التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد/المجلد الثامن/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



المجلد الثامن التمهيد[عدل]

ابن شهاب عن عروة بن الزبير بن العوام خمسة عشر حديثا منها واحد مرسل[عدل]

هو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي قد ذكرنا نسب أبيه في الصحابة أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق يكنى أبا عبد الله وكان أحد العشرة الفقهاء من تابعي أهل المدينة وهم سعيد وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وأبو بكر وعبيد الله وسليمان وخارجة وقبيصة

وكان عروة أحفظهم كلهم وأغزرهم حديثا روى عنه أنه قال أدركت حصار عثمان بن عفان وكان يوم الجمل ابن ثلاث عشرة سنة وولد سنة ست وعشرين من الهجرة قال مصعب الزبيري بشر عبد الله بن الزبير بأخيه عروة بن الزبير مقدمه من أفريقية وذلك سنة ست وعشرين من الهجرة واستصغر حين خرجوا يوم الجمل فرد من الطريق هو وأبو بكر بن عبد الرحمن ومات عروة سنة أربع أو خمس وتسعين وهو ابن تسع وستين سنة وقيل بل مات عروة سنة إحدى ومائة.

حكى هذه الجملة الواقدي ومصعب الزبيري ويحيى بن معين ذكر الحلواني قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال استصغرنا يوم الجمل فرددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال وحدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال وجدت عروة بن الزبير بحرا لا تكدره الدلاء قال وحدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال قلت ليحيى بن سعيد أن ابن شهاب قال وجدت عروة بحرا لا تكدره الدلاء فقال يحيى أما أعلمهم بالسنن وأقضية عمر بن الخطاب فابن المسيب وأما أكثرهم حديثا فعروة بن الزبير قال وحدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال تزوج عروة فأرادوه على أن يفطر فأبى وكان يسرد الصوم فأرادوه على الخلوق فأبى فلما نام خلقوه وهو نائم قال أيوب وكان عروة إذا دخل أرضه قال ما شاء الله لا قوة إلا بالله

وروينا أن عروة قدم على الوليد بن عبد الملك في الشام فأصابته الأكلة في رجله فقطعها وهو عند الوليد ولم يتحرك ولا نطق ولم يشعر الوليد بها حين قطعت حتى كويت فوجد رائحة الكي وبقي بعد ذلك ثماني سنين واحتفر بالمدينة بئرا يقال لها بئر عروة.

ليس بالمدينة بئر أعذب منها وذكر عباس عن ابن معين قال حدثني الأصمعي قال أخبرني مالك عن الزهري قال سألت ابن صعير عن شيء من الفقه وكنت أتعلم منه النسب فقال ألك بذا حاجة عليك بهذا الشيخ وأشار إلى سعيد بن المسيب فجالسته سبع سنين لا أحسب أن عالما غيره ثم تحولت إلى عروة بن الزبير ففجرت به بحرا وروينا عن ابن شهاب أيضا أنه قال كنت أطلب العلم من ثلاثة سعيد بن المسيب وكان أفقه الناس وعروة بن الزبير وكان بحرا لا تكدره الدلاء وكنت لا تشاء أن تجد عند عبيد الله طريقة من علم لا تجدها عند غيره إلا وجدتها

وذكر ابن بكير عن الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة قال قلت لعراك بن مالك من أفقه أهل المدينة فقال أما أفقههم فقها وأعلمهم بقضايا رسول الله وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان وأعلمهم بما مضى عليه الناس فسعيد بن المسيب وأما أغزرهم حديثا فعروة ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بحرا إلا فجرته

وحدثني خلف بن القاسم قال حدثنا ابن المفسر قال حدثنا أحمد بن علي قال حدثنا القواريري قال حدثنا يوسف بن الماجشون قال حدثنا ابن شهاب قال كنت إذا حدثني عروة ثم حدثتني عمرة زاد ذلك عندي صدقا حديث عروة بحديث عمرة فلما تبحرتهما إذا عروة بحر لا ينزف

وحدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا ابن المفسر قال حدثنا أحمد بن علي قال حدثنا أحمد بن عيسى قال حدثنا ابن وهب قال حدثني يحيى بن أيوب عن هشام بن عروة قال كان أبي يقول سلوني إذا خلوت وكان يعجب من حفظي والله ما تعلمنا منه جزأ من ألفي جزء من حديثه

قال هشام وما سمعت أحدا من أهل الأهواء يذكر أبي إلا بخير

قال أبو عمر: خرج عروة من المدينة وترك سكناها فعوتب في ذلك فذكر ما ذكرناه عنه في كتاب بيان العلم

قال الواقدي توفي في أمواله بمجاج بناحية الفرع ودفن هناك وقال غيره توفي بقصره بالعقيق وقال عبد الله بن نمير توفي علي بن الحسين وسعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير سنة أربع وتسعين

قال الواقدي فكان يقال سنة الفقهاء وكان عالما عابدا يسرد الصوم حافظا حريصا على نشر العلم.

حديث أول لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب "أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالكوفة فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله ثم صلى فصلى رسول الله ثم صلى فصلى رسول الله ثم صلى فصلى رسول الله ثم صلى فصلى رسول الله ثم قال بهذا أمرت فقال عمر بن عبد العزيز أعلم ما تحدث به يا عروة أو أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله وقت الصلاة قال عروة كذلك كان بشير بن أبي مسعود الأنصاري يحدث عن أبيه قال عروة ولقد حدثتني عائشة زوج النبي أن رسول الله كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر"

هكذا روى هذا الحديث عن مالك جماعة الرواة عنه فيما بلغني وظاهر مساقه في رواية مالك يدل على الانقطاع لقوله أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فدخل عليه عروة ولم يذكر فيه سماعا لابن شهاب من عروة ولا سماعا لعروة من بشير بن أبي مسعود وهذه اللفظة أعني أن عند جماعة من أهل العلم بالحديث محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع واللقاء ومنهم من لا يلتفت إليها ويحمل الأمر على المعروف من مجالسة بعضهم بعضا ومشاهدة بعضهم لبعض وأخذهم بعضهم عن بعض فإن كان ذلك معروفا لم يسأل عن هذه اللفظة وكان الحديث عنده على الاتصال وهذا يشبه أن يكون مذهب مالك لأنه في موطئه لا يفرق بين شيء من ذلك

وهذا الحديث متصل عند أهل العلم مسند صحيح لوجوه منها أن مجالسة بعض المذكورين فيه لبعض معلومة مشهورة ومنها أن هذه القصة قد صح شهود ابن شهاب لما جرى فيها بين عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير بالمدينة وذلك في أيام إمارة عمر عليها لعبد الملك وابنه الوليد وهذا محفوظ من رواية الثقات لهذا الحديث عن ابن شهاب ونحن نذكر الروايات في ذلك عن ابن شهاب لنبين لك ما ذكرنا ثم نذكر الآثار في إمامة جبريل ليستدل على المراد من معنى الحديث فإن العلم يفسر بعضه بعضا ويفتح بعضه بعضا ثم نقصد للقول فيما يوجبه الحديث على ذلك من المعاني وبالله العون لا شريك له

توفي عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم رحمه الله سنة إحدى ومائة في رجب لخمس ليال بقين منه بحمص ودفن بدير سمعان من حمص وهو يوم مات ابن تسع وثلاثين سنة وثلاثة أشهر وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام

وممن ذكر مشاهدة ابن شهاب للقصة عند عمر بن عبد العزيز مع عروة بن الزبير في هذا الحديث من أصحاب ابن شهاب معمر والليث بن سعد وشعيب بن أبي حمزة وابن جريج.

فأما رواية الليث فحدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن زبان قال حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث بن سعد عن ابن شهاب أنه كان قاعدا على منابر عمر بن عبد العزيز في إمارته على المدينة ومعه عروة بن الزبير فأخر عمر العصر شيئا فقال له عروة أما أن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول الله فقال له عمر أعلم ما تقول يا عروة فقال سمعت بشير بن أبي مسعود يقول سمعت أبا مسعود يقول سمعت رسول الله يقول "نزل جبريل فأمني فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات"

وأما حديث معمر وابن جريج عن ابن شهاب في ذلك فحدثني خلف" بن سعيد قراءة مني عليه قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن خالد بن يزيد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال كنا مع عمر بن عبد العزيز فأخر صلاة العصر مرة فقال له عروة بن الزبير حدثني بشير بن أبي مسعود الأنصاري أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة مرة يعني العصر فقال له أبو مسعود أما والله يا مغيرة لقد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله فصلى الناس معه ثم نزل فصلى فصلى رسول الله وصلى الناس معه حتى عد خمس صلوات فقال له عمر انظر ما تقول يا عروة أو أن جبريل هو يبين وقت الصلاة فقال له عروة كذلك حدثني بشير بن أبي مسعود قال فما زال عمر يعتلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا.

قال عبد الرزاق وأخبرنا ابن جريج قال حدثني ابن شهاب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل عروة بن الزبير "فقال عروة بن الزبير" مسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر وهو على الكوفة فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال له ما هذا يا مغيرة أما والله لقد علمت لقد نزل جبريل فصلى فصلى رسول الله فصلى الناس معه ثم نزل فصلى فصلى رسول الله وصلى الناس معه حتى عد خمس صلوات فقال له عمر انظر ما تقول يا عروة أو أن جبريل هو أقام وقت الصلاة فقال عروة كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه

وبهذا الإسناد عندنا مصنف عبد الرزاق ولنا والحمد لله فيه إسنادان غير هذا مذكوران في موضعهما فقد بان بما ذكرنا من رواية الثقات عن ابن شهاب لهذا الحديث اتصاله وسماع ابن شهاب له من عروة وسماع عروة من بشير وبان بذلك أيضا أن الصلاة التي أخرها عمر هي صلاة العصر وأن الصلاة التي أخرها المغيرة هي تلك أيضا وبان بما ذكرنا أيضا أن جبريل صلى برسول الله الخمس صلوات في أوقاتهن وليس في شيء من معنى حديث ابن شهاب هذا ما يدل على أن جبريل صلى برسول الله مرتين كل صلاة في وقتين

وظاهر حديث ابن شهاب هذا يدلك على أن ذلك إنما كان مرة واحدة لا مرتين وقد روى من غير ما وجه في إمامة جبريل للنبي أنه صلى به مرتين كل صلاة من الصلوات الخمس في وقتين وسنذكر الآثار والرواية في ذلك لنبين ما ذكرنا إن شاء الله.

ورواية ابن عيينة لهذا الحديث عن ابن شهاب بمثل معنى حديث الليث ومن ذكرنا معه في ذلك وفي حديث معمر وابن جريج أن الناس صلوا خلف رسول الله حينئذ وقد روى ذلك من غير حديثهما فالله أعلم.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري قال أخر عمر بن عبد العزيز الصلاة يوما فقال له عروة بن الزبير أن رسول الله قال: "نزل جبريل فأمني فصليت معه ثم نزل فأمني فصليت معه ثم نزل فأمني فصليت معه ثم نزل فأمني فصليت معه ثم نزل فأمني فصليت معه حتى عد الصلوات الخمس" قال له عمر بن عبد العزيز اتق الله يا عروة وانظر ما تقول فقال عروة أخبرنيه بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن رسول الله فهذا يوضح ما ذكرنا من أنه إنما صلى به الصلوات الخمس مرة واحدة وهو ظاهر الحديث إلا أن في رواية ابن أبي ذئب وأسامة بن زيد الليثي عن ابن شهاب في هذا الحديث ما يدل على أنه صلى به مرتين في يومين على نحو ما ذكر غير ابن شهاب في حديث إمامة جبريل

فأما رواية ابن أبي ذئب له فإن ابن أبي ذئب ذكره في موطئه عن ابن شهاب أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عمر بن عبد العزيز عن ابن أبي مسعود الأنصاري أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة فدخل عليه أبو مسعود فقال ألم تعلم أن جبريل نزل على محمد فصلى وصلى وصلى وصلى وصلى ثم صلى ثم صلى ثم صلى ثم صلى ثم صلى ثم قال هكذا أمرت

أخبرنا بموطأ ابن أبي ذئب إجازة أبو عمر يوسف بن محمد بن عمروس الاستجي قال حدثنا أبو الطاهر محمد بن جعفر بن أحمد بن إبراهيم السعيدي قال حدثنا أبو زكرياء! يحيى بن أيوب بن بادي العلاف قال حدثنا أحمد بن صالح المصري قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال حدثني محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب فذكره

وأما حديث أسامة بن زيد عن ابن شهاب في ذلك.

فأخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بالإجماع المرادي قال حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز كان قاعدا على المنبر فأخر العصر شيئا فقال له عروة بن الزبير

أما أن جبريل قد أخبر محمدا بوقت الصلاة فقال له عمر أعلم ما تقول فقال عروة سمعت بشير بن أبي مسعود يقول سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول سمعت رسول الله يقول "نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه يحسب بأصبعه خمس صلوات" فرأيت رسول الله صلى الظهر حين تزول الشمس وربما أخرها حين يشتد الحر ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة ينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس ويصلي المغرب حين تسقط الشمس ويصلي العشاء حين يسود الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس وصلى الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد بعد إلى أن يسفر

قال أبو داود روى هذا الحديث عن الزهري معمر ومالك وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وغيرهم لم يذكروا الوقت الذي صلى فيه لم يفسروه وكذلك أيضا رواه هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه إلا أن حبيبا لم يذكر بشيرا

قال أبو عمر: هذا كلام أبي داود ولم يسق في كتابه رواية معمر ولا من ذكر معه عن ابن شهاب لهذا الحديث وإنما ذكر رواية أسامة بن زيد هذه عن ابن شهاب وحدها من رواية ابن وهب ثم أردفها بما ذكرنا من كلامه وصدق فيما حكى إلا أن حديث أسامة ليس فيه من البيان ما في حديث ابن أبي ذئب من تكرير الصلوات الخمس مرتين وكذلك رواية معمر ومالك والليث ومن تابعهم ظاهرها مرة واحدة وليس فيها ما يقطع به على أن ذلك كذلك وقد ذكرنا رواية معمر ومالك والليث وغيرهم في كتابنا هذا ليقف الناظر فيه على سياقهم للحديث واختلاف ألفاظهم فيه فليس الخبر كالمعاينة وقد روى الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب هذا الحديث بمثل رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد سواء

وقال محمد بن يحيى الذهلي في رواية أبي بكر بن حزم عن عروة بن الزبير ما يقوي رواية أسامة لأن رواية أبي بكر بن حزم شبيهة برواية أسامة أنه صلى الوقتين وإن كان لم يسنده عنه إلا أيوب بن عتبة فقد روى معناه عنه مرسلا يحيى بن سعيد وغيره من الثقات

قال أبو عمر: قد روى هذا الحديث جماعة عن عروة بن الزبير منهم هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهم

فأما رواية هشام بن عروة عن أبيه لهذا الحديث فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا شريح بن النعمان قال حدثنا فليح عن هشام بن عروة عن أبيه قال أخر عمر بن عبد العزيز الصلاة يوما "فدخلت عليه فقلت أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما فدخل عليه أبو مسعود فذكر الحديث" وقال فيه كذلك سمعت بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه قال ولقد حدثتني عائشة "أن رسول الله كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم تظهر" قال أحمد بن زهير وحدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن المغيرة بن شعبة كان يؤخر الصلاة فقال له رجل من الأنصار أما سمعت رسول الله يقول "قال جبريل صل صلاة كذا في ساعة كذا حتى عد الصلوات" قال بلى قال فاشهد أنا كنا نصلي العصر مع النبي والشمس بيضاء نقية ثم نأتي بني عمرو بن عوف وإنها لمرتفعة وهي على رأس ثلثي فرسخ من المدينة

وأما رواية حبيب بن أبي مرزوق فحدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثنا جعفر قال حدثني حبيب بن أبي مرزوق عن عروة بن الزبير قال حدثني أبو مسعود "أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله ثم نزل فصلى فصلى رسول الله ثم نزل فصلى فصلى رسول الله ثم نزل فصلى فصلى رسول الله حتى أنصفا خمسا" فقال له عمر بن عبد العزيز انظر يا عروة ما تقول ان جبريل هو الذي وقت مواقيت الصلوات قال كذلك حدثني أبو مسعود فبحث عمر عن ذلك حتى وجد ثبته فما زال عمر عنده علامات الساعات ينظر فيها حتى قبض رحمه الله

قال أبو عمر: قد أحسن حبيب بن أبي مرزوق في سياقة هذا الحديث على ما ساقه أصحاب بن شهاب في الخمس صلوات لوقت واحد مرة واحدة إلا أنه قال فيه عن عروة حدثني أبو مسعود والحفاظ يقولون عن عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه وبشير هذا ولد على عهد رسول الله وأبوه أبو مسعود الأنصاري اسمه عقبة بن عمرو ويعرف بالبدري لأنه كان يسكن بدرا واختلف في شهوده بدرا وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا.

وأما رواية أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فمثل رواية ابن أبي ذئب وأسامة بن زيد عن ابن شهاب في أنه صلى الصلوات الخمس مرتين مرتين لوقتين. وحديثه أبين في ذلك وأوضح وفيه ما يعارض قول حبيب بن أبي مرزوق عن عروة عن أبي مسعود حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثني ابراهيم بن جامع السكري قالا حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا أيوب بن عتبة قال حدثنا أبو بكر بن حزم أن عروة بن الزبير كان يحدث عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ أمير المدينة في زمن الحجاج والوليد بن عبد الملك وكان ذلك زمانا يؤخرون فيه الصلاة فحدث عروة عمر قال حدثني أبو مسعود الأنصاري أو بشير بن أبي مسعود قال كلاهما قد صحب النبي أن جبريل جاء إلى النبي حين دلكت الشمس قال أيوب فقلت وما دلوكها قال حين زالت قال فقال.

يا محمد صل الظهر قال فصلى قال ثم جاءه حين كان ظل كل شيء مثله فقال يا محمد صل العصر قال فصلى قال ثم أتاه حين غربت الشمس فقال يا محمد صل المغرب قال فصلى قال ثم جاءه حين غاب الشفق فقال يا محمد صل العشاء قال فصلى ثم أتاه حين انشق الفجر فقال يا محمد صل الصبح قال فصلى ثم أتاه الغد حين كان ظل كل شيء مثله فقال يا محمد صل الظهر قال فصلى قال ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثليه فقال يا محمد صل العصر قال فصلى قال ثم أتاه حين غربت الشمس فقال يا محمد صل المغرب قال فصلى قال ثم أتاه حين ذهب ساعة من الليل فقال يا محمد صل العشاء قال فصلى قال ثم أتاه حين أضاء الفجر وأسفر فقال يا محمد صل الصبح قال فصلى قال ثم قال ما بين هذين وقت يعني أمس واليوم.

قال عمر لعروة أجبريل أتاه قال نعم.

ففي هذا الحديث وفي هذه الرواية عن عروة بيان واضح أن صلاة جبريل بالنبي في

حين تعليمه له الصلاة في أول وقت فرضها كانت في يومين لوقتين وقتين لكل صلاة حاشا المغرب فلها وقت واحد وكذلك رواه معمر عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن جبريل نزل فصلى فذكر مثله سواء إلا أنه مرسل وكذلك رواه الثوري عن عبد الله بن أبي بكر ويحيى بن سعيد جميعا عن أبي بكر بن حزم مثله سواء أن جبريل صلى الصلوات الخمس بالنبي مرتين في يومين لوقتين.

ومراسيل مثل هؤلاء عند مالك حجة وهو خلاف ظاهر حديث الموطأ وحديث هؤلاء بالصواب أولى لأنهم زادوا وأوضحوا وفسروا ما أجمله غيرهم وأهمله

ويشهد لصحة ما جاءوا به رواية ابن أبي ذئب ومن تابعه عن ابن شهاب وعامة الأحاديث في إمامة جبريل على ذلك جاءت مفسرة لوقتين ومعلوم أن حديث أبي مسعود من رواية ابن شهاب وغيره في إمامة جبريل ورد فرواية من زاد وتم وفسر أولى من رواية من أجمل وقصر

وقد رويت إمامة جبريل بالنبي من حديث ابن عباس وحديث جابر وأبي سعيد الخدري على نحو ما ذكرنا

فأما حديث ابن عباس فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا سفيان الثوري عن عبد الرحمن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن حكيم بن عباد عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله "أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس على مثل قدر الشراك ثم صلى بي العصر حين كان كل شيء قدر ظله ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق ثم صلى بي الفجر من الغد حين حرم الطعام والشراب على الصائم ثم صلى بي الظهر من الغد حين كان كل شيء قدر ظله ثم صلى بي العصر حين كان كل شيء مثلي ظله ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم لوقت واحد ثم صلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل ثم صلى بي الفجر" قال أبو نعيم لا أدري ما قال في الفجر " ثم التفت إلي فقال يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك"

قال أبو عمر: لا يوجد هذا اللفظ ووقت الأنبياء قبلك إلا في هذا الإسناد والله أعلم.

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة قال حدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس عن النبي ثم ذكر مثله وقال في آخره ثم صلى الفجر حين أسفر ثم التفت إلي فقال يا محمد وذكر مثله

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن حكيم بن حكيم عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله "أمني جبريل عند البيت مرتين" فذكر الحديث وقال في آخره "ثم صلى الصبح حين أسفر جدا ثم ذكر مثله وزاد الوقت فيما بين هذين الوقتين"

قال أبو عمر: تكلم بعض الناس في إسناد حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له وهو والله كلهم معروفو النسب مشهورون بالعلم وقد خرجه أبو داود وغيره وذكر عبد الرزاق عن الثوري وابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده مثل رواية وكيع وأبي نعيم وذكره عبد الرزاق أيضا عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس مثله

وأما حديث جابر فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن الحجاج.

وحدثنا محمد بن إبرهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا سويد بن نصر قالا حدثنا ابن المبارك قال أخبرني حسين بن علي بن حسين قال أخبرني وهب بن كيسان قال حدثنا جابر بن عبد الله قال "جاء جبريل إلى النبي حين مالت الشمس فقال قم يا محمد فصل الظهر فصلى الظهر حين مالت الشمس ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه للعصر فقال يا محمد قم فصل العصر فصلاها فمكث حتى إذا غابت الشمس جاء فقال قم فصل المغرب فقام فصلاها حين غابت الشمس ثم مكث حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال قم فصل العشاء فقام فصلاها ثم جاءه حين سطع الفجر بالصبح فقال يا محمد قم فصل الصبح فقام فصلى الصبح ثم جاءه من الغد حين كان فيء الرجل مثله فقال يا محمد قم فصل الظهر فصلى ثم جاءه حين كان فيء الرجل مثليه فقال يا محمد قم فصل العصر ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتا واحدا لم يغب عنه فقال قم فصل المغرب ثم جاءه حين ذهب ثلث الليل فقال قم فصل العشاء ثم جاءه للصبح حين أبيض جدا فقال قم فصل فصلى ثم قال له الصلاة ما بين هذين الوقتين" وقال سويد بن نصر في حديثه ما بين هذين وقت كله.

وحدثنا محمد بن إبرهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب وحدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا يوسف بن واضح قال حدثنا قدامة بن شهاب عن برد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله "أن جبريل أتى النبي يعلمه مواقيت الصلوات فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله فصلى الظهر حين زالت الشمس وأتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله فصلى العصر ثم أتاه حين وجبت الشمس فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله فصلى المغرب ثم أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله فصلى العشاء ثم أتاه حين انشق الفجر فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله فصلى الغداة ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثل ما صنع بالأمس صلى الظهر ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب فنمنا ثم قمنا ثم نمنا ثم قمنا فأتاه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثم قال ما بين الصلاتين وقت".

