الخصائص/باب في تخصيص العلل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تخصيص العلل
باب في تخصيص العلل

اعلم أن محصول مذهب أصحابنا، ومتصرف أقوالهم مبني على جواز تخصيص العلل. وذلك أنها وإن تقدمت علل الفقه فإنها، أو أكثرها، إنما تجري مجرى التخفيف والفرق، ولو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكناً -وإن كان على غير قياس- ومستثقلا، ألا تراك لو تكلفت تصحيح فاء ميزان، وميعاد، لقدرت على ذلك فقلت: مِوزان وموعاد. وكذلك لو آثرت تصحيح فاء موسر وموقن، لقدرت على ذلك فقلت: ميسر، وميقن. وكذلك لو نصبت الفاعل ورفعت المفعول، أو ألغيت العوامل: من الجوار والنواصب والجوازم لكنت مقتدراً على النطق بذلك، وإن نفى القياس تلك الحال. وليست كذلك علل المتكلمين؛ لأنها لا قدرة على غيرها، ألا ترى أن اجتماع السواد والبياض في محل واحد ممتنع لا مستكره، وكون الجسم متحركاً ساكناً في حال واحدة فاسد. لا طريق إلى ظهوره ولا إلى تصوره. وكذلك ما كان من هذا القبيل. فقد ثبت بذلك تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين وإن تقدمت علل المتفقهين. أحدهما ما لا بد منه فهو لاحق بعلل المتكلمين وهو قلب الألف واواً لانضمام ما قبلها وياء لانكسار ما قبلها نحو ضورب وقراطيس وقد تقدم ذكره. ومن ذلك امتناع الابتداء بالساكن وقد تقدم ما فيه.

ثم يبقى النظر فيما بعد، فنقول: إن هذه العلل التي يجوز تخصيصها، كصحة الواو إذا اجتمعت مع الياء، وسبقت الأولى منهما بالسكون نحو حيوة، وعوى الكلب عوية، ونحو صحة الواو والياء، في نحو غزوا ورميا، والنزوان والغليان، وصحة الواو في نحو اجتوروا واعتونوا واهتوشوا، إنما اضطر القائل بتخصيص العلة فيها وفي أشباهها؛ لأنه لم يحتط في وصف العلة ولو قدم الاحتياط فيها لأمن الاعتذار بتخصيصها. وذلك أنه إذا عقد هذا الموضع قال في علة قلب الواو والياء ألفاً: إن الواو والياء متى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين نحو قام وباع وغزا ورمى وباب وعاب وعصا ورحى، فإذا أدخل عليه فقيل له: قد صحتا في نحو غزوا ورميا وغزوان وصميان وصحت الواو خاصة في نحو اعتونوا واهتوشوا أخذ يتطلب ويتعذر فيقول: إنما صحتا في نحو رميا وغزوا مخافة أن تقلبا ألفين فتحذف إحداهما فيصير اللفظ بهما: غزا ورمى فتلتبس التثنية بالواحد. وكذلك لو قلبوهما ألفين في نحو نفيان ونزوان لحذفت إحداهما فصار اللفظ بهما نفان ونزان فالتبس فعلان مما لامه حرف علة بفعال مما لامه نون. وكذلك يقولون: صحت الواو في نحو اعتونوا واهتوشوا؛ لأنهما في معنى ما لا بد من صحته أعني تعاونوا وتهاوشوا. وكذلك يقولون: صحتا في نحو عور وصيد لأنهما في معنى أعور وأصيد وكذلك يقولون في نحو بيت الكتاب:

وما مثله في الناس إلا مملكاً
أبو أمه حي أبوه يقاربه

إنما جاز ما فيه من الفصل " بين ما لايحسن " فصله لضرورة الشعر. وكذلك ما جاء من قصر الممدود ومد المقصور وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر ومن وضع الكلام في غير موضعه يحتجون في ذلك وغيره بضرورة الشعر ويجنحون إليها مرسلة غير متحجرة وكذلك ما عدا هذا: يسوون بينه ولا يحتاطون فيه فيحرسوا أوائل التعليل له. وهذا هو الذي نتق عليهم هذا الموضع حتى اضطرهم إلى القول بتخصيص العلل وأصارهم إلى حيز التعذر والتمحل. وسأضع في ذلك رسماً يقتاس فينتفع به بإذن الله ومشيئته. وذلك أن نقول في علة قلب الواو والياء ألفاً: إنهما متى تحركتا حركة لازمة وانفتح ما قبلهما وعرى الموضع من اللبس أو أن يكون في معنى ما لا بد من صحة الواو والياء فيه أو أن يخرج على الصحة منبهة على أصل بابه فإنهما يقلبان ألفاً. ألا ترى أنك إذا احتطت في وصف العلة بما ذكرناه سقط عنك الاعتراض عليك بصحة الواو والياء في حوبة وجيل، إذ كانت الحركة عارضة غير لازمة، إنما هي منقولة إليهما من الهمزة المحذوفة للتخفيف في حوأبة وجيأل.

وكذلك يسقط عنك الإلزام لك بصحة الواو والياء في نحو قوله تعالى «لو اطَّلَعْتَ عَلَيهم» وفي قولك في تفسير قوله عز وجل «وانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أن امْشُوا وَاصْبروا على آلهتِكُم»: معناه: أي امشوا. فتصح الياء والواو متحركتين مفتوحاً ما قبلهما من حيث كانت الحركة فيهما لالتقاء الساكنين فلم يعتد لذلك.

وكذلك يسقط عنك الاعتراض بصحة الواو والياء في عور وصيد بأنهما في معنى ما لا بد فيه من صحة الواو والياء وهما اعور واصيد. وكذلك صحت في نحو اعتونوا وازدوجوا لما كان في معنى ما لا بد فيه من صحتها وهو تعاونوا وتزاوجوا. وكذلك صحتا في كروان وصميان مخافة أن يصيرا من مثال فعلان واللام معتلة إلى فعال واللام صحيحة وكذلك صحتا في رجل سميته بكروان وصميان ثم رخمته ترخيم قولك يا حار فقلت: يا كرو ويا صمى لأنك لو قلبتهما فيه فقلت: يا كرا ويا صما لالتبس فعلان بفعل ولأن الألف والنون فيهما مقدرتان أيضاً فصحتا كما صحتا وهما موجودتان. وكذلك صحت أيضاً الواو والياء في قوله عز اسمه «وَعَصَوُا الرسُولَ» وقوله تعالى: «لَتُبْلَوُنَّ في أمْوَالِكُمْ وأنفُسِكُمْ» وقوله تعالى: «فإما تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا» من حيث كانت الحركة عارضة لالتقاء الساكنين غير لازمة. وكذلك صحتا في القود والحوكة والغيب تنبيهاً على أصل باب ودار وعاب.

أفلا ترى إلى احتياطك في العلة كيف أسقط عنك هذه الالتزامات كلها، ولو لم تقدم الأخذ بالحزم لاضطررت إلى تخصيص العلة، وأن تقول: هذا من أمره...، وهذا من حاله...، والعذر في كذا وكذا...، وفي كذا وكذا...

وأنت إذا قدمت ذلك الاحتياط لم يتوجه عليك سؤال؛ لأنه متى قال لك: فقد صحت الياء والواو في جيل وحوبة، قلت: هذا سؤال يسقطه ما تقدم، إذ كانت الحركة عارضة لا لازمة، ولو لم تحتط بما قدمت لأجاءتك الحال إلى تمحل الاعتذار.

وهذا عينه موجود في العلل الكلامية ألا ترى أنك تقول في إفساد اجتماع الحركة والسكون على المحل الواحد: لو اجتمعا لوجب أن يكون المحل الواحد ساكناً متحركاً في حال واحدة ولولا قولك: في حال واحدة لفسدت العلة ألا ترى أن المحل الواحد قد يكون ساكناً متحركاً في حالين اثنين.
فقد علمت بهذا وغيره مما هو جار مجراه قوة الحاجة إلى الاحتياط في تخصيص العلة.

