الخصائص/باب في هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو لا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الحكم في جواز ضروريات الشعر
باب في هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو لا؟

سألت أبا علي رحمه الله عن هذا فقال: كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا وما حظرته عليهم حظرته علينا. وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم فليكن من أحسن ضروراتنا وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا. وما بين ذلك بين ذلك. فإن قيل: هلا لم يجز لنا متابعتهم على الضرورة من حيث كان القوم لا يترسلون في عمل أشعارهم ترسل المولدين ولا يتأنون فيه ولا يتلومون على حوكه وعمله وإنما كان أكثره ارتجالاً قصيداً كان أو رجزاً أو رملاً. فضرورتهم إذاً أقوى من ضرورة المحدثين. فعلى هذا ينبغي أن يكون عذرهم فيه أوسع وعذر المولدين أضيق. قيل: يسقط هذا من أوجه: أحدها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلاً بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه والملاطفة له والتلوم على رياضته وإحكام صنعته نحو من مما يعرض لكثير من المولدين. ألا ترى إلى ما يروى عن زهير: من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين فكانت تسمى حوليات زهير لأنه كان يحوك القصيدة في سنة. والحكاية في ذلك عن ابن أبي حفصة أنه قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر وأحككها في أربعة أشهر وأعرضها في أربعة أشهر ثم أخرج بها إلى الناس. فقيل له: فهذا هو الحولي المنقح. وكذلك الحكاية عن ذي الرمة: أنه قال: لما قال: بيضاء في نعج صفراء في برج أجبل حولاً لا يدري ما يقول إلى أن مرت به صينية فضية قد أشربت ذهباً فقال: كأنها فضة قد مسها ذهب وقد وردت أيضاً بذلك أشعارهم قال ذو الرمة: أجنبه المساند والمحالا ألا تراه كيف اعترف بتأنيه فيه وصنعته إياه. وقال عدي بن الرقاع العاملي: وقصيدة قد بت أجمع بينها حتى أقوم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته حتى يقيم ثقافه منآدها وقال سويد بن كراع: وإنما يبيت عليها لخلوه بها ومراجعته النظر فيها. وقال: أعددت للحرب التي أعنى بها قوافياً لم أعي باجتلابها حتى إذا أذللت من صعابها واستوسقت لي صحت في أعقابها فهذا - كما ترى - مزاولة ومطالبة واغتصاب لها ومعاناة كلفة بها. ومن ذلك الحكاية عن الكميت وقد افتتح قصيدته التي أولها: ألا حييت عنا يا مدينا ثم أقام برهة لا يدري بماذا يعجز على هذا الصدر إلى أن دخل حماماً وسمع إنساناً دخله فسلم على آخر فيه فأنكر ذلك عليه فانتصر بعض الحاضرين له فقال: وهل بأس بقول المسلّمين فاهتبلها الكميت فقال: وهل بأس بقول مسلّمينا ومثل هذا أشعارهم الدالة على الاهتمام بها والتعب في إحكامها كثير معروف. فهذا وجه. وثان: أن من المحدثين أيضاً من يسرع العمل ولا يعتاقه بطء ولا يستوقف فكره ولا يتعتع خاطره. فمن ذلك ما حدثني به من شاهد المتنبي وقد حضر عند أبي علي الأوارجي وقد وصف له طرداً كان فيه وأراده على وصفه فأخذ الكاغد والدواة واستند إلى جانب المجلس ومنزل ليس لنا بمنزل وهي طويلة مشهورة في شعره. وحضرت أنا مجلساً لبعض الرؤساء ليلة وقد جرى ذكر السرعة وتقدم البديهة وهنالك حدث من غير شعراء بغداد فتكفل أن يعمل في ليلته تلك مائتي بيت في ثلاث قصائد على أوزان اخترناها عليه ومعان حددناها له فلما كان الغد في آخر النهار أنشدنا القصائد الثلاث على الشرط والاقتراح وقد صنعها وظاهر إحكامها وأكثر من البديع المستحسن فيها. وثالث: كثرة ما ورد في أشعار المحدثين من الضرورات كقصر الممدود وصرف ما لا ينصرف وتذكير المؤنث ونحوه. وقد حضر ذلك وشاهده جلة أصحابنا من أبي عمرو إلى آخر وقت والشعراء من بشار إلى فلان وفلان ولم نر أحداً من هؤلاء العلماء أنكر على أحد من المولدين ما ورد في شعره من هذه الضرورات التي ذكرناها وما كان نحوها فدل ذلك على رضاهم به وترك تناكرهم إياه. فإن قلت: فقد عيب بعضهم كأبي نواس وغيره في أحرف أخذت عليهم قيل: هذا كما عيب الفرزدق وغيره في أشياء استنكرها أصحابنا. فإذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك في أشعار المولدين أحرى بالجواز. فإذا كانوا قد عابوا بعض ما جاء به القدماء في غير الشعر بل في حال السعة وموقف الدعة كان يرد من المولدين في الشعر - وهو موقف فسحة وعذر - أولى بجواز مثله. فمن ذلك استنكارهم همز مصائب وقالوا: منارة ومنائر ومزادة ومزائد فهمزوا ذلك في الشعر وغيره وعليه قال الطرماح: مزائد خرقاء اليدين مسيفة يخب بها مستخلف غير آئن وإنما الصواب مزاود ومصاوب ومناور قال: يصاحب الشيطان من يصاحبه فهو أذيٌ جمةٌ مصاوبه ومن ذلك قولهم في غير الضرورة: ضبب البلد: كثرة ضبابه. وألل السقاء: تغيرت ريحه. ولححت عينه: التصقت ومششت الدابة. وقالوا: إن الفكاهة مقودة إلى الأذى. وقرأ بعضهم {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ} وقالوا: كثرة الشراب مبولة وكثرة الأكل منومة وهذا شيء مطيبة للنفس وهذا طريق مهيع إلى غير ذلك مما جاء في السعة ومع غير الضرورة. وإنما صوابه: لحت عينه وضب البلد وألَّ السقاء ومشَّت الدابة ومقادة إلى الأذى ومثابة ومبالة ومنامة ومطابة ومهاع. فإذا جاز هذا للعرب عن غير حصر ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة في الشعر فأما ما يأتي عن العرب لحناً فلا نعذر في مثله مولداً. فمن ذلك بيت الكتاب: وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حي أبوه يقاربه ومراده فيه معروف وهو فيه غير معذور. ومثله في الفصل قول الآخر - فيما أنشده ابن الأعرابي -: فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفراً رسومها قلما أراد: فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلماً خط رسومها فأوقع من الفصل والتقديم والتأخير ما تراه. وأنشدنا أيضاً: فقد والشك بين لي عناءٌ بوشك فراقهم صرد يصيح أراد: فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم والشك عناء. فقد ترى إلى ما فيه من الفصول التي لا وجه لها ولا لشيء منها. وأغرب من ذلك وأفحش وأذهب في القبح قول الآخر: لها مقلتا حوراء طل خميلة من الوحش ما تنفك ترعى عرارها أراد: لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفك ترعى خميلة طل عرارها. فمثل هذا لا نجيزه للعربي أصلاً فضلاً عن أن نتخذه للمولدين رسماً. وأما قول الآخر: معاوى لم ترع الأمانة فارعها وكن حافظاً لله والدين شاكر فحسن جميل وذلك أن " شاكر " هذه قبيلة وتقديره: معاوى لم ترع الأمانة شاكر فارعها أنت وكن حافظاً لله والدين. فأكثر ما في هذا الاعتراض بين الفعل والفاعل والاعتراض للتسديد قد جاء بين الفعل والفاعل وبين المبتدأ والخبر وبين الموصول والصلة وغير ذلك مجيئاً كثيراً في القرآن وفصيح الكلام. ومثله من الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله: وقد أدركتني - والحوادث جمة - أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل والاعتراض في ههذ اللغة كثير حسن. ونحن نفرد له باباً يلي هذا الباب. بإذن الله سبحانه وتعالى. ومن طريف الضرورات وغريبها ووحشيها وعجيبها ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: هل تعرف الدار ببيدا إنه دار لخود قد تعفت إنَّه فانهلت العينان تسفحنه مثل الجمان جال في سلكنَّه وهذه الأبيات قد شرحها أبو علي رحمه الله في البغداديات فلا وجه لإعادة ذلك هنا. فإذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها. وكذلك ما أنشده أيضاً أبو زيد للزفيان السعدي: يا إبلي ما ذامه فتأبَيَه ماء رواء ونصيٌ حولَيَه هذا بأفواهك حتى تأبَيَه حتى تروحي أصلاً تباريه تباري العانة فوق الزازيه هكذا روينا عن أبي زيد وأما الكوفيون فرووه على خلاف هذا يقولون: فتأبَيْه ونصي حولَيْه وحتى تأبَيْه وفوق الزازيْه. فينشدونه من السريع لا من الرجز كما أنشده أبو زيد. وقد ذكرت هذه الأبيات بما يجب فيها في كتابي " في النوادر الممتعة " ومقداره ألف ورقة. وفيه من كلتا الروايتين صنعة طريفة. وأخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى - أحسبه عن ابن الأعرابي - يقول الشاعر: وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم من الناس ذنباً جاءه وهو مسلما وقال في تفسيره معناه: ما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم مسلماً ذنباً جاءه وهو ولو وكد الضمير في جاء فقال: جاءه هو وهو لكان أحسن. وغير التوكيد أيضاً جائز. وأبيات الإعراب كثيرة وليس على ذكرها وضعنا هذا الباب. ولكن اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران: زيغ الإعراب وقبح الزحاف فإن الجفاة الفصحاء لا يحفلون بقبح الزحاف إذا أدى إلى صحة الإعراب. كذلك قال أبو عثمان وهو كما ذكر. وإذا كان الأمر كذلك فلو قال في قوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي " ألم يأتك والأنباء تنمي " لكان أقوى قياساً على ما رتبه أبو عثمان ألا ترى أن الجزء كان يصير منقوصا لأنه يرجع إلى مفاعيل: ألم يأت مفاعيل. وكذلك بيت الأخطل: كلمع أيدي مثاكيل مسلبة يندبن ضرس بنات الدهر والخطب أقوى القياسين على ما مضى أن ينشد " مثاكيل " غير مصروف لأنه يصير الجزء فيه من مستفعلن إلى مفتعلن وهو مطوي والذي روى " مثاكيل " بالصرف. وكذلك بقية هذا. فإن كان ترك زيغ الإعراب يكسر البيت كسراً لا يزاحفه زحافاً فإنه لا بد من ضعف زيغ الإعراب واحتمال ضرورته وذلك كقوله: سماء الإله فوق سبع سمائيا فهذا لا بد من التزام ضرورته لأنه لو قال: سمايا لصار من الضرب الثاني إلى الثالث وإنما مبنى هذا الشعر على الضرب الثاني لا الثالث. وليس كذلك قوله: لأنه لو قال: معار لما كسر الوزن لأنه يصير من مفاعلتن إلى مفاعيلن وهو العصب. لكن مما لا بد من التزام ضرورته مخافة كسر وزنه قول الآخر: خريع دوادي في ملعب تأزر طوراً وترخي الإزارا فهذا لا بد من تصحيح معتله ألا ترى أنه لو أعل اللام وحذفها فقال دواد لكسر البيت البتة. فاعرف إذاً حال ضعف الإعراب الذي لا بد من التزامه مخافة كسر البيت من الزحاف الذي يرتكبه الجفاة الفصحاء إذا أمنوا كسر البيت ويدعه من حافظ على صحة الوزن من غير زحاف وهو كثير. فإن أمنت كسر البيت اجتنبت ضعف الإعراب وإن أشفقت من كسرة ألبتة دخلت تحت كسر الإعراب.