الخصائص/باب اختلاف اللغات وكلها حجة
اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال ما يقبلها القياس ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله. وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسابها. فأما رد إحداهما بالأخرى فلا. أولا ترى إلى قول النبي ﷺ: ( نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف ). هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين. فأما أن تقل إحداهما جدا وتكثر الأخرى جدا فإنك تأخذ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسا ألا تراك لا تقول: مررت بك ولا المال لك قياساً على قول قضاعة: المال له ومررت به ولا تقول أكرمتكش ولا أكرمتكس قياساً على لغة من قال: مررت بكش وعجبت منكس. حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس وعجرفية ضبة وتلتلة بهراء. فأما عنعنة تميم فإن تميماً تقول في موضع أن: عن تقول: عن عبد الله قائم وأنشد ذو الرمة عبد الملك: أعن ترسمت من خرقاء منزلة قال الأصمعي: سمعت ابن هرمة ينشد هارون الرشيد: أعن تغنت على ساق مطوقة ورقاء تدعو هديلا فوق أعواد وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون: تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون بكسر أوائل الحروف. وأما كشكشة ربيعة فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث: إنكش ورأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقف فإذا وصلت أسقطت الشين. وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضاً: أعطيتكس ومنكس وعنكس. وهذا في الوقف دون الوصل. فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها إلا أن إنسانا لو استعملها لم يكن مخطئا لكلام العرب لكنه كان يكون مخطئاً لأجود اللغتين. فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه غير منعي عليه. وكذلك إن قال: يقول علي قياس من لغته كذا كذا ويقول على مذهب من قال كذا كذا. وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء به خيراً منه.