الرد على شبهات المستغيثين بغير الله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
  ► أو الرد على شبهات المستعينين بغير الله ◄  
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أظهر الحق وأناره، ومحق الباطل وأباده، أحمده على ظهور حجج التوحيد ووضوحها، وأشكره على تبديد شبه الشرك وفضوحها.

وصلى الله على سيدنا محمد المحامي عن توحيد مولاه، القائل: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" الزاجر لمن إلى ذرائع الشرك تعدى، القائل لمن قال له "ما شاء الله وشئت": «أجعلتني لله ندا؟» وعلى آله وصحبه المهتدين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.

أما بعد، فقد وقفت على كراسة لبعض العصريين من أهل العراق سماها أنموذج الحقائق وضمنها كثيرا من الهذيان والشقاشق، مضمونها الانتصار للشرك بالله المسمى بالتوسل وتجويز دعوة الأموات والغائبين من دون الله تعالى واستحبابه، والتشنيع على من يمنع من ذلك وسبابه. فأحببت أن أبين بطلان ما تضمنته كراسته من الشبهات الواهية، والترهات المتناهية، وأن أزيح شبهاته ببراهين التوحيد الساطعة، وأوضح ضلالاته بحجج الكتاب والسنة القاطعة، وكلام علماء الإسلام، ومصابيح الاهتداء في الظلام، لقد خاب ظن المشركين إذ راموا نقض أدلة التوحيد التي هي أرسى من الجبال، وأظهر من الشمس في نحر الظهيرة والبدر في ظلم الليال.

والرسالة المذكورة شبه لا شيء، لكن ربما يخيل بها لبعض قاصري الأفهام، أو لعله يحصل عليهم بها إيهام، ونحن نكتب على بعضها ما تنتقض به شبهاته، وتبطل به خيالاته وترهاته، وبالله توفيقي، وعليه اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، عليه توكلت وإليه أنيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

واعلم أن هذا الرجل يكثر من نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ويظهر تعظيمهما وبينه وبينهما بون كبير فهما رحمة الله عليهما قد شحنا تصانيفهما وملآ تآليفهما بذكر التوحيد وأدلته وإيضاح براهينه، والجواب عن شبه المشركين من أمثاله، وبيان ضلالهم، وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وكم لهما في الرد على مثله كتاب وجواب.

وهذا المخذول إن نقل من كلامهما شيئا حذف بعضه، أو أفسده بالتصرف واستكرهه بالتأويل الباطل والتعسف، ليوافق مذهبه وانتحاله وليطابق إفكه وضلاله، ويحسن أن ينشد فيه:

أيها المدعي وصلا لليلى ** لست منها ولا قلامة ظفر

إنما أنت من ليلى كواو ** أُلحقت في الهجاء ظلما بعَمر

واعلم أنه قد تصدى للرد على رسائله، التي مضمونها الدعوة إلى الشرك بالله ووسائله، وانتصب لقمع أباطيله، وإيضاح تلبيسه وأضاليله جمع من العلماء، وجل من الأئمة الفهماء.

منهم شيخنا العلامة فقيه زمانه وقدوة عصره وأوانه: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين؛ وشيخنا العلامة الأوحد واللوذعي الهمام المفرد، ناصرالموحدين وقامع الملحدين: عبد الرحمن بن حسن؛ ومنهم شيخنا العلامة والأوحد الفهامة: عبد اللطيف بن عبد الرحمن؛ ومنهم العلامة المحدث فخر الديار اليمنية: الشريف محمد بن ناصر الحازمي؛ والشيخ العلامة المحقق: نعمان بن السيد محمود أفندي البغدادي.

ولنقدم بين يدي المقصود مقدمة نافعة وقاعدة جامعة. فأقول وبالله التوفيق:

اعلم أرشدك الله تعالى أنه قد قام البرهان والإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يعدل عما في الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها إلى ما أحدثه بعض الناس مما يتضمن خلاف ذلك، ويوقع الناس في تلك المهالك.

وليس لأحد أن يضع للناس عقيدة أو عبادة من عنده، بل عليه أن يتبع ولا يبتدع، ويقتدي ولا يبتدي، فإن الله سبحانه بعث رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وقال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا}

والنبي علم المسلمين جميع ما يحتاجون إليه في دينهم، فأخذ المسلمون جميع ما يحتاجون إليه في دينهم من العبادات والاعتقادات وغير ذلك من كتاب الله، ومن سنة رسوله، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

وليس في الكتاب والسنة والإجماع إلا الحق فإن الله تعالى قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.

فالهدى والنجاة في رد ما اختلف فيه الناس في أبواب العلم إلى صريح الكتاب وصحيح السنة وحسنها، وسبيل سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم بالإسلام والإيمان. فمن اعتمد على هذا الأصل دفع به كل شبهة يوردها مبطل فيما يخالف أصل الدين - أي الإخلاص والمتابعة - فإن الأدلة المجمع عليها ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة. وفي القياس خلاف بين العلماء هل يكون صحيحه دليلا أم لا؟ وكل قياس يخالف كتابا أو سنة أو نصا أو ظاهرا أو إجماع سلف الأمة وأئمتها فهو فاسد الاعتبار، لا يعول عليه عند جميع العلماء من أهل السنة والجماعة.

فإذا قال أحد قولا يخالف ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع رد قوله وبطل.

أما إذا صح قياسه على مدلول كتاب أو سنة، ولم يكن هناك فارق، فأكثر العلماء يقول مثل هذا ويحتج به.

(أقسام التوحيد)

واعلم أن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، خلق الخلق لأجله ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

توحيد الربوبية والملك وهو اعتقاد أن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالق كل شيء ورازقه والمتصرف فيه وحده بمشيئته وعلمه وحكمته. وهذا القسم قد أقر به مشركو العرب كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}. وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآيات وما في معناها. وهذا التوحيد لا يكفي وحده ولا يدخل في الإسلام وحده، بل لا بد أن يأتي العبد معه بلازمه وهو:

القسم الثاني:

توحيد الطلب والقصد. وهو توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى، وإفراده بجميع العبادة. وهذا التوحيد هو الذي افتتح به الرسل دعوتهم، كما قال أول الرسل نوح عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}. وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم.

وقد أخبر الله تعالى أن المشركين يخلصون الدعاء لله في الشدائد كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} بين تعالى أنه لا ينفعهم إخلاصهم في حال دون حال، ولا ما أقروا به لله تعالى من القدرة على الاختراع كما تقدم في الآيتين، فوجب قتالهم لأنهم لم يخلصوا لله العبادة، ولم يكفروا بعبادة كل ما عبد من دونه. وهذا هو مدلول كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله". ومعناها: نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، وإفراده بالإلهية، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وقال عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} فتأمل كيف عبر عنها بمدلولها من النفي والإثبات.

وأخبر الله تعالى عن المشركين أنهم أبوا أن يقروا بمعناها الذي دلت عليه، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}.

فتبين أن المطلوب منهم بهذه الكلمة ترك عبادة الآلهة، وذلك الترك لا يدخل أحد في الإسلام إلا به، كما قال آزر لابنه إبراهيم عليه السلام: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} وهذا هو معنى الحنيف في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وفسر "الحنيف" بأنه المقبل على الله، المعرض عما سواه. قاله ابن القيم. وقال ابن كثير: الحنيف المنحرف عن الشرك قصدا إلى التوحيد. وكل سورة من القرآن ففيها ما يدل على هذا التوحيد، فتارة يأمر الله به عباده، وتارة ينهاهم عن الشرك المنافي له، كما سنذكر بعض ذلك إن شاء الله في هذا الجواب، وبالله التوفيق، وهو سبنا ونعم الوكيل.

القسم الثالث:

توحيد الأسماء والصفات، وهو العلم والاعتقاد بأن الله تعالى بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، منزه عن كل عيب ونقص، له المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، سميع، بصير، رؤوف، رحيم، على العرش استوى، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، سبحان الله عما يشركون، له الأسماء الحسنى والصفات العلى. فما أثبت الله لنفسه، وأثبته له رسوله من صفات الكمال ونعوت الجلال وجب إثباته له على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته: إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل. وهذا هو الذي عليه الصحابة، والتابعون والأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم، ومن بعدهم من أهل الحديث، وأتباع الأئمة الأربعة من أهل الحديث، والفقهاء من أهل السنة والجماعة.

وأول ما حدث من الإلحاد في أسماء الله وصفاته بنفي ما دلت عليه الأسماء والصفات: مقالة الجعد بن درهم. فأنكر ذلك أهل العلم من التابعين، وضحى به الأمير خالد بن عبد الله القسري، وقصته مشهورة في التاريخ. قال العلامة ابن القيم:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ ** ـقسري يوم ذبائح القربان

شكر الضحية كل صاحب سنة ** لله درك من أخي قربان

ثم جاء بعده جهم بن صفوان، فجحد صفات الرب وحكمته، وأنكر ذلك عليه الأئمة ممن الفقهاء وأهل الحديث، وصنفوا المصنفات في رد قوله وإثبات صفات الرب تعالى، واستدلوا بأدلة الكتاب والسنة وآثار السلف على إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، لا يتجاوزون القرآن والحديث، وهم العدد الكثير، والجم الغفير. والأمر كما قال نعيم بن حماد الخزاعي، شيخ البخاري، قال: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله تشبيها". وكتبهم مشهورة يتداولها المسلمون. وعدها يخرج بنا عما قصدناه من الاختصار. ومن أراد الاطلاع على معتقد أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا فليطالع تفسير الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وتفسير الحسين بن مسعود البغوي وتفسير العماد بن كثير الشافعي، ونحوها من تفاسير أهل السنة. وكذلك كتب الحديث: كالصحيحين والسنن والمسانيد، فإن الحق عليه نور. والحمد لله على اتباع الحق، ومعرفة سبيل أهل الإيمان والصدق، حمدا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا.

(بداية الرد على شبه العراقي)

وهذا حين الشروع في رد شبه هذا العراقي.

قال في كراسته: "واليمين بالنبي منعقد وبسائر الأنبياء، كما أطبق عليه علماء المذهب سوى الشيخ فإنه خالف أهل المذهب ولم يصرح بمراده، والظاهر أنه لا يستحب عنده بل يكره كراهة تنزيه" انتهى.

قوله: سوى الشيخ، يعني به شيخ الإسلام ابن تيمية.

أقول: انظر إلى هذه الجرأة والكذب على العلماء، ولنذكر كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، قال في كتاب الاستغاثة: وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله، وهو الحلف بالمخلوقات كالملائكة والكعبة أو أحد من الشيوخ بل ينهى عنه: إما نهي تحريم أو تنزيه، فالصحيح أنه نهي تحريم وهو قول أكثر العلماء، ففي الصحيح عنه أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وفي الترمذي عنه أنه قال: «من حلف بغير إله فقد أشرك». ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين: إنه تنعقد اليمين بأحد من الخلق، إلا في نبينا ، فإن عن أحمد في ذلك روايتين في انعقاد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه كابن عقيل الخلاف في سائر الأنبياء، وهذا ضعيف، والقول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ، لم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور: مالك والشافعي وأبو حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به، كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصحيح. انتهى كلامه.

فانظر حكاية هذا الضال عن علماء المذهب انعقاد اليمين بالنبي وبسائر الأنبياء، وانظر حكاية الشيخ الاتفاق على أنه لا ينعقد اليمين بالمخلوقات، إلا بالنبي فإن عن أحمد رواية في انعقاد اليمين به، وأن الذي عليه الجمهور عدم انعقاد اليمين به، وانظر إلى تصحيحه أن النهي عن الحلف بالمخلوقات نهي تحريم، وهذا الملبس يقول: "ولم يصرح بمراده" وأي تصريح أبلغ من هذا، نعوذ بالله من الهوى.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في موضع آخر: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كلاهما شرك والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا، ويقول ما قال النبي : «من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله».

فانظر هل صرح بأن الحلف بغير الله شرك أم لا، يتبين لك كذب هذا العراقي.

(فصل في رد قوله إن نداء الصالحين والأنبياء وسؤالهم ليس عبادة)

فصل

قال العراقي: إن المانع من نداء الأنبياء والصالحين وسؤالهم بعد موتهم وفي غيبتهم يَستدل على المنع بأن النداء والطلب عبادة، والعبادة لغير الله شرك، قال: فإذا جاز هذا في حقه دل على أنه ليس كما يزعمه الخوارج من أن ذلك عبادة، ودل على أنه إذا جاز في حقه جاز في غيره.

والجواب أن يقال: هذا الضال لا يعرف العبادة ولا ما ذكره العلماء في تعريف العبادة، بل هو لا يعرف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه من توحيد الإلهية ووجوب إفراده تعالى بالعبادة، بل نشأ على الشرك وسيط بلحمه ودمه، فلا يعرف غيره ولا يفهم سواه.

قوله: إن المانع من نداء الأنبياء والصالحين وسؤالهم بعد موتهم إلخ.

أقول: انظر إلى شدة جهالته، وعظمة ضلالته، لما رأى شناعة إطلاق القول بجواز دعاء غير الله تعالى عدل إلى لفظ النداء تلبيسا وتمويها على الجهال والطغام، فكأنه لم يسمع ما ذكره الله تعالى في كتابه من أن مدلول النداء والدعاء واحد.

قال الله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} فقوله: {رَبِّ} هذا هو الدعاء، سماه نداء ثم قال: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} فتبين أن النداء في هذه الآية هو الدعاء لا غير.

وقال في سورة آل عمران: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ} فقوله: {رَبِّ} هو الدعاء في قوله: {هُنَالِكَ دَعَا}.

ففي سورة مريم قال: {إِذْ نَادَى} وفي سورة آل عمران قال: {دَعَا} والصيغة واحدة، ثم قال: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}.

وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وفي الحديث مرفوعا: «دعوة أخي ذي النون، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله»

وقال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}..

وقال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}. فمدلول الدعاء والنداء واحد.

وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} الآية.

وفي الحديث عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده: "أن أعرابيا قال يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي ، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا} "إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني أستجيب لهم". رواه ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن حميد عن جرير به.

والأدلة على هذا من الكتاب والسنة كثيرة، وكذا كلام العرب، قال كعب بن أسد الغنوي:

وداع دعا يا من يجيب إلى النداء ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ** لعل أبا المغوار منك قريب

وقال آخر:

فخير نحن عند الناس منكم ** إذا الداعي المثوب قال يالا

وقال آخر:

فقلت ادعي وأدعو فإن انـ ** ـدى لصوت أن ينادي داعيان

وفسر قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} بالمؤذن، وهو الذي ينادي بالصلاة.

والمقصود أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام العرب دل على أن النداء الذي هو السؤال والطلب هو مسمى الدعاء، ومعناهما واحد، ويأتي في هذا ما يكفي ويشفي إن شاء الله تعالى كقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الآيات. وهذا صريح في أن المراد بهذا الدعاء السؤال والطلب من غير الله، وهذه حال الميت والغائب لا يستجيب للداعي، وهو أيضا غافل عنه.

وهذا الدعاء الذي نهى الله عنه أن يقصد به غيره يجمع من أنواع العبادة كثيرا: منها أن الداعي يتوجه بوجهه وقلبه ولسانه إلى غير الله ويتضمن رجاءه والرغبة إليه والاعتماد عليه، ولذلك وصفه الله تعالى بغاية الضلال، وأخبر أن ذلك يعود عليه بالخيبة والوبال في مقام الحشر، فيخونه ذلك الدعاء أحوج ما يكون إليه.

إذا تبين هذا فالتحقيق أن بين الدعاء والنداء عموما وخصوصا مطلقا، فيجتمعان في السؤال والطلب إذا كان عن رغبة أو رهبة، وينفرد الدعاء إذا كان عبادة كالتسبيح والتحميد والتكبير وغير ذلك.

إذا عرفت هذا فإن أشكل عليك كون الدعاء عبادة فاطلب الأدلة على ذلك من القرآن الكريم، فإن لم يكفك - لا كفاك الله - فاطلبها من السنة، فإن لم تكفك فقد تم خسرانك.

قال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في سورة الأنعام والمؤمن، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية. وهذه الآية في دعاء المسألة دلت على أنه مختص بالله دون من سواه، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، ثم قال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} بين أن دعاء غيره لا يحصل لداعيه غرضه، وهذا جنس الشرك في الإلهية.

وفي حديث أنس الذي في السنن والمسانيد مرفوعا: "الدعاء مخ العبادة " وفي السنن مرفوعا في حديث النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» ثم تلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.

وتقرير هذا في كتاب الله تعالى: فإن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بدعائه ورغبهم فيه، ووعدهم الإجابة فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. وأمرهم بدعائه في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} إلى قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فأوجب على عباده أن يخلصوا له الدعاء بنوعيه: دعاء المسألة، ودعاء العبادة. وكل منهما يتضمن الآخر.

وقد تقدم أن الله تعالى قد اختص به في قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}.

وهذه الآيات مع ما تقدم فيها الدلالة على أن دعوة غير الله شرك وضلال، كما قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

وفي الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : «يخرج عنق من النار له عينان يبصران، وأذنا يسمعان، ولسان ينطق، يقول إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين» حديث حسن صحيح غريب.

أما علمت أن الله تعالى أمر نبيه بإخلاص العبادة له كما نهاه أن يدعو غيره فقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال في آخر السورة: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}.

وقد دعا إلى إخلاص جميع أنواع العبادة لله، وخلع الأنداد التي كانت تعبدها أهل الجاهلية من صنم وغيره، وجاهدهم على ذلك حق الجهاد، وناظر النصارى في عبادتهم المسيح بن مريم عليهما السلام، وأنزل الله تعالى النهي عن دعوة الأنبياء والصالحين والملائكة فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} والآيات بعدها نزلت فيمن يدعو المسيح وأمه والعزير والملائكة في قول أكثر المفسرين من السلف.

فمن بلغته هذه الأدلة وظن أن رسول الله يرضيه الإعراض عن سؤال ربه والرغبة إليه ورجائه والاعتماد عليه: فقد ظن برسول الله ما هو بريء منه، كما برأه الله تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.

ففي هذه الآية من الأدلة على بطلان دعوة غير الله فوائد:

منها أن الله حكم على من دعا غيره بغاية الضلال، وبين أن المدعو لا يستجيب له وأنه غافل عن دعائه، تكذيبا لمن ادعى غير ذلك من المشركين، وأنه يوم القيامة يكون عدوا لمن دعاه في دار الدنيا، وأنه ينكر عبادته له ويبرأ إلى الله منها، كما أخبر عن المسيح عليه السلام أنه قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فخان المشرك دعاؤه لغير الله أحوج ما يكون إليه، وعامله الله بنقيض قصده.

ويشبه هذه الآية قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} ففي هذه الآية ست جمل تقطع عرق الشرك وتبطل دعوة غير الله كائنا من كان:

الجملة الأولى قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} فهو المختص بالملك، كما هو المختص بالعبادة.

وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} دليل على أن غيره لا يملك شيئا، فإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يدعى غيره.

وقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} وهذا نقيض ما عند المشركين أن المدعو الميت يسمع ممن دعاه، والله تعالى يقول: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} آمنا بالله، وكذبنا من أشرك بالله.

وقوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} يدل على أن الاستجابة ممتنعة في حق من دعا غير الله، فخاب أمله، وضل سعيه.

وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فيه أن دعوة غير الله شرك بالنص، وأن المدعو يكفر بها يوم القيامة، أي ينكرها ويبرأ إلى الله من ذلك الشرك.

{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ففيه وجوب الإيمان بما دلت عليه هذه الآية وتصديقه فيما أخبر.

وتضمنت هذه الآية أن الدعاء الذي نهى الله عنه في هذه الآية أنه دعاء المسألة بدليل قوله: {لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}.

والأدوات التي تستعمل في الدعاء كثيرة معروفة، وأكثر ما يستعمل منها في الكتاب والسنة وغيرها "يا" الممدودة، كقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} التقدير: يا ربنا.

وتستعمل في الدعاء مذكورة كما جاء في كثير من الأحاديث كقوله: «يا حي يا قيوم». «يا ذا الجلال والإكرام» «يا بديع السموات والأرض»، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، ونحو ذلك. وهذا كثير مطرد لا يقدر أحد على دفعه.

ويأتي الدعاء أيضا بصيغة الخبر ومعناه الدعاء كقولنا: صلى الله على النبي محمد، وقولهم: بارك الله فيك، ونحو ذلك.

والعجب أن هذا خفي على من يدعي المعرفة، وسببه نسيان العلم، كما ذكره الله تعالى في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}.

فنسيان الذكر من أعظم أسباب ضلال من ضل عن الهدى، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فدلت هذه الآية الكريمة على أن من دعا مع الله إلها آخر أنه كافر بالله لأنه صرف هذا النوع الذي هو من خصائص الإلهية لمن لا يستحقه ووضع العبادة في غير موضعها.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} فلم ينفعهم ذلك الدعاء في الوقت الذي أملوا فيه نفعه، فوقعوا في نقيض قصدهم، وخاب أملهم وسعيهم، وشهدوا على أنفسهم بالكفر.

(فصل: وقد أمر الله بدعائه وشرعه لعباده وأحبه منهم)

فصل

وقد أمر الله سبحانه بدعائه وشرعه لعباده وأحبه منهم، وسماه دينا، وأتى فيه بأل المعرفة المؤكدة فقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وهذا شأن العبادات، فما أمر به سبحانه عباده، ففعله عبادة، وفي الحديث: «من لم يسأل الله يغضب عليه» وفي حديث آخر: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض" فكيف والحالة هذه أن يجعل لله شريكا فيما شرعه لعباده، وأمرهم أن يخلصوه له، ونهاهم أن يجعلوا له شريكا فيه، كما قال: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} إلى قوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

وقد تقرر أن الدعاء يجمع من أنواع العبادة كثيرا: كإسلام الوجه لمن يدعوه، والرغبة إليه، والاعتماد عليه، والخضوع له، والاطراح والتذلل. فمن أسلم وجهه لغير الله فهو مشرك شاء أم أبى، ومن رغب عن الله إلى غيره فكذلك، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}.

قال ابن كثير في الآية: أي أخلص العمل لربه عز وجل، فعمل إيمانا واحتسابا {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي متبع في عمله ما شرع الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق..، فمن فقد الإخلاص كان منافقا.. ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا، ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين، الذين يتقبل منهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

والحنيف هو المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، كما تقدم، وهذا هو حقيقة دين الإسلام. وقد اشتدت غربته في هذا الزمان وقبله، حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير. وعظمت الفتنة بأرباب القبور، ورغب كثير عن إخلاص العبادة للذي له الملك كله، والقدرة التامة، والمشيئة النافذة، فجعلوا له شركاء في عبادته.

والحاذق منهم يتعلق بأمر الشفاعة، وقد أخبر تعالى أن الشفاعة جميعها له: فمن طلبها من غير الله فقد طلبها ممن لا يملكها ولا يسمع ولا يستجيب، وفي غير الوقت الذي تقع فيه، ولا قدرة له عليها إلا برضا من هي له وإذنه فيها وقبوله، فطلبها ممن هي له في دار العمل عبادة من جملة العبادات، وصرف ذلك الطلب لغيره شرك عظيم.

ومن تدبر آيات الشفاعة حق التدبر علم علما يقينا أنها لا تقع إلا لمن أخلص أعماله كلها لله، واتبع ما جاء به رسوله من توحيده وشرائع دينه، فليس لله من عمل عبده إلا الإخلاص، كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} وهو لا يقبل الشركة في الأعمال ولا يرضاها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}

وكما صح من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: «يقول الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه».

(فصل: والدعاء صلاة وهو اسمه لغة)

فصل

والدعاء صلاة، وهو اسمه لغة، وجاء في القرآن كذلك، قالتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي اُدع لهم.

وفي الحديث من هذا كثير: فمن ذلك قوله : «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، اللهم اغفر له اللهم ارحمه».

قال الحافظ العراقي: المراد بصلاة الملائكة عليه ما فسره به في بقية الحديث من قوله: «اللهم اغفر له اللهم ارحمه» وهذا دعاء، وشواهده في اللغة كذلك.

ومنه قول الأعشى:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ** يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ** نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

فإذا كان الدعاء صلاة لغة وجاء كذلك في الكتاب والسنة، علم بذلك أن قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ} يتناول الدعاء. ولا ريب أن الصلاة الشرعية تتضمن الدعوات الواجبة، والتحقيق أنها سميت صلاة لاشتمالها على نوعي الدعاء: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فلا تخرج عنهما، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

وقد أمر النبي أصحابه بالإكثار من الدعاء في السجود، فقال: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب تعالى، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم».

قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في أصل الصلاة فقيل: هي الدعاء لاشتمالها عليه، وهذا قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم. انتهى.

وهذا هو الذي قرره العلامة ابن القيم رحمه الله كما سيأتي.

فإذا كانت الصلاة قد اشتملت على الدعاء فلا ريب أنه عبادة، وقد اشتملت على التكبير والتسبيح وهو عبادة أيضا.

ولا يرتاب مسلم أن التكبير والتسبيح لا يجوز أن يستعمل في حق غير الله، لكونه من خصائص الربوبية، فكذلك الدعاء ولا فرق.

فتدبر هذا وما قبله من الأدلة على ذلك. {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} يتضمن نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه وإسراره. وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية: قيل أعطيه إذا سألني، وقيل أثيبه إذا عبدني، والقولان متلازمان. وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه، أو حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. فتأمله فإنه عظيم النفع. وهذا التقرير يأتي في مسألة الصلاة، وأنها نقلت عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية منقولة، أو استعملت في هذه العبادة مجازا بالعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي فضم إليهما أركان وشرائط، وعلى ما قررناه لا حاجة إلى شيء من ذلك، فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. انتهى ملخصا.

وفسر القنوت بالدعاء في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. قال في شرح التقريب: والقنوت يطلق بإزاء معان: قيل الطاعة، وقيل الدعاء، وبمعنى طول القيام، وبمعنى السكوت في الصلاة. قال القاضي عياض: وأصله الدوام على الشيء. قال ابن دقيق العيد: وإذا كان هذا أصله فمديم الطاعة قانت، وكذلك الداعي، والقائم في الصلاة، والمخلص فيها، والساكت فيها، كلهم فاعلون للقنوت. انتهى ملخصا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. انتهى.

وقد تقدم ما يدل أن الله تعالى يرضى من عبده أن يسأله حاجته وأمره بذلك، ووعده عليه بالاستجابة، فإذا كان الدعاء عبادة فقد أمر الله عباده بعبادته وحده، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

والإله هو الذي تألهه القلوب وتعبده بأي نوع كان من أنواع العبادة، وهو الذي فسر به اسمه: الله.

قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: "الله" مشتق من "الإله"، سقطت الهمزة التي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة. وأما تأويله: فهو على ما روى لنا ابن عباس: هو الذي يألهه كل شيء، ويعبده كل خلق وساق بسنده عن ابن عباس قال: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. انتهى.

وقال الزمخشري: "الله" أصله "الإله" فحذفت الهمزة، وعوض منها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: يا إله. و"الإله" من أسماء الأجناس، كالرجل والفرس، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق. انتهى.

وفي القاموس: أله إلهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة، وأصله "إله" كفعال بمعنى مألوه، فكل ما اتخذ معبودا إلهٌ عند متخذه، والتأله: التنسك والتعبد. والتأليه: التعبيد. انتهى.

فتبين مما تقرر أن من دعا ميتا أو غائبا فقد اتخذه معبودا بدعائه، ورغبته إليه، ورجائه له، وإقباله عليه، دون من له الأمر كله والقدرة التامة، والمشيئة النافذة، والعلم بما كان وبما يكون، وما لم يكن كيف يكون لو كان، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

(فصل في رد قوله كذبا: صرح الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات كراهة تنزيه على وجه مخصوص وهو طلبها بالكتابة ودس الورق في أنقاب القبر)

فصل

قال العراقي: نعم، صرح فقهاء الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات كراهة تنزيه على وجه مخصوص. وهو طلبها بالكتابة ودس الورق في أنقاب القبر. قال: وقد ذكر ذلك ابن مفلح في الفروع وفسرها بما ذكرته، ونص عبارته عن الفنون، قال - يعني ابن عقيل -: ويكره استعمال النيران، والتبخير بالعود، والأبنية الشاهقة القباب، سموا ذلك مشهدا، واستشفوا بالتربة من الأسقام، وكتبوا إلى التربة الرقاع، ودسوها في الأنقاب، فهذا يقول: جمالي قد جربت. وهذا يقول: أرضي قد أجدبت، كأنهم يخاطبون حيا، ويدعون إلها. انتهى.

قال العراقي: فانظر إلى حكمه في هذه الأشياء بالكراهة التنزيهية مع قوله: كأنهم يخاطبون حيا، ويدعون إلها.

أقول: سبحان مقلب القلوب. فهاهنا تسكب العبرات. انظر إلى تلبيس هذا الضال، واجتهاده في الدعوة إلى الشرك بالواحد المتعال.

ولنذكر كلام ابن عقيل في الفنون على وجهه الذي نقله عنه صاحب الفروع، قال في الفروع: وفي الفنون: لا تخلق القبور بالخلوق، والتزويق، والتقبيل لها، والطواف بها، والتوسل بهم إلى الله. قال: ولا يكفيهم ذلك حتى يقولوا بالسر الذي بينك وبين الله، وأي شيء يسمى سرا بينه وبين خلقه، قال: ويكره استعمال النيران.. إلى آخر ما ذكره العراقي.

فانظر كيف ترك أول الكلام لمصادمته لغرضه وسقوطه على علته ومرضه، وانظر إلى كلام ابن عقيل وتصريحه بالنهي عن التوسل، إلى آخر كلامه، يتبين لك أن الله قد أضل هذا وأعماه وأقماه في هوة هواه، وليس هذا بأول قارورة كسرت في الإسلام منه ومن أمثاله.

ولابن عقيل رحمه الله كلام أصرح من هذا الذي ذكره صاحب الفروع عنه، قال أبو الوفاء ابن عقيل:

لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع: مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، وإيقاد السرج، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر الصديق أو محمد أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى كلامه.

فانظر إلى تصريحه بكفر فاعل هذه الأمور. وهذا الملبس يقول: إنه مكروه عنده كراهة تنزيه إذا كان طلب الحوائج من الأموات بالكتابة ونحوها، فأما طلب الحوائج من الأموات باللسان فمستحب عنده. فسبحان من مسخ عقله، وأظهر تلبيسه وجهله. ويشبه هذا ما ذكر أن رجلا اجتمع بامرأة ليزني بها، فلما جامعها قال لها: استري وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام.

قوله: صرح فقهاء الحنابلة بكراهة طلب الحاجات من الأموات والغائبين، إلى آخره.

جوابه أن يقال: بل صرح فقهاء الحنابلة وغيرهم بإنكاره والنهي عنه، وأن ذلك هو الشرك الأكبر، وأنه كفعل عابدي الأصنام، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.

ونحن نذكر من كلامهم قليلا من كثير، وغيضا من فيض، وقد تقدم بعض ذلك من كلام الله وكلام رسوله، ولا بد من ذكر ما تيسر من كلام العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم كفر إجماعا". نقل عنه ذلك أئمة الحنابلة: كصاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع.

وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته السنية لما تكلم على حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا، وذلك بأمور، منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، وأنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة والمسيح وعزير، والصالحين أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق أو ترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله: ومن أنواعه - أي الشرك - طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه.

قال بعض المحققين: لو جاز طلب الشفاعة من الميت والغائب لما صار لنفي الشفاعة في القرآن معنى، كقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فلا يظهر الفرق بين الشفاعة المنفية في هذه الآيات ونحوها، والمثبتة كما في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} فلا يظهر الفرق إلا أن المنفية هي التي تطلب من غير الله، ويرغب فيها إلى غيره، والمثبتة هي التي لا تطلب إلا من الله وحده، وهو الإخلاص الذي لا يرضى من العبد سواه، كما تقرر في كلام العلماء.

قال ابن القيم: والله تعالى لم يجعل استغاثتة بغيره وسؤاله لغيره سببا للإذن في الشفاعة، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعادات أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص وظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه ومعبوده، فجرد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وأخلص قصده لله، متبعا لأمره، متطلبا لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله، وبالله، ومع الله. انتهى كلامه.

وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في سيف الله على من كذب على أولياء الله في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة:

هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفا في حياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهمتهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادوهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات.. وقالوا: فيهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور. قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادرة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

ثم قال: فأما قولهم إن للأولياء تصرفا بحياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ونحوه من الآيات الدالات على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شركة لغيره في شيء بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره: تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة، وخلقا** وتمدح الرب تعالى بملكه في آيات من كتابه كقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}

وذكر آيات في هذا المعنى، ثم قال:

فقوله في الآيات كلها: {مِنْ دُونِهِ} أي من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه فكيف يمد غيره، إن هذا القول وخيم، وشرك عظيم. إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول في التصرف في الحياة، قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} الآية، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وفي الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» الحديث. فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره.. فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره، فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}.

قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من المكرمات فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحدي، ولا علم، كما في قصة مريم ابنة عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.

قال: وأما قولهم: "فيستغاث بهم في الشدائد.." فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادرته قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}

وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه القادر على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي. قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية من قتال أو إدراك عدو، أو سبع، ونحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل. وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد والمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره. قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال، وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات.. فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة، أو قضاء حاجة تأثيرا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كما أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه: إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.

قال: وأما ما قالوه: "إن منهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس" فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار.

وقال ابن عطية في قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} الآيات: معناه: قيل لي: ولا تدع، فهو عطف على {أَقِمْ} وهذا الأمر والمخاطبة للنبي ، إذا كان هكذا فأحرى أن يتخذ من ذلك غيره، والخطاب خرج مخرج الخصوص وهو عام للأمة.

وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا. يعني بذلك الآلهة، يقول: تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر، فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله فإنك إذا من الظالمين، يقول: من المشركين بالله. انتهى.

وهذه الآية لها نظائر كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلها، والإلهية حق لله، لا يصلح منها شيء لغيره، ولهذا قال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

وقال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار: النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون لإنسان غائب، أو مريض، أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة أو من الطعام كذا، أو من المال كذا، أو من الشمع والزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه: منها أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر. إلى أن قال: فإذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين، نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه، وزاد: وقد ابتلي الناس بهما لا سيما في مولد البدوي. انتهى.

وقال العلامة أحمد الرومي الحنفي في كتابه المسمى مجالس الأبرار بعد كلام سبق في الكلام على زيارة القبور:

فإذا كان كذلك فاللائق بالزائر أن يتبع السنة، ويقف عند ما شرع له ولا يتعداه، ليكون الزائر إلى نفسه، وإلى أهل القبور، لأن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.

أما الزيارة الشرعية التي أذن فيها رسول الله فالمقصود منها شيئان: أحدهما: راجع إلى الزائر، وهو الاتعاظ والاعتبار. والثاني: راجع إلى أصحاب القبور وهو أن يسلم الزائر عليهم ويدعو له.

وأما الزيارة البدعية فهي زيارة القبور لأجل الصلاة عندها، والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية والولد وقضاء الدين وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأصنام يسألونها من أصنامهم، فإن أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذ منهم، وليس شيء من ذلك مشروعا باتفاق المسلمين، إذ لم يفعله رسول رب العالمين، ولا أحد من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدين، بل قد أنكر الصحابة ما هو دون ذلك بكثير، كما روي عن المعرور بن سويد أن عمر صلى صلاة الصبح في طريق مكة ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: مسجد صلى فيه رسول الله يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصلها فيها، ومن لا فليمض لا يتعمدها.

وكذلك لما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي عليه الصلاة والسلام أرسل إليها فقطعها.

فإذا كان عمر فعل هذا بالشجرة التي بايع الصحابة تحتها رسول الله وذكرها الله تعالى في القرآن حيث قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فماذا يكون حكمه فيما عداها!

ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كانت الصحابة والتابعون حيث كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد - إلى زمن الوليد ابن عبد الملك - لا يدخل فيها أحد لا لصلاة ولا لدعاء ولا لشيء آخر مما هو من جنس العبادة، بل كانوا يفعلون جميع ذلك في المسجد.

وكان أحدهم إذا سلم على النبي عليه السلام وأراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جوار القبر ثم دعا. وهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء، وإنما نزاعهم في وقت السلام عليه.

قال أبو حنيفة: يستقبل القبلة عند السلام أيضا ولا يستقبل القبر. وقال غيره: لا يستقبل القبر عند الدعاء، بل قالوا إنه يستقبل القبلة وقت الدعاء ولا يستقبل القبر، حتى لا يكون الدعاء عند القبر، فإن الدعاء عبادة كما ثبت بالحديث المرفوع: «إن الدعاء هو العبادة».

والسلف الصالح من الصحابة والتابعين جعلوا العبادة خالصة لله تعالى، ولم يفعلوا عند القبور شيئا منها، إلا ما أذن فيه النبي عليه الصلاة والسلام من السلام على أصحابها وسؤال الرحمة والمغفرة والعافية من الله لهم.

وسبب ذلك أن الميت قد انقطع عمله، وهو يحتاج إلى من يدعو له، ويشفع لأجله، ولهذا شرع في الصلاة عليه وجوبا أو ندبا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي، فإنا لما كنا إذا قمنا إلى جنازته ندعو له، ونشفع لأجله، فبعد الدفن أولى أن ندعو له ونشفع، لأنه في قبره بعد الدفن أشد احتياجا إلى الدعاء منه على نعشه، لأنه حينئذ معرض للسؤال وغيره، على ما روي عن عثمان بن عفان أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل». وروي عن سفيان الثوري أنه قال: "إذا سئل الميت من ربك يتراءى له الشيطان في صورة ويشير إلى نفسه - أي- أنا ربك" قال الترمذي: هذا فتنة عظيمة. وكانوا يستحبون إذا وضع الميت في اللحد أن يقال: اللهم أعذه من الشيطان الرجيم.

فهذه سنة رسول الله في أهل القبور بضعا وعشرين سنة. وهذه سنة الخلفاء الراشدين، وطريقة جميع الصحابة والتابعين. فبدل أهل البدع والضلال قولا غير الذي قيل لهم، فإنهم قصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله إحسانا إلى الميت وإلى الزائر سؤالهم الميت والاستغاثة به، وليس هذا إلا الفتنة التي قال فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كيف إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير تجري على الناس ويتخذونها سنة، إذا غيرت قيل غيرت السنة.

قال: وقال ابن القيم في إغاثته:

هذا يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا اعتبار ولا التفات إليه وقد جرى على خلاف السنة منذ زمن طويل، فإذًا لا بد أن تكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليها الجمهور. فلا يغرنك إطباقهم على ما حدث بعد الصحابة، بل ينبغي لك أن تكون حريصا على التفتيش عن أحوالهم وأعمالهم، فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله أشبههم بهم، وأعلمهم بطريقتهم، إذ عنهم أخذ الدين وهم أصول في نقل الشريعة من صاحب الشرع، فلا بد لك أن لا تكترث بمخالفتك لأهل عصرك في موافقتك لأهل عصر النبي عليه السلام، إذ قد جاء في الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم". قال عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا، إلا أن الحق ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة، ولا عبرة بكثرة الباطل بعدهم. وقد قال الفضيل بن عياض ما معناه: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. انتهى كلامه.

وقال العلامة الرومي أيضا في المجلس السابع عشر في عدم جواز الصلاة عند القبور والاستمداد من أهلها واتخاذ السرج والشموع عليها: قال رسول الله : «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» هذا الحديث من صحاح المصابيح، وقال : «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».

قال بعض المحققين: والصلاة في المواضع المتبرك بها من مقابر الصالحين داخلة في هذا النهي، لا سيما إذا كان الباعث عليها تعظيم هؤلاء لما فيه من الشرك، فإن مبتدأ عبادة الأصنام كان في قوم نوح النبي عليه السلام من جهة عكوفهم على القبور، كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا. وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا. وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}.

قال ابن عباس وغيره من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين من قوم نوح النبي عليه السلام فلما ماتوا عكف الناس على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وهذا هو مبتدأ عبادة الأصنام.

قال: وقال ابن القيم في إغاثته نقلا عن شيخه: إن هذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ القبور مساجد هي التي أوقعت كثيرا من الناس إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر. ولهذا تجد كثيرا من الناس عند القبور يتضرعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلون مثلها في بيوت الله تعالى ولا في وقت السحر، ويرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء لديها ما لا يرجون في المساجد، فلحسم مادة هذه المفسدة نهى عليه السلام عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بصلاته فيها بركة البقعة، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ووقت استوائها لأن أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها، فنهى أمته عن الصلاة فيها، وإن لم يقصدوا ما قصده المشركون. وإذا قصد الرجل الصلاة عند المقبرة تبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى، فإن العبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الأهواء والابتداع. فإن المسلمين أجمعوا على ما علموا من دين نبيهم أن الصلاة عند المقبرة منهي عنها. لأن فتنة الشرك بالصلاة فيها ومشابهة عبادة الأصنام أعظم كثيرا من مفسدة الصلاة عند طلوع الشمس وحين غروبها وحين استوائها، فإن النبي عليه السلام لما نهى عن تلك المفسدة سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك بدعاء الموتى وطلب الحوائج منهم واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل من الصلاة في المساجد، وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله تعالى ولرسوله.

قال: وقال ابن القيم في إغاثته: من جمع بين سنة رسول الله في القبور وبين ما أمر به ونهى عنه وما كان عليه الصحابة والتابعون، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر ومناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا.

إلى أن قال: وقد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه مناسك حج المشاهد، تشبيها منه للقبور بالبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عبادة الأصنام. فانظر إلى ما شرعه النبي عليه السلام في القبور من النهي، وبين ما شرعه هؤلاء وما قصدوه من التباين العظيم. ولا ريب أن في ذلك من الفساد ما يعجز الإنسان على حصره:

منها تعظيمها الموقع في الافتتان بها.

ومنها تفضيلها على المساجد التي هي خير البقاع وأحبها إلى الله، فإنهم إذا قصدوا القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا مثله.

ومنها اتخاذ المساجد والسرج عليها.

ومنها العكوف عندها وتعليق الستور عليها واتخاذ السدنة لها.

ومنها النذر لها ولسدنتها.

ومنها زيارتها لأجل الصلاة عندها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية والولد وقضاء الديون وتفريج الكربات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم، وليس شيء منها مشروعا باتفاق أئمة المسلمين، إذ لم يفعل منه شيئا رسول رب العالمين، ولا أحد من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدين.

ومن المحال أن يكون شيء منها مشروعا وعملا صالحا، ويصرف عنه القرون الثلاثة التي شهد فيهم النبي عليه السلام بالصدق والعدل، ويظفر به الخلوف الذين شهد فيهم النبي عليه السلام بالكذب والفسق، فمن شك في هذا فلينظر هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو ضعيف أنهم كانوا إذا بدت لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يصلوا عندها أو يسألوا حوائجهم منها. كلا لا يمكنهم ذلك، بل إنما يمكنهم أن يأتوا بكثير من ذلك عن الخلوف التي خلفت من بعدهم، ثم كلما تأخر الزمان وطال العهد، كان ذلك أكثر، حتى وجدت من ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن النبي عليه السلام ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن الصحابة والتابعين حرف واحد، بل فيها من خلاف ذلك كثير من الأحاديث المرفوعة التي من جملتها قوله عليه السلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا» أي فحشا، وأي فحش أعظم من الشرك عندها قولا وفعلا.

إلى أن قال: فإن غلاة متخذيها عيدا إذا رأوها من مكان بعيد ينزلون عن دوابهم، ويكشفون رؤوسهم، ويضعون جباههم على الأرض، ويقبلون الأرض، ثم إنهم إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين، ثم ينتشرون حول القبر طائفين به تشبيها بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركا وهدى للأنام، ثم يأخذون في التقبيل والاستلام، كما يفعل الحجاج في المسجد الحرام، ثم يعفرون جباههم وخدودهم، ثم يكملون مناسك حج القبر بالحلق والتقصير، ثم يقربون لذلك الوثن القرابين، فلا يكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم وما يراق هناك من العبرات، ويرفع من الأصوات، ويطلب منه من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات لله تعالى بل للشيطان، فإن الشيطان لبني آدم عدو مبين، يصدهم بأنواع مكايده عن الطريق المستقيم. ومن أعظم مكايده ما نصبه للناس من الأنصاب التي هي رجس من عمل الشيطان، وقد أمر الله المؤمنين باجتنابها، وعلق فلاحهم بذلك الاجتناب، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فالأنصاب جمع نصب بضمتين أو جمع نصب بالفتح والسكون، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله تعالى من شجر أو حجر أو قبر أو غير ذلك. والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره، كما أن عمر لما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي عليه السلام أرسل إليها فقطعها.

ثم ذكر حديث أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله على حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم وأمتعتهم يقال لها ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي : «الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" لتركبن سنن من كان قبلكم». فإذا كان اتخاذ مثل هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها شيئا، فما الظن بغيرها مما يقصده الناس من شجر أو حجر أو قبر ويعظمونه ويرجون منه الشفاء ويقولون: إن هذا الشجر وهذا الحجر وهذا القبر يقبل النذر الذي هو عبادة وقربة، ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه. وهذا الشيطان في كل حين وزمان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله تعالى، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته وعن اتخاذه عيدا وعن جعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته ويكفرونه، وما ذنبه إلا أنه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله ونهى عما نهى الله تعالى عنه ورسوله.

والذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها أمور:

منها الجهل بحقيقة ما بعث الله تعالى به رسوله، من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فالذين قل نصيبهم من ذلك إذا دعاهم الشيطان إلى الفتنة بها، ولم يكن لهم ما يبطل دعوته استجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا منه بقدر ما عندهم من العلم.

ومنها أحاديث مكذوبة وضعها على رسول الله أشباه عباد الأصنام من المقابرية، وهي تناقض ما جاء به من دينه، كحديث: "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أهل القبور" وحديث: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه" وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام، وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية، وراجت على الجهال والضلال، والله تعالى إنما بعث رسوله لقتال من حسن ظنه بالأحجار والأشجار، فإنه عليه السلام جنب أمته من الفتنة بالقبور بكل طريق.

ومنها حكايات حكيت عن أهل تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان نزل به ضر فاستدعى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، وفلان دعاه في حاجة فقضيت حاجته، وعند السدنة والمقابرية شيء من ذلك يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها، لا سيما من كان مضطرا يتشبث بكل سبب وإن كان فيه كراهة، فإذا سمع أحد أن قبر فلان ترياق مجرب، يميل إليه، فيذهب ويدعو عنده بحرقة وذلة وانكسار، فيجيب الله تعالى دعوته لما قام بقلبه من الذلة والانكسار، لا لأجل القبر، فإنه لو دعا كذلك في الجبانة والحمامة والسوق لأجابه، فيظن الجاهل أن لقبر تأثيرا في إجابة تلك الدعوة، ولا يعلم أن الله تعالى يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرا، فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه ولا محبا له ولا راضيا بفعله، فإنه يجيب دعاء البر والفاجر والمؤمن والكافر. يسر لنا الله تعالى من الدعاء والعمل ما يكون موافقا لرضائه بلطفه وكرمه. انتهى كلام العلامة الرومي رحمه الله تعالى ببعض اختصار.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والله تعالى لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية، مثل ما يتفرد به من الخلق والرزق، وإجابة الدعاء والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات. بل غاية ما يكون العبد سببا أن يدعو ويشفع، والله تعالى قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام:

فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله مشركون كفار، لأن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعوة الشافعين، ولهذا قال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} وقال عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ}.

وأما الخوارج والمعتزلة فإنهم أنكروا شفاعة نبينا في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال، مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي ولإجماع خير القرون.

القسم الثالث أهل السنة والجماعة، وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث. وأما الشفاعة التي نفاها القرآن - كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة - فينفيها أهل العلم والإيمان: مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك. انتهى.

ولو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال المقام جدا وفيما ذكرنا كفاية لطالب الهدى {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} وبالله التوفيق.

(فصل: الجواب عن استدلاله بحديث الأعمى وحديث يا عباد الله احبسوا)

فصل

واستدل العراقي بما روى الطبراني عن ابن مسعود عن النبي فيمن انفلتت عليه دابته قال: "يا عباد الله احبسوا" وبحديث الأعمى.

والجواب أن يقال: سبحان الله! كيف يتعلق بهذا ونحوه المشركون، ويرومون به معارضة الحجج القاطعة من كلام من يقول للشيء كن فيكون، وكلام رسوله الصادق المأمون. ونحن بحول الله وقوته نتكلم على الحديثين، ونبين معناهما، ونوضح منطوقهما وفحواهما، ونقطع شغب كل مشرك وجداله، ونبين باطله ومحاله، فنقول وبالله التوفيق:

اعلم أن الله سبحانه بعث نبيه بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الإشراك والتنديد، فحمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، حتى إن رجلا قال له: "ما شاء الله وشئت" قال: «أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده» فكيف يأمر بدعاء الميت والغائب؟.

بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي بعد موته. ولو كان هذا جائزا أو مشروعا لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.

وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه، ولا استغاث به، ولا استنصر به. ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الدواعي والهمم على نقله، بل على نقل ما هو دونه.

وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون دعاء الموتى أو الغائبين أو الدعاء عند قبورهم والتوسل بأصحابها أفضل أو لا. فإن كان أفضل فكيف يخفى علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علما وعملا.

وهذان الحديثان اللذان ذكرهما هذا العراقي إما أن يكون الصحابة الذين رووهما وسمعوهما من النبي جاهلين بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون، وإما أن يكون الصحابة علموهما وزهدوا فيهما عملا مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم ، وكلاهما محال، بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله ، وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير، وهم الذين نقلوا إلينا سنة نبينا . فهل فهموا من هذين الحديثين جواز دعاء الموتى والغائبين فضلا عن استحبابه والأمر به.

ومعلوم أنهم عرضت لهم شدائد واضطرابات ومحن وفتن وسنون مجدبات، أفلا جاؤوا إلى قبر النبي شاكين، وله مخاطبين بكشفها عنهم وتفريج كرباتهم؟ والمضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا، لا سيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملا صالحا لفعلوه.

فهذه سنة رسول الله في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين؛ هل يمكن أحدا أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم؟

فمن كان عنده في هذا أثر أو حرف واحد فليوقفنا عليه، نعم لهم أن يأتوا عن الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون بكثير من المختلقات والحكايات المكذوبات، حتى لقد صنف في ذلك عدة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله ، وإنما فيها التمويهات والحكايات المخترعات والأحاديث المكذوبات، كقولهم: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه". وفيها حكايات لهم عن تلك القبور بأن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلان نزل به ضر فأتى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، ونحو ذلك مما يعلم أنه مضاد لما بعث الله به نبيه ، ويعلم أنه حمى جانب التوحيد، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به.

فأما حديث "إذا انفلتت دابة أحدكم" إلى آخره، فالجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أنه لا يصح عن رسول الله ، فإنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله ابن عدي.

الوجه الثاني: أن يقال: على تقدير صحته، معناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته وعجز عنها، فقد جعل الله عبادا من الملائكة أو صالحي الجن، أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} فإن هؤلاء عباد الله أحياء حاضرون، قد جعل الله لهم قدرة على ذلك كما جعل للإنس، فهذا كما إذا انفلتت دابة الإنسان فنادى أحد رفقته يا فلان رد الدابة، فلا بأس بهذا. ويدل على هذا ما رواه البزار من حديث ابن عباس أن رسول الله قال: "إن لله في الأرض ملائكة سوى الحفظة، يكتبون ما سقط من ورق، فإذا أصاب أحدكم شيء بأرض فلاة، فليناد: أعينوني"، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور لو كانوا يعقلون.

وأما حديث الأعمى فنذكر بحول الله وقوته عنه من صواب الجواب ما يتبين به الحق ويزول الارتياب، فنقول:

ذكر العلماء في معناه قولين: أحدهما أنه توسل بالنبي ، فيدل على جواز التوسل بالنبي ، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له ولا استغاثة به، وإنما يسأل الله بجاهه.

وهذا ذكره الفقيه أبو محمد بن عبد السلام، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي ، قال وأما التوسل بالنبي فيجوز إن صح الحديث، يعني حديث الأعمى.

قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى: وما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء هل جوز أحدهم التوسل بالصالحين في الدعاء أو فعل ذلك أحد منهم فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي ، وأما بالنبي فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدوري في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يجوز أن يسأل الله إلا به. انتهى كلامه.

وذكر ابن القيم رحمه الله عن أبي الحسين القدوري نحو ذلك، فقال: قال القدوري: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، وأن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام.

قال أبو الحسين: أما المسألة بغير الله فمنكرة، لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه.

وأما قوله: بمعقد العز من عرشك. فكرهه أبو حنيفة، ورخص فيه أبو يوسف.

وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به، ولا يقول: أسألك بملائكتك أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه.

ومن قواعد الحنفية أن الكراهة حيث أطلقت فالمراد منها التحريم، وممن ذكر ذلك ابن نجيم في البحر حيث قال: وأفاد صحة إطلاق الحكم على المكروه تحريما. وذكر العلامة ابن عابدين في رد المحتار على الدر المختار قال: وذكر محمد في المبسوط أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلت في شيء أكرهه، فما رأيك فيه؟ قال: التحريم.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم: لفظ التوسل بالشخص والتوجه به والتوسل به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، يراد التسبب به، لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو يكون الداعي محبا له مطيعا لأمره، مقتديا به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته. ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته. فهذا هو الذي كرهوه ونهوا عنه.

وكذلك لفظ السؤال بالشيء، قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب. وقد يراد به الإقسام، ومن الأول حديث الثلاثة الذين آووا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا: ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله، فدعوا الله بصالح أعمالهم، لأن الأعمال الصالحة التي هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح والتضرع، وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: "اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك" وسألت الله أن يحيي ولدها، وأمثال ذلك. وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الآيات، فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به. ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك».

والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، فاستعاذ بعفوه ومعافاته من عقوبته، مع أنه لا يستعاذ بمخلوق، كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل بمخلوق.

ومن قال من العلماء لا يسأل الله إلا به لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، ومن حلف بغير الله فقد أشرك، ومع هذا فالحلف بعزة الله ولعمر الله ونحو ذلك مما ثبت عن النبي الحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله.

وأما قول بعض الناس: "أسألك بالله وبالرحم" وقراءة من قرأ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره توسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس من باب الإقسام ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب بالتوسل بدعاء الأنبياء وطاعتهم. انتهى ملخصا.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضا: وأما استشفاع الناس بالنبي يوم القيامة فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره. وقول عمر رضي الله عنه: "كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" معناه: إنا نتوسل بدعائه وشفاعته، ليس المراد به نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعض الناس: "أسألك بجاه فلان عندك" ويقولون: "إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه" ويروون حديثا موضوعا: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض". فإنه لو كان هذا التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كما ذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس. فعلم أن التوسل الذي ذكروه هو مما بفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره.

وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي شفع فيه وأمره أن يسأل الله فبول شفاعته، وأن قوله: «أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» أي بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: "كنا نتوسل إليك بنبينا" فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: «يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في» فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه، وقوله: "يا محمد يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.

واعلم رحمك الله أن العبادات مبناها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع. والتوسل الذي جاءت به السنة والأحاديث الصحيحة هو التوسل والتوجه إلى الله بأسمائه وصفاته، وبالأعمال الصالحة كالأدعية الواردة في السنة نحو: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم» وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" وكقوله في الحديث الآخر: «اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وكما حكاه الله سبحانه عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم، فقال تعالى حاكيا عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الآية، وكذلك ما تقدم من قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم، كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي في الاستسقاء، وكذا توسلهم بالعباس وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي وشفاعته، فهذا من الأمور المشروعة ولا نزاع فيه.

وأما التوسل بالذوات فما الدليل على جوازه؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ وإذا وقع النزاع في مسألة وجب رد ذلك إلى الله والرسول كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ومعلوم أن هذا لم يكن منقولا عن النبي ولا أحد من السلف. ولا ريب الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله لكن الذي لهم عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم. ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل. وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بدعائه أو بمحبته واتباعه فبأي شيء يتوسل؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان. فهذا جائز، وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام بمخلوق كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين.

ويزيد المقام وضوحا ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد كلام سبق، قال:

لفظ التوسل والتوجه يراد به أن يتوسل إلى الله ويتوجه إليه بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ الصحابة من السلف رضوان الله عليهم، كما في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا"فهذا إخبار من عمر رضي الله عنه بما كانوا يفعلونه، وتوسل منهم بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي . قال: وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، قالوا: ويستحب أن يستسقى بالصالحين، وإن كانوا من أقارب رسول الله فهو أفضل. انتهى.

وقد أزحت بحمد الله الإشكال، وأوضحت فيه الحال، وقد قرر جمع من العلماء ما قرره شيخ الإسلام في معنى حديث الأعمى، وبينوا أنه ليس فيه إلا طلب الدعاء من النبي ، وأنه لا دلالة فيه على التوسل بالذات، كالعلامة السويدي وابنه، والشيخ نعمان بن العلامة محمود أفندي الآلوسي في رده على هذا العراقي، ونقل كلامهم يفضي إلى التطويل، وقد تقدم ما فيه كفاية لطالب الحق.

وقال السويدي رحمه الله في شرح العقد الثمين بعد كلام سبق: وهذا التوسل الذي ذكره فيه الخلاف فيما إذا كان الداعي يتوجه إلى ربه متوسلا إليه بغيره، مثل أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك، أو بحرمته، أو بحقه، وأما إذا توجه إلى ذلك الغير، وطلب منه فهو شرك كما تحقق، انتهى.

وهذا عين التحقيق، وبالله تعالى التوفيق.

وقد أكثر هذا العراقي من ذكر عبارات الفقهاء في باب الاستسقاء من قولهم: "ويباح التوسل بالصالحين" وأكثر من تكرير عباراتهم في ذلك للتهويل، وطول بذلك أشد التطويل، وظن أن في ذلك دليلا على ما يدعو إليه من الشرك بالله، وحاشا علماء الدين وأهل الحق واليقين، أن يجوزوا الشرك بالله أو أن يحوموا حول حماه، وإنما معنى ذلك التوسل بدعائهم وابتهالهم لا غير، كما تقدم ذلك والله أعلم.

(فصل في رد ما استدلاله بما روي عن ابن عمر وابن عباس أن رجله خدرت فقيل اذكر أحب الناس إليك فقال يا محمد)

فصل

وذكر العراقي ما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: "أن كلا منهما خدرت رجله فقيل لكل واحد منهما: اذكر أحب الناس إليك. فقال: يا محمد".

والجواب أن يقال: سبحان الله، هذا غاية ما عند هذا وأمثاله، ونهاية محصول إشكاله. كيف يروم معارضة القواطع القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على وجوب إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، ويحاول صرف الدعاء الذي هو مخ العبادة إلى غير الله تعالى بهذا ونحوه. ولنذكر الجواب على ذلك:

قال الشهاب الخفاجي رحمه الله تعالى في شرح الشفاء: وأثر ابن عمر رضي الله عنهما رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة. "خدرت رجله" أي أصابها خدر، وهو أمر يعتري الرجل لما يصيب العصب، فيمنع من تحريكها بسهولة، ويزول سريعا، لأنه لو امتد كان فالجا، أو مقدماته. فقيل له: "اذكر أحب الناس إليك" لأن الناس جربوا في الخدران من أصابه إذا ذكر محبوبه زال بسهولة، لأنه بمسرته تنتعش الحرارة الغريزية فيندفع الخدر "فصاح يا محمداه" يعنيه ، لأنه أحب الناس إليه وإلى كل مؤمن. "فانتشرت رجله" أي امتدت لزوال خدرها، وهذا يقتضي صحة ما جربوه، وقد يقال: إنه وقع مثله لابن عباس رضي الله عنه، وفيه يقول أبو العتاهية:

وتخدر في بعض الأحايين رجله ** فإن لم يقل يا عتب لم يذهب الخدر

انتهى.

فهذا جواب ما ذكره ذو اللب المعكوس والقلب المنكوس. وهل يحتج بمثل هذا الأثر المذكور بصيغة التمريض على جواز الشرك بالله إلا ذو قلب مريض.

(فصل في رد قوله إن السجود لغير الله محرم وليس كفرا وأن التوسل لم يذكره الفقهاء في كبائر الذنوب ولا صغارها)

فصل

قال العراقي: وهاهنا شيء يفيدك إن كنت تزعم أن التوسل ونداء الأنبياء والصالحين وطلب الشفاعة منهم حرام، فقد ذكر الفقهاء من كل مذهب في باب الشهادة: المحرمات الكبائر والصغائر واستوعبوها، فانظر هل ترى هذا من المحرم؟ ثم قال: نعم، ذكروا أن السجود لغير الله من المحرمات، فإذا كان السجود لغير الله من المحرمات، وهو من أخص العبادات الخاصة بالله لم يحكم على فاعله إلا بالذنب دون الكفر المخرج عن الملة، فكيف يكون التوسل كفرا. انتهى.

أقول: تأمل كلام هذا الضال المخذول، وانظر إلى خروجه عن المسموع والمعقول، يقول: إن السجود لغير الله محرم. فظاهر كلامه أن السجود لغير الله محرم وليس بشرك عنده، وأيضا: أن السجود لغير الله ذنب وليس بشرك. فانظر حيرة هذا الجاهل وعمايته وبلوغه في الضلال غايته ونهايته، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، فهل صرح القرآن بأن الشرك من المحرمات أم لا؟ فالشرك أعظم ذنب عصي الله به، وأشد المحرمات تحريما، وأعظمها عند الله تأثيما. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: "أي الذنب أعظم عند الله"؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: "ثم أي"؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قلت: "ثم أي"؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآيات. فانظر هل سمى الشرك ذنبا؟ والشرك أظلم الظلم، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضا قال: لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله ، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله : إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

فليت شعري ما الذي يخرج عند هذا من الملة إذا كان الشرك بالله لا يخرج عنده من الملة وإنما هو ذنب.

قوله: فلو كان ذلك كفرا للزم ذكره في باب الردة.. إلى آخر كلامه.

يقال: قد ذكر ذلك الجهابذة العلماء، وصرح به النبلاء والفهماء اتباعا لكتاب الله وسنة رسوله، كما تقدم من كلامهم القليل، لكن ثم ماذا إذا أعمى الله بصيرتك {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}.

وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي : «إنك امرؤ فيك جاهلية» وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

وانظر إلى باب الردة من كل مذهب، فأول ما يذكره الفقهاء أن يقولوا: من أشرك بالله تعالى كفر لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.

ومرادهم هذا الذي تسميه أنت وأضرابك: توسلا وتشفعا واستمدادا، وهل ينفعك تسميته بغير اسمه وتغيير حقيقته ورسمه، فالشرك بالله تعالى الذي قامت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام العلماء شرك بالله، شاء المشرك أم أبى. وهل ينفع شارب الخمر تسميته بغير اسمه، أو المرابي تسميته الربا بغير اسمه. والنظر إلى المسمى لا إلى الاسم، وبالله التوفيق.

(فصل في رد افترائه بأنا كفرنا الصحابة في قولهم اجعل لنا ذات أنواط)

فصل

ثم كذب العراقي وافترى فقال: وقد كفّر هؤلاء الناس الصحابة بقولهم للنبي : اجعل لنا ذات أنواط، ثم ذكر أنهم خوارج، وذكر بعض الأحاديث التي وردت في الخوارج.

والجواب أن هذه الدعوة كاذبة، فتقابل بالرد والمنع وعدم القبول. ومن المعلوم أن المشار إليهم من أشد الناس تعظيما ومحبة للصحابة، وأعظمهم اتباعا لهم واقتفاء لآثارهم، ولكن لما تصدوا لبيان شركه، وانتصبوا لهتك باطله وإفكه، وأولجوه المضايق، وبينوا الحجج الواضحة وحققوا الحقائق، فصار قصاراه بهتهم ورميهم بما هم براء منه، وما أشبهه بمن قيل فيه:

ويشتم أعلام الأئمة ضلة ** ولا سيما أن أولجوه المضايقا

والفرق بينهم وبين الخوارج: أن الخوارج يكفرون بكبائر الذنوب، كالزنا والسرقة وشرب المسكر ونحو ذلك، كما ذكره أرباب المقالات. وهؤلاء إنما يكفرون بالشرك بالله، كما تقدم بعض بيان ذلك بالأدلة الظاهرة، والحجج المتناصرة، من الكتاب والسنة وكلام علماء الأمة.وأما الذنوب كالزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها فحاشاهم من التكفير بذلك كما تقدم. فسبحان من طبع على قلوب من شاء من خلقه بعدله.

والخوارج كفروا الصحابة رضي الله عنهم بما جرى بينهم من القتال، كما جرى في وقعة الجمل بالبصرة بين علي وطلحة والزبير وعائشة، وكما جرى بين علي ومعاوية في صفين. وتلك الذنوب لا يكفر فاعلها، والصحابة رضي الله عنهم لهم حسنات عظيمة ماحية: إيمان وهجرة وأعمال وجهاد. فالخوارج إنما كفروا أهل الإيمان بالذنوب.

وهذا وأمثاله عادوا أهل التوحيد لما أنكروا عليهم الشرك بالله ودعوهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كما كان الصحابة رضي الله عنهم مع نبيهم وبعده، يأمرون بالتوحيد وينهون عن الشرك.

فالأشبه بالخوارج على الحقيقة من يكفر أهل التوحيد، وينصر الشرك بالله والتنديد، بل هو أشد من الخوارج لأن الخوارج كفروا بالذنب، وهؤلاء كفروا بمحض الإيمان، كما قال العلامة ابن القيم:

من لي بشبه خوارج قد كفروا ** بالذنب تأويلا بلا إحسان

ولهم نصوص قصروا في فهمها ** فأتوا من التقصير في العرفان

وخصومنا قد كفرونا بالذي ** هو غاية التوحيد والإيمان

فالذي نعتقد وندين الله به وندعو إليه هو: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، وننكر أن يصرف منها شيء لغير الله، متمسكين في ذلك بكتاب الله وسنة رسوله، وهذا هو سبيل رسول الله والصحابة والتابعين، فمن سبنا وأنكر علينا فقد سب من كان على مثل ما كان عليه الصحابة والتابعون من التوحيد ونفي الشرك، وذلك مسبة للصحابة والتابعين، فالساب في الحقيقة إنما سب الصحابة وأنكر عليهم، لأن الذي أنكره هو دينهم. وبالله التوفيق.

فهذا آخر ما قصدناه من الكلام على شبهاته، والتنبيه على بعض خزعبلاته، وقد سقطت به والحمد لله أباطيله، واجتثت به وساوسه وأضاليله.

وهذه الشبه الفاسدة لا تخدش في وجوه براهين التوحيد القاطعة، وأدلة الكتاب والسنة القاطعة، ولو تتبعنا جميع هذيانه وسوء فهمه لكلام العلماء وتصرفه فيه بالتأويل والحذف لطال الخطاب وكثر الجواب، ولكن قد حصل المقصود وهو بيان التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، والجواب عن شبهات المبطلين.

والحمد لله على بيان الحجة، ووضوح المحجة، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} والله المسؤول أن يهدينا وإخواننا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضآلين.

وكان الفراغ من رقمه عشية السبت المبارك السادس عشر من شهر ربيع الأول من سنة 1294 بمكة المكرمة على يد مؤلفه العبد لفقير إلى رحمة ربه ومغفرته أحمد ابن إبراهيم بن عيسى، عامله الله بلطفه الخفي، وآجره على عوائد بره الحفي. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.