ورواه أبو الرداد عن برد عن عطاء عن جابر مثله سواء إلا أنه قال في اليوم الثاني في المغرب ثم جاءه حين وجبت الشمس لوقت واحد فذكره قال ثم جاء نحو ثلث الليل للعشاء فذكره قال ثم جاء حين أضاء الصبح ولم يقل والنجوم بادية مشتبكة

أخبرناه سعيد بن عثمان النحوي قال حدثنا أحمد بن دحيم بن خليل قال حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال حدثنا إسحاق بن إبرهيم الصواف قال حدثنا أبو الرداد عمرو بن بشر الحارثي فذكره بإسناده

وأما حديث أبي سعيد الخدري فحدثناه عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن مسرور قال حدثنا عيسى بن مسكين وحدثنا قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعيد قال حدثنا أحمد بن عمرو قالا حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا سعيد بن الحكم قال حدثنا ابن لهيعة قال حدثني بكير بن الأشج عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الساعدي أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله "أمني جبريل في الصلاة فصلى الظهر حين زاغت الشمس وصلى العصر حين كانت الشمس قامة وصلى المغرب حين غابت الشمس وصلى العشاء حين غاب الشفق وصلى الفجر حين طلع الفجر ثم جاء يوما ثانيا فصلى الظهر وظل كل إنسان مثله وصلى العصر والفيء قامتان وصلى المغرب حين غربت الشمس في وقت واحد وصلى العشاء ثلث الليل وصلى الصبح حين كادت الشمس أن تطلع ثم قال الصلاة فيما بين هذين الوقتين"

فهذا ما في إمامة جبريل النبي عليهما السلام من صحيح الآثار ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء ولكنهم اختلفوا في هيأتها حين فرضت فروى عن عائشة أنها فرضت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا وأقرت صلاة السفر على ركعتين وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق

وروي عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وقال نافع بن جبير وكان أحد علماء قريش بالنسب وأيام العرب والفقه وهو راوية حديث ابن عباس في إمامة جبريل.

أنها فرضت في أول ما فرضت أربعا إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثا والصبح ركعتين وكذلك قال الحسن بن أبي الحسن البصري وهو قول ابن جريج وروى عن النبي من حديث القشيري وغيره ما يوافق ذلك ولم يختلفوا في أن جبريل هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال فعلم النبي الصلاة ومواقيتها وهيأتها وقال أبو إسحاق الحربي أول ما فرضت بمكة فركعتان في أول النهار وركعتان في آخره وذكر حديث عائشة قالت "فرض رسول الله الصلاة ركعتين ثم زاد فيها في الحضر" هكذا حدث به الحربي عن أحمد بن الحجاج عن ابن المبارك عن ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت "فرض رسول الله الصلاة ركعتين ركعتين" الحديث وليس في حديث عائشة هذا دليل على صحة ما ذهب إليه من قال إن الصلاة فرضت ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره وليس يوجد هذا في أثر صحيح بل في حديث عائشة دليل على أن الصلاة التي فرضت ركعتين هي الصلوات الخمس ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر لأن الإشارة بالألف واللام إلى الصلاة

في حديث عائشة هذا إشارة إلى الصلاة المعهودة وهذا هو الظاهر المعروف في الكلام.

وقد أجمع العلماء أن الصلوات الخمس إنما فرضت في الإسراء والظاهر من حديث عائشة أنها أرادت تلك الصلاة والله أعلم.

حدثنا محمد بن إبرهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن هاشم البعلبكي قال أخبرنا الوليد بن مسلم قال أخبرني أبو عمر ويعني الأوزاعي أنه سأل الزهري عن صلاة رسول الله بمكة قبل الهجرة إلى المدينة فقال أخبرني عروة عن عائشة قالت "فرض الله الصلاة على رسوله أول ما فرضها ركعتين ركعتين ثم أتمت في الحضر أربعا وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى".

فهذا ومثله يدل على أنها الصلاة المعهودة وهي الخمس المفترضة في الإسراء لا صلاتان ومن ادعى غير ذلك كان عليه الدليل من كتاب أو سنة ولا سبيل له إليه.

وقال جماعة من أهل العلم أن النبي لم تكن عليه صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أمر به من صلاة الليل على نحو قيام رمضان من غير توقيت ولا تحديد لا لركعات معلومات ولا لوقت محصور وكان يقوم أدنى من ثلثي الليل و نصفه وثلثه وقام المسلمون معه نحوا من حول حتى شق عليهم ذلك فأنزل الله عز وجل التوبة عليهم والتخفيف في ذلك ونسخه وحطه بقوله {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فنسخ آخر السورة أولها فضلا فلم تبق في الصلاة فريضة إلا لخمس ألا تروا إلى حديث طلحة بن عبيد الله في الأعرابي النجدي إذ سأل رسول الله عما عليه من الصلاة؟ فقال له "الصلوات الخمس" فقال هل علي غيرها؟ قال "لا" .

وذكر وكيع عن مسعر عن سماك الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول لما أنزلت {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزلت آخرها وكان بين آخرها وأولها حول

وعن عائشة وقالت فجعل قيام الليل تطوعا بعد فريضة.

وعن الحسن مثله قال أنزلت الرخصة بعد حول

قال أبو عمر: روى مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة بن مصرف عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال لما أسرى برسول الله انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج به من الأرواح فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال وأعطي رسول الله عندها ثلاثا الصلوات الخمس وخواتم سورة البقرة وغفر لمن مات من أمته لا يشرك به شيئا.

وأما حديث الإسراء فحدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا سعيد بن السكن قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره قال أخبرنا عبد الله بن يونس قال أخبرنا بقي بن مخلد قالوا جميعا حدثنا هدبة بن خالد قال حدثنا هشام قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال البخاري وقال لي خليفة حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد وهشام قالا حدثنا قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة وقال بقي حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة والألفاظ متقاربة والمعنى واحد أن نبي الله حدثهم عن ليلة أسري به قال "بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر عند البيت مضطجعا بين النائم واليقظان إذ أتى آت فسمعت قائلا يقول أحد الثلاثة بين الرجلين فأخذني فشق من نحري إلى مراق بطني واستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا فغسل قلبي وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار وهو البراق فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتيت سماء الدنيا فاستفتح وساقوا الحديث بتمامه إلى قوله ثم فرضت علي الصلاة خمسون صلاة كل يوم فأقبلت فمررت على موسى فقال بم أمرت قلت أمرت بخمسين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني قد أخبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فرجعت فوضع عني عشرا فجعلها أربعين ثم مثله ثم ثلاثين ثم مثله فجعلها عشرين ثم مثله فجعلها عشرا فأتيت موسى فقال مثله فجعلها خمسا فأتيت موسى فقال ما صنعت قلت جعلها خمسا فقال مثله فقلت سلمت وساق بقي بن مخلد الألفاظ بتمامها وترداد المسألة في ذلك ولم يقل ثم مثله ثم مثله ثم قال هاهنا قد سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضى وأسلم فلما جاوزت نادى مناد" .

وقال البخاري "فنودي ثم اتفقا أن قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" .

ورواه الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس عن أبي ذر عن النبي مثله وقتادة أحسن سياقة لهذا الحديث.

ورواه أبو ضمرة أنس بن عياض عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن أنس عن أبي وليس بشيء وإنما هو عن أبي والله أعلم.

قال أبو عمر: احتج من زعم أن جبريل صلى بالنبي في اليوم الذي يلي ليلة الإسراء مرة واحدة الصلوات كلها لا مرتين على ظاهر حديث مالك في ذلك بما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا هدبة بن خالد عن همام عن قتادة قال فحدثنا الحسن أنه ذكر له أنه لما كان عند صلاة الظهر نودي أن الصلاة جامعة ففزع الناس فاجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم الظهر أربع ركعات يؤم جبريل محمدا ويؤم محمد الناس يقتدي الناس بمحمد لا يسمعهم فيهن قراءة ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس فلما سقطت الشمس نودي أن الصلاة جامعة ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم العصر أربع ركعات لا يسمعهم فيهن قراءة وهي أخف يؤم جبريل محمدا ويؤم محمد الناس يقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس فلما غابت الشمس نودي الصلاة جامعة ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم ثلاث ركعات أسمعهم القراءة في ركعتين وسبح في الثالثة يعني به قام ولم يظهر القراءة يؤم جبريل محمدا ويؤم محمد الناس ويقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس فلما بدت النجوم نودي أن الصلاة جامعة ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم فصلى أربع ركعات أسمعهم القراءة في ركعتين وسبح في الاخريين يؤم جبريل محمدا ويؤم محمد الناس يقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس ثم رقدوا ولا يدرون أيزادون أم لا حتى إذا طلع الفجر نودي أن الصلاة جامعة ففزع الناس واجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم ركعتين أسمعهم فيها القراءة يؤم جبريل محمدا ويؤم محمد الناس يقتدي محمد بجبريل ويقتدي الناس بمحمد ثم سلم جبريل على محمد وسلم محمد على الناس صلى الله على جبريل ومحمد وسلم تسليما كثيرا.

ففي هذا الخبر أن جبريل لم يصل الصلوات الخمس بالنبي إلا مرة واحدة وهو وإن كان مرسلا فإنه حديث حسن مهذب.

واحتجوا أيضا بما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير وعبيد بن عبد الواحد قالا حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق عن عتبة بن مسلم مولى تيم عن نافع بن جبير قال وكان نافع كثير الرواية عن ابن عباس قال لما فرضت الصلاة وأصبح النبي وذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال "لما أصبح النبي من الليلة التي أسرى به فيها لم يرعه إلا جبريل ينزل حين زاغت الشمس ولذلك سميت الأولى فأمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى جبريل بالنبي وصلى النبي بالناس طول الركعتين الأوليين ثم قصر الباقيتين سلم جبريل على النبي وسلم النبي على الناس ثم نزل في العصر على مثل ذلك ففعلوا كما فعلوا في الظهر ثم نزل في أول الليل فصيح الصلاة جامعة فصلى جبريل بالنبي عليه السلام وصلى النبي عليه السلام بالناس طول في الأوليين وقصر في الثالثة ثم سلم جبريل على النبي وسلم النبي على الناس ثم لما ذهب ثلث الليل نزل فصيح الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى جبريل بالنبي وصلى النبى بالناس فقرأ في الأوليين فطول وجهر وقصر في الثانيتين ثم سلم جبريل على النبي عليهما السلام وسلم النبي عليه السلام على الناس فلما طلع الفجر صيح الصلاة جامعة فصلى جبريل بالنبي وصلى النبى بالناس فقرأ فيهما فجهر وطول ورفع صوته وسلم جبريل على النبي عليهما السلام وسلم النبي على الناس"

قال أبو عمر: قوله "الصلاة جامعة" لأنه لم يكن يومئذ أذان وإنما كان الأذان بالمدينة بعد الهجرة بعام أو نحوه حين أريه عبد الله بن زيد في النوم فقال من ذكرنا قوله حديث نافع بن جبير هذا مثل حديث الحسن في أن جبريل لم يصل في وقت فرض الصلاة بالنبي الصلوات الخمس إلا مرة واحدة وهو ظاهر حديث مالك

والجواب عن ذلك ما تقدم ذكرنا له من الآثار الصحاح المتصلة في إمامة جبريل لوقتين وقوله ما بين هذين وقت وفيها زيادة يجب قبولها والعمل بها لنقل العدول لها وليس تقصير من قصر عن حفظ ذلك وإتقانه والإتيان به بحجة وإنما الحجة في شهادة من شهد لا في قول من قصر عن حفظ ذلك وأجمل واختصر على أن هذه الآثار منقطعة وإنما ذكرناها لما وصفنا ولأن فيها أن الصلاة فرضت في الحضر أربعا لا ركعتين على خلاف ما زعمت عائشة وقال بذلك جماعة وردوا حديث عائشة وإن كان إسناده صحيحا بضروب من الاعتلال سنذكر ذلك كله أو بعضه في باب صالح بن كيسان من كتابنا هذا إن شاء الله فعنه روى مالك حديث عائشة أن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر

ومن حجة من ذهب إلى أن الصلاة فرضت أربعا في الحضر وفي السفر ركعتين ولم يزد في شيء من ذلك ولا نقص ما حدثنا محمد بن إبرهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن علي قال أخبرنا يحيى وعبد الرحمن

قالا حدثنا أبو عوانة عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال فرضت الصلاة على لسان النبي في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.

قال أبو عمر: يعني مع الإمام ثم يتمون بركعة أخرى والله أعلم.

وقد قيل أن ركعة تجزئ في الخوف وليس هذا موضع ذكر اختلافهم في صلاة الخوف.

وقالت طائفة فرضت الصلاة على حسب ما قد استقر عليه في إجماع المسلمين وقصر الصلاة في السفر كان بعد ذلك رخصة من الله عز وجل وصدقة قالوا ولم يقصر رسول الله آمنا بعد نزول آية القصر في صلاة الخوف وكان نزولها بالمدينة وفرضت الصلاة بمكة.

واحتجوا بآثار سنذكرها في باب ابن شهاب عن رجل من آل خالد ابن أسيد إن شاء الله تعالى لأنه موضعها.

ومن حجتهم أيضا ما حدثناه أحمد بن فتح وعبد الرحمن بن يحيى قالا حدثنا عبد العزيز بن محمد بن أبي رافع البغدادي بمصر قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا مسلم بن إبرهيم قال حدثنا وهيب بن خالد قال حدثنا عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه عن أنس بن مالك أن رجل منهم أتى المدينة وأتى النبي وهو يتغدى فقال "هلم إلى الغداء "فقال يا نبي الله إني صائم فقال له النبي "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" قالوا ووضع لا يكون إلا من فرض متقدم والله أعلم.

وروى هذا الحديث أيوب وأبو قلابة وأبو هلال الراسبي وجماعة من علماء البصرة مثله ولكنه حديث فيه من رواية أبي قلابة وأبي هلال اضطراب كثير وأما قول الشعبي وميمون بن مهران وابن إسحاق الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر فذكر ابن أبي شيبة قال حدثنا عبيدة بن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فلما أتى النبي المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب

قال أبو عمر: قول الشعبي هذا أصله من حديث عائشة وقد يمكن أن يأخذه عن الأسود أو مسروق عن عائشة فأكثر ما عنده عن عائشة هو عنهما وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبي المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول كان أول الصلاة مثنى ثم صلى رسول الله أربعا فصارت سنة وأقرت الركعتان للمسافر وهي تمام وهذا إسناد لا يحتج بمثله.

وقوله "فصارت سنة" قول منكر وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له ومن قال بهذا من أهل السير قال إن الصلاة أتمت بالمدينة بعد الهجرة بشهر وأربعة أيام.

وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولايعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها وإنما فائدة قول عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إن صح قولها إيجاب فرض القصر في السفر وسنبين اختلاف العلماء في ذلك ووجه الصواب فيه إن شاء الله في باب صالح بن كيسان من كتابنا هذا بحول الله.

وأجمعوا أن فرض الصلاة إنما كان في حين الإسراء واختلفوا في تاريخ الإسراء فقال أبو بكر محمد بن علي بن القاسم الذهبي في تاريخه ثم أسرى بالنبي من مكة إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا

قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي ولم يسند قوله إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم.

وقال أبو إسحاق الحربي فلما كانت ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة أسرى برسول الله وفرض عليه خمسون صلاة ثم نقصت إلى خمس صلوات فأتاه جبريل فأمه عند البيت فصلى الظهر أربعا والعصر أربعا والمغرب ثلاثا والعشاء أربعا والفجر ركعتين كل ذلك نحو بيت المقدس.

فلما كان الموسم من هذه السنة لقيه الأنصار فبايعوه ثم انصرفوا وذكر قصة البراء بن معرور وصلاته إلى الكعبة وحده دون النبي ودون الناس وقصته مشهورة عند جميع أهل العلم بالسير والأثر وهكذا قال إن صلاة جبريل بالنبي كانت بمكة إلى بيت المقدس وهذا موضع قد خالفه فيه من هو أكبر منه وروى ابن وهب عن موسى عن ابن شهاب أن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أخبره "أن رسول الله لما قدم المدينة مهاجرا صلى نحو بيت المقدس اثني عشر شهرا" وقد ذكر ابن شهاب أن في صلاته بمكة اختلافا قيل كانت صلاته إلى الكعبة وقيل إلى بيت المقدس.

وروى همام عن قتادة قال كانوا يصلون إلى بيت المقدس ورسول الله بمكة قبل الهجرة وبعد ما هاجر رسول الله صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا.

وهكذا قال في الإسراء أنه كان قبل الهجرة بسنة وهو قول موسى بن عقبة.

واختلف في ذلك عن ابن شهاب فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال ثم أسرى برسول الله إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة وفرض الله عليه الصلاة قال ابن شهاب وزعم ناس والله أعلم أنه كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل وراء ظهره الكعبة وهو بمكة ويزعم ناس أنه لم يزل مستقبل الكعبة حتى خرج منها فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس قال فقد اختلف في ذلك والله أعلم.

قال أبو عمر: الاختلاف كما قال ابن شهاب في صلاته بمكة هل كانت إلى الكعبة أو إلى بيت المقدس وسنذكر ذلك بعد إن شاء الله.

قال أبو عمر: هكذا قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة

قال أبو عمر: وذلك بعد مبعثه بسبع سنين أو باثنتي عشرة سنة على حسب اختلافهم في مقامه بمكة بعد مبعثه على ما قدمنا ذكره في باب ربيعة وروى يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة قال ابن شهاب وذلك بعد مبعث النبي بسبعة أعوام وخالفه الوقاصي عن ابن شهاب فقال أسري به بعد مبعثه بخمس سنين.

قرأت على عبد الله بن محمد بن يوسف أن محمد بن أحمد بن يحيى حدثهم قال حدثنا أحمد بن محمد بن زياد قال حدثنا أحمد بن عبدا لجبار العطاردي قال حدثنا يونس بن بكير قال حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال فرضت الصلاة بمكة بعد ما أوحى الله إلى النبي بخمس سنين وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر وفرضت الزكاة والحج بالمدينة وحرمت الخمر بعد أحد

وقال ابن إسحاق أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس وقد فشا الإسلام بمكة وفي القبائل كلها.

قال يونس بن بكير وغيره عن ابن إسحاق ثم إن جبريل أتى النبي حين افترضت عليه الصلاة يعني في الإسراء فهمز له بعقبه في الوادي فانفجرت عين ماء مزن فتوضأ جبريل ومحمد ينظر فوضأ وجهه واستنشق ومضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه ثم قام يصلي ركعتين وأربع سجدات فرجع رسول الله وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة ثم كان هو وخديجة يصليان سواء.

قال أبو عمر: هذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام لأن خديجة توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقد قيل بثلاثة أعوام وقيل بأربع سنين وقد ذكرنا القائلين بذلك في باب خديجة من كتاب الصحابة

وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب في الإسراء على أن ابن شهاب قد اختلف عنه في ذلك على ما ذكرنا من رواية ابن عقبة ورواية يونس ورواية الوقاصي وهي روايات مختلفات على ما نرى.

وحدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت فتزوجني رسول الله بعد متوفى خديجة وبعد تحويله إلى المدينة بسنتين أو ثلاث وأما صلاته إلى الكعبة فإن ابن جريج ذكر في تفسيره رواه عنه حجاج وغيره وذكره سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال صلى النبي أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه عليه السلام بثلاث حجج وصلى النبي بعد قدومه ستة عشر شهرا ثم وجهه الله إلى الكعبة البيت الحرام هكذا قال ابن جريج أن أول صلاة رسول الله كانت إلى الكعبة وهذا أمر قد اختلف فيه وأحسن شيء روي في ذلك ما حدثناه خلف بن القاسم قال حدثنا أبو الطيب وجيه بن الحسن بن يوسف قال حدثنا بكار بن قتيبة أبو بكرة القاضي سنة سبعين ومائتين قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن سليمان بن مجاهد عن ابن عباس قال "كان رسول الله يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف إلى الكعبة".

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا ثم انصرف إلى الكعبة وقد ذكرنا الخبر بهذا عن ابن عباس من وجوه في باب عبد الله بن دينار والحمد لله.

ففي قول ابن عباس هذا من الفقه أن الصلاة لم ينسخ منها شيء قبل القبلة وفيه أنه كان يصلي بمكة إلى الكعبة وهو ظاهره أنه لم يصل إلى بيت المقدس إلا بالمدينة وقد يحتمل غيره وسنذكر الآثار في صلاته إلى بيت المقدس وتحويله بعد إلى الكعبة في باب يحيى بن سعيد إن شاء الله.

وقال أبو إسحاق الحربي ثم قدم رسول الله المدينة في ربيع الأول فصلى إلى بيت المقدس تمام سنة إحدى عشرة وصلى من سنة ثنتين ستة أشهر ثم حولت القبلة في رجب.

وقال موسى بن عقبة وإبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن القبلة صرفت في جمادى.

وقال الواقدي إنما صرفت صلاة الظهر يوم الثلاثاء في ال عيسى من شعبان وأما قول ابن إسحاق أنه صلى حينئذ ركعتين وأربع سجدات فأظنه أخذه والله أعلم من قول عائشة وأما قوله أن رسول الله توضأ حينئذ وأن جبريل نزل عليه يومئذ بالوضوء فإنما أخذه والله أعلم من حديث زيد بن حارثة.

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا عبد الله ابن لهيعة قال حدثنا عقيل بن خالد عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة "أن النبي في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل عليه السلام فعلمه الوضوء فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه".

وأما قوله في الحديث أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فمعناه والله أعلم أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب المرغوب فيه ولم يؤخرها حتى غربت الشمس وقوله أخر الصلاة يوما الأغلب فيه والله أعلم وأنه لم يكن ذلك كثيرا منه ولو كان ذلك كثيرا ما قيل يوما وإن كانت ملوك بني أمية على تأخير الصلاة كان ذلك شأنهم قديما من زمن عثمان وقد كان الوليد بن عقبة يؤخرها في زمن عثمان وكان ابن مسعود ينكر ذلك عليه ومن أجله حدث ابن مسعود بالحديث في ذلك وكانت وفاة ابن مسعود في خلافة عثمان

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال حدثنا أبو طالب الهروي قال حدثنا أبو بكر بن عياش قال حدثنا عاصم قال زر قال عبد الله قال رسول الله "لعلكم تدركون أقواما يؤخرون الصلاة فإن أدركتموهم فصلوا في بيوتكم الوقت الذي تعرفون وصلوا معهم واجعلوها سبحة" .

وبهذا الإسناد عن أبي بكر بن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي أخبرنا محمد بن زكريا قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا مروان بن عبد الملك قال حدثنا أبو سعيد الأشج قال حدثنا حفص بن غياث عن عبيدة يعني ابن معتب قال كنا نصلي مع الحجاج الجمعة ثم ننصرف فنبادر مسجد سماك نصلي المغرب وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال أخر الوليد بن عقبة الصلاة مرة فأمر ابن مسعود المؤذن فثوب بالصلاة ثم تقدم فصلى بالناس فأرسل إليه الوليد ما صنعت أجاءك من أمير المؤمنين حدث أم ابتدعت فقال ابن مسعود كل ذلك لم يكن ولكن أبى الله ورسوله أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك وذكر معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود أن النبي قال له "كيف بك يا أبا عبد الرحمن إذا كان عليك أمراء يطفون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها قال فكيف تأمرني يا رسول الله فقال النبي عليه السلام يسألني ابن أم عبد كيف يفعل لا طاعة لمخلوق في معصية الله" .

فإن ظن ظان أن في هذا الخبر دليلا على أنهم كانوا يؤخرونها حتى يخرج الوقت كله ولهذا استحقوا اسم العصيان لله قيل له يحتمل أن يكون قوله خرج على جملة طاعة الله وعصيانه في سائر الأمور وعلى أنه لا يؤمن على من كان شأنه تأخيرها أبدا أن يفوته الوقت

وأما الآثار عنهم فتدل على ما ذكرنا وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال لأصحابه يوما أني لا ألوكم عن الوقت فصلى بهم الظهر حسبته قال حين زالت الشمس ثم قال أنه سيكون عليهم أمراء يؤخرون الصلاة فصلوا الصلاة لوقتها فإن أدركتكم معهم فصلوا.