فإن قلت: فأنت إذا حصل عليك هذا الموضع لم تلجأ في قلب الواو والياء إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما ألفين إلا إلى الهرب من اجتماع الأشباه وهي حرف العلة والحركتان اللتان اكتنفتاه وقد علم مضارعة الحركات لحروف اللين وهذا أمر موجود في قام وخاف وهاب كوجوده في حوِل وعوِر وصيِد وعيِن ألا ترى أن أصل خاف وهاب: خوِف وهيِب فهما في الأصل كحول وصيد وقد تجشمت في حول وصيد من الصحة ما تحاميته في خوف وهيب. فأما احتياطك بزعمك في العلة بقولك: إذا عرى الموضع من اللبس وقولك: إذا كان في معنى ما لا بد من صحته وقولك: وكانت الحركة غير لازمة فلم نرك أوردته إلا لتستثنى به ما يورده الخصم عليك: مما صح من الياء والواو وهو متحرك وقبله فتحة. وكأنك إنما جئت إلى هذه الشواذ التي تضطرك إلى القول بتخصيص العلل فحشوت بها حديث علتك لاغير وإلا فالذي أوجب القلب في خاف وهاب من استثقال حرفي اللين متحركين مفتوحاً ما قبلهما موجود البتة في حول وصيد وإذا كان الأمر كذلك دل على انتقاض العلة وفسادها.

قيل: لعمري إن صورة حول وصيد لفظاً هي صورة خوف وهيب إلا أن هناك من بعد هذا فرقاً وإن صغر في نفسك وقل في تصورك وحسك فإنه معنى عند العرب مكين في أنفسها متقدم في إيجابه التأثير الظاهر عندها. وهو ما أوردناه وشرطناه: من كون الحركة غير لازمة وكون الكلمة في معنى ما لا بد من صحة حرف لينه ومن تخوفهم التباسه بغيره فإن العرب - فيما أخذناه عنها وعرفناه من تصرف مذاهبها - عنايتها بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها. وسنفرد لهذا باباً نتقصاه فيه بمعونة الله. أولا تعلم عاجلاً إلى أن تصير إلى ذلك الباب آجلاً أن سبب إصلاحها ألفاظها وطردها إياها على المثل والأحذية التي قننتها لها وقصرتها عليها إنما هو لتحصين المعنى وتشريفه والإبانة عنه وتصويره ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ونصب المفعول إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول وهذا الفرق أمر معنوي أصلح اللفظ له وقيد مقادة الأوفق من أجله.

فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يقصد بها إلا تحصين المعاني وحياطتها. فالمعنى إذاً هو المكرم المخدوم واللفظ هو المبتذل الخادم.

وبعد فإذا جرت العادة في معلولها، واستتبت على منهجها وأمها قوى حكمها واحتمى جانبها ولم يسع أحداً أن يعرض لها إلا بإخراجه شيئاً إن قدر على إخراجه منها. فأما أن يفصلها ويقول: بعضها هكذا وبعضها هكذا فمردود عليه ومرذول عند أهل النظر فيما جاء به. وذلك أن مجموع ما يورده المعتل بها هو حدها ووصفها فإذا انقادت وأثرت وجرت في معلولاتها فاستمرت لم يبق على بادئها وناصب نفسه للمراماة عنها بقية فيطالب بها ولا قصمة سواك فيفك يد ذمته عنها.

فإن قلت: فقد قال الهذلي: استاف فقد كنت قلت في هذه اللفظة في كتابي في ديوان هذيل: إنه إنما أعلت هذه العين هناك ولم تصح كما صحت عين اجتوروا واعتونوا من حيث كان ترك قلب الياء ألفاً أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفاً لبعد ما بين الألف والواو وقربها من الياء وكلما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى صاحبه وانجذابه نحوه وإذا تباعدا كانا بالصحة والظهور قمناً. وهذا - لعمري - جواب جرى هناك على مألوف العرف في تخصيص العلة. فأما هذا الموضع فمظنة من استمرار المحجة واحتماء العلة. وذلك أن يقال: إن استاف هنا لا يراد به تسايفوا أي تضاربوا بالسيوف فتلزم صحته كصحة عين تسايفوا كما لزمت صحة اجتوروا لما كان في معنى ما لا بد من صحة عينه وهو تجاوروا بل تكون استافوا هنا: تناولوا سيوفهم وجردوها. ثم يعلم أنهم تضاربوا مما دل عليه قولهم: استافوا فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبب كقوله:

ذر الآكلين الماء ظلماً فما أرى
ينالون خيراً بعد أكلهم الماء

يريد قوماً كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه فاكتفى بكر الماء الذي هو سبب المأكول من ذكر المأكول.

