الرسالة التدمرية/3
فإذا قيل : إنها مشككة لتفاضل معانيها فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أو متماثلا
وبينما أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة ولكن وهو العلم التابع للعالم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف : لها وجود في ولأذهان وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف به
وأما هذه الجملة المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل جامعة من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى وإمكان إغلاق باب إضلال ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذا لكل مقام مقال والمقصود : هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفي عن الرب وينزه عنه - كما يفعله كثير من المصنفين - خطأ لمن تدبر ذلك وهذا من طريق النفي الباطلة
ما يسلكه نفاه الصفات
وافسد من ذلك : ما يسلكه نفاه الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من اعظم الكفر مقل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك ويريدون الرد على اليهود : الذين يقولون انه بكى على الطوفان حتى رمد الملائكة والذين يقولون بإلهية بعض البشر وانه الله
فإن كثيرا من الناس يحتج على هؤلاء ينفي التجسيم والتحيز وذلك ممتنع وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم هؤلاء الملاحدة نفاه الأسماء والصفات فإن هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوه :
( أحدها ) أن وصف الله تعالى بهذه النقائص بهذه النقائص والآفات أظهر فسادا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم فإن هذا فيه من الإشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام والدليل معرف للمدلول ومبين له فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود
( الوجه الثاني ) أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الصفات : يمكنهم أن يقولوا نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم فيصر نزاعهم مثل نزاع مثبتة الكلام وصفات ا لكمال فيصر كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحدا ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد وهذا في غاية الفساد
الثالث ) أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة واتصافه بصفات الكمال واجب ثابت بالعقل والسمع فيكون ذلك دليلا على فساد هذه الطريقة
( الرابع ) أن سالكي هذه الطريقة متناقضون فكل من أثبت شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات كما أن كل من شيئا منهم الزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي
فمثبته الصفات - كالحياة والعلم والقدر والكلام والسمع والبصر - إذا قالت لخمكن النفاة كالمعتزلة : هذا تجسيم لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بالجسم أو لأنا لا نعرف موصوفا بالصفات إلا جسما
قالت لهم المثبتة : وأنتم قد قلتم : انه حي عليم قدير وقاتم : ليس بجسم وأنتم لا تعلمون موجودا حيا عالما قادرا إلا جسما فقد على خلاف ما علتم فذلك نحن وقالوا لهم : أنتم أثبتم حيات عالما قادرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل ثم هؤلاء المثبتون إذا قالوا لمن أثبت أنه رضي ويغضب ويحب ويبغض أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء أو بالوجه اليد ونحو ذلك إذا قالوا : هذا يقتضي التجسيم لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم
قال لهم المثبتة : فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام و هذا هكذا فإن كان هذا لا يوصف به إلالجسم فالآخر كذلك وان أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين
ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقا فاسدا : لم يسلكه أحد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا إثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك لأنها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا
لهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار : ما هو من هذا النوع : بل هذا هو الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة
من أثبت بعض الصفات أثبت الباقي
وأما في طرق الإثبات : فمعلوم أيضا أن المثبت لا يكفى في إثباته مجرد نفي التشبيه إذ لو نفي في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصي مما هو ممتنع عليه - مع نفي التشبيه وأن يوصف بالنقائض التي لا تجوز عليه نفي التشبيه
كما لو وصف مفتر عليه بالبكاء و الحزن والجوع والعطش وع نفي التشبيه كما لو قال المفترى : يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشريهم ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم كما يقال يضحك لا كضحكهم ويفرح لا كفرحهم ويتكلم لا ككلامهم والجاز أن يقال : له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم كما قيل : له وجه لا كوجههم ويدان لا كأيديهم حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر وغير ذلك مما يتعالى الله عز و جل عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فانه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات : ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في فان قال : العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجيء به السمع
قيل له أولا : السمع هو خبر الصادق هو الأمر عليه في نفسه فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات والخبر دليل على المخبر عنه ودليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه فما لم يرد به السمع ويجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن نفاه
ومعلوم أن السمع لم ينف هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها
وأيضا : فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفي فإن الأمور المتماثلة في الجواز والواجب والإمتناع : يمتنع اختصاص بعضها دون بعض في الجواز والوجوب والإمتناع فلا بد من اختصاصا المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت
وقد يعبر عن ذلك بأن يقال : لا بد من أمر يوجب نفي ما نفي ما يجب نفيه عن الله كما أنه لا بد من يثبت له ما هو ثابت وإن كان السمع كافيا كان مخبر عما هو الأمر عليه في نفسه فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا ؟
فيقال : كلما نفي صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه فان ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه وأنه قديم واجب القدم : علم امتناع العدم والحدوث عليه وعلم أنه عني عما سواه
فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه : ليس هو موجودا بنفسه بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به
وهو سبحانه عني عن كل نما سواه فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه وهو سبحانه قدير قوي فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه وهو سبحانه حي قيوم فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه
وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه كما ينفي عنه المثل والكفؤ فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده فإثبات أحد الضدين نعي للآخر ولما يستلزمه
فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة لا يحتاج فيها إلى الإقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل العصور والتقصير : الذين تناقصوا في يذلك وفرقوا بين المتماثلين حتى إن كل من أثبت شيئا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي فقالوا لا يقال لا موجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم فلزم نفي النقيضين : وهو أظهر الأشياء إمتاعا
ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات : أعظم مما فروا منه من التشبيه الأحياء الكاملين فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا
وقد تقدم أن ما ينفي عنه - سبحانه - النفي المضمن اللإثبات إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس هذا مدحا له لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقا كما أن مماثلة المخلوق في شيء من ا ل صفات : تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى
والنقص ضد الكمال وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك فهو منزه عنه وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة فإن النوم أخو الموت وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره كما أن الإستعانة بالغير والإعتضاد به ونحو ذلك تتضمن الإفتقار إليه والإحتياج إليه
وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا عنه بنفسه فكيف من يأكل ويشرب والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل الشارب ولهذا كانت الملائكة صمدا لا تأكل ولا تشرب وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك والسمع قد نفي ذلك في غير موضع كقوله تعالى : { الله الصمد } والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب وهذه السورة قي نسب الرحمن أو قي الأصل في هذا الباب وقال في حق المسيح وأمه : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فجعل ذلك دليلا على نعي الأوقية فدل على تنزيهه عن ذلك بطريق الأول والأحرى والكبد والطحال ونحو ذلك : هي أعضاء الأكل والشرب فالغني المنزه عن ذلك : منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل إذ ذاك من صفات الكمال فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل
وهو سبحانه منزه عن الصحابة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه وكذلك البكاء والحزن : هو مستلزم الضعف والعجز الذي ينزه عنه سبحانه بخلاف الفرح والغضب : فإنه من صفات الكمال فكما يوصف بالقدرة دون العجز وبالعلم دون الجهل وبالحياة دون الموت وبالسمع دون الصمم وبالبصر دون العمى وبالكلام دون البكم : فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن وبالضحك دون البكاء ونحو ذلك
وأيضا فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه لا كفؤ له ولا سمي له وليس كمثله شيء فلا يجوز أن تكون حقيقة كحقيقة شيء من المخلوقات ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات فيعلم قطعا أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة ولا السموات و الكواكب ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض ولا الآدميين شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر
فإن الحقيقتين إذا تماثلتا : جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما وجب لها فيلزم أن يحوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة وأن يثبت لهذا ما يقبت لذلك من الوجوب والفناء فيكون الشيء الواحد واجبا بنفسه غير واجب بنفسه موجودا معدوما وذلك جمع بين النقيضين
وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون : يصر كبصري أو يد كيدي ونحو ذلك تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ما ينزه عنه واستيفاء طريق ذلك لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطريقه
وما سكت عنه السمع نفيا وإثباتا ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتا عنه فلا نثبته ولا ننفيه
فنثبت ما علمنا ثبوته وننفي ما علمنا نفيه ونسكن عما لا نعلم نفيه ولا إثباته والله أعلم
القاعدة السابعة : ما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضا
أن يقال : إن كثيرا مما يدل عليه ( السمع ) يعلم ( بالعقل ) أيضا والقرآن يبين ما يسدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه كما ذكر الله ذلك في غير موضع
فإنه سبحانه وتعالى : بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك : ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه كما بين أيضا ما دل على نبرة أنبيائه وما دل على المعاد وإمكانه
فهذه المطالب هي شرعية من جهتين :
من جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها والأمثال المضروبة في القرآن قي ( أقيسة عقلية ) وقد بسط في عير هذا الموضع وقي أيضا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضا
وكثير من أهل الكلام يسمى هذه ( الأصول العقلية ) لاعتقاده أنها لاتعلم الا بالعقل فقط فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق وخبر الصادق الذي هو النبي لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل
ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي تتوقف إثبات النبوة عليها
( فطائفة ) تزعم : أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل
( وطائفة ) تزعم أن حدوث العالم من هذه الأحول وأن العلم بالصانع لا يمكن الابإثبات حدوثه وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات وإما بحدوث الأفعال القائمة بها فيجعلون نفي أفعال الرب ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها
ثم هؤلاء لا يقبلون الإستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم لظنهم أن العقل عارض السمع - وهو أصله - فيجب تقديمه عليه والسمع : اما أن يؤول واما أن يفوض وهم أيضا عند التحقيق لا يقبلون الإستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم لما تقدم
وهؤلاء يضلون من وجوه : ( منها ) أن السمع بطريق الخبر تارة وليس الأمر كذلك بل القرأن بين من الدلائل العقلية - التي تعلم بها المطالب الدينية - وما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر فبكون هذه المطالب : شرعية عقلية
( ومنها ) : ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه الا بالطريق المعينة التي سلكوها وهم نخطئون قطعا في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه فإن طريق العلم بصدق الرسول كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع
( ومنها ) : ظنهم أنما عارضا به السمع معلوم بالعقل ويكونون غالطين في ذلك فإنه إذا وزن باليزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة ومن المجهولات لامن المعقولات وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا : أن من ( صفات الله تعالى ) ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي كما أرشد إلى ذلك قوله : { ألا يعلم من خلق } وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات : على أنه يعلم بالعقل ( عند المحققين ) أنه حي عليم قدير مريد وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المققين منهم بل كذلك الحب والرضا والغضب ويمكن إثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما أثبتته بذلك الأئمة : مثل حمد بن حنبل غيره
ومثل : عبد العالى المكي وعبد الله بن سعيد بن كلاب بل وكذلك إمكان الروية : ييثبت بالعقل لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته
ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته وهذه الطريق أصح من تلك
وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفي والإثبات كما يقال : إن الرؤية لا تتوقف الا على أمور وحودية فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم : أحق به من الممكن المحدث
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا : أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب : أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين : للزم اتصافه بالأخرى فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت ولم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم
وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعلم لكان داخلا فيه فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أولى
وهذه الطريق غير قولنا هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى فإن طريق اثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها
وقد عرض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعراض مشهور ليسوا به على الناس حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويضعف الإثبات به مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الامادى أمسى مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجمهية فقالوا : القول بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات كالسمع والبصر والكلام مع كونه حيا : لكان متصفا بما يقابلها
فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة ( المتقابلين ) وبيان أقسامها فنقول أما المتقابلان فلا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة وهو إما ألايصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب : أو يصح ذلك في أحد الطرفين ولأنهما متقابلان بالسلب والإيجاب وهو تقابل التناقض والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما كقولنا زيد حيوان وزيد ليس بحيوان
ومن خاصة استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب : أنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب إذا كون الموجود واجبا بنفسه وممكنا بنفسه : لا يجتمعان ولا يرتفعان
فإذا جعلتم هذا التقسيم : وهما ( النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان ) فهذان لا يجتمعان ولا يربفعان وليس هما السلب والإيجاب فلا يصح حصر النقيضين - الذين لا يجتمعان ولا يرتفعان - في السلب والإيجاب