ومعمر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال إنكم في زمان قليل خطباؤه كثير علماؤه يطيلون الصلاة ويقصرون الخطبة وإنه سيأتى عليكم زمان كثير خطباؤه قليل علماؤه يطيلون الخطبة ويؤخرون الصلاة حتى يقال هذا شرق الموتى قال له ما شرق الموتى قال إذا أصفرت الشمس جدا فمن أدرك ذلك فليصل الصلاة لوقتها فإن احتبس فليصل معهم وليجعل صلاته وحده الفريضة وصلاته معهم تطوعا.

ومما يدل على ذلك أن الفقهاء في ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ويأمرون بذلك روى معمر عن رجل عن الحسن وعن الزهري وقتادة أنهم كانوا يصلون مع الأمراء وإن أخروا ومعمر عن ثابت قال خطب الحجاج يوم الجمعة فأخر الصلاة فجعل إنسان يريد أن يثب إليه ويحبسه الناس.

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت إماما يؤخر الصلاة حتى يصليها مفرطا فيها فقال صل معهم الجماعة أحب إلي قلت له فمالك لا تنتهي إلى قول ابن مسعود في ذلك قال الجماعة أحب إلي ما لم تفت قلت وإن اصفرت الشمس للغروب ولحقت برؤوس الجبال قال نعم ما لم تفت وعن الثوري عن الأعمش وعن النخعي وخيثمة أنهما كانا يصليان الظهر والعصر مع الحجاج وكان يمسي وعن ابن جريج عن عطاء قال أخر الوليد مرة الجمعة حتى أمسى قال فصليت الظهر قبل أن أجلس ثم صليت العصر وأنا جالس وهو يخطب قال أضع يدي على ركبتي وأومىء برأسي وعن الثوري عن محمد بن إسماعيل قال رأيت سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وأخر الوليد بن عبد الملك الصلاة فرأيتهما يومئان إيماء وهما قاعدان وعن الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق وأبي عبيدة أنهما كانا يصليان الظهر إذا حانت الظهر وإذا حانت العصر صليا العصر في المسجد مكانهما وكان ابن زياد يؤخر الظهر والعصر وعن إسرائيل عن عامر بن شقيق عن شقيق قال كان يأمرنا أن نصلي الجمعة في بيوتنا ثم نأتي المسجد وذلك أن الحجاج كان يؤخر الصلاة.

وذكر سنيد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحى قال رأيت مسروقا وأبا عبيدة بن عبد الله مع بعض الأمراء وأخر الوقت فأوميا في وقت الصلاة ثم جلسا حتى صليا معه تلك الصلاة قال فرأيتهما فعلا ذلك مرارا.

قال وحدثنا أبو معاوية عن محمد بن أبي إسماعيل قال رأيت سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وأخر الوليد بن عبد الملك الصلاة عن وقتها فرأيتهما يومئان في وقت الصلاة ثم جلسا حتى صليا معه.

وروى محمد الدولابي قال حدثنا جرير عن أبي فروة عروة بن الحارث الهمداني عن إياس قال تذاكرنا الجمعة واجتمع قراء أهل الكوفة أن يدعوا الصلاة مع الحجاج لأنه كان يؤخرها حتى تكاد تغيب الشمس فتذاكروا ذلك وهموا أن يجمعوا عليه فقال شاب منهم ما أرى ما تفعلون شيئا ما للحجاج تصلون إنما تصلون لله عز وجل فاجتمع رأيهم على أن يصلوا معه

قال أبو عمر: إنما صلى من صلى إيماء وقاعدا لخوف خروج الوقت وللخوف على نفسه القتل والضرب والله أعلم.

ومن كان شأنه التأخير لم يؤمن عليه فوات الوقت وخروجه عصمنا الله برحمته

وحدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن راشد بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أبو مسهر قال حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال كانوا يؤخرون الصلاة في أيام الوليد بن عبد الملك ويستحلفون الناس أنهما ما صلوا فأتى عبد الله بن أبي زكرياء فاستحلف أنه ما صلى فحلف أنه ما صلى وقد كان صلى وأتى مكحول فقال فلم جئنا إذن فترك.

وحديث أبي ذر عن النبي في الأمراء المذكورين حديث صحيح ويقال أن أبا ذر لم يخرج من المدينة والشام إلا على إنكاره عليهم تأخير الصلاة ولا يصح عندي إخراجه من المدينة على ذلك والله أعلم.

حدثنا خلف بن سعيد حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا الثوري عن أيوب عن أبي العالية قال أخر عبيد الله بن زياد الصلاة فسألت عبد الله بن الصامت فضرب فخذي ثم قال سألت خليلي أبا ذر فضرب فخذي ثم قال سألت خليلي يعني النبي فضرب فخذي ثم قال: "صل الصلاة لوقتها فإن أدركتك فصل معهم ولا تقولن أني قد صليت فلا أصلي"

وحدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا وهيب قال حدثنا أيوب عن أبي العالية البراء قال أخرت الصلاة على عهد عبيد الله بن زياد فمر بي عبد الله بن الصامت فذكر نحوه بمعناه.

وقرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثتهم قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجويني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال قال لي رسول الله : "يا أبا ذر كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يمسون الصلاة أو قال يؤخرون الصلاة؟ قال قلت يا رسول الله فما تأمرني قال صل الصلاة لوقتها فإذا أدركتها معهم فصلها فإنها لك نافلة" وقد روى هذا الخبر عن النبي عبادة بن الصامت وعامر بن ربيعة وقبيصة بن وقاص ومعاذ بن جبل كما رواه أبو ذر وابن مسعود وهي أيضا آثار صحاح كلها ثابتة وإنما حمل العلماء والله أعلم على الصلاة معهم أمره بذلك وحضه على لزوم الجماعة.

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عاصم بن عبيد الله بن عاصم قال أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن رسول الله قال: "إنها ستكون بعدي أمراء يصلون الصلاة لوقتها ويؤخرونها عن وقتها فصلوا معهم فإن صلوها لوقتها وصليتموها معهم فلكم ولهم فإن أخروها عن وقتها فصلوها معهم فلكم وعليهم من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ومن نكث العهد ومات ناكثا للعهد جاء يوم القيامة لا حجة له" .

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق وأحمد بن زهير قالا حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا أبو هاشم الزعفراني عمار بن عمارة قال حدثني صالح بن عبيد عن قبيصة بن وقاص قال قال رسول الله : "يكون عليكم أمراء بعدي يؤخرون الصلاة فهي لكم وعليهم فصلوها معهم ما صلوا بكم القبلة" .

وفي قول رسول الله لأبي ذر "كيف بك يا أبا ذر إذا كان عليك أمراء وقوله لكبار الصحابة الذين رووا هذا الحديث "يكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة" دليل على أن تأخير الصلاة عن وقتها قد كان قبل زمان الوليد بن عبد الملك لأن أبا ذر توفي في خلافة عثمان بالربذة ودفن بها على قارعة الطريق وصلى عليه ابن مسعود منصرفه من الكوفة إلى المدينة ومات ابن مسعود بعد ذلك بيسير بالمدينة.

وفي قول النبي في حديث أبي ذر وغيره "سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها" ولم يقل خلفاء دليل على أن عثمان رحمه الله لم يكن ممن يؤخرون الصلاة ولا يظن ذلك به مسلم يعرفه ويعرف الله لأن عثمان من الخلفاء لا من الأمراء وقال رسول الله "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي" فسماهم خلفاء وقال الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون إمرة وملكا وجبروتا فتضمنت مدة الخلافة الأربعة المذكورين رضوان الله عليهم أجمعين.

ولعل جاهلا بأخبار الناس يقول أن عمر بن عبد العزيز كان من الفضل والدين والتقدم في العلم والخير بحيث لا يظن به أحد أن يؤخر الصلاة عن أفضل وقتها كما كان يصنع بنو عمه فإن قيل ذلك فإن عمر رحمه الله كان كما ذكرنا وفوق ما ذكرنا إذ ولى الخلافة وأما وهو أمير على المدينة أيام عبد الملك والوليد فلم يكن كذلك وهذا أشهر عند العلماء من أن يحتاج فيه إلى إكثار.

أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا محمد بن عمر قال حدثني ابن أبي سبرة عن المنذر بن عبيد قال ولي عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الجمعة فأنكرت حاله في العصر.

وفي هذا الحديث أيضا ما كان عليه العلماء من صحبة للأمراء والدخول عليهم وإذا كان الأمير أو الخليفة يستديم صحبة العلماء فأجدر به أن يكون عدلا مأمونا وكان عمر رحمه الله يصحب جماعة من العلماء كابن شهاب وميمون بن مهران ورجاء بن حيوة وكان قبل ذلك يصحب عبيد الله بن عبد الله وعروة وطبقتهما.

ذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا سليمان بن حرب وعارم بن الفضل قالا حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فسألني عن الحسن كما يسأل الرجل عن ولده فقال كيف طعمه وهل رأيته يدخل على عدي بن أرطاة وأين مجلسه منه وهل رأيته يطعم عند عدي قال قلت نعم وليس بنكير أن يكون عمر بن عبد العزيز خفي عليه حديث نزول جبريل على النبي بمواقيت الصلاة وقد خفي ذلك عن المغيرة بن شعبة وله صحبة وأخبار الآحاد عند العلماء من علم الخاصة لا ينكر على أحد جهل بعضها والإحاطة بها ممتنعة وما أعلم أحدا من أئمة الأمصار مع بحثهم وجمعهم إلا وقد فاته شيء من السنن المروية من طريق الآحاد وحسبك بعمر بن الخطاب فقد فاته من هذا الضرب أحاديث فيها سنن ذوات عدد من رواية مالك في الموطأ ومن رواية غيره أيضا وليس ذلك بضار له ولا ناقص من منزلته وكذلك سائر الأئمة لا يقدح في أمانتهم ما فاتهم من إحصاء السنن إذ ذاك يسير في جنب كثير ولو لم يجز للعالم أن يفتي ولا أن يتكلم في العلم حتى يحيط بجميع السنن ما جاز ذلك لأحد أبدا وإذا علم العالم أعظم السنن وكان ذا فهم ومعرفة بالقرآن واختلاف من قبله من العلماء جاز له القول بالفتوى وبالله التوفيق.

فإن قال قائل إن جهل مواقيت الصلاة لا يسع أحدا فكيف جاز على عمر قيل له ليس في جهله بالسبب الموجب لعلم المواقيت ما يدل على جهله بالمواقيت وقد يكون ذلك عنده عملا واتفاقا وأخذا عن علماء عصره ولا يعرف أصل ذلك كيف كان النزول من جبريل بها على النبي أم بما سنه النبي كما سن غير ما شيء وفرضه في الصلاة والزكاة والحج مما لا يمكن أن يقول كل ذي علم أن جبريل نزل بذلك كله والأمر في هذا واضح يغني عن الإكثار.

وفي هذا الحديث دليل على أن وقت الصلاة من فرائضها وأنها لا تجزئ قبل وقتها وهذا لا خلاف فيه بين العلماء إلا شيئا روى عن أبي موسى الأشعري وعن بعض التابعين أجمع العلماء على خلافه فلم أر لذكره وجها لأنه لا يصح عنهم وقد صح عن أبي موسى خلافه مما وافق الجماعة فصار اتفاقا صحيحا.

وهذا حين آل بنا القول إلى ذكر مواقيت الصلاة وما أجمع عليه العلماء من ذلك وما اختلفوا فيه فهو أولى المواضع بذلك في كتابنا هذا.

قال أبو عمر: أجمع علماء المسلمين في كل عصر وفي كل مصر بلغنا عنهم أن أول وقت الظهر زوال الشمس عن كبد السماء ووسط الفلك إذا استوقن ذلك في الأرض بالتفقد والتأمل وذلك ابتداء زيادة الظل بعد تناهي نقصانه في الشتاء والصيف جميعا وإن كان الظل مخالفا في الصيف له في الشتاء وهذا إجماع من علماء المسلمين كلهم في أول وقت الظهر فإذا تبين زوال الشمس بما ذكرنا أو بغيره فقد حل وقت الظهر وذلك ما لا خلاف فيه وذلك تفسير لقوله تعالى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ودلوكها ميلها عند أكثر العلماء ومنهم من قال دلوكها غروبها واللغة محتملة للقولين والأول أكثر.

وكان مالك يستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا بعد الزوال حتى يكون الفيء ذراعا على ما كتب به عمر بن الخطاب إلى عماله.

واختلفوا في وقت الجمعة فروى ابن القاسم عن مالك وقت الجمعة وقت الظهر لا تجب إلا بعد الزوال وتصلى إلى غروب الشمس قال ابن القاسم إن صلى من الجمعة ركعة ثم غربت الشمس صلى الركعة الأخرى بعد المغيب جمعة.

وقال أبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي وقت الجمعة وقت الظهر فإن فات وقت الظهر بدخول وقت العصر لم تصل الجمعة قال أبو حنيفة وأصحابه إن دخل وقت العصر وقد بقي من الجمعة سجدة أو قعدة فسدت الجمعة ويستقبل الظهر وقال الشافعي إذا خرج الوقت قبل أن يسلم أتمها ظهرا وهو قول عبد الملك بن عبد العزيز وكل هؤلاء يقول لا تجوز الجمعة قبل الزوال ولا يخطب لها إلا بعد الزوال وعلى هذا جمهور الفقهاء وأئمة الفتوى وقد كان أحمد بن حنبل يقول من صلاها قبل الزوال لم أعبه وقال الأثرم قلت له يا أبا عبد الله ما ترى في صلاة الجمعة قبل زوال الشمس فقال فيها من الاختلاف ما قد علمت.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا عبدالحميد بن زيد الأنصاري عن عقبة بن عبد الرحمن بن جابر عن جابر قال "كنا نصلي مع النبي الجمعة ثم نرجع فنقيل" وذكر أبو بكر الأثرم عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال وهو حديث يدور على عبد الله بن سيدان وعبد الله بن سيدان شامي أو جزري روى عنه ثابت بن الحجاج وميمون بن مهران وحديثه هذا إنما يرويه جعفر بن برقان والله أعلم وذكر أيضا حديث حميد عن أنس كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعدها وحديث سهل بن سعد كنا نبكر إلى الجمعة على عهد رسول الله ثم نرجع فنتغدى ونقيل وهو حديث في إسناده ضعف وذكر حديث شعبة عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن سلمة قال كان عبد الله بن مسعود يصلي بنا الجمعة ضحى ويقول إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم وعن مجاهد إنما هي صلاة عيد

قال أبو عمر: قد روى مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه أن عمر كان يصلي الجمعة بعد الزوال بدليل غشيان الظل طنفسة عقيل ومن جهة النظر لما كانت الجمعة تمنع من الظهر دون غيرها من الصلوات دل على أن وقتها وقت الظهر وقد أجمعوا على أن من صلاها في وقت الظهر فقد صلاها في وقتها فدل ذلك على أنها ليست كصلاة العيد لأن العيد لا يصلى بعد الزوال.

واختلفوا في آخر وقت الظهر فقال مالك وأصحابه آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت عليه الشمس.

وهو أول وقت العصر بلا فصل وبذلك قال ابن المبارك وجماعة ويستحب مالك لمساجد الجماعات أن يؤخروا العصر بعد هذا المقدار قليلا ما دامت الشمس بيضاء نقية وحجة من قال ذلك حديث ابن عباس وغيره في أمامة جبريل وأنه صلى بالنبي الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس من يومه ذلك بلا فصل وقال الشافعي وأبو ثور وداود وأصحابهم آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله وبين آخر وقت الظهر وأول العصر فاصلة وهو أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل.

وحجة من قال بهذا القول حديث أبي قتادة عن النبي أنه قال "ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" وهذا عندهم فيما عدا صلاة الصبح للإجماع في الصبح أنها تفوت ويخرج وقتها بطلوع الشمس وحجتهم أيضا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه قال "وقت الظهر ما لم تحضر العصر" .

وأما حديث أبي قتادة فقرأته على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا شبابة عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة قال قال رسول الله "ليس في النوم تفريط ولكن التفريط على من لم يصل الصلاة حتى تجيىء الصلاة الأخرى" .

وأخبرنا خلف بن القاسم وأصبغ بن عبد الله بن مسرة قالا حدثنا بكير بن الحسن بن عبد الله المرادي بمصر قال حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة القاضي قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة قال قال رسول الله "ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر صلاة إلى وقت أخرى" .

وسنذكر حديث عبد الله بن عمرو من هذا الباب في موضعه وقال الثوري والحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله ثم يدخل وقت العصر لم يذكروا فاصلة إلا أن قولهم ثم يدخل وقت العصر يدل على فاصلة.

وقال أبو حنيفة آخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثليه فخالف الآثار والناس لقوله بالمثلين في آخر وقت الظهر وخالفه أصحابه وذكر الطحاوي رواية أخرى عن أبي حنيفة زعم أنه قال أخر وقت الظهر إذا كان ظل كل شيء مثله على قول الجماعة ولا يدخل في وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه فترك بين الظهر والعصر وقتا مفردا لا يصلح لأحدهما.

وأما أول وقت العصر فقد تبين من قول مالك فيه ما ذكرنا ومن قول الشافعي ومن تبعه ما وصفنا ومن قول سائر العلماء أيضا من مراعاة المثل ما قد بينا وهو كله أمر متقارب.

وقال أبو حنيفة أول وقت العصر من حين يصير الظل مثلين وهو خلاف الآثار وخلاف الجمهور.

واختلفوا في آخر وقت العصر فقال مالك آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شيء مثليه بعد المثل الذي زالت عليه الشمس وهذا محمول عندنا من قوله على وقت الاختيار وما دامت الشمس بيضاء نقية فهو وقت مختار لصلاة العصر عنده وعند سائر العلماء والحمد لله.

وقد أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية لم تدخلها صغرة فقد صلاها في وقتها المختار وفي ذلك دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب وقد ذكرنا فيما سلف من كتابنا في وقت العصر في باب إسحاق بن أبي طلحة وغيره ما فيه كفاية.

فنذكر هاهنا أقاويلهم في آخر وقت العصر.

فقال الثوري أن صلاها ولم تتغير الشمس فقد أجزأه وأحب إلى أن يصليها إذا كان ظله مثله إلى أن يكون مثليه.

وقال الشافعي أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان ومن آخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قد ذلك في الشتاء فقد فاته وقت الاختيار ولا يجوز أن يقال فاته وقت العصر مطلقا كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله قال وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي أنه قال "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها" .

قال أبو عمر: إنما جعل الشافعي وقت الاختيار لحديث إمامة جبريل وحديث العلاء عن أنس تلك صلاة المنافقين ونحوهما من الآثار ولم يقطع بخروج وقتها لحديث أبي هريرة الذي ذكره ومذهب مالك نحو هذا وقد كان يلزم الشافعي أن لا يشرك بين الظهر والعصر

في الوقت لأصحاب الضرورات لخروج وقت الظهر عنده بكمال المثل ولكن وقت الحضر عنده وقت رفاهية ومقام لا يتعدى ما جاء فيه وأما أصحاب الضرورات فأوقاتهم كأوقات المسافر لعذر السفر وضرورته والسفر عنده تشترك فيه صلاتا النهار وصلاتا الليل على ما نذكره في باب أبي الزبير إن شاء الله وأصحاب الضرورات الحائض تطهر والمغمى عليه يفيق والكافر يسلم والغلام يحتلم وقد ذكرنا أحكامهم وما للعلماء في ذلك من المذاهب في باب زيد بن أسلم والحمد لله.

وأما مالك فقد روى عنه ابن وهب وغيره أن الظهر والعصر آخر وقتهما غروب الشمس وهو قول ابن عباس وعكرمة مطلقا ورواية ابن وهب عن مالك لذلك محمولة عند أصحابه لأهل الضرورات كالمغمي عليه ومن أشبه على ما قد أوضحناه في باب زيد بن أسلم والحمد لله.

وروى ابن القاسم عن مالك آخر وقت العصر اصفرار الشمس وقال أبو يوسف ومحمد وقت العصر إذا كان ظل كل شيء قامته فيزيد على القامة إلى أن تتغير الشمس وقال أبو ثور أول وقتها إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الزوال وزاد على الظل زيادة تبين إلى أن تصفر الشمس وهو قول أحمد بن حنبل آخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس وحجة من قال بهذا القول حديث عبد الله بن عمرو عن النبي أنه قال "وقت العصر ما لم تصفر الشمس" رواه قتادة عن أبي أيوب الأزدي عنه وقال إسحاق بن راهويه آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب وهو قول داود لكل الناس معذور وغير معذور صاحب ضرورة وصاحب رفاهية إلا أن الأفضل عنده وعند إسحاق أيضا أول الوقت وقال الأوزاعي إن ركع ركعة قبل غروبها وركعة بعد غروبها فقد أدركها وحجتهم حديث أبي هريرة من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح.

واختلفوا في آخر وقت المغرب بعد إجماعهم على أن أول وقتها غروب الشمس والظاهر من قول مالك أن وقتها وقت واحد عند مغيب الشمس وبهذا تواترت الروايات عنه إلا أنه قال في الموطأ فإذا غاب الشفق فقد خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء وبهذا القول قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري

وحجة من قال بهذا القول وجعل للمغرب وقتين كسائر الصلوات ما حدثنا به عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا بدر بن عثمان قال حدثنا أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه عن النبي أنه أتاه سائل فسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا فأمر بلالا فأقام بالفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول انتصف النهار أو لم فكان أعلم منهم ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول طلعت الشمس أو كادت ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من العصر ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول احمرت الشمس وأخر المغرب حتى كان سقوط الشفق ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل ثم أصبح فدعا بالسائل فقال "الوقت فيما بين هذين".

وروى الثوري وغيره عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي أنه جاءه رجل فسأله عن وقت الصلاة فقال "أقم معنا هذين اليومين فأمر بلالا فأقام" عند الفجر فذكر الحديث بمعنى حديث أبي موسى سواء في المغرب وغيرها وقتين.

حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن هشام قال حدثنا مخلد بن يزيد عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي .

وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسحاق بن يوسف قال حدثنا سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي فذكره قالوا وهذه الآثار أولى من أخبار إمامة جبريل لأنها متأخرة بالمدينة وإمامة جبريل كانت بمكة والمتأخر أولى من فعله وأمره لأنه ناسخ لما قبله قالوا وقد روى سليمان بن موسى عن عطاء عن جابر عن النبي في المغرب أيضا مثل رواية أبي موسى وبريدة وروى عبد الله بن عمرو بن العاص في المغرب مثل ذلك وكل هؤلاء إنما صحبه بالمدينة والمصير إلى ما رووه أولى من المصير إلى أحاديث إمامة جبريل لأنها متقدمة بمكة.

وحديث عبد الله بن عمرو حدثناه سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبد الله بن روح قال حدثنا عثمان بن عمر قال أنبأنا شعبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال شعبة حدثني به ثلاث مرات مرتين لم يرفعه ومرة رفعه قال "وقت الظهر ما لم تحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ووقت العشاء ما لم ينتصف الليل ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس".

واحتجوا أيضا بقوله "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء" وبقوله "لا يصلين أحدكم بحضرة الطعام ولا وهو يدافع الأخبثين يعني البول والغائط" ولأنه قرأ في المغرب بالطور وبالصافات وقد روى بالأعراف وهذا كله يدل على أن وقت المغرب له سعة وأول وآخر كل هذا احتج به من ذكرنا قولهم.

أخبرنا محمد بن إبراهيم قراءة مني عليه قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا سويد بن نصر قال أخبرنا عبد الله عن معمر عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله "إذا قرب العشاء ونودي بالصلاة فابدأوا بالعشاء" وحدثنا محمد حدثنا أحمد بن شعيب حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي حدثنا حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله "إذا قرب العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء" .

ومما احتجوا به أيضا حديث أبي بصرة الغفاري عن النبي أنه لما صلى العصر في حديث ذكره قال "لا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم" .

وقال الشافعي في وقت المغرب قولين أحدهما أنه ممدود إلى مغيب الشفق والآخر وهو المشهور عنه أن وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تجب الشمس قال وذلك بين في إمامة جبريل قال ولو جاز أن تقاس المواقيت قيل لا تفوت حتى يدخل أول وقت العشاء قبل أن تصلي منها ركعة كما قيل في العصر ولكن المواقيت لا تؤخذ قياسا وقال الثوري وقت المغرب إذا غربت الشمس فإن حبسك عذر فأخرتها إلى أن يغيب الشفق في السفر فلا بأس وكانوا يكرهون تأخيرها.

قال أبو عمر: المشهور من مذهب مالك ما ذهب إليه الشافعي والثوري في وقت المغرب وقد ذكرنا ذلك والحجة لهم كل حديث ذكرناه في كتابنا هذا في إمامة جبريل على تواترها لم تختلف في أن للمغرب وقتا واحدا وقد روى مثل ذلك عن النبي من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وكلهم صحبه بالمدينة وحكى عنه صلاته بها كذلك على أن مثل هذا يؤخذ عملا لا ينفك منه ولا يجوز جهله ولا نسيانه وقد حكى أبو عبد الله بن خواز بنداد البصري في كتابه في الخلاف أن الأمصار كلها بأسرها لم يزل المسلمون فيها على تعجيل المغرب والمبادرة إليها في حين غروب الشمس ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس وفي هذا ما يكفي مع العمل بالمدينة في تعجيلها.

قال أبو عمر: لو كان وقتها واسعا لعمل المسلمون فيها كعملهم في العشاء الآخرة وسائر الصلوات من أذان واحد من المؤذنين بعد واحد وغير ذلك من الاتساع في ذلك وفي هذا كله دليل واضح على أن النبي لم يزل يصليها وقتا واحدا إلى أن مات ولو وسع عليهم لتوسعوا لأن شأن العلماء الأخذ بالتوسعة إلا أن ضيق وقت المغرب ليس كالشيء الذي لا يتجزأ بل ذلك على قدر عرف الناس من إسباغ الوضوء ولبس الثوب والآذان والإقامة والمشي إلى ما لا يبعد من المساجد ونحو ذلك.

وأما الأحاديث في ذلك فمنها ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن الحجاج قال حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم فصلى له صلاة الصبح حين طلع الفجر ثم صلى له الظهر حين زاغت الشمس ثم صلى له العصر حين كان الظل مثله ثم صلى له المغرب حين غروب الشمس وحل فطر الصائم ثم صلى للعشاء حين ذهب شفق النهار ثم صلى له من الغد فصلى له الصبح حين أسفر قليلا ثم صلى له الظهر حين كان الظل مثله ثم صلى له العصر حين كان الظل مثليه ثم صلى له المغرب لوقت واحد حين غروب الشمس وحل فطر الصائم ثم صلى العشاء حين ذهب ساعة من الليل ثم قال الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم" فهذا من حديث أبي هريرة وإنما صحبه بعد عام خيبر بالمدينة متأخرا وفيه في وقت صلاة المغرب ما نرى من تعجيله في اليومين جميعا.

فإن قيل أن الأعمش روى عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي حديث المواقيت وفيه أن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخرها حين يغيب الشفق قيل له هذا الحديث عند جميع أهل الحديث حديث منكر وهو خطأ لم يروه أحد عن الأعمش بهذا الإسناد إلا محمد بن فضيل وقد أنكروه عليه.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال قال لنا محمد بن عبد الله بن نمير هذا الحديث حديث محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في المواقيت خطأ ليس له أصل وقال عباس سمعت يحيى بن معين يقول حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله قال "أن للصلاة أولا وآخرا" رواه الناس كلهم عن الأعمش عن مجاهد مرسلا ورواه محمد بن فضيل عن الأعمش فأخطأ فيه وهو حديث ضعيف ليس بشيء إنما هو عن الأعمش عن مجاهد مرسل.

وأما رواية سليمان بن موسى عن عطاء عن جابر فلم يتابع عليها سليمان بن موسى وقد روى ابن جريج وبرد بن سنان عن عطاء عن جابر عن النبي الحديث ليس فيه للمغرب إلا وقت واحد وكذلك رواه كل من رواه عن جابر منهم وهب بن كيسان وبشير بن سليمان وغيرهم ومما يوضح ذلك أن جابرا سئل عن مواقيت الصلاة في زمن الحجاج وعن صلاة النبي فلم يذكر للمغرب إلا وقتا واحدا.

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو قلابة الرقاشي قال حدثنا وهب بن جرير بن حازم وعبد الصمد بن عبد الوارث قالا حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو بن الحسن قال كان الحجاج يؤخر الصلاة فسألت جابر بن عبد الله فقال كان رسول الله يصلي الظهر إذا زالت الشمس والعصر والشمس بيضاء نقية والمغرب إذا غربت الشمس والعشاء إن رأى في الناس قلة أخر وإن رأى فيهم كثرة عجل.

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن غالب قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو بن حسن قال سألنا جابر بن عبد الله فقال كان رسول الله يصلي الظهر إذا زالت الشمس والعصر والشمس بيضاء نقية والمغرب إذا غربت الشمس والعشاء إن رأى في الناس قلة أخر وإن رأى في الناس كثرة عجل.

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم حدثنا محمد بن غالب قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو بن حسن قال سألنا جابر بن عبد الله عن صلاة رسول الله فذكر مثله وزاد والصبح بغلس وفي لفظ حديث مسلم بن إبراهيم كان يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس حية ثم ذكره سواء ورواه يحيى القطان عن شعبة بإسناده مثله سواء إلا أنه قال وكان أو كانوا يصلون الصبح بغلس حدثناه عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى القطان فذكره وأما حديث قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو فقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي خلافه وهو ما رواه حسان بن عطية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي فذكر في المغرب وقتا واحدا

وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبدالمؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا داود بن شعيب قال حدثنا حماد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال كنا نصلي المغرب مع النبي ثم نرمي فيرى أحدنا مواقع نبله وهذا على المداومة والتكرار ومثله ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا ابن أخي جويرية بن أسماء عن عمه عن مالك بن أنس عن الزهري أن عبد الله بن كعب بن مالك أخبره أن رجلا من أصحاب النبي أخبره أن رسول الله كان يصلي المغرب ثم ننصرف إلى أهلنا في بني سلمة فنبصر مواقع نبلنا.

وهذا حديث غريب من حديث مالك وقد رواه جماعة عن الزهري وروى جعفر بن برقان هذاالحديث عن الزهري فقال في آخره قلت للزهري وكم كانت منازلهم من المدينة قال على ثلثي ميل وهذا غاية في تعجيل المغرب وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال حدثنا علي بن المديني وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عمرو بن علي قالوا جميعا حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال كان رسول الله يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا سقط حاجبها وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن عمر قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله قال قدم علينا أبو أيوب غازيا وعقبة بن عامر يومئذ على مصر فأخر المغرب فقام إليه أبو أيوب فقال ما هذه الصلاة يا عقبة فقال شغلنا فقال أما سمعت رسول الله يقول "لا تزال أمتي بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم" ومن حديث علي عن النبي مثله قال "لا تزال هذه الأمة بخير ما صلوا صلاة المغرب قبل اشتباك النجوم" وليس في حديث القراءة بالأعراف وشبهها في المغرب حجة قاطعة في سعة وقتها لأن المراعاة في ذلك وقت الدخول فيها فإذا دخل المصلى فيها على ما أمر فله أن يمتد في ذلك ما لم يدخل وقت صلاة أخرى كما أن من أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس كان له أن يمتد في الثانية وهذا كله على المتعارف من سنن الصلوات وبالله التوفيق.

وكما فعل أبو بكر رضي الله عنه إذ قرأ بالبقرة في صلاة الصبح وكان يغلس فلما سلم من صلاته قيل له كادت الشمس أن تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين يعني والله أعلم أنه دخل في الصلاة في أول وقتها ومد قراءتها.

وأجمعوا على أن وقت العشاء الآخرة للمقيم مغيب الشفق والشفق الحمرة التي تكون في المغرب تبقى في الأفق بعد مغيب الشمس هذا قول مالك و الشافعي والثوري والأوزاعي وأكثر العلماء وروى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم شداد بن أوس وعبادة وابن عمر وإليه ذهب داود وكان أبو حنيفة يقول الشفق البياض وإليه ذهب المزني وقال أحمد بن حنبل أما في الحضر فأحب إلى أن لا تصلى حتى يذهب البياض احتياطا وأما في السفر فيجزيه أن يصلي إذا ذهبت الحمرة.

واختلفوا في آخر وقتها فالمشهور من مذهب مالك في آخر وقت العشاء في السفر والحضر لغير أصحاب الضرورات ثلث الليل الأول ويستحب لأهل مساجد الجماعة ألا يعجلوا بها في أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس وتأخيرها قليلا أفضل عنده وروى ابن وهب عن مالك قال وقتها من حين يغيب الشفق إلى أن يطلع الفجر وهو قول داود وقال الثوري والحسن بن حي أول وقت العشاء مغيب الشفق إلى ثلث الليل وال عيسى بعده آخره وقال أبو حنيفة وأصحابه المستحب في وقتها إلى ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد عيسى الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر وقال الشافعي آخر وقتها إلى أن يمضي ثلث الليل فإذا مضى ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة وقال أبو ثور وقتها من مغيب الشفق إلى عيسى الليل.

قال أبو عمر: في أحاديث إمامة جبريل من رواية ابن عباس وجابر ثلث الليل وكذلك في حديث أبي موسى الأشعري وفي حديث أبي مسعود الأنصاري وحديث أبي هريرة ساعة من الليل وفي حديث عبد الله بن عمرو عيسى الليل وحديث علي مثله وحديث الحكم بن عتيبة عن نافع عن ابن عمر نحوه وروى أبو سعيد وغيره عن النبي : "لولا سقم السقيم وضعف الضعيف ولولا أن أشق على أمتي لأخرتها إلى شطر الليل" وفي حديث عائشة حتى ذهب عامة الليل ثم قال: "أنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي" وقال جابر بن سمرة كان رسول الله يؤخر العشاء الآخرة وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة بن أبي بشر عن بشير بن ثابت عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء الآخرة كان رسول الله يصليها لسقوط القمر لثالثة

وذكر أبو داود عن مسدد بإسناده مثله ومن حجة مالك ومن قال بقوله وهو مذهب ابن عباس حديث أبي قتادة عن النبي "إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" وقياس على سائر الصلوات حاشا الصبح فإنها منفردة بوقتها ومن أشرك بين وقتي صلاتي النهار وصلاتي الليل لمن كانت به ضرورة حيض أو إغماء أو نحو ذلك فيلزمه المصير إلى قول مالك إلا أن يجعلوا وقت الضرورة قياسا على السفر فإن الوقت عند الشافعي في السفر له حكم غير حكم الحضر ولا يجوز عنده إشراك الوقت في الحضر لغير أصحاب الضرورات ألبتة.

وأجمعوا أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وانصداعه وهو البياض المعترض في أفق السماء وهو الفجر الثاني الذي ينتشر ويطير وأن آخر وقتها طلوع الشمس إلا أن ابن القاسم روى عن مالك أن آخر وقتها الأسفار وكذلك حكى ابن عبدالحكم عنه أن آخر وقتها الأسفار الأعلى وقال ابن وهب عن مالك آخر وقتها طلوع الشمس وهو قول الثوري والناس وقال الشافعي لا تفوت صلاة الفجر حتى تطلع الشمس قبل أن يدرك منها ركعة بسجودها فمن لم تكمل له ركعة قبل طلوع الشمس فقد فاتته وهو قول أبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري وأبي عبيد وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم يفسدون صلاة من طلعت عليه الشمس وهو يصليها وقد ذكرنا قولهم وحجتهم في ذلك والحجة عليهم في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته هاهنا.

وأما اختيارهم من الأوقات فإن مالكا والليث بن سعد والشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل كانوا يقولون بالتغليس في صلاة الفجر في أول وقتها وذلك أفضل عندهم أن تصلى والنجوم بادية مشتبكة وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي بالإسفار في الفجر في كل الأزمان في الصيف والشتاء وذلك عندهم أفضل.

وقد ذكرنا حجة كل فريق منهم في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته هاهنا وقال مالك يصلي الظهر إذا فاء الفيء ذراعا في الشتاء والصيف وهو أحب إليه في الجماعة وغيرها عند أكثر أصحابه ومنهم من قال إن هذا معناه في مساجد الجماعات وأما المنفرد الذي لا جماعة معه ينتظرها فإنه يصلي في أول الوقت وقال الليث والشافعي يصليها في أول الوقت قال الشافعي إلا في المساجد التي تنتاب من بعيد فإنها يبرد فيها بالظهر والصلوات كلها عند الليث والشافعي أوائل أوقاتها أفضل قال الشافعي إلا الإبراد في شدة الحر في المساجد التي تقصد من المواضع النائية وزعم أبو الفرج أن مذهب مالك أن الصلوات كلها أوائل أوقاتها أفضل إلا الظهر في شدة الحر فإنها تؤخر قليلا في المساجد وغيرها وقال العراقيون تعجل الظهر في الشتاء في أول الوقت وتؤخر في الحر حتى يبرد

وهو قول أحمد بن حنبل قال أول الأوقات أعجب إلي في الصلوات كلها إلا في صلاتين صلاة العشاء الآخرة وصلاة الظهر في الحر يبرد بها وتؤخر حتى يبرد وأما في الشتاء فيعجل بها قال وتؤخر العشاء أبدا مالم يشق على الناس وهذا كله حكاية معنى رواية الأثرم عنه وكلهم قال يصلي العصر والشمس بيضاء نقية إلا ما قال جرير عن الثوري أنه كان يؤخر العصر وغيره عن الثوري كما ذكرنا وكلهم يستحب تعجيل المغرب إلا أن مالكا قال لا بأس للمسافر يمد الميل ونحوه ثم ينزل ويصلي واستحب العراقيون تأخير العشاء وقال الشافعي ومالك والليث أول وقتها أفضل وقد ذكرنا من الآثار ما منه قال كل فريق وبالله التوفيق.

وقال الأوزاعي كان عمر بن عبد العزيز يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل حدثني بذلك عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عنه.

قال أبو عمر: ذكرنا قول عمر هذا وقد قدمنا عنه أنه لما حدثه عروة بن بشير بن أبي مسعود عن أبيه بالحديث المذكور في هذا الباب لم يزل يرتقب الأوقات وتكون عنده علامات الساعات وحسبك به اجتهادا في خلافته وعن حاله تلك حكى رجاء بن حيوة

قال أبو عمر: أشبعنا القول في هذا الباب لأنه ركن من أركان الصلاة عظيم وأصل كبير وحديث مالك فيه مستغلق جدا فبسطناه ومهدناه بالآثار وأقاويل العلماء ليكون كتابنا مغنيا عما سواه كافيا شافيا فيما قصدناه.

وأما قول عروة ولقد حدثتني عائشة أن رسول الله كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر فمعناه قبل أن يظهر الظل على الجدار يريد قبل أن يرتفع ظل حجرتها على جدرها وكل شيء علا شيئا فقد ظهر قال الله عز وجل {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} أي يعلوا عليه وقيل معناه أن يخرج الظل من قاعة حجرتها وكل شيء خرج فقد ظهر والحجرة الدار وكل ما أحاط فهو حجرة وأصل الحجرة مأخوذ من التحجير تقول حجرت على نفسي إذا أحطت عليها بحائط

وفي هذا الحديث دليل على قصر بنيانهم واختصارهم فيه لأن الحديث إنما قصد به تعجيل العصر وذلك إنما يكون مع قصر الحيطان وإنما أرد بذلك عروة ليعلم عمر بن عبد العزيز عن عائشة "أن النبي كان يصلي العصر قبل الوقت الذي أخرها إليه عمر" ذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا حريث بن السائب قال حدثنا الحسن قال كنت أدخل بيوت النبي وأنا محتلم وأنال سقفها بيدي وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن حبيب بن زبان قال حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت "إن رسول الله كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء من حجرتها" وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن عروة عن عائشة قالت "كان رسول الله يصلي العصر والشمس بيضاء نقية في حجرتي لم يظهر الفيء بعد".

قال أبو عمر: كل من ذكر الحديث من المصنفين إنما ذكره في باب تعجيل العصر وقد تقدم في وقت العصر وغيرها ما فيه كفاية لمن تدبر وفهم وفيه دليل على قبول خبر الواحد لأن عمر قبل قول عروة وحده فيما جهله من أمر دينه وهذا منا على التنبيه بأن قبول خبر الواحد مستفيض عند الناس مستعمل لا على سبيل الحجة لأنا لا نقول خبر الواحد حجة في خبر الواحد على من أنكره.

حديث ثان لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله "كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة"

هكذا قال مالك في هذا الحديث وتابعه ابن عيينة والليث بن سعد على إسناده ومتنه إلا أنهما زادا فيه "وكنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد" وهذا اللفظ عند مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وروى هذا الحديث عن ابن شهاب معمر وابن جريج بمثل إسناد مالك إلا أنهما قالا "كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد هو الفرق" فأتيا بلفظ حديث مالك عن هشام بن عروة فذكرا فيه الفرق وليس في حديث هشام ذكر الفرق

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير قال سمعت عائشة تقول "كان رسول الله يغتسل في القدح وهو الفرق وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد" فأتى بحديثي مالك جميعا عن ابن شهاب وهشام في هذا الإسناد وكذلك رواه الليث.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت "كان رسول الله يغتسل في القدح وهو الفرق وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد" حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر وابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت "كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد وهو قدر الفرق" ورواه إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب فخالف جميعهم في إسناده وجعله عن القاسم ولم يجعله عن عروة حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا سليمان بن داود قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنا ابن شهاب عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت "كان رسول الله يغتسل من إناء هو الفرق" قالت عائشة وكنت أغتسل معه في الإناء الواحد قال ابن شهاب وأظن الفرق يومئذ خمسة أقساط

قال أبو عمر: لا أدري ما أراد ابن شهاب بالقسط ولا ما كان مقداره عندهم وأما العرب فالقسط عندها الحصة والمقدار كذلك قال الخليل وقال الخليل الفرق مكيال وقال ابن وهب الفرق مكيال من خشب كان ابن شهاب يقول أنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية وفسر محمد بن عيسى الأعشى عن ابن كنانة الفرق أنه ثلاثة أصوع قال الأعشى والثلاثة أصوع خمسة أقساط وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي وقال ابن مزين قال لي عيسى بن دينار قال لي ابن القاسم وسفيان بن عيينة في الفرق أنه كان يحمل ثلاثة أصوع وقال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول الفرق ستة عشر رطلا وقال موسى الجهني عن مجاهد أنه أتى بقدح حزرته ثمانية أرطال فقال حدثتني عائشة أن رسول الله "كان يغتسل بمثل هذا"

وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الفرق كم هو قال ثلاثة أصوع

قال أبو عمر: قول ابن شهاب وابن عيينة وابن القاسم والأعشى قريب من قريب في مقدار الفرق وكذلك قول أحمد بن حنب وأما قول مجاهد فبعيد وقول أولئك أولى والله أعلم.

وروى في الموطأ الفرق والفرق بتسكين الراء وتخفيفها وحركتها ورواية يحيى بالإسكان وتابعه قوم وأما قول عائشة "كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد" فرواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة من حديث شعبة وغيره عن عبد الرحمن ورواه إبراهيم عن الأسود عن عائشة ورواه هشام عن أبيه عن عائشة وقد ذكرنا الاختلاف فيه على ابن شهاب.

وفيه من الفقه ترك التحديد فيما يكفي من الماء وأن فضل المرأة لا بأس بالوضوء منه وسنذكر الاختلاف في ذلك ووجه الصواب فيه إن شاء الله عند ذكر حديث نافع عن ابن عمر إن كان الرجال والنساء ليتوضؤن جميعا في زمان رسول الله لأن حديث هشام بن عروة هذا ليس من رواية مالك في الموطأ وإذا توضأ الاثنان وأكثر من إناء واحد ففي ذلك دليل على أنه لا تحديد ولا توقيف فيما يكفي المغتسل والمتوضىء من الماء وحسبه الاتيان بالماء على ما يغسل من الأعضاء غسلا وعلى ما يمسح مسحا.

وأما حديث ابن شهاب المذكور في هذا الباب ففيه من الفقه الاقتصار على أقل ما يكفي من الماء وأن الإسراف فيه مذموم وفي ذلك رد على الإباضية ومن ذهب مذهبهم في الاكثار من الماء وهذا ما سيق هذا الحديث له والله أعلم إنكارا على أولئك الطائفة لأنه مذهب ظهر في زمن التابعين وسئل عنه الصحابة ونقل في ذلك من الحديث ما ترى وروى عبد الله بن المبارك عن شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبر عن أنس بن مالك قال كان النبي يتوضأ بمكوك ويغتسل بخمس مكاكيك.

وقال الخليل الصاع طاس يشرب به والمكوك مكيال وقال أبو جعفر محمد بن علي تمارينا في الغسل عند جابر فقال جابر يكفي للغسل صاع من ماء قلنا ما يكفي صاع ولا صاعان فقال جابر قد كان يكفي من كان خيرا منكم وأكثر شعرا.

وقد روي عن النبي من وجوه أنه "كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع" وهي آثار مشهورة مستعملة عند قوم من الفقهاء وليست أسانيدها مما يحتج به والذي اعتمد عليه البخاري وأبو داود في باب ما يكفي الجنب من الماء حديث الفرق المذكور في هذا الباب

وهذه الآثار كلها إنما رويت إنكارا على الإباضية وجملتها تدل على أن لا توقيت فيما يكفي من الماء والدليل على ذلك أنهم أجمعوا أن الماء لا يكال للوضوء ولا للغسل من قال منهم بحديث المد والصاع ومن قال بحديث الفرق لا يختلفون أنه لا يكال الماء لوضوء ولا لغسل لا أعلم في ذلك خلافا ولو كانت الآثار في ذلك على التحديد الذي لا يتجاوز استحبابا أو وجوبا ما كرهوا الكيل بل كانوا يستحبونه اقتداء وتأسيا برسول الله ولا يكرهونه روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول صاع للغسل من غير أن يكال قال وأخبرني ابن جريج قال قلت لعطاء كم بلغك أنه يكفي الجنب قال صاع من ماء من غير أن يكال

حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا القعنبي قال سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب ورجلا من أهل العراق يسأله عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة فقال له سعيد إن لي تورا يسع مدين من ماء أو نحوهما وأغتسل به فيكفيني ويفضل منه فضل فقال الرجل والله إني لأستنثر بمدين من ماء فقال سعيد بن المسيب فما تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك فقال له الرجل وإن لم يكفني فإني رجل كما ترى عظيم فقال له سعيد ثلاثة أمداد فقال إن ثلاثة أمداد قليل فقال له سعيد فصاع قال عبد الرحمن وقال لي سعيد إن لي لركوة أو قدحا ما يسع إلا عيسى المد ونحوه وإني لأتوضأ منه وربما فضل منه فضل قال عبد الرحمن فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال لي سليمان بن يسار وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة هكذا سمعنا عن أصحاب رسول الله .

قال الأثرم وحدثنا أبو حذيفة قال حدثنا عكرمة بن عمار قال كنت مع القاسم بن محمد فدعا بوضوء فأتى بقدر عيسى مد وزيادة قليل فتوضأ به قال وسألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل أيجزىء في الوضوء مد قال نعم إذا أحسن أن يتوضأ به قلت فإن الناس في الأسفار ربما ضاق عليهم الماء أفيجزىء الرجل أن يتوضأ بأقل من المد قال إذا أحسن أن يتوضأ به فإنه يجزيه ثم قال أبو عبد الله لا يمسح إنما هو الغسل قال الله عز وجل {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [ المائدة: 6] فإنما هو الغسل ليس هو المسح فإذا أمكنه أن يغسل به غسلا فإن مدا أو أقل أجزاه

قال أبو عمر: على هذا جماعة العلماء من أهل الفقه والأثر بالحجاز والعراق ولا يخالف في هذا إلا مبتدع ضال وبالله التوفيق

حديث ثالث لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة "أن رسول الله صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من الليلة القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله فلما أصبح قال "قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن يفرض عليكم وذلك في رمضان"

هذا حديث صحيح لم يختلف في إسناده ولا في متنه وفيه من الفقه الاجتماع في النافلة وإن النوافل إذا اجتمع في شيء منها على سنتها لم يكن لها أذان ولا إقامة لأنه لم يذكر الآذان في ذلك ولو كان لذكر ونقل

وقد أجمع العلماء أن لا أذان ولا إقامة في النافلة فأغنى عن الكلام في ذلك وفيه أن قيام رمضان سنة من سنن النبي مندوب إليها مرغوب فيها ولم يسن منها عمر بن الخطاب إذ أحياها إلا ما كان رسول الله يحبه ويرضاه ولم يمنع من المواظبة عليه إلا خشية أن يفرض على أمته وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما فلما علم ذلك عمر من رسول الله وعلم أن الفرائض لا يزاد فيها ولا ينقص منها بعد موته عليه الصلاة والسلام أقامها للناس وأحياها وأمر بها وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة وذلك شيء ادخره الله له وفضله به ولم يلهم إليه أبا بكر وإن كان أفضل من عمر وأشد سبقا إلى كل خير بالجملة ولكل واحد منهم فضائل خص بها ليست لصاحبه ألا ترى إلى قول رسول الله "ارحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرأهم أبي بن كعب" فجعل لكل واحد منهم خصلة أفرده بها لم يلحقه فيها صاحبه وكان علي بن أبي طالب يستحسن ما فعل عمر من ذلك ويفضله ويقول نور شهر الصوم

وحدثني خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يحيى بن أيوب العلاف وعمرو بن أحمد بن عمرو

وأحمد بن حماد زغبة قالوا حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القاري عن نافع عن ابن عمر أن النبي قال "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"

ورواه ابن وهب عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثله عن النبي والضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر عن النبي مثله ورواه أبو ذر وأبو هريرة عن النبي أخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر الحافظ حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي حدثنا بشر بن عمر حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله "إن الله عز وجل فرض عليكم صيام شهر رمضان وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني لم يذكره إلا أبو قلابة عن بشر بن عمر وكذلك قوله ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غير محفوظ لمالك عن الزهري

قال أبو عمر: أبو قلابة ثقة وبشر بن عمر ثقة والحديث غريب ومما يدل على أن قيام رمضان سنة من سنن النبي ما رواه عبد الله بن وهب قال أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال خرج رسول الله وإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال "من هؤلاء" فقيل هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يصلي بهم وهم يصلون بصلاته فقال النبي "أصابوا ونعم ما صنعوا" فقد أقرهم رسول الله على ذلك وما أقر عليه فقد رضيه وذلك سنة.

ومما يؤيد ذلك أيضا قول عائشة أن "كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"

وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قالا جميعا حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا داود بن أبي هند عن الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير عن أبي ذر قال "صمنا يعني رمضان فلم يقم بنا يعني النبي شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل قال فقال أن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة فلما كانت الرابعة لم يقم بنا فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال قلت وما الفلاح قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر"

حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا أحمد بن سليمان قال حدثنا زيد ابن بن حباب قال أخبرني معاوية بن صالح قال حدثني نعيم بن زياد أبو طلحة قال سمعت النعمان بن بشير على منبر حمص يقول "قمنا مع رسول الله في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى عيسى الليل ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح وكانوا يسمونه السحور".

فهذه الآثار في معنى حديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة المذكور في هذا الباب وفيها تفسير له وعبارة عن معنى الليلة القابلة والليلة الثالثة والرابعة المذكرات فيه

واختلف العلماء في عدد قيام رمضان فقال مالك تسع وثلاثون بالوتر ست وثلاثون والوتر ثلاث وزعم أنه الأمر القديم وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وداود ومن اتبعهم عشرون ركعة سوى الوتر لا يقام بأكثر منها استحبابا واحتجوا بحديث السائب بن يزيد "أنهم كانوا يقومون في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة".

ذكر عبد الرزاق عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد "أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الدارى على إحدى وعشرين ركعة يقرؤون بالمئين وينصرفون في فروع الفجر" روى مالك هذا الحديث عن محمد بن يوسف عن السائب بن زيد قال "أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بأحدى عشرة ركعة قال وكان القارىء يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر" هكذا قال مالك في هذا الحديث إحدى عشرة ركعة وغيره يقول فيه إحدى وعشرين وقد روى الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن السائب بن يزيد قال كنا ننصرف من القيام على عهد عمر بن الخطاب وقد دنا فروع الفجر وكان القيام على عهده بثلاث وعشرين ركعة وهذا محمول على أن الثلاث للوتر وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عمران بن موسى أن يزيد بن خصيفة أخبرهم عن السائب بن يزيد عن عمر قال جمع عمر الناس على أبي بن كعب وتميم الداري

فكان أبي بن كعب يوتر بثلاث ركعات وعن معمر عن قتادة عن الحسن قال كان أبي بن كعب يوتر بثلاث لا يسلم الا في الثالثة مثل المغرب وقد ذكرنا أحكام الوتر في باب نافع وما للعلماء فيه من المذاهب ممهدا والحمد لله.

وقد روى مالك عن يزيد بن رومان قال كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة وقد روى عن النبي أنه "كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر" إلا أنه حديث يدور على أبي شيبة إبراهيم بن عثمان جد بني أبي شيبة وليس بالقوي حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا إبراهيم بن عثمان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله "كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر" وعن علي رضي الله عنه أنه أمر رجلا يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة وهذا أيضا سوى الوتر.

واختلفوا أيضا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان فقال مالك والشافعي صلاة المنفرد في بيته في رمضان أفضل قال مالك وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس قال مالك وأنا أفعل ذلك وما قام رسول الله إلا في بيته واحتج الشافعي بحديث زيد بن ثابت أن النبي قال في قيام رمضان "أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" قال الشافعي ولا سيما مع رسول الله في مسجده على ما كان في ذلك كله من الفضل وحديث زيد بن ثابت هذا حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الديبلي قال حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ قال حدثنا محمد بن معاوية الجمحي قال حدثنا سليمان بن بلال عن إبراهيم بن أبي النضر عن أبيه عن بشر بن سعيد عن زيد بن ثابت أن رسول الله قال "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" .

وروينا عن ابن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس وقال الليث بن سعد لو أن الناس قاموا في رمضان لأنفسهم ولأهليهم كلهم حتى يترك المسجد لا يقوم فيه أحد لكان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه لأن قيام الناس في شهر رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه وهو مما بين عمر بن الخطاب للمسلمين وجمعهم عليه قال الليث فأما إذا كانت الجماعة فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في بيته ولأهل بيته وحجة من قال بقول الليث قوله "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي" ولا يختلفون أن عمر منهم رضي الله عنهم وقال قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي فمن أصحاب أبي حنيفة عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران ومن أصحاب الشافعي إسماعيل بن يحيى المزني ومحمد بن عبد الله بن عبدالحكم كلهم قالوا الجماعة في المسجد في قيام رمضان أحب إلينا وأفضل من صلاة المرء في بيته واحتجوا بحديث أبي ذر عن النبي "أن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة"

وقد ذكرنا هذا الحديث فيما تقدم من هذا الباب وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل قال أبو بكر الأثرم كان أحمد بن حنبل يصلي مع الناس التراويح كلها يعني الإشفاع إلى آخرها ويوتر معهم ويحتج بحديث أبي ذر قال أحمد بن حنبل كان جابر وعلي وعبد الله يصلونها في جماعة قال الأثرم وحدثنا عبد الله بن رجاء قال حدثنا إسرائيل عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال لأن أصلي مع إمام يقرأ بهل أتاك حديث الغاشية أحب إلي أن أقرأ مائة آية في صلاتي وحدي

قال أبو عمر: هذا عندي لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون أراد صلاة الفريضة قال الأثرم وسمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الصلاة بين التراويح فكرهها فذكر له في ذلك رخصة عن بعض الصحابة فقال هذا باطل وإنما فيه رخصة عن الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم قال أحمد وفيه عن ثلاثة من الصحابة كراهيته عبادة بن الصامت وعقبة بن عامر وأبو الدرداء قال أبو بكر الأثرم وحدثنا أحمد بن حباب قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا ثور بن يزيد عن راشد بن سعد أن أبا الدرداء أبصر قوما يصلون بين التراويح فقال ما هذه الصلاة أتصلي وإمامك قاعد بين يديك ليس منا من رغب عنا وقال من قلة فقه الرجل أن يرى أنه في المسجد وليس في صلاة

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبدالمؤمن قال حدثنا عبدالحميد بن أحمد الوراق قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم فذكره بإسناده وذكر سائر كلام أحمد وكل ما في كتابي هذا عن الأثرم عن أحمد وغيره فبهذا الإسناد وحدثنا عبد الله قال حدثنا عبدالحميد قال حدثنا الخضر قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا محمد بن صبيح عن إسماعيل بن زياد قال مر علي رضي الله عنه على المساجد وفيها القناديل في شهر رمضان فقال نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا

وقال أبو جعفر الطحاوي قيام رمضان واجب على الكفاية لأنهم قد أجمعوا أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان فمن فعله كان أفضل ممن انفرد كسائر الفروض التي هي على الكفاية قال وكل من اختار التفرد فينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا

قال أبو عمر: القيام في رمضان تطوع وكذلك قيام الليل كله وقد خشي رسول الله أن يفرض على أمته فمن أوجبه فرضا أوقع ما خشيه رسول الله وخافه وكرهه على أمته وإذا صح أنه تطوع فقد علمنا بالسنة الثابت أن التطوع في البيوت أفضل إلا أن قيام رمضان لا بد أن يقام اتباعا لعمر واستدلالا بسنة رسول الله في ذلك فإذا قامت الصلاة في المساجد فالأفضل عندي حينئذ حيث تصلح للمصلى نيته وخشوعه وإخباته وتدبر ما يتلوه في صلاته فحيث كان ذلك مع قيام سنة عمر فهو أفضل إن شاء الله وبالله التوفيق.

حديث رابع لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله "كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن".

إلى هاهنا انتهت رواية يحيى في هذا الحديث وجماعة الرواة للموطأ وأما أصحاب ابن شهاب فرووا هذا الحديث عن ابن شهاب بإسناده هذا فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لا بعد الوتر وذكر بعضهم فيه عن ابن شهاب أنه كان يسلم من كل ركعتين في الإحدى عشرة ركعة ومنهم من لم يذكر ذلك وكلهم ذكر اضطجاعه بعد ركعتي الفجر في هذا الحديث وزعم محمد بن يحيى وغيره أن ما ذكروا من ذلك هو الصواب دون ما قاله مالك

قال أبو عمر: لا يدفع ما قاله مالك من ذلك لموضعه من الحفظ والاتقان وثبوته في ابن شهاب وعلمه بحديثه وقد وجدنا معنى ما قاله مالك في هذا الحديث منصوصا في حديثه عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس حين بات عند ميمونة خالته قال "فقام رسول الله فصلى ركعتين ثم ركعتين حتى انتهى إلى اثنتي عشرة ركعة قال ثم أوتر ثم اضجطع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين"

ففي هذا الحديث أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر على ما ذكر مالك في حديث ابن شهاب هذا فغير نكير أن يكون ما قاله مالك في حديث ابن شهاب وإن لم يتابعه عليه أحد من أصحاب ابن شهاب وقال محمد بن يحيى الذهلي في حديث ابن شهاب هذا عن عروة عن عائشة أن رسول الله كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة فإذا انفجر الصبح صلى ركعتين خفيفتين قال هكذا رواه معمر وعقيل وشعيب بن أبي حمزة لم يقولوا في حديثهم يسلم من كل ركعتين ولا ذكروا يوتر بواحدة قال وذكر فيه يونس الأيلي وابن أبي ذئب والأوزاعي يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة وذكر فيه مالك يوتر بواحدة ولم يذكر يسلم من كل ركعتين.

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبدالمؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ونصر بن عاصم الأنطاكي قال حدثنا الوليد قال حدثنا الأوزاعي وابن أبي ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت "كان رسول الله يصلي فيما بين أن يخلو من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل اثنتين ويوتر بواحدة ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن بالأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن" وذكر ابن وهب في موطئه عن عمرو بن الحارث ويونس بن يزيد وابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مثله وأخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة قالت "كان رسول الله يصلي إحدى عشرة ركعة فيما بين أن يخلو من صلاة العشاء إلى الفجر بالليل سوى ركعتي الفجر ويسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن بالاول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن".

وفي هذا الحديث من الفقه أن قيام الليل سنة مسنونة لأن رسول الله فعله وواظب عليه ولفظ الحديث يدل على مداومته على ذلك وذلك معروف محفوظ يغني عن الإكثار فيه وقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم حتى ترم قدماه فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "ألا أكون عبدا شكورا؟"

والوتر سنة وهو من صلاة الليل لأنه بها سمى وترا وإنما هو وتر لها وقد أوجبه بعض أهل الفقه فرضا وفي قول رسول الله للأعرابي "أنه ليس الخمس إلا أن يطوع" ما يرد قوله وسنبين ذلك بحجته في موضع من كتابنا إن شاء الله وأوجب بعض التابعين قيام الليل فرضا ولو كقدر حلب شاة

وهو قول شاذ متروك لإجماع العلماء على أن قيام الليل منسوخ عن الناس بقوله عز وجل {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [ المزمل: 20]

والفرائض لا تثبت إلا بتقدير وتحصيل وللكلام في ذلك هذا وأما الإحدى عشرة ركعة المذكورة في هذا الحديث فمحملها عندنا أنها كانت مثنى مثنى حاشى ركعة الوتر بدليل قول رسول الله في حديث ابن عمر "صلاة الليل مثنى مثنى" وأن ذلك قد ذكره في هذا الحديث جماعة من أصحاب ابن شهاب منهم الأوزاعي وابن أبي ذئب وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد وهذا موضع فيه اختلاف بين أهل العلم لاختلاف الآثار في ذلك وسنذكر ما قالوه فيه في باب نافع من هذا الكتاب ويأتي منه ذكر في باب سعيد بن أبي سعيد إن شاء الله وقد ذهب قوم إلى أن المصلي بالليل إذا ركع ركعتي الفجر كان عليه أن يضطجع على ما جاء في هذا الحديث

وزعموا أن الاضطجاع سنة في هذا الموضع واحتجوا بحديث ابن شهاب هذا عن عروة عن عائشة "أن رسول الله كان إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن" هكذا قال كل من روى هذا الحديث عن ابن شهاب إلا مالك بن أنس فإنه جعل الاضطجاع في هذا الحديث بعد الوتر واحتج أيضا من ذهب إلى الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مع ما ذكرنا بحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله "إذا صلى أحدكم ركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه" الحديث

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا الأعمش فذكره بإسناده سواء وأبى جماعة من أهل العلم ذلك وقالوا ليس الاضطجاع بسنة وإنما كان ذلك راحة لطول قيامه واحتجوا بحديث أبي سلمة عن عائشة قالت "كان رسول الله إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت نائمة اضطجع وإن كنت مستيقظة حدثني" وفي لفظ بعض الناقلين لهذا الحديث إن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع وقد قال ابن القاسم ورواه عن مالك أيضا أنه لا بأس بالضجعة بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح إن لم يرد بها أن يفصل بينهما وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يسئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فقال ما أفعله أنا فإن فعله رجل ثم سكت كأنه لم يعبه إن فعله قيل له لم لم تأخذ به فقال ليس فيه حديث يثبت قلت له حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال رواه بعضهم مرسلا وذكر أبو بكر الأثرم من وجوه عن ابن عمر أنه أنكره وقال أنها بدعة وعن إبراهيم وأبي عبيدة وجابر بن زيد أنهم أنكروا ذلك

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه رواية مالك مما رواه أصحاب ابن شهاب عنه على ما ذكرناه في هذا الباب من اتخاذ مؤذن راتب للآذان.

وفيه أشعار المؤذن للإمام بدخول الوقت وإعلامه بذلك

وفي ذلك ما يدل على أن على المؤذنين ارتقاب الأوقات وقد احتج بعض من لا يجيز الآذان للصبح قبل الفجر بحديث ابن شهاب هذا من رواية عقيل وغيره لأن فيه فإذا سكت المؤذن الأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قالوا فهذا يدل على أن الآذان لصلاة الفجر إنما كان بعد الفجر في حين يجوز فيه ركوع ركعتي الفجر لقوله المؤذن الأول وهذا التأويل قد عارضه نص قوله "أن بلالا ينادي بليل" وسيأتي القول فيه في باب ابن شهاب عن سالم إن شاء الله.

وفيه أن ركعتي الفجر خفيفتان.

وفيه دليل على أن رسول الله "كان لا يترك ركعتي الفجر وأنه كان يواظب عليهما كما يواظب على الوتر".

واختلف العلماء في الأوكد منهما فقالت طائفة الوتر أوكد وكلاهما سنة ومن أصحابنا من يقول ركعتا الفجر ليستا بسنة وهما من الرغائب والوتر سنة مؤكدة.

وقال اخرون ركعتا الفجر سنة مؤكدة كالوتر وقال آخرون هما أوكد من الوتر لأن الوتر ليس بسنة إلا على أهل القرآن ولكل واحد من هذه الطوائف حجة من جهة الأثر سنذكرها في أولى المواضع بها من كتابنا هذا إن شاء الله

وروي عن النبي أنه قال "ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها" وفاتتا عبد الله بن أبي ربيعة فأعتق رقبة واحتج بعض من ذهب إلى أن ركعتي الفجر أوكد من الوتر بأن رسول الله قضاهما حين نام عن الصلاة في سفره كما قضى الفريضة وأن الوتر لا يقضى بعد صلاة الصبح وأنه لا يقضي شيى من السنن والنوافل غيرها وبالله التوفيق.

حديث خامس لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله "كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث قالت فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها".

هكذا في روايتنا ليحيى وأمسح عليه وتابعه قتيبة وغيرهما يقول فيه وأمسح عنه وفيه إثبات الرقى والرد على من أنكره من أهل الإسلام وفيه الرقى بالقرآن وفي معناه كل ذكر لله جائز الرقية به وفيه إباحة النفث في الرقى والتبرك به والنفث شبه البصق ولا يلقى النافث شيئا من البصاق وقيل كما ينفث أكل الزبيب وفيه المسح باليد عند الرقية وفي معناه المسح باليد على كل ما ترجى بركته وشفاؤه وخيره مثل المسح على رأس اليتيم وشبهه وفيه التبرك بأيمان الصالحين قياسا على ما صنعت عائشة بيد النبي وفيه التبرك باليمنى دون الشمال وتفضيلها عليها وفي ذلك معنى الفأل.

وأما اختلاف الألفاظ في هذا الحديث عن مالك فحدثنا خلف بن قاسم حدثنا أبو علي الحسين بن أحمد بن محمد القطربلي بمكة

حدثنا إدريس بن عبد الكريم أبو الحسن الحداد حدثنا أحمد بن حاتم أبو جعفر الطويل حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي "كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذات وتفل أو قال نفث" وحدثنا أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن الحجاج النصيبي ومحمد بن أحمد بن موسى بن هارون الأنماطي بمكة وأبو الحسن علي بن علان وأبو يوسف يعقوب بن مسدد بن يعقوب وأبو الحسن علي بن فارس بن طرخان وثوابة بن أحمد بن ثوابة قالوا حدثنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا أحمد بن حاتم قال حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة فذكر الحديث وحدثنا خلف قال حدثنا الحسن بن الخضر حدثنا أحمد بن شعيب وحدثنا خلف حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد حدثنا أحمد بن محمد بن عبيد الله التستري قالا أنبأنا علي بن خشرم أنبأنا عيسى بن يونس حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "كان رسول الله إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذات وينفث" وحدثنا خلف حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الديبلي حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ حدثنا عبد الله بن عمر بن أبي الوزير

حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "كان رسول الله يرقى نفسه بالمعوذتين وينفث" وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي قال حدثنا بشر بن عمر قال أنبأنا مالك قال حدثنا ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: لما اشتكى رسول الله شكاته التي توفي فيها كان يقرأ على نفسه بقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ويمسح بيده على جسده فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه بهما وأمسح بيده رجاء بركة يده".

وحدثنا قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا نصر بن مرزوق قال حدثنا أبو صالح الحراني عبدالغفار بن داود قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عائشة أن رسول الله "كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بقل هو الله أحد والمعوذتين" فزاد عيسى بن يونس ذكر قل هو الله أحد وقد يحتمل أن يكون ذلك بمعنى رواية يحيى بالمعوذات والله أعلم وحدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا ابن مهدي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن رسول الله كان إذا مرض يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث" رواه وكيع عن مالك فاختصره وكان كثيرا ما يختصر الأحاديث حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن مالك عن الزهري عن عائشة "أن النبي كان ينفث في الرقية" وحدثنا خلف بن قاسم وعبد الرحمن بن يحيى قالا حدثنا الحسن بن الخضر حدثنا أحمد بن شعيب وحدثنا خلف حدثنا يوسف بن القاسم بن يوسف الميانجي حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج قالا حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "أن النبي كان ينفث" وكذلك رواه زيد بن أبي الزرقاء عن مالك بإسناده هذا بلفظ وكيع سواء "أن رسول الله كان ينفث في الرقية" ذكره النسائي عن عيسى عن زيد حدثناه خلف وعبد الرحمن عن الحسن بن الخضر عنه وأما رواية ابن بكير والقعنبي وقتيبة والتنيسي وابن القاسم وأبي المصعب وسائر رواة الموطأ فألفاظهم في هذا الحديث مثل لفظ يحيى سواء إلى آخره

قال أبو عمر: أجاز أكثر العلماء النفث عند الرقي أخذا بهذا الحديث وما كان مثله وكرهته طائفة فيهم الأسود بن يزيد رواه جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود أنه كان يكره النفث ولا يرى بالنفخ بأسا وروى الثوري عن الأعمش عن إبراهيم قال إذا دعوت بما في القرآن فلا تنفث وهذا شيء لا يجب الالتفات إليه إلا أن من جهل الحديث ولم يسمع به وسبق إليه من الأصول ما نزع به فلا حرج عليه ولكنه لا يلتفت مع السنة إليه وأظن الشبهة التي لها كره النفث من كرهه ظاهر قوله الله عز وجل {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [ الفلق: 4] وهذا نفث سحر والسحر باطل محرم وما جاء عن رسول الله ففيه الخير والبركة وبالله التوفيق

حديث سادس لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت "ما سبح رسول الله سبحة الضحى قط وإني لأسبحها وإن كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"

أما قولها ما سبح سبحة الضحى فمعناه ما صلى صلاة الضحى قال الله عز وجل {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [ الصافات: 143] قال المفسرون من المصلين إلا أن أهل العلم لا يوقعون اسم سبحة إلا على النافلة دون الفريضة لقوله "واجعلوا صلاتكم معهم سبحة" أي نافلة وفي هذا الحديث من الفقه معرفة رأفة رسول الله بأمته ورحمته بهم صلوات الله عليه وسلامه كما قال الله عز وجل {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [ التوبة: 128]

وأما قول عائشة "ما سبح رسول الله سبحة الضحى قط" فهو مما قلت لك أن من علم السنن علما خاصا يوجد عند بعض أهل العلم دون بعض وليس أحد من الصحابة إلا وقد فاته من الحديث ما أحصاه غيره والإحاطة ممتنعة وهذا ما لا يجهله إلا من لا عناية له بالعلم وإنما حصل المتأخرون على علم ذلك مذ صار العلم في الكتب لكنهم بذلك دخلت حفظهم داخلة فليسوا في الحفظ كالمتقدمين وإن كان قد حصل في كتب المقل منهم علم جماعة من العلماء والله ينور بالعلم قلب من يشاء.

وقد روي عن النبي آثار كثيرة حسان في صلاة الضحى منها حديث أم هانئ وغيرها فحديث أم هانئ من رواية مالك سيأتي في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله وأما غير رواية مالك في حديث أم هانئ وغير إسناده فقرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر

قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن عكرمة بن خالد عن أم هانىء اعتمر أبي طالب أنها قالت قدم رسول الله في الفتح فتح مكة فنزل بأعلى مكة فصلى ثماني ركعات فقلت يا رسول الله ما هذه الصلاة قال "صلاة الضحى" فحفظت أم هانىء ما جهلت عائشة وأين أم هانىء في الفقه والعلم من عائشة فبالأغلب! من الأمور يقضي وعليه المدار وهو الأصل.

وقد روى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عن أم هانىء قالت لما كان يوم الفتح اغتسل رسول الله وصلى ثماني ركعات فلم يره أحد صلاهن بعد هذه أم هانىء لم تعلم بأن رسول الله صلاهن بعد وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى قال ما خبرنا أحد أنه رأى رسول الله صلى صلاة الضحى غير أم هانىء فإنها ذكرت أن رسول الله يوم فتح مكة اغتسل في بيتها وصلى ثماني ركعات فلم يره أحد صلاهن بعد وابن أبي ليلى من كبار التابعين وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مضر بن محمد قال حدثنا سعيد بن حفص الحراني قال حدثنا موسى بن أعين عن إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال سمعته يقول سألت وحرصت على أحد يحدثني أنه رأى رسول الله يصلي صلاة الضحى فلم أجد غير أم هانىء بنت أبي طالب فإنها ذكرت أن رسول الله دخل عليها يوم فتح مكة فأمر بماء فوضع له فاغتسل ثم صلى في بيتها ثماني ركعات تقول أم هانىء لا أدري أقيامه أطول أم ركوعه ولا أدري أركوعه أطول أم سجوده غير أن ذلك مقارب يشبه بعضه بعضا ورواه ابن عيينة عن عبدالكريم أبي أمية ويزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث قال سألت عن صلاة الضحى في إمارة عثمان وأصحاب رسول الله متوافرون فلم أجد أحدا أثبت لي صلاة رسول الله الضحى إلا أم هانئ فذكر الحديث قال عبد الله بن الحارث حدثت به ابن عباس فقال إن كنت لأمر على هذه الآية {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} فهذه صلاة الإشراق

قول ابن شهاب في هذا الحديث عن أبيه هو الصواب لا ما قال عبدالكريم ويزيد بن أبي زياد والله أعلم.

فهذه الآثار كلها حجة لعائشة في قولها ما سبح رسول الله سبحة الضحى قط لأن كثيرا من الصحابة قد شركها في جهل ذلك ومما يؤيد ذلك أيضا حديث جابر بن سمرة قال سماك بن حرب قلت لجابر بن سمرة أكنت تجالس رسول الله قال نعم كثيرا كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الغداة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام وهذا حديث صحيح رواه الثوري وغيره جماعة عن سماك.

وأما الآثار المروية في صلاة الضحى فحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن واصل عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود عن أبي ذر قال قال رسول الله "يصبح ابن آدم وعلى كل سلامي منه صدقة فإماطته الأذى عن الطريق صدقة وتسليمه على من لقى صدقة وأمره بالمعروف صدقة ونهيه عن المنكر صدقة ومجامعته أهله صدقة قالوا يا رسول الله أحدنا يضع شهوته فتكون له صدقة قال أرأيتم لو وضعها في غير حل ألم يكن يأثم ثم قال وركعتا الضحى يجزيان عن ذلك كله" .

قال أبو داود وحدثنا وهب بن بقية قال حدثنا خالد عن واصل عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي قال بينما نحن عند أبي ذر فذكر نحوه وفيه ذكر الصلاة والصوم والحج والتسبيح والتكبير والتحميد كل ذلك صدقة وقال فعد رسول الله من هذه الأعمال الصالحة ثم قال "يجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى" .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن محمد البرتي قال حدثنا عاصم بن علي وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أنبأنا علي بن حجر قالا أنبأنا إسماعيل بن جعفر قال أخبرني محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار عن أبي ذر قال "أوصاني حبيبي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله أبدا الضحى وبالوتر قبل النوم وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر" وروى أبو الدرداء عن النبي مثله حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحداد قال حدثنا أحمد بن إبراهيم القرشي بدمشق قال حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد القرشي قال حدثنا خالد بن يزيد بن صالح بن صبيح عن العلاء عن مكحول عن أبي الدرداء قال قال رسول الله "يا عويمر لا تبت إلا على وتر وصل ركعتي الضحى مقيما أو مسافرا وصم ثلاثة أيام من كل شهر تستكمل الزمان كله أو قال الدهر كله" وروى أبو هريرة عن النبي مثله حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن غالب حدثنا بكار بن محمد قال أنبأنا عبد الله بن عون عن محمد عن أبي هريرة قال أمرني رسول الله أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن لا أنام إلا على وتر وبركعتي الضحى وروى هذا عن أبي هريرة من وجوه.

فهذا أبو ذر وأبو الدرداء وأبو هريرة قد رووا عن النبي أنه أوصاهم بركعتي الضحى أو صلاة الضحى.

ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عطاء أن أبا هريرة قال ثلاث لا أدعهن حتى ألقى أبا القاسم أن أبيت على وتر وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصلاة الضحى قال وأخبرنا عمر بن ذر قال سمعت مجاهدا يقول "كان رسول الله يصلي الضحى ركعتين وأربعا وستا وثمانيا" وهذا حديث مرسل وكان سعيد بن جبير ومجاهد يصليان الضحى ويرغبان فيها وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن زبان ابن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله قال "من قعد في مصلاه حين ينصرف من الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر" وهذا الإسناد عندهم لين ضعيف إلا أن الفضائل يروونها عن كل من رواها ولا يردونها وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا الوليد عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار! قال سمعت رسول الله يقول "يا ابن آدم لا تعجزني عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره" فهؤلاء كلهم قد عرفوا من صلاة الضحى ما جهله غيرهم

وأخبرنا إبراهيم بن شاكر قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان قال حدثنا سعيد بن عثمان وسعيد بن حمير قالا حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح قال حدثنا عثمان بن عمر قال حدثنا يونس عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك "أن رسول الله صلى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا" وهذا حديث إنما حدث به عثمان بن عمر بن فارس أو يونس بن يزيد على المعنى بتأويل تأوله وإنما الحديث على حسب ما رواه مالك وغيره عن ابن شهاب على ما مضى في هذا الكتاب في باب ابن شهاب عن محمود بن الربيع والدليل على أنه لا يعرف في هذا الحديث ذكر صلاة الضحى إنكار ابن شهاب لصلاة الضحى فقد كان الزهري يفتي بحديث عائشة هذا ويقول أن رسول الله لم يصل الضحى قط قال وإنما كان أصحاب رسول الله يصلونها بالهواجر أو قال بالهجير ولم يكن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر يصلون الضحى ولا يعرفونها

وروى القاسم بن عوف الشيباني عن زيد بن أرقم أن رسول الله قال "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال" وروى مطر الأعنق عن ثابت عن أنس أن رسول الله قال له "يا أنس وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين" والأول أثبت رواه مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا هشام الدستوائي حدثنا القاسم بن عوف وقال طاوس أول من صلاها الأعراب وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال سمعت ابن عمر يقول ما صليت الضحى منذ أسلمت وروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها وما أحدث الناس شيئا أحب إلي منها وهذا نحو قول عائشة إني لأسبحها وقولها لو نشر لي أبواي ما تركتها أخبرنا محمد بن عبد الملك قال حدثنا ابن الأعرابي قال حدثنا سعيد بن نصر قال

حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر عن ابن رميثة عن أمه قالت دخلت على عائشة فصلت ثماني ركعات من الضحى فسألتها أمي أخبريني عن رسول الله في هذه الصلاة بشيء قالت ما أنا بمخبرتك عن رسول الله فيها بشيء ولكن لو نشر لي أبي على ادعهن ما تركتهن وقد روي عن عائشة في صلاة الضحى حديث منكر رواه معمر عن قتادة عن معاذة العدوية عن عائشة قالت "كان رسول الله يصلي صلاة الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء" وهذا عندي غير صحيح وهو مردود بحديث ابن شهاب المذكور في هذا الباب

حديث سابع لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت "ما خير رسول الله في أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة لله فينتقم لله بها".

في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه والميل إلى اليسر أبدا فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله قال تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [ البقرة: 185]

وفي معنى هذا الأخذ برخص الله تعالى ورخص رسوله والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بينا وقد تقدم من القول في هذا المعنى في باب الفطر في السفر في حديث حميد الطويل وفي باب القبلة للصائم في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ما فيه كفاية.

روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثم.

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا سعيد بن أحمد بن عبد ربه وأحمد بن مطرف قالا حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان بن عيينة عن معمر قال إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل واحد.

وفي هذا الحديث دليل على أن على العالم أن يتجافى عن الانتقام لنفسه ويعفو ويأخذ بالفضل أن أحب أن يتأسى بنبيه وإن لم يطق كلا فبعضا وكذلك السلطان قال الله عز وجل لنبيه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال المفسرون كان خلقه ما قال الله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وعلى العالم أن يغضب عند المنكر ويغيره إذا لم يكن لنفسه وفي معنى هذا الحديث أن لا يقضي الإنسان لنفسه ولا يحكم لها ولا لمن في ولايته وهذا ما لا خلاف فيه والله أعلم.

وهذا الحديث مما رواه منصور عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا عبد الملك بن بحر قال حدثنا موسى بن هرون قال حدثنا العباس بن الوليد قال حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن محمد بن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله منتصرا من ظلامة ظلمها قط إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك وما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما.

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا الفضيل بن عياض عن منصور عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله منتصرا من مظلمة قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضبا وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم قال حدثنا دحيم الدمشقي قال حدثنا مؤمل عن سفيان الثوري عن منصور عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت "ما رأيت رسول الله ينتصر لنفسه من مظلمة ظلمها إلا أن تنتهك محارم الله فيكون لله ينتصر وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما".

وأما رواية ابن إسحاق فحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مضر بن محمد قال حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت "ما خير رسول الله بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراما فإن كان حراما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله لنفسه من شيء يصاب به إلا أن تصاب حرمة الله فينتقم لله بها"

حديث ثامن لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي أنها قالت "إن أزواج النبي حين توفي رسول الله أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فيسألنه ميراثهن من النبي فقالت لهن عائشة أليس قد قال رسول الله "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" .

هكذا روى هذا الحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي لم يجعله عن عائشة عن أبي بكر عن النبي وكل أصحاب مالك رووه عنه كذلك إلا إسحاق بن محمد الفروي فإنه قال فيه عن أبي بكر الصديق عن النبي والصواب عن مالك ما في الموطأ عن عائشة عن النبي وقد تابعه على ذلك يونس بن يزيد فجعله أيضا عن عائشة عن النبي كرواية مالك سواء إلا أن في رواية مالك أردن أن يبعثن وفي رواية يونس قالت "أرسل إلى أبي بكر أزواج النبي يسألنه ميراثهن ما أفاء الله على رسوله قالت عائشة حتى كنت أنا التي أردهن عن ذلك فقلت لهن ألا تتقين الله ألم تسمعن رسول الله يقول "لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال"

هذا لفظ يونس رواه ابن وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أرسل وساق الحديث ورواه مع معمر وعبيد الله بن عمر وعقيل وأسامة بن زيد كلهم عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن أبي بكر الصديق عن النبي والحديث لأبي بكر عن النبي صحيح أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبدالسلام قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا أسامة عن الزهري عن عروة عن عائشة عن أبي بكر أن النبي قال "لا نورث ما تركنا صدقة" وأخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا عمرو بن مالك قال حدثنا سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة عن أبي بكر قال قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة" .

وأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله بن عمر عن الزهري عن عروة عن عائشة عن أبي بكر قال سمعت رسول الله يقول "لا نورث ما تركنا صدقة"

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال حدثنا محمد بن أحمد بن تميم قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا سحنون قال حدثنا ابن وهب قال حدثني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا المطلب بن شعيب قال حدثني عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال أخبرني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته "أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وخمس خيبر فقال أبو بكر لها أن رسول الله قال "لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال" وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في حياة رسول الله ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله ففي رواية عقيل هذه أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها وفي رواية مالك ويونس أن أزواج النبي فعلن ذلك والقلب إلى رواية مالك أميل لأنه أثبت في الزهري

وقد تابعه يونس وأن كان عقيل قد جود هذا الحديث وسؤال فاطمة أبا بكر ذلك مشهور معلوم من غير هذا الحديث وغير نكير أن يكن كلهن يسألن ذلك ولم يكن عندهن علم من قول رسول الله ذلك فلما أعلمهن أبو بكر سكتن وسلمن وهذا مما أخبرتك أن هذا من علم الخاصة لا ينكر جهل مثله من أخبار الآحاد على أحد ألا ترين أن عمر بن الخطاب قد جهل من هذا الباب ما علمه حمل ابن مالك بن النابغة رجل من الأعراب من هذيل في دية الجنين وجهل من ذلك أيضا ما علمه الضحاك بن سفيان الكلابي في ميراث المرأة من دية زوجها وجهل من ذلك أيضا ما علمه أبو موسى الأشعري في الاستئذان وموضع عمر من العلم الموضع الذي لا يجهله أحد من أهل العلم قال عبد الله بن مسعود لو أن علم أهل الأرض جعل في كفة وجعل علم عمر في كفة لرجح علم عمر وإذا جاز مثل هذا على عمر فغير نكير أن يجهل أزواج النبي وابنته رضي الله عنها ما علمه أبو بكر من قوله "لا نورث ما تركنا صدقة" وقد علمه جماعة من الصحابة وذلك موجود في حديث مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان.

وسيذكر بعد في هذا الباب إن شاء الله تعالى وقد جهل أبو بكر وعمر ما علم المغيرة ومحمد بن مسلمة من توريث الجدة وجهل ابن مسعود ما علم معقل بن سنان الأشجعي من صداق المتوفى عنها التي لم يدخل بها ولم يسم لها وقد جهل الأنصار وأبو موسى حديث التقاء الختانين وعلمته عائشة وجهل ابن عمر حديث القنوت وعلمه أبو هريرة وغيره ومثل هذا كثير عن الصحابة يطول ذكره فمثله حديث "لا نورث ما تركنا صدقة" غير نكير أن يجهلنه ويجهله أيضا علي والعباس حتى علموه على لسان من حفظه وفي هذا الحديث قبول خبر الواحد العدل لأنهم لم يردوا على أبي بكر قوله ولا رد أزواج النبي على عائشة قولها ذلك وحكايتها لهن عن رسول الله بل قبلوا ذلك وسلموه وفي هذا الحديث عند مالك إسناد آخر عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر بن الخطاب عن أبي بكر الصديق وليس في الموطأ بهذا الإسناد وهو مأخوذ من حديثه الطويل.

حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أبو محمد بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله الخلال حدثنا أحمد بن داود بن سفيان المكي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال قال أبو بكر الصديق قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة" هكذا

حدثناه وقد حدثنا خلف بن قاسم أيضا قال حدثنا محمد بن عبد الله القاضي حدثنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن حفص القطراني حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله قالت لهن عائشة أليس قد قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة" وحدثنا خلف حدثنا محمد بن أحمد بن المسور وعبد الله بن عمر بن إسحاق بن يعمر وأبو بكر محمد بن محمد بن إسماعيل قالوا حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج حدثنا الهيثم بن حبيب بن غزوان حدثنا مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال أبو بكر الصديق قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة" ولم يذكر معمر أبا بكر الصديق وجعل الحديث لعمر عن النبي

وكذلك رواه بشر بن عمر عن مالك وبشر بن عمر ثقة حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد الله بن سليمان حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس حدثنا محمد بن المثنى وحدثنا خلف حدثنا العباس بن أحمد النحوي حدثنا محمد بن جعفر الكوفي حدثنا يزيد بن سنان أبو خالد قالا حدثنا بشر بن عمر الزهراني حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة"

وقد حدثنا خلف حدثنا محمد بن عبد الله بن زكرياء بن حيوية حدثنا محمد بن جعفر بن أعين سنة إحدى وسبعين ومائتين حدثنا عمرو بن علي حدثنا بشر بن عمر بن الحكم حدثنا مالك عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال قال عمر بن الخطاب لما توفي رسول الله قال أبو بكر أنا ولي رسول الله وقد قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة" قال ابن أعين وهذا الحديث كتبته سنة ست وعشرين ومائتين.

وحدثنا عبد الوارث ووهب بن محمد قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب حدثنا عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن عبيد أبو عبد الرحمن بن أخي جويرية بن أسماء قال حدثني جويرية عن مالك بن أنس عن الزهري أن مالك بن أوس بن الحدثان حدثه عن عمر بن الخطاب عن أبي بكر الصديق قال قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة" وهذا هو الصواب إن شاء الله عن عمر عن أبي بكر وإن كان معمر قد رواه عن الزهري فجعله عن عمر عن النبي كما قال فيه بعض أصحاب مالك عن مالك والصحيح فيه عندي عن عمر عن أبي بكر والله أعلم.

وقد يحتمل أن يكون عندهما وعند غيرهما من الصحابة عن النبي ولكن من جهة الإسناد هو ما ذكرت لك والله أعلم أخبرني قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور قال حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا عبد الرحمن بن حميد الرواسي قال حدثنا سليمان الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال اختصم علي والعباس إلى أبي بكر في ميراث النبي فقال أبو بكر ما كنت لأحوله عن موضعه الذي وضعه فيه رسول الله .

وهذا الحديث مختصر وتمامه كما ذكره الطحاوي قال حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة القاضي قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال لما قبض رسول الله واستخلف أبو بكر خاصم العباس عليا إلى أبي بكر في أشياء تركها رسول الله فقال أبو بكر شيء تركه رسول الله لم يحركه لا أحركه فلما استخلف عمر اختصما إليه فقال عمر شيء تركه أبو بكر إني لأكره أن أحركه فلما ولي عثمان اختصما إليه قال فسكت عثمان ونكس رأسه قال ابن عباس فخشيت أن يأخذه فضربت بيدي على منكبي العباس وقلت يا أبتاه أقسمت عليك إلا سلمت لعلي قال فسلمه لعلي فإن قال قائل لو سلمت فاطمة وعلي والعباس ذلك لقول أبي بكر ما أتى علي والعباس في ذلك عمر بن الخطاب في خلافته يسألانه ذلك وقد علمت أنهما أتيا عمر يسألانه ذلك ثم أتيا عثمان بعد وذلك معلوم قيل له أما تشاجر علي والعباس وإقبالهما إلى عمر فمشهور لكنهما لم يسألا ذلك ميراثا وإنما سألا ذلك من عمر ليكون بأيديهما منه ما كان بيد رسول الله أيام حياته ليعملا في ذلك بالذي كان رسول الله يعمل به في حياته وكان رسول الله يأخذ منه قوت عامه ثم يجعل ما فضل في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله وكذلك صنع أبو بكر رضي الله عنه فأرادا عمر على ذلك لأنه موضع يسوغ فيه الاختلاف وأما الميراث والتمليك فلا يقوله أحد إلا الروافض وأما علماء المسلمين فعلى قولين أحدهما وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبي لا يورث وما تركه صدقة والآخر أن نبينا لم يورث لأنه خصه الله عز وجل بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته كما خصه في النكاح بأشياء حرمها عليه

وأباحها لغيره وأشياء أباحها له وحرمها على غيره وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية وسائر علماء المسلمين على القول الأول.

وأما الروافض فليس قولهم مما يشتغل به ولا يحكى مثله لما فيه من الطعن على السلف والمخالفة لسبيل المؤمنين.

وأما ما ذكرنا من قصة علي والعباس في ذلك مع عمر فمحفوظ في غير ما حديث من حديث الثقات منها ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن كليب قال حدثني شيخ من قريش من بني تيم قال حدثني فلان وفلان فعد ستة أو سبعة منهم عبد الله بن الزبير أنهم كانوا جلوسا عند عمر بن الخطاب يوما فجاء العباس وعلي وقد ارتفعت أصواتهما يكاد أن يتلاحيان فقال مه مه لا تفعلا قد علمت ما تقول يا عباس تقول ابن أخي ولي شطر المال وقد علمت ما تقول يا علي تقول ابنته امرأتي ولها شطر المال وهذا ما كان في يدي رسول الله قد رأينا ما كان يصنع فيه وقال عمر حدثني أبو بكر وأحلف بالله أنه لصادق إن نبي الله قال "لا يموت نبي حتى يؤمه بعض أمته"

وحدثني أبو بكر وأحلف بالله إنه لصادق إن نبي الله قال "إن النبي لا يورث إنما ميراثه في سبيل الله وفي فقراء المسلمين" هذا ما كان في يدي رسول الله قد رأينا كيف كان يصنع فيه فوليه أبو بكر فأحلف بالله لقد كان يعمل فيه بما كان يعمل فيه رسول الله ووليته بعده وأحلف بالله لقد جهدت أن أعمل فيه بما عمل فيه أبو بكر وما عمل فيه رسول الله فإن شئتما وطابت نفس أحدكما للآخر دفعته إليه على أن يعطيني ليعملن فيها بما عمل رسول الله قال فخلوا أخذ علي بيد العباس فخلا به فجاء عباس فقال قد طابت نفسي لابن أخي فدفعه إليه فلما كان الحول جاءا على مثل حالهما الأخرى مرتفعة أصواتهما فقال عمر إنكما أتيتماني عام أول فقلتما كذا وكذا وعدد عليهما كل شيء قاله لهما في ذلك اليوم فأمرتكما أن تطيب نفس أحدكما للآخر فأدفعه إليه فخلوتما فأتيتني يا عباس قد طابت نفسك لعلي فجئتما إلي الآن وأدركك ما أدرك الناس فجئتما إلي لترداه إلي فلا والله أجعله في عنقي حتى أجتمع أنا وأنتما عند الله "وهذا خلاف رواية ابن عباس وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله فقد بان بهذا الحديث ما ذكرنا من المعنى المطلوب أنها ولاية ذلك المال على تلك الحال لا ميراث ولا ملك

والآثار بمثل هذا كثيرة من حديث مالك وغيره حدثنا عبد الوارث بن سفيان ووهب بن محمد قالا حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال أرسل إلي عمر بعدما تعالى النهار قال فذهبت فوجدته على سرير مفض إلى رماله قال فقال لي حين دخلت عليه يا مالك إنه قد دف علي ناس من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه فيهم قلت يا أمير المؤمنين لو أمرت غيري بذلك قال فقال خذه فجاء يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير قال نعم ايذن لهم قال فأذن لهم فدخلوا عليه ثم جاء يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في علي والعباس قال نعم فأذن لهما فدخلا عليه قال فقال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا يعني عليا قال فقال بعضهم أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهما وارحمهما قال مالك بن أوس يخيل إلي أنهما قدما أولئك النفر لذلك قال.

فقال عمر ايه قال فأقبل على أولئك الرهط فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله قال "لا نورث ما تركنا صدقة" قالوا نعم ثم أقبل على علي والعباس فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله قال "لا نورث ما تركنا صدقة" قالا نعم قال فقال عمر فإن الله تبارك وتعالى خص رسوله بخاصية لم يخص بها أحدا من الناس فقال {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلارِكَابٍ} [ الحشر: 6]

وكان مما أفاء الله على رسوله بنو النضير فوالله ما استأثر بها رسول الله عليكم ولا أخذها دونكم فكان رسول الله يأخذ منها نفقته سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ويجعل ما بقي أسوة المال فقال ثم أقبل على أولئك الرهط فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك قالوا نعم قال ثم أقبل على علي والعباس فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك قالا نعم قال فلما توفي رسول الله قال أبو بكر أنا ولي رسول الله فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال له أبو بكر قال رسول الله "إنا لا نورث ما تركنا فهو صدقة" فوليها أبو بكر فلما توفي أبو بكر قلت أنا ولي رسول الله وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها ثم جئت أنت وهذا جميعا وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت إن شئتما أدفعها لكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله يليها به فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إلي

ورواه بشر ابن عمر عن مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس مثله بتمامه إلى آخره إلا أنه قال عند قوله وتطلب أنت ميراث امرأتك من أبيها فقال أبو بكر قال رسول الله "لا نورث ما تركنا صدقة" فرأيتماه والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر فلما توفي أبو بكر قلت أنا ولي رسول الله وولي أبي بكر فرأيتماني والله يعلم أني صادق بار راشد تابع للحق فوليتها ما شاء الله أن أليها وساق الحديث إلى آخره ذكره ابن الجارورد! عن محمد بن يحيى وأبي أمية عن بشر بن عمر

وحدثنا وهب وعبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أبو عبيدة بن أحمد حدثنا محمد بن علي بن داود حدثنا سعيد بن داود حدثنا مالك فذكر مثله وقال قد أمرت فيهم برضخ فخذه واقسمه بينهم وقال فيه فقال أبو بكر قال رسول الله "لانورث ما تركنا صدقة" ثم ذكره بتمامه إلى آخره.

قال إسماعيل بن إسحاق الذي تنازعا فيه عند عمر ليس هو الميراث لأنهم قد علموا أن رسول الله لا يورث وإنما تنازعا في ولاية الصدقة وتصريفها لأن الميراث قد كان انقطع العلم به في حياة أبي بكر وأما تسليم فاطمة رضي الله عنها فحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال أرسلت فاطمة ابنة رسول الله إلى أبي بكر فقالت مالك يا خليفة رسول الله أنت ورثت رسول الله أم أهله قال لا بل أهله قالت فما بال سهم رسول الله قال سمعت رسول الله يقول "إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم بعده" أنا أرده على المسلمين فقالت أنت وما سمعت من رسول الله ووجدت في أصل سماع أبي بخطه رحمه الله أن أبا عبد الله بن محمد بن أحمد بن قاسم حدثه قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا نصر بن مرزوق قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا الحسن بن بلال قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي صالح عن أم هانئ أن فاطمة قالت لأبي بكر من يرثك إذا مت قال ولدي وأهلي فقالت مالك ترث النبي دوننا فقال يا بنت رسول الله ما ورثت أباك دينارا ولا درهما ولا ذهبا ولا فضة فقالت بلى سهم الله الذي جعله لنا وصفايا النبي عليه السلام فدك وغيرها بيدك فقال أبو بكر سمعت رسول الله يقول "إنما هي طعمة أطعمنيها الله فإذا مت كانت بيد المسلمين" .

فإن قيل ما معنى قول أبي بكر لفاطمة بل ورثه أهله يعني رسول الله وهو يقول "لا نورث ما تركنا صدقة" قيل له معناه على تصحيح الحديثين أنه لو تخلف رسول الله شيئا يورث لورثه أهله فكأنه قال بل ورثه أهله إن كان خلف شيئا وإن كان لم يتخلف شيئا يورث لأن ما تخلفه صدقة راجعة في منافع المسلمين من الكراع والسلاح وغيرها فأي شيء يرث عنه أهله وهو لم يخلف شيئا فإن قيل فما معنى قول أبي بكر عن النبي "إذا أطعم الله نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم بعده" قيل له اللام في قوله للذي ليست لام الملك وإنما هي بمعنى إلى كما قال الله عز وجل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [ الأعراف: 43] أي هدانا إلى هذا ألا ترى إلى قوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [ الشورى: 52] ومثله قوله عز وجل {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [ الزلزلة: 5] معناه أوحى إليها فكأنه قال جعله إلى الذي بعده يقوم فيه بما يجب على حسب ما قدمناه ذكره

والأحاديث الصحاح ولسان العرب كل ذلك يدل على ما ذكرنا حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ومعمر جميعا عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله خاصة فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله وأخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة قال لما ولي عمر بن عبد العزيز جمع بني أمية فقال لهم إن النبي كانت له خاصة فدك فكان يأكل منها وينفق منها ويعود على فقراء بني هاشم ويزوج منها أيمهم وأن فاطمة رضي الله عنها سألته أن يجعلها لها فأبى فكانت كذلك حياة النبي حتى قبض ثم ولى أبو بكر فكانت في يد أبي بكر يعمل فيها كما عمل النبي حياته حتى قبض لسبيله ثم ولى عمر فعمل فيها مثل ذلك ثم ولى عثمان فأقطعها مروان فجعل مروان ثلثيها لعبد الملك وثلثها لعبد العزيز فجعل عبد الملك ثلثيه ثلثا للوليد وثلثا لسليمان وجعل عبد العزيز ثلثه لي فلما ولى الوليد جعل ثلثه لي فلم يكن لي مال أعود علي منه ولا أسد لحاجاتي ثم وليت أنا فرأيت أن أمرا منعه النبي فاطمة ابنته أنه ليس لي بحق وأني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت على عهد رسول الله

قال أبو عمر: اختلف العلماء في سهم رسول الله وما كان له خاصة من صفاياه وما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب فمذهبهما في ذلك ما قد تكرر ذكره في كتابنا هذا من أول الباب وذلك الأخذ بظاهر هذا الحديث في أموال بني النضير وفدك وخيبر أن ذلك يسبل على حسب ما كان رسول الله يسبله في حياته كان ينفق منه على عياله وعامله سنة ثم يجعل باقيه عدة في سبيل الله وعلى مذهب أبي بكر وعمر في ذلك جمهور أهل العلم من أهل الحديث والرأي.

وأما عثمان بن عفان فكان يرى أن ذلك للقائم بأمور المسلمين يصرفه فيما رأى من مصالح المسلمين ولذلك أقطعه مروان وفعل عثمان هذا ومذهبه هو قول قتادة والحسن كانا يقولان في سهم ذي القربى وسهم رسول الله وصفاياه أن ذلك كان طعمة لرسول الله ما كان حيا فلما توفي صار لأولي الأمر بعده ويشبه أن يكون من حجة من ذهب هذا المذهب حديث أبي الطفيل ومثله إذا أطعم الله نبيا طعمة فقبض فهي للذي يلي الأمر بعده وقد ذكرنا تأويل هذا الحديث ومذهب راويه وهو أبو بكر رضي الله عنه وكيف يسوغ لمسلم أن يظن بأبي بكر رضي الله عنه منع فاطمة ميراثها من أبيها وهو يعلم بنقل الكافة أن أبا بكر كان يعطي الأحمر والأسود حقوقهم ولم يستأثر من مال الله لنفسه ولالبنيه ولا لأحد من عشيرته بشيء وإنما أجراه مجرى الصدقة أليس يستحيل في العقول أن يمنع فاطمة ويرده على سائر المسلمين وقد أمر بنيه أن يردوا ما زاد في ماله منذ ولي على المسلمين وقال إنما كان لنا من أموالهم ما أكلنا من طعامهم ولبسنا على ظهورنا من ثيابهم.

وروى أبو ضمرة أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال لعائشة ليس عند آل أبي بكر من هذا المال شيء إلا هذه اللقمة والغلام الصيقل كان يعمل سيوف المسلمين ويخدمنا فإذا مت فادفعيه إلى عمر فلما مات دفعته إلى عمر فقال عمر رحمه الله رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.

فإن قيل فكيف سكن أزواج النبي بعد وفاته في مساكنهن اللاتي تركهن رسول الله فيها إن كن لم يرثنه وكيف لم يخرجن عنها قيل إنما تركن في المساكن التي كن يسكنها في حياة رسول الله لأن ذلك كان من مؤنتهن التي كان رسول الله استثناها لهن كما استثنى لهن نفقتهن حين قال "لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ما تركت بعدي نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة" .

وروى حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن أبي بكر أنه قال سمعت رسول الله يقول "لا نورث" ولكني أعول من كان رسول الله يعول وأنفق على من كان رسول الله ينفق".

وروى الثوري ومالك وابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله "لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما وما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" وسيأتي ذكر هذا الحديث من رواية مالك في باب أبي الزناد من كتابنا هذا إن شاء الله.

قال أهل العلم فمساكنهن كانت في معنى نفقاتهن في أنها كانت مستثناة لهن بعد وفاته مما كان له في حياته قالوا ويدل على صحة ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن قالوا ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن قالوا وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا وإنما كان لهن سكناها حياتهن.

فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه كما فعل ذلك في الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله لما مضين لسبيلهن زيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه.

وفي حديثنا المذكور في أول هذا الباب من الفقه تفسير لقول الله عز وجل {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [ النمل: 16] وعبارة عن قول الله عز وجل حاكيا عن زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [ مريم: من الآية6] وتخصيص للعموم في ذلك وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده وإنما ورث منه الحكمة والعلم وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب وهكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن والسنة واستدلوا مع سنة رسول الله المذكورة بقول الله عز وجل {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} [ النمل: 15] قال المفسرون يعني علم التوراة والزبور والفقه في الدين وفصل القضاء وعلم كلام الطير والدواب {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [ النمل: 15] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [ النمل: 16]

فورث سليمان من داود النبوة والعلم والحكمة وفصل القضاء وعلى هذا جماعة أهل العلم وسائر المسلمين إلا الروافض وكذلك قولهم في {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [ مريم: 6] لا يختلفون في ذلك إلا ما روى عن الحسن أنه قال يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والحكمة والدليل على صحة ما قال علماء المسلمين في تأويل هاتين الآيتين ما ثبت عن النبي أنه قال "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" وكل قول يخالفه قول رسول الله ويدفعه فهو مدفوع مهجور أخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر قال حدثنا القاضي أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا عبد الله بن أمية النحاس قال قرئ على مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال سمعت عمر بن الخطاب يقول حدثنا أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول "إنا معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة"

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي" ومما يدلك على أنه أراد بقوله عز وجل {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} النبوة والعلم والسياسة ولم يرد المال لأنه لو أراد المال لم يقتض الخبر عن ذلك فائدة لأنه معلوم أن الأبناء يرثون الآباء أموالهم وليس معلوما أن كل ابن يقوم مقام أبيه في الملك والعلم والنبوة.

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه دليل على صحة ما ذهب إليه فقهاء أهل الحجاز وأهل الحديث من تجويز الأوقاف في الصدقات المحبسات وأن للرجل أن يحبس ماله ويوقفه على سبيل من سبل الخير يجري عليه من بعد وفاته وفيه جواز الصدقة بالشيء الذي لا يقف المتصدق على مبلغه لأن تركه لم يقف على مبلغ ما تنتهي إليه وسنوضح ذلك في باب أبي الزناد إن شاء الله.

وفيه أيضا دلالة واضحة على اتخاذ الأموال واكتساب الضياع وما يسع الإنسان لنفسه وعماله وأهليهم ونوائبهم وما يفضل على الكفاية.

وفي ذلك رد على الصوفية ومن ذهب مذهبهم في قطع الاكتساب وقد استدل بهذا الحديث قوم في أن للقاضي أن يقضي بعلمه كما قضى أبو بكر في ذلك بما كان عنده من العلم وهذا عندي محمله إذا كانت الجماعة حول القاضي والحاكم يعلمون ذلك أو يعلمه منهم من إن احتيج إلى شهادته عند الإنكار كان في شهادته براءة وثبوت حجة على المحكوم عليه والله أعلم لأن أبا بكر لم ينفرد بالحديث بل سمعه معه عن النبي جماعة غيره ولو انفرد به ما كان ذلك بضائر له ولا قادح في معنى ما جاء به لأنه علم لا يحتاج فيه القاضي إلى شهادة ألا ترى أن القاضي إذا قضى بما علمه من الكتاب والسنة ليس يحتاج فيه إلى شاهد ولا بينة إنه علم ذلك وقد تقدم في قولنا إن في هذا الحديث أيضا دلالة على قبول خبر الواحد العدل.

حديث تاسع لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك قالت فلما كان الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله فقال سعد يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه وقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي "هو لك يا عبد بن زمعة" ثم قال رسول الله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ثم قال لسودة بنت زمعة "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله"

هكذا روى مالك هذا الحديث لا خلاف علمته عنه في إسناده ولا في لفظه إلا أن ابن وهب وأبا جعفر النفيلي والقعنبي في غير الموطأ رووه مختصرا عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر" لم يذكروا قصة عبد بن زمعة وعتبة رواه هكذا عن ابن وهب ابن أخيه ومحمد بن عبد الحكم وبحر بن نصر ويقال أنه ليس عند يونس عن ابن وهب وعند ابن وهب والقعنبي أيضا في الموطأ الحديث بتمامه وهو أصل هذا الحديث عن مالك وقد خالفه ابن عيينة في بعض لفظه لم يقل فيه وللعاهر الحجر والقول قول مالك وقد أتقنه وجوده.

حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أحمد بن سليمان الرملي حدثنا إبراهيم بن عبد الله البصري حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة هو مني فاقبضه إليك فلما فتحوا مكة أخذه سعد فقال عبد بن زمعة هذا أخي وابن وليدة أبي قال فقضى رسول الله به لعبد بن زمعة وقال "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وأمر سودة أن تحتجب منه فما رآها حتى ماتت.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان وقال حدثنا الزهري قال حدثنا عروة بن الزبير أنه سمع عائشة تقول "اختصم عند رسول الله سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن أمة لزمعة فقال سعد يا رسول الله إن أخي عتبة أوصاني فقال إذا قدمت مكة فانظر ابن أمة زمعة فاقبضه فإنه ابني وقال عبد بن زمعة يا رسول الله أخي وابن أمة أبي ولد على فراش أبي فرأى رسول الله شبها بينا بعتبة فقال "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة" قيل لسفيان فإن مالكا يقول فيه "وللعاهر الحجر" فقال سفيان لكنا لم نحفظه من الزهري إنه قاله في هذا الحديث

قال أبو عمر: قوله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" من أصح ما يروى عن النبي من أخبار الآحاد العدول وهذا اللفظ عند ابن عيينة من حديث ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر قال حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا أحمد بن إبراهيم الفرضي قال حدثنا أبو عثمان عمرو بن محمد بن بكير الناقد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وهذا الحديث أيضا عند معمر عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي مثله ذكره عن معمر عبد الرزاق وغيره وروى شعبة عن محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله "الولد للفراش وللعاهر الحجر"

وحدثنا خلف بن قاسم حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري حدثنا بحر بن نصر حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني مالك بن أنس ويونس بن يزيد والليث بن سعد أن ابن شهاب

أخبرهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر" حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبدالسلام قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لما فتحت مكة على عهد رسول الله قام رجل فقال إن فلانا ابني فقال رسول الله "لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية الولد للفراش وللعاهر الأثلب قالوا وما الأثلب قال الحجر"

قال أبو عمر: في هذا الحديث وجوه من الفقه وأصول جسام منها الحكم بالظاهر لأن رسول الله حكم بالولد للفراش على ظاهر حكمه وسننه ولم يلتفت إلى الشبه وكذلك حكم في اللعان بظاهر الحكم ولم يلتفت إلى ما جاءت به بعد قوله "إن جاءت به كذا فهو للذي رميت به" فجاءت به على النعت المكروه ومن ذلك قوله عليه السلام "فأقضي له على نحو ما أسمع منه" وفي هذا الحديث دليل على ما كان عليه أهل الجاهلية من استلحاق أولاد الزنا وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام ذكره مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام

قال أبو عمر: هذا إذا لم يكن هناك فراش لأنهم كانوا في جاهلتهم يسافحون ويناكحون وأكثر نكاحاتهم على حكم الإسلام غير جائزة وقد أمضاها رسول الله فلما جاء الإسلام أبطل به رسول الله حكم الزنى لتحريم الله إياه وقال "للعاهر الحجر" فنفى أن يلحق في الإسلام ولد الزنى وأجمعت الأمة على ذلك نقلا عن نبيها وجعل رسول الله كل ولد يولد على فراش لرجل لاحقا به على كل حال إلى أن ينفيه بلعان على حكم اللعان وقد ذكرناه في موضعه من كتابنا هذا وأجمعت الجماعة من العلماء أن الحرة فراش بالعقد عليها مع إمكان الوطء وإمكان الحمل فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء والحمل فالولد لصاحب الفراش لا ينتفي عنه أبدا بدعوى غيره ولا بوجه من الوجوه إلا باللعان

واختلف الفقهاء في المرأة يطلقها زوجها في حين العقد عليها بحضرة الحاكم أو الشهود فتأتي بولد لستة أشهر فصاعد من ذلك الوقت عقيب العقد فقال مالك والشافعي لا يلحق به لأنها ليست بفراش له إذ لم يمكنه الوطء في العصمة وهو كالصغير أو الصغيرة اللذين لا يمكن منهما الولد وقال أبو حنيفة هي فراش له ويلحق به ولدها.

واختلف الفقهاء في الأمة فقال مالك إذا أقر بوطئها صارت فراشا فإن لم يدع استبراء لحق به ولدها وإن ادعى استبراء حلف وبرئ من ولدها يمينا واحدا واحتج بعمر بن الخطاب في قوله لا تأتي وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن وقال العراقيون لا تكون الأمة فراشا بالوطء حتى يدعى سيدها ولدها وأما إن نفاه فلا يلحق به سواء أقر بوطئها أم لم يقر وسواء استبرأ أو لم يستبرىء.

وأجمع العلماء على أن لا لعان بين الأمة وسيدها وأجمع جمهور الفقهاء أيضا على أن لا يستلحق أحد غير الأب لأن أحدا لا يؤخذ بإقرار غيره عليه وإنما يؤخذ بإقراره على نفسه ولا يقر أحد على أحد ولو قبل استلحاق غير الأب كان فيه إثبات حقوق على الأب بغير إقراره ولا بينة تشهد عليه وقد أباه الله ورسوله قال الله عز وجل {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [ الأنعام: 164] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [ الأنعام: 164]

وقال لأبي رمثة في ابنه "إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك" وفي هذا كله ما يدلك على أن رسول الله إنما حكم بالولد لزمعة لأن فراشه قد كان معروفا عنده والله أعلم لا أنه قضى به لعبد بن زمعة بدعواه على أبيه هذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث والله أعلم لأن فيه قول عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فلم ينكر عليه رسول الله قوله ولد على فراشه فدل على أنه علم بوطء زمعة لوليدته فلذلك لم ينكر الفراش وكانت سودة بنت زمعة زوجته ومثل هذا لا يخفى من أفعال الصهر على صهره فلما لم ينكر قول عبد بن زمعة ولد على فراشه دل على أنه قد كان علم بأنها كانت فراشا له بمسه إياها فقضى بما علم من ذلك ولولا ذلك لم يلحق الولد بزمعة بدعوى أخيه لأن سنته المجتمع عليها أنه لا يؤخذ أحد بإقرار غيره عليه.

إلا أن هذا في التأويل ما يوجب قضاء القاضي بعلمه وهو مما يأباه مالك وأكثر أصحابه.

وأما قول رسول الله في هذا الحديث احتجبي منه يا سودة فقد أشكل معناه قديما على العلماء فذهب أكثر القائلين بأن الحرام لا يحرم الحلال وأن الزنى لا تأثير له في التحريم إلا أن قوله ذلك كان منه على وجه الاختيار والتنزه فإن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها هذا قول أصحاب الشافعي وقالت طائفة كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر فكأنه حكم بحكمين حكم ظاهر وهو الولد للفراش وحكم باطن وهو الاحتجاب من أجل الشبهة كأنه قال ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله بالولد للفراش فاحتجبي منه لما رأى من شبهه لعتبة قال ذلك بعض أصحاب مالك وضارع في ذلك قول العراقيين وأما الكوفيون فذهبوا إلى أن الزنى يحرم وأن له في هذه القصة حكما باطنا أوجب الحجاب والحكم الظاهر لحاق ابن وليدة زمعة بالفراش وقد وافقهم ابن القاسم في أن الزنى يحرم من نكاح الأم والابنة ما يحرم النكاح خلاف الموطأ وقد قال المزني في معنى هذا الحديث غير ما تقدم

حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد قال حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن قاسم قال حدثني أبي قال سئل المزني عن حديث سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة حين اختصما إلى رسول الله في ابن وليدة زمعة فقال اختلف الناس في تأويل ما حكم به رسول الله من ذلك فقال قائلون وهم أصحاب الشافعي في قول رسول الله احتجبي منه يا سودة أنه منعها منه لأنه يجوز للرجل أن يمنع امرأته من أخيها وذهبوا إلى أنه أخوها على كل حال لأن رسول الله ألحقه بفراش زمعة وما حكم به فهو الحق الذي لا شك فيه قال وقال آخرون وهم الكوفيون أن النبي جعل للزنى حكم التحريم بقوله احتجبي منه يا سودة فمنعها من أخيها في الحكم لأنه ليس بأخيها في غير الحكم لأنه من زنى في الباطن إذ كان شبيها بعتبة في غير الحكم فجعلوه كأنه أجنبي ولا يراها لحكم الزنى وجعلوه أخاها بالفراش.

وزعم الكوفيون أن ما حرمه الحلال فالحرام له أشد تحريما قال المزني وأما أنا فيحتمل تأويل هذا الحديث عندي والله أعلم أن يكون أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد وعلى زمعة قول ابنه أنه أولدها الولد لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره وفي ذلك عندي دليل على أنه حكم خرج على المسألة ليعرفهم كيف الحكم في مثلها إذا نزل ولذلك قال لسودة احتجبي منه لأنه حكم على المسألة وقد حكى الله عز وجل في كتابه مثل ذلك في قصة داود والملائكة {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ} [ صّ: 22] الآية ولم يكونا خصمين ولا كان لواحد منهما تسع وتسعون نعجة ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعرفه فيحتمل أن يكون النبي حكم في هذه القصة على المسألة وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل أو كان فإنه عندي صحيح والله أعلم قال المزني قال الشافعي أن رؤية ابن زمعة سودة مباح في الحكم ولكنه كرهه لشبهة وأمر بالتنزه اختياراً.

قال المزني لما لم يصح دعوى سعد لأخيه ولا دعوى عبد بن زمعة ولا أقرت سودة أنه ابن أبيها فيكون أخاها منعه من رؤيتها وأمرها بالاحتجاب منه ولو ثبت أنه أخوها ما أمرها أن تحتجب منه لأنه بعث بصلة الأرحام وقد قال لعائشة في عمها من الرضاعة أنه عمك فليلج عليك ويستحيل أن يأمر زوجة أن لا تحتجب من عمها من الرضاعة ويأمر زوجة له أخرى تحتجب من أخيها لأبيها قال ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت قال المزنى فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة أو الإقرار ممن يلزمه إقراره وزاده بعدا في القلوب شبهه بعتبة أمرها بالاحتجاب منه وكان جوابه على السؤال لا على تحقيق زنى عتبة بقول أخيه ولا بالولد أنه لزمعة بقول ابنه بل قال الولد للفراش على قولك يا عبد بن زمعة لا على ما قال سعد ثم أخبر بالذي يكون إذا ثبت مثل هذا

قال أبو عمر: لم يصنع المزني شيئا لأن المسلمين مجمعون أن حكم رسول الله بين عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص حكم صحيح نافذ في تلك القصة بعينها وفي كل ما يكون مثلها وليس قصة داود مع الملكين كذلك لأنهما إنما أراد تعريفه لا الحكم عليه وكان أمرا قد نفذ فعرفاه بما كان عليه في ذلك وحكم رسول الله ليس كذلك لأنه حكم استأنفه وقضى به ليتمثل في ذلك وفي غيره.

وقال محمد بن جرير الطبري معنى قوله في هذا الحديث هو لك يا عبد بن زمعة أي هو لك عبد ملكا لأنه ابن وليدة أبيك وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد يريد أنه لما لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها ولا شهد بذلك عليه

وكانت الأصول تدفع قبول قول ابنه عليه لم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبع لأمه وأمر سودة بالاحتجاب منه لأنها لم تملك منه إلا شقصا.

وهذا أيضا من الطبري تحكم خلاف ظاهر الحديث ومن قال له أنها ولدت من غير سيدها وهو يرى في الحديث قول عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فلم ينكر رسول الله قوله وقضى بالولد للفراش وقد قدمت لك من الإجماع على أن الولد لاحق بالفراش وأن ذلك من حكم رسول الله مجمع عليه ومن أن ولد الزنى في الإسلام لا يلحق بإجماع ما يقطع العذر وتسكن إليه النفس لأنه أصل وإجماع ونص وليس التأويل كالنص وقال أبو جعفر الطحاوي ليس قول من قال أن دعوى سعد في هذا الحديث كالا دعوى بشيء لأن سعدا إنما ادعى ما كان معروفا في الجاهلية من لحوق ولد الزنى بمن ادعاه وقد كان عمر يقضي بذلك في الإسلام فادعى سعد وصية أخيه بما كان يحكم في الجاهلية به فكانت دعواه لأخيه كدعوى أخيه لنفسه غيرأن عبد بن زمعة قابله بدعوى توجب عتقا للمدعى لأن مدعيه كان يملك بعضه حين ادعى فيه ما ادعى ويعتق عليه ما كان يملك فيه فكان ذلك هو الذي أبطل دعوى سعد ولما كان لعبد بن زمعة شريك فيما ادعاه وهو أخته سودة ولم يعلم منها في ذلك تصديق له ألزم رسول الله عبد بن زمعة ما أقر به في نفسه ولم يجعل ذلك حجة على أخته إذ لم تصدقه ولم يجعله أخاها وأمرها بالحجاب منه قال وأما قوله هو لك يا عبد بن زمعة فمعناه هو لك يدك عليه لا أنك تملكه ولكن تمنع بيدك عليه كل من سواك منه كما

قال في اللقطة هي لك فيدك عليها تدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها ليس على أنها ملك له قال ولا يجوز أن يجعله رسول الله ابنا لزمعة ثم يأمر أخته تحتجب منه هذا محال لا يجوز أن يضاف إلى النبي عليه السلام.

واختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته بنت أبيه من زنى فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأجاز ذلك قوم آخرون منهم عبد الملك بن الماجشون وهو قول الشافعي على كراهة قال وأحب إلي التنزه عنه لقوله احتجبي منه يا سودة وهو لا يفسخه إذا نزل وقد روى عن مالك مثل ذلك وحجته الولد للفراش وللعاهر الحجر فنفى أن يكون الولد لغير فراش وأبعد أن يكون للزاني شيء وكذلك اختلفوا في الرجل يزني بالمرأة فترضع بلبنه صبية هل له أن يتزوجها فمذهب جماعة ممن قال بتحريم لبن الفحل من العراقيين والكوفيين وغيرهم أنه لا يجوز له نكاحها.

وحدثنا محمد بن عبد الملك! قال حدثنا أبو سعيد ابن الأعرابي قال حدثنا سعدان بن نصر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل أسأل عنها عكرمة فكأني تبطأت فانتزعها من يدي وقال هذا عكرمة مولى ابن عباس هذا أعلم الناس قال وكان فيها رجل فجر بامرأة فرآها ترضع جارية أيحل له أن يتزوجها قال لا وقاله جابر بن زيد

قال أبو عمر: أجاز نكاحها طائفتان من الحجازيين أحدهما تقول أن لبن الفحل لا يحرم شيئا والأخرى تقول أن الزنى لا يؤثر تحريما ولا حكم له وإنما الحكم للوطء الحلال في الفراش الصحيح وسنذكر اختلاف الفقهاء في التحريم بلبن الفحل في هذا الكتاب إن شاء الله

قال أبو عمر: وقد ظن أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم كان هناك فراش أم لا وذلك جهل وغباوة وغفلة مفرطة وإنما الذي كان عمر يقضي به أن يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم إذا لم يكن هناك فراش وفيما ذكرنا من قول رسول الله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ما يكفي ويغني ونحن نزيد ذلك بيانا بالنصوص عن عمر رحمه الله وإن كان مستحيلا أن يظن به أحد أنه خالف بحكمه حكم رسول الله في "الولد للفراش وللعاهر الحجر" إلا جاهل لا سيما مع استفاضة هذا الخبر عند الصحابة ومن بعدهم

حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد قال حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي قال حدثنا أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني قال حدثنا الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شيخ من بني زهرة من أهل دارنا فذهبت مع الشيخ إلى عمر وهو في الحجر فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية قال وكانت المرأة في الجاهلية إذا طلقها زوجها أو مات عنها نكحت بغير عدة فقال الرجل أما النطفة فمن فلان وأما الولد فعلى فراش فلان فقال عمر صدقت ولكن قضى رسول الله بالولد للفراش فلما لم يلتفت إلى قول القائف مع الفراش كان أحرى أن لا يلتفت معه إلى الدعوى.

وحدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا الميمون بن حمزة قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال سمعت أبا الرداد عبد الله بن عبدالسلام يقول سمعت عبد الملك بن هشام النحوي يقول هو زمعة بالفتح

وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبدالمؤمن قال حدثنا محمد بن عمر بن علي قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول نرى رسول الله إنما قضى بالولد للفراش من أجل نوح عليه السلام وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب قال أول قضاء علمته من قضاء رسول الله رد دعوة زياد يعني والله أعلم قوله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وفي قوله "وللعاهر الحجر" إيجاب الرجم على الزاني لأن العاهر الزاني والعهر الزنى وهذا معروف عند جماعة أهل العلم فأهل الفقه لا يختلفون في ذلك إلا أن العاهر في هذا الحديث المقصود إليه بالحجر هو المحصن دون البكر"

وهذا أيضا اجماع من المسلمين أن البكر لا رجم عليه وقد ذكرنا أحكام الرجم والإحصان وما في ذلك للعلماء من المنازع في باب ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله والحمد لله وقد قيل أن قول "الولد للفراش وللعاهر الحجر" أي أن الزاني لا شيء له في الولد ادعاه أو لم يدعه وأنه لصاحب الفراش دونه ولا ينتفي عنه أبدا إلا بلعان في الموضع الذي يجب فيه اللعان وهذا إجماع أيضا من علماء المسلمين أن الزاني لا يلحقه ولد من زنى ادعاه أو نفاه قالوا فقوله "وللعاهر الحجر" كقولهم بفيك الحجر أي لا شيء لك قالوا ولم يقصد بقوله "وللعاهر الحجر" الرجم إنما قصد به إلى نفي الولد عنه واللفظ محتمل للتأويلين جميعا وبالله التوفيق.

ذكر إسماعيل بن إسحاق عن ابن أبي أويس عن مالك في الرجل يطأ أمته وقد زوجها عبده فتحمل منه فقال مالك يعاقب ولا يلحق به الولد وإنما الولد للفراش وقال مرة أخرى إن كان العبد غاب غيبة بعيدة ثم وطئها السيد فالولد له قال مالك في الرجل يدعى الولد من المرأة ويقول قد نكحتها وهي امرأة أو كانت امرأتي وهذا ولدي منها ولم يعلم ذلك قال مالك لا يجوز هذا في حياته ولا عند مماته إذا لم يعلم ذلك وقال مالك في الرجل يدعى الولد المنبوذ بعد أن يوجد فيقول هذا ابني قال مالك لا يلحق به وهذا كله من أجل أن الفراش غير معروف والله أعلم.

حديث عاشر لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت "خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله "من معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل منهما حتى يحل منهما جميعا" قالت فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة" قلت ففعلت فلما قضيت الحج أرسلني رسول الله مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال "هذه مكان عمرتك" فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا "ً.

روى هذا الحديث يحيى في الموطأ عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة هكذا قالت خرجنا مع رسول الله الحديث حرفا بحرف ثم أردفه بحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ولم يذكر في إسناد ابن شهاب عن عروة عن عائشة أكثر من قوله بمثل ذلك عطفا على حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة كما ذكرنا لفظه وسياقته هنا وهذا شيء لم يتابع يحيى عليه أحد من رواة الموطأ فيما علمت ولا غيرهم عن مالك أعني إسناد عبد الرحمن بن القاسم في هذا المتن وإنما رواه أصحاب مالك كلهم كما ذكرنا عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة إلى قوله وأما الذين كانوا أهلوا بالحج فلم يذكروه وقالوا وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ورووا كلهم ويحيى معهم عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت "قدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال "افعلى ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"

وسنذكر هذا الحديث في باب عبد الرحمن ونذكر الاختلاف في ألفاظه عن مالك وغيره هناك إن شاء الله فحصل ليحيى حديث هذا الباب بإسنادين ولم يفعل ذلك أحد غيره وإنما هو عند جميعهم عن مالك بإسناد واحد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وهو المحفوظ المعروف عن مالك وسائر رواة ابن شهاب.

ومن الرواة عن مالك في غير الموطأ طائفة اختصرت هذا الحديث عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة فجاءت ببعضه وقصرت عن تمامه ولم تقم بسياقته منهم عبد الرحمن بن مهدي وأبو سعيد مولى بني هاشم وموسى بن داود وإبراهيم بن عمر بن أبي الوزير أبو المطرف ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ذكر ذلك الدارقطني وكذلك رواه عبد الله بن وهب وألفاظهم أيضا مع اختصارهم للحديث مختلفة فلفظ حديث ابن مهدي بإسناده عن عائشة أن أصحاب رسول الله الذين أهلوا بالعمرة طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم والذين قرنوا طافوا طوافا واحدا ولفظ حديث أبي سعيد مولى بني هاشم بإسناده عن عائشة قالت كان أصحاب رسول الله الذين لبوا من مكة لم يطوفوا حتى رجعوا من منى

ولفظ حديث موسى بن داود عن مالك بإسناده عن عائشة قالت أن أصحاب النبي الذين كانوا معه لم يطوفوا حتى رموا الجمرة ولفظ ابن وهب حين اختصره قال أخبرني مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله فأهللت بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال "أهلي بالحج ودعي العمرة" فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله مع عبد الرحمن بن أبي بكر فاعتمرت فقال رسول الله "هذه مكان عمرتك" فهذه رواية ابن وهب المختصرة لهذا الحديث وقد رواه بتمامه كما رواه سائر رواة الموطأ وكل من رواه عن مالك بتمامه أو مختصرا لم يروه عنه الا بإسناد واحد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة إلا يحيى صاحبنا فإنه رواه بإسنادين عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وعن ابن شهاب عن عروة عن عائشة فأعضل.

قال أبو عمر: ذكر أبو داود حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة هذا عن القعنبي عن مالك وذكره البخاري في موضع من كتابه عن القعنبي عن مالك وفي موضع آخر عن عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك ورواية القعنبي أتم وليس في شيء منها ما ذكره يحيى أيضا من قول عائشة وأما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة.

فإنما طافوا طوافا واحدا وإنما في روايتهم كلهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ولم يذكروا الذين أهلوا بالحج وذكره يحيى بالإسناد الذي ذكرنا ثم عطف عليه ما وصفنا وقال أبو داود في بعض النسخ بإثر حديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قال وكذلك رواه إبراهيم بن سعد ومعمر عن ابن شهاب نحوه ولم يذكرا طواف الذين أهلوا بالعمرة وذكرا طواف الذين جمعوا الحج والعمرة

قال أبو عمر: فأما حديث معمر فذكره عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدى فقال النبي "من كان معه هدى فليهل بحج مع عمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" فحضت فلما دخلت ليلة عرفة قلت لرسول الله إني كنت قد أهللت بعمرة فكيف أصنع بحجتي فقال "انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن العمرة وأهلي بالحج" فلما قضيت الحج أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرني من التنعيم مكان عمرتي التي سكت عنها.

هكذا ذكره عبد الرزاق لم يذكر فيه طواف الذين أهلوا بعمرة ولا طواف الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة

وأما حديث إبراهيم بن سعيد فحدثنا سعد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر قال حدثنا سليمان بن داود الهاشمي قال أخبرنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت أهللت مع رسول الله زمن حجة الوداع بعمرة وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي فزعمت أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة فقالت لرسول الله هذا يوم عرفة ولم أطهر بعد وكنت تمتعت بالعمرة فقال لها رسول الله "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج وأمسكي عن العمرة" قالت ففعلت حتى إذا قضيت حجتي ونفر الناس أمر عبد الرحمن بن أبي بكر ليلة الحصبة فأعمرني من التنعيم مكان عمرتي التي سكت عنها ورواه ابن عيينة فاختصره ولكنه جوده أخبرنا عبد الوارث بن سفيان أخبرنا قاسم حدثنا الخشني حدثنا محمد بن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت أهل رسول الله بالحج وأهل به ناس وأهل ناس بالعمرة وكنت فيمن أهل بالعمرة

قال أبو عمر: هذا يفسر رواية مالك في هذا الحديث عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة أنها إنما أرادت نفسها لا رسول الله وكذلك روى عنها القاسم وغيره أن رسول الله أفرد الحج

قال أبو عمر: مالك أحسن الناس سياقة لهذا الحديث عن ابن شهاب وفي حديثه معان قصر عنها غيره وكان أثبت الناس في ابن شهاب رحمه الله وفي حديثه هذا عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة من الفقه أن التمتع جائز وأن الإفراد جائز وأن القران جائز وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم لأن رسول الله رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه بل أجازه لهم ورضيه واختلف العلماء في ما كان رسول الله به محرما يومئذ وفي الأفضل من الثلاثة لا وجه فقال منهم قائلون منهم مالك رحمه الله كان رسول الله يومئذ مفردا والإفراد أفضل من القران والتمتع قال والقران أفضل من التمتع.

وروى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وعن محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة أن رسول الله أفرد الحج واحتج أيضا من ذهب مذهب مالك في ذلك بما رواه ابن عيينة وغيره عن الزهري عن عروة عن عائشة في هذا الحديث قالت خرجنا مع رسول الله فقال "من أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل" قالت عائشة فأهل رسول الله بالحج وأهل به ناس معه وذكر الحديث وكذلك رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة سواء وقالوا فيه قال رسول الله "وأما أنا فأهل بالحج"

وهذا نص في موضع الخلاف وهو حجة من قال بالإفراد وفضله وقد روى الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله أفرد بالحج وروى الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال أقبلنا مهلين بحج مفردا.

وروى الحميدي أيضا عن الدراوردي عن علقمة بن أبي علقمة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله أفرد الحج وقد روى هذا الحديث أيضا عن مالك عن علقمة بإسناده مثله حدثنا به من طريق أبي مصعب عن مالك وليس في الموطأ كذلك وروى عباد بن عباد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال أهللنا مع رسول الله بالحج مفردا وذكر المزني عن ابن عمر مثله سواء وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال إذا جاء عن النبي عليه السلام حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة والأوزاعي وعبد الله بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي أن الإفراد أفضل وهو أشهر قوليه عنه وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر.

واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج وقالوا ذلك أفضل وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وابن الزبير وعائشة أيضا وبه قال أحمد بن حنبل وهو أحد قولي الشافعي كان الشافعي يقول الإفراد أحب إلي من التمتع ثم القران وقال في البويطي التمتع أحب إلي من الإفراد ومن القران واحتج القائلون بتفضيل التمتع بحديث معمر عن أيوب قال قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة فقال ابن عباس سل أمك يا عرية فقال عروة أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال ابن عباس والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله نحدثكم عن رسول الله وتحدثونا عن أبي بكر وعمر وبحديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة وبدأ رسول الله فأهل ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه بالعمرة إلى الحج قال عقيل قال ابن شهاب وأخبرني عروة عن عائشة بمثل خبر سالم عن أبيه في تمتع رسول الله صلى الله عليه إلى الحج ذكره البخاري عن ابن بكير عن الليث.

واحتجوا أيضا بحديث سعد بن أبي وقاص في المتعة صنعها رسول الله وصنعناها معه وبحديث عمران بن حصين قال تمتعنا على عهد رسول الله متعة الحج وبحديث سعيد بن المسيب عن علي أن رسول الله تمتع رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد ورواه حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد وبحديث مالك وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن حفصة أنها قالت لرسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر

وسيأتي القول في حديث حفصة هذا في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله.

واحتجوا أيضا بما حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن راشد بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال حدثنا ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال ابن عمر حسن جميل قال فإن أباك كان ينهى عنها فقال ويلك فإن كان أبي ينهى عن ذلك فقد فعله رسول الله وأمر به أفبقول أبي آخذ أم بأمر رسول الله قم عني وقال عبد الله بن شريك تمتعت فسألت ابن عمر وابن عباس وابن الزبير فقالوا لسنة نبيك وقال شعبة عن أبي حمزة تمتعت فنهاني عنها اناس فسألت ابن عباس فقال سنة أبي القاسم يعني التمتع.

واحتجوا بآثار كثيرة يطول ذكرها منها حديث الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال تمتع رسول الله حتى مات وأبو بكر حتى مات وعمر حتى مات وعثمان حتى مات وأول من نهى عنها معاوية

قال أبو عمر: حديث ليث هذا منكر وهو ليث بن أبي سليم ضعيف والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها فسخ الحج في عمرة فأما إلى الحج فلا وزعم من صحح نهي عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام وقال آخرون إنما نهى عنها عمر لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته فخشي أن يضيع الإفراد والقران وهما سنتان للنبي وذكر معمر عن الزهري عن سالم قال سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك لتخالف أباك فقال إن عمر لم يقل الذي تقولون إنما قال عمر أفردوا الحج من العمرة فإنه أتم للعمرة أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها وقد أحلها الله وعملها رسول الله فإذا أكثروا عليه قال كتاب الله بيني وبينكم كتاب الله أحق أن يتبع أم عمر

واحتج أحمد بن حنبل في اختيار التمتع بقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة والأحاديث في التمتع كثيرة جداً.

وقال آخرون القران أفضل وهو أحب إليهم منهم أبو حنيفة والثوري وبه قال المزني صاحب الشافعي قال لأنه يكون مؤديا للفرضين جميعا وهو قول إسحاق قال إسحاق كان رسول الله عام حجة الوداع قارنا وهو قول علي بن أبي طالب وقال أبو حنيفة القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد وقال أبو يوسف القران والتمتع سواء وهما أفضل من الإفراد.

واحتج من استحب القران وفضله بآثار منها حديث عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله يقول وهو بوادي العقيق "أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" رواه الأوزاعي وعلي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس سمع عمر سمع رسول الله بذلك وحدثنا الصبي بن معبد عن عمر بن الخطاب قال الصبي أهللت بالحج والعمرة جميعا فلما قدمت على عمر ذكرت ذلك له فقال هديت لسنة نبيك وهو حديث كوفي جيد الإسناد ورواه الثقات الأثبات عن أبي وائل عن الصبي بن معبد عن عمر ومنهم من يجعله عن أبي وائل عن عمر رواه هكذا عن أبي وائل عن عمر الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وعاصم بن أبي النجود وسيار أبو الحكم

ورواه الأعمش ومنصور وعبدة بن أبي لبابة عن أبي وائل عن الصبي بن معبد عن عمر وهؤلاء جودوه وهم أحفظ ورواه عن الصبي مسروق وأبو وائل ومنها حديث حفصة الذي قدمناه ذكره ومنها حديث أنس بن مالك قال سمعت رسول الله يقول "لبيك بحجة وعمرة معا" ورواه حميد الطويل وحبيب بن الشهيد عن بكر المزني قال سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال لي بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال ما تعدوننا إلا صبيانا أنا سمعت رسول الله يقول "لبيك بحجة وعمرة معا" .

وهذا الحديث يعارض ما روي عن ابن عمر أن النبي تمتع وفيهما نظر ويخرج على مذهب ابن عمر في التمتع أنه لبى بالحج وحده من مكة وقد روى معمر وغيره عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن رسول الله أهل بحجة وعمرة معا وروى عن أنس من وجوه.

ومنها ما رواه قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين أنه قال له أني أحدثك حديثا لعل الله ينفعك به اعلم أن رسول الله قد جمع بين حج وعمرة ولم ينزل فيهما كتاب ولم ينه عنهما رسول الله قال فيهما رجل برأيه.

وهذا قد تأوله جماعة على التمتع وقالوا إنما أراد عمر بقوله أن رسول الله قد جمع بين حج وعمرة أي أنه جمع بينهما في سفرة واحدة وحجة واحدة وقد روي عن عمران ما يعضد هذا التأويل روى الحسن وأبو رجاء عن عمران بن حصين قال نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى وفعلناها مع رسول الله ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنه حتى مات قال رجل بعد برأيه ما شاء ومنها رواية شعبة عن الحكم عن علي بن حسين عن مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا بين مكة والمدينة وعثمان ينهى أن يجمع بين الحج والعمرة قال فلما رأى ذلك علي لبى بهما جميعا فقال لبيك بحج وعمرة معا فقال له عثمان تراني أنهى عنهما وتفعلها فقال علي لم أكن لأدع سنة رسول الله .

وهذا يحتمل أن يكون لأن رسول الله أباح ذلك فصار سنة

قال أبو عمر: التمتع والقران والإفراد كل ذلك جائز بسنة رسول الله وقد مضى القول في معنى نهي عمر عن التمتع بما فيه بيان لمن فهم.

ولم يكن تمتع ولا قران في شيء من حج الجاهلية وإنما كانوا على الإفراد وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور لا خلاف بين أهل العلم والسير في ذلك والإفراد أفضل إن شاء الله لأن رسول الله كان مفردا فلذلك قلت إنه أفضل لأن آثاره أصح عنه في إفراده ولأن الإفراد أكثر عملا ثم العمرة عمل آخر وذلك كله طاعة والأكثر منها أفضل.

وأما قول عائشة في حديثها في هذا الباب حديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عنها قالت فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ففيه بيان أن الحائض لا تطوف بالبيت وإن الطواف لا يجوز على غير طهارة وذلك حجة على أبي حنيفة وأصحابه الذين يجيزون لغير الطاهر الطواف ويرون على من طاف غير طاهر من جنب أو حائض دما ويجزيه طوافه وعند مالك والشافعي لا يجزيه ولا بد من إعادته وحجتهم أن رسول الله قال لعائشة حين حاضت "اصنعي كل ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" وأنه قال في صفية "أحابستنا هي" قيل أنها قد طافت قال "فلا إذن" وقال "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله عز وجل أحل فيها النطق وقال لا صلاة إلا بطهور" .

ومن حجة أبي حنيفة أن الإحرام وهو ركن من أركان الحج يجوز بغير طهارة ويستحب أن يكون على طهارة فكذلك الطواف بالبيت.

وأما قولها فشكوت ذلك إلى النبي فقال "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة" فإن جماعة من أصحابنا تأولوا قوله ودعي العمرة ودعي عمل العمرة يعني الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وكذلك تأولوا في رواية من روى واسكتي عن العمرة ورواية من روى امسكي عن العمرة أي امسكي عن عمل العمرة لا أنه أمر برفضها وابتداء الحج وإنشائه كما زعم العراقيون وقال العراقيون قوله في هذا الحديث انقضي رأسك وامتشطي يدفع تأويل من تأول ما ذكرنا.

قال أبو عمر: أجمع العلماء على أن المعتمر لا يسعى بين الصفا والمروة حتى يطوف بالبيت وأما المعتمرة يأتيها حيضها قبل أن تطوف بالبيت ويدركها يوم عرفة وهي حائض لم تطف أو المعتمر يقدم مكة ليلة عرفة فيخاف فوات عرفة إن طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فإن العلماء اختلفوا في هؤلاء فقال مالك في الحائض المعتمرة تخشى فوات عرفة أنها تهل بالحج وتكون كمن قرن الحج والعمرة ابتداء وعليها هدى ولا يعرف مالك رفض الحج ولا رفض العمرة لمن أحرم بواحد منهما وقوله أن الإنسان إذا عقد على نفسه الإحرام فلا يحل منه حتى يؤديه ويتمه وبقول مالك في هذه المسألة قال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وإبراهيم بن علية في الحائض يخاف فوات عرفة قبل أن يطوف قالوا ولا يكون إحلاله بالحج نقضا للعمرة ويكون قارنا.

وحجتهم قول الله عز وجل {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [ البقرة: 196] ودفعوا حديث عروة هذا وقالوا هو غلط ووهم لم يتابع عروة على ذلك أحد من أصحاب عائشة.

وقال بعضهم إنما كانت عائشة يومئذ مهلة بالحج ولم تكن مهلة بعمرة كما قال عروة قالوا وإذا كانت مهلة بالحج سقط القول عنا في رفض العمرة لأنها لم تكن مهلة بالعمرة قالوا وقد روت عمرة عن عائشة والقاسم بن محمد عن عائشة والأسود بن يزيد عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحجة لا بعمرة وذكروا حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا أنه الحج أو لا نرى إلا الحج هكذا رواه مالك وسليمان بن بلال وسفيان بن عيينة وغيرهم عن يحيى بن سعيد.

وكذلك روى منصور عن إبرