انتقل إلى المحتوى

الشاهنامة/أفريدون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

جلوس فريدون على التخت و ملكه خمسمائة عاما

[عدل]

ثم انتهت نوبة الملك الى أفريدون. فاعتصب بالتاج و تجلى على سرير الملك أوّل يوم من ماه مِهر . فاتخذ مجلسا عظيما حضرته الخاصة و العامة، يهنونه بالملك الجديد، و يدعون لأيامه بالتأبيد و التخليد، و يشكرون اللّه على ما أفاض عليهم من ملابس عالية، و أزلّ اليهم من عوارف فضله. ثم أمر فبسطوا سماطا عظيما يعجب الحاضرين، و يروع الناظرين بالآلات الرائقة من الأوانى المخروطة من قطع البلخش فضلا عن الذهبيات المكللة باللآلئ، و الفضيات الموشحة بالجواهر، فلما رفع السماط جلس للشراب فأحضروا الكراين المحسنات، و الجوارى المسمعات.

و اصطف على رأسه روقة الغلمان بمناطق الذهب المرصعة باليواقيت الحمر، و اللآلئ الزهر. فتشمرت السقاة لادارة الأقداح، و استجلاب الأفراح، و بسلاف الراح. فصار المجلس يفتر كالفردوس نضارة، و يتهلل كرياض الجنان غضارة. ثم أمر بضرب الدنانير و إفراغها على الحاضرين على اختلاف المقادير. فصار ذلك اليوم غرة فى جبهة الزمان. و هو اليوم المعروف بعيد« المهرجان».

قال فوردت البشائر على أمه مانَك بأن ذاك الهلال صار بدار كاملا، و تلك المخايل فيه صرن شمائلا، و أن ابنها طاول الأفلاك، و قطّر على أرض المهانة الضحاك. و أخرس أصداء أبيه بإدراك الثار المنيم، و أنطق ألسنة المحامد بفضله العميم، و طوله الجسيم.

فخرت ساجدة للّه تعفر خدّها فى التراب، و تفض من أجفانها عقود اللؤلؤ المذاب. ثم أمرت بنثر الجواهر على الواردين بتلك البشائر، و إفاضة الصدقات على الفقراء و المساكين شكر اللّه تعالى على ما خصص به قرّة عينها و ثمرة قلبها. و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.

قال ثم عزم أفريدون على الرحيل فسار فى عساكره، و طاف فى المشارق و المغارب يمهد أساس العدل، و يهدم قواعد الظلم. حتى عمر جميع الأرض بحسن السياسة، و وفور الرحمة و الرأفة.


إرسال فريدون جندلا إلى اليمن

[عدل]

قال فرزق بعد أن بلغ خمسين سنة من عمره ثلاثة أشبال من بنتى جمشيد فرباهم بين سحره و نحره حتى ترعرعوا و راهقوا البلوغ.

و كان له فى المملكة رجل موسوم بالعقل الكامل، و الرأى الثاقب. فدعاه و تقدّم اليه بأن يطوف فى البلاد مفتشا عن أخواتٍ ثلاث من البيوت الكبار، و القبائل الشريفة، يصلحن للاتصال بهؤلاء الأشبال. فتجرّد لذلك و طاف فى جميع الأقطار ينقب و يبحث حتى علم بأن سروا ملك اليمن قد رزق ثلاث بنات مقابلات موصوفات بالجمال الكامل، و العقل الوافر.

فسار حتى قدم اليمن فتلقى الملك مورده بالإعظام و الإجلال، و أنزله فى طارم رفيع مشيد، و أدر عليه الأنزال، و وفر عليه الوظائف.

ثم استحضره بعد ثلاثة أيام و استخبره عما وراءه،فأعلمه أن أفريدون أرسله الى حضرته خاطبا المخدرات الثلاث لأشباله، الثلاثة، و أنه راغب فى التحام أواصر الشجن من الجانبين. فلما سمع الرسالة قام و قبل الأرض على رسم الخدْمة ، و أطلق لسانه بالثناء و الدعاء، و ردّ الرسول الى مخيمه، و استمهله ثلاثة أيام حتى يفكر فى الأمر. فخلا بوزرائه و أركان دولته، و شاورهم فى تلقى سؤال أفريدون بالإسعاف، أو مقابلته بالمنع و التشمر للخلاف.

فمن مشير بالامتناع حسما لمادة أطماع الأغيار عن مداخلته فى مملكته، و آمِرٍ بالانقياد إصلاحا لذات البين، و ليعتضد البعض من الجانبين. فكانت آراؤهم تتفق مرة و تختلف أخرى حتى استقرت على أن الإذعان لهذا الملك أولى من مخالفته، و الملاينة معه أعود من مخاشنته.


إجابة ملك اليمن جندل

[عدل]

فأحضر الرسول و أوسعه تطوّلا و إكراما، و تفضلا و إنعاما. ثم افتتح الكلام بالدعاء للملك و بدوام أيامه الزاهرة، و دولته القاهرة.

ثم قال: الأوامر العالية ممتثلة، و الرغبة فى المواصلة الميمونة صادقة. و لكن المأمول أن ينعم الملك و يجشم أشباله النهوض الى هذه الخطة تحت رايات السعادة، و ظلال السيادة، حتى تكتحل بروائهم العين، و ينشرح بلقائهم الصدر. ثم تأتلف الأقمار بالشموس، بالطائر الميمون، و الطالع المسعود. فاذا حصل الاتحاد و الامتراج ردّوا الأعنة فى مواكب الجلال، و عاودوا الحضرة تحت ظلال الإقبال. فرجع الرسول على هذه الجملة الى أفريدون. فلما مثل بين يديه قبل الأرض و عرض عليه ما شاهده من صورة الحال، و أخبره بصدق رغبة صاحب اليمن فى المصاهرة.


ذهاب أبناء فريدون إلى ملك اليمن

[عدل]

فأحضر أبناءه و أمرهم بالنهوض الى اليمن فجهزهم اليها توخيا لرضاه. و لما وصلوا تلقاهم بأتم إكرام، و قابلهم بأحسن إنعام، و أبلغ إعظام. و انتظمت بينهم أسباب الاتصال على جملة الامتزاج و الاتشاج.

و أقاموا هنالك مدّة من الزمان. ثم سرحهم بعد حصول الاستئناس و الائتلاف الى حضرة أفريدون.


تقسيم فريدون العالم بين أبنائه

[عدل]

فلما قدموا عليه و رأى ثلاثة أقمار كللتهم السعود بأنوار الكمال، و كساهم العلو رفارف الجمال قسم الدنيا بينهم ثلاثة أقسام، و عين لكل واحد صوبا معلوما، ليستقل على مقتضى أحكام السلطنة فى أرضه بالحل و العقد، و الإبرام و النقض. فعين لسلم، و هو أكبر أولاده، أرض الروم و بلاد المغرب و ما تاخمها من تلك الممالك، و لتور بلاد الصين و الترك و سائر ما ينضاف اليها من تلك الولايات، و لإِيرج و هو أصغرهم ممالك العراق مع أرض بابل الى آخر بلاد الهند، و هى واسطة قلادة المملكة، و مستقر سرير السلطنة. و جعله ولى عهده، و وهب له الإكليل الرائع، و التخت الباهر، و الجرز الهائل.

فتوجه كلا الأخوين الى ممالكهما فى عساكر كالجبال المائرة و البحار الزاخرة، حتى استقرا على سرير ملكهما و مبوأ عزهما.


حسد سلم على أخيه إيرج

[عدل]

فمضت على ذلك مدة من الزمان تترقى أمورهما، و تتصاعد جدودهما، الى أن بلغت رتبة الكمال فآذنت بالزوال. و دب بين الاخوة عقارب الشحناء تجتذ العروق الشواجر، و تقطع الأرحام و الأواصر. و أوّل ذلك أن سلما عظم عليه إيثار أبيه أخاه الصغير عليه، و تخصيصه إياه بولاية العهد. فكتب الى تور يقول: إن الملك قد ظلمنا فى هذه القسمة.

فإنه زحزح كل واحد منا الى طرف من نواحى الأرض، و فضل علينا إيرج مع صغر سنه، و خور عنان عقله. و يذكر أنه لا يخفى على العالمين أنه مع كبر السن أطول الأخوة باعا، و أرحبهم ذراعا، و أروعهم سيفا و سنانا، و أثقبهم زنادا و أنداهم بنانا. و أنه إن لم يكن هو أهلا لولاية العهد، و وراثة التاج و التخت فالصواب أن يفوّضها الى تور.

فان خلائق الأرض قاطبة، شارقه و غاربه اتفقوا على استحقاقه لذلك بمكارمه الباهرة، و مساعيه الزاهرة. و ذكر أن الرضا بذلك سبة تبقى آثارها على وجوه الدهر لا يرحضها عنها يد الشهور و الأعوام. فالرأى أن نجتمع و نتعاقد ثم نرسل الى حضرة الملك و نعرفه إنكارنا عليه ذلك. فلعله يستدرك الأمر، و يحسم الشر بتغيير هذه القسمة، و بتنزيل كل واحد من الأولاد محله على مقتضى الاستحقاق، قبل توارى قمره المحتوم المحاق.

فوردت هذه الرسالة من أخيه على صدر موغر، و قلب بالغيظ مستعر. فرّد اليه الجواب، مقابلا رأيه بالاستصواب. و تواعدا على الاجتماع و مناضلة الآراء. فنهض أحدهما من الروم الآخر من الترك، و التقيا فى بعض أطراف المملكة فأطلع كل واحد منهما الآخر على مستودع ضميره، و مخزون سره. فتعاهدا على الترافد و التظاهر، و التناصر و التظافر.


رسالة سلم و تور إلى فريدون

[عدل]

ثم أنهضا بعض الدهاة من أعيان الدولتين رسولا الى أفريدون، و حملاه رسائل توغر الصدور، و تثير الحقود. و أمراه أن ينهى الى ذلك الملك الباذخ- خ، و الطود الشامخ أن اللّه تعالى لما ملكه نواصى العباد، و أورثه الأدانى و الأقاصي من البلاد أمره ببسط العدل و الإنصاف، و التنكب عن الحيف و الإجحاف.

و هو قد قابل نعمه بالكفران، و أوامره بالعصيان، فى تقسيط هذه المملكة. حيث قسط الممالك على مقتضى هوى النفس، و رجح جانب الصغير على الكبير، من غير اختصاصه بمزية الشرف، و لا تميزه بمزيد فضيلة.

و إنما الصواب أن يبعده الى بعض أطراف الممالك كما أبعد الآخرين، و يباشر أمور السلطنة بنفسه، ثم يتدبر بعد ذلك فى ترتيب ولاية العهد لمن هو أحرى بها و أجدر. و إن أبى ذلك فإنا سنجعل بلاده مرابط الجحافل، و مراكز القنا و القنابل، فنأخذ الأمر قسرا، و نملك التاج و التخت قهرا.

فنهض الرسول و لم يزل يطوى أطراف السباسب، و يسمح أكناف المهامه، حتى قرب من سرادق الملك. فرأى من المهابة ما ملأ عينه و راع قلبه. و أخبر الملك بقدومه فأمر بإحضاره. فلما مثل بين يديه استخبره أوّلا عن قرّتى عينه، و فلذتى كبده، و استقامة أمور مملكتهما، و انتظام أحوال دولتهما.

فأعلمه أنها على جملة تسر قلوب الأولياء، و تسخن عيون الأعداء. ثم سأله بعد المؤانسة و معى رسالة ناطقة بلسان الحفيظة، تنطف دما، و تعقب صاحبها ندما. و لا بدّ من إذن الملك فى إبلاغها الى المسامع العالية. فأذن له حتى بلغه ما حمل من تلك الرسالة.

إجابة فريدون ابنيه

[عدل]

فلما سمع ذلك أطرق ساعة ثم تنفس عن زفير قطع أحشاءه، و مزق أكباده، و عض على يديه حتى ضرج بنانه. و علم أن طلائع الشر طالعة، و نواجم الفتن لامعة. فأجاب عن تلك الرسالات بإبراق و إرعاد، و إعذار و إنذار. و أشار على الرسول بالرجوع.


ذهاب إيرج إلى أبيه لإخباره بما عزم عليه

[عدل]

فعلم إيرج بصورة الحال و حضر بين يدى الملك و قال: إن اختلاف الكلمة يورث زوال الملك و تشتت الأمر. و الرأى أن أركب اليهما، و أدخل عليهما، و أخمد نائرة هذه الفتنة، و أتفادى مستعفيا عن السلطنة، و اسم الأمر اليهما، و أوفر المملكة عليهما، و أستعطب جانبهما قبل أن يطرحا قناع الحياء، و يهتكا سترا الحشمة فيتفاقم الأمر و يعضل الداء، و لا يمكن التلافى و التدارك. فكحل القضاء عين بصيرة أفريدون بميل الحيرة، و أنساء أن الملك عقيم، و أن داء الحسد قديم.


ذهاب إيرج إلى أخويه

[عدل]

فأذن له فى ذلك فنهض فى خف من العدد، و جماعة من خواص العسكر متوجها نحو أخويه.

للزيارة، و تطفية النائرة. فلما قرب منهما و أخبرا بقدومه لا صلاح ذات البين، و إزالة الوحشة من الجانبين، ركبا فى مواكبهما للاستقبال، و تلقيا موارده بالإجلال و الإعظام.

و أمرا بتنضيد الجواهر على الأطباق برسم النثار. فلما تدانت أشواط النواظر، و أحسن كل واحد منهم بوجه الآخر ترجل إيرج إعظاما لقدرهما، و إكبارا لحملهما.

فتلاقوا و تعانقوا و رجعوا الى مضاربهم، و جلسوا للأنس و الطرب، يتراضعون صفو المدام، و يتلاطفون بحلو الكلام. حتى قدحت فى عقولهم الأقداح، و تمكنت من نفوسهم الراح. قام إيرج معتذرا عن ذنب لم يقترفه، و مستغفرا عن جرم لم يجترحه. إذا مرضنا أتينا كم نعودكم و تذنبون فتأتيكم و نعتذر و لم يزل بهما حتى استعطفهما، و ألان عريكتهما، و نزع الغل من صدورهما. و صفت بينهم شريعة الحال عن كدر التنافس و التحاسد. و لبثوا كذلك حينا.


سماحة إيرج و رجاحة عقله و تعاطف القادة و الجماهير معه

[عدل]

ثم إن أهل تلك الممالك لما طلع عليهم إيرج رأوا منه ملكا قد ملأ عن الزمان بصباحة وجهه، و رجاحة عقله، مع ما اختص به من السجايا المعسولة، و الشمائل المشمولة. فتفاوضوا فى ذكره، و ما حباه اللّه تعالى من مكارم الشيم، و لطائف الكرم. فكان لا يجتمع اثنان من أركان تلك الدولة و أعيانها إلا و كان ذكره لسانهما، و راحة أرواحهما، و نزهة قلوبهما و أسماعهما. فبلغ ذلك الى سلم فتحرّك ذلك الحقد الدفين، و الحسد القديم. و خلا بتور و أعلمه إقبال قلوب جميع العسكر عليه.

و ميل أهوالهم اليه، و أنهم لا يشتغلون إلا بذكر أخلافه، و وصف سيره، و استصواب رأى أبيه فى ترشيحه للسلطنة. فحملهما فساد ضميرهما، و دغل قلوبهما، على الغدر به، و قطع رحمه.


قتل إيرج بيد أخويه

[عدل]

فلما أصبحا من الغد ركبا الى مخيمه. فلما رآهما من بعيد استقبلهما متلطفا، و تلقاهما متملقا. فدخلوا السرادق و أخلوا المكان، و قعدوا يتفاوضون فى أمور المملكة. فأفضى بهم الكلام الى ذكر أبيهم و ظلمه إياهما فى إزاحتهما عن صميم المملكة الى بعض الأطراف. فرفع تور صوته بتسفيه أبيه فى ذلك، و أخذ إيرج يتلطف و يتملق فى الإجابة، و يذكر أنه قد خرج من تلك المملكة كراهة استيحاشهما، و توخيا لرضاهما، فانجر الحديث حتى وثب تور من مكانه كالنار الموقدة، و أخذ مكرسيا من ذهب كان تحته و رماه به. فتضرع اليه بالبكاء، و أجهش لديه بالعويل، و طلب الأمان. فاستمرّت به القسوة و أخرج خنجرا كان معه فهتك به حجاب قلبه، و نقب خزانة روحه، و فجعه بشبابه الناضر، و شطاطه الناعم.

و لم يرع للّه تعالى حرمة، و لا راقب لأبيه إلَّا و لا ذمة، و غرقه كالشمس وقت الشفق فى نجيع دمائه، و لم يبق على حشاشته و دمائه: ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه للّه أرجام هناك تشفق ما كان ضرك لو مننت و ربما منّ الفتى و هو المغيظ المحنق قال ثم أمر برأسه فرفع، و حشى. المسك و الكافور، ولف فى ثوب حرير، و أودع تابوتا معمولا من ألواح الذهب، و نفذه الى أبيه.


علم فريدون بقتل إيرج

[عدل]

نعم و كان أفريدون ينتظر طلوع رايات ولده، و يعدّ الليالى و الأيام دون أوبته. فلما قرب الوقت الذى عينوه لقدومه أمر العساكر بالركوب لاستقباله.

و كانوا كل صبيحة يركبون و يترقبون طلوع الهلال الزاهر، و يطمحون نحو الطريق بالنواظر. فطلع راكب على جمل يشق الأرض و يثير النقع، و بين يديه صندوق مغشى بالديباج و الحرير.

فلما قرب من كوكب السلطان شق جيبه، و رفع بالعويل و النحيب صوته، و نعي اليه ولده الذى انتظر مقدمه.

فلما سمع ذلك خر من مركوبه الى الأرض، و حثا التراب على مفرق كان يأنف من المسك السحيق، و العنبر الفتيق، و رفع صوته بالزنين و الشهيق، يقبض أثناء الحشا كمدا باحدى يديه، و يسمح بالأخرى سبيل الدماء عن عينيه. و لم يبق أحد من أعيان الأمراء و أركان الدولة إلا و هو حاف حاسر بين يديه.

فرفعوا ذلك التابوت و أدخلوه الإيوان، و أمر بهدم دار إيرج، و إحراق بستانه، و جلس للغزاء على عادة الفرس، و بكى حتى نبت العشب حواليه من فيض دموعه. ثم كيف بصره، و كان لا يزال يتضرع الى اللّه تعالى و يبتهل اليه و يسأله أن ينتقم له من الفاتكين بولده السافكين لدمه.


ولادة ابنة لإيرج

[عدل]

و كانت له جارية خلف الستر حاملة من إيرج. فولدت بتنا فكان يربيها حتى ترعرعت فزوّجها من ابن أخيه بشَنج .


ولادة منوجهر من ابنة إيرج و سرور فريدون به

[عدل]

فولدت مِنوجهر . فلما أخبر بذلك أفريدون سُرّى عنه بعض همومه و سربه. فكان يربيه أحسن تربية و يعلمه آداب الملوك أحسن تعليم. فرد اللّه تعالى عليه بصره. فلما رأى وجه منوجهر بشرته أسارير وجهه، و خايل سعادته، ببلوغ الأوطار، و إدراك الثار. فترعرع الشاب فى أقرب زمان و أسرع أوان. حتى كان يطاول الأرواح برشاقة قده، و يضارع الآساد بقوّة بأسه.

فأمر أفريدون بإفاضة الأموال عليه، و تمكينه من الخزائن العتيقة، و الجواهر الدفينة، و اجتمع عليه جميع العساكر. فحدّثته نفسه بالنهوض و التشمر لطلب الثار و التشفى من الظلمة الفجار. فطن العالم بذلك


سماع سلم و تور بمنوچهر

[عدل]

و قامت القيامة على سلم و أخيه. فأخذا فى ضرب الآراء، و استمالة الأهواء، و التشمر ليوم اللقاء. إرسال الابنين رسالة إلى فريدون

فأنهضا رسولا الى أفريدون و كتبا اليه متنصلين عما جرى على أيديهما من القضاء المقدور، و الأمر المحتوم. فلما وصل الرسول أمر بإحضار العساكر و الجحافل، و جلس فى صدر الإيوان، و أقعد منوجهر على سرير من العاج، و اصطفت على رأسه الأمراء و القوّاد . فخرج سابور من السرادق و أخذ بيد الرسول و أدخله عليه. فلما رآه خر ساجدا يعفر خدّه فى التراب. ثم رفع رأسه، و افتتح كلامه بالاعتذار و الاستغفار لصاحبيه حتى أدّى الرسالة.


إجابة فريدون رسالة ابنيه

[عدل]

فأجابه أفريدون بوعيد يتضعضع دونه الجبال. الشوامخ، و تغيض عنده البحار الزواخر. و ذكر أنه على عزيمة الانتقام، و طلب الثار، و تجهيز الجحافل تحت رايات منوجهر الى بلادهما، و انتزاع تلك الممالك عن أيديهما. فعاد الرسول طائرا بجناح الاستعجال حتى وصل الى المغرب.

فرأى سرادقات سلم و أخيه و مضروبة، و عساكرهما مجموعة. فدخل عليهما فى خيمة من الديباج، و رآهما مجتمعين على تدبير الأمر و تخمير الرأى. فطفقا يستخبران عن منوجهر و عن الأمراء المرتبين معه، و الأجناد المجتمعين عنده. فتقدّم الرسول و افتتح كلامه مخبرا عما رآه فى تلك الحضرة فقال: قدمت فقربت من سرداق مضروب كقبة خضراء، و أدخلت على ملك يشق مر اثر الأسود بهينه، يلتهب على رأسه تاج من الياقوت، متجليا على سرير من الذهب، يبص منه كافور شيب على صفحات وجه تتوقد تحت بشرته نيران الحفيظة، و يترقرق من ظاهر أديمه ماء الأريحية.

و كان على يمينه منوجهر كالنخل الباسق يكاد يبهر الشمس بروائه و بهاء منظره. و قدامه قارن، و هو صاحب حربه، كالهزبر الهصور. و على يساره وزيره ملك اليمن كالذكاء المجسم، و الدهاء المصوّر . و على رأسه سام بن يمان حامل سيفه، و هو كالسحاب المبرق المرعد، و على بابه شيرويَه و سابور كالثعبان الصائل و الغضنفر الهائل.

و أما الفيلة و الخيل فعلى عدد الرمال، و كأمثال الجبال. اذا زحفوا غادروا الجبال سهولا، و السهول جبالا. و اذا ساروا حولوا النهار ظلاما، و الظلام نهارا.

فلما سمعا من الرسول ما جاء به من الأخبار الهائلة أخذهما المقيم المقعد. فأجالا أفكارهما فيما فجئهما من الأمر المهم، و الخطب المدلهم. فأمرا العساكر بالتأهب للحرب، و الاستعداد للطعن و الضرب. فنهضا فى خيول يضيق عنها الفضاء، و فيول تغص بها البيداء.


إرسال فريدون منوجهر لحرب تور و سلم

[عدل]

فوصل الخبر بذلك الى أفريدون فأمر منوجهر بالبروز بعساكره، و تعبية مقانبه و مناسره. فضربت سرادقاته على ظاهر دار الملك، و أقام ثمانية أيام حتى اجتمعت العساكر، و تلاحقت الجحافل. فخرج أفريدون فودعه، و أوصاه بالأخذ بالحزم فيما يورد و يصدر، و يأتى و يذر. و جهزه تحت رايات النصر، و أعلام الظفر.


هجوم منوجهر على جيش تور

[عدل]

حتى قرب من أرض العدوّ . فلما تدانى الفريقان، و تراءى الجمعان، تناوشوا الحرب من طلوع الشمس، و داموا على ذلك سحابة نهارهم الى وقت الغروب.

فلما غربت الشمس رجع كلا الفريقين الى مضاربهم. و كان هذا دأبهم ثلاثة أيام. و كانت آثار الفشل و الضعف تظهر كل يوم فى عساكر الترك.


مقتل تور على يد منوجهر

[عدل]

فلما رأى تور ذلك رأى أن يصدم عساكر منوجهر صدمة واحدة، فيبيتهم تحت رواق الليل، و يباغتهم بصواعق الطعن و الضرب. فبلغ الخبر الى منوجهر فكمن له فى بعض الطرق، و أمر عسكره بالتأهب للمدافعة، و التيقظ للمكافحة. فلما جنّ الليل ركب تور فى ثلاثين ألفا. فلما قرب من معسكر منوجهر رأى صفوفا كالجبال، و أعلاما تخفق برياح النصر و الإقبال.

فاضطر الى المناجزة و المبادرة. فلم يحس إلا منوجهر قد طلع عليه من ورائه، فى بُهَم رجاله، و أعيان أبطاله.

فأحاطت به السيوف و الرماح، تأخذه يمنة و يسرة، فجعل يعض على يديه ندامة و حسرة. و تطاعن هو و منوجهر ففت فى عضده الخذلان، و دفع فى نحره الكفران:

و ساعدت السعادة منوجهر فطعنه طعنة اختطفه بها عن ظهر فرسه. ثم جدّ له فى الأرض و ترجل عليه و احتز رأسه. فدب الخور فى عسكره، و لم تغرب الشمس إلا على شفق من دماء الأبطال، تسيل بها. مخارم تلك الجبال. فشفى بذلك غلته، و أدرك نَهمته ، و يأبى اللّه إلا أن ينتقم من الظالمين، و يقطع دابر المارقين.


كتاب الفتح من منوجهر إلى فريدون

[عدل]

فكتب الى أفريدون بما يسر اللّه تعالى على يده من الانتقام و إدراك الثار. و أرسل برأسه على رمحه اليه. فلما بلغ الخبر اليه تحركت منه العروق النوازع، و فتفجرت بالدماء منه المدامع، من حيث إن قلوب الآباء ترق على الأولاد، و قد تذهب الشدائد بالأحقاد.


استيلاء قارن على قلعة الألانيين بأمر منوجهر

[عدل]

قال: و جاء الخبر بذلك الى أخيه سلم فانكسر ظهره، و و هى أمره. و كان وراء فى البحر على بعض الجزائر قلعة حصينة أعدّها ملاذ لنفسه إن اضطر الى الفرار.

و كان قد أمر بتعبية المراكب على الساحل للاستظهار. فعلم بذلك منوجهر و أشار على قارَن بالاحتيال على مستحفظ تلك القلعة لأخذها. فركب فى جنح الليل مع طائفة من نخب الأجناد، و جماعة من أعيان القوّاد . و لما قرب من الساحل أمر العسكر بالنزول، و أظهر أنه من أصحاب سَلم .

فركب على بعض المراكب و عبر الى القلعة، و قال للحراس: جئت فى أمر مهم من حضرة الملك. و كان معه على جعله علامة بينه و بين أصحابه، فمكن من الدخول فصعد. و لما وقعت عينه على أمير القلعة علاه بالسيف فأطار برأسه الى الأرض. و نصب ذلك العلم على بعض شرفات القلعة. فلما رآه أصحابه ركبوا تلك المراكب فى هجمة واحدة، و عبروا الى القلعة فدخلوها و انتهبوا جميع ما فيها، و أخذوا فى تخريبها، فلم تغرب الشمس إلا و قد عفا أثرها، و لم يبق منها إلا خبرها، و رجعوا الى الساحل، و أحرقوا جميع المراكب، و عادوا الى معسكر منوجهر فاستعدوا لمحاربة سلم و مناجزته.


هروب سلم و قتله بيد منوجهر

[عدل]

فما كانت إلا ركضة واحدة تزلزلت دونها الأقدام، و تضعضعت لها من الصفوف الأركان، حتى هرب سلم طائرا بقوادم الانهزام الى الساحل ليعبر على المراكب، و يتحصن بالقلعة. فلما قرب من البحر لم يصادف إلا مركب الحمام.

و ذلك أن منوجهر انقض فى أثره كالشهاب المرسل على العفاريت، و لما قرب منه أهوى بصمصامه الى كاهله و عاتقه، ففرّق بين هامه و جسده. و تفرّقت عساكر الترك بين المخارم و الشعاب لا يلتفت بعضهم على بعض، و رفع الباقون أصواتهم بالإعوان و الإرنان و طلب الأمان. فآمنهم منوجهر، و أحسن اليهم، و أبقى عليهم. فوضعت الحروب أوزارها، و خمدت نيرانها.


إرسال رأس سلم و الغنائم إلى فريدون

[عدل]

و عزم منوجهر على معاودة الحضرة فأمر شيروَيه بجمع الغنائم، و ما أفاء اللّه عليه من الذخائر. فرتب الفيول و حلاها بالجواهر و اليواقيت و الوشائع و الدبابيج، و أوقرها بأحمال الذهب و الجواهر و النفائس و الرغائب.

ثم كرّ هو راجعا الى أفريدون منصور الأعلام. راكبا صهوة النجاح بعد أن كان صعب المرام. حتى قرب من طبرستان و هو دار الملك و مستقر سرير السلطنة. فركب أفريدون لاستقباله فى مواكبه و رجاله. فلما طلعت راياته ترجل منوجهر، و جعل يقبل الأرض حتى قرب من الملك.

فأقر عينه منه بذاك المنظر البهىّ و القالب الشاهنشهىّ ، فانكب عليه أفريدون يقبله، و يمسح بيده غرته و وجهه. و أمر بتفريق تلك الغنائم على العساكر شكر ايزداً على ما خوّله . و تواصلت البشائر و التهانى فى تلك الأيام، و نثرت الجواهر على تلك الأعلام.


مقال فريدون عند موته

[عدل]

ثم إن أفريدون لما قضى اللّه حوائجه، و أنجح مقاصده و مآربه، و رأى أنه قد طعن فى السن سئم الحياة فكان يسأل اللّه تعالى أن يخلصه من دار الفناء.

و يحوّله الى دار البقاء. فلما قرب وفاته أوصى الى منوجهر و أعطاه التخت، و عصب بيده على رأسه التاج، و أمره بأن يفرغ وسعه و يبذل جهده فى إفاضة العدل و الاحسان، و إشاعة الأمن و الأمان.

و أوصى الى الملوك و الأمراء بمتابعته و مشايعته، و الإذعان لطاعته، و أخذ المواثيق عليهم بذلك. فانتقل الى جوار اللّه مشكورا محمودا. و كانت مدّة ملكه خمسمائة سنة.