها، وتزوج فأكثر، وطلق فأكثر، حتى عابه بذلك معاوية، وجعله طريقا إلى تنقصه، وسبيلا إلى الطعن عليه، فقال وهو يكني عن ذكره ويريده، ليكون أسد لسهمه، وأوقع في قلب من سمعه: "إني والله ما أنا بنُكحة ولا طُلقة".

والآثار أن عليا رحمة الله عليه استشهد وعنده تسع عشرة سرية مطهَّمة وأربع نسوة عقائل.

ولا سواء من كان ذا مال فأنفقه، ومن كان مقلا فكسبه.

ولم يتزوج أبو بكر في خلافته امرأة ولا اتخذ سرية، ولا تفكه بشئ، ولا آثر لذة إن كان له طلقا مباحا.

ثم الذي كان من أبي بكر في عمالته: أنه كلف بني تيم ومن عنده أياديه ومنته أن يردوا ما أخذ من بيت المال فيه، لكي يجعل عمالته لله. وعلى ذلك احتذى عمر. وقد كان علي يأخذ عمالته، ولم يخبرنا أصحاب الآثار أنه ردها في بيت المال، ولا كلف ذلك بني هاشم في وصية. وهذا ما لا يختلف فيه رجلان من أصحاب الآثار، وحمال الأخبار.

وقد كان أخذ لقوحا وحبشية لرضاع بعض ولده فرد ذلك في بيت المال.

ولما بايع الناس أبا بكر غدا على سوقه كما كان يفعل، فقالوا: فلا بد أن نجعل لخليفة رسول الله شيئا يقيمه، قالوا: برديه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مكانهما، وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل خلافته. قال: رضيت. فجمع ذلك كله وحفظه، ثم أمر بني تيم فردوه في بيت المال. فخرج من الدنيا خفيف الظهر، خميص البطن. فلما فعل ذلك قال عمر: رحم الله أبا بكر، لقد شق على من بعده!

فإن قالوا: أوليس قد كان علي ينضح بيت المال في كل جمعة ويصلي فيه ركعتين؟

قلنا: إنا لم نكن في ذكر الأمانة والخيانة، لأن أبا بكر وعليا يرتفعان عن هذا الضرب من المديح، وعن هذا الضرب من الثناء، وإنما كنا في ذكر الزهد في المباح، وفي الإيثار والرفض للفضول، لأن بين الرجل يعطي ما له وعليه، وبين من يعطي ما عليه ولا يعطي ما له فرق.

ومما يدل على فضله أن الله أنزل فيه من القرآن ما لم ينزله في أحد من المهاجرين والأنصار، كل ذلك يخبر عن فضله، ويدل فيه على مكانه منه، ويثني عليه ويزكيه ويعظمه. وليس من أفرد الله فيه الآي، وأفرده بالذكر كمن ذكره في جملة المؤمنين، وجمهور الأنصار والمهاجرين.

ولا سبيل إلى المعرفة بأن الله عنى بآية كذا وآية كذا فلانا دون غيره إلا بضربين: إما أن يكون اسمه وخاصة نسبه ونعته مسطورا في الآية، كما ذكر فرعون وأبا لهب، وفلانا وفلانا، وكما ذكر آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا وعليهم.

أو يكون المراد بالآية وإن لم يذكر اسمه، كما ذكر لقمان، وزيد. [وزيد] مشهور النسب معروف القصة أنه المراد بالآية، وبشهرة القصة والنسبة حتى لا يكون بين أهل ذلك الدهر في ذلك تنازع، ولا بين أصحاب التأويل والأخبار في دهرنا هذا، فيكون كأنه مسمى وإن لم يسم.

وقد كانت تحدث بين الناس أمور فينزل القرآن عقب ذلك، فيعلم المهاجرون والأنصار من المراد بهذا التنزيل. كالذي كان من شأن عائشة وما قرفت به، حتى أنزل الله لذلك السبب آيا كثيرا، وإن لم يكن الله سمى عائشة ولا من قرفها. وكالذي نزل من القرآن في قصة الغار وهجرة النبي وأبي بكر، وهربهما من قريش، ونصرة الله لهما.

فكان مما أنزل الله في أبي بكر من تفضيله وتزكيته وإن لم يسمه قوله لجميع المؤمنين: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}.

فلا يخلو قوله: {إلا تنصروه} من أحد وجوه: إما أن يكون خاطب به المشركين عامة، أو خص به الخاذلين العادين والباغين، أو يكون خاطب به المؤمنين.

ولا يجوز أن يكون عنى به المشركين، لأنه لا يجوز في الحكمة وفي المعروف من البيان أن يقول الرجل الحكيم المبين، للعدو المكاشف بعداوته، المظهر لضغنه، الباذل لرأيه وماله، المعاند في فعله: إلا تنصرني فقد نصرني فلان! لأن النصر لا يلتمس من العدو المكاشف، وإنما يلتمس من الولي أو من الخاذل.

وكيف يقول هذا وإنما غايته الانتصار منه بغيره.

وفي قول الله عز وجل: {إذ أخرجه الذين كفروا} دليل أن المخاطب بالكلام غير الذين كفروا به وجحدوه وأخرجوه. ولا يجوز أن يكون عنى الخاذلين له من قريش ومشركي مكة إلا والخاذلون قد كانوا هناك معروفين، بائنين من العادين المتوثبين المبادين بالعداوة المظهرين للمحاربة، ولا نعلمهم كانوا ببطن مكة صنفين متمايزين، [و] فريقين متباينين، حتى يكون كل حزب مشهورا بالذي هو عليه من الخذلان والعداوة، وليس بطن من بطون قريش إلا وقد لقى النبي منه أعظم المكروه وإن كانوا في ذلك على طبقات: من مجتهد لا يبقى، ولا يفتر ولا يسأم، ومن رجل مائل معهم بضلعه، مبد معهم لضره، وإن كان لا يبلغ غلو الآخر وتصميمه وقلة إغفاله.

ولقد كانت خزاعة وثقيف على بعد أنسابها وأرحامها أحسن تقية من قريش في إظهار العداوة، والأرصاد بالمكروه، والثبات على البغي، كالذي بلغك عن الأخنس بن شريق وعروة بن مسعود وبديل بن ورقاء، من ركونهم إلى الصلح وحبهم للسلامة، مع قلة التسرع والتوثب، على أنهم قد أجلبوا وطعنوا، وكفروا وكذبوا، بعد الإفصاح لهم بالحجة، والإبانة لهم عن المحجة.

ولقد كان أبو لهب على قربه وقرابته شبيها بأبي جهل في الغلظة والقسوة والجفاء، وكثرة التدري وقلة السآمة.

ولم يكن أبو طالب يوم نزلت هذه الآية حيا مقيما فيكون الله جل ذكره عناه فيمن أطاعه من رهطه بهذا الكلام. على أنه لو كان حيا لقد كان معلوما أنه لم يكن هناك أحد أحسن ذبا، ولا أشد نصرا، ولا أظهر معونة، ولا أشد حماية منه.

ولم يكن الله ليعرف قوما موضع الخلة في النصرة، والتقصير في المدافعة، إلا وأدنى منازلهم أن يكونوا مقرنين لمن ناوأهم، مضطلعين بدفع من شاقهم.

ولا نعلم يوم كانت هذه القصة، ونزلت هذه الآية، وبمكة رجل من بني هاشم مطاع متبوع غير العباس بن عبد المطلب. ولا يجوز أن يقول الله للعباس ومن كان في ذراه ممن يسمع له وينفذ لأمره: {إلا تنصروه فقد نصره الله} وقد علم أن العباس وأشباهه من مشيخة بني عبد مناف لا أعوان لهم يومئذ من بني عبد مناف، لأن بني عبد مناف دِنيا على قربهم وقرابتهم، كانوا أشد الخلق على رسول الله، كأبي سفيان بن حرب، وعقبة بن أبي معيط، والحكم بن أبي العاص، وأبي أحيحة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وفلان وفلان. ولم تكن أمية انمازت في ذلك الدهر من هاشم، وكان يقال للحيين: عبد مناف. [و] كان من أمر عثمان الذي بلغك.

فقد دل الكلام على أن الله إنما عنى بالآية المؤمنين دون الكافرين، إذ كانت مخاطبة العادي والخاذل على ما وصفنا. وليس أنه أراد تأنيب المؤمنين وتقريع المهاجرين، ولكنه أخبر عن تقصيرهم عن فضيلة أبي بكر إذ ظعنوا وأقام. وليس النقص في الفضل كالنقص في الفرض. فكأنه تعالى وعز قال: لو كنتم صبرتم مع نبيكم ما أقام إلى وقت الإذن، كصبر أبي بكر معه، ولم تخرجوا هاربين جازعين، ولدار نبيكم مهاجرين، كان أشد لصبركم، وأكمل لرغبتكم، وأنم لتقيتكم، وليس أنكم عصيتم في خروجكم، ولكن بعض الصبر والاحتمال أفضل من بعض، وكذلك الطاعة تطوعها وفرضها، كما قد علمتم أن بلالا وخبابا وعمارا حين فضهم المشركون عن دينهم جزع عمار وأعطاهم الرضا، مع انطواء قلبه على الإخلاص، وثلج صدره بالإيمان، ولكن عزمه كان منقوصا عن التمام، من غير أن يكون ذلك عصيانا ولا خلافا. ويدلك على ذلك قول الله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان}. ولذلك قال النبي لعمار: "إن عادوا فعد". يريد بن التوسعة والرخصة والإطلاق، وليس على الأمر والترغيب.

وكما بلغك عن الرجلين الواردين على مسيلمة، حين قال لأحدهما: أتعلم أني رسول الله؟ قال: نعم. قال: أفتعلم أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأمر به فقتل، وقال للآخر: أتعلم أني رسول الله؟ قال: نعم، قال: فتعلم أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بتخلية سبيله. فلما بلغ ذلك النبي قال: أما الأول فمضى على عزمه ويقينه فهنيئا له، وأما الثاني فأخذ برخصة الله فلا تبعة عليه.

فعلى هذا المثال كان تقصير القوم، لا على وجه الخلاف والمعصية.

وذلك أن أبا بكر أقام بمكة ما أقام النبي ، وهاجر الناس الأول فالأول، فبعض أتى المدينة، وبعض أتى الحبشة، حين اشتد عليهم البلاء وطال الذل وقل الناصر، وقويت الضغائن، فكان النفر بعد النفر، والرجل بعد الرجل، يستأذن النبي في الهجرة فيأذن له. وأقام أبو بكر وحيدا لا أنيس له، وذليلا لا ناصر له، وخائفا لا أمان معه، في كل يوم يزدادون عليه قوة ويزداد عنهم ضعفا فإذا بلح وبلغ المجهود، ولم يبق في قواه فضل يستعين به على الصبر، استأذن النبي في المضي إلى إخوانه واللحاق بهم، فيقول له: "لعل الله أن يجعل لك صاحبا" فيزداد بها أبو بكر قوة، وتحدث له بها همة. وهذه كلمة ما قالها النبي لمستأذن قبله، فيعلم أبو بكر عند ذلك أن النبي إنما عناه، فيشجع من نفسه، ويشد من منته، طمعه في شرف الصحبة، وإكرامه إياه بفضيلة المرافقة.

وقد استأذن النبي الناس [قبله] بسنين، فكان أولهم أبو سلمة بن عبد الأسد، وآخرهم عمر بن الخطاب، لقرب حال عمر في الفضل والصبر من حال أبي بكر. فكأنه خاطب المهاجرين، على التعريف لهم بفضيلة صبر أبي بكر على صبرهم، مشحذة لهم على إعطاء الجهد، وترغيبا لهم في غاية الصبر في مستقبل الأمور وحوادث الامتحان. فكأنه قال: إذا لم تستتموا الصبر، ولم تبلغوا غاية الجهد، ولم تصبروا ما أقام، فقد نصرته أنا إذ أخرجته ثاني اثنين.

والدليل على ما قلنا قول عمر لقريش حين بادأهم العداوة، ونصب لهم الحرب، وأحس من نفسه بالجلد وشدة الشكيمة، وقوة العزيمة: "أما والله أن لو قد صرنا مائة لتركتموها لنا إن تركناها لكم" يعني مكة.

فلو كان جميع من هاجر إلى الحبشة وأتى المدينة على مثل هذا العزم والاحتمال والدفع، وهم جميع، لكان ذل من أقام ووحشته أقل، ونفوسهم أطيب.

والدليل على فضيلة مقام أبي بكر على ظعنهم أنهم حيث هاجروا ونزلوا بالنجاشي والأنصار فنزلوا بأكرم منزول به، فكانوا في ذراه آمنين، رافهين وادعين، إلا ما كان من قصة جعفر، وسعاية عمرو، وإحماش النجاشي وتهييجه. فما كان ذاك إلا صدر نهار حتى جعل الله العاقبة للمتقين. وأبو بكر والنبي من الوحدة والقلة، والجفوة والوحشة، وخفة ذات اليد، والسب والإهانة، والخوف بالقدر الذي لا يأتي عليه قول وإن كثر، ولا يبلغه وهم وإن اتسع.

وهكذا روينا عن الضحاك وقتادة وأبي بكر الهذلي في تأويل هذه الآية: أن الله عاتب جميع المؤمنين بها غير أبي بكر. ولو لم يكن رواية ولم يفسر ذلك صاحب تأويل، لم يجز أن يكون تأويله غير الذي قلنا، للذي شرحنا وفصلنا.

ولو كانت هذه المخاطبة وقعت على الخاذلين والعادين، أو على الخاذلين دون العادين والمؤمنين، لقد كان لأبي بكر في الآية ما ليس لأحد، فكيف بها إن كانت في المهاجرين. لأن في قوله: {ثاني اثنين} معنى عظيما، وفي قوله: {فأنزل الله سكينته} معنى عظيم.

فإن قالوا: كل ما عظمتم فعظيم، ولكن بعضه لا يجوز إلا للنبي دون أبي بكر. وهو قوله: {فأنزل الله سكينته عليه}.

قيل لهم: استكرهتم التأويل، وصرفتم الكلام عن سننه، وغير تأويلكم أشبه بكلام العرب، وأظهر في بيان الخطباء، ومراجعة الحكماء. وذلك أن النبي كان هو الرابط الجأش، الثابت الجنان، الساكن النفس، وهو المعزي لأبي بكر، والمسهل عليه شدة حزنه، والمطيب لنفسه، والمسكن لحركة قلبه، للذي رأى وعاين من اكتراثه ومن اضطرابه، وقلة سكينته، وهذه الحال التي فيها قلب النبي وخليفته، وأبو بكر على ما وصفنا وفرقنا، هي الفاصلة بين النبي وبين خليفته، إذ كان الخليفة قد شارك النبي في حضوره واحتماله، وبان منه النبي بشدة عزمه وسعة صدره، وسكون قلبه، كالفصل الذي بين الخليفة وولي عهده.

وكذلك تعجل عمر الهجرة قبل أبي بكر، فكان بذلك أنقص فضلا منه، وتأخر بعد المهاجرين، فكان بذلك أتم فضلا منهم.

وفي قول الله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه} دليل على أن السكينة نزلت على صاحبه، وأن الهاء التي في {عليه} مضمر فيها صاحبه. ولا يشبه أن تكون السكينة نزلت على من لم يخل من السكينة وقلة الاضطراب، وعلى المسهل على صاحبه والمطيب لنفسه والمبشر له بالنصر، حين يقول: {لا تحزن إن الله معنا}. وهو كما أخبر أبو معاوية الضرير، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت: في قول الله: {فأنزل الله سكينته عليه} قال: على أبي بكر، فأما النبي فقد كانت السكينة عليه من قبل ذلك.

فإن قالوا: فكيف وقد قال الله على نسق الكلام: {وأيده بجنود لم تروها}، والمؤيد بالجنود في هذا الموضع لا يجوز أن يكون إلا النبي ، لأن الجنود الذين عنى الله ملائكته.

قيل لهم: وما تنكرون أن يكون الله أيد رجلا بالملائكة، بشفاعة النبي وبشارته وبحق صحبته، كما أيد الله جميع أهل بدر بالملائكة. وكما زعموا أن الملائكة نزلت في زي الزبير، وليس أن الله حين أيد أبا بكر بالملائكة أنه أراه جبريل وميكائيل، ولكن ليعلمه النبي أن بحضرته ملائكة قد أرسلهم الله ليمنعوه من المشركين، ليسكن بذلك روعه، وتهدأ نفسه، وليثق بحضور النصر وتعجيل الدفع.

وقد علمنا أن الله لم يجعل مع كل مؤمن ملكين يكتبان خيره وشره استذكارا، ولكن المؤمن إذا شعر بمكانهما كان أقطع له عن ركوب الأدناس وأدعى له إلى الاستحياء، وليعلم أن الأمر جد وليس بهزل.

فكذلك إحضار الملائكة لأبي بكر، ليكون بشارة النبي له بذلك تسكينا لنفسه، وتعجيلا لبعض ما استحق بالاحتمال والمواساة والصبر، من الثواب المعجل دون المؤجل.

ولقد بلغ من ظهور قصة أبي بكر وصحبته ومرافقته وكونه مع النبي في الغار، أن الروافض مع شدة الإقدام والجرأة على تكذيب الناقلين، لم تقدر على دفعه ورده، حتى قال منهم قائلون: إنما أخرجه النبي خوفا من أن يدل عليه ويسعى بأمره إلى أعدائه، لأنه كان حسن من النبي بالهجرة، وعرف ميقاته الذي عزم عليه.

وكيف يجوز أن يخاطب الله الناس فيقول: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} والذي به كان النبي بائنا قد أبر على الأعداء وأربى على الكفار، لأن النفاق أعظم من التصريح. وهذا ما لا يجوز في عقل، ولا يسنح في فكر، ولا يجوز في التعارف، ولا يليق بالبيان.

وكيف والله يقول على اتصال اللفظ باللفظ والمعنى بالمعنى، وتركيب الآية الأخرى على الأولى: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا}.

ولا كافر أعظم كفرا، ولا أشد عنودا من ثانيه وصاحبه في الغار، ورفيقه في الطريق، والمعزي لشدة حزنه، إن كان الشأن على ما قالوا وكما وصفوا.

وإنما المنافقة أن يكون الرجل معتقدا لجحد الرسول وعداوته، ولكن الرسول هو الغالب على داره القاطع لمن بادأه بالعداوة، وناوأه في الفضيلة، فإنما يستبقي نفسه بنفاقه، وبتزميل حقده، وإخفاء ضغنه. فأما رجل مقيم بمكة قليل مفرد، وذليل مطرد، وخائف مشرد، بين استخفاء يعدل الموت، أو هرب يقطع الأحشاء، والذي هرب معه مقهور مخذول، والغالب على داره عدوه، فكيف كان أبو بكر منافقا والحال على ما وصفنا؟

ولولا كثرة الفساد وما عم الناس من الغلط وفحش الخطأ ما كان لذكر هذا وشبهه معنى.

والأثر المجتمع عليه من أصحاب السير والأشعار والأخبار، أن النبي قال لحسان: أما قلت في أبي بكر شيئا؟ فأنشأ يقول:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

التالي الثاني المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العداة به إذ صعد الجبلا

خير البرية أتقاها وأطهرها * إلا النبي وأوفاها بما حملا

فجعله تاليا وثانيا وصاحبا.

وقال أبو محجن:

وسميت صديقا وكل مهاجر * سواك يسمى باسمه غير منكر

سبقت إلى الإسلام والله شاهد * وكنت جليسا بالعريش المشهر

وبالغار إذ سميت بالغار صاحبا * وكنت رفيقا للنبي المطهر

فجعله سابقا وصديقا وجليسا وصاحبا.

وقال كعب بن مالك:

سبقت أخا تيم إلى دين أحمد * وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا

فجعله سابقا وجعله صاحبا.

وقال النجاشي:

غداة أتى بدرا وحر جلادهم * وكان جليسا بالعريش مؤازرا

فلو لم تكن له مأثرة إلا ما دلت عليه هذه الآية، وإلا شرف هذه الصحبة، وموقع هذه الخاصة، ونبل هذه المرافقة، ومشاهده الثقة، لكان فوق الجميع في المكانة والفضيلة، وفي مرافقة النبي .

سمع أهل مكة الهاتف بالليل على قرن الجبل وهو رافع عقيرته، يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه * خليلي صفاء طردا كل مطرد

هما نزلا في الصبح ثمت هجرا * وأفلح من أمسى رفيق محمد

ليهنئ بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد

وقال الحارث بن هشام:

رفيقان في المحيا وفي الموت ضمنا * بأكرم مثوى منزل ومكان

فهذا هذا.

ثم الذي كان من قصة مسطح بن أثاثة وقضيته، وكان ربيبه وابن خالته وفي مؤونته وتحت جناحه، فلما قرفت عائشة بالذي قرفت به وبلغك، آلى أبو بكر ألا ينظر في وجهه، ولا ينفق عليه ولا يكفله ولا يمون عياله، فلما أنزل الله عذر عائشة وبراءتها، ولم يرض لها بالطهارة والعفة حتى جعلها غافلة، فضلا على أن يكون خطر ذلك على بالها فتنفيه، إيثارا للحلال على الحرام، وأنزل الله على رسوله في آية يأمر أبا بكر بالصفح عن مسطح، والتجاوز عن ذنبه، وتغمد ما كان منه، وأن يعيده في كنفه وعياله. فقال: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة}. فما ظنك بإمرئ يقول الله له وفيه هذا القول، ويصفه بهذه الصفة حتى يقول: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} فتلاها رسول الله على أبي بكر، فلما انتهى إلى قوله: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" قال أبو بكر: بلى يا رب! فعفا عنه، فوجبت له المغفرة، وأعاده إلى نعمته، وجعل عياله في حشاه وتحت ظله.

فمن أعظم قدرا من رجل يفرد الله له الآي فيه معظما لشأنه، ذاكرا لفضله على لسان جبريل ومحمد عليهما السلام. فهذا هذا.

وقد أجمع أهل التأويل على أن الله عنى بقوله: {والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين} أبا بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأمه.

وكان أبو بكر وأهل بيته أهل بيت إسلام: كان هو مسلما، وامرأته مسلمة، وأبواه مسلمان، وبناته مسلمات. وليس في العشرة الذين قال لهم النبي إنهم في الجنة، ولا في قريش قاطبة رجل مؤمن مؤمن الأبوين غير أبي بكر الصديق، ولا في قريش خاصة والمهاجرين عامة صاحب ابن صاحب ابن صاحب غير عبد الله قتيل الطائف، ابن أبي بكر الصديق، ابن أبي قحافة المسلم يوم مكة، والقائل فيه رسول الله لأبي بكر: "فهلا تركت الشيخ في منزله فأتيناه". وله صحبة.

واجتمع أهل التأويل على أن قوله: {أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أم من يمشى سويا على صراط مستقيم} نزلت في أبي بكر وأبي جهل. ألا ترى أن أبا جهل رأس الكفر، فلم يقرن به ولم يوضع بإزائه من المسلمين إلا رأس مثله.

وقال الله: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} الآية، يعني أبا بكر في إنفاقه المال وعتقه الرقاب والمعذبين، وقوله: {كذب وتولى} يعني أبا جهل، وليس في الأرض صاحب تأويل خالف تأويلنا ولا رد قولنا إن هذه الآية نزلت في أبي بكر.

وأما قوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما}. فزعم ابن عباس أن القوم الذين ذكرهم بنو حنيفة، وأبو بكر استنفر إليهم العرب، وضمهم إلى المهاجرين والأنصار، حتى أظفر الله يده وأظهر حكمه.

وأما غير ابن عباس فزعم أنهم فارس والروم.

فإن كان [ذلك] كذلك فإن أبا بكر هو المستنفر إلى قتال الروم. وإن كان عمر هو المقاتل لكسرى فإن ذلك راجع إلى أبي بكر بتأسيسه لعمر واختياره له.

وقد زعم جويبر عن الضحاك في قوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} قال: أبو بكر وعمر.

وقد زعم وكيع عن الفضل بن دلهم عن الحسن في قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: هم والله أبو بكر وأصحابه.

ومثل هذا كثير، ولم يجئ المجئ الذي يحتج به المنصف والمرشد. ولكن الحجة القاطعة في إجماع المفسرين في الآيات التي ذكرناها قبل في قصة الغار، والنصرة، وفي قصة مسطح، والعفو عنه والإنفاق عليه، وفي قصة عبد الرحمن بن أبي بكر وأبويه ودعائهما له إلى الإسلام ورده عليهما، وقصة أبي بكر وأبي جهل.

وقالت العثمانية: فإن زعمت الرافضة أن الله أنزل في علي آيا كثيرا، فكان مما أنزل فيه وفي ولده قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. فأولي الأمر علي وولده. فلعمري لئن كان أصحاب الأخبار قد أطبقوا على أنها نزلت في علي وولده إن طاعتهم لواجبة، وإن كان هذا شيئا تقوله متقول، أو جاء من وجه ضعيف، فهو مع ضعفه شاذ. وليس في ذلك لكم حجة، لأن الحديث قد يحتمله الرجل الواحد الثقة عن مثله، فيكون شاذا، ما لم يكن مستفيضا شائعا قد نقل عن المستفيض الشائع. وقد يكون الحديث يحتمله الرجلان والثلاثة وهم ضعفاء عند أهل الأثر فيكون الحديث ضعيفا لضعف ناقليه، ولا يسمونه شاذا، إذا كان قد جاء من ثلاثة أوجه، وإنما الحجة في المجئ الذي يمتنع فيه العمد والاتفاق. وهذا الجنس من الخبر هو الإجماع.

وليس يكون الخبر إجماعا من قبل كثرة عدد الناقلين، ولا من قبل عدالة المحدثين، وإنما هو العدد الذي نعلم أنهم لم يتلاقوا ولم يتراسلوا ولا تتفق ألسنتهم على خبر موضوع، مع اختلاف عللهم وأسبابهم، ثم يكون معلوما عند سامع ذلك الخبر من ذلك العدد، أنهم قد نقلوه عن مثلهم في مثل أسبابهم وعللهم.

فإذا كان معلوما أن فرعه كأصله كان ذلك موجبا لليقين ونافيا لعرو الشك واسترابة التقليد.

وهو كنحو ما نقلوا من قصة الغار وقصة مسطح.

فأما ما قالوا وادعوا أن الله عنى بقوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} عليا وولده دون جميع المهاجرين، فليس من شكل ما اشترطنا، ولا من فن ما بينا؛ لأن أصحاب التأويل زعموا أنها نزلت في عمال النبي وولاته، وفي المسلمين، وفي أصحاب سراياه وأجنادهم كالعلاء بن الحضرمي وأبى موسى الأشعري وعتاب بن أسيد وخالد بن الوليد ومعاذ بن جبل، يأمر الناس بطاعة الأمراء والتسليم لولاة أمورهم.

حديث عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن تأويل قول الله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فقلت: من أولو الامر؟ فقال: هم أصحاب محمد، قلت: إنهم يزعمون أنه علي، فقال: علي منهم.

وهذا من أثبت وأحسن ما يروون في تأويل هذه الآية، ومن أحرى ما جمع الفريقين على تقبله والرضا به، إذ قائله العالم المقبول عند الفريقين، والرئيس الذي لا أحد فوقه في عصره عند الروافض.

وزعم محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس، أن الله أنزلها في عبد الله بن حذافة السهمي.

فإذا كان تأويلها مشهورا بما ذكرنا من الاختلاف، فليس فيها للمتشيع حجة.

وزعموا أيضا أن الله أنزل في علي: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} يقول: في طاعة علي.

والكلام في هذا كالكلام فيما قبله. لأن أصحاب الأخبار والتأويل لا يعرفون ذلك.

والخبر المشهور عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وغيره أن الله أنزلها في ناس من مسلمي أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يقيمون السبت، ويعافون الذبيحة، لرسوخ العادة، وغلبة الألف، فأنزل الله فيهم: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} يقول: ادخلوا في جميع الشريعة، {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} وزينته لكم الحكم بألفكم له، ونشوكم كان فيه.

وزعموا أن الله أنزل: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}.

قيل لهم: أما ظاهر الكلام فيدل على ما قال أصحاب التأويل، كابن عباس وغيره، حين زعموا أنها نزلت في عبد الله بن سلام ورهط من مشركي أهل الكتاب، وذلك أنهم أتوا النبي عند الظهر فقالوا: يا رسول الله، إن بيوتنا قاصية ولا نجد مسجدا دون هذا المسجد، وإن قومنا لما صدقنا الله ورسوله عادونا وتركوا مخالطتنا، وأقسموا ألا يكلمونا.

فبينما هم يشكون عداوة قومهم لهم إذ نزلت: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} فلما قرأها النبي قالوا: رضينا بولاية الله ورسوله والمؤمنين. وأذن بلال للصلاة، فخرج النبي إلى المسجد وهم معه، والناس من بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، فتلا النبي : {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} الآية. فإن تكن هذه الآية كما قال ابن عباس ومجاهد، فليس لعلي فيها ذكر. وإن يكن الأمر ليس على ما قال ابن عباس فليس تأويل الرافضة بأقرب التأويل.

وقد عرفنا أن تأويل ظاهر هذا الكلام يشبه غير الذي قالوا، وليس لنا أن نجعله كما قالوا إلا بخبر عن النبي ، أو بإجماع من أصحاب التأويل على تفسيره، وذلك أن قوله: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} يدل على العدد الكبير، وأنتم تزعمون أنه عنى عليا وحده، وليس لأحد أن يجعل {الذين} لواحد إلا بخبر يجمع عليه. فإن لم يقدر على ذلك فليس له أن يحول معنى الكلام عن ظاهر لفظه، والذي عليه التعامل والتعارف. ولفظ الجميع معروف من لفظ المفرد. لأن الرافضة تزعم أن سائلا دخل المسجد فسأل الناس وعلي راكع، فلم يعط شيئا، فنزع علي خاتمه فأعطاه، فأنزل الله فيه: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. وأنت إذا سمعت بتأويل ابن عباس وتأويلهم علمت أن تأويلهم بعيد من لفظ التنزيل، قرب تأويل ابن عباس منه.

ولو كان الأمر كما قالوا ما كان أحد أعلم به من ابن عباس ولا أشعر به منه.

وأنتم تزعمون أن عليا كان أزهد من أن يحول عليه الحول وعنده مال راهن يجب عليه فيه الزكاة.

ولو كان ذلك كذلك ما كان بلغ من قدر صنيع رجل في إعطاء درهم ودرهمين من زكاته الواجبة ما إن يبلغ به إلى هذا القدر الذي ليس فوقه قدر، أو يكون كان علي مشهورا بإعطاء الزكاة وهو يصلي.

ولو كان هذا هكذا لكان مشهورا مستفيضا. وكيف اتفق له ألا يزكي إلا وهو يصلي؟

وإن كان تطوع بإعطاء الخاتم على جهة الإيثار والمواساة فليس بمعروف في الكلام أن يكون الرجل إن تصدق بالدرهم والدرهمين متنفلا ومتطوعا أنه معط زكاة، لأن الزكاة عندنا ما وجب إخراجه وكان تطهيرا لسائر ماله، وسببا للنماء والبقاء. إلا أن يحمل الكلام على الشاذ، وعلى أبعد المجاز. وليس هكذا كلام الحكيم يريد أن يدل الأمة على إمامته، ويوجب عليهم طاعته.

ولا بد في هذه الآية من أحد ضربين: إما أن يكون لفظها يدل على ما قالوا دون ما قال غيرهم، وإما أن تكون قد نزلت في قصة مشهورة لعلي كقصة الغار حين كانت لأبي بكر.

فإن لم تجدوا إلى واحد من هذين سبيلا فلم يبق إلا أن تزعموا أن الرسول قال للناس: إن هذه في علي فاعرفوا له حقه وفضيلته. ولو كان ذلك كذلك ما اختلف فيه أصحاب التأويل، ولا قال فيه ابن عباس الذي قال.

قالت العثمانية: قد زعمت الروافض أن الله أنزل هذه الآية في علي فاعرفوا له حقه وفضيلته.

ولو كان ذلك كذلك ما اختلف فيه أصحاب التأويل، ولا قال فيه ابن عباس الذي قال.

قالت العثمانية: وقد زعمت الروافض أن الله أنزل فيه: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}.

ولا يجوز أن يقول: {ومن عنده علم الكتاب} وهو يعني عليا إلا وعلي قد كان أشهر من هناك بعلم الكتاب.

وكيف يكون ذلك وقد توفي النبي وهو لم يجمع الكتاب بعد؟ وقد زعم الشعبي أنه لم يجمعه إلى أن مات.

وكيف يكون من المشتهرين بعلم الكتاب وأنت إذا سألت أصحاب الأخبار والتأويل عن أسماء أصحاب التأويل ذكروا ابن عباس ومن دون ابن عباس بطبقات كالحسن البصري ومجاهد والضحاك وعكرمة، وفلان وفلان وفلان، ولا يذكرونه في هذا الصنف، كما لا يذكرون فيه أبا بكر وعمر وعثمان، لأنهم لم يكونوا بالمشتهرين بالتأويل وحفظ القرآن ومعرفة معانيه، لأن غير ذلك كان أغلب عليهم منه، وقد أخذوا منه بنصيب. ولم يكونوا كمن تجرد لمعرفة التأويل حتى غلب عليه كما غلب على زيد بن ثابت الفرائض، وكما غلب علم التأويل على ابن عباس، وكما غلب كثرة الأسانيد وعدد الآثار على ابن عمر وجابر وعائشة، وكما غلب على أبي وعلى عبد الله القراءات.

ولو كان للناس أن يقولوا في هذه الآية على الظن وما هو أشبه لكان أولى الناس بها عبد الله بن عباس، لأنه كان أعلم الناس بالقرآن. ولو لم يكن عرفنا فضله فيه بالذي ظهر منه، لعرفنا فضله وإن بطن وغاب عن العيان لقول النبي فيه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". فكيف وقد ظهر من علمه بمعانيه وغريبه، وإعرابه وقصصه ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، ومكيه ومدنيه، ما لم نجد عند أحد شطره ولا قريبا منه.

وقالت العثمانية: إنه لا يعجز أحد أن يعمد إلى كل آية في القرآن فيدعي أنها في أبي بكر وعمر كما ادعيتم ذلك في علي، وإنما الشفاء والبيان في صحة الشهادة، وظهور الحجة.