فأما تفسير أهل اللغة أن استاف القوم في معنى تسايفوا فتفسير على المعنى كعادتهم في أمثال ذلك ألا تراهم قالوا في قول الله عز وجل «مِن مَّاء دَافِق»: إنه بمعنى مدفوق فهذا - لعمري - معناه غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق كما حكاه الأصمعي عنهم من قولهم: ناقة ضارب إذا ضربت وتفسيره أنها ذات ضرب أي ضربت. وكذلك قوله تعالى {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} أي لا ذا عصمة وذو العصمة يكون مفعولاً كما يكون فاعلاً فمن هنا قيل: إن معناه: لا معصوم. وكذلك قوله:

لقد عيل الأيتام طعنة ناشره
أناشر لا زالت يمينك آشره

أي ذات أشر والأشر: الحز والقطع وذو الشيء قد يكون مفعولاً كما يكون فاعلاً وعلى ذلك عامة باب طاهر وطالق وحائض وطامث ألا ترى أن معناه: ذات طهر وذات طلاق وذات حيض وذات طمث. فهذه ألفاظ ليست جارية على الفعل لأنها لو جرت عليه للزم إلحاقها تاء التأنيث كما لحقت نفس الفعل. وعلى هذا قول الله تعالى {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي ذات رضا فمن هنا صارت بمعنى مرضية. ولو جاءت مذكرة لكانت كضارب وبازل كباب حائض وطاهر إذ الجميع غير جار على الفعل لكن قوله تعالى {رَّاضِيَةٍ} كقوله لا زالت يمينك آشرة.

وينبغي أن يعلم أن هذه التاء في "راضية" و"آشرة" ليست التاء التي يخرج بها اسم الفاعل على التأنيث لتأنيث الفعل من لفظه لأنها لو كانت تلك لفسد القول ألا ترى أنه لا يقال: ضربت الناقة ولا رضيت العيشة. وإذا لم تكن إياها وجب أن تكون التي للمبالغة كفروقة وصرورة وداهية وراوية مما لحقته التاء للمبالغة والغاية. وحسن ذلك أيضاً شيء آخر. وهو جريانها صفة على مؤنث وهي بلفظ الجاري على الفعل فزاد ذلك فيما ذكرناه ألا ترى إلى همز حائض وإن لم يجر على الفعل إنما سببه أنه شابه في اللفظ ما اطرد همزه من الجاري على الفعل نحو قائم وصائم وأشباه ذلك. ويدلك على أن عين حائض همزة وليست ياء خالصة - كما لعله يظنه كذلك ظان - قولهم: امرأة زائر من زيارة النساء وهذا واضح ألا ترى أنه لو كانت العين صحيحة لوجب ظهورها واواً وأن يقال: زاور. وعليه قالوا: الحائش والعائر للرمد وإن لم يجريا على الفعل لما جاءا مجيء ما يجب همزه وإعلاله في غالب الأمر.

نعم وإذا كانوا قد أنثوا المصدر لما جرى وصفاً على المؤنث نحو امرأة عدلة وفرس طوعة القياد وقول أمية: والحية الحتفة الرقشاء أخرجها من جحرها آمنات الله والكلم وإذا جاز دخول التاء على المصادر وليست على صورة اسم الفاعل ولا هي الفاعل في الحقيقة وإنما استهوى لذلك جريها وصفاً على المؤنث كان باب " عيشة راضية" و"يد آشرة" أحرى بجواز ذلك فيه وجريه عليه.

فإن قلت: فقد قالوا في يوجل: ياجل وفي ييأس: ياءس وفي طيئي طائي وقالوا: حاحيت وعاعيت وهاهيت فقلبوا الياء والواو هنا ألفين وهما ساكنتان وفي هذا نقض لقولك ألا تراك إنما جعلت علة قلب الواو والياء ألفين تلك الأسباب التي أحدها كونهما متحركتين وأنت تجدهما ساكنتين ومع ذلك فقد تراهما منقلبتين.

قيل: ليس هذا نقضاً ولا يراه أهل النظر قدحاً. وذلك أن الحكم الواحد قد يكون معلولاً بعلتين ثنتين في وقت واحد تارة وفي وقتين اثنين. وسنذكر ذلك في باب المعلول بعلتين.

فإن قلت: فما شرطك واحتياطك في باب قلب الواو ياء إذا اجتمعت مع الياء في نحو سيد وهين وجيد وشويت شياً ولويت يده لياً وقد تراهم قالوا: حيوة وضيون وقالوا عوى الكلب عوية وقالوا في تحقير أسود وجدول: جديول وأسيود وأجازوا قياس ذلك فيما كان مثله: مما واوه عين متحركة أو زائدة قبل الطرف فالذي نقول في هذا ونحوه: أن الياء والواو متى اجتمعتا وسبقت الأولى بالسكون منهما ولم تكن الكلمة علماً ولا مراداً بصحة واوها التنبيه على أصول أمثالها ولا كانت تحقيراً محمولاً على تكسير فإن الواو منه تقلب ياء. فإذا فعلت هذا واحتطت للعلة به أسقطت تلك الإلزامات عنك ألا ترى أن " حيوة " علم والأعلام تأتي مخالفة للأجناس في كثير من الأحكام وأن " ضيون " إنما صح لأنه خرج على الصحة تنبيهاً على أن أصل سيد وميت: سيود وميوت. وكذلك " عوية " خرجت سالمة ليعلم بذلك أن أصل لية لوية وأن أصل طية طوية وليعلم أن هذا الضرب من التركيب وإن قل في الاستعمال فإنه مراد على كل حال. وكذلك أجازوا تصحيح نحو أسيود وجديول إرادة للتنبيه على أن التحقير والتكسير في هذا النحو من المثل من قبيل واحد. فإن قلت: فقد قالوا في العلم أسيد فأعلوا كما أعلوا في الجنس نحو قوله: «أسيد ذو خريطة نهارا» فعن ذلك أجوبة. منها أن القلب الذي في أسيد قد كان سبق إليه وهو جنس كقولك: غليم أسيد ثم نقل إلى العملية بعد أن أسرع فيه القلب فبقي بحاله لا أن القلب إنما وجب فيه بعد العلمية وقد كان قبلها - وهو جنس نكرة - صحيحاً. ويؤنس بهذا أيضاً أن الإعلال في هذا النحو هو الاختيار في الأجناس. فلما سبق القلب الذي هو أقوى وأقيس القولين سمي به معلاً فبقي بعد النقل على صورته. ومثل ذلك ما نقوله في " عيينة " أنه إنما سمي به مصغراً فبقي بعد بحاله قبل ولو كان إنما حقر بعد أن سمي به لوجب ترك إلحاق علامة التأنيث به كما أنك لو سميت رجلاً هنداً ثم حقرت قلت: هنيد: ولو سميته بها محقرة قبل التسمية لوجب أن تقر التاء بحالها فتقول: هذا هنيدة مقبلاً. هذا مذهب الكتاب وإن كان يونس يقول بضده. ومنها أنا لسنا نقول: إن كل علم فلا بد من صحة واوه إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما فيلزمنا ما رمت إلزامنا وإنما قلنا: إذا اجتمعت الياء والواو وسبقت الأولى منهما بالسكون ولم يكن الاسم علماً ولا على تلك الأوصاف التي ذكرنا فإن الواو تقلب ياء وتدغم الياء في الياء. فهذه علة من علل قلب الواو ياء. فأما ألا تعتل الواو إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما إلا من هذا الوجه فلم نقل به. وكيف يمكن أن نقول به وقد قدمنا أن الحكم الواحد قد يكون معلولاً بعلتين وأكثر من ذلك وتضمنا أن نفرد لهذا الفصل باباً! فإن قلت: ألسنا إذا رافعناك في صحة " حيوة " إنما نفزع إلى أن نقول: إنما صحت لكونهما علماً والأعلام تأتي كثيراً أحكامها تخالف أحكام الأجناس وأنت تروم في اعتلالك هذا الثاني أن تسوي بين أحكامهما وتطرد على سمت واحد كلاً منهما.

قيل: الجواب الأول قد استمر ولم تعرض له ولا سوغتك الحال الطعن فيه وإنما هذا الاعتراض على الجواب الثاني. والخطب فيه أيسر. وذلك أن لنا مذهباً سنوضحه في باب يلي هذا وهو حديث الفرق بين علة الجواز وعلة الوجوب.
ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو سوط وثوب إذا كسرت فقلت: ثياب وسياط؟.

وهذا حكم لا بد في تعليله من جمع خمسة أغراض فإن نقصت واحداً فسد الجواب وتوجه عليه الإلزام. والخمسة: أن ثياباً وسياطاً وحياضاً وبابه جمع والجمع أثقل من الواحد وأن عين واحده ضعيفة بالسكون وقد يراعى في الجمع حكم الوحد وأن قبل عينه كسرة وهي مجلبة في كثير من الأمر لقلب الواو ياء وأن بعدها ألفاً والألف شبيهة بالياء وأن لام سوط وثوب صحيحة.

فتلك خمسة أوصاف لا غنى بك عن واحد منها. ألا ترى إلى صحة خوان وبوان وصوان لما كان مفرداً لا جمعاً. فهذا باب. ثم ألا ترى إلى صحة واو زوجة وعودة وهي جمع واحد ساكن العين وهو زوج وعود ولامه أيضاً صحيحه وقبلها في الجمع كسرة. ولكن بقي من مجموع العلة أنه لا ألف بعد عينه كألف حياض ورياض. وهذا باب أيضاً.

ثم ألا ترى إلى صحة طوال وقوام وهما جمعان وقبل عينهما كسرة وبعدهما ألف ولاماهما صحيحتان. لكن بقي من مجموع العلة أن عينه في الواحد متحركة وهي في طويل وقويم. وهذا أيضاً باب.

ثم ألا ترى إلى صحة طواء ورواء جمع طيان وريان فيه الجمعية وأن عين واحده ساكنة بل معتلة وقبل عينه كسرة وبعدها ألف. لكن بقي عليك أن لامه معتلة فكرهوا إعلال عينه وهذا الموضع مما يسترسل فيه المعتل لاعتلاله فلعله أن يذكر من الأوصاف الخمسة التي ذكرناها وصفين " أو أكثره " ثلاثة ويغفل الباقي فيدخل عليه الدخل منه فيرى أن ذلك نقض للعلة ويفزع إلى ما يفزع إليه من لا عصمة له ولا مسكة عنده. ولعمري إنه كسر لعلته هو لاعتلالها في نفسها. فأما مع إحكام علة الحكم فإن هذا ونحوه ساقط عنه.

ومن ذلك ما يعتقده في علة الادغام. وهو أن يقال: إن الحرفين المثلين إذا كانا لازمين متحركين حركة لازمة ولم يكن هناك إلحاق ولا كانت الكلمة مخالفة لمثال فعِل وفعُل أو كانت فعَل فعلاً ولا خرجت منبهة على بقية بابها فإن الأول منها يسكن ويدغم في الثاني. وذلك نحو شد وشلت يده وحبذا زيد وما كان عارياً مما استثنيناه ألا ترى أن شد وإن كان فعَل فإنه فِعل وليس كطلل وشرر وجدد فيظهر. وكذلك شلت يده: فَعِلَت. وحبذا زيد أصله حبب ككرم وقضو الرجل. ومثله شر الرجل من الشر: هو فعل لقولهم: شررت يا رجل وعليه جاء رجل شرير كرديء. وعلى ذلك قالوا أجد في الأمر وأسر الحديث واستعد لخلوة مما شرطناه.

فلو عارضك معارض بقولهم: اصبب الماء وامدد الحبل لقلت: ليست الحركتان لازمتين لأن الثانية لالتقاء الساكنين. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جلبب وشملل: وقعدد ورمدد قلت: هذا كله ملحق، فلذلك ظهر.

وكذلك إن أدخل على قولك هما يضربانني ويكرمانني ويدخلاننا قلت: سبب ظهوره أن الحرفين ليسا لازمين ألا ترى أن الثاني من الحرفين ليس ملازماً لقولك: هما يضربان زيداً ويكرمانك ونحو ذلك. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جُدَد وقِدَد وسُرُر قلت: هذا مخالف لمثال فَعُل وفَعِل.

فإن ألزمك نحو قول قعنب:

مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي
أني أجود لأقوام وإن ضننوا

وقول العجاج:

تشكو الوجى من أظلل وأظلل
.

وقول الآخر:

وإن رأيت الحجج الرواددا
قواصراً بالعمر أو مواددا

قلت: هذا ظهر على أصله منبهة على بقية بابه فتعلم به أن أصل الأصم أصمم وأصل صب صبِب وأصل الدواب والشواب الدوابب والشوابب على ما نقوله في نحو استصوب وبابه: إنما خرج على أصله إيذاناً بأصول ما كان مثله.

فإن قيل: فكيف اختصت هذه الألفاظ ونحوها بإخراجها على أصولها دون غيرها قيل: رجع الكلام بنا وبك إلى ما كنا فرغنا منه معك في باب استعمال بعض الأصول وإهمال بعضها فارجع إليه تره إن شاء الله.

وهذا الذي قدمناه آنفاً هو الذي عناه أبو بكر رحمه الله بقوله: قد تكون علة الشيء الواحد أشياء كثيرة فمتى عدم بعضها لم تكن علة. قال: ويكون أيضاً عكس هذا وهو أن تكون علة واحدة لأشياء كثيرة. أما الأول فإنه ما نحن بصدده من اجتماع أشياء تكون كلها علة وأماالثاني فمعظمه الجنوح إلى المستخف والعدول عن المستثقل. وهو أصل الأصول في هذا الحديث وقد مضى صدر منه. وسترى بإذن الله بقيته.

واعلم أن هذه المواضع التي ضممتها وعقدت العلة على مجموعها قد أرادها أصحابنا وعنوها وإن لم يكونوا جاءوا بها مقدمة محروسة فإنهم لها أرادوا، وإياها نووا، ألا ترى أنهم إذا استرسلوا في وصف العلة وتحديدها قالوا: إن علة شد ومد ونحو ذلك في الادغام إنما هي اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد. فإذا قيل لهم: فقد قالوا: قعدد وجلبب واسحنك قالوا: هذا ملحق فلذلك ظهر. وإذا ألزموا نحو اردد الباب واصبب الماء قالوا: الحركة الثانية عارضة لالتقاء الساكنين وليست بلازمة. وإذا أدخل عليهم نحو جدد وقدد وخلل قالوا: هذا مخالف لبناء الفعل. وإذا عورضوا بنحو طلل ومدد فقيل لهم: هذا على وزن الفعل قالوا: هو كذلك إلا أن الفتحة خفيفة والاسم أخف من الفعل فظهر التضعيف في الاسم لخفته ولم يظهر في الفعل - نحو قص ونص - لثقله.

وإذا قيل لهم: قالوا هما يضربانني وهم يحاجوننا قالوا: المثل الثاني ليس بلازم. وإذا أوجب عليهم نحو قوله "وإن ضننوا" ولححت عينه وضبب البلد وألل السقاء قالوا: خرج هذا شاذاً ليدل على أن أصل قرت عينه قررت وأن أصل حل الحبل ونحوه حلل. فهذا الذي يرجعون إليه فيما بعد متفرقاً قدمناه نحن مجتمعاً.

وكذلك كتب محمد بن الحسن رحمه الله إنما ينتزع أصحابنا منها العلل؛ لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه مستوفاة محررة. وهذا معروف من هذا الحديث عند الجماعة غير منكور.

الآن قد أريتك بما مثلته لك من الاحتياط في وضع العلة كيف حاله والطريق إلى استعمال مثله فيما عدا ما أوردته وأن تستشف ذلك الموضع فتنظر إلى آخر ما يلزمك إياه الخصم فتدخل الاستظهار بذكره في أضعاف ما تنصبه من علته لتسقط عنك فيما بعد الأسولة والإلزامات التي يروم مراسلك الاعتراض بها عليك والإفساد لما قررته من عقد علتك. ولا سبيل إلى ذكر جميع ذلك لطوله ومخافة الإملال ببعضه. وإنما تراد المثل ليكفي قليلها من كثير غيرها ولا قوة إلا بالله.