الخصائص/باب في الاستغناء بالشيء عن الشيء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الاستغناء بالشيء عن الشيء
باب في الاستغناء بالشيء عن الشيء

قال سيبويه: واعلم أن العرب قد تستغني بالشيء عن الشيء حتى يصير المستغنى عنه مسقطاً من كلامهم البتة. فمن ذلك استغناؤهم بترك عن "ودع" و"وذر". فأما قراءة بعضهم "ما ودَعك ربك وما قلى" وقول أبي الأسود "حتى وَدَعه" فلغة شاذة وقد تقدم القول عليها. ومن ذلك استغناؤهم بلمحة عن ملمحة وعليها كسرت ملامح وبشبه عن مشبه وعليه جاء مشابه وبليلة عن ليلاة وعليها جاءت ليال وعلى أن ابن الأعرابي قد أنشد: في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ راه يا ويحه من جمل ما أشقاه! وهذا شاذ لم يسمع إلا من هذه الجهة.

وكذلك استغنوا بذكر عن مذكار أو مذكير وعليه جاء مذاكير. وكذلك استغنوا ب "أينق" عن أن يأتوا به والعين في موضعها فألزموه القلب أو الإبدال فلم يقولوا "أنوق" إلا في شيء شاذ حكاه الفراء. وكذلك استغنوا بقسي عن قووس فلم يأت إلا مقلوباً. ومن ذلك استغناؤهم بجمع القلة عن جمع الكثرة نحو قولهم أرجل لم يأتوا فيه بجمع الكثرة. وكذلك شسوع: لم يأتوا فيه بجمع القلة. وكذلك أيام: لم يستعملوا فيه جمع الكثرة. فأما جيران فقد أتوا فيه بمثال القلة، أنشد الأصمعي: "مذمة الأجوار والحقوق"، وذكره أيضاً ابن الأعرابي فيما أحسب. فأما دراهم ودنانير ونحو ذلك -من الرباعي وما ألحق به- فلا سبيل فيه إلى جمع القلة. وكذلك اليد التي هي العضو قالوا فيها أيد البتة. فأما أياد فتكسير أيد لا تكسير يد وعلى أن "أياد" أكثر ما تستعمل في النعم لا في الأعضاء. وقد جاءت أيضاً فيها، أنشد أبو الخطاب:

ساءها ما تأملت في أياديـ
نا وإشناقُها إلى الأعناق

وأنشد أبو زيد:

أما واحداً فكفاك مثلي
فمن ليد تطاوحها الأيادي

ومن أبيات المعاني في ذلك قوله:

ومستامة تستام وهي رخيصة
تباع بساحات الأيادي وتمسح

"مستامة" يعني أرضاً تسوم فيها الإبل من السير لا من السوم الذي هو البيع و"تباع" أي تمد فيها الإبل أبواعها وأيديها و" تمسح" من المسح وهو القطع من قول الله تبارك وتعالى "فطفق مسحاً بالسوق والأعناق" وقال العجاج: وخطرت فيه الأيادي وخطر رايٌ إذا أورده الطعن صدر، وقال الراجز:

كأنه بالصحصحان الأنجل
قطنٌ سخامٌ بأيادي غُزَّل

ومن ذلك استغناؤهم بقولهم: ما أجود جوابه عن "هو أفعل منك" من الجواب. فأما قولهم: ما أشد سواده وبياضه وعوره وحوله فما لا بد منه. ومنه أيضاً استغناؤهم باشتد وافتقر عن قولهم: فقر وشد. وعليه جاء فقير. فأما شد فحكاها أبو زيد في المصادر ولم يحكها سيبويه. ومن ذلك استغناؤهم عن الأصل مجرداً من الزيادة بما استعمل منه حاملاً للزيادة وهو صدر صالح من اللغة. وذلك قولهم "حوشب" هذا لم يستعمل منه "حشب" عارية من الواو الزائدة ومثله "كوكب" ألا ترى أنك لا تعرف في الكلام "حشب" عارياً من الزيادة ولا "ككب" ومنه قولهم "دَودَرَّي" لأنا لا نعرف "ددر" ومثله كثير في ذوات الأربعة. وهو في الخمسة أكثر منه في الأربعة. فمن الأربعة فلنقس وصرنفح وسميدع وعميثل وسرومط وجحجبي وقسقبّ وقسحبّ وهرشفّ ومن ذوات الخمسة جعفليق وحنبريت ودردبيس وعضرفوط وقرطبوس وقرعبلانة وفنجليس. فأما عرطليل -وهو رباعي- فقد استعمل بغير زيادة قال أبو النجم: في سرطم هادٍ وعنقٍ عرطل وكذلك خنشليل، ألا ترى إلى قولهم: خنشلت المرأة والفرس إذا أسنت وكذلك عنتريس ألا ترى أنه من العترسة وهي الشدة.

فأما قِنفَخر فإن النون فيه زائدة. وقد حذفت -لعمري- في قولهم: امرأة قفاخرية إذا كانت فائقة في معناها غير أنك وإن كنت قد حذفت النون فإنك قد صرت إلى زيادة أخرى خلفتها وشغلت الأصل شغلها وهي الألف وياء الإضافة. فأما تاء التأنيث فغير معتدة.

وأما حيزبون فرباعي لزمته زيادة الواو. فإن قلت: فهلا جعلته ثلاثياً من لفظ الحزب قيل يفسد هذا أن النون في موضع زاي عيضموز فيجب لذلك أن تكون أصلاً كجيم "خيسفوج" وأما "عريقصان" فتناوبته زيادتان وهما الياء في عريقصان والنون في "عرنقصان " كلاهما يقال بالنون والياء. فأما "عِزويت" فمن لفظ "عزوت" لأنه "فِعليت" والواو لام. وأما "قنديل" فكذلك أيضاً ألا ترى إلى قول العجلي: رُكب في ضخم الذفاري قندل وأما عَلَندى فتناهبته الزوائد. وذلك أنهم قد قالوا فيه: عِلوَدٌ وعُلادى وعُلَندًى وعَلَندًى ألا ولزوم الزيادة لما لزمته من الأصول يضعف تحقير الترخيم لأن فيه حذفاً للزوائد. وبإزاء ذلك ما حذف من الأصول كلام يد ودم وأب وأخ وعين سهٍ ومذ وفاء عدة وزنة وناس والله في أقوى قولي سيبويه.

فإذا جاز حذف الأصول فيما أرينا وغيره كان حذف الزوائد التي ليست لها حرمة الأصول أحجى وأحرى. وأجاز أبو الحسن أظننت زيداً عمراً عاقلاً ونحو ذلك وامتنع منه أبو عثمان وقال: استغنت العرب عن ذلك بقولهم: جعلته يظنه عاقلاً. ومن ذلك استغناؤهم بواحد عن اثنٍ وباثنين عن واحدين وبستة عن ثلاثتين وبعشرة عن خمستين وبعشرين عن عشرتين ونحو ذلك.