وزعمت العثمانية أن من الدليل على فضيلة أبي بكر على علي أن النبي سماه "الصديق" دونه، وليس بعد اسم النبي اسم أنبه من الصديق، حتى كان لا يقال قال أبو بكر وفعل أبو بكر إلا والصديق متصل به، وحتى ربما قالوا قال الصديق وفعل الصديق، استغناء عن اسمه وكنيته.

ولقد قال النبي : "الزبير حواري وابن عمتي، وطلحة حواري" وقال: "عثمان ذو النورين" فلم يقل المسلمون: قال عثمان ذو النورين، وقال الزبير الحواري، وقال ذو النورين، استغناء عن أسمائهما وكناهما.

فإن كان المسلمون أشاعوا اسم أبي بكر وتركوا أن يشيعوا اسم غير أبي بكر، لفضل رأوه في أبي بكر، فهو الذي قلنا وادعينا. وإن كان ذلك منهم لشئ رأوه في وجه رسول الله وفي صنيعه بأبي بكر، فلا شئ أدل على الفضيلة والمباينة منه.

ولم يسمه النبي عليا باسم ينسبه به، لأن ذلك لو كان لظهر كما ظهر اسم من ذكرنا. ولا سماه أحد من أصحاب رسول الله باسم بان به كما سمى أصحاب رسول الله أبا بكر خليفة رسول الله.

ولأبي بكر اسمان يدلان على الفضيلة والمباينة: أحدهما لم يسم به قط إلا نبي أو من يتلوه، والآخر لم يسم به أحد من الناس.

فأما الاسم الذي لم يسم به إلا نبي فقوله "الصديق" بإجماع من المسلمين على هذا الاسم أنه لأبي بكر دون غيره. وأما الاسم الذي لم يسم به مؤمن قط ولا بعده، فقول جميع الأمة: يا خليفة رسول الله.

فإن كان الذي نقل إلينا أنه [كان] يكتب في دهر النبي : "من خليفة رسول الله" ويكتب إليه: "إلى خليفة رسول الله". وكما كان الحسن يحلف بالله أن النبي هو تولى استخلافه، فلا منزلة أعظم منها قدرا، ولا أرفع منها شأنا.

وإن كان المسلمون أجمعوا له على ذلك لخاصة رأوها فيه، فكفى به شرفا وقدرا، ومزية وذكرا.

وإن زعم قوم أن الأسماء التي ارتضاها الرسول وحبا بها أصحابه لا تدل على فضيلة ولا على خاصة كرامة، وجسروا على أن يقولوا إنه ليس في قول النبي لحمزة إنه: "أسد الله وأسد رسوله" فضيلة، وليس في قوله: "الزبير حواري" فضيلة - فليس عندنا في ذلك إلا مثل ما لهم في صدور أهل القبلة من الإسقاط والإهانة.

فإن قالوا: إن اسم الصديق مولد موضوع محدث، أحدثته العثمانية والحشوية.

قيل لهم، فلعل قولهم: إن حمزة أسد الله وأسد رسوله، وإن جعفرا الطيار في الجنة، وإن الزبير حواري رسول الله، مولد موضوع صنعته الشيعة، وأحدثه أتباع الزبير يوم الجمل. لا فرق بين ذلك.

وكيف يكون اسم الصديق مولدا محدثا، وأكثر من تكلم به ليسوا بذوي نحلة فيتقدروا له، ولا بذوي معرفة فيعرفوا فضله، ولا ذوي قرابة فيطلبوا السبق به، مع الذي نجده في الأشعار الصحيحة القديمة، وليس بين الأشعار والأخبار فرق إذا جاءت مجئ الحجج.

وإنما ذكرنا الأشعار مع الأخبار ليعرفوا ظهور أمره، ووجوه دلائله وقهر أسبابه، وليكون آنس للقلوب، وأسكن للنفوس، وأقطع لشغب الخصم، ولجحد المنازع.

فمما جاء من الأشعار في ذلك قول شريح بن هانئ الحارثي، وكان معمرا وكان شيعيا، وهو يرتجز في بعض حروبه:

أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا

ثمت أدركت الرسول المنذرا * وبعده صديقه وعمرا

ويوم مهران ويوم تسترا * وباجميراوات والمشقرا

والجمع من صفينهم والنهرا * هيهات ما أطول هذا عمرا

ألا ترى أن هذا شريح بن هانئ سمى أبا بكر صديقا على ما لم يزل يسمى به.

وقال العجاج بن رؤبة، وهو أعرابي ليس بذي نحلة ولا صاحب خصومة، وقد أدرك الجاهلية:

عَهْدَ نبي ما عفا وما دثر * وعهد عثمان وعهدًا من عمر

وعَهدَ صديق رأى برا فبر * وعهد إخوان هم كانوا الوزر

وقال الحارث بن هشام بن المغيرة، حين بلغه وهو بمكة أن الأنصار قد كانوا اجتمعوا وقالوا لقريش في سقيفة بني ساعدة: منا أمير ومنكم أمير:

  • قبض النبي وبويع الصديق *

في قصيدة له طويلة، وهو التي يقول فيها:

  • وأراد أمرا دونه العيوق *

وإنما أردنا منها المعنى.

وقال أبو محجن في ذلك:

سميت صديقا وكل مهاجر * سواك يسمى باسمه غير منكر

وقال طريف بن عدي بن حاتم:

أبيدوا قريشا بالسيوف ليظهروا * معاهد دين الله بعد محمد

وصديقه التالي المعين بماله * طوي البطن محمود الضريبة مذود

وأول من صلى وصاحب حنكه * أصاخ لقول الصادق المتطرد

وبعد قتيل الهرمزان، وباركت * يد الله في ذاك الأديم المقدد

أقاموا طغاة حائرين عن الهدى * وليس يقوم الدين إلا بمهتد

فلما تولوا طامن الحق جأشه * وثاب إليهم كل غاو مطرد

أما قوله: "وثاب إليهم كل غاو مطرد"، فإن الغاوي مروان ابن الحكم، والمطرد أراد أباه الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله .

وقال حسان بن ثابت في ذلك أيضا، وهو يهجو بعض الشعراء:

لو كنت من هاشم أو من بني أسد * أو عبد شمس أو أصحاب اللوا الصِّيد

أو في الذؤابة من تيم وقعت بهم * أو من بني جمح الخضر الجلاعيد

أو من سرارة أقوام أولي حسب * لم تصبح اليوم نكسا مائل العود

لولا الرسول وروح القدس يحفظه * وأمر ربك حتم غير مردود

وأنني أحفظ الصديق مجتهدا * وطلحة بن عبيد الله ذا الجود

أتتكم خيلنا كاللوذ كالحة * تطوي السباسب بالشم المناجيد

من كل خيفانة طال اللجام بها * وكل مختطف الأقراب كالسِّيد

وقال طليحة الأسدي في ذلك:

ندمت على ما كان من قتل ثابت * وعكاشة الغنمي يا أم معبد

وأعظم من هذين عندي مصيبة * رجوعي عن الإسلام رأي المقيد

وتركي بلادي والخطوب كثيرة * طريدا وقدما كنت غير مطرد

فهل يقبل الصديق أني تائب * ومعط بما أحدثت من حدث يدي

وقال البارقي في ذلك أيضا:

بكر النعي بخير كندة كلها * بابن الأشج وخاله الصديق!

هؤلاء الذين ذكرنا: شريح بن هانئ والعجاج بن رؤبة والحارث بن هشام بن المغيرة وطريف بن عدي بن حاتم وحسان بن ثابت وطليحة الأسدي، ومن أشبههم، ليسوا بأصحاب خصومات ولا نظر في الفاضل والمفضول.

وإنما قدموه وسموه صديقا على ما لم يزل يسمى به. وهذا أكثر من أن نأتي عليه في كتابنا ونستقصيه.

والعجب من الروافض حين ترى ما قال رشيد الهجري والسيد الحميري ومنصور النمري حجة في أشعارها إذا كان ذلك القول في علي بن أبي طالب. وإذا قال حسان بن ثابت والعجاج والحارث بن هشام وأشباههم ممن ذكرنا في القدم والقدر في أبي بكر وعثمان وعمر وتقديمهم لم يكن حجة.

وفي قول عبد الله بن عباس لعائشة بعد الجمل في دار بني خلف الخزاعي حين أرسله علي بن أبي طالب إليها: "لم تقولين إنه ليس في الأرض موضع أبغض إلي من موضع أنتم به، ونحن جعلنا أباك صديقا وجعلناك أم المؤمنين" حجة في أن تسميته بالصديق قد كان مستعملا في ذلك الدهر.

وإذا أحببت أن تعلم قدر هذا الاسم الذي سمى به النبي أبا بكر فانظر في كتاب الله. قال الله جل ثناؤه: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا. ورفعناه مكانا عليا} وقال: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا} فذكر صديقيته قبل أن يذكر نبوته.

وقال في كتابه: {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسول وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون}.

ولكن انظر كيف نبين للروافض الحجج بالآيات والإجماع ثم انظر أنى يؤفكون، أي يسخرون بهذه الفضيلة له على علي.

ثم الذي كان من تأمير النبي أبا بكر عليه حين ولاه الموسم وبعثه أميرا على الحاج سنة تسع، وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة. وكان أبو بكر الإمام وعلي المأموم، وكان أبو بكر الدافع بالموسم، ولم يكن لعلي أن يندفع حتى يدفع أبو بكر. ولا يستطيع خلق من الناس أن يزعم أن سنة تسع دفع بالناس غير أبو بكر، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن سنة تسع لم يبعث النبي بصدر سورة براءة مع علي بن أبي طالب ليقرأه على الناس إذا فرغ أبو بكر.

فإن قال قائل: ألا ترى أنه كان لعلي بن أبي طالب في ذلك الموقف من الفضل ما ليس له لخصلتين: إحداهما أن النبي بعث معه بصدر براءة، وقال: "لا يبلغ عني إلا رجل مني". والأخرى فرط الاحتمال وشدة الخطار الذي احتمله علي حين يقوم بالبراءة وقطع العهد وقد وافى الموسم من قبائل العرب ومن الموتورين والناقمين والحنقين، العدد الذي لا يحصى، والقوة التي لا تدفع، فشمر عن ساقيه وأبدى صفحته، ففي هاتين الخصلتين دليل على أن له في ذلك ما ليس لأبي بكر، والمحنة عليه أشد.

قيل له: إن كان الشأن في شدة الخطار والتغرير والتعرض على ما قلتم، فنصيب أبي بكر في ذلك أوفر، والأمر عليه أخوف، وهو إليه أسرع، لأن أبا بكر كان هو الأمير والوالي والمتبوع، وعلي هو المؤتم والرعية والسامع والمطيع. وبين التابع والمتبوع والآمر والمأمور فرق.

وأما قولكم: إن النبي قال حين بعث بصدر سورة براءة مع علي بن أبي طالب: "إنه لا يبلغ عني إلا رجل مني" فإنما قال هذا وليس بحضرته أبو بكر ليكون علي قد قدم عليه، لأن النبي قد كان وجه أبا بكر قبل ذلك، ثم بعث عليا بعده فلحقه في الطريق.

وقد زعم ناس من العثمانية أن النبي لم يقل ذلك لعلي تفضيلا منه له على غيره في الدين، ولكن النبي عامل العرب على مثل ما كان بعضهم يتعرفه من بعض، وكعادتهم في عقد الحلف وحل العقد، فكان السيد منهم إذا عقد لقوم حلفا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العقد غيره، أو رجل من رهطه دنيا كأخ أو ابن أو عم أو ابن عم. فلذلك قال النبي ذلك القول.

ثم الذي كان من تفضيله عليه وعلى الناس جميعا أيام شكاته، حيث أمره أن يؤم الناس ويقوم مقامه في صلاته وعلى منبره، حتى أن عائشة وحفصة أرادتا صرف ذلك عنه لعلل سنذكرها في موضعها إن شاء الله، فقال النبي : "إليكن عني صواحب يوسف، أبى الله ورسوله إلا أن يصلي أبو بكر".

ولم يستطع أحد من الناس أن يقول إنه صلى بالناس في تلك الأيام غيره، ولا استطاع أحد أن يقول إن المأمور بالصلاة كان غيره، حتى قالوا بأجمعهم: اختاره رسول الله لديننا فاخترناه لدنيانا. وحتى قالوا: ولاه رسول الله صلاتنا، وزكاتنا تبع لصلاتنا، وهما معظما أمر الدين.

ولا يستطيع أحد أن يقول: إنه لما تقدم أبو بكر بالناس ليصلي بهم والنبي مسجى قال له رجل واحد: وما لك تصلي بنا على غير عهد ولا سبب. ولا قال رجل من خلفه مثل ذلك، ولا قال رجل من الأنصار: منا مصل ومنكم مصل، كما قالوا: منا أمير ومنكم أمير.

فإن كان الناس مع كثرة الخير والشر فيهم تركوا مجاراته ومدافعته في قيامه في مقام رسول الله لتبريزه كان عليهم عند أنفسهم، فكفى بذلك دليلا على الفضل وحجة على الاستحقاق.

وإن كان رضاهم بذلك وتسليمهم للذي ثبت عندهم من أمر رسول الله وتقديمه إياه، فليس لأحد في ذلك متكلم، ولا لشاغب فيه متعلق، ولا لواقف فيه عذر، والقوم جميع، ومصلاهم واحد، وتقدمه ظاهر.

ولم تكن صلاة واحدة فيكون خلسة. والقوم كانوا أشد تقديما لذلك المقام من أن يدعوا رجلا لم يقهرهم بسيف، ولم يمتنع عليهم بعشيرة، ولم يفض فيهم الأموال، وليس معه فضل بائن، ولا سبب من من قرابة، ولا أمر من النبي .

فإن صاروا إلى الاعتلال بالأحاديث وذكر الآثار قالوا: إنما نحتاج إلى المقابلة بين أفعال علي وأفعال غيره، لو كنا لا نجد له غير الأفعال. فإذا كنا قد وجدنا له من غير الأفعال ما هو أدل على الفضيلة من الأفعال، لم يكن لنا أن نتخطى الأفضل إلى الأنقص في دفع المتغلب وإقامة المستحق عند ظهوره وزوال التقية فيه. لا أنهم قابلوا بين جميع المهاجرين في القرب والبعد، ولا أنهم صنعوا العلم بفضله بعد موت النبي . ولكنهم قوم قد كانوا من قبل ذلك بثلاث وعشرين سنة يرى بعضهم بعضا ويعرف بعضهم أمر بعض، يغزون معا ويقيمون معا، ويسمعون من النبي القول بعد القول، ويرون أحوال الرجال عند النبي ، وفي المسلمين وفي أنفسهم، فعلموا بذلك فضل أبي بكر. فلما توفي النبي لم يحتاجوا مع علمهم الأول إلى أن يضعوا علما ثانيا.

ولو أن رجلا منا شاهد النبي وأصحابه سنة واحدة ما خفي عليه من المقدم عنده وعند المسلمين، ومن أشبههم به هديا وعملا، وطريقة وعزما. فما ظنك بالسلف الطيب، والخيار المنتخبين، وأس الإسلام ومرسى قواعده.

وذلك أن أبا بكر لا يخلو حيث أسلم أن يكون أسلم قبل الناس، أو ثانيا، أو ثالثا. فإن كان إسلامه قبل الناس فقد تبين للثاني تقدمه، وللثالث تقدمهما عليه. فإذا كانوا ثلاثة لم يخف عليهم أيهم أفضل. ثم إن أسلم بعدهم نفر لم يخف أيضا قصة الثلاثة المتقدمين. وكلما أسلم قوم لم يخف عليهم حال الأفضل بالذي يرون عند من أسلم قبلهم. فكانوا كذلك ثلاثا وعشرين سنة.

فقد أيقنا أن القوم لم يؤتوا في تقديم أبي بكر من الجهل بموضع الفضل، أطاعوا الله في إقامته أم عصوه. وكذلك لو كانوا قدموا غيره ما كانوا إلا متعمدين. وذلك أن الأفعال إنما تدل على ظاهر عدالة الرجل وفضيلته، ولا تدل على باطن طهارته وإخلاصه.

وقول الرسول في الرجل ومديحه له وإخباره عن فضله ومنزلته، والوحي ينزل عليه صباح مساء، أدل على طهارته وإخلاصه.

وإذا كان العبد كذلك كانت النفوس إليه أسكن، وكان من التبذل أبعد، مع السلامة من النفاق والدخل في الاعتقاد، لأن الغلط في خبر الرسول ونصه وتبيينه وإقراره للرجل بالفضيلة والاستحقاق، أقل من الغلط فيما بين أقدار الناس، من الموازنة بين أفعالهم وعقولهم، وعلومهم وتجاربهم، وصلاح الناس عليهم، مع كثرة عدد الأفعال المتساوية والمتقاربة، ومع كثرة عدد المتساوين والمتقاربين من الرجال.

فمما يدل على تفضيل النبي له قوله يوم غدير خم، وهو قابض على يده وقد أشخصه قائما لمن بحضرته: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم عاد من عاداه ووال من والاه". وقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي من بعدي". وقوله: "اللهم آتني بأحب الناس إليك يأكل معي من هذا الطير" ثلاثا، كل ذلك يحجبه أنس، طمعا أن يكون أنصاريا، فأبى الله إلا أن يجعله الآكل والآتي والأحب. ومن ذلك أن النبي حين آخى بين أصحابه فقرن بين الأشكال، وقرد بين الأمثال، جعله أخا من بين جميع أمته وعلية أصحابه.

قيل لهم: إن الأخبار لا بد فيها من التصادق كما لا بد في درك العقول من التعارف، فإن في عدم التعارف في حجج العقول والتصادق في حجج السمع عدم الإنصاف وبطلان الكلام.

وليس لكم أن ترفعوا خبرا له ضرب من الإسناد وتوجبون تصديق مثله. لأن كل واحد من الخصمين لا يعجزه دفع المستفيض بلسانه، فضلا عن دفع الشاذ، وإن كان ناقله عدلا في ظاهره، فإذا كان ناقله ذلك كذلك فأولى الأمور بكم وبهم الصدق، وليس كل من أراد الصدق في مثل هذا قدر عليه إلا بالتقدم في كثرة السماع واتساع الرواية.

وليس لأحد، وإن حسن عقله وصح فكره، أن يقول فيما لا يضاف علمه إلا من طريق الخبر، حتى يكون صاحب خبر وطالب أثر، فإذا صح عقله وكثر سماعه خفت مؤونته على نفسه وعلى خصمه.

أوما علمتم أن خصومكم، وهم أكثر منكم عددا، وأكثر فقيها ومحدثا، يروون أن النبي قال: "ليس أحد أمنّ علينا بصحبته وذات يده من أبي بكر، ولو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، لكن ودا وإخاء إيمان". فإن كان هذا الحديث كما نقلوا لم يجز أن يكون النبي آخا أحد إلا أن يكون الأخ غير الخليل، ولا نعلم الخليل إلا أخص منزلة وأقرب مودة. مع أن قوله: "ولكن" دليل على أنه قد كان آخاه.

وأعجب من هذا يروون أن النبي قال في شكاته وقبيل وفاته: "إنه لم يكن نبي قبلي فيموت حتى يتخذ من أمته خليلا، وإن خليلي منكم ابن أبي قحافة".

ويروون أن النبي قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر".

وقد تعلمون أن إسناده عبد الملك، عن ربعي عن حذيفة، والآخر سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله.

ويروون أن النبي نظر إلى أبي بكر وعمر مقبلين، فقال: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا الأنبياء والمرسلين، يا علي لا تخبرهما".

فزعموا جميعا أن عليا قال: ولو كانا حيين ما حدثتكم.

ويروون جميعا أن عليا قام في الناس خطيبا فقال: "ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، والثاني عمر، ولو شئت أن أخبركم بالثالث فعلت" فكنى عن ذكر عثمان.

ويروون أن النبي لما أسس مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، ثم جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه، فسئل النبي عن ذلك فقال: "هؤلاء أمراء الخلافة من بعدي".

وقالوا: لما قدم المدينة رسول الله خط لأهل قباء مسجدهم بعنزة فوضع النبي حجرا، ثم قال: يا أبا بكر ضع حجرا إلى جنب حجري، ثم قال: يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب عمر، ثم التفت إلى سائر الناس فقال: وضع رجل حجره حيث أحب.

ويروون أن النبي قال يوم الحديبية: "مثل أبي بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثله في الأنبياء مثل إبراهيم، ومثل عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالسخط، وفي الأنبياء مثل موسى" والحديث طويل ولكني اختصرته.

ويروى أن النبي وضع في كفة الميزان والأمة في الكفة الأخرى، فرجح بهم. ثم أخرج النبي ووضع أبو بكر مكانه فرجح بالأمة، ثم أخرج أبو بكر ووضع عمر مكانه فرجح بالأمة، ثم أخرج فرفع الميزان.

وقالوا: إن النبي قال: "أيها الناس، إن الله بعثني إليكم جميعا فقلتم: كذبت، وقال لي صاحبي: صدقت، فهل أنتم تاركي وصاحبي؟".

ومما يؤكد هذا قول النبي : "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا وقد كان له تردد وكبوة، إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم".

وقالوا: إن النبي قال: "إن أبا بكر لم يسؤني قط، فاعرفوا ذلك له" في كلام طويل.

فإن كان ما رويتم في فضيلة علي حقا، وما رووا في فضيلة أبي بكر حقا، فأبو بكر خير من علي، وعلي خير من أبي بكر. وهذا هو التناقض، والحق لا يتناقض. وفي هذا دليل أن النبي لم يتكلم بذلك ولا قاله، لأن الخبر إذا خرج مخرج العام في تفضيل أبي بكر، وكذلك في تفضيل علي، فليس له وجه إلا ما قلنا، إلا أن يكون النبي قد قال أحد القولين وصحت به الشهادة، ولم يقل الآخر، وإنما ولدته الرجال وصنعته حملة السير. ولا سبيل لنا إلى معرفة ذلك إذا كان الإسناد متساويا، وعند الرجال متقاربا. وليس في هذه الأحاديث كلها حديث يضطر خصمه إلى معرفة صحته، أو يكون النبي قد تكلم بكثير من هاتين الروايتين وكان معناه وقصده فيها معروفا عند من كان بحضرته، حتى كان الجميع يعرفون خاصه من عامه. ولكن الناقلين احتملوها عن السلف مجردة بغير تأويل معانيها، فأدوها على اللفظ العام، فصار السامع يتناقض عنده إذا قابل بعضها ببعض، لجهله بأصول مخارجها، وكيف كان موقعها.

والذي فسرت لك مثل تعرف به سمت الحجة وقصد السبيل.

وهو كما نقلوا أن النبي قال: "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر" ولم يكن بالنبي إلى استثناء نفسه حاجة، لمعرفته باستغناء الناس عن ذلك.

وقد عرفنا بوجه آخر أن حديث أبي ذر كان مخرجه مخرج العام وأنه خاص وإن لم تكن خصوصيته موجودة في لفظ الحديث، لأنك إذا سألت الشيع فقلت: أي الرجلين كان أصدق عند النبي : أبو ذر أو علي؟ قالوا بأجمعهم: علي. وإنما ترك النبي لعلمه بمعرفة المسلم بذلك من رأيه.

وكذلك لو سألت العثمانية فقلت: أي الرجلين كان أصدق عند النبي : أبو بكر أو أبو ذر؟ قالوا: أبو بكر، كقول الشيع في علي.

فقد أجمع الصنفان جميعا أن غير أبي ذر أصدق من أبي ذر.

ومن ذلك قول النبي : "منا خير فارس في العرب"، قالوا: من هو؟ قال: عكاشة بن محصن.

وليس بين الأمة تنازع أن زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب الطيار والزبير خير من عكاشة.

ومن ذلك قول النبي : "يأتيكم خير ذي يمن، [عليه] مسحة ملك". فأتاهم جرير بن عبد الله.

فلو كان هذ اللفظ العام عاما في معناه، ولم يكن النبي اتكل فيه على معرفة القوم، فترك لذلك الاستثناء والتفسير، لكان واجبا أن يكون جرير خيرا من سعد بن معاذ، ومن حمي الدبر، ومن غسيل الملائكة، ومكلم الذئب. وهذا ما لا يقوله مسلم.

ومن ذلك قول النبي لأبي سفيان بن الحارث: "أبو سفيان خير أهلي" وقد علمنا أن حمزة والعباس وعليا وجعفرا خير من أبي سفيان.

ومن ذلك قول النبي : "خير أهل الله عمر بن الخطاب" وقد أجمع المسلمون أن غيره خير منه، لأن الناس إما عمري وإما علوي، فالعلوي يقدم عليا، والعمري يقدم أبا بكر.

والجملة أنه لم يقل أحد قط: إن عمر خير الناس. فهذا باب قد فرغت [منه]، تعرف به أن النبي قد يتكلم بالكلام المعروف المعنى عند من حضره، فإذا نقلوا الكلام وتركوا المعنى التبس على العابرين وجه المعنى فيه.

فمن ذلك ما يعرف، كالذي حكينا من حديث أبي ذر وعكاشة بن محصن وجرير، ومنه ما يجهل كحديث علي وأبي بكر.

وقد نقلوا عن النبي في رجال كلاما وتفضيلا ما نقل مثله في أبي بكر وعلي اللذين فيهما التنازع.

من ذلك أنهم نقلوا عن النبي أنه قال: "كم من ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك". وهذا كلام عظيم إن كان حقا، وليس عندنا فيه إلا أن نرده إلى الله ورسوله.

وقد قال النبي في رجال كلاما لو كان قاله في أبي بكر وعلي لكان أصحابهما سيجعلونه في أول ما يحتجون به في الإمامة والتفضيل مثل قول النبي : "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وكرهت لها ما كره".

ومن ذلك قوله: "لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة".

وقوله في طلحة يوم أحد، حين واتاه السهم فوقى النبي فقال حين أصابه السهم: حس! فقال النبي : "لو قال باسم الله لرفعته الملائكة".

ومن ذلك دخول عثمان عليه وهو مكشوف الفخذ، فغطاها، فقيل له: يا رسول الله، لم تغطها من أبي بكر وعمر وغطيتها عند دخول عثمان. فقال: "كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة".

وقال: "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ".

فهذا أيضا باب يعرف به أن الرجل ليس يستحق التقديم بالرواية والحديث، إذ كان هؤلاء دون أبي بكر وعلي في الفضل، وقد جاء فيهم ما لم يجئ فيهما.

ولقد رووا في رجل لم يهاجر، ولم يصحب، ولم يشهد المشاهد، ولم ينفق، ولم يتعرض، ولم يدع إلى الله ورسوله، إلا أنهم زعموا أنه كان يطلب الحنيفية قبل مبعث النبي ، وهو زيد بن عمرو بن نفيل، فزعموا أن النبي قال: "يبعث يوم القيامة أمة وحده".

وأي شئ أدل على كل فضيلة من قول النبي لعمار: "لا تؤذوا عمارا فإنما عمار جلدة ما بين عيني".

ما أعطت الرافضة الطاعة أبدا، ولا رضوا من الناس بالأنصاف!

وقد علمنا أن حمزة وجعفرا وعليا كانوا أفضل من سعد بن معاذ، ولم يهتز لموتهم عرش الرحمن، وقتلوا شهداء، ولم تحم لحومهم الدبر، ولا غسلتها الملائكة.

فالله أعلم بمعاني هذه الأحاديث. ولعل النبي قال في كل رجل قولا عدلا. وكان ذلك قولا معروفا مفهوما عند الحاضر، ولكنه أدى اللفظ وترك المعنى.

فإذا كانت الأحاديث في أسلافنا وأئمتنا على ما حكيت لك لا تمنع من معرفة وتدافع ما وصل إلينا منه، كان واجبا أن يكون المفزع في أمرهم إلى الخبر الذي يجئ مجئ الحجة، وترك ما سوى ذلك مما لا يبرئ من سقم ولا يبرد من حيرة. وإنما الخبر الصحيح الذي لا يعتمد بضعف الإسناد، ولا يترك لضعف الأصل، ولا يوقف فيه لكثرة المعارض والمناوئ، كنحو ما روينا من مآثرهم في مقاماتهم ومشاهدهم، وكصنيع على ومؤازرته ببدر، وككون أبي بكر في العريش. وهذا ما لا يتدافع ولا يتناقض، لأن قتل على الأقران ببدر ليس بناقض لكون أبي بكر في العريش، ولأن موقف على بأحد لا يدفع كون أبي بكر في الغار، ولأن صنيع على بخيبر لا يدفع إنفاق أبي بكر الأموال، وعتقه الرقاب.

فهذا وما أشبهه مما لا تجد له رادا ودافعا، وليس هذا من شكل ما قالوا: أن النبي قال: "اقتدوا بالذين من بعدي بأبي بكر وعمر" ونقلهم أن النبي قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى". وكما نقلوا أن النبي آخى بين نفسه وبين علي، وأن النبي قال: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" في أشباه لهذا قد حكيت لك في صدر الكتاب، لتعرف مجرى الكلام في السلف.

فإن قالوا: فلعل النبي قال: "اقتدوا بالذين من بعدي" وقد كان معلوما في [ذلك] الوقت أن عليا كان مستثنى في هذا القول.

قيل لهم: ولعله قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" [و] قد كان معلوما في ذلك الوقت أن أبا بكر كان مستثنى.

فإن قالوا: الفرق في ذلك أنكم لا تنكرون روايتنا في علي، ونحن ننكر روايتكم في أبي بكر.

قيل لهم: إن العجز كل العجز أن تعيد على خصمك بشئ لا يعجزه. فإن أبوا إلا جحد الأخبار وتكذيب الآثار والإيجاب على الناس ما لا يوجبون لهم مثله فإن الذين نقلوا أن النبي قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" لم ينقلوا معه في الحديث: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه".

وإنما سمعنا هذه الزيادة من الشيع، ولم نجد له أصلا في الحديث المحمول.

روى الأعمش - وكان رافضيا - عن سعد بن عبيدة، عن ابن بريدة عن أبيه قال: بعث النبي عليا في سرية واستعمله عليهم، فلما جاء قال: كيف رأيتم صاحبكم؟ قال: فإما شكوته وإما شكاه غيري، وكنت رجلا مكبابا، فرفعت رأسي فإذا النبي قد احمر وجهه وهو يقول: "من كنت وليه فعلي وليه".

فواحدة أن الذي روى هذا الأعمش، وهو ظنين في علي مضعف عند أهل الحجاز. وسعد بن عبيدة ليس هناك.

وثانية أنه لم يقل من كنت مولاه، وقال: "من كنت وليه" فإذا اختلفت الألفاظ دل ذلك على الوهن. ولم يقل: "اللهم عاد من عاداه ووال من والاه". ونحن نشهد أن من كان النبي وليه فسعد بن معاذ وليه. وعلى أنهم قد رووا في شكاية أقوام في تلك الغزاة لعلي كلاما قبيحا.

ووجه آخر مما يدل في هذا الحديث على الاختلاف والوهن: أنهم نقلوا أن هذا القول في علي كان أن عليا جارى زيد بن حارثة في بعض الأمر، ولاحاه فيه، لأنه أغلظ له فرد عليه زيد مثل مقالته، فقال له علي: تقول هذا القول لمولاك؟ فقال زيد: إنما ولائي لرسول الله ، ولست لي بمولى. فأتى على النبي ، فشكا إليه زيدا، فقال النبي : "من كنت مولاه فعلي مولاه". وصدق النبي أن عليا مولى زيد، إذ كان النبي مولاه، وكذلك العباس والفضل وعبد الله وقثم وتمام ومعبد.

وإذا كانوا هؤلاء موالي زيد لأن النبي مولاه، فلعلم النبي من ذلك ما ليس لهم جميعا فإنما أراد النبي أن يعلم زيدا غلطه في ذلك القول، حين ظن أن ابن عم النبي ليس مولاه.

فإذا كان أمر على وزيد مشهورا عند أصحاب الآثار، فإنما عنى مولى النعمة، وليس في هذا إخبار عن فضل على في الدين.

ولو كان النبي قال كما زعمت الروافض: "اللهم عاد من عاداه ووال من والاه" كان هذا القول يدل على أن زيدا قد أتى جرما عظيما، فلم يكن ليتخطى دعاء النبي على من عادى عليا إلى غيره إلا بعد وقوعه به. لأن زيدا هو المشتكى، ومن أجل صنيعه خرج النبي إلى مثل هذا القول الشديد، وهذا الدعاء القاصم، ومن قوله ومذهبه غضب عليه، وعليه نص وإياه عنى.

وإنما يقول هذا ويجوزه من لا علم له بقدر زيد عند النبي . أوما علمت أن زيدا أحد من روى الناس عنه ونقلوا أنه كان أقدم الناس إسلاما. وقد دللنا على فضيلة إسلامه على إسلام علي في صدر كتابنا، في كلام العثمانية.

وقد بلغ من قدره عند النبي وتفضيله إياه أنه لم يكن في سرية قط إلا كان أميرها، ولا أقام ببلاد إلا وهو أميرها.

ويدلك على ذلك أن النبي أمّره على جعفر الطيار، وعقد له يوم مؤنة، ثم عقد لابنه أسامة على كبار المهاجرين والأنصار، منهم عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص. حتى قال رجال من المهاجرين - وكان أشدهم في ذلك عياش بن أبي ربيعة -: يولي علينا هذا الغلام! فغضب عمر ورد عليهم، ثم أتى النبي فقال: ألا أعجبك يا رسول الله من رجال يقولون كذا وكذا؟ فمشى النبي إلى المنبر في شكاته التي توفي فيها فقال:

ما مقالة بلغتني عن بعضكم في أسامة وتأميره، ولئن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن ابنه لخليق لها، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وابنه لمن أحب الناس إلي.

فهو الحِبّ وأبو الحب، وهكذا يقال بالمدينة: أسامة الحب.

ولذلك قال عمر لابنه عبد الله حين زاد في فريضة أسامة على فريضته، فقال له عبد الله: لم فضلته علي ونحن سيان؟ فقال عمر: إن أباه كان أحب إلى النبي من أبيك، وكان هو أحب إلى النبي منك.

وقالت عائشة عند وفاة النبي : لو كان زيد حيا لاستخلفه النبي عليكم.

هذا وأبوها الخليفة والمجعول إليه الإمامة.

ومما يدلك على فضيلة أبي بكر ومكانته وخاصته من النبي وعظم شأنه عنده، أن النبي [لما] آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين حمزة، وإليه أوصى حمزة يوم أحد. وقد تعلمون أن حمزة استشهد وهو أجل الناس في صدور المؤمنين، وأعظم في أنفس المهاجرين. وإن امرأ يكون كفئا لحمزة في الإخاء، وحمزة على ما وصفنا، لعظيم الشأن، رفيع المكان.

ولو لم يعرف من قدره إلا أن ذكره الله باسمه في كتابه، كما ذكر لقمان، ولم يفعل هذا لغيره من هذه الأمة، لقد كان ذلك دليلا على المنزلة والقربة، فكيف يجوز أن يكون في الحديث: "اللهم عاد من عاداه ووال من والاه" وحال زيد وصفته على ما ذكرنا وفسرنا؟ مع أن اللفظ في الحديث لو كان: "اللهم عاد من عاداه ووال من والاه"، لم يكن فيه دلالة تضطر إلى إمامته، وحجة تقهر العقول وتحملها على معرفة خاصته، ولكنه لفظ يدل على الفضل والقدر، وليس بالتفضيل الذي لا بعده، والتقديم الذي لا فوقه.

وإنما الكلام الذي لا بعده قول النبي : "ما أحد أمنّ علينا بصحبته من أبي بكر" وقوله: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" وقوله: "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين".

فإذا كان هذا الحديث مختلفا في أصله وفي صحة مخرجه، ومختلفا في تأويله وفرعه، والحجة في أصله متدافعة، والحجة في فرعه متكافئة، فكيف يكون جحد على إمامته واستحقاقه وفضيلته على نظرائه.

ولو كان هذا الحديث مجتمعا على أصله وصحة مخرجه، ثم كان لفظه محتملا لضروب التأويل، ما كان للروافض فيه حجة تقطع الخصم وتظهر المباينة.

ولو كان هذا الحديث مجتمعا على أصله وصحة مخرجه وكان لا يحتمل من التأويل إلا معنى واحدا، ما اختلفت في تأويله العلماء، ولا اضطربت فيه الفقهاء، ولكان ذلك ظاهرا لكل من صح لبه، وحسن بيانه، ولا سيما إذا كان الحديث ليس مفصحا عن نفسه، ومعربا عن تأويله، إلا عن قصد الرسول وإرادته، لأن يكفيهم مؤونة الرواية والأسباب المشككة. فينبغي على هذا القياس أن يكون علماء العثمانية وفقهاء المرجئة تعرف من ذلك ما تعرف الروافض، ولكنها تجحد ما تعرف وتنكر ما تعلم.

ولو كان هذا الحديث مجتمعا على أصله ولكنه غامض التأويل، وعويص المعنى، لا يكاد يدركه إلا الراسخ في العلم، البارع في حسن الاستخراج، كان العذر في جهل إمامته وفضيلته على غيره واسعا مبسوطا لأكثر المسلمين، وجل الناقلين، ولكبراء المتكلمين.

وإنما صارت الروافض إلى إكفار الأنصار والمهاجرين بزعمهم أن النبي نص على إمامته، ودل على فضيلته، فإنه لا بد للناس في كل عصر من إمام من ولده، لأن ذلك الموضع إذا كان مقنعا ومعلما كان أخف على الناس في المحنة، وأبعد من الخطأ والزلل، ولأن اختيار الله لهم لأنفسهم، لأنه لو كان ذلك لا يكون إلا بالنظر دون النص لم يصلوا إلى إقامته، لكثرة عدد الناس، ولكثرة عدد الفضل، ولما في ذلك من الاشكال عند الموازنة، والشغل عن العدو.

فإذا كان السبب في الإمامة هو الذي قالوا: فلا بد من حديث لا يحتمل التأويل، ولا يمنع من معرفة صحة أصله وصدق مخرجه.

فإن قالوا: فإنا سنأتيكم بمثل اللفظ الذي أتيتمونا به حتى لا يكون لفظ أدل على الغاية منه. من ذلك قول النبي عند طائر أتي به فأراد أكله فأحب أن يشركه في أكله أحب الناس إلى الله فقال: "اللهم آتني بأحب عبادك إليك يأكل معي هذا الطائر" ثم قال لأنس: اخرج فانظر من ترى بالباب؟ فخرج فوجد عليا فلم يأذن له، ولم يُعلم النبي مكانه طمعا أن يكون أنصاريا، ففعل النبي ذلك ثلاثا، كل ذلك يحجبه أنس، ثم أدخله، فلما طلع قال: "اللهم وال".

قيل لهم: أما واحدة فإن هذا الحديث ساقط عند أهل الحديث، ولو كان صحيحا عندهم فلم يجئ إلا من قبل أنس فقط، وأنس وحده ليس بحجة، فلم يكن في ذلك مقال ولا متكلم.

وثانية: إن أولى الناس ألا يحتج بخبر أنس لأنتم معشر الشيع، لأن أنسا عندكم كافر كذاب.

ولقد بلغ من سوء قولكم فيه أنكم زعمتم أنه كذب على علي، كذبه وبهته بأمر، فدعا الله عليه ثم بصق في وجهه فبرص من قرنه إلى قدمه. وأنتم تكفرونه بعمله للحجاج، وتزعمون أنه ليس في الأرض أكفر بالله ولا أجحد لإمامة علي ولا أنقض لأمره ولا أقتل لشيعته من الحجاج ولا من ولاه، وأن من ولي لهما في طريقهما وحكمهما.

وأخرى أنه إن كان هذا الحديث كما تقولون وقد صدقتم على أنس، فقد زعم أنس بزعمكم أنه كذب النبي في موقف واحد ثلاث مرات، وقد أمسك النبي عن الطعام وهو يشتهيه، فأحب لشهوته له أن يشركه فيه أشبه الناس به، فدعا ربه، وأنه إذ دعا ربه ثلاث مرار كل ذلك يستجيب له، وكل ذلك يراه أنس ويكذب له ويصده عن حاجته، ويمنعه سرعة الاستجابة، وتعجيل قضاء الحاجة، وتسويغه أكل المشتهى من طعامه. كلما دعا دعوة: قال اخرج يا أنس فانظر من بالباب، ثقة منه بربه، واتكالا على الذي عنده له، ويرجع وقد كتمه وحجبه عنه، ومنعه سرور تعجيل الدعاء وأكل شهي الغذاء.

فإن كان أنس كما تقولون فقد ركب أمرا عظيما، وذهب مذهبا قبيحا. وكيف يصدق على النبي من خلقه بهذا وكذبه في وجهه ثم لا تمنعه الأولى من الثانية، والثانية من الثالثة. هذا والوحي ينزل بأسرع من الطرف بلعن قوم ومدح آخرين.

وإن امرأ احتملت نفسه وشاع في طبعه أن يواجه النبي بالكذب ثلاث مرات في أحب الناس وأوجبهم حقا عليه، لحري ألا يصدق عليه في معظم أمر الدين، مع أن الحديث نفسه هو أضعف حديث عند أصحاب الأثر من أن يحوجنا إلى الإطناب فيه والإخبار عنه.

ومتى ادعينا ضعف حديث وفساده فاتهمتم رأينا وخفتم ميلنا أو غلطنا، فاعترضوا حمال الحديث وأصحاب الأثر، فإن عندهم الشفاء فيما تنازعنا فيه، والعلم بما التبس علينا منه.

ولقد أنصف كل الإنصاف من دعاكم إلى المقنع مع قرب داره وقلة جوره. وأصحاب الأثر من شأنهم رواية كل ما صح عندهم، عليهم كان أولهم، مع أن هذا الأمر ليس يعرف من قبل الحديث، وإنما يعرف من الوجه الذي به يقضي على جميع الدين.

وإنما احتججنا عليكم في أنس بالذي سمعتم، لأنا وجدناكم تكفرونه حتى إذا جرى سبب يؤكد ما تقولون جعلتم كفره إيمانا، وكذبه تصديقا، وعداوته ولاية. ثم لم ترضوا بأن ألحقتموه بالأولياء وأخرجتموه من حدود الأعداء، حتى أقمتم خبره وحده مقام خبر من يكذب آيًا به، أو مقام خبر يمتنع الكذب في مجيئه لاختلاف علل أهله.

فأما نحن فإنا نرى أنه رجل عظيم الحرمة واجب الحق، إذ كان قد خدم النبي صغيرا واعتصم به كبيرا، وكان من رهط صدق.

وأما ما حكيتم من ولايته للحجاج فقد ولي للحجاج وصلى خلفه من كان يرى إكفاره فضلا عن من يرى تفسيقه، وفي البراءة منه وفي التقية سعة، وفي الخوف عذر.

فأما الذي حكيتم من البياض الذي أصابه فإن المؤمن بعرض مصائب ما كان في دار الدنيا. وما كان الذي أصابه في جنب الذي كان فيه أيوب النبي ؟ وقد كان شعيب مكفوفا!

ولو كان على كما يقولون فأراد أنه كان إذا بصق على إنسان فأراد أن يبرص برص، لما كان بينه وبين عيسى بن مريم فرق.

والعجب إن كان كما تزعمون، كيف لم يبصق على أبي موسى فيجذمه، أو على جيش صفين فيهزمه؟ بل كان علي أظهر سلما وأرجح حلما وأشد ورعا وأكثر فقها وأبين فضلا من أن يدعي هذا وشبهه.

وليس يمدح عليا بما لا يليق به إلا هازل أو جاهل.

وأما قولكم إن النبي قال: "أنت مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" وأن النبي أراد بهذا أن يعلم الناس أن عليا وصيه وخليفته، فإنا سنقول في ذلك، وبالله وحده نستعين.

نقول: إن خلافة الرجل لا تكون إلا في إحدى منزلتين: إما في حياة المستخلف وإما بعد موته. ولم يقل أحد إن النبي استخلف عليا في غزوة من غزواته، في كثرة ما غزا وكثرة ما ولّى.

قالوا بأجمعهم: إن النبي خلفه في غزوة تبوك، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، وقال قوم: المستخلف ابن أم مكتوم. وهم إن اختلفوا فلم يختلفوا أن عليا كان مقيما بالمدينة والأمير غيره، والإمام سواه.

ولولا أن خلفاء النبي في غزواته يصاب عليهم بكل مكان، وفي كل سيرة، لقد كتبته لك في كتابي الذي رددت فيه على من صغر قدر الإمامة وزعم أنها غير واجبة، وأنها تصلح في العدد الكثير. وأما غير ذلك من كتبي فلم أنتحل فيه قولي، وجعلت الكتاب هو الذي عبر عن نفسه، وقمت مقام جميع الخصوم، وجعلت نفسي عدلا بينهم. ولو لم أكن على ثقة من ظهور الحق على الباطل لم أستحل كتمانه مع زوال التقية، وصلاح الدهر، وإنصاف القيم.

ثم رجعنا إلى كلامنا الأول فقلنا: لا بد لخلافة الرجل من إحدى منزلتين: إما في الحياة أو بعد الموت: فأما في الحياة فلا يستطيع أحد أن يقول: إن النبي استخلف عليا في حياته. وليس يضع ذلك من علي، لأن أبا بكر وعمر الذين هما عندنا أولى بالأمر منه لم يستخلفهما النبي قط في حياته. أو تكون الخلافة بعد الموت، فلا يجوز أيضا أن يكون النبي عنى بقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" الخلافة لعلي بعده، والذي قد علم أن هارون قد مات قبل موسى: لأن هارون وموسى وأمهما ماتوا جميعا في شهر واحد، وكان موسى آخرهم موتا. ولذلك قالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلت هارون.

فإن قالوا: ومن يقول: إن هارون مات قبل موسى؟

قيل لهم: إن شئتم فاعترضوا أصحاب التفسير والسيرة، والتمسوا علم ذلك من قبل أصحاب ابن عباس، وإن شئتم فأهل الكتاب يهودهم ونصاراهم الذين ليس لهم في ذلك دفع مضرة ولا اجتلاب منفعة، ولو آثروا أن يجحدوا ما عرفوا، وأن يطبقوا على إنكار ما علموا، وكان ذلك ممكنا في القدرة، سائغا جائزا، لجحدوا أن بني إسرائيل أخذت موسى بقتل هارون تعنتا وبغيا، أو غلطا أو جهلا.

وهذا مشهور عند أهل الكتاب وأهل التفسير.

وليس أحد أحق بأن يصيب في الأمثال إذا ضربها، ولا أولى بحسن التشبيه إذا شبه، من خيرة الله وصفوته من رسله، فكيف يجوز أن يقول النبي لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وهو يريد الخلافة، وهارون لم يكن من موسى خليفة من بعد موته، ولم يكن على خليفة النبي في حياته. ففي أي المنزلتين وعلى أية الحالين يكون على خليفة إذ لم يكن استخلفه النبي أيام حياته. بل كيف يجعله من نفسه بمنزلة هارون من موسى وهو يريد الخلافة من بعده، وهارون لم يكن خليفة موسى بعده.

ولا بد للحديث مع سوء تأويلكم واضطراب حجتكم من ضربين:

إما أن يكون باطلا لم يتكلم به النبي . وإما أن يكون حقا ومعناه غير ما قلتم. وتفسيره غير ما ادعيتم.

ولو أن النبي أراد أن يجعل عليا خليفة من بعده إذ لم يكن جعله خليفة أيام حياته، لقال: "أنت مني بمنزلة يوشع بن نون إلا أنه لا نبي بعدي" لأن يوشع كان خليفة موسى في بني إسرائيل بعده، وكان نبيا قبل موت موسى وبعده.

فإن قالوا: إن النبي لم يقصد إلى الخلافة ولم يرد الإمامة، ولكنه عنى الوزارة.

قلنا: إن وزارة هارون من موسى لا بد فيها من أحد أمرين:

إما أن يكون موسى هو جعل له ذلك وهو وزيره على جهة ما يتخذ الإمام وزيرا والملك وزيرا على معنى الاختيار والاستكفاء والثقة.

أو يكون وزيره على جهة المؤازرة والمكاتفة والتعاون، على أن كل واحد منهما وزبر صاحبه ومعاونه ومكاتفه، إذا غاب عن قومه كان الآخر خليفته، لا على أن موسى الجاعل ذلك له.

ولا منزلة لهارون من موسى إلا هاتين المنزلتين في جهة الخلافة والوزارة، لأن نبوة هارون لا تكون من قبل موسى، والنبوة لا تكون إلا من قبل الله.

وليس يخلو قول موسى لهارون: {اخلفني في قومي} عن ضربين: إما أن يكون هو جعله خليفته على جهة الاختيار والاستكفاء والثقة به، وإما أن يكون خليفة على أن يكون كل واحد منهما إذا غاب عن قومه كان الآخر خليفته.

فإن كانت وزارة هارون وخلافته لموسى إنما كانت منزلتين أنزله فيهما موسى، وليست لهارون من موسى منزلة غيرهما، فقال النبي : "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" فكأنما قال: لك خلافتي ووزارتي، فكيف يقول: إلا أنه لا نبي بعدي، والنبوة منزلة من الله لهارون وليست منزلة لهارون من موسى. فإذا كان ذلك كذلك فكيف يستثني الحكيم المرشد الشئ من [غير] شكله؟ وهل يكون بعض من غير كله؟

وكيف يقول: قد جعلتك خليفتي ووزيرا، إلا أني لم أجعلك نبيا مثلي، ومنزلة النبوة ليست إليه كما كانت منزلة الخلافة والوزارة إليه. وإنما قوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" يريد به: إن لك مني مثل الذي كان لهارون من موسى، وهو الخلافة والوزارة. فكيف يقول: "إلا أنه لا نبي بعدي" فيستثني ما لا يملكه ولا يجوز أن يملكه، مما قد ملكه ويجوز أن يملكه من هو دونه من خلفائه ومن خلفاء خلفائه.

أو يكون هارون كان وزير موسى على جهة المؤازرة والمعاونة، وعلى أن يكون كل واحد منهما وزير صاحبه وخليفته عند الغيبة وحضور الآخر، ليس أنه قد كان خليفة ووزيرا، وإن كان ذلك كذلك فليست لهارون من موسى منزلة من الوزارة والخلافة إلا ولموسى من هارون مثلها. وإذا كان ذلك كذلك فقد صارت خلافتهما ووزارتهما كنبوتهما أو رسالتهما. وإذا كان ذلك كذلك فكيف يجوز أن يقول النبي لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، وليست لهارون من موسى منزلة إلا ولموسى مثلها من هارون؟ وكيف يجوز أن يقول النبي ذلك لعلي ومنزلة هارون من موسى منزلة النبي من النبي، والشكل من الشكل، والمثل من المثل، وهي منزلة من الله كما أن نبوة موسى منزلة من الله؟

وكيف يقول: "إلا أنه لا نبي بعدي"، وسبيل النبوة سبيل منزلة هارون من موسى على ما حكيناه من التعاون والتآزر؟

وإذا كان هذا الحديث لو صح في أصله وأول مخرجه، وسلم من الزيادة والنقصان وجاء مجئ الحجة، لم يقدر القوم على أن يجعلوه دليلا موجبا وشاهدا صادقا على خلافته وإمامته دون غيره، فما ظنك به إن كان قد دخله من الخلل والضعف والاحتمال في الفساد ما يوجب تكذيبه ورده.

وأقل ما للعثمانية في هذا الحديث أن يساووكم في تأويلكم، وفي ذلك الخلاف بطلان حجتكم.

وقد زعم ناس من العثمانية أن هذا الحديث باطل من أجل أنه لا يحتمل من التأويل إلا ما حكيت لك، وأن النبي لا يعلن ولا يظهر غير ما يضمر، ولا يتكلم بالفاسد، ولا يستكره المعاني، ولا يتكلم بالمتعقد، ولا يضرب مثلا ولا يشبه شيئا بشئ إلا وذلك الشئ وفق ما قال: لا يزيد عليه ولا ينقص عنه.

ووجه آخر: أن هذا الحديث لم يرو إلا عن عامر بن سعد.

فواحدة إن عامر بن سعد هذا لو كان بالفقه والحديث والفضل معروفا وكان كأمثاله من بني الصحابة كعبد الله بن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم، ما كان ليكون وحده حجة في تأخير أبي بكر عن مقامه. فكيف وهو في غير سبيلهم وطريقهم.

ولو سمعنا هذا الخبر من سعد وحده ما كان إلا حجة على نفسه، كالحجة على علي في روايته أن النبي قال في أبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة".

وكيف يروي هذا سعد مع قوله في الإمامة: "ما أنا بقميصي هذا أحق مني بها" وهو يدعو عليا إلى الشورى والمخايرة والمكاثرة بالمحاسن، ويقول: "أعيدوها شورى كما كانت". ويعيب عليا بالاستبداد، ويقول: "كنت سابع سبعة مع النبي ، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، ثم جاءني أعرابي يعلمني دين الله، ما أنا بقميصي هذا بأحق مني بها".

وإنما فخر بأنه كان سابع سبعة على علي لأن عليا لم يكن فيهم عنده، وكان إما حدثا صغيرا وإما على أمر غير ذلك.

وسعد من العشرة، ومن الستة، ومن السبعة، والمستجاب الدعوة، وقال له النبي : "ارم فداك أبي وأمي". ومن كان لهذه الأمور مستحقا لم يجمع بين طلب مخايرة رجل ومكاثرته بالمحاسن وهو مقر أن النبي جعل خصمه منه بمنزلة هارون من موسى، إلا أن يكون تأويل الحديث عند سعد وعند من شهد سعدا على غير معناكم.

وحديث عامر على غير ما يروون، وإنما قال: "أنت مني بمنزلة هارون بن موسى، إلا أنه ليس معي نبي" هكذا رووه عن عامر بن سعد على غير معناكم.

وفي قول النبي : "هذا خالي أباهي به فليأت كل امرئ بخاله" تفضيل له على كل خال في الأرض، وقد كان علي خال جعدة بن هبيرة، ولم يستثن أحدا.

فإن قالوا: الدليل على ما قلنا أن النبي لما آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبينه، فلولا أنه كان أشبه الناس به هديا، وعلما وفضلا لم يجعله عدل نفسه دون غيره.

قيل لهم: أنتم ليس لكم علم بالأثر ولا بالخبر. وكيف يعرف الآثار والأخبار من يكفر الأسلاف، ويبرأ من التابعين، ويجحد كل ما لم يوافق هواه، ويدعي ما وافق هواه وإن كان باطلا، بل لا يرضى حتى يتقول الزور ويولد الباطل.

وليس شئ أيسر من أن يقول قائل: إن النبي لما آخى بين أصحابه آخى بين نفسه وبين أبي بكر. ولكن الحق أحق ما خضع له واحتمل ما فيه. وهذه الفقهاء وأصحاب الآثار عرضة لكم، فإن لم يقولوا إن النبي لما آخى بين المهاجرين والأنصار آخى بين علي وسهل بن حنيف فنحن أولى بجحد المعروف منكم. وقد قال الله: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.

وأنتم لستم أصحاب آثار، فاسألوا أصحاب الآثار إن كنتم لا تعلمون، فإن ذلك أمر مشهور لا خفاء به، ولا دافع له، أعني المؤاخاة بين علي وسهل بن حنيف.

ولثقة علي به استعمله على المدينة حين خرج عنها. ومن أجل سهل بن حنيف امتنع الزبير وطلحة أن يركبوا عثمان بن حنيف والي علي على البصرة بأكثر مما كانوا ركبوه به. ولذلك السبب صلى أبو أمامة بن سهل بن حنيف بالناس في مسجد الرسول وعثمان محاصر، لرأي علي كان في ذلك، ولغلبته على الدار، وأنه كان يطاع بأكثر من طاعة الزبير وطلحة وسعد.

وإنما آخى النبي بينه وبين سهل بن حنيف الأنصاري كما كان آخى بين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت. ولذلك قال حسان يحامي دونه وينصره بالكلام والشعر، ويظهر الميل على علي حين قال:

يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن علي وابن عفانا

لنسمعن وشيكا في دياركم * الله أكبر يا ثارات عثمانا

ولذلك قال في كلام له وهو يعتمد رأي علي واختياره: ثكلت أم نزال حرب لقي ابن أبي طالب كفاحا، وسعدت أم نزال رأي لقي ابن أبي طالب سهوا. في كلام كثير، وشعر كثير.

وكما آخى النبي بين أبى الدرداء وسلمان، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين حذيفة وعمار، وبين حمزة وزيد، وبين أبي بكر وعمر.

فإن قالوا: فلعل النبي آخى بين علي وبين نفسه، وبين علي وبين سهل بن حنيف، وهذا ما لا يتدافع، كما كان يؤاخى بين الرجل المهاجري وبين الأنصاري، وقبل ذلك ما آخى بين المهاجرين بعضهم في بعض، فكان الرجل منهم تصير المؤاخاة بينه وبين اثنين: مهاجري وأنصاري.

قلنا لهم: أما واحدة فإنا لم نجد لقولكم إن النبي آخى عليا إسنادا يثق به أصحاب الحديث، فضلا عن أن يكون جاء مجئ الحديث. ولو كان النبي عليه السلام حيث آخى بين المهاجرين ولم يرض لعلي إلا بنفسه لفضلِ علي على غيره وأنه أشبه الأمة به وأقربهم حالا من حاله، ثم آثر أن يؤاخي بينه وبين رجل من الأنصار كفعله بغيره من المهاجرين - كان ينبغي له أن يؤاخي بينه وبين أفضل الأنصار؛ إذ كان الذي يمنعه من أن يؤاخي بينه وبين بعض المهاجرين طلب أفضلهم، وكان ينبغي على هذا المذهب أن يؤاخي بينه وبين سعد بن معاذ.

فإن قالوا: سهل بن حنيف أفضل من سعد ومن حمي الدبر ومن غسيل الملائكة ومن مكلم الذئب ومن غيره، لم يكن هذا منكرا من مكابرتهم وجهلهم.

فإن قالوا: إنه جائز أن يؤاخى بين غير الأشكال في الفضل، وجائز ألا يؤاخى بين المتساوين والمتقاربين.

قيل لهم: فلعل أيضا النبي لم يؤاخ بين نفسه وبين علي - إن كان آخاه كما زعمتم - من قبل تقارب الحال والمشاكلة في الأفعال. ولعل النبي لم يؤاخ عليا رأسا إذا أجاز ألا يؤاخى بين الأشكال، ولا يقارب بين الأمثال. وأدنى ما فيه أن يكون ذلك قد كان جائزا.

فإن تركوا هذا أجمع وقالوا: كيف يجوز أن يكون أبو بكر هو الإمام وقد كان النبي جعله في جيش أسامة. وما زال يقول في شكاته: "أنفذوا جيش أسامة" يعيد ذلك ويكرره، إلى أن قبضه الله إلى جنته.

قيل لهم: إن في أمر النبي له أن يقوم مقامه في الصلاة بالمسلمين، وعائشة وحفصة قد اعتونتا ليصرفا ذلك إلى عمر، ويقولان: إن أبا بكر رجل رقيق لا يستطيع أن يقوم مقامك.

وهو قد ودع المسلمين في حطبته التي خطبها في شكاته حين قال: "إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة فاحتار الآخرة". فبكى أبو بكر، فعجب الناس منه وقالوا: قال رسول الله : "إن عبدا من عباد الله" قالوا: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله . هكذا الخبر. ثم جاء جبريل في شكاته فقال: يا محمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي قبلك. قال: ائذن له. فأذن له جبريل حتى وقف بين يدي النبي ثم قال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك فيما أمرتني به، فإن أمرتني قبض نفسك قبضتها، وإن كرهت ذلك تركتها. قالوا: فسمع النبي يقول: "الرفيق الاعلى" فعلم أنه قد خير .

ثم كان عند كل صلاة لا يجد عندها إفاقة يقول: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" ويقول: "أبى الله إلا أبا بكر" وفي قوله:" أبى الله أن يصلي إلا أبو بكر" دليل أن ذلك من قبل الوحي، مع قوله لعائشة وحفصة حين أرادتا صرف ذلك إلى عمر: "أنتن صواحبات يوسف، أبى الله ورسوله أن يصلي إلا أبو بكر" بالغلظ. فلو كان الخطب في ذلك صغيرا ما أغلظ النبي لهما ولا اشتد عليهما.

فإن قالوا: وما دعا عائشة إلى صرف هذا الأمر العظيم والمقام الشريف إلى عمر؟

قيل: فإنه ليس عندنا في ذلك إلا ما اعتذرت هي به لنفسها، فإنها قالت: إني والله ما أردت صرف ذلك على أني لم أعرف شرفه وخطره، ولكني خفت أن يتشاءم المسلمون به، وألا يحبوا رجلا قام مقامه أبدا.

فأما حديث الربيع بين صبيح عن الحسن فإنه زعم أنها قالت: خفت ألا يطبق حمل الخلافة، وظننت أن الناس سيريدون منه مثل ما تعودوا من النبي ، وعلمت أن أحدا لا يكون كالنبي.

فإن كان النبي جعله في جيش أسامة فقد استثناه حين اشتكى من جميع الجيش، إذا استخلفه في مقامه وأمره بالصلاة لأمته، لأن من صلى في مقام النبي وفي مسجده ومصلاه، في أعياده وسائر أيامه، فقد صلى بجميع الأمة، وتأمر على جميع البرية.

وإنما أدخلنا فيها صلاة الجمعة والعيدين لأن النبي حين قال: "أبى الله ورسوله إلا أن يصلي أبو بكر" لم يستثن صلاة دون صلاة. فإذا كان الكلام عاما والنبي على يقين من فراق الدنيا، والوحي ينزل عليه، فقد دخل في ذلك صلاة العيد والجمعة، لأن النبي يتكلم كلاما عاما.

وقد علم الله ورسوله أن الكلام العام يتخذه الناس حجة فيما يدل عليه العام.

وقد علم الله أن أبا بكر سيصلي بالناس في أعيادهم وسائر صلاتهم، وأنه سيحتج في استحقاق أبي بكر بقول النبي : "أبى الله ورسوله أن يصلي إلا أبو بكر" فكان ذلك دليلا على أن الله قد أراد ذلك وأوجبه، وعناه وأحبه.

فهذا دليل على أن أبا بكر لم يخالف أمر الله بتخلفه عن جيش أسامة إن كان أبو بكر ممن كان في ذلك الجيش قبل شكاة النبي وأمره له بالصلاة.

ووجه آخر يدل على ما قلنا. وهو أنا لم نجد أحدا من المسلمين ولا من الأنصار والمهاجرين ذكروا عنه في ذلك الدهر حرفا واحدا من ذكر تخلف أبي بكر، لا عاتبا زاريا، ولا مستفهما مسترشدا، ولا متعجبا ناقما، ولا مصوبا عاذرا. ولم يذكر أحد حديثا - ضعف إسناده أم قوي - أن أحدا احتج لأبي بكر ولا عليه.

ولا يكون رجل في مثل نباهة أبي بكر وقدره، وفي مثل نباهة ما صار إليه، لأنه لا موضع أولى بشدة الحسد وكثرة الطعن منه، وقد كان منه التخلف الذي لا يخفى موضعه، مع توكيد النبي وشدته على ذلك، ثم لا يلجأ في تخلفه إلى حجة ولا أمر من النبي ، ثم يطبق جميع الخلق في ذلك على السكوت والرضا والاستحسان أكثر مما صاروا إليه.

هذا وبنو عبد مناف شهود، وخالد بن سعيد قد ترك بيعته ستة أشهر، وقال: أرضيتم معشر بني عبد مناف أن يلي عليكم رجل من تيم؟ وقال أبو سفيان بن حرب مثل ذلك. وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. وقد سمع أبو قحافة رجة وهو بمكة، وهو مكفوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: مات النبي ، قال: فما صنع الناس؟ قالوا: أقاموا ابنك. قال: فرضيت بنو عبد مناف بذلك؟ قالوا: نعم، قال: وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع.

وفي إطباق الجميع على السكوت على التخلف بعينه، مع قول خالد وأبي سفيان، دليل على أنهم لو وجدوا غميزة أو خلافا أو معصية لم يدعوا الاحتجاج به، والخوض فيه. ولو كانت التقية قطعتهم عن ذلك لقطعتهم عن ذكر الطعن في إمامته، كما قطعتهم عن ذكر الطعن في تخلفه.

وفي رضا أسامة وتسليمه وسكوته وقناعته حتى لا يحكى عنه في ذلك كلمة واحدة، دليل على ما قلنا.

فإن قالوا: إن أسامة قد عرف صنيعه في تخلفه ولكنه كان في تقية منه، لأن أبا بكر لو لم يكن هو المطاع في العوام، والمقنع في الدهماء، ما تقدم بني عبد مناف، وكان أسامة لا يستطيع أن يبدي في دهر عمر من ذلك شيئا، لشدة عمر في تعظيم أبي بكر، لأن الطعن في أبي بكر راجع على عمر، وأن رعية عمر هم رعية أبي بكر، وكذلك كان أسامة في دهر عثمان، لأنه نسق واحد وسبيل واحدة.

قيل لهم: فما منعه أن يتكلم في دهر علي ومع علي يومئذ مائة ألف سيف يطيعه. وهل عندكم في أسامة أكثر من أن تدعوا على ضميره غير ما يدل عليه ظاهر عمله؟ وإن أولى الناس ألا يحتج بأسامة لأنتم، لأن أسامة هو الشاهد لطلحة على علي، حين قال علي: بايعتني ونكثت بيعتي؟ قال طلحة: "بايعتك واللج على قفي"، واستشهد أسامةَ. فقال أسامة: أما السيف على قفاه فلم أره ولكن بايع وهو كاره. في أمور كثيرة تدل على أن أسامة كان عمريا، ليس هذا موضع ذكرها. فهذا هذا.

وفي إطباقهم جميعا يدعونه خليفة رسول الله من تلقاء أنفسهم، لا مكرهين ولا مقهورين، لم يرفع عليهم سوط ولا شهر سيف، ولا سمعوا وعيدا، ولا رأوا لذلك أثرا، ولا رأوا منه إمرة لبعض العشائر، فيخافون أن يتقوى بهم عليهم، مع كثرة العدد واختلاف الأنساب وتفرق الأهواء، و [في] الذي قبله، دليل على ما قلنا، وحجة على الذي ادعينا.

ومما يقرب من قولنا قول النبي : "أنفذوا جيش أسامة" فقد يعلم المستدل أن النبي إنما قصد بذلك الأمر في خاصته والمطاعين، لأن قوله: "أنفذوا" دليل أنه قد كان هناك من ينفذ أمره، وإليه قصد بالأمر مقنعين غير ساخطين.

ولو كان الأمر إنما كان لأسامة وأصحابه كان اللفظ على غير هذا.

فإذا كان ذلك كذلك، فمن أولى بأن يكون من المخاطبين المطاعين من أبي بكر وخليله وصفيه، على ما كتبت لك في كتابي هذا، مع أنا لم نبلغه ولم نستقصه، إما بالخوف منا والكراهة لإطالة الكتاب، وإما بالتقصير منا في معرفة جميع محاسنه.

ووجه آخر: أنك لو جهدت أن تجد لحديث من زعم أن أبا بكر كان في جيش أسامة أصلا لم تجد، وإنما أتى عامة ذلك من قبل كون عمر في ذلك الجيش، لأن عمر وأبا عبيدة كانا من أول من انتدب في ذلك الجيش.

ولما كان الناس كثيرا ما يرون عمر يجري مع أبي بكر غلطوا في ذلك في مواضع كثيرة، حتى جر ذلك على أبي بكر فرار عمر يوم أحد، فقال من لا علم له: وفر يوم أحد أبو بكر وعمر. وموقف أبي بكر والنفر من المهاجرين في يوم أحد أشهر من أن يطمس عليه جاحد.

ومن ذلك أن عمر كان في جيش ذات السلاسل، فألحقوا به أبا بكر.

فإن أبوا إلا أن يكون قد كان في ذلك الجيش فالجواب على ما قلنا.

فإن قالوا: قد سمعنا مقالتكم. ولكن ما الدليل على أن النبي أمر أبا بكر بالصلاة بالناس؟

قلنا لهم: إنه ليس لأنه كان مأمورا بالصلاة فقط، ولكنه صلى بالناس سبع عشرة صلاة إلى أن توفى النبي . وذلك أن النبي عليه السلام بدئ يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، ويوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول. وهذا هو السبب عندهم.

وزعم أصحاب السير والأخبار أن النبي كان يأمر بلالا بالأذان، فإذا وجد إفاقة خرج يصلي بالناس، وإن اشتد ما به قال: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" فكان النبي وأبو بكر يصليان على هذه الصفة.

فإن أنكروا أن يكون النبي أمر أبا بكر أن يصلي و [ادّعوا] أن هذه الأخبار كلها باطل، وأن العلة في هذه الأيام كلها لم تمنع النبي من الصلاة حتى مات.

قيل لهم: أرأيتم هذا الذي قلتموه وادعيتموه، أشئ استخرجتموه أو سمعتموه؟

فإن زعموا أنهم سمعوا قلنا لهم: فأتوا بفقيه واحد أو محدث يقول كما تقولون، ويحدث كما تزعمون. وجميع ما يدعى باطل.

وإن كان إذا اعترضوا المحدثين والناقلين لم يجدوا أحدا إلا وهو يخبر بما قلنا، فالحق أحق أن يتبع. ولا يجوز أن يقولوا: إنا استخرجنا معرفة هذا المعنى، لأن الاستخراج لا يكون إلا من عيان أو خبر.

أوليس قد كان النبي موضوعا على سريره حين زاغت الشمس يوم الاثنين إلى حين زاغت من يوم الثلاثاء، يصلى الناس عليه وهو على شفير قبره وأبو بكر يصلي بالناس؟

فإن أتوا بحديث واحد أنه صلى بالناس في غير ذلك الوقت غير أبي بكر فالقول كما قالوا. وإن أتوا بحديث واحد أنه صلى بالناس غير أبي بكر أول صلاة صلاها المسلمون [حين] اختلفوا في تأمير الأمراء واستخلاف الخلفاء عليهم، كما قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فالقول كما قالوا.

وهل يستطيعون أن يزعموا أنهم قالوا: منا مصل ومنكم مصل؟

والعجب كيف لم يقولوا: إن عليا لم يزل هو المصلي بالناس والمأمور بالصلاة، فغُصب حقه وظلم مقامه؟

وكيف يجوز أن يجئ رجل من أرضه وسمائه من غير نسب ولا سبب، حتى ينفذ من أشرف المقامات، بحضرة القرابة والعشيرة، من عم وابن عم، وقريب ونسيب، وجلة المهاجرين والأنصار، والعظماء وعلية قريش، ودهماء العرب، ثم لا يتكلم في ذلك رجل واحد؟ فإنما يقول هذا من لا يعرف قدر ذلك المقام في الصدور، وكيف طبائع قريش وأنفة العرب.

فإن قالوا: كيف يكون أبو بكر إماما ولم يجتمع المسلمون على إمامته والرضا به؟ وقد قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقال سلمان: "كرداذ ونكرداذ". وقال خالد بن سعيد: أرضيتم معشر بني عبد مناف هذا. وقال أبو سفيان بن حرب مثل مقالته، وخرج الزبير بسيفه شادا، فلما رآه عمر قال: دونكم الكلب. وجلس علي [في] منزله واعتل بأنه آلى ألا يبرح حتى يجمع القرآن.

قيل لهم: ليس الأمر على ما تقولون. ولو كان الأمر على ما تقولون ما كان خلاف هؤلاء ناقضا لأمره. لأن الرجل إذا كان أفضل الناس وأكمله وأنفعه للمسلمين وأرده عليهم، فعليهم إقامته والتسليم له والرضا به، لأن كل ما عددت لك من فضله هم كانوا أعلم به، إذ كانوا يسافرون معا ويقيمون معا، وكانوا أعنى بمعرفة الخير وأسرع إلى العلم به منا ومن أهل دهرنا.

ولو كان أبو بكر تنتقض إمامته، وكان عليه اعتزال ذلك المقام، بخلاف رجل أو رجلين أو ثلاثة، كان أولى الناس بأن يكون له في الإمامة سبب ولاحق ومتعلق علي بن أبي طالب، لأن سعد بن أبي وقاص كان أحد الشورى وأحد الأكفاء، وقد أباه وقال قولا أبين من قول خالد وأبي سفيان وسلمان، قال: "ما أنا بقميصي هذا أحق مني بها، أعيدوها شورى، أما بالسيف فلا أريدها" وقال لرسل علي حين أرادوه على بيعته: "ثكلت أم لم تلدني، لئن كنت سادس ستة مالنا طعام إلا ورق البشام، وقد جاءني أعراب الأوس تعلمني دين الله؟" في كلام كثير.

وخالفه طلحة والزبير وهما شريكاه، وأحدهما فارس النبي ، والآخر وقايته، فقال علي: بايعتماني؟ قال الزبير: ما بايعتك قط، إن كنت على يقين أنك أولى بها فاجعلها شورى بيعة وحق دعواك من باطله.

وقال طلحة: "بايعت واللج على قفي" حين رقى إليه العساكر وطعنت عليه عائشة واستحلت محاربته. ثم اجتمع على حربه أهل الشام قاطبة، فيهم عبد الله بن عمر [و] وكعب بن مرة البهزي وكان من فضلاء أصحاب النبي ، وهو الذي قال حيث قال النبي : "ستكون فتنة هذا فيها يومئذ على الحق" وأومأ إلى رجل مقنع، فكشف عن رأسه فإذا هو عثمان، فلما قتل عثمان وهو يكف عن القتال استنصر، فكان يحدث هذا الحديث.

ومنهم واثلة بن الأسقع الليثي، وله صحبة ونسك، والنعمان بن بشير، ومسلمة بن مخلد، وحبيب بن مسلمة، وذو الكلاع، ومعاوية بن حديج.

ومن التابعين أبو مسلم الخولاني، وشرحبيل بن السمط، وعمرو بن وافد الغامدي الذي قال [فيه] مكحول: كأنه قد مات ودخل النار وحوسب ثم رد إلى الدنيا، فمعه خوف المجرب.

ثم خالف عليه خاصة إخوانه ونساك أصحابه وأهل البصائر من جنده وحمدت حتى أكفروه وخلعوا إمامته وولايته.

وفيهم مع نسكهم وجدهم نفر من أصحاب رسول الله ، منهم فروة بن نوفل الأشجعي وحرقوص بن زهير، وفيهم من التابعين مثل رئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي وزيد بن حصن الطائي.

ولقد دعا محمد بن مسلمة إلى عونه، واعترض آخذا بسيفه، ثم كسره وقال: أضرب المسلمين بسيف ضربت به الكافرين؟

فدعا زيد بن ثابت إلى عونه فأبى وقال: أنت والله تعلم أن لو شحا أسد فاه لألقمته كفي دونك، فأما أن أضرب بسيفي لأؤكد لك ملكا فلا.

ودعا عبد الله بن عمر فقال حين أراده على بيعته: إني لن أنزع يدي من جماعة وأضعها في فرقة. وكذلك قال حين قيل له بعد ذلك: لو بايعت أخاك عبد الله بن الزبير. قال: إن أخي وضع يده في فرقة، وإني لن أنزع يدي من جماعة وأضعها في فرقة.

وطعن عليه سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعلى طلحة وقال: "فتنة عمياء يخبط أهلها". قال طلحة: ابن عمك كان أعلم بي وبك حين جعلني في الشورى وأخرجك منها. قال: إن ابن عمي خانك وأمنني.

ودعا إلى بيعته وعونه أسامة بن زيد فقال: إني إذن لمفتون!

وأسامة هو الذي كان طلحة استشهده على قوله: "قد بايعت واللج على قفي" فسئل أسامة عن ذلك. فكلمه طلحة بكلام غليظ.

وقول صهيب أيضا، وسلمة بن سلامة بن وقش. كل هؤلاء السبعة [ما منهم] إلا من شهد بدرا.

وزعم ابن سيرين والشعبي أنهما قالا: وقعت الفتنة بالمدينة وأصحاب النبي أكثر من عشرة آلاف، فقال: فما يعدون من خف فيها عشرين رجلا. فسميا حرب علي وطلحة والزبير وصفين فتنة.

وكما قال الشعبي: من حدثك أنه شهد الجمل ممن شهد بدرا أكثر من أربعة نفر فكذبه. كان علي وعمار في ناحية، وطلحة والزبير في ناحية.

وقد تعلمون أنه لم يكن في الأرض عثماني إلا تعلمون أنه منكر لإمامته، وهم أكثر عددا وأكثرهم فقيها ومحدثا. ولقد كان الرجل من أصحاب الآثار يظن به التشيع فيترك ويضعف ويتهم عند أهل العلم، حتى أنه كان يطويه ويستره أكثر مما يستر السوء يكون بجلده.

فلو كان الفاضل الكامل تنتقض إمامته وتفسد عدالته من قبل خلاف أربعة أو خمسة، لما كان في الأرض أشد انتقاصا من إمامة علي.

وأما قولكم: إن الأنصار قالت لقريش والمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير! فهذا إلى أن يكون حجة عليكم أقرب، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله لو كان أقام عليا وجعله خليفة ووصيا ونص على ذلك بغدير خم، أو في بعض المغازي، ما كان بلغ من حربهم وعنودهم أن يقولوا هذا الكلام والإمام قائم الحجة معروف المكان.

وكيف جاز أن يلغوا ذكره حتى لا يذكرونه في شئ من مخاطباتهم ومنازعاتهم إلا والقوم لم يكن عندهم فيه عهد ولا سبب. فهذه حجة قاطعة.

وأخرى: الذي رأينا من قلة مبالاتهم من أقامه المهاجرون كائنا من كان، لأن قولهم: منا أمير ومنكم أمير، قول قوم كأنهم قالوا: لا بد لنا معشر الأنصار من أمير على حال، وأنتم بعد أعلم بشأنكم فأمروا عليكم من بدا لكم. وليس في هذا طعن على خاصة أبي بكر، كما أنه ليس فيه تأكيد لإمامته دون غيره.

وهذا قول كان من نفر من الأنصار في سقيفة بني ساعدة، قبل أن يقوم فيهم أبو بكر خطيبا وواعظا، ومبينا ومحتجا. فلا يستطيع أحد أن يقول: إن أحدا منهم رد على أبي بكر خاصة كلمة واحدة. فليس في قولهم: منا أمير ومنكم أمير، خلاف على أبي بكر، وإن كان خلافا فإنما هو على الجميع.

وإن كان هذا الكلام منهم حجة ما كان إلا على من زعم أن الإمامة غير واجبة، أما على من زعم أنها لأبي بكر دون علي فإنها غير لازمة.

ولعمري لو كان القوم حيث قالوا: منا أمير ومنكم أمير قالوا: ولا يكون أميركم إلا علي أو فلان أو فلان، أو قالوا: الرأي لكم أن تجعلوا أميركم عليا أو فلانا أو فلانا، كان في ذلك ما يتعلق به متعلق ويشغب به شاغب. وهذا ما لا يحتج به عالم، لأن الحجة فيها للرافضة ألزم، وعليها أوكد.

أما قولهم أن سلمان قال ما قال، فإنما سلمان رجل من عرض المسلمين، لا يصلح أن يكون خليفة، ولا يجوز أن يكون في الشورى ومع الأكفاء، فتنتقض به مريرة أو تبرم به، لأسباب:

منها أنه ليس من المهاجرين، ولا ممن شهد بدرا ولا أحدا، ولا لقي في الله ما لقي نظراؤه عند الناس كبلال وصهيب وخباب وعمار، ولا كان من الذين آووا ونصروا، وذكروا في القرآن وقدموا.

وكان حديث الإسلام قليل المشاهد، وإنما أسلم حين انحسرت الشدة وانكشف عنهم معظم الكربة، ولكنه كان من الصالحين ومن الفضلاء المخلصين، وكان عند النبي وجيها، وعند خلفائه مقربا، وقد قال النبي فيه قولا حسنا، ولكنه ليس من الأكفاء في الإمامة وموضع الشورى والخلافة، فيكون قوله حجة تنتقض به الإمامة، وطعنه عليه يصرف الخلافة.

ثم آخر: أنا قد وجدناه ولي لعمر بن الخطاب على المدائن، يقيم له الحدود ويجبي له الخراج، ويدعو له على المنبر، ويؤكد له خلافته، وينفذ أمره، مطيعا غير مكره، ومخلى غير مقصور، فولايته لعمر دليل على تصويب أبي بكر، ومطيع عمر أذعن لأبي بكر، ومعظم عمر أشد تعظيما لأبي بكر.

ولقد كان يخرج آذن عمر والناس ببابه فيجعله في الفوج الأول. حتى روي عن أبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو في ذلك كلام مشهور: من ذلك أنهم كانوا بباب عمر في جلة من قريش والعرب، مثل عيينة بن حصن وغيره، إذ خرج آذن عمر فقال: أين بلال؟ أين سلمان؟ أين صهيب؟ أين عمار؟ ادخلوا. فتغيرت وجوههم واستبان الجزع فيهم، فأقبل عليهم سهيل بن عمرو واعظا ومعربا ومذكرا، فقال: دعوا ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا [ولئن حسدتموهم] على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أعظم.

فما في الأرض عاقل يظن أنه يأذن لسلمان قبل أبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو، ويوليه بلاد كسرى وآل كسرى، وسلمان عنده ظنين في بيعة أبي بكر وناقم عليه.

وقد بارك عمر أبا بكر في خالد بن سعيد بن العاص، حين عقد له على أجناد الشام، لكلمته التي كانت في بيعة أبي بكر، حتى عزله.

فكيف يحتمل لسلمان الطعن والخلاف ثم لا يرضى له إلا بالولاية على بلاد كسرى، وسلمان لا يجري عند عمر مجرى خالد ولا قريبا؟

ففي هذا دليل على أن سلمان لم يقل: "كرداذ ونكرداذ". وإن كانت هذه الكلمة حقا كانت ترجمتها بالعربية: صنعتم ولم تصنعوا، يقول: قد أقمتم فاضلا مجزيا ولو كان غيره كان أفضل منه.

وأخرى فلو كان سلمان كان عنده أن النبي كان قد استخلف عليا ونصبه إماما وجعله وصيا لم يقل: صنعتم ولم تصنعوا، إلا أن قوله: "صنعتم" تثبيت لإمامته، فكأنه قال: هو إمام، لو كان غيره كان خيرا لكم منه. وليس على هذا بني القول.

ولو احتج بهذا القول الزيدية كان أشبه من أن يحتج به الطاعن في إمامة أبي بكر حين قال: ارتد الناس كلهم عن الإسلام بإنكارهم إمامة علي والتسليم لمن أنكر، ما خلا أربعة نفر: سلمان والمقداد وأبو ذر وبلال. ثم زعموا أن حذيفة وعمارا تابا بعد عمر.

ولئن كان بلال كما قالوا من الطعن والخلاف على أبي بكر وعمر، لقد شاركهما حيث ولي لهما دمشق، لأن عمر كان ولى بلالا دمشق، فكان أنفذ لامره من أبي عبيدة.

وكيف يكون بلال طاعنا على أبي بكر وعمر حتى قد شهر بذلك من بين الخلق وعمر يوليه، ويقربه ويدنيه، ويقدم إذنه، ويلحق عطاءه بعطاء عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد، ويقول: "بلال سيدنا ومولى سيدنا" ومرة يقول: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا".

ولا يجوز هذا القول من عمر من يجوز طعن بلال على أبي بكر، إلا جاهل بعمر، جاهل بأمر السلطان، وعز الخلافة.

فأما ذكرهم المقداد، فما علمنا ولا علم أصحاب الآثار أنه نطق في خلافة أبي بكر وفي نقضها، وفي خلافة علي وتوكيدها، بحرف قط، ولا وقف في ذلك موقفا، ولا قام في إنكاره [أ] و تثبيته مقاما، وما ندري بأي سبب ادعوه، إلا أن يكونوا ذهبوا إلى أن عليا رحمة الله عليه ربما كانت له الحاجة إلى النبي عليه السلام، فيكبر النبي ويعظمه عن مواجهته بها، فيكلف ذلك المقداد.

من ذلك حديث هشام بن عروة عن أبيه في الرجل إذا دنا من المرأة فأمذى ولم يمسها، فاستحيا علي أن يسأل النبي عن هذا من أجل ابنته، فقدم المقداد فسأله، فقال النبي عليه السلام: "يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ". وغير ذلك.

والأغلب علينا أن المقداد لم يزل متنكرا لعلي، لأن المقداد حين خطب ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب إلى النبي ، بعث النبي إليها عليا بذلك يخبرها، وأنه قد رضيه لها، فكره علي ذلك، فرجع إلى النبي وقال: رأيتها كارهة، فأرسل النبي إليها رسولا فقالت: أولم أخبر عليا أنني قد رضيت لنفسي بما رضي به النبي؟ فقام النبي خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا علي قم فانظر من عن يمينك وعن شمالك. واعلم أنه ليس لك فضل على أسودهم وأحمرهم إلا بالدين". فهذا قد روي. والله أعلم.

ولم يرو عن المقداد الطعن على أبي بكر في خلافته ليؤكد بذلك لعلي شيئا.

وأقل ما ينبغي للمتكلم أن يعرف فروق الأمور، فإنه إذا عرف ذلك لم يتعلق من الأسباب إلا بأمتنها. فأما تجريد الباطل وكثرة الدعوى بلا سبب، فهذا جهد العاجز.

ولربما تعلقوا بالسبب الضعيف، كالذي وجدوا لعمار بن ياسر من عداوة عثمان، وصنيع عثمان به، فلما كان عثمان عندهم في طريق عمر وأبي بكر وفي حيزهما جعلوا طعن عمار عليه طعنا عليهما، واحتجاج عمار لعلي احتجاجا عليهما.

ولو اجتهدت أن تصيب لعمار موقفا واحدا أو كلمة طاعنة على أبي بكر وعمر وعثمان، فضلا عليهما قبل إحداثه وقبل أن يجرى بينهما ما جرى، ما قدرت عليه.

وهل كان لعمر وال أنفذ لطاعته من عمار؟ ولقد رفع عليه جرير بن عبد الله، فجمع بينهما طمعا في ظهور حجته، والضرح عن نفسه، فلما لم يجد ذلك عنده قال: ما عندنا خير لك يا أبا اليقظان.

ومن أجل ضعف عمار في الولاية وقوة المغيرة حين شكاهما أهل الكوفة قال عمر: "أعضل بي أهل الكوفة، إن وليت عليهم تقيا ضعفوه، وإن وليت عليهم قويا فجروه".

فإذا كان عمار يخطب على منبر الكوفة بتوكيد إمامة عمر، ويأمر الناس بطاعته، ويقيم الحدود والأحكام بأمره، ويفتح الفتوح بتأميره، فيرى القتل والسبي وإحلال الفروج، غير مكره بوعيد ولا مقصور بإيقاع، فأي دليل أدل مما حكيناه.

ولو أن طاعنا طعن في طاعة سهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وأبي أيوب الأنصاري وأبي مسعود البدري، لعلي، هل كان عندكم في دفع ذلك إلا مثل ما عندنا من الدفع عن طاعة سلمان وبلال وعمار وأقل منه.

فأما أبو ذر فزعم أصحاب الآثار أنه كان يعظم عمر بن الخطاب تعظيما ما عظمه أحد قط. فمن ذلك أن عمر صافحه يوما فعصر يده وكان أيدا، فصاح: يا قفل الفتنة! ومسح من وجهه العرق بباطن راحته، وعمر موعوك وهو يقول: بأبي رحضاؤك لو قدمت صرنا هكذا - وشبك بين أصابعه - أوجعتني! فخلاه وقال: ما هذا؟ فقال سمعت النبي يقول: "لن تزالوا بخير ما كان هذا بين أظهركم".

وقال عمر لشاب: غفر الله لك! فقام إليه أبو ذر فقال: استغفر لي! وهو حديث فيه أمور كثيرة.

ولو لم يجئ عن أبي ذر من هذا قليل ولا كثير لكان حكمه الرضا والتسليم، إذ لم نر منه طعنا ولا رأينا له متوعدا.

ولو اعترضتم مائة من أصحاب النبي فقلتم: إنهم كانوا طعانين على أبي بكر مؤكدين لخلافة علي، ما كان عندنا في أمرهم حديث قائم ولا خبر شاهد، أكثر من أن حكم الممسك عن الطعن والخلاف هو الرضا والتسليم.

ولقد ينبغي لنا ولكم أن نتفكر في معنى كلمة سلمان فقد أكثرتم فيها، حيث قال صنعتم ولم تصنعوا، ومعنى هذا الكلام: إنكم قد أقمتم مجزيا وتركتم من هو أجزأ منه، فيجب أن نعرف الخلل الذي لم يسده أبو بكر ... التي لم يبلغها، والموضع الذي عجز عنه، ما هو؟ وأي ضرب هو؟ إلا أن امتحن بما لم يمتحن به أحد قبله، ولا يمتحن به أحد بعده، من قيامه في مقام رسول الله ، في عقب الذي تعود المسلمون من طريقته، وتعرفوا من سيرته في نفسه وفي أمته، ثلاثا وعشرين سنة - وهي السيرة التي لا تحتاج إلى الأخبار عن فضلها، والإطناب في تشريفها - فلم يغادر ولم ينحرف ولم يتغير، ولم يؤثر ولم يضعف.

وقد علمنا أن الذي عظم صغير ما كان من أمر عثمان، وشنع عظيم ما كان منه من الضعف وغير ذلك، الذي كان من إفراط جلد عمر، وشدة رأيه وشكيمته، ويقظته وخشونته، وثبات عزمه، وحمله نفسه على مذهب صاحبيه قبله. ولذلك قال عن ثلاث: "ما قتل عثمان غير عمر". فالفصل الذي بين النبي وأبي بكر أكبر وأظهر من فصل ما بين عمر وعثمان. ولذلك قال عمر بن عبد العزيز: "ليس لله ستر أكثف ولا أسبغ من ستره على الصديق حين لم يتكشف إذ قام يعقب النبي ".

وقد تعلمون أن لو كان النبي غائبا عن المدينة في غزاة أو حجة، وارتدت العرب وانتقضت العهود وظهر النفاق وماج الناس، فوثب رجل من عرض أصحابه، فلم يزل باللين والشدة، والكف والإقدام، والبطش والحيلة، حتى رده في نصابه، وأعاده كأحسن عادته، ببذل النفس فما دونها، لقد كان صنع صنيعا عظيما، وفعل فعلا كبيرا.

فكيف برجل قام بأمر الإسلام، وقد هتكت أستاره وتقطعت أطنابه ومرجت عهوده، منفرد بالرأي غير مستعين عليه، ولا مستوحش إلى غيره، بل خالفه الجميع في صوابه وما أوجده الرأي، ودل عليه النظر من عزمه، وقد أبى إلا صرامة وبصيرة وثقة، والنبي قد مات غير مخوف ولا متوقع قدومه، فرد أهل الردة قاطبة ما بين أعلى الحيرة إلى شحر عمان إلى أقاصي اليمن، وقمع النفاق بالمدينة وما حولها، وقتل مسيلمة واستفتح اليمامة، وأسر طليحة، ثم أوطأ خيله الشام، وجند الأجناد، ومنع الحوزة، ووطأ الأمر، وقتل العدو بكل مكان. ثم لم يستأثر بدرهم، ولم يكنز دينارا، ولم يخلف درهما، ولم يتفكه بغنيمة، وجعل عمالته مردودة على بيت مال المسلمين، ولذلك قال عمر: "رحم الله أبا بكر لقد شق على من بعده".

فما الشئ الذي لو كان علي هو القيم به كان أجزأ منه، وبلغ منه ما لم يبلغه. وكيف يكون علي أجزأ منه ولم تغلق الفتوح إلا في زمانه، ولم تكن الفتن إلا على رأسه، ولم تخرج الخوارج إلا عليه. وهذا باب الكلام فيه على علي، ولكنا إذا فعلنا ذلك فقد دخلنا في الذي عبنا.

مع أنك لو طفت في الآفاق تطلب لكرداذ ونكرداذ إسنادا. ولكنا قد روينا أن سلمان قال: "أصبتم الحق وأخطأتم المعدن" فنرى أنه إن كان قال هذا القول فإنما ذهب إلى أن الأمر لو كان في بيت النبي وعلى التوارث الأقرب فالأقرب، كان أجدر ألا يطمع فيه ذؤبان العرب ودهاة العجم، على غابر الأيام، وتطاول الدهور.

وسلمان رجل فارسي، وهذا كان شاهد كسرى، فتوهم أن حكم الكتاب والسنة كحكم تدبير السر والقائمين بالملك، فإنما تكلم على عادته وتربيته.

ولعمري لقد كان في قوم قد ساسوا الناس سياسة ورتبوهم ترتيبا، يقطع عن الطمع في الملك بآيين: لم يجعلوا للصانع أن ينتقل عن صناعته إلى الكتابة، ولم يجعلوا للكاتب أن ينتقل من كتابته إلى القيادة، ولم يجعلوا لأبنائهم إلا مثل ما كان لآبائهم، ليعودوا الناس عادة يستوحشون معها إلى الخروج منها.

وإنما حسن هذا في ملكهم إذ كان بالرأي والغلبة، ولم يكن لأهله أمثل من التدبير والحكم، لم يكن شأنهم الأخذ بالكتاب والسنة. وسبيل الإمامة غير سبيل الملك.

فإن كان سلمان إلى هذا المعنى ذهب، وإياه عنى، فإنما قوله حجة للعباسية لا للعلوية.

وسنخبر عن مقالة العباسية ووجوه احتجاجهم بعد فراغنا من مقالة العثمانية، بغاية ما يمكن من الاستقصاء، وإنصاف البعض من بعض، لتكون أنت المختار لنفسك بعقلك، والأقاويل ظاهرة مجلية لذهنك. فلئن أعجزك الاختيار الأرجح بعد الكفاية إنك عن استنباطه وتخليصه أعجز.

وقد ذكر هشيم، عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال: قال سلمان حين بويع: "أصبتم حين بايعتم وحيد الناس، وأخطأتم حين عزلتموها عن أهل بيت نبيكم، ولو وضعتموها فيهم لأكلتم رغدا".

وهذا حكم من سلمان أن أبا بكر خير من علي ومن جميع الناس، والناس على خير الناس أصلح منهم على من دونهم.

وأخرى: أن سلمان حين قال: "كرداذ" كما زعمتم، لو لم يكن عندكم عظيم القدر نبيل الرأي، قدوة عند الاختلاف، لم تسمعوا قوله بهذا المكان، حتى صار مثل طعنه وخلافه، ينقض إمامة الأئمة، وتتخذونه على خصمائكم حجة.

وإن كان سلمان على ما قد وصفتم، وبالمكان الذي وصفتم من الحكمة والبيان، فما دعاه إلى أن يكلم العرب والاعراب بالفارسية، وهو عربي اللسان فصيح الكلام، وهو يعلم أنه لم يكن بحضرة المدينة فرس ولا من يتكلم بالفارسية ولا من يفهمها. وهو إنما أراد الاحتجاج عليهم والاعذار إليهم، وأن يقضي حق إمامة علي ويقوم بشأنه.

وقد ينبغي لمن بلغ من صدق نيته وفرط اجتماع لبه وشدة عزيمته أن يتكلم في دار التقية لا في دار العلانية، حتى خاطر بنفسه وبكل شئ يهوله، ومن شأنه أن يفهم الحجة، ويوضح الموعظة، ويبين عن موضع المظلمة، وإلا فسكوته أحسن من الفارسية.

وكيف فهمت معناه العرب وهي لا تعرف من الفارسية قليلا ولا كثيرا، ولم يكن للنبي ترجمان يعبر عنه للفرس فيكون ذلك الترجمان كان حاضرا لكلامه، فيفسر للناس معناه.

وكيف نقلت عنه الصحابة إلى التابعين وكل من كان بحضرة القوم حين بايعوا أبا بكر لا يفهمون الفارسية، ويكون سلمان حين تكلم بها استرابوا عندها فسألوه عنها ففسرها. ولو كان ذلك كذلك لحكاه الذين نقلوا الحديث، فكان ذلك أحب إلى الروافض، لأنهم إنما نقلوه ليعرفوا من كان الطاعن على أبي بكر. والطعن كلما كثرت فيه المراجعة والمناقضة، وطال سببه، وعرف علمه، كان أدل على الشهرة والاستفاضة، وأن الأمر كان حقا معروفا.

فواحدة أن الأمر لو كان كذلك لكانت الروافض أسرع الناس إلى حكايته، لتستشهده على الدعوى، ولتقوي به الحديث، وتشد به الحجة.

وثانية: أن الناقلين أنفسهم كانوا سيحكونه، إذ كانوا إنما حكوا نفس الكلمة ليعرفوا أنه قد كان هناك خلاف، ويدلونا على أن سلمان كان ممن خالف، وممن له هذا القدر الرفيع الذي يحتج بخلافه.

وأخرى: أن ذلك لو كان قاله سلمان، وهو طعن على أبي بكر، كان مشهورا عند عمر وعثمان وأبي عبيدة وسعد وعبد الرحمن، وهؤلاء عندكم شيع أبي بكر. فكيف أطبقوا على ترك التكلم على سلمان، والدار دارهم والحكم حكمهم، ومعهم الرغبة والرهبة، مع أن الجرأة على سلمان أيسر وأسلم مغبة من الجرأة على أبي بكر. وقد أطبقت على طاعته الأمة خلا أربعة نفر: أحدهم سلمان، وليس سلمان معروفا بالنجدة وشدة الشكيمة، ولا وراءه ظهر يمنعه، فكيف لم يزجره عن ذلك زاجر، ولم يدفعه عن ذلك دافع، ولم يناظره مناظر، ولم يتعجب منه متعجب، ولم يرفع ذلك رجل إلى أبي بكر كما رفعوا إليه قول خالد بن سعيد.

فإن قلت: إن أبا بكر كان مداريا يتسع صدره لأكثر من هذا، كما اتسع صدره فلم يعاتب خالدا ولا أراده على بيعته. كيف سلم على حدة حكم، فأين جد عمر وحده وقلة احتماله، واعتقاده لمثل هذا؟ وكيف [سلم] طلحة مع شدة بأوه وصرامته.

ولا نعلم شيئا مما ادعوه أظهر باطلا ولا أفسد معنى من قوله "كرداذ ونكرداذ".

وأما ما ذكرتم من ترك خالد بيعة أبي بكر ثلاثة أشهر، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أن خالدا يوم توفي النبي كان على صدقات اليمن، فقدم بعد أن بايع الناس أبا بكر، فلما دخل المدينة استقبله عثمان وعلي، فقال لهما: أرضيتم معشر بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ فلم يذكر لنا أنهما ردا عليه قولا، ولا أظهرا قبوله. ثم جلس عن بيعته لا يسأله ذاك أبو بكر ولا يدعو إليه، فبينما هو كذلك إذ مر أبو بكر بدار خالد مظهرا لبعض الأمر، وخالد في داره. فسلم عليه أبو بكر فقال له خالد: أتحب أن أبايعك؟ قال: أحب أن تدخل في صالح ما دخل فيه المسلمون. قال له خالد: موعدك العشية، فأتاه وهو على المنبر فبايعه.

ففي هذا وجوه من الكلام:

منه أن خالدا لم يطعن في إمامة أبي بكر من جهة الجزء والكفاية والكمال والفضل، ولا من طريق ما تفسد به الإمامة وتنتقض به الخلافة؛ وإنما ذكر الحسب وطرائق الجاهلية. وهذا الأمر إن كان مقصورا في قوم دون قوم، فليس هو في بني عبد مناف عامة. وإن كان ليس [مقصورا] في قوم، وليس لقول خالد معنى، فإن كان مقصورا في عبد مناف للشرف أو للقرابة، فالعباس أولى بذلك من علي وجميع عبد مناف.

ولو أراد عليا لم يقل: أرضيتم بني عبد مناف؟ لأن عثمان وعليا منافيان، بل كان يقول: أرضيتم معشر العترة، أو معشر بني هاشم ومعشر بني عبد المطلب. مع أنه لو قال ذلك لكان للعباس في ذلك القول من السبب ما ليس لعلي، لأن هذا الأمر إن صلح أن يخرج من رهط النبي دنيا، ومن أقرب الناس إليه، إلى أقصى بني عبد مناف، لصلح أن يخرج إلى أقصى بنى كلاب. فإذا كان ذلك كذلك فتيم وعبد مناف سواء.

ومما يدلك على أن خالدا لم يقل شيئا، أن هذا الأمر إن كان إنما يستحق بالعلم والعمل والجزء والغناء فليس لذكر عبد مناف معنى.

وإن كان هذا الأمر لأفضل قريش كائنا من كان فلم يقل خالد شيئا، وليس لذكر عبد مناف معنى.

وإن يكن هذا الأمر في أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله فلم يصنع خالد شيئا.

وإن يكن هذا الأمر لرجل بعينه قد نصبه النبي ودل عليه فلم يصنع خالد شيئا، لأنه كان ينبغي له أن يسير بالمنصوص أو بالمدلول عليه.

أو يكون هذا الأمر لا يصاب إلا من طريق الوراثة. فإن كان ذلك كذلك فلم يصنع خالد شيئا، لأن صاحب الوراثة أظهر أمرا وأشهر موضعا من أن يحتاج إلى كلمة ليست بأن تدل عليه بأقرب منها من أن تدل على خالد نفسه.

ووجه آخر: أنه قصد بكلامه إلى عثمان وعلي جميعا، ليهزهما معا. لأن هذا اللفظ الأغلب على ظاهره حب العصبية، والمحاماة على الأحساب، وترك التخاير بالأفعال، والتفاضل بالجزء والكمال.

ولعله أراد عثمان دون علي، أو لعله أراد نفسه والتذكير بها والتنبيه عليها، فإنه كان أشرف من عثمان وأقدم إسلاما منه، وكان من مهاجرة الحبشة، وكان ذا قدر عظيم، وهو ابن أبي أحيحة. وكان أبو أحيحة إذا اعتم بمكة لم يعتم بها أحد، إكبارا لقدره وتفضيلا لحاله.

وكان عثمان لائحا ... سعيد بن العاصي.

وظاهر كلام خالد وقع على عبد مناف جملة، وهو يرى أنه في السر منهم. فإن كنتم أردتم أن تخبروا عن خلاف خالد على أبي بكر وجلوسه عنه، فلقد كان ذلك حتى راجع من تلقاء نفسه، وثاب إليه عازب رأيه، فأناب إلى خطته، ودخل في صالح ما دخل فيه غيره. وما كان تخلفه عن بيعته إلا ريثما ذهبت عنه حميته، وانجاب عن ... وتيقظ من نومه.

وما ذلك بأعجب من اجتماع الأنصار وقوله للمهاجرين الأولين: "منا أمير ومنكم أمير"، والدار دارهم، والمهاجرون ضيفانهم ونزول فيهم. وهم أول الناس والعدد والصلاح والرأي، فكانوا مجلبين جادين مجدين، فما هو إلا أن هجم عليه الصديق وقام فيهم مرشدا ومحتجا، [حتى] استبدلوا بالخلاف طاعة، وبالضجة إطراقا، وبالأنفة خضوعا، وبالطيش حلما، وأنصتوا معا واستمعوا معا.

وكأن السائل إنما أراد تعريفنا أنه كان من خالد خلاف. فقد كان ذلك ثم رجع إلى نفسه وعرف موضع خطئه، غير مرغوب ولا مرهوب.

وإن كان إنما أراد أن يجعل هذا وشبهه حجة في إمامة على فليس لعلي رحمة الله عليه في ذلك من الحجة على إمامته قليل ولا كثير، إذ لم يذكروه في شئ من أمورهم، لا في يسير أمرهم ولا عسيره. ولو ذكروه ما كان لذكرهم دليل على أنه أولى بالإمامة من أبي بكر، مهما عددنا عليك من خصاله التي لا يفي بها علي ولا غيره.

وإنما كان يكون هذا الإدخال حجة لو قلنا: إن أحدا لم يخالف أبا بكر.

ورضى الجميع وسكونهم وصوابهم لم يكن ليتهيأ أبدا، حتى لا ينطق أحد بحرف واحد لا جاهل ولا عالم، ولا عصي ولا حاسد.

وكيف يتفق إطباقهم على سكون واحد والناس من بين حاسد وراض، وعصي وتقي، وحليم وسخيف، وغالط ومصيب، وعاقل وأحمق؟

وإذا كان النبي مع رجاحته على جميع الخلق لم يسلم على أمته [من] المستجيبين له، فضلا على جاحديه والمنكرين له، كان أبو بكر أجدر ألا يسلم من رعيته.

ولقد قام رجل إلى النبي فقال: والله يا محمد ما عدلت في الرعية، ولا قسمت بالسوية. وقال الله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} وقال: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}.

وقال عباس بن مرداس:

أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس من المجمع

في شعر له طويل.

وقال أبو حذيفة بن عتبة يوم بدر: يقتل أبناءنا وأعمامنا وينهانا عن عشيرته، والله لئن أدركته لألجمنه بالسيف!

وخالفوا عليه في يوم الحديبية في نحر الهدي، وحيث قالوا: "لا نعطي الدنية" مرة بعد مرة. في أمور كثيرة.

فليس في طعن الطاعن دلالة إذا كان المطعون عليه كاملا فاضلا.

وإجماع الناس كلهم على الصواب أمر لا ينال، ولكن إذا كانت الأمة قد أطبقت على طاعة رجل على غير الرغبة والرهبة، ثم لم يكن اغترارا ولا إغفالا، فليس في شذوذ رجل ولا رجلين دلالة على انتقاض أمره وفساد شأنه.

وليس يحتج بهذا وشبهه إلا رجل جاهل بطبائع الناس وعللهم، ولو كان هذا وشبهه ناقضا لإمامة أبي بكر، كانت إمامة علي أنقض وأفسد، لأن الدنيا انكفت بأهلها عليه وماجت بساكنيها ... من ولايته، وتداعت من أقطارها، تريد محاربته، حتى لقد نازعه فيها من ليس في مثل حاله ولا شرف موضعه، ولا في فضيلة دينه فناهضه الحرب، ونازله القتال ... بيعته، والتج عليه الخلاف من أهل طاعته، وموضع الجد في عسكره، فرد بأسه في أصحابه، وصرف كيده إلى جنده، وجلس خلي الذرع، رضي البال، [في] عجب الفاتن وسرور المخادع، وعز المصيب، وبأو الأريب. ثم بعث رسولا قد اختاره بالحكم عليه وله، وبعث خصمه رسولا قد اختاره بالحكم عليه وله. فكان رسوله المخدوع، ورسول خصمه المخادع. ثم رجعت الأمور إلى خصمه، وانتزعت منه ومن ولده مرة بالبطش، ومرة بالحيلة.

ثم كان يرى من خلاف أصحابه واضطراب جنده وتبديل أصحابه مثل ما يرى خصمه من طاعة خاصته، ونصرة جنده، وثبات عهد أصحابه. فلم يكن ذلك عارا عندنا ولا عندكم على علي، ولا دليلا على نقص رأيه وضعف حزمه، وسعة علمه وكثرة فضله، وقد أصابه من الخلاف والتعذر وانتشار الأمر واضطراب الحبل وظفر الأعداء وشماتة الحساد، ما قد رأيتم. ثم قد جئتم تشبثون بطعن سلمان، وقول أبي سفيان، وقعود خالد، كأنكم لم تعرفوا ما عند خصومكم، غرارة ونقصا.

وأعجب من هذا أنكم مرة تزعمون أن الذي حمل بني أمية على صرف الإمامة عن علي الضغن الذي في نفوسها، والأحقاد التي في صدورها، لقتل علي أبناءها وإخوتها وأعمامها. ومرة تعتلون وتحتجون في نقض إمامة أبي بكر بطعن عظيمي بني أمية في إمامته كعلي، كخالد بن سعيد وأبي سفيان بن حرب. وإذا شئتم كانا لكم، وإذا شئتم كانا عليكم.

وأما ما ذكرتم من قول أبي بكر: "ما كانت بيعتي إلا فلتة"، وقول عمر: "ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة وقى الله شرها" فإن الأمر على هذا واضح، والحجة فيه قائمة.

وهو أن النبي لما توفي كان الناس على طبقات:

من رجل مؤمن عالم، ناصح لله ورسوله.

ومن رجل مطاع ليس له علم بالإمامة، وما السبب الذي به تنعقد من السبب الذي به تنحل.

ومن رجل مكانه في قريش أشرف من مكان أبي بكر، وليست غايته صلاح المسلمين، إنما غايته أن يكون الإمام من أقرب القبائل إليه، ليزداد هو وقومه بذلك شرفا وفخرا.

ومن رجل له قرابة فهو يرى أنها تغنيه عن العلم والعمل.

ومن رجل شديد في بأسه، ضعيف في دينه، مخف في ذات يده، بعيد الهمة حامل في هدوء الناس وأمنهم، فهو لا يألو إضرام الفتنة، وتهييج السفلة، يرى أن في الهيج ظهور نجدته، وخروجه من الخمول إلى النباهة، ومن الإقلال إلى الإكثار.

ومن رجل دخل في الإسلام مع من دخل في دين الله، دخل من الأفواج. لا يعرف حقيقته، ولا يستريح به إلى الثقة.

ومن رجل أخافه السيف، واتقى الذل والقتل بإسلامه ونفاقه، كمنافقي المدينة ومن حولها من أهل القرى والبادية، يعضون على المسلمين الأنامل بالغيظ، وهم البطانة لا يألون خبالا، يترقبون الدوائر، وينفرجون إلى الأراجيف، ويستريحون إلى الأماني.

ومن رجل صاحب سلم، يدين لمن غلب، لا يدفع مبطلا ولا يعين محقا. يرى أن صلاح خاصته هو صلاح العامة.

ثم الذي كان من وثوب الأنصار، وهم أهل العدد وأصحاب الدار والأموال، على أمر لو تابعهم المهاجرون عليه حتى يكون من كل فرقة أمير، لفتحت بذلك بابا من الفساد لا يقوى أحد على سده، ولكان الذي يقع بين الأوس والخزرج في الأمر أشد مما كان يخاف منها ومن قريش، لأن القرابة كلما كانت أمس، والجوار أقرب، كانت العداوة على قدر ذلك.

ولو أن الأنصار حين أتاهم أبو بكر فأظهروا الشقاق والخلاف ... عن الحق وجهلوه، ما كان لهم دون البوار مانع، ولكان غير مأمون وثوب من بالمدينة ومن حولها من المنافقين وأشباههم، من الحشو والطغام، ولكان غير مأمون أن ينضم إليهم من حول المدينة من المرتدين، ممن بدل إسلامه ساعة بلغته وفاة النبي . ولو صاروا إلى ذلك لكانوا أقوى من المهاجرين والأنصار، إذ كانوا جميعا نشرا وقلوبهم شتى، وبأسهم بينهم. ولكان غير مأمون عند ذلك أن يغزوهم مسيلمة في أهل اليمامة قاطبة مع من حولها من أهل البادية. ثم كان غير مأمون أن يستمد بجميع أهل الردة ممن نكث ونصب العداوة.

وجميع ما قلنا إنه كان غير مأمون، لم نقله إلا بأسباب قد كانت هناك قائمة معروفة، فما عسى نقمه المهاجرون والأنصار على ما وصفنا ونزلنا.

فقد صدق أبو بكر وصدق عمر أن تلك البيعة كانت فلتة وأعجوبة وغريبة، إذ سلمت على كل ما وصفنا من أسباب الهلكة، وهي سربخ، وليس دونها ستر ولا رد. فكانت بيعته يمنا وبركة أنقذ الله بها من الهلكة، وجمع بها من الشتات، ورد بها الإسلام في نصابه، بعد تخلعه واضطرابه. فأماتت السخيمة، وأودعت القلوب السلامة، وجمعتها على الألفة.

وهذه مكرمة وعطية، ولا يجوز أن يحبو بها خالق العباد إلا نبيا أو خليفة نبي.

فأما قوله: "ما كانت بيعتي إلا فلتة وقى الله شرها"، فقول امرئ عالم بالعواقب، عالم بأسباب الفتن، شديد الشفقة منها، حامد لربه على السلامة منها.

أوما علمت أن أبا بكر بينا هو يخطب على المهاجرين في مسجد النبي ، والنبي مسجى، وهو يحتج عليهم ويعرفهم سرفهم، واعتداءهم في قولهم: "إن النبي لم يمت"، وقد خاف أن يصير بهم الإفراط في التعظيم والغلو في الحب، أن يضارعوا مذهب النصارى، وخاف أن يكون آخر أمرهم أشد من أوله. وكان أشد الأمور عليه في ذلك أن مثل عمر وعبد الرحمن وعثمان، هم الذين كانوا خرجوا إلى ما لا ينبغي من القول، فبدرهم بالخطبة محتجا عليهم ومعرفا لهم مواضع غلطهم، ونحس إفراطهم، فحين تبين لهم خطؤهم وسلموا لاحتجاجه عليهم، أتاه آت فقال: إن الأنصار قد اجتمعت إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، يقولون: منا أمير ومنكم أمير، فراعه ذلك، وصور له الحزم كل مخوف، فعلم أن الداء الذي عنه نطقوا أشد علاجا من الداء الذي نطق عنه عمر وعثمان وعبد الرحمن، والنفر من المهاجرين الذين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله لم يمت، وعلم أن إبراء كل سقم أهون من إبراء سقم الحمية والطمع في الملك، ولا سيما إذا شابهما سوء تأويل، وضافرهما الحس بالقوة. وهذا لهو الداء العضال والداهية العقام.

فلما انتهى إليه أمرهم، وعرف جميع ما عليه طبائعهم وعللهم، وطبائع أتباعهم، لم يكن شئ أهم إليه من البدار إليهم قبل أن يستفحل الشر، ويتمكن العزم. فمر حثيثا وتبعه عمر، ولحقه أبو عبيدة في نفر من قريش، فيمر بالناس حلقا عزين، وهم يبكون ويتحدثون، فيقبل عليهم فيقول: أنتم جلوس تفركون أعينكم وفي الإسلام العسا البدار، وقيل البوار.

فلو لم يتداركهم بحيطته ويقظته وصدق حسه، وأبطأ عنهم ريثما كانوا يتطارحون الرأي، ويستثيرون دفين الحسد حتى يتمكن ذلك الحسد، وتتمثل لهم صورة الظفر، فلو هجم عليهم أبو بكر في ضعف من بالمدينة من قريش، لم يكن في طاقتهم دفعهم، والدار دارهم، والبلاد بلادهم، والبادية باديتهم، ومن فيها تبع لهم، فكان من صنيع الله أن كان هو الذائد والقائم، والحارس، والعاطف والمداوي، ولم يكلهم الله إلى نظرهم واختيارهم، فيكون ذلك فسادهم وهلكتهم.

فإن قالوا: فما معنى قول أبو بكر للأنصار حين أتاهم: "إن هذا الأمر ليس بخلسة، قد علمتم معشر قريش [أنا] أكرم العرب أحسابا، وأيقنها أنسابا، وأنّا عترة النبي وأصله، والبيضة التي تفقأت عنه"؟

فلم يذكر أبو بكر قريشا وأحسابها وعترة النبي والبيضة التي تفقأت عنه، إلا وهو يرى أن له عليهم بهذا من الفضل ما ليس لهم، ومن السبب إلى الخلافة ما ليس لهم. فقد ينبغي أن يكون لبني هاشم على هذا القياس من الفضل والسبب ما ليس لبني تيم.

قلنا لهم: إن أبا بكر لم يقل هذا القول وهو يريد معنى مذهبكم فيه، مع أنكم قد قطعتم الكلام لأنه قال: "فإنه لم يكن فينا -فكان يوبخ به- وإنا نحن المهاجرون وأنتم الأنصار، وإن الله لم يذكرنا وإياكم في شئ من القرآن إلا بدأ بذكرنا قبلكم، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء".

فلم يقل أبو بكر: "قد علمتم يا معشر قريش أنا أكرم العرب أحسابا وأيقنها أنسابا، وأنا عترة النبي وأصله"، وهو يريد أن يخبر أن الرياسة في الدين تستحق لغير الدين، والخلافة أعظم رياسات الدين، فعلى حسب ذلك تحتاج إلى العمل الصالح.

ولكن أبا بكر خطب على قوم كانوا يرون للحسب قدرا، وللقرابة سببا، فأتاهم من مأتاهم وأخذهم من أقرب مآخذهم، واحتج عليهم بالذي هو عندهم، ليكون أقطع للشغب، وأسرع للقبول. وليس في كل المواضع تفسير لحجة أمثل من إظهار الجملة، وتعريف الناس الغاية، وحملهم على أدق الحجج وأصوبها. ولربما أخفى الإمام كثيرا مما يريد بالناس عنهم، للذي ... من بعضهم عن فضله، وضيق صدورهم عن سعة فضله. بل يعلم أنه لو أطلعهم طلع إرادته، والذي عزم عليه من صلاحهم، كانوا أسرع إلى طلب بغضه من عدوهم.

وقد دل أبو بكر على مذهبه في الأحساب في أول خطبة خطبها على المهاجرين والأنصار، حين قال في كلامه:

" وعليكم بتقوى الله، فإن أكيس الكيس التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وإني متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني، أيها الناس إنه لم يدع الجهاد قوم قط إلا ضربهم الله بذل، ولم تشع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم بالبلاء، أيها الناس اتبعوا كتاب الله، واقبلوا النصيحة، فإن الله يقبل التوبة، ويعفو عن السيئة، واحذروا الخطايا التي لكل بني آدم منها نصيب، ولكن خيرهم من اتقى الله، واتقوا يوما لا ينفع فيه حميم ولا شفيع يطاع".

ألا تراه ذكر جميع بني آدم ثم قال: "ولكن خيرهم أتقاهم"، كما قال الله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ثم قال: "اتقوا يوما لا ينفع فيه حميم ولا شفيع"، فقد أخبر عن نفسه ومذهبه في ذلك المقام بغاية ما يتكلم به أصحاب التسوية. فكأن أبا بكر إنما قال: فإن كان هذا الأمر معشر الأنصار إنما يستحق بالحسب ويستوجب بالقرابة، فقريش أكرم منكم حسبا وأقرب منكم قرابة، وإن كان إنما يستحق بالفضل في الدين فالسابقون الأولون من المهاجرين المقدمون عليكم في جميع القرآن أولى به منكم. لأن أبا بكر ذكر في صدر كلامه الحسب والقرابة، وفي عجزه فضل المهاجرين على الأنصار. فلما أبصر القوم وجه الحجة، وقررهم بما لم يزل عليه قبل ذلك طبائعهم، لحقوا بالطاعة وأعطوا المقادة.

وكيف يكون كبار الأنصار أفضل من كبار المهاجرين، وقد سبقهم المهاجرون وأسلموا قبلهم بالسنين قبل السنين، والأنصار بعد على دين آبائهم، وعبادة أصنامهم. ثم الذي لقي المهاجرون في الله ببطن مكة -والأنصار وادعون في بيوتهم رافهون في ديارهم ناعم بالهم خلي سربهم لذيذ عيشهم- ثم هاجروا إلى دارهم، فكانوا معا في العبادة والجهاد، إلا ما فضلوا به من وحشة الاغتراب، وفراق الدار والأحباب. فللمهاجرين مثل ما للأنصار، وقد بانوا بسابقتهم. وإنما قدموا في القرآن لتقدمهم في الإسلام.

وكما أن المهاجرين الأولين ليسوا كغيرهم من المهاجرين، وكما أن من أسلم بعد الفتح ليس كمن أسلم قبله، فكذلك ليس من أسلم والناس كلهم كفار غيره، كمن أسلم وقد أسلم الناس قبله.

وأنت إذا تأملت قول الصديق للأنصار: "إن هذا الأمر ليس بخلسة" علمت أنه كان ثابت الجنان، رابط الجأش، واثقا بالحجة، عارفا بمواضع الإمامة، وإنما كانت غايته تقريرهم بفضيلة المهاجرين، لأنهم إذا صاروا إلى ذلك فلا حاجة به إلى ذكر نفسه وتعريفهم فضله، لأن تبريزه كان بينا على المهاجرين، وفضله كان ظاهرا على السابقين.

والدليل على ذلك أن خوض الأنصار وكلامها لم يكن إلا فيما بين جملة الأنصار وجملة المهاجرين، قالوا: منا أمير ومنكم أمير. فما هو إلا أن قررهم بفضيلة المهاجرين فلم يكن لهم بعد ذلك متكلم، حتى أطبقوا جميعا على بيعته هم والمهاجرون من بين جميع المهاجرين - فلا يستطيع أحد أن يدعي أن إنسانا قال من الأنصار: فإن كان لا بد أن يكون منكم الأمراء فليكن فلان، فإنه أفضل وأحق بقرابة أو بعمل - فسكتوا معا سكتة واحدة، وسلموا معا تسليما واحدا.

ولو أن الأنصار كانوا قد سلموا للمهاجرين في البدء فلم يفارقوا ولم يتمادوا، وكانوا كالمهاجرين في إطباقهم على أن الإمام منهم، ما كان ليظهر للناس من شهامة أبي بكر وصرامته واجتماع نفسه وقوة منته، وجلد رأيه، وقلة حيرته وتضجعه مثل الذي ظهر لهم. وإنما يعرف العاقل فضل العاقل في مضايق الأمور، وساعة الجولة، والعجلة والحيرة، وظهور الفتنة، وموجان السفلة، واضطراب العلية، واختلاط الخاصة بالعامة.

فهل أعضل به داء فلم يسد ثغره، أم هل نجم بلاء فلم يتول قمعه؟

وزعمت العثمانية أن أحدا لا ينال الرياسة في الدين بغير الدين. ولو جاز أن يعطي الله رجلا عطية ويفضله على غيره لنسبه، وعملهما سواء في دار الدنيا، جاز أن يفضله عليه في الآخرة.

وليس ذلك كالمعافى والمبتلى، لأن العافية والبلاء، والشكر والصبر، والثواب على الطاعة بهما والعقاب على المعصية فيهما، إذا وازنت بين عواجل أمورهما وأواجلها من كل وجوهها، رأيتهما سواء لا فضل بينهما.

وكذلك شأن المملوك والمالك، والفقير والغني، والمبتلى والمعافى.

فإن كان القريب القرابة والبعيد القرابة سبيلهما في النقص والفضل، والصبر والشكر، والثواب والعقاب، وجميع حلاتهما في العاجل والآجل، كالمعافى والمبتلى، والمالك والمملوك، والفقير والغنى، فليس بين القريب والبعيد فرق، وليس لقرابته فضيلة على غيره، ولا ينفعه شئ إلا كما نفعت المعافى والغني في ظاهر أمرهما، وما يقع العيان عليه منهما، وهما في الغنى والمصلحة، والنظر والصنع، سواء.

وليس على هذا بنى القوم أمرهم في القرابة، لأنهم زعموا أن القرابة سبب للرياسة في الدين، ولو قالوا إنها سبب للقدر والنباهة في الدنيا كان ذلك وجها، كما ترى من فضل حال المنيع الرهط، الجميل الرواء، والمعافى في بدنه الكثير المال، على الذليل الرهط الذميم في روائه، المبتلى في بدنه، القليل ذات اليد، وهما في مغيب أمرهما. وفيما لا يقع العيان عليه من شأنهما، سواء في صنع الله وفضله وعائدته.

[وإنما] كان لنا أن نزعم أن القرابة تنفع في الدين والحسب فتكون سببا إلى الرياسة فيهما، أن لو كنا رأينا من عظم قدر القرابة ونبل من أجله نال الرياسة الكبرى بالحسب. فإذا رأينا النبي لم يستحق ذلك الموضع البائن العالي إلا بالفضل دون المركب كان من مت بقرابته أجدر ألا ينال الرياسة إلا بالفضل دون المركب، لأن النبي لو كان نال ذلك بالهاشمية كان هو ورجل من عرض بني هاشم سواء.

ولو كان ناله بعبد المطلب لكان ولد عبد المطلب لصلبه أقرب إليه.

وقد نعلم أن ذلك لو كان لشخص بالهاشمية أو بالمطلبية لكان لعلي في ذلك ما ليس لأحد، لأنه ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه فاطمة ابنة أسد بن هاشم.

فلما وجدنا الأمر كما ذكرنا، علمنا أن النبي لم يصيره مستحقا لأعظم الرياسات وأشرف المقامات إلا بالعمل، إذ كنا قد وجدنا من يساويه في الهاشمية لا يستحق مثل ماله.

وزعمت العثمانية أن لها في التسوية بين القريب والبعيد حججا كثيرة، قد عرفتها وسمعتها من أهلها.

ولكن كتابي هذا لم يوضع إلا في الإمامة، ولربما ذكرت من المقالة والملة والنحلة التي تعرض في الإمامة صدرا، طلبا للتمام وتعريفا لوجوه الإمامة وما دخل فيها.

والكلام في التسوية كلام يدخل في باب التعديل والتجوير، وهو باب يشتد الكلام فيه ويغمض، فإن أخبرنا عن فرعه ولم نخبر عن أصله لم ينتفع القارئ به، وصار وبالا عليه.

وقد زعم ناس من العثمانية أن الله بفضله ومنه كفى أكثر الناس مؤونة الروية، وتكلف غامض الكلام في التسوية، فأخبرهم في كتابه بأبين الكلام وأوضحه عن معاني التسوية، وما يجوز في عدله وحكمته. فقال وهو يريد أن يعلم الناس أنهم لا ينتفعون بصلاح آبائهم، ولا يضرهم فساد رهطهم فقال: {وإبراهيم الذي وفي. ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.

فإذا كان كون الإنسان ابن نبي وابن خليفة نبي أو ابن عم نبي ليس من سعيه، فقد أخبر أنه لا شئ له في ذلك حين قال: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فالسعي معروف، والكون من رهط دون رهط ليس من سعي المرء في شئ، ولذلك قال النبي لقرابته حين جمعهم: "يا عباس بن عبد المطلب، ويا صفية بنت عبد المطلب، ويا فلان ويا فلان، إني لا أغني عنكم من الله شيئا".

ولو أن إنسانا من القرابة إذا هو عصى وعصى غيره بمثل معصيته غفر الله [له] لقرابته، ولم يغفر للآخر، وكان إذا أطاع وأطاع غيره بمثل طاعته أعطاه الله أكثر مما يعطي الآخر، لكانا إذا استويا فلم يطيعا جميعا ولم يعصيا، فكانا إما طفلين وإما مجنونين وإما نائمين، وإما ساهيين، أعطى القريب وفضله، ولم يعط الآخر شيئا ولم يسو بينه وبين من لم يطع ولم يعص، كما لم يطع القريب ولم يعص، لم يكن النبي ليقول لعمه وعمته: إني لا أغني عنكم من الله شيئا.

ولذلك قال النبي : "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم".

ولذلك قال النبي : الناس كلهم سواء كأسنان المشط. والمرء كثير بأخيه. ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه".

ولذلك قال حين بلغه أن عيينة قال: أنا ابن الأشياخ، أنا عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو، قال النبي : "أشرف الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

ولذلك أخذ وبرة من جنب بعير يوم حنين فقال: "والذي نفسي بيده ما أنا بهذا أحق من رجل من المسلمين".

وقد قال الله: {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون}"، فلم يستثن من جميع النفوس نفسا واحدة، لا ابن نبي ولا ابن عمه.

وقال الله: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا}. والمولى كلمة واقعة على جميع، فمنه ابن عم المرء، ومنه خليفته، ومنه مولاه من فوق، ومنه مولاه من تحت، ومنه مولاه الذي ملكه قبل عتقه. فإذا قال الله: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا} فقد دخل فيه ابن العم وغيره، ولم يستثن الأنبياء دون المسلمين.

وقال: {يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم} وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} ثم قال: {إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}.

فمن اغتر بعد هذا بالقرابة واتكل على غير العمل الصالح فقد رد تأديب الله وتعليمه.

ثم الذي رأينا من قصة ابن آدم حين قرب من أخيه قربانا فتقبل من أخيه ولم يتقبل منه، فقتله حسدا له وبغيا عليه. وكيف لم تنفعه قرابته من آدم حيث لعنه الله وبرئ منه، وجعله من أصحاب النار، ثم قال: {وذلك جزاء الظالمين}. لكي لا يتكل أحد ظالم بعده على قرابته، ولا يغتر بأن يكون ابن نبي، ولذلك أرسل الكلام على مخرج العموم. ولم يخرجه ذلك المخرج إلا وذلك إرادته.

فإن قالوا: إنه لم يكن لصلبه، ولو كان لصلبه لنفعه ذلك عنده.

قلنا: إنه ليس لأحد سمع الله يقول: {واتل عليهم نبأ ابني آدم} أن يجعلهما من عرض بني آدم بعد سبعين قرنا إلا بحجة.

وإن لم تكن له في ذلك حجة فليس له أن يزيل معنى ابن عن أصله، لأن الأصل المستعمل الموضوع أن يكون الابن للصلب، فإنما جاز أن يقال لابن الابن على التشبيه بالابن، [و] على الحمل عليه.

وكذلك الابن الذي هو على التبني والتربية، لأن رجلا لو قال: أتاني فلان بن فلان، لم يكن لأحد أن يقول: إنه لم يعن ابنه وربيبه، إلا بحجة، وإلا فالكلام موضوع على أصله وعلى المستعمل المعروف منه.

ثم صنيع الله بابن نوح. وهو كما علمت من أعظم الأنبياء قدرا ومنزلة ومكانا، حين عصى فيمن عصى، كيف غرقه فيمن غرق ممن لا قرابة له ولا ولادة.

فإن قالوا: إنه لم يكن ابنه، لأن الله قال: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}، وذكر امرأة نوح وامرأة لوط فقال: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا}.

قيل لهم: إنه ليس لنا أن ندع قول الله: {ونادى نوح ابنه} إلى تأويل مختلف فيه. ولقولة الخيانة مخارج غير تأويلكم، وقد تفجر المرأة بعد أن صح منها لبعلها ولد كبير. وفي قوله: {فلم يغنيا عنهما من الله شيئا} دليل أن محبتهما كان الصفح عن خيانتهما، وأن محبتهما لم تغن عنهما شيئا.

ولا يشبه قولكم [في] نساء الأنبياء الذي نعرف من حسن اختيار الله لهم من طيب المناكح وطهارة المداخل. وهذا معنى طبائع الناس. لم يكن الله ليترك امرأة نبي تصير إلى تهجينه والتصغير بقدره، لأن الرسالة منظفة مصفاة، لا تحمل الأقذاء، ولا تعلق بها الأدناس، ولا يطوق المبطلين عليها الاعتماد.

وفي قول الله لإبراهيم، وهو شجرة الرسالة وخليل رب العزة، حين يقول له: {إني جاعلك للناس إماما} قال إبراهيم إما مستقيما وإما طالبا: {ومن ذريتي} قال: {لا ينال عهدي الظالمين}.

وأخبر أن عهد إمامته وخلافته لا ينال الظالم وإن كان من خير خلق الله.

ففي هذا دليل أن الرياسة في الدين لا تنال بغير الدين.

وقال الله: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} ألا ترى أن الذرية وإن كانت كلها ذرية ومكانها من القرابة سواء، فمنها ولي ومنها عدو.

فإن تركوا هذا جانبا وقالوا: كيف تزعمون أن أبا بكر كان يرى التسوية، وكان لا يرى أن الفروسية أصل للإمامة والقرابة شعبة عن الخلافة، ولم يكن في الأرض رجل أبعد من هذا المذهب من خاصته وخليفته وصنيعته، والمحتذي على مثاله، عمر بن الخطاب، لأنه فضل القرشيات من نساء النبي على غيرهن، وفضل العرب في العطاء على الموالي. وقال: "زوجوا الأكفاء" وكان أشد منه في أمر المناكح.

قيل لهم: إنه لم يكن على ظهر الأرض رجل كان أبعد مما قلتم من عمر، ولا [ظهر] منه خلاف ما ادعيتم مثل الذي ظهر منه.

والدليل على غلطكم وخطأ قولكم، أن عمر لما فرض الأعطية ودون الدواوين وقام إليه أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، فقالا: يا أمير المؤمنين، أديوان كديوان بني الأصفر، إنك إن فعلت ذلك اتكل الناس على الديوان وتركوا التجارات والمعاش! فقال عمر: قد كثر الفئ والمسلمون.

ففرض للمهاجرين ومواليهم، وللأنصار ومواليهم، ممن شهد بدرا في ستة آلاف ستة آلاف، فكان عطاء عمر وعلي وعبد الرحمن وطلحة والزبير وأبي عبيدة بن الجراح، وعطاء بلال وسالم مولى أبي حذيفة وجميع الموالي سواء.

ثم فرض على قدر الفضل والغناء والسابقة، على قدر بعد الدار وقربها من المهاجر، ففرض لأهل اليمن في السبعمائة إلى الألف، وهم أبعد خلق الله منه ومن مضر أرحاما ونسبا، وإنما أرغبهم وزادهم لبعد دارهم من المهاجر، وكانوا أهل قرى ومزارع، فتركوا مطنبهم رغبة في الهجرة.

وفرض لمضر وبَليٍّ وكلب وطيء في الثلثمائة إلى الأربعمائة، فتسويته بين مضر وطيء دليل على ما قلنا.

وفرض لربيعة في خمسين ومائتين وقال: إنما هاجروا من أطناب بيوتهم. وربيعة أمس به وبمضر من بلي وطيء.

وفرض لأشراف الأعاجم: لدهقان نهر الملك، وهو فيروز بن يزدجرد، ولابن النخيرخان ولخالد وجميل ابني بصبهرى دهقان الفلوجة، ولبسطام بن نرسي دهقان بابل، وجفينة العبادي، ورفيل في ألفين ألفين.

وفرض للبوسحتان والهرمزان ولسياه وخش وأمقلاس في ألفين وخمسمائة، وهو أقصى شئ أخذه عربي قط، فقيل له في ذلك، فقال: قوم أعاجم أشراف، أحببت أن أتألف بهم غيرهم.

وفرض لسوى هؤلاء النفر من العجم من الحاشية والعوام ممن سُبي وأسر وخرج في الصلح مع رئيسه وقائده، في أقل مما فرض للأعراب وحاشية العرب وعوامهم، فقيل له في ذلك فقال: إن الأعرابي إلا يقاتل عن دينه قاتل عن رهطه وشقه وناحيته، وإن لم يكن ذا بصيرة في دينه قاتل محاماة عن حسبه وأصحابه، وقد أمنت تحوله إلى عدوه، فأقل ما عنده إذا لم يبل أن يكثر السواد ويكثف الجيش، وهو على حال أفقه في الدين وأفهم للتأويل، والعجمي ليس بذى بصيرة في الإسلام ولا يقاتل عن داره ولا يحامي عن حسبه ولا يدافع عن رهطه، وغير مأمون عليه التحول إلى أصحابه فيدل على العورة، وهو أجدر ألا يفهم تنزيلا ولا تأويلا.

وحمل قوما في البحر وآخرين في البر، ففضل على قدر المؤونة، وأعطى على قدر المشقة.

فهكذا كانت عطاياه، وهكذا كان تدبيره فيما نقلت العلماء وروت الفقهاء، ولا يشك في ذلك صاحب خبر، ولا يدفعه صاحب أثر.

فأما ما ذكروا من تهجينه أمر العجم، وتعظيمه أمر العرب، فإنما كان ذلك لأنه لما ندب الناس إلى قتال كسرى والأساورة تثاقلت عن ذلك العرب والأعراب وجميع المهاجرين والأنصار، هيبة لناحية كسرى والفرس، وخفوا لغزو الروم ونشطوا له، حتى انتدب أبو عبيد الثقفي أول من انتدب، فلذلك عقد على كبار المهاجرين الأولين والأنصار والبدريين، فلم يكن له هم إلا تصغير أمرهم وتهجين شأنهم والحط من أقدارهم ليرد ذلك من نفوس العرب.

وهكذا ينبغي أن يكون تدبير المدبر.

أوما علمت أن المغيرة بن شعبة لما سمع قيس بن مكشوح يقول حين عاين الفرس: وما رأيت كاليوم حديدا ولا عديدا! وهذا يوم القادسية، وقد كان قيس شهد قبل القادسية حروب الروم، وقيس يومئذ على الخيل، والمغيرة على الرجالة، فأقبل عليه المغيرة منتهرا له وهو يقول: إنما هذا زبد من زبد الشيطان!

وقد كان المغيرة قد عاين مثل الذي عاين قيس، ولكن التدبير كان غير الذي ذهب إليه قيس.

ومن الدليل على ما وصفنا من تدبير عمر، تركه الاستخفاف بأقدار العجم وإظهار احتقارهم والإزراء بهم، بعد جلولاء.

فمن ذلك أنه لما أتي بسيف كسرى وقبائه ومنطقته ألبسه سراقة بن مالك بن جعشم، ثم قال له: أدبر، ثم قال له: أقبل، فلما أقبل عليه عمر وعنده الناس، فقال: أما والله لرب يوم لو كان هذا من كسرى وآل كسرى لكان شرفا لك ولقومك. في أمور كثيرة من هذا الضرب لم يكن عمر لينطق بحرف منها وحربهم مخوفة ونفوس العرب لهم هائبة.

وهكذا تدبير الخلفاء ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولو كانوا إذا لم يفهموا عن الأئمة لم يعترضوا عليهم ولم يخطئوهم ولم يجهلوهم كان أيسر.

ولا أعلم في الأرض جيلا أجهل بهذا وشبهه ممن ينتحل اسم الكلام وينصب نفسه للخصومات، ثم الروافض خاصة، ليس يعرفون من أمر الإمام إلا أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون.

ومن الدليل على ما وصفنا به عمر، قوله لسعد بن أبي وقاص حيث وجهه إلى القادسية وأوصاه، قال: يا سعد سعد بن وهيب، إن الله عز وجل إذا أحب عبدا حببه إلى الناس، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك أن يقال خال رسول الله ، فإن الناس في ذات الله سواء.

فأي قول أجمع وأدل، وأي فعل أشبه بالذي حكينا عنه من التسوية، من هذه الأقاويل والأفاعيل.

وكان سعد خال النبي، ولذلك قال النبي وقد أخذ بيده: "هذا خالي أباهي به فليأت كل امرئ بخاله".

وفي قول عمر في المناكح: "ليس شئ من خصال الجاهلية إلا وقد تركته، ألا إني لست أبالي إلى من نكحت، وإلى من أنكحت" فإن شئت أن نقول: وأي أمر هو أوجب على العاقل المسلم الحر من ألا يبالي إلى من نكح وأنكح؟

قلت: وإن قلت إن هذا الكلام من عمر يدل على بقية عصبية فيه، فما تبرأ إليك منه حين جعله من خصال الجاهلية إلا وهو آب له وناه عنه، وزار عليه. وفي قوله هذا دليل على أنه قد اكترث لبقية عادة الجاهلية، وأنه راغب عنهما كما رغب عن أكبر منهما.

وفي قوله لعبد الله بن عمر حين فرض له في ألفين وفرض لأسامة في ألفين وخمسمائة، وابنه قرشي وأسامة مولى، حين قال له عبد الله: أتفضل علي أسامة في العطاء وأنا وهو سيان؟ قال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك.

ألا ترى أنه يدور مع الدين حيثما دار؟

وفي قول عبد الله بن عمر لأبيه:" تفضل على أسامة في العطاء وأنا وهو سيان" دليل على أن القوم كانوا لا يعرفون إلا الدين والسابقة، والغناء عن المسلمين.

وفي وصيته عند وفاته أن يصلي عليه صهيب، وفي أمره إياه بالصلاة بالناس في مقامه إلى أن يختار المسلمون رجلا، دليل على ما قلنا.

وصهيب مولى لعبد الله بن جدعان.

والدليل على أن صهيبا رجل من العجم قول رسول الله : "بلال سابق الحبشة، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم". وهذا حديث لم يختلف فيه فقيهان.

وفي خروج آذنه وحاجبه يوما إلى الناس، وقريش والعرب جلوس ببابه ينتظرون إذنه، فيهم أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فنادى بأعلى صوته: أين عمار؟ أين بلال؟ أين صهيب؟ أين سلمان؟ فينهضون مكرمين ومفضلين، وعلى الناس مقدمين، وتلك الجلة وتلك السادة جلوس لا ينطقون ولا ينكرون، فلما كثر ذلك عليهم تمعرت وجوههم وامتقعت ألوانهم، فأبصرهم سهيل فعرف ما قد أصابهم ونزل بهم، وكان حليما خطيبا فقال: لم تتمعر وجوهكم وتتغير ألوانكم، ولا ترجعون باللائمة على أنفسكم؟ دعينا ودعوا، فأبطأنا وأسرعوا، ولئن حسدتموهم على باب عمر للذي أعد الله لهم في الجنة أفضل!

ثم الدليل الذي ليس فوقه دليل، قوله وعنده أصحاب الشورى وكبار المهاجرين وجلة الأنصار وعلية العرب، وهو موف على قبره ينتظر خروج نفسه: "لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه الشك". وسالم مولى امرأة من الأنصار، وكان حليفا لأبي حذيفة بن عتبة بمكة. فلذلك كان يقال: مولى أبي حذيفة، لأن حليف الرجل مولاه.

فإن كان هذا لا يدل على التباعد من الحمية والأعرابية والعصبية، ولا يدل على التسوية. فما عندنا ولا عند أحد شئ يدل على شئ! وإذا كان هذا مذهبه وقوله في الخلافة فما ظنك به فيما دون الخلافة؟

وهذا باب إن استقصيناه كثر وشغل الكتاب. وفيما قلنا مقنع لمن كان الحق له مقنعا، والصواب له مألفا.

فهل يقدر أحد أن يحكي عن علي مثل الذي حكينا عن عمر في التسوية أو شطره؟

إن أكبر ما رأينا في أيديكم عنه قوله: "إنني قرأت ما بين دفتي المصحف فلم أجد فيه لبني إسماعيل على بني إسحاق فضلا".

فهذا قول إن قاله علي فليس فيه دليل أنه أراد به الطعن على عمر وإظهار خلافه، لأن عليا قد ملك أكثر الأرض خمس حجج، فلو كان رأيه في خلاف عمر على ما تصفون، وكان عمر عنده لا يرى التسوية في العطاء، لقد كان غير دواوين عمر، وبدل أعطيته وفروضه وحولها إلى الحق عنده، أو نطق فيها بحرف، أو أظهر ذلك في هيئته إن لم ينطق به خطيبا ومحتجا.

وكيف يكون ذلك ولا أحد أعلم بصواب ما دبر عمر في ذلك من علي؟

وكيف يكون عمر لا يرى التسوية وقد صنع صنيعا لو قام مقامه أشد الناس سعيا - ما لم يجر عن الحق ويعدل عن السداد - ما كان عنده ولا في طاقته أكثر منه.

والعجب أنكم تزعمون أن عليا كان يرى التسوية، وأن عمر صاحب حمية، فأنتم تروون أن أكثر احتجاجه إنما كان بذكر قرابته وأمتن أسبابه ومصاهرته، مع أن القرابة هي التي أخرجتكم إلى هذا الإفراط كله، فأنتم تحبون بني هاشم وتفضلونهم للقرابة، وتوجبون لهم الإمامة للقرابة، ثم تزعمون أن عليا كان يرى أن ولد إسماعيل وإسحاق سواء، وكان يرى أن العرب والعجم سواء.

وكيف غضبتم على عمر لأنه فضل قريشا على العرب، والعرب على العجم، ولم تغضبوا على أنفسكم حين فضلتم بني عبد المطلب على بني هاشم، وفضلتم بني هاشم على بني عبد شمس؟

ففضلوا أيضا بني عبد شمس على سائر قصي، وسائر قصي على سائر كعب، وسائر كعب على سائر قريش، وكذلك سائر قريش على سائر مضر، وكذلك سائر مضر على ربيعة، وربيعة على ولد إسحاق، وولد إسحاق على ولد قحطان.

وإن شئتم ففضلوا ربيعة على اليمن، واليمن على العجم. وإذا أنتم قد دخلتم في كل ما عبتم.

فأما أن تفضلوا من شئتم على من شئتم - وإن كان من لم تفضلوا في القياس كمن فضلتم - فليس ذلك لكم، لأن القياس قد اعترض دون مشيئتكم وقضى عليكم.

ولو أن قائلا قال: أنا أزعم أن الناس كلهم بعد بني عبد المطلب لصلبه سواء، كما قلتم إن الناس كلهم بعد بني هاشم سواء، ما كان الذي قال أمس بالرسول وأولى بالحكم. فإن قلتم: فمن أين كان له أن يقف على جد عبد المطلب وليس بينه وبين هاشم إلا أب؟ فيقال لكم: وكيف كان لكم أن تقفوا على جد هاشم وبين هاشم وعبد مناف أب واحد؟ وكيف كان لكم أن تقطعوا التفضيل وحق القرابة من لدن هاشم، وهاشم وعبد شمس أخوان لأم وأب؟ ولذلك قال الشاعر:

عبد شمس كان يتلو هاشما * وهما بعد لأم وأب

فاجعلوه يتلو هاشما في حق القرابة واستحقاق الإمامة. وإذ جاز عندكم أن تتخطى الإمامة العم إلى ابن العم كان [ذلك] في الأخ للأم وللأب.

ثم زعمتم أن الدليل على أن عمر صاحب عصبية وحمية، رده لسلمان حين خطب إليه ابنته، وسلمان كان أعقل من أن يخطب إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

قلنا: جوابنا في هذا في خطبته إلى علي، وإن كان علي أشرف موضعا. مع أن القائم عن سلمان أنه كان يقول: قال لي النبي : "يا سلمان لا تبغض العرب فتبغضني". وكان يقول: "أمرنا أن نأتم بكم ولا نؤمكم، وأمرنا أن نزوجكم ولا نتزوج منكم".

فليس في الأرض متعرب وصاحب عصبية إلا وأكبر ما يحتج به في المناكح حديث سلمان.

وقد تمنع الأشراف عقائل نسائها لأسباب غير التحريم، لا يكون ذلك عيبا عليهم في آدابهم، ولا نقصا في أديانهم.

وفي قول علي يوم الجمل حين رأى عبد الرحمن بن عتاب صريعا: "شفيت نفسي وجدعت أنفي، قتلت الصناديد من بني عبد مناف [وأفلتني الأعيار] من بني جمح!" فقال له رجل: لشد ما جزعت عليه يا أمير المؤمنين! قال: "إنه قد قامت عني وعنه نسوة لم يقمن عنك" دليل أنه قد كان يرى للأمهات قدرا كثيرا، وللمناكح خطرا عظيما.

وفي كراهته أن يتزوج المقداد ضباعة بنت الزبير، حتى كان من النبي إليه الذي كان، دليل على شدة تدبيره.

وإنما ينبغي أن يقضي بين أصحاب محمد من قد عرف أمورهم في جميع متقلبهم، لأنه غير مأمون على المتكلم إذا قل سماعه أن يخرجه الجهل [إلى] استصغار بعضهم أو تضليله والبراءة منه، فيهلك هلاك الدنيا والآخرة.

وإن أغنى الناس أن يكون أصحاب محمد خصومه لأنتم معشر أصحاب النظر والمتكلمين.

والذين نحلوا عمر العصبية رجلان: رافضي أحب أن يمقّته إلى العجم والموالي، ومتعرب عرف أن عمر عند الناس قدوة، فنحله ذلك ليكون له حجة. فاعرف ذلك.

وأما ما ذكروا من أن الزبير خرج شادا بسيفه يوم السقيفة، فإن كانوا صادقين فإن هذا لهو الطيش والتسرع إلى الفتنة. وتهييج الناس على إظهار السلاح.

وإنما أتى أبو بكر الأنصار واعظا ومحتجا، ومسكنا ومصلحا بألين الكلام وأحسن الهدي، لم يحمل سوطا ولا سيفا، ولم يظهر معازة ولا أراد المغالبة. فما وجه خروج الزبير بسيفه شادا نحوه؟ بل كان أشبه الأمور بالزبير وأولاها به، والذي يجب علينا أن نظنه به، أن يقوم محتجا ومصلحا. فإذا أبان عن حجته وأعذر في موعظته فلم ير ذلك ناجعا ولا مقبولا، ورأى شيئا يجوز به حمل السيف والشد به، كان من وراء ذلك.

وكيف علمتم أن الزبير إنما سل سيفه ليؤكد لعلي إمامته أو ليوطئ له خلافته؟ ولعله إنما أراد الأمر لنفسه دون غيره. ولعله إنما غضب لصرف الأمر من خاله وكبيره وشيخه العباس بن عبد المطلب. فكيف علمتم أنه إنما أراد صرفها عن أبي بكر خاصة؟ وكيف يشد على رجل لم يقل بايعوني ولا أظهر الحرص عليها، وإنما كره أن يبقى الناس نشرا، وعلم أن على الأنصار أن يسمعوا للمهاجرين. وقد قال للناس: "بايعوا أي هذين شئتم" يعني أبا عبيدة وعمر. إلا أن يكون الزبير قال: ولم كنت أنت المحتج على الأنصار والمعرف لهم فضل المهاجرين عليهم دون علي!

ويقال لهم عند ذلك: أما بادي الرأي والذي لا نشك فيه نحن ولا أحد ممن خالفنا، فالذي كان من مناصبة الزبير لعلي ومحاربته له دون الإمامة، وزعمه أنه أفضل منه وأولى بها منه، ولو جعلها شورى لفرعه وبرز عليه.

ثم الذي لا يشك الناس فيه من طاعته لعمر، وإنما عمر شعبة من شعب أبي بكر. ولقد بلغ من تعظيمه لعمر وطاعته له وإكباره لقدره، أنه محا نفسه من الديوان لما قتل عمر تسلبا عليه ورفعا لقدره أن يلي منه من الإعطاء والمنع أحد كما كان يليه منه عمر. كما محا نفسه من الديوان حكيم بن حزام لما توفى النبي . وكذلك محا نفسه من الديوان عبد الله بن الزبير حين قتل عثمان.

ولقد بلغ من طاعته لعمر أنه بعثه مددا لعمرو بن العاص، فجعل عمرا الأمير عليه ينفذ لأمره ويصلي بصلاته.

والذي يدلك على انبتاته في هوى أبي بكر، وانقطاعه إليه بمودته الخاصة التي كانت بين أبي بكر وبينه، وذلك أن عبد الله بن مسعود أوصى إليه حين مات. وعبد الله عمري محض، وهو القائل في عثمان حين برز على الشورى: "ما ألونا أن جعلناها [في أعلا] نا ذا فوق". فإذا كان هذا قوله في عثمان وعلي، فما ظنك به في أبي بكر وعمر.

ثم أوصى إليه عثمان بن عفان [و] هو أصل العمرية والعثمانية، والمباينة لعلي وشيعته عندهم. وأوصى إليه عبد الرحمن بن عوف، وهو المختار لعثمان على علي، وصاحب أبي بكر، والدافع بالموسم في خلافة أبي بكر من بين جميع المهاجرين.

هذا مع أسباب الزبير الواشجة بأبي بكر: فمن ذلك إسلامه على يديه، واحتماله مؤونته في مصاهرته، حيث رغب إليه في تزويج ابنته أسماء ذات النطاقين، فولدت عبد الله - وعبد الله كنيته أبو خبيب - وعروة وغيرهما. وكان عبد الله أول مولود ولد في الهجرة، فسماه الزبير باسم جده أبي بكر، لأن اسم أبي بكر عبد الله ولقبه عتيق، وإنما لقب بعتيق لعتق وجهه ودقة محاسنه. ثم كني [ابن] الزبير بأبي بكر بكنية جده. فكان عبد الله بن الزبير يكنى أبا بكر تيمنا منهم بكنيته وتبركا باسمه.

وقالت عائشة رضي الله عنها: ألا تكنيني يا رسول الله؟ قال: "بلى، اكتني بابنك" يعني عبد الله بن الزبير. فكانت عائشة تكنى بأم عبد الله. ولذلك كانت تقول: قال ابني، وفعل ابني، وكادوا يوم الجمل أن يقتلوا ابني.

فيقال للرافضة: أما العيان والوجود فهو الذي خبرناكم به. وأما ما ادعيتم من [أن] الزبير سل سيفا ليؤكد إمامة علي فقد ينبغي أن تأتوا على ذلك ببرهان. فأما معاداة الزبير له ومحاربته إياه وفخره عليه، فهذا ما لا يدفع عنه، ولقد فخر عليه حين دعاه إلى الشورى وأبى ذلك علي فقال: أسلمت بالغا مدركا وأسلمت ناشئا طفلا، وكنت أول من سل سيفا في الإسلام ببطن مكة وأنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال ويمونك الأقارب من هاشم، وكنت فارسا وكنت راجلا، وكنت شجاعا وكنت بطلا. ولئن كنت تزعم [أنك ابن عمه] إني لابن عمته. وأنا عابر البحر يوم الحبشة، وفي هيئتي نزلت الملائكة. وأنا حواري رسول الله وفارسه.

خبرني بهذا الكلام أبو زفر، عن ضراب أن الزبير كان احتج به.

وخبرني جماعة من العثمانية عن محمد بن عائشة، أن الزبير كان احتج به، وقد سقط عني بعضه لطول العهد بسماعه.

وقالت العثمانية: العجب أن الروافض ربما احتجت علينا بأن الزبير سل سيفه ومضى قدما في تأكيد بيعة علي وخلع سواه، ونقص من أبي بكر.

فيقال لهم: فما منعكم أن تقولوا لما مات النبي وجحد السلف إمامة علي: كفر الناس خلا خمسة نفر أولهم الزبير في نفسه وفضيلته على غيره، وأكبر ما كان منه من سل السيف والشد به، وهذا موقف لم يقفه بلال ولا أبو ذر. وأنتم على ثقة أن ذلك كان، وأن السيف لم يحمل إلا لنصرة علي دون العباس وجميع بني عبد مناف وما ولد قصي.

وكيف لم يكن أدنى منازل الزبير أن يكون قد كان مؤمنا وليا إلى أن جحد إمامة علي بعد مقتل عثمان، فيكون سبيله شبيها بسبيل حذيفة وعمار، لأنهما كانا عندكم كافرين حتى تابا في زمن عثمان، فكان يكون الزبير مؤمنا إلى أن كفر عند مقتل عثمان.

وإنما صار حذيفة وعمار عند الرافضة وليين لأنهما قالا بزعمهم: والله ما دخل عثمان حفرته إلا كافرا، وإنه لحيفة على الصراط يوم القيامة، يتأذى به أهل الجمع.

فإن كانوا إنما صاروا إلى توليهما بعد إكفارهما من أجل تصديق هذا الحديث فإن الذين رووه هم الذي رووا أنهما قالا: والله ما دخل عثمان حفرته إلا كافرا، وإنه لجيفة على الصراط يتأذى به أهل الجمع؛ وإنه لا يلي هذا الأمر بعد عمر إلا كل أصفر أبتر. فإن كانا قد تابا بقولهما الأول لقد ارتدا بقولهما الثاني حين قالا: وإنه لا يلي هذا الأمر من بعد عمر إلا كل أصفر أبتر.

ولو لم يكن ذلك كذلك بل كانا مرتدين فتابا فتوليتموهما عند توبتهما وعاديتموهما قبل ذلك على طاعتهما لعمر، فما بالكم لم تقولوا مثل ذلك في الزبير أنه لم يزل مؤمنا حتى جحد إمامة علي بعد؟ مع أن سل الزبير سيفه، وعدوه نحو أبي بكر وأصحابه، وقول عمر: "دونكم الكلب" حتى أخذ سيفه وخطر، إنما هو حديث وجدناه في بعض السيرة، وليس من الأخبار المستفيضة، وليس مما يحققه أصحاب الحديث.

وإن قالوا: فما قول أبي بكر في خطبته التي خطب بها في أول خلافته: "وليتكم ولست بخيركم"؟ وهل يخلو هذا القول من الصدق والكذب. فإن كان صدقا فهو خلاف قولكم في تفضيله على جميع أئمتكم، والرجل كان أعلم بنفسه وبأهل دهره، وإن كان كاذبا فأي كذب أقبح من كذب إمام على منبر جماعة؟ ومن أحق بألا يليهم ويحمل إمامة دينهم ودنياهم ممن يكذب على منبر الرسول من غير أن يكرهه أحد أو يريده عليه، أو يكون في تقية كخائف السوط والسيف؟ بل ما يدعوه إلى الكذب، والكذب مقبح في العقل مقبح في الدين، ولم يكن هناك رهبة تسوقه ولا رغبة تقوده؟ على أن كذب الرعية أسخف وأقبح، وهو لا يخلو من أن يكون صادقا فلا يسعه أن يتقدم من هو خير منه وقد مكنه تقديمه، أو يكون كاذبا فالقول فيه على ما قلنا.

قلنا: إن العثمانية تذكر لذلك وجوها:

فمنها: أن الحسن كان يقول: "والله أعلم أنه كان خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه". فزعم الحسن أنه إنما تهضم نفسه ووضع منها لأن الخلف المشفق كثيرا ما يزرى على نفسه ويعيب عليها ويستبطئها، ويظهر المقت لها والخوف عليها. فهذا كان مذهب الحسن.

وأما قتادة فزعم أنه قوله: "وليتكم ولست بخيركم" إنما أراد في الحسب، ليعلمهم أنه إذ يليهم بالحسب فإنما وليهم بالسابقة. لأنهم قد كانوا أكثروا من قولهم: أرضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم؟ وأراد في أول مقام قامه أن يعلمهم [أن] ذلك المقام لا ينال بأن يكون صاحبه خير الناس حسبا ومركبا، إنما ينال بأن يكون خير الناس علما وعملا.

وأما غيرهما فزعم أن من عادة الخائفين الوجلين المشفقين أن يقول الرجل منهم: كل أحد خير مني؟ ثم يبكي على تضييعه، ويستعظم صغير ذنوبه كأنه ليس في الأرض مذنب سواه، وأكثر ما يقول ذلك عند ذكر بعض ذنوبه أو عند بعض ما يعارضه به الشيطان والإنسان، من تزكيته وتقريظه وإظهار تفضيله لنفسه وإحسانه، والعجب بحاله. لأنه ليس بعد أن يرى العبد أن ذنبه من قبل ربه مذهب هو أعظم من استكبار الطاعة واستصغار المعصية. فعند ذلك يعارضه المؤمن بتقريع نفسه وتأنيبها، وتوقيفها على ما فرط منها، وتذكيرها مساويها، واستعظام كل ما كان من تقصيرها وإساءتها، واستصغار كل ما كان من عظيم إحسانها وطاعتها، فيقول: كل أحد خير مني. وما أشبه من الكلام.

وهذا الضرب من اللفظ، إذا كان على هذا الوجه فليس في مجرى الكذب وقول الزور، وإن كان القائل: "كل أحد خير مني" خيرا من كل أحد.

فكأن أبا بكر لما خطب الناس وقام مقام رسول الله ، وسلم عليه المهاجرون والأنصار وعلية قريش وسادة العرب قياما على أقدامهم، وصفوفا على مراتبهم، يقولون: السلام عليك يا خليفة رسول الله، وألقيت إليه أزمة الأمور، وأعطوه المقادة، وأسمحت نفوسهم له بالطاعة وقد صرفوها عن القرابة وعن أهل الشرف، رأى بسطة عيشه من عز الخلافة وبأو الإمامة، ما لا يعرف قدره غيره، ولا تأتي الصفة على كنهه، وللشيطان هناك مداخل ومخاتل، ودس وتحريك وطمع، ليس يقوى بشري على دفع تلك الفتنة، وتسكين تلك الحركة، والنهوض بتلك المحنة، إلا بغاية الزري على النفس والهضم لها، والبخس والتخون منها، وتناسي ذكر جميع محاسنها، واجتلاب ذكر جميع مساويها. فبالحري إذا صنع ذلك أن يرد من غربه وطوائع نفسه، وحركة همته، وانتشار عزمه، وانتقاض مرته.

وهذه حال لا يمتحن بها إلا الخلفاء، ولا يختبر بها إلا الأئمة الهدّى، لأن معهم من قوة المنن ومن فضول الأحلام، وشدة الورع وكثرة العلم، وثبات النفس، والمعرفة بما أداه الطائع، وإماتة الشهوات، وقمع ... ما يقام به موريه مكايد الشيطان وتعظيم الإنسان، وعز السلطان. والنفس لا تسمح بإعطاء ما عليها حتى تمنعها ما لها.

وإن كان قول أبي بكر: "وليتكم ولست بخيركم" إنما أراد به مداواة قلبه والزري على نفسه، فليس بكذب وإن كان خيرهم، إذ كان إنما أراد إصلاح قلبه، وعلاج دائه، والبعد من تقرير القوم بنقصهم عن فضله، والفخر عليهم بتبريزه. فإنما أراد أن يكون سبيله سبيل من يظهر التعلم إذا علم، وسبيل من يتواضع إذا عظم. فجمع بذلك حسن الأدب، والبعد من التزكية. والتحبب إلى المستمع، والتواضع لربه، والمداواة لقلبه، والظفر بعدوه، وإحراز دينه.

وقد يكون إخلاص ظاهر لفظه على شئ ومعناه غيره، فلا يكون ذلك كذبا، لمعرفة القائل بفهم المستمع عنه. وهذا باب كثيرا ما يستعمله العرب.

يقول الرجل لامرأته: ألقيت حبلك على غاربك! وهو يعني طلاقها وليس هناك حبل ألقي على غارب.

ويقول: ما لي في هذا الأمر ناقة ولا جمل! وليس ذلك يريد. ولست منها في عير ولا نفير! وليس ذلك يريد.

وقال عمر في الصداق ما بلغكم، فلما احتجت عليه المرأة بقول الله: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} قال: كل أحد أفقه من عمر.

وهذا القول ينبغي أن يكون على قياسكم هذا كذبا. ولا نعلم أحدا رواه عن عمر إلا على التفضيل له. ووجهه قائم معروف.

فإن قالوا: ما معنى قول أبي بكر: "بايعوا أي هذين شئتم"، يعني عمرو وأبا عبيدة.

قيل لهم: إن أبا بكر إنما قال هذا الكلام للأنصار ومن حضر بعد أن قرر الأنصار بفضل المهاجرين عليهم، وأن الأمراء منهم. فعلم عند ذلك أنه بائن عند الأنصار من جميع المهاجرين كما بان عند المهاجرين، ولكنه كان سائسا رفيقا، فكره أن يقول بايعوني، ليكونوا هم الذين يطلبون منه ذلك ويريدونه عليه، ويظهرون حب تقديمه، لتكون النفوس بطاعته أسمح، وفيها أرغب، ولمذهبه أحمد، ولأن ذلك عندهم أبعد من الاستبداد عليهم، والافتيات بالأمر دونهم، والحرص على التأمر عليهم. ولذلك مشى في الناس بعد بيعته ثلاثا يقول: هل من مستقيل فيقال؟

وقد قال في خطبته بعد البيعة:

وقد كانت بيعتي فلتة، وخشيت الفتنة، وايم الله ما حرصت عليها يوما ولا ليلة، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، وما لي فيها راحة، وقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني.

ألا ترى زهده فيها، وقلة حرصه عليها، وكيف يخبر أنه لو لم يخش الفتنة ما قبلها، ولود أن أقوى الناس عليها مكانه؟

وقوله: "لوددت أن أقوى الناس عليها مكاني" يقول: وددت أنه لو كان في الناس من هو أقوى عليها مني. ليس أنه يرى أن في الأرض يومئذ رجلا هو أقوى عليها منه.

ومثل هذا في كلام العرب كثير.

وقال الراجز وذكر إبله فقال، إذا كانت عليها مغارضها:

  • يشربن حتى تنقض المغارض *

يقول: يشربن حتى لو [كانت عليها مغارضها] سمعت لها نقيضا. والبعير لا يورد وعليه غرضه وبطانة.

ثم رجعنا إلى الحديث الأول.

فكأن أبا بكر حين قال: "بايعوا أي هذين شئتم" علم أن عمر وأبا عبيدة لا يستجيزان تقدمه والتأمر عليه، كما بلغنا من قول عمر في أبي بكر، يوم جمع المهاجرين والأنصار يستشيرهم في غزو الروم حيث خالفوه وأبى أبو بكر إلا إنفاذ ذلك الجيش والتعريف لهم بالحجة فيه، حين يقول: "الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه. والله ما استبقنا إلى شئ من الخير إلا سبقنا إليه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".

وقال أيضا يوم السقيفة حين قال أبو بكر: بايعوا أي هذين شئتم: "والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلى من أن أتقدم أبا بكر".

وقال: "والله لأن أضجع فأذبح كما يذبح الجمل أحب إلى من أن أتقدم أبا بكر".

ولقد بلغ من تعظيمه له وتقديمه إياه أنه قال حين سئل عن الكلالة: "والله إني لأستحي الله أن أرى خلاف رأي أبي بكر".

وأنت لم تجد أبا عبيدة تقدمه في موقف قط، وقد وجدت أبا بكر قد تقدم أبا عبيدة في مواقف كثيرة، في حياة رسول الله وبعد وفاته، كما حكينا لك قبل هذا. ولم نجد ذكر أبي بكر وعمر في موضع قط إلا وأبو بكر المقدم عليه، مع مقامات لأبي بكر شريفة ليس لعمر فيها ذكر.

فبين أن يكون أبو بكر يأمرهم بذلك أمرا أو يطلب إليهم طلبا، وبين أن يجعله إليهم فيكونوا الطالبين له والراغبين إليه، وليكون ذلك من تلقائهم وطيب أنفسهم، فرق عظيم.

وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها عمر والنبي يقول: "ضرب بالحق على لسانه" و "الشيطان يفرق من حسه" و "اللهم أعز الإسلام بعمر"؟ وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها أبو عبيدة والنبي يقول: "لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح".

وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها عبد الرحمن بن عوف وقد سماه رسول الله "الأمين". فإذا كان أمين رسول الله في أمته، والفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، حيث قال: "لا يعبد الله سرا بعد اليوم" قد عقدا بيعته وأكدا أمره، فما عسى أن يبلغ قول قائل؟ ولو كان ذلك عن مواطأة من أبي بكر لأبي عبيدة كما واطأ معاوية عمرو بن العاص، ما استعمل عليه خالد بن الوليد أميرا أيام حياته حتى عزله عمر بن الخطاب، ولكان كما صنع معاوية بعمرو حين أطعمه مصر.

وأية بيعة أثبت من بيعة عقدها عبد الله بن مسعود، والنبي يقول: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وكرهت لها ما كره ابن أم عبد". فإذا رضي ابن أم عبد بيعة رجل فقد رضيها النبي عليه السلام، إذ كان النبي قد قال: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وكرهت لها ما كره ابن أم عبد".

ولقد بلغ من تقديمه لأبي بكر وعمر وعثمان أنه قال عند اختيار الناس لعثمان: "ما ألونا أن جعلناها في أعلانا ذا فوق".

ولقد بلغ من تعظيمه لعمر وتقديمه له، أنه قال: "لقد خشيت الله في حب عمر". وقال: "ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر". وقال بعد موت عمر: "إن عمر كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم ذلك الحصن فصار الناس يخرجون منه ولا يدخلون فيه". وقال: "إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر".

فإذا كان عمر وعثمان من أتباع أبي بكر وشيعته وأوليائه، وهذا قوله فيهما وتفضيله لهما، فما ظنك به في أبي بكر؟

ولو أن رجلا واحدا من نحو من ذكرنا عقد لعلي إمامة، أو نطق فيه بكلمة، لأكلت الشيع والروافض هذه الأمة فضلا عن أن تحتج يرضاه واختياره. فهذا هذا.

ثم الذي نقلوا إلينا من تثبيت علي بيعة أبي بكر. وذلك أنهم قالوا: لما بويع أبو بكر وبايعه علي وبنو هاشم، قام أبو بكر فطاف في الناس ثلاثا يقول: "أيها الناس، قد أقلتكم بيعتي"! قالوا: يقول علي من بين الناس: "والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله تصلى بالناس فمن ذا يؤخرك؟".

ثم الذي نقله الناس عن علي حين قال على منبره: "ألا إن خير هذه الأمة أبو بكر، والثاني عمر، ولو شئت أن أخبركم بالثالث فعلت".

ونقلوا جميعا أن عليا قال: بينا أنا يوما عند رسول الله إذ أقبل أبو بكر وعمر فقال النبي: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، ما خلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما بالذي قلت يا علي". قالوا: قال علي: لولا أنهما قد ماتا ما حدثتكم.

قال الشعبي: قال علي: "إن أبا بكر كان أواها منيبا، وإن عمر ناصح الله فنصحه الله".

ونقلوا أن عليا قال - ودخل على عمر وقد مات وهو مسجى - فقال: رحمك الله يا عمر! والله ما أحد أحب إلى أن ألقى الله بمثل صحيفته من هذا المسجى صاحب السرير!

وبلغه أن رجلا تناول أبا بكر وعمر، فقال للرجل: لو سمعت منك الذي بلغني لألقيت أكثرك شعرا.

وقال: لو أتيت برجل يشتمهما لجلدته حد المفتري.

ثم الذي نقله جميع أصحاب الآثار أنه قال: كنت إذا سمعت من النبي حديثا نفعني الله بما شاء منه، فإذا حدثني غيره عنه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني - وصدق أبو بكر - حدثني أن النبي قال: "ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له".

ألا ترى كيف أورده بالتصديق وقلة التهمة، وأقامه مقام التقليد ورفع الاسترابة.

فهذا مذهب علي فيهما وتعظيمه لهما.

ثم الذي كان من تزويجه أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله ، من عمر بن الخطاب، طائعا راغبا، وعمر يقول: إني سمعت رسول الله يقول: "إنه ليس سبب ولا نسب إلا منقطع إلا نسبي". قال علي: إنها والله ما بلغت يا أمير المؤمنين. قال: إني والله ما أريدها لذاك! فأرسلها إليه فنظر إليها قبل أن يتزوجها، ثم زوجها إياه، فولدت منه زيد بن عمر، وهو قتيل سودان مروان، فلما أتى النعي أم كلثوم كمدت عليه حزنا حتى ماتت، وقالت: واحربها! قتل أبوها علي بن أبي طالب، وقتل زوجها عمر بن الخطاب، وقتل ولدها زيد بن عمر.

ثم تسمية علي أولاده بأسمائهم، كما يتبرك الرجل بأسماء أئمته وقادته، حين سمى بعمر وعثمان وأبي بكر، فأعقب عمر ولم يعقب أبو بكر وعثمان.

ثم الذي كان من قبوله ولاية عمر حين استخلفه على المدينة، ومضى عمر معسكرا يريد جيش مهران بعد وقعة قس الناطف، فأتاه علي إلى معسكره فأشار عليه فيمن أشار بأن الرأي أن يرجع إلى المدينة ولا يلقاهم بنفسه وحده، بل يكون للمسلمين فيئة. فرجع عمر.

وإنما أراد عمر بذلك تحريك الناس ليجدوا ويعزموا.

فإن قالوا: هذا كله باطل، أو قالوا: إن هذا الذي حكيتموه وإن كان حقا فإنما كان على التقية. فقد قلنا في ذلك أجمع بالذي يكتفى به.

والعجب أنهم يوجبون على الناس تصديقهم أن سلمان قال: "كرداذ ونكرداذ" وأن الزبير خرج شادا بسيفه ليؤكد إمامة علي، وأن الأنصار إنما خالفت على المهاجرين نقضا من استبداد أبي بكر، وأن أبا سفيان بن حرب وخالد بن سعيد إنما قالا: "أرضيتم معشر بني عبد مناف أن يلي عليكم تيم"، نصرة لعلي دون جميع بني عبد مناف، فإن الله رد عليه الشمس، وإن النبي قال: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، وجعل إليه طلاق نسائه، وأنه قسم النار، وصاحب العرض، والقائم على الحوض. فيوجبون علينا أن نصدقهم في هذا، ولا يوجبون على أنفسهم لحمال الآثار أن عليا قال في الخلية والبرية، والبائنة، والبتة، وطلاق الحرج، وأمرك بيدك، والحرام، أنها كثلاث تطليقات، ويوجبون على طلاب الحديث أن عليا كان لا يرى الطلاق إلا طلاق السنة.

وهذا أمر ما سمعنا به قط عن علي إلا منهم.

وليس بأعجب من استشهاد خصومهم العيان والاجماع وما عليه الوجود، واستشهادهم القصد والضمير والغيب، وجعلهم له يوازن الظاهر والشائع.

وذلك أن القائل إذا قال: أسلم أبو بكر كهلا وأسلم علي طفلا. قالوا: كان علي وهو ابن سبع سنين أرجح عقلا من أبي بكر وهو ابن إحدى وأربعين سنة. فتركوا العيان وعارضوا الشاهد بالغائب.

وإن قال قائل: إن أبا بكر كان مع النبي في الغار وقد نطق به القرآن وثبته الاجماع. قالوا: فإن عليا أباته النبي على فراشه.

وإن قلت: إن النبي سمى أبا بكر بالصديق تفضيلا له ولم يجعل له اسما يفضله به. قالوا: بلى، قد كان النبي سماه الصديق الأكبر، ولكن الناس منعوه ذلك وظلموه، حين لم يسيروه ويشيعوه.

وإن قلت: إن النبي اشتكى أياما وليالي، كل ذلك يأمر أبا بكر بالصلاة، وهو حاضر ولا يأمره، قالوا: لأن عليا كان مشغولا بتمريضه.

وإن قلت: إن الناس لما افتتنوا بعد موت النبي وعظموا شأنه حتى دعاهم الإفراط إلى أن قالوا: لم يمت، ولكنه يغيب مثل ما غاب موسى عن قومه. فكان أبو بكر هو المتكلم والمحتج والمحامي حتى عرفهم الحق وتنبهوا من الوسنة. قالوا: لأن عليا قد كان اشتد حزنه حتى قطعه عن الاحتجاج والتعريف.

فإن قلت: حين أظهروا الفرقة والدار دارهم، لو تركهم أبو بكر ولم يعرفهم فضل المهاجرين عليهم، لكان في ذلك أشد الفتنة وأكبر الفساد، فعاجلهم وتجرد للاحتجاج عليهم، حين كان كل إنسان همه هم نفسه، وعلي بمعزل حتى كأنه كان غائبا. قالوا: لأن عليا قد كان عرف حسد قريش وبغيها عليه، وطاعتها وحبها لأبي بكر، فلم يكن ليقدح في غير مقدح، أو ينفخ في غير فحم.

فإن قلنا: إن إظهار علي الرضا بالشورى دليل على طاعة عمر. قالوا: إنما ذلك للتقية.

فإن قيل: فلم رضي بعبد الرحمن مختارا وعبد الرحمن عنده من عدوه، وأدنى منازله أن يكون كان مخوفا عنده، وأدنى من ذلك أن يكون الغلط غير مأمون عليه.

قلنا: وهلا أظهر من الخلاف شيئا يسير إلينا، وهلا نطق بحرف واحد بقدر ما يتخذه الناس بعد حجة، ولم يكن بلغ أقصى خلافهم فيرى وعيدا أو إيقاعا.

فإن قلت: إن عليا قال لأسماء بنت عميس - وهي يومئذ امرأته - حين تفاخر ولدها من أبي بكر وجعفر وعلي عندها: اقضي بين ولدك. فقالت: ما رأيت شابا كان أطهر من جعفر، ولا رأيت شيخا كان أفضل من أبي بكر، وإن ثلاثة أنت أخسهم لفضلاء! فلم ينكر ولم يحتج، ولم يفرق ولم يتعجب، والكلام يؤثر والقضية تظهر.

قالوا: إن فضله أظهر في الناس من أن يحتاج إلى الاحتجاج، وإنما قالت ذلك مازحة، كما تمزح المرأة مع زوجها وتحرش به.

فإن قلت: إن عليا قد بايع أبا بكر وأعطاه صفقته طائعا غير مكره، والحكم السابق من الله ورسوله أن المدعى عليه إذا أقر ولم ينكر، ولم ير الوالي أثر جنون ولا إكراها، أن إقراره جائز عليه، فكذلك علي إذا كان قد بايع وليس على رأسه سيف ولا سوط، فحكمه حكم الراضي المسلم.

قالوا: قد كان هناك إكراه ظاهر، ولكن الناس تكاتموه وأخفوه فيما بيننا وبينهم، إذ كان الجمهور الأكبر معهم.

فإن قلت: قد صدقناكم في قولكم إنه قد كان في تقية من أبي بكر وعمر وعثمان، رأيتم أيام سلطان نفسه ومعه مائة ألف سيف تطيعه وأهل الأرض كلهم رعيته ما خلا الشام، لم كان يظهر تزكية أبي بكر وعمر على منبره وفي مجلسه؟

قالوا: للتقية من رعيته، إذ كان أكثرهم على هواهم وطاعتهم.

قلنا: قد عرفنا أن تركه لعنهم والبراءة منهم والإخبار عن استبدادهم وظلمهم على التقية، فما حمله على تزكيتهم والأخبار عن محاسنهم، والرواية الحسنة فيهم، وقد كان له في السكوت سعة، وعن الكلام مندوحة؟ ولقد تعدى في مديح أبي بكر وعمر حتى قال لابن طلحة: "إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله: {إخوانا على سرر متقابلين}".

وإن قلنا: إن في تسميته بنيه بأسمائهم دليل على تعظيمه لهم.

قالوا: لأنه قد كان علم أن شيعته سيحتاجون في آخر الزمان إلى الترحم على أبي بكر وعمر وعثمان، تقية من شيعتهم، فسمى بنيه بأسمائهم، حتى يكون ذلك الترحم واقعا عليهم. ولأن ينصب لهم من إذا قصدوا إليه بالترحم أصابوا الحق ولم يحتاجوا إلى الإلطاط.

وإن قلنا: إنه زوج عمر غير مكره، ولا شئ أدل على الخاصة والصفاء من المشاركة والمصاهرة.

قالوا: قد كان هناك توعد وتخوف، وقد قال بعضهم: إن هذا باطل وإن عليا لم يزوج عمر قط. ونبئت عن بعضهم أنه قال: قد كان ذلك على التقية، ولكن الله صانها فأخفاها ورفعها.

فقيل له: فخبرنا عن التي رأوها في منزل عمر وعلى فراشه، وولدت منه زيدا، ما هي، وأي شئ كانت؟

قال: شيطانة في صورة امرأة.

وإن قلت لهم: كيف زعمتم أنه كان أشد أهل الأرض قلبا، وأنتم تزعمون أنه كان يتقي كل شئ، حتى ليسلم حرمته إلى كافر من غير أن يشهر عليه سيف أو يضرب بسوط. وقد رأينا من هو في دون حاله في النجدة والشجاعة، والحمية والبصيرة، يمتنع حتى يقتل في دون هذا. وقد تعلمون أنه لم يُكْلم ولم يخدش، فضلا على أن يجرح ويقتل، في جميع المقامات التي زعمتم أنه إنما استجاز واستحل من التقية.

وأعجب من جميع هذا أنا رأيناكم تزعمون أن أبا بكر وعثمان كانا من أجبن البرية وأبعده من حمية، وقد رأينا صنيع أبي بكر في الردة كيف نهض بالقليل في محاربة الكثير، وكيف أشاروا عليه بأن يستعين بجيش أسامة حتى إذا رد الردة أعاد الجيش إلى حاله. وكيف قال لهم حين قالوا له: إنا قد أمنا غزو الروم إيانا في يومنا هذا، ولسنا نأمن مع ارتداد جميع العرب أن نغزى في عقر دارنا! قال: لو بقيت حتى يأكلني الكلاب وحدي ما أخرت جيشا أمر رسول الله بإنفاذه.

ثم رأينا عثمان، وهو عندكم أضعف من أبي بكر وأجبن، قد كان محاصرا معطشا مخذولا قد قهره عدوه، والسيوف تلمع على بابه، وقد أفضوا إلى داره، وتسلقوا عليه من خوختة، وهم يريدون نفسه أو خلع الخلافة من عنقه، فصبر حتى قتل كريما محتسبا وهو يقول: "لا أنزع قميصا قمصنيه الله!" وهو يرى الجد وليس معه أمان من قبله.

وقد يزعمون أن عليا قد كان يعلم أنه لا يقتل ولا يموت حتى يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومع ذا يزعمون أن الله قد كان أسر إليه علم كل ما يحدث في هذه الأمة من الفتن والهيج. وهذا لا يشبه اتخاذه أبا موسى حكما عليه وله، مع غباء أبي موسى وعداوته كانت له، ولا سيما إذا قرنه بعمرو بن العاص. وما ظنك برأي عمرو، وقد كان فيه معونة.

ففي جميع ما قلنا دليل على أن القوم إما أن يكونوا مالكين لأهوائهم.

فإن قالوا: ما الدليل على إسلام أبي بكر فضلا على تقديمه وتفضيله ومباينته؟ ومن أين لكم أن تزعموا أنه قد كان مسلما وأنتم وخصومكم مجمعون على أنه قد كان كافرا، ثم ادعيتم أنه قد أسلم بعد كفره وأنكر ذلك خصومكم، فليس لكم أن ترجعوا عما اجتمعتم عليه إلا بإجماع منكم يوازنه. وقد ينبغي أن تطرحوا موضع الفرقة وتقضوا بموضع الجماعة، وقد جامعتمونا أن عليا لم يزل مؤمنا.

قيل لهم: إنا لو كنا عرفنا أنه قد كان مرة كافرا من قبل خبر أصحابنا ومجامعة خصومهم لهم، وكان علم ذلك لا يصاب إلا بمجامعتهم لأصحابنا، لقد كان الذي قلتم واجبا وقياسا صحيحا. ولكنا عرفنا أنه قد كان كافرا بقدر من الخبر قد يكذب مثله، وبه ثبت عندنا أنه قد كان في الدنيا، فضلا على أن يكون كان له فعل يسمى كفرا وإيمانا. وإنما الحجة في المجئ الذي لا يكذب مثله، ثم لا نلتفت بعد ذلك إلى موافق ولا إلى مخالف، ولا إلى عقل ولا إلى نظر. ثم نظرنا فإذا الوجه الذي منه علمنا أنه قد كان في الدنيا، منه علمنا أنه قد كان مرة كافرا، و [هو] الوجه الذي منه علمنا أنه قد أسلم بعد كفره. ولو أنا عرفنا كفره بنا وبخصومنا، لما عرفنا إيمانه إلا بنا وبهم.

ووجه آخر من الجواب: أنكم قد جامعتمونا على أنه قد كان يشهد الشهادة، ويأكل الذبيحة، ويظهر الإسلام، في حيث النفاق مستخف وثوب الإسلام داج، والكفر ذليل والإسلام عزيز، [ثم] ادعيتم بعد أن أقررتم أنه قد كان يظهر الإسلام في دار الإسلام، أنه كان مستسرا بالكفر، وأنه كان من المؤلفة قلوبهم.

فالواجب بالقياس أن يحكم له بالإسلام على ظاهر ما اجتمعنا عليه من جملته. ولا ندع موضع الإجماع إلى قولكم وحدكم: إنه قد كان إسلامه على نفاق، لأن الجماعة لا تنزل إلى فرقة، ولأن الحجة لا تترك إلا بحجة.

فإن قالوا: فإن أبا بكر لم يشهد قط الشهادة، ولا صلى [إلى] القبلة.

قلنا: ما تقولون في رجل رأيناه كافرا في دار الكفر، ثم رأيناه بعد ذلك في دار الإسلام وفي زي أهله، وحكم الإسلام غال، ومعلوم أن من عادة أهله قتل من كفر، كيف يكون حكم ذلك الرجل؟

فإن قالوا: ولكنا نقف في مغيبه.

قلنا: اجعلوا أبا بكر ذلك الرجل.

فإن قالوا: فإن أبا بكر لم يزل يظهر الكفر في دار الإسلام، كما كان يظهر الكفر في دار الكفر.

قلنا: لا بد لكفره من وجهين: إما أن يكون كان يظهره على عهد وذمة فلذلك لم تقتلوه، أو يكون كان على غير عهد وذمة.

فإن ادعوا أن كفره كان على عهد وذمة كما جعل الله ورسوله للنصارى ولليهود، خرجوا إلى ما لا نحتاج مع فحشه إلى الكلام فيه. وإن زعموا أنه كان على غير عهد وذمة وحكم الإسلام ظاهر، فما أشبه هذا القول بالقول الأول.

ويقال لهم: خبرونا عن أبي بكر، هل يخلو من أن يكون لم يقل قط في دار الإسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو يكون قد قال ذلك مرة واحدة؟

فإن زعموا أنه قد قالها مرة واحدة ثم تركها، قيل لهم: فقد أقررتم وجامعتم خصومكم على أنه قد شهد الشهادة، فليس لكم أن تخرجوه إلى نفاق أو إلى ترك، إلا لمجامعة خصومكم لكم، إذ كانت الفرقة لا تنقض الجماعة.

فإن قالوا: فإنه لم يقل لا إله إلا الله محمد رسول الله مرة قط من دهره، لا على نفاق ولا على غيره، بل كان يظهر عبادة الأصنام، ثم مع ذلك سلم على حكم الكتاب والسنة، وعلى حكم الدار. فليس عندنا في ذلك إلا إسقاطه وتحريم كلامه وإمضاء حكم مثله فيه.

بل قد ثبت إسلامه بعد الوجوه التي ذكرتها بوجوه:

منها أن الله أثنى على عباده الصالحين، فخص بتفضيله السابقين والمهاجرين الأولين. وقد اجتمعت الأمة أنه من المهاجرين الأولين مع فضيلة هجرته، إذ كانت هجرته وهجرة رسول الله معا. فهذا وجه.

ثم الذي رأينا من ذكر الله وثنائه على أهل بدر. وقد أجمع المسلمون أنه كان ممن شهد بدرا، مع ما فضل من الكون في العريش، ولا موضع أدل على الخاصة من ذلك الموضع في ذلك الموقف، مع ما شهد به من مستجيبيه وعتقائه ومواليه، ولقد بلغ من قدر من شهد بدرا أن عامة الفقهاء تحدث: "أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم" فلذلك كان الحسن يقول: إن طلحة والزبير وعليا في الجنة معا وإن لم يكونوا كانوا في الدنيا، لأنهم عتقاء الله من النار، ولم يكن الله ليعتق عبدا ثم يعيده في رقه. ولذلك كان الحسن وحوشب وهاشم الأوقص وبكر ابن أخت عبد الواحد يقولون إذا ذكروا يوم الجمل: "هلكت الأتباع ونجت القادة". فهذا هذا.

ثم الذي كان من ذكر الله وحسن ثنائه على من بايع تحت الشجرة.

وأي شئ أعجب من اجتماع السلف مهاجريها وأنصاريها خلا أربعة نفر على تقديم رجل في مقام رسول الله ليقضي في أبشارهم وأشعارهم، وفروجهم وأموالهم، ويحمل أماناتهم، ويدعونه خليفة رسول الله، حتى تترك الشريف المطاع ذا السابقة والقدم وتولي مكانه الخامل القليل المقصر، فلا يراد ولا يدافع، ولا يراجع ولا يستفهم، وهو المعروف عندهم بجحد الرسول وعبادة الأوثان، وليس بذي عشيرة منيعة.

ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه قد كان واطأ العشائر ليصرفوا إليه عونهم على أن يؤثرهم ويفضلهم، ولو كان ذلك لظهر علمه ولم يخف أثره. ومثل هذا لا يستطاع كتمانه وستره وتزميله.

وكيف وقد سوى بين الرفيع والوضيع، والذليل [و] المنيع؟ فلم يؤثر قريبا ولم يول نسيبا.

ولو استعان بطلحة وولاه وفضله لقد كان لذلك موضعا، وللولاية والتقديم أهلا، بل صنع ضد ما يصنعه أصحاب الميل والأثرة، والعصبية والمواطأة.

ولو كان قريب القرابة لجاز لقائل أن يقول: إنما قدم لقرابته.

ولو كان عصبية لقالوا: إنما استحق بوراثته.

ولو كان منيع الرهط لقالوا: إنما قدم لكثرة قبيلته.

ولو كان استعان بقوم على مواطأة وشريطة، كصنيع معاوية بذي الكلاع وعمرو بن العاص، لقالوا: إنما قدم رهبة ممن واطأه، ورغبة فيمن أكد هواه.

[و] ولى بني مخزوم أعناق العرب وقتال أهل الردة، وحرب مسيلمة ومحاربة طليحة، دون رهطه. ولو ولى ذلك طلحة لكان لذلك أهلا، ولكن الطاعن قد كان يجد سببا.

وكذلك عمر بن الخطاب لو كان أدخل في الشورى سعيد بن زيد كما كلم في ذلك، وأدخل في الرقباء عبد الله بن عمر كما كلم في ذلك، لكان لذلك أهلا، ولكن الطاعن قد كان يجد متعلقا.

وولى خالد بن الوليد حرب مسيلمة وطليحة وبني تميم وأهل البادية، وولى عكرمة ردة عمان، وولى المهاجر بن أبي أمية ردة أهل نجير واليمن. وما زال عمر يعاتبه في خالد فيقول أبو بكر: "لا أشيم سيفا سله الله على الكفار". فهذا هذا.

والعجب لهذه الأمة كيف اختلفت في رجلين أحدهما خير خلق الله، والآخر شر خلق الله، وكيف اختلفت في رجلين أحدهما لم يزل مؤمنا والآخر لم يزل كافرا، ثم كان المقدم الخسيس الكافر على الرفيع المسلم!

[وهم] أصحاب القرآن وخاصة الرسول من الصحابة والبدريين والأنصار والمهاجرين، وهم الذين قال فيهم التابعون: خير هذه الأمة أصحاب محمد ، ابتلوا فصبروا، وأنعم عليهم فشكروا.

والعجب كيف رأوا تفضيل علي على أبي بكر وعمر مديحا له. وإنما كان يكون علي عاليا رفيعا متقدما زاهدا عالما سائسا أن لو كان أفضل من فضلاء، وأعلم من علماء، وأعقل من عقلاء، وأزهد من زهاد، وأسوس من ساسة، فأما أن يكون أفضل من أنقص الناس، وأزهد من أرغب الناس، وخيرا من شر الناس، وأعلم من أجهل الناس، فليس في هذا التفضيل درك فيتكلفه متكلف، ويقوم به قائم.

والعجب من رجلين بينهما هذا التفاوت والتباين ثم شهد المتكلمين من سمعهما يتنازعان فيهما، فيحسب الحاضر أن شرهما خيرهما، وهو الأريب الأديب الذاهب مع التعارف عن التناكر. وكيف التبس الأمر وأشكل أن لم يكن الأمر مشكلا ملتبسا.

وكيف يجوز أن يكون أبو بكر لم يزل كافرا، أو يكون كفر بجحده إمامة علي وكفر معه المهاجرون والأنصار، وقد أجمع أصحاب الأخبار وحمال الآثار أن النبي قال: "إن من أمتي سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب" فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله يجعلني منهم. قال: أنت منهم. فقتل مع خالد بن الوليد يوم بزاخة في إمرة أبي بكر وطاعته والإقرار بخلافته، قتله طليحة بن خويلد الأسدي. فكيف يجوز أن تكون إمامة أبي بكر معصية فضلا على أن تكون كفرا والمقتول في طاعته والمنقاد لأمره من أهل الجنة.

ثم تزعم الروافض أن من الدليل على أن عليا كان المحق دون طلحة والزبير، أن النبي [قال] وذكر زيد بن صوحان: "زيد. وما زيد! يسبقه عضو منه إلى الجنة" فقتل يوم الجمل. فجعلوا الدليل على صواب علي في قتاله أن زيدا قتل في طاعته.

قيل لهم: ففي قول النبي: "يسبقه عضو منه إلى الجنة" دليل أن ذلك العضو لم يسبق إلى الجنة إلا وقد قطع في طاعة الله. وقد أجمعوا أن يده قطعت يوم نهاوند، في طاعة عمر.

وهذا باب كبير إن تتبعه متتبع. ولكنا أردنا أن ندل على جميع الأبواب في تفضيل الشيخين، ونفي التنقص عنهما.

وإن سأل سائل فقال: هل على الناس أن يتخذوا إماما وأن يقيموا خليفة؟

قيل لهم: إن قولكم "الناس" يحتمل الخاصة والعامة، فإن كنتم قصدتم إليهما، ولم تفصلوا بين حاليهما، فإنا نزعم أن العامة لا تعرف معنى الإمامة وتأويل الخلافة. ولا تفصل بين فضل وجودها ونقص عدمها، ولأي شئ ارتدت ولأي أمر أملت، وكيف مأتاها والسبيل إليها، بل هي مع كل ريح تهب، وناشئة تنجم، ولعلها بالمبطلين أقر عينا [منها] بالمحقين.

وإنما العامة أداة للخاصة، تبتذلها للمهن، وتزجي بها الأمور، وتطول بها على العدو، وتسد بها الثغور. ومقام العامة من الخاصة مقام جوارح الإنسان من الإنسان، فإن الإنسان إذا فكر أبصر، وإذا أبصر عزم، وإذا عزم تحرك أو سكن وهدأ بالجوارح [دون القلب. وكما أن الجوارح] لا تعرف قصد النفس ولا تروى في الأمور، ولم يخرجها ذاك من الطاعة للعزم، فكذلك العامة لا تعرف قصد القادة ولا تدبير الخاصة، ولا تروى معها، وليس يخرجها ذلك من طاعة عزمها، وما أبرمت من تدبيرها.

والجوارح والعوام وإن كانت مسخرة ومدبرة فقد تمتنع لعلل تدخلها، وأمور تصرفها، وأسباب تنقضها، كاليد يعرض لها الفالج، واللسان يعتريه الخرس، فلا تقدر النفس على تسديدهما وتقويمهما، ولو اشتد عزمها وحسن تأتيها ورفقها. وكذلك العامة عند نفورها وتهييجها وغلبة الهوى والسخف عليها، وإن حسن تدبير الخاصة وتعهد الساسة. غير أن معصية الجارحة أيسر ضررا وأهون أمرا، لأن العامة إذا انكفت بالخاصة وتنكرت للقادة، وتشزنت على الراضة، كان البوار الذي لا حيلة له، والفناء الذي لا بقاء معه.

وصلاح الدنيا وتمام النعمة، في تدبير الخاصة وطاعة العامة، كما أن كمال المنفعة وتمام درك الحاجة بصواب قصد النفس وطاعة الجارحة، لأن النفس لو أدركت كل بغية، وأوفت على كل غاية، وفتحت كل مستغلق، واستثارت كل دفين، ثم لم يطعها اللسان بحسن العبارة، واليد بحسن الكتابة، كان وجود ذلك المستنبط - وإن جل قدره وعظم خطره - [وعدمه] سواء.

فالخاصة تحتاج إلى العامة كحاجة العامة إلى الخاصة. وكذلك القلب والجارحة. وإنما العامة جنة للدفع، وسلاح للقطع، وكالترس للرامي، والفأس للنجار. وليس مضى سيف صارم بكف امرئ صارم بأمضى من شجاع أطاع أميره وقلد إمامه. وما كلب أشلاه ربه وأحمشه كلابه بأفرط تنزقا ولا أسرع تقدما ولا أشد تهورا من جندي أغراه طمعه وصاح به قائده.

وليس في الأعمال أقل من الاختيار، ولا في الاختيار أقل من الصواب، فلباب كل عمل اختياره، وصفوة كل اختيار صوابه، ومع كثرة الاختيار يكثر الصواب. فأكثر الناس اختيارا أكثرهم صوابا، وأكثرهم أسبابا موجبة أقلهم اختيارا، وأقلهم اختيارا أقلهم صوابا.

فإن قالوا: فقد ينبغي للعوام ألا يكونوا مأمورين ولا منهيين، ولا عاصين ولا مطيعين.

قيل لهم: أما فيما يعرفون فقد يطيعون ويعصون.

فإن قالوا: فما الأمر الذي يعرفون من الأمر الذي يجهلون؟

قيل: أما الذي يعرفون فالتنزيل المجرد بغير تأويله، وجملة الشريعة بغير تفسيرها، وما جل من الخبر واستفاض، وكثر ترداده على الأسماع، وكروره على الافهام. وأما الذي يجهلون فتأويل المنزل، وتفسير المجمل، وغامض السنن التي حملتها الخواص عن الخواص من حملة الأثر وطلاب الخبر، مما يتكلف معرفته ويتتبع في مواضعه، ولا يهجم على طالبه، ولا يقهر سمع القاعد عنه.

والخبر خبران: خبر للخاصة فيه فضل على العامة، كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، وغسل الجنابة، وفي المائتين خمسة. وخبر تفضل فيه الخاصة العامة، وهو كما سن الرسول في الحلال والحرام وأبواب القضاء والطلاق والمناسك والبيوع والأشربة والكفارات، وأشباه ذلك.

وباب آخر يجهله العوام ويخبط فيه الحشو، ولا تشعر بعجزها و [لا] موضع دائها. ومتى جرى سببه أو ظهر شئ منه تسنمت أعلاه، وركبت حومته، كالكلام في القدر والتشبيه، والوعد والوعيد. لأنها قد تحجم [عن] دعوى الفتيا، ولا تتهافت فيها، [ولا] تتسكع فيما لا يعرف منها، ولا تستوحش من الكلام في [التعديل والتجوير، ولا تفرغ من الكلام في] الاختيار والطباع، ومجئ الأخبار وكل ما جرى سببه من دقيق الكلام وجليله في الله وفي غيره.

ولو برز عالم على جادة منهج وقارعة طريق، فنازع في النحو واحتج في العروض، وخاض في الفتيا، وذكر النجوم والحساب والطب والهندسة وأبواب الصناعات، لم يعرض له ولم يفاتحه إلا أهل هذه الطبقات.

ولو نطق بحرف في القدر حتى يذكر العلم والمشيئة والاستطاعة والتكليف، وهل خلق الله الكفر وقدره أو لم يخلقه ولم يقدره، لم يبق حمال أغثر ولا نطاف غث، ولا خامل غفل، ولا غبي كهام، ولا جاهل سفيه، إلا وقف عليه ولاحاه، وصوبه وخطاه، ثم لم يرض حتى يتولى من أرضاه، ويكفر من يخالف هواه. فإن جاراه محق، أو أغلظ له واعظ، واتفق أن يكون بحضرته أشكاله، استعوى أمثاله، فأشعلوها فتنة، وأضرموها نارا.

فليس لمن كانت هذه صفته أن يتحيز مع الخاصة، مع أنه لو حسنت نيته لم تحتمل فطرته معرفة الفصول وتمييز الأمور.

فإن قالوا: ولعلهم لا يعرفون الله ورسوله كما لا يعرفون عدله من جوره، وتشبيهه بخلقه من نفي ذلك عنه، وكما لا يعرفون [القرآن و] تفسير جمله وتأويل منزله.

قيل لهم: إن قلوب البالغين مسخرة لمعرفة رب العالمين، ومحمولة على تصديق المرسلين، بالتنبيه على [مواضع] الأدلة، وقصر النفوس على الروية، ومنعها [عن] الجولان والتصرف، وكل ما ربث عن التفكير، وشغل عن التحصيل، من وسوسة أو نزاع شهوة، لأن الإنسان ما لم يكن معتوها أو طفلا فمحجوج على ألسنة المرسلين عند جميع المسلمين، ولا يكون محجوجا حتى يكون عالما بما أمر به، عارفا بما نهي عنه. لأن من لم يعلم في أي الضربين سخط الله وفي أي النوعين رضاه، ثم ركب السخط أو أتى الرضا، لم يكن ذلك منه إلا على الاتفاق. وإنما الاستحقاق مع القصد. والله يتعالى أن يعاقب من لم يرد خلافه ولم يعرف رضاه، أو يحمد من لم يعتمد رضاه ولم يقصد إليه.

ولم يكن الله ليعدل صنعته ويسوي أداته، ويفرق بينه وبين المنقوص في بنيته وتركيبه، إلا ليفرق بين حاله وحال الطفل والمعتوه. وليس للمعرفة وجه إلا لتبصيره وتخييره، ولولا ذاك لم يكن للذي خص به من الإبانة، وتعديل الصنعة، وإحكام البنية معنى. والله يتعالى عن فعل ما لا معنى له.

وفي قول الله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} دليل على ما قلنا.

وليس لأحد أن يخرج بعض الجن والإنس من أن يكون خلق للعبادة إلا بحجة. ولا حجة إلا في عقل، أو كتاب، أو خبر.

فإن قالوا: فإن كان الله إنما أبانهم بالتعديل والتسوية للعبادة والاختيار مع الأمة فحكمهم حكم المسلمين المتعبدين، وإنما الإمام إمام المسلمين والمتعبدين.

قلنا: إنما يلزم الناس الأمر فيما عرفوا سبيله، وليس للعوام خاصة معرفة بسبيل إقامة الأئمة فيلزمها أمر، أو يجرى عليها نهي.

والعامة وإن كانت تعرف جمل الدين بقدر ما معها من العقول فإنه لم يبلغ من قوة عقولها وكثرة خواطرها أن ترتفع إلى معرفة العلماء، ولم تبلغ من ضعف عقولها أن تنحط إلى طبقة المجانين والأطفال.

وأقدار طبائع العوام والخواص ليست مجهولة فنحتاج إلى الإخبار عنها بأكثر من التنبيه عليها، لأنكم تعلمون أن طبائع الرسل فوق طبائع الخلفاء، وطبائع الخلفاء فوق طبائع الوزراء، وكذلك الناس على منازلهم من الفضل، وطبقاتهم من التركيب في البخل والسخاء، والبلدة والذكاء، والغدر والوفاء، والجبن والنجدة، والجزع [والصبر] والطيش والحلم، والكبر والتيه، والحفظ والنسيان، والعي والبيان.

ولو كانت العامة تعرف من الدين والدنيا ما تعرف الخاصة، كانت العامة خاصة، وذهب التفاضل في المعرفة، والتباين في البنية. ولو لم يخالف بين طبائعهم لسقط الامتحان وبطل الاختبار، ولم يكن في الأرض اختيار. وإنما خولف بينهم في الغريزة ليصبر صابر، ويشكر شاكر، وليتفقوا على الطاعة. ولذلك كان الاختلاف هو سبب الائتلاف.

ويقال لهم عند ذلك: إنكم قد أكثرتم في أمر العوام، وخلطتم في الحكم عليهم. فمرة تزعمون أنا نكذب عليهم حين نزعم أنهم غير محجوجين، لأنهم بزعمكم لا يفصلون بين الأمور، ولا يفرقون بين الكاذب المحتال وبين الصادق المحق. وجعلتم الدليل على ذلك أنكم اعترضتموهم بزعمكم فسألتموهم عن الدليل والحجة، والفرق والعلة، فلم تجدوهم يشعرون بما يلزم فيها ولا يعرفون بابها، وكيف الكلام فيها.

وإنا معشر أصحاب المعرفة قد تعمدنا الكذب عليهم، حين زعمنا أنهم يعرفون ذلك، ويفرقون بين معانيه، ومرة تزعمون أنهم يعرفون ما يعرفه الخواص والعلماء، ويعلمون ما يعلمه المتكلمون والفقهاء، من إقامة الأئمة وعقد الخلافة. فمرة تخرجونهم من جميع المعرفة، ومرة تجعلونهم في غاية المعرفة. وأعدل الأمور في ذلك وأقسطها أن تزعموا أنهم يعرفون جمل الشرائع الظاهرة الجلية وجمل السنن الواضحة المستفيضة، ويجهلون تفسير جملها وتأويل منزلها، وكل منصوص لم يظهر كظهور الحج، ولم يشهر كشهرة صوم رمضان، وغسل الجنابة، وتحريم الخمر والخنزير والميتة والدم.

ولكن دعونا جانبا، واضربوا عما نقول صفحا، وقربوا جميع القولين لنتعاون عليهما، فأيهما كان أثبت على الامتحان، وأنفى للقذى، وأحسن مغزى، وأجد على الأيام، وأصح على التقليب، دِنّا به، وحامينا عليه، وتقربنا به، وآثرناه على ما سواه.

على أنا لا نستملي حق ذلك وصدقه إلا منكم، ولا نحتج عليكم إلا بما تقرون به على أنفسكم.

خبرونا عن العوام: هل يخلو أمرهم من أن يكونوا محجوجين أو غير محجوجين؟ فإن كانوا غير محجوجين فقد دخلوا في أكثر مما عابوا. وإن كانوا محجوجين فهل تخلو الحجة الذي بها قطع الرسول عذرهم من ضربين: إما أن تكون المعرفة بصدق الرسول وفصل ما بينه وبين المتنبي كما نقول. وإما أن تكون الحجة في الدليل على المعرفة، وليست بالمعرفة.

فإن زعموا أن الحجة هي المعرفة فقد وافقوا وأصابوا، وإن زعموا أنها الدليل على المعرفة فليخبرونا عن ذلك الدليل ما هو؟

فإن قالوا: هو كلام الذئب، وحنين العود، وإظلال الغمامة، وقصة الميضأة، وخد الشجرة، وكلام الذراع، وعجز الشعراء عن تأليف القرآن، والبشارات برسالته في الكتب.

قلنا: قد صدقتم فيما ذكرتم من هذه الآيات والأعاجيب، ولكن [لا] تخلو عقول العوام من أن تكون قد عرفت هذا كله وأقرت به، أو لم تعرفه ولم تقر به، ولم تودع العلم بصحة مجيئه.

فإن زعموا أنها لم تعرف ذلك ولم تقرر به، قيل لهم: فمن أين زعمتم أن الحجة لهم قاطعة، والفريضة لهم لازمة، ولا يعرفوا الحق ولا الدليل عليه.

وإذا كانت المعرفة لا تستطاع إلا بالدليل، والدليل معدوم، والتكليف لازم، فقد كلفوا ما لا يستطاع، ولم يضع الكلام بيننا وبين الجبرية.

وإن كان الله قد قرر عقولهم بالآيات، وعرفهم صدقها وصحة مجيئها، فإنما الفرق بيننا وبينهم أنا نزعم أن العاقل إذا كان قد جرب بعض التجربة أنه لا يمتنع من تصديق من أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه، وفلق البحر، وأنطق السباع. وأنتم تزعمون أنه يمتنع، ويجوز أن يعتقد أنه أكذب العالمين وأبطل المبطلين، مع ما أراه من عظيم البرهان وعجيب الآيات. ولعل قوم موسى كلما زادهم موسى آية وأردفها بعلامة، ازدادوا جهلا بصدقه واستبصارا في تكذيبه.

وكيف يستطيع ذلك من صحت فطرته، وقد جرب من أمور الدنيا بعض التجربة، وعرف ما يحدث في العادة وغير العادة.

وإن كانت العامة قد قررت بأعلام الأنبياء، وعرفت الآيات كما زعمتم، فقد كان ينبغي لنا إذا سألناهم عن صدقها وصحة مجيئها وإن لم نفصل بينها وبين جبلة المبطل، أن يخبرونا عنها وينزلوا لنا أمرها. فما بالنا إذا سألناهم لم نرهم يعرفونها. ولا يحصلون مجيئها، ولا يخبرونا عن صدقها.

فإن كان لكم أن تقضوا على العامة بالجهل بين النبي والمتنبي. لأنهم لم تروهم يحسنون الفروق، ويفصلون بين الأمور، فقد ينبغي لنا أيضا أن نقضي عليهم بالجهل، وأنهم لم يعرفوا الدلالة، ولم يقرروا بشئ من الآيات والأعاجيب.

فإذا كان القوم عندكم محجوجين قد قرروا وعرفوا، ونحن لا نجد عندهم على المسألة من ذلك شيئا، وجاز لكم أن تزعموا ما زعمتم، فلم لا يجوز لنا أن نزعم أنهم [كانوا] عارفين وإن لم نجد ذلك عندهم على المسألة.

ولولا أني قد ذكرت هذا الباب مفسرا في "كتاب المعرفة" لأخبرت من أي وجهة جاز أن يكون بعض العارفين لا يخبر عن كل ما في نفسه ومن أين امتنع ذلك عليه.

فإن قالوا: قد فهمنا قولكم في العامة، فما تقولون في الخاصة؟ فهل كلفها الله ذلك أم لم يكلفها كما لم يكلف العامة؟ وفي ذلك سقوط التكليف عن الجميع.

قلنا: بل نقول: إن على الناس إقامة الإمام، نريد الخاصة. ولا نقول أيضا إن على الخاصة إقامة الإمام إلا على الإمكان.

فإن قالوا: وما سبب عجز الخاصة وإمكانها؟

قلنا: من ذلك أن تكون العامة عليها مع جند الباغي المتغلب.

فإن قالوا: فهل يلزمها فرض الإقامة إذا كانت العامة كافة عن العون عليها.

قلنا: قد يلزمها في ذلك ولا يلزمها في أخرى.

وإن قالوا: ففي أية الحالين يلزمها؟

قلنا: إذا كان المستحق للإمامة والمستوجب للخلافة معروف الموضع، مكشوف الأمر، وكانت التقية عنها زائلة.

فإن قالوا: وكيف لا تكون التقية عنها زائلة، وهي على حال أكثر عددا من جند المتغلب والباغي، والعامة كافة ممسكة لا لها ولا عليها.

قلنا: إنه ليس في حال أكثر عددا. فإذا كانوا أكثر عددا وكانت التقية زائلة، فعليهم إقامته.

فإن قالوا: فلم جعلتم لهم التقية، وأسقطتم عنهم الفرض في الحال التي هم فيها أكثر عددا؟

قلنا: لأسباب، منها أن العدو إذا كان معدا ذا سلاح وعتاد وكراع، وكانوا على هيئة وأمرهم جميع، فقليل مجتمع أكثر من كثير نشر. مع أن معهم أنفذ السلاحين، وأوفر العتادين: الضَّرا والدُّربة، وحسن التدبير والمعرفة، بطول الممارسة وكثرة الحاجة.

ومنها أن الخاصة، وإن عرفت موضع المستحق، وظهر لها المستوجب، وكانوا أكثر جماحا، فكل واحد منهم على ثقة من محل صاحبه به وخذلانه له. ولا بد، ما دامت التقية، من التواكل والتخاذل، وإن اتفق رأي الجميع في المغيب على النصرة. وليس ينتفع باتفاق أهوائهم ما لم يتشاعروا.

فإن قالوا: إن كان الأمر كما تصفون وجب ألا يقيموا إماما أبدا، لأنهم كما لا ينفكون من التقية، كذلك لا ينفكون من التخاذل.

قلنا: ليس الأمر كما تقولون، لأن تقية بعض الخاصة لبعض قد تزول بأسباب كثيرة: منها أن تسوء سيرة المتسلط الباغي فيهم ويفحش جوره، ويكثر تعضيله واستئثاره وقهره، حتى يكون ذلك إحراجا لهم وسببا للكلام والشكاية والتلاقي، لأنهم قد عموا بالإحراج معا ليكون كل واحد من المحرجين يتكل على رأي صاحبه. لعلمه بالذي لقي من المكروه الذي هو فيه، من ثوران النفس وتهييج الطبيعة، فلا يزال بهم ذلك حتى يتفقوا في الظاهر كاتفاقهم في الباطن، إذ كان الإحراج قد شملهم وعمهم، وبلغ أقصاهم بعد أدناهم. وعند التلاقي تزداد النفوس حمية وغضبا وبصيرة. فإذا تباثوا وتكاشفوا وشاع ذلك من شأنهم، وشهر من أمرهم، علموا أن ذلك قد ظهر لعدوهم، والمتسلط عليهم. فإذا علموا ذلك علموا أنهم قد لحجوا في الحرب، ونشبوا في المناصبة. فإذا علموا ذلك لم يجدوا بدا من بذل المال، وإعطاء الجهد. وإنما هي أسباب ترامى، وعلل تداعى، وأمور تهيج أمورا، وأسباب توجب أفعالا، فعند ذلك تمكن الشدة، ويجب الفرض. ومدار الأمر على الإمكان، فمتى بطل بطل الفرض، ومتى وجد وجد الفرض.

وربما كان سبب تكاشفهم ما يعرفون من ضعف جند الباغي عليهم، والمستبد عليهم بأمرهم.

ولضعفهم أسباب: فربما كان لاختلاف يقع بينهم. وربما كان لعدو يدهمهم وينازعهم ملكهم، وربما كان للخلل يدخل عليهم. والرقة تصيبهم، من موت أعلامهم أو قتل قوادهم، وربما كان لضعف رأي مدبرهم وسياسة سائسهم، أو موت قيمهم.

فبهذا وأشباهه تتكاشف الناس، وتظهر على ألسنتهم ضمائرهم، وتبدو أسرارهم ونفوسهم من قبل ذلك حنقة عليهم، متدينة بخلعهم والاستبدال بهم، وإنما أمسكت عن الإنكار وأظهرت التسليم ريثما تجد فرصة وترى خلة، ويستجمع الأمر، وتزول التقية. مع أنا نعلم أن العامة أسخف أحلاما وأخف حركة وأشد طيشا، أن تؤثر الكف والعزلة والتسليم والمجانبة، عند حرب المحقين المتسلطين. ولو كانت تطيق ذلك ويجوز عليها ما كانت العامة بعامة، ولكانت العامة خاصة. ولكنا أجبنا على قدر مجرى المسألة.

وإنما البلية العظمى والداهية الكبرى، أن تنماز العامة حتى يصير بعضها مع الخاصة، وبعضها مع البغاة والظلمة.

والجملة أنهم متى أقرنوا لعدوهم وأمكنهم منعهم، والرجل المستحق ظاهر لهم معروف عندهم، فعليهم إقامته والدفع عنه.

فإن قالوا: ومن لهم بمعرفة الرجل الذي لا بعده؟

قيل: إنه ليس على الناس أن يصنعوا المعرفة، وإنما عليهم إذا عرفوه واستطاعوا إقامته أن يقيموه، ولا بد للناس أن يقوم فيهم - إذ فرض ذلك عليهم - رجل يصلح لجباية خراجهم، وإقامة صلاتهم، وسد ثغورهم، وتنفيذ أحكامهم.

فإن قالوا: فكيف تعرفون فضله ولم تقابلوا بينه وبين غيره، وأهل الفضل كثير، والفضل ممنون مستفيض؟

قيل: كما بان عند المعتزلة عمرو بن عبيد، وكما بان الحسن بن حي عند الزيدية من بينها، وكما بان مرداس بن أدية عند جميع الخوارج من بينهم، وكما علمتم من حال غيلان بدمشق، وحال عبد الله بن المبارك بخراسان. وليس أن المعتزلة اجتمعت من أقطار الأرض فقالت نعم جميعها، ولا وضعت فيه شورى، ولا تساوى منهم نفر فاحتاجوا إلى القرعة. وكذلك الزيدية في الحسن بن حي، والخوارج في مرداس بن أدية. ولكن الأمور ترد على القلوب، وتهجم على العقول على طول الأيام، [إما] بالخبر الذي يشفي من الشك ويبرئ السقم، وإما بالعيان الذي يثلج الصدور ويضطر العقول.

وقد علمنا نحن على حداثة أسناننا وتقادم الناس قبلنا، أن جالينوس قد كان بائنا في طبه، وأن الارسطاطاليس كان البائن في المنطق.

وكذلك علمنا أن قيس بن زهير كان داهية قيس في الجاهلية، وأن الحارث بن ظالم كان فاتكها، وأن هرم بن سنان كان جوادها، وأن النابغة كان شاعرها، وأن الحارث بن كلدة كان أطبها، وأن عامر ابن الطفيل كان أفرسها. ولم نضع قط في هذا شورى، ولا وضعه من كان قبلنا، ولا استجمعت قيس فقابلت بين خصال هؤلاء وبين جميع قيس، لتعرف الفضيلة بالموازنة والمقابلة، ولا احتاجوا في ذلك إلى الإقراع والمساهمة.

وإذا كنا مع تقادم الأخبار نعرف البائن في كل عصر، والمقدم في كل أمر، فعلى شبيه ما وصفنا يعرف الناس فضيلة المستوجب. والخير لا يستطاع كتمانه، والشر لا بد من ظهوره.

واعلم أنه لا يمكن أن يكون رجل أعلم الناس بالدين والدنيا ثم لا يسمع به، لأنه لا يصير كذلك إلا بالاختلاف إلى العلماء، وبطول مجاثاة الفقهاء، وكثرة درس كتب الله وكتب الناس، ومنازعة الخصم ومقاولة الأكفاء. وهذا كله مما يظهر أمره، ويشهر مكانه.

ثم الذي يدخل العالم من خيلاء العلم وعز الحق، وسرور الظفر بما أعيا الناس معرفته، حتى لا يستطيع أن يكتمه وإن اشتد عزمه، وقل رياؤه ونفجه، لأن للعلم سورة، ولانفتاحه بعد استغلاقه فرحة، لا يضبطها بشرى، وإن اشتدت حنكته، وقويت منته، وفضلت قوته.

وإنك لتجد كثيرا من العقلاء يخاطرون بأعناقهم، لبعض العظمة يجدونها في أنفسهم على خصومهم وأكفائهم، حتى لا يمتنعون من إظهارها والفخر بها، فما ظنك بالعالم إذا كان بائنا بنفسه، وكان في دولته، وتعظيم الناس موكل بصاحبه، كيف يستطيع كتمانه وإماتته، مع ما أخذ الله على العالم من حسن الإرشاد واحتمال المؤونة، واستنقاذ الناس من الجهالة، ومن القيام بحق العلم تعليم الجاهل. فهذا كله يغني عن لقاء الكل للكل.

ولو أشكل أمره ولم يبن من أمثاله، وهو للناس أصلح من غيره، فقد أمكن البأس إذ لو كان ظاهرا لهم إقامته لنبه الله على مواضع فضله، ولأذكر الناس ما سقط عنهم من تدبيره، ولبعث الهمم على حبه وطلب محاسنه.

وكيف يجوز أن يكون أكمل الناس خفي العلم ومغيب العمل، وهو لا يكون كذلك حتى تكثر تجربته ويكثر صوابه، ويشتد حلمه، ويحسن تدبيره، ولا بد من كثرة حج وغزو، وصلاة وصوم وصدقة، وذكر وقراءة قرآن، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحدب على الأولياء وغلظة على الأعداء، إن دام فقره دامت قناعته وقل إسفافه، وإن دام غناه دام بذله وقل طغيانه. وليس من هذا شئ إلا وهو يشهر صاحبه ويظهر للناس مكانه، ويدعو إلى محبته وتعظيمه.

وإن زعموا أنه يجوز أن يكون خير الناس أو أعلم الناس، وإن لم يعرف بشئ مما ذكرنا، فقد صار خير الناس من لم يعمل خيرا قط.

فإن قالوا: فما تقولون إن وجدوا عشرة سواء؟

قلنا: قد يكون أن تجدوا عشرة متقاربين، فإذا صاروا إلى الموازنة بان الأفضل من الأنقص. وقليلا ما يكون ذلك، كما وجدنا الستة الشورى الذين اختارهم عمر والمهاجرون والأنصار معه، فقد كانوا في طبقة واحدة. ولكن أهل الطبقة قد يتفاضلون بأمر بين لا خفاء به، كما نظروا فاختاروا عثمان غير مكرهين ولا محمولين.

ولكن لا يجوز بوجه من الوجوه أن يتفق عشرة سواء في الحقيقة، وعند الموازنة الصحيحة، لأن في اتفاق ذلك بطلان الإمامة. ولو جاز أن يتفق عشرة سواء لجاز أن يكون الرقباء والشهود عليهم سواء. ولو جاز أن تستوي حالاتهم وأفعالهم جاز أن يقولوا لما ينبغي أن يقولوا فيه نعم: "لا" معا، ولما ينبغي لهم أن يقولوا فيه لا: "نعم" معا.

وفي هذا فساد الاختيار والإقراع، فإذا فسد الاختيار والإقراع ولم يكن الرجل بائنا فلا سبيل إلى إقامته، ولم يكن الله ليفرض أمرا ولا يجعل إليه سبيلا، ولم يكن الله ليكلف الناس أمرا إلا وذلك الأمر مصلحة لهم. فكيف يمنعهم مصلحتهم، بل كيف يظهر لهم فرض الإمامة وقد أمكنتهم الشدة، والمعلوم عنده أن العالم سيتهيأ فيه ويتفق ما لا يمكن معه أداء الفرض، ولا بلوغ المصلحة.

ولو جاز أن يتفق عشرة سواء في الحقيقة وعند الموازنة في جميع الخصال، ما كان إحياء الموتى وإبراء الأكمه أعجب منه، ولا أخرج من العادة، وإنما جعل الله ذلك لرسله فقط.

ولو جاز أن يتفق في العالم شئ يكون جاعلا من الرسالة جاز ذلك في أمور كثيرة. ولو جاز ذلك اختلط الكاذب بالصادق، والحجة بالشبهة، وهذا ما لا يجوز على الله تبارك اسمه، وتعالى جده.

ولو عرفوا موضع الإمام بعينه ثم قال الشامي: لا يكون إلا منا، وقال العراقي: لا يكون إلا منا، وقال الحجازي: لا يكون إلا منا، وكذلك التهامي والجزري، وكذلك إذا قال القرشي: لا يكون إلا منا، وقال الحسيني: لا يكون إلا منا، وقال الحسني: لا يكون إلا منا، وكذلك الفلاني والفلاني. وكذلك أن لو قال الأباضي: لا يكون إلا منا، وكذلك لو قال الصفري والأزرقي والنجدي والزيدي، والفلاني والفلاني - لما وصل أهل الحق إلى إقامته إلا بأن يكونوا في عدد الجميع وفي عتادهم.

والإمام يقام من ثلاثة أوجه:

فوجه كالذي حكينا ووصفنا.

ووجه آخر مثل ما أقام المسلمون عثمان بن عفان حين اختار عمر ستة متقاربين فاختاروا منهم رجلا، فلولا أن الستة كانوا بائنين عند الجميع لم يطبقوا ذلك الإطباق، لأنه لم يقل واحد: كان ينبغي أن يكون منا، ولم يقل واحد من الرقباء ولا من الفقهاء والخاصة: فينا واحد كان ينبغي أن يكون معهم، ولا قالوا: فيهم واحد كان ينبغي أن يكون معنا. فهذا دليل أن الستة كما كانوا بائنين عند عمر كانوا بائنين عند الخاصة.

ووجه آخر، وهو مثل إقامة الناس لأبي بكر، ليس على أن النبي جعل شورى كما وضعها عمر، ولا على جهة ما حكينا من أمر الخاصة والعامة بإقامة الإمام والنص عليه، لأن ذلك أسلم وأخف في المؤونة وأبعد من الغلط والفتنة، وقد وجدتم ما هو أغمض معنى وأدق مسلكا، وأغوص مستخرجا، وأفحش مأثما، غير مفسر ولا منصوص عليه، كالكلام في التعديل والتجوير، وفصل ما بين الطباع والاختيار، والكلام في التشبيه ونفيه، وفي مجئ الأخبار وحجج العقول.

ونحن لم نر أحدا قط ألحد ولا تزندق من قبل الغلط في كلام الإمامة والاختلاف فيها. ومن وجدناه قد ارتد زنديقا أو دهريا من قبل هذه الأبواب أكثر من أن نحصي لهم عددا، أو نقف منهم على حد.

فإذ جاز أن يتركنا وأشد الاأمرين لنكون نحن الذين نستنبطه ونتكلف معرفته، ليكون عاجل سروره وريثه وآجل ثوابه وعظيم جزائه، كان الذي هو أظهر للعقول، وأسهل على الطالب، وألين كنفا للواطئ، وأقرب مأخذا للمسترشد، أولى بذلك.

ولا بد لهم من أن يقولوا أحد أمرين: إما أن يقولوا: إنا إذ وجدنا نصب الإمام والنص عليه أسلم لنا من الخطأ، فالواجب علينا أن نزعم أن الله قد فعل ذلك، وإن لم نجد خبرا نضطر إليه، ولا قرآنا ينص عليه، والإمامة مختلفة في ذلك، فإنما أوجبنا ذلك من قبل حسن الظن بالله، وإن لم يكن في القرآن آية تدل على أن الله لم ينصب إماما، ولا في الخبر.

وإما أن تقولوا إن ذلك قد كان وقع منه، وإنما عرفناه بالأخبار والآثار والكتاب.

فإن كانوا إنما حكموا على الله بفعل ذلك لأنه أسلم لهم من الخطأ، وأبعد لهم من الغلط، إلا أنهم قد وجدوا بذلك خبرا قائما، وكتابا دالا، فإن كان ذلك كذلك فلم أوجبوا على الله فعل ما هو أيسر وأظهر، وقد وجدوا الله لم يصنع ذلك فيما هو أغمض وأشكل، كالذي وصفنا قبل هذا من الكلام في التعديل والتجوير والتشبيه ومجئ الأخبار.

وقد علموا مع ذلك أن أكثر الناس لم يؤتوا في هلكتهم إلا من قبل سرف شهواتهم، وغلبة طبائعهم.

وكيف لم يحكموا على الله بغير ما وجدوا من رفع مؤونتها، وقمع دواعيها، حتى لا يلحج الناس طبائعهم، ولا تورطهم شهواتهم، وإنما يحكم بهذا وأشباهه على الله من لا علم له بالله وتدبيره، لأن الله لو أسقط عن الناس كل ما أثقل ظهورهم، واستبشعته نفوسهم، وخالف أهواءهم، لسقط الامتحان، وبطل الاختبار، إذ لم يكن هناك حلاوة تجتنب، ومرارة تركب، ولذيذ يؤخر، وكريه يقدم.

وإن ذهب السائل إلى غير هذا الوجه، وزعم أنه إنما قال إن الله قد نص على إمامة علي لأن الخبر به جاء المجئ الذي لا يكذب مثله. ولولا أن الخبر صحيح جاز عنده أن يكون الله يطوقهم النظر، ويضع لهم الدلالة، ولا ينصهم على شئ ولا يفسره لهم، كفعله فيما هو أدق وأخفى، وأعظم إثما وأشد خطرا.

قيل لهم: إنكم وإن سمعتم فلستم بأعلم بالأخبار من غيركم. ولئن كنتم مجيبين بخبر قد سمعناه معكم فلم يحجنا كما حجكم، إنه لعجب. وإن كان الخبر قد حج جميع من خالفكم مع كثرتهم وأطبقوا على كتمانه وجحده واتفقوا عليه، إن هذا لأعجب.

وكيف تحُجون بخبر لا تستطيعون أن تقيموا حجته على من خالفكم. فإن كنتم إنما حجكم سلفكم فحجوا أهل عصركم ومن معكم، كما حجكم من قبلكم من أسلافكم.

وقد نفضنا القرآن من أوله إلى آخره فلم نجد فيه آية تنص على إمامة، ولا أنها إذ لم تنص كانت دالة عند النظر والتفكير، ولا أنها إذ لم تدل بالنظر والتفكير وكان ظاهر لفظها غير ذلك على ما قلتم كان أصحاب التأويل والتفسير مطبقين على أن الله أراد بها إمامة فلان.

فهذا باب لا تقدرون من قبله على حجة. وليس لكم في باب الخبر والإجماع متعلق ولا سبب، مع قول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. وقول المهاجرين: بل منا الأمراء ومنكم الوزراء.

ثم وجدنا أبا بكر وهو متكلم قريش وصاحب أمر المهاجرين، والمنازع عنهم يوم السقيفة، يقول للناس بعد سكون الأنصار وارتداعهم: بايعوا أي هذين شئتم - يعنى عمر وأبا عبيدة - فلم نجده ادعاها لنفسه، ولا أبى أن تكون لغيره. ولم يقل إنسان من الأنصار ولا من المهاجرين، ولا من أفناء الناس: إن النبي قد كان جعلها لفلان وحض عليها له. ولا أنهم إذا لم يدعوا النص قال قائل إن النبي قد كان قال قولا يوم كذا وكذا يدل على أنها لفلان، ولم ينطق بذلك أحد بعد تلك الأيام كما لم ينطق أحد فيها.

ثم وجدنا أبا بكر حين أراد أن يجعلها إلى عمر من بعده كيف يمشي إليه رجال المهاجرين وعلية السابقين، ليصرفها إلى من هو ألين جانبا وأخفض جناحا وأقل هيبة، ويقولون: يا خليفة رسول الله، إن الحاجة للأرمل والأرملة، والضعيف والضعيفة، وعمر رجل مهيب في صدور الناس، والله ما نريد صرفها عنه ألا يكون سبقَ إلى كل يوم خير! قال أبو بكر: أبربي تهددوني، أما إذا لقيته فقال لي: من استخلفت على عبادي؟ قلت: استخلفت عليهم خير أهلك عندي.

فلم يجر بينهم مما يقولون حرف واحد.

ثم أن عمر بعد ذلك جعلها شورى بين ستة وجعل إليهم الخيار، وسلم ذلك جميع المسلمين، فيهم الزهري والتيمي والهاشمي والأموي والأسدي، على أنها إن وقعت للأسدي لم يكن منكرا عند الجميع، وكذلك الزهري والأموي.

وأعجب من هذا أجمع وأدل على الاختلاف، وأبعد من النص والاجماع، قول عمر في شكاته وهو موف على قبره وعنده المهاجرون الأولون: "لو أدركت سالما مولى أبي حذيفة ما تخالجني فيه الشك". حين ذكر دعابة علي وبخل الزبير وبأو طلحة وحب عثمان لرهطه.

ثم الذي كان من منازعة سعد بن أبي وقاص لعلي، وتركه بيعته ودعائه له إلى وضع الشورى، والتخاير بالأعمال والجزء، فلم تجدوا أحدا من الناس يقول من وراء سعد أو في وجهه: ولم يخايرك وقد اختاره الرسول دونك.

وقد كان ينبغي لأصحاب علي ومن معه من المهاجرين والبدريين وسائر الصحابة والتابعين، ألا يمسكوا عن ذكر هذه الحجة، وإن أمسك عنها الناس وأضاعوها، وعاندوا أو غلطوا فيها. ولم نعلم هذا وأشباهه إلا دليلا قاطعا لمن لم يمنع قلبه معرفة الحق ولسانه الإقرار به، في محاربة طلحة والزبير وعائشة وعلي، وما أراقوا من الدماء. ولم يقل واحد من الناس: ولم تقاتلون رجلا أو تطلبون مخايرته وقد نصبه النبي وفسر أمره وبين شأنه. [وهذا] دليل على ما قلنا، وبرهان لما ادعينا.

ولقد قال رجل لعمر بن علي: خبرني عن وصية رسول الله إلى أبيك، قال: والله إن هذا الكلام ما سمعت به قط إلا الساعة.

وقد تعلمون أن الأمة كلها مع اختلاف أهوائها ونحلها، لا تعرف مما تدعون من أمر النص والوصية قليلا ولا كثيرا، وإنما هذه دعوى مقصورة فيكم، لا يعرفها سواكم. وإن أشد الناس عليكم في الوصية والنص لَلزيدية مع تشيعها وإفراطها وشدة إقدامها على عثمان، وسوء قولها وشدة عداوتها للزبير وطلحة.

فلو كان النبي نصبه للناس وبين أمره واحتج له، لم يكن هناك اختلاف ولا ارتياب ولا تحير، ولا احتج بذلك المحجوجون على شاذ إن شذ ومفارق. [وفي] هذا وأقل منه ما يردع ذا اللب، ويكف ذا الحجا.

وزعمت الرافضة أن النبي أوصى إلى رجل بعينه، وأمر أمته بالوصية في تركاتهم، لأن ذلك أجمع للشمل، وأدعى إلى الألفة، وأمنع للفساد، وأقطع للشغب، وأذهب للضغائن، وأبعد من الغلط؛ إلا أن الله قد كان يعلم أن النبي متى أوصى إلى ذلك المستحق تكفر أمة محمد إلا ثلاثة أنفس، وأن الوصي سيضعف عن القيام بالحق، وسيترك مع القيام بيديه إظهاره بلسانه، وأنه لا يرضى بالكف عن شتمه الكافرين حتى يزكيهم على منبره. فسبحان الله ما أعجب هذا القول!

وإن تركوا الكتاب وأضربوا عن الإجماع واحتجوا بالرواية، فما أحد أجحد لها ولا أرد لمعرفتها منهم. مع أن رواية غيرهم أكثر، وعلى ألسنة أصحاب الحديث أظهر.

ولو كانت روايتهم ورواية خصومهم سواء ما كان تأويلهم بأقطع لتأويل خصومهم من تأويل خصومهم لتأويلهم. مع أن الحديث إن كان يحتمل ضروب التأويل فغلط في حق ذلك من باطله رجلٌ فليس بكافر ولا مكابر، لأن ذلك الحديث لو كان صحيحا لم يكن بأبين من القرآن ولا أوضح.

وقد يختلف الناس في تأويله ولا يكفرون ولا يكابرون، فكيف يكفر من غلط في تأويل حديث لو كان رده لم يكن عاصيا.

وإن كانت إمامة علي لا تثبت عندهم إلا من قبل الرواية، فقد أفلح خصم الرافضة واستراح من كد المنازعة.

وقد زعم ناس من العثمانية أن الله قد اختار للناس إماما، ونصب لهم قيما، على معنى الدلالة والإيضاح عنه بالعلامة، لا على النص والتسمية، لأن الله إذا قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} - وقد عرفنا صفة العدالة - فمتى رأيناها في إنسان علمنا أنه الذي كان عنى الله بالآية وإن لم يسمه فيها. وكذلك قول الرسول: "ليؤمكم خياركم" فقد عرفنا الله الخيار من الشرار، والفضل من النقص، فمتى وجدنا الفضيلة في رجل فهو الذي عناه النبي وإن لم يذكره باسمه.

ولا يهمل الناس ويتركهم سدى من وضع لهم الأدلة ونبههم على موضع البرهان وعرفهم أبواب الصلاة.

ولو قلنا إن النبي قد اختار للناس إماما على معنى أنه إذ أمر أبا بكر بأن يتقدم المسلمين في مصلاه ومقامه ومنبره فقد استخلفه، جاز ذلك في الكلام. وباب الجواب في هذه المسائل كثير. لأنه لا يجوز أن يكونوا لم يعلموا ذلك وقد علموا ما هو أخفى وأدق وأيسر خطبا وأقل نفعا، وهم القوم الذين لا يؤتون من نصيحة وحسن معرفة. وكيف يؤتون منهما وبهم عرفنا النصيحة والمعرفة.

فإن قالوا: فإنما كان خيرا للناس أن يختاروا لأنفسهم أو يختار النبي لهم.

قلنا: لو كان النبي قد اختاره لهم لقد كان ذلك خيرا لهم من اختيارهم لأنفسهم. فإذ لم يختره لهم فترك اختياره خير لهم، لأنه إذا كان أن لو كان اختاره لهم فقد دل تركه الاختيار أن تركه الاختيار لهم خير لهم، إذ كان قد كان اختار الترك دون الاختيار، وترك الاختيار ربما كان اختيارا. وهو في هذه المواضع اختيار، لأن النبي لم يكن ليختار لهم ترك النص والتسمية إلا وترك النص والتسمية خير من النص والتسمية.

وإنما هذا مثل قائل لو قال لنا: أرأيتم التأويل الذي قد ضل من أجله عالم، والتشبيه، والوعد والوعيد، والقدر، والأسماء، والأحكام التي قد كفر من أجلها بشر، وبسببها تناحر الناس، وإنما كان خيرا لهم أن يعرفوه بأسره، وينصوا على حقيقته، ويكفوا المؤونة فيه، حتى كان لا يقع خلاف، ولا يوجد خطأ، ولا يشيع فساد، ولا يتفانى الناس أو يتركوا ونظرهم، ويخلوا واختيارهم.

قلنا: الخيرة فيما صنع الله. فلو كان الله بيّن ذلك بالنص والتفسير دون الدلالة ووضع العلامة، كان ذلك خيرة، لأنا نعلم أن الله لا يصنع إلا ما هو خير.

فلو لم يفعل ذلك ولم ينص عليه فتركه الأمر على ما نحن عليه خير لنا وأفضل. فكيف أوجبتم على الله وحكمتم عليه.

هذا جمل جوابات العثمانية بجمل مسائل الرافضة والزيدية. ولولا أن فيما قدمنا غنى عما أخرنا لقد فسرنا كما أجملنا. وإنما ملاك وضع الكتاب إحكام أصله، وألا يشذ عنه شئ من أركانه، فأما استقصاؤه حتى لا يجري بين الخصمين منه إلا شئ قد وضع بعينه، فهذا ما لا يمكن الواضع ولا يحتمل الكتاب. ولو أمكن الواضع واحتمله الكتاب لكان طوله قاطعا لنشاط القارئ، ومجلبة لنعاس المستمع، إلا لمن صحت إرادته، وأفرطت شهوته، وقوي طبعه، وحسن احتسابه.

وقد أعيتنا هذه الصفة في المعلمين، فكيف [في] المتعلمين.

وعلى أن للنحل صورا كصور الناس، فكما أن بعض الصور أشد مشاكلة لطبعك، وآنق في عينك، وأخف على نفسك، فكذلك النحل في مقابلة الأهواء، ومشاكلة الشهوات، والخفة على النفوس.

فاحذر حوادث الشهوات، واتصال المشاكلة، فإنه أخفى من الدقيق، وأدق من الخفي.

هذا إذا كان المعنى مجردا والمذهب عاريا، فكيف إذا موهه صاحبه، وزخرفه واضعه، بأعذب الألفاظ وأشهاها، وأحسن المخارج وأعفاها، فشفى كل واحد منهما صاحبه، وحببه إلى سامعه. فإن وافق ذلك منه تعظيم لسلفه، وهوى في قائله، فقد أسمحت نفسه بالتقليد، واستسلمت للاعتقاد.

فاحذر في هذه الصفة، ولا تستخفن بهذه الوصية.

واعلم أن واضع الكتاب لا يكون بين الخصوم عدلا، ولأهل النظر مألفا، حتى يبلغ من شدة الاستقصاء لخصمه مثل الذي يبلغ لنفسه، حتى لو لم يقرأ القارئ من كتابه إلا مقالة خصمه لخيل له أنه الذي اجتباه لنفسه، واختاره لدينه.

ولولا اتكالي على انقطاع الباطل عن مدى الحق وإن استقصيته وبلغت غايته، ما استجزت حكايته وقمت مقام صاحبه.

ونحن مبتدئون في كتاب المسائل وبالله ذي المن والطول نستعين، وعليه نتوكل.

هذه جمل أقوال العثمانية.
والحمد لله كثيرا دائما، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه، وآله الطاهرين وصحبه، وسلم تسليما.