وحينئذ فيد ثبت وصفان - شيئان - لا يجتمعان ولا يرتفعان وهو خارج عن الأقسام الأربعة على هذا
فمن جعل الموت معنى وجوديا : فقد يقول إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب وكذلك العلم والجهل والصمم والبكم ونحو ذلك
( الوجه الثاني ) : أن يقال : هذا القسم يتداخل فإن العدم والملكة : يدخل في السلب والإيجاب وغيته أنه نوع منه والمتضايفان يدخلان في المتضادين إنما هما نوعن منه فإن قال : أعني بالسلب والإيجاب : فلا يدخل في العدم والملكة - وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له - ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طريفه إلى آخره
قيل له : عن هذا جوابان :
أحدهما : أن غاية هذا أ السلب ينقسم إلى نوعين : أحدهما : سلب ما يمكن اتصاف الشيء
والثاني : سلب مالا يمكن اتصافه به
فيقال : الأول إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب
والثاني : إثبات ما يجب اتصافه به فيكون المراد به سلب ممتنع وإثبات الواجب كقولنا زيد حيوان فإن هذا إثبات واجب وزيد ليس بحجر فإن هذا سلب ممتنع وعلى هذا التقدير فاممكنات التي تقبل الوجود والعدم - كقولنا المثلث إما موجود وأما معدوم - يكون من قسم العدم والملكة وليس كذلك فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد على المتقابلين جميعا ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم
وأيضا فإنه على هذا التقدير - فصفات الرب كلها واجببة له - فإذا قيل اما أن يكون حيا أو عليما أو سميعا أ بصيرأ أو متكلما أولا يكون : كان مثل قولنا : إما أن يكون موجودا وإما أن يكون وهذا متقابل تقابل السلب واإلإيجاب فيكون الآخر مثله وبهذا يحصل المقصود
فإن قيل : هذا لا يصح يعلم إمكان قبوله لهذه الصفات : قيل له هذا إنما اشتركا فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان فأما الرب تعالى : فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة ضرورة فإنه لا يمكن ابصافة بها بعدمها باتفاق
العقلاء فإن ذلك يوجب اتصافه بالنقائص وذلك منتف قطعا بخلاف من نفاها وقال : إن يفيها ليس بنقص لظنه أنه لا يقبل الإتصاف بها
فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول : انه مع إمكان الإتصاف بها لا يكون نفيها يقصا فإن فساد هذا معلوم بالضرورة
وقيل له أيضا : أنت في تقابل السلب والإيجاب إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين : لم يصح أن تقول واجب والوجود أما موجود وإما معدوم والممتنع الوجود أما موجود وأما معدوم لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجود ولآخر معلوم الإمتناع
وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول إما أن يكون حيا وإما ألا يكون وإما أن يكون سميعا بصيرا وإما أن لا يكون لآن النفي إن كان ممكنا صح التقسيم وإن كان ممتنعا : كان الإثبات واجبا وحصل المقصود فإن قيل : هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب ونحن نسلم ذلك كما ذكرنا في الإعتراض لكن غايته : انه إما سميع وإما ليس بسميع وإما بصير وإما ليس ببصير والمنازع يختار النفي
فيقال له : على هذا التقدير : فالمثبت واجب والمسلوب ممتنع فأما أن تكون هذه الصفات واجية له وإما أ تكون ممتنعة عليه والقول بالإمتناع لا وجه له إذ لا دليل عليه بوجه
بل قد يقال : نحن نعلم بالإضطرار بطلان الإمتناع فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك الا بما يسدل به على إبطال أصل الصفات وقد علم فساد ذلك
وحينئذ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له
وأعلم أن هذا يمكن أن يجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له فإنها إما واجبه له وإما ممتنعة عليه والثاني باطل فتعين الأول لأن كونه قابلا لها خاليا عنها يقتضي أن يكون ممكنا وذلك ممتنع في حقه وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار
( الجواب الثاني ) أن يقال : فعلى هذا اذا قلنا زيد إما عاقل وإما غير عاقل وإما عالم واما ليس بعالم وإما حي وإما غير حي وإما ناطق وإما غير ناطق وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها لم يكن هذا داخلا في قسم تقابل السلب والإيجاب
ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة وخلاف اتفاق العقلاء وخلاف ما ذكروه في المنطق وعيره ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق كذب الأخرى فلا يجتمعان في الصدق والكذب فهو شروط التناقض موجودة فيها وغاية فرقهم أن يقولوا إذا قلنا : هو إما بصير وإما ببصير : كان إجابيا وسلبا وإذا قلنا إما بصير وإما أعمى : كان ملكة وعدما وهذه منازعة لفظية والافالمعنى في الموضعين سواء
فلم أن ذلك نوع تقابل السلب والإيجاب وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل : أنه لا استحالة لأحد الطرفين الى الآخر فإن الإستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ العمى
( الوجه الثالث ) أن يقال : التقسيم الحاصر أن يقال : المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب وإما لا يختلفا بذلك بل يكونان إيجابيين أو سلبيين
فالأول هو النقيضان
والثاني إما أن يمكن خلو المحل عنهما وإما لا يمكن ولأول : هما الضدان كالسواد والبياض والثاني : هما في معنى النقيضين وإن كانا ثبوتيين كالوجوب والأ مكان والحدوث والقدم والقيام بالنفس والقيام بالغير والمباينة والمجانية نحو ذلك
ومعلوم أن الحياة والموت والصمم والبكم والسمع : ليس مما اذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما كالحرة بين السواد والبياض فعلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما فإذا انتفى تعين الآخر
( الوجه الرابع ) : المحل الذي لا يقبل الإتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها : انقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها ولهذا كان الحجر ونحوه أنقص من الحي والأعمى
وحينئذ فإذا كان الباري منزها عن نفي هذه الصفات مع قبوله لها فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أولى وأحرى إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين واتصافه بالنقائص ممتنع فيجب اتصافه بصفات الكمال بتقدير عدم قبوله لا يمكن اتصافة : لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص وهذا أشد امتناعا فثبت أن اتصافه بذلك ممكن وأنه واجب له وهو المطلوب وهذا في غاية الحسن
( الوجه الخامس ) أن يقال : أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت فإذا عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي - هو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج - كان هذا باطلا لوجهين : -
أحدهما أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لاحية ولا ميتة ولا ناطقة ولا صامته وهو قولكم - لكن هذا اصطلاح محض - والا تصفوا هذا الجمادات بالموت والصمت وقد جاء القرآن بذلك قال تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } فهذا في ( الأصنام ) وقي من الجمادات وقد صفت بالموت والعرب تقسم الأرص الى الحيوان والموتان
قال أهل اللغة : الموتان بالتحريك خلاف الحيوان يقال اشتر الموتان والا تشتر الحيوان أي اشتر الأرض والدور ولا تشتر الرقيق والدواب وقالوا أيضا : الموات ما لا روح فيه فإن قيل : فهذا يسمى مواتا باعتبار قبوله ( للحياة ) التي قي إحياء الأرض : قيل وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان وأن الجماد يوصف بالحياة إذا كان قابلا للزرع والعمارة والخرس ضد النطق والعرب تقول ( لبن أخرس ) إي خائر لا صوت له في الإناء ( وسحابة خرساء ) ليس فيها رعد ولا برق ( وعلم أخرس ) إذا لم يسمع له في الحبل صوت صدى ويقال كتيبة خرساء ) قال أبو عبيدة : هي صمتت من كثرة الدروع ليس لها فقاقع
وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه بخلا ف الخرس فإنه عجز عن النطق ومع هذا العرب فتقول : ( ما له صامت ولا ناطق ) فالصامت الذهب والفضة والناطق الإبل والغنم فالصامت من اللبن الخائر والصموت والدرع التي صمت إذا لم يسمع لها صوت
ويقولون : دابة عجماء وخرسان لما تنطق ولا يمكن منها النطق في العادة ومنه قول الني ﷺ : [ العجماء جبار ] وكذلك في ( العمياء ) تقول العرب : عمى الموج يعمى عما إذا رمى القذف والزيد و ( الأعميان ) السيل والجمل الهائج وعمى عليه الأمر إذا التبس ومنه قوله تعالى { فعميت عليهم الأنباء يومئذ }
وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها انه عدم ما يقبل المحل الإتصاف به كالصوت ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام
الثاني : أن الجمادات يمكن اتصافها بذلك فان الله سبحانه قادر يخلق في الجمادات حياة كما جعل عصى موسى حية تبتلع الحبال والعصى - وإذا كان في إمكان العادات : كان ذلك مما قد علم بالتواتر - وأنتم أيضا قائلون به في مواضع كثيرة وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة وتوابع الحياة ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك فيكون الخالق أولى بهذا الإمكان وإن عنيتم الإمكان الذهني - وهو عدم العلم بالإمتناع - فهذا حاصل في حق الله فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام
( الوجه السادس ) أن يقال : هب أنه لابد العلم بالإمكان الخارجي فإمكان الوصف للشيء يعلم تارة بوجوده لنظيره أو بوجوده لما هو الشيء أولى بذلك منه
ومعلوم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام : ثابت للموجودات المخلوقة وممكن لها فإمكانها للخالق تعالى أولى وأحرى فإنها صفات كمال وهو قابل للاتصاف بالصفات وإذا كانت ممكنة في حقه فلو لم يتصف بها لاتصف بأضدادها
( الوجه السابع ) أن يقال : مجرد سلب هذه الصفات نقص الذاته سواء سميت عمى صمما وبكما أو لم تسم والعلم بذلك ضروري فأما إذا قدرنا موجودين أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم والآخر ليس كذلك : كان الأول أكمل من الثاني
ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات فقال تعالى عن إبراهيم الخليل : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وقال أيضا في قضته : { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } وقال تعالى عنه : { هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون * قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وكذلك في قصة موسى في العجل : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } وقال تعالى { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } فقابل بين الأبكم العاجز وبين الآمر بالعدل : الذي هو على صراط مستقيم
التوحيد في العبادات
وأما الأصل الثاني ( وهو التوحيد في العبادات ) المتضمن الإيمان بالشرع والقدر جميعا
فنقول : لا بد من الإيمان بخلق الله وأمره فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه أنه علة كل شيء قدير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوى إلا بالله
وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء كما قال تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ]
ويجب الإيمان بأن الله أمر بعبادته وجده لا شريك له كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وعبادته تتضمن كمال الذل والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته ( من يطمع الرسول فقد أطاع الله )
وقد قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }
وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه
ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح [ إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء اخوة لعلات وان أولى الناس بابن مريم لأنا أنه ليس بيني وبيه نبي ]
ولهذا الدين هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره لا من الاولين ولا من الآخرين فان جمع الانبياء على دين الاسلام قال الله تعالى عن نوح { واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم } قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين }
وقال عن إبراهيم : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } الى قوله : { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } الى قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
وقال عن موسى : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال في خبر المسيح : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون }
وقال فيمن تقدم من الأنبياء : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقال عن بلقيس أنها قالت : { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }
فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر والإستسلام له وحد9ه يتضمن عبادته وحده طاعته وحده
فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون بأن يطاع كل وقت يفعل ما أمر به في ذلك الوقت فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخر ثم أمرنا ثانيا باستقبال اكعبة : كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في الإسلام
فالذين هو طاعة والعبادة له في الفعلين وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجه المصلى فكذلك الرسل دينهم واحد وان تنوعت الشرعة والمناهج والوجه والمنسك فان ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد
والله تعالى جعل من دين الرسل : أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به قال الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين }
قال ابن عباس : لم يبعث الله نبيا إلا اخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }
وجعل الإيمان متلازما وكفر من قال : انه آمن ببعض وكفر ببعض قال الله تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا } وقال تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } إلى قوله : { تعملون }
وقد قال لنا : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم }
فأمرنا أن يقول : آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون فين بلغته رسالة محمد ﷺ فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا بل يكون كافرأ وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن
كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } قالت اليهود والنصارى : فنحن مسلمون : فأنزل الله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا : لا نحج فقال تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين }
فان الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بماله على عباده من حج البيت كما قال ﷺ [ بنى الأسلام على خمس : شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ]
ولهذا لما وقف النبي ﷺ بعرفة أنزل الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }
وقد تنازع الناس فيمن تقدم أمة موسى وعيسى هل هم مسلون أم لا وهو نزاع لفظي فان الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا ﷺ المتضمن لشريعة القرآن : ليس عليه الا أمة محمد ﷺ اليوم عند الاطلاق يتناول هذا وأما الآسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا فانه يتناول اسلام كل أمة متبعة لنبي من الانبياء
ورأس الأسلام مطلقا شهادة أن لا إله إلا الله وبها بعث جميع الرسل كما قال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال عن الخليل : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } وقال تعالى عنه : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله } وقال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }
وذكر عن رسله : كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقزمهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال عن أهل الكهف : { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا } الى قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا }
وقد قال سبحانه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ذكر ذلك في موضعين من كتابه
وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة والشرك بالانبياء والشرك بالكواكب الشرك والأصنام وأصل الشرك الشرك بالشيطان - فقال عن النصارى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } وقال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } إلى قوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون فبين إن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر ومعلوم أن أحد من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح بن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض
بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال
بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلها مسويا لله في جميع صفاته
بل عامة المشركين بالله : مقرون بأنه ليس شريكه مثله بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكا أو نبيا أو كوكبا أو صنما كما كان مشركوا العرب يقولون في تلبيتهم : ( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك لك وما ملك فأهل رسول الله ﷺ بالتوحيد وقال : ( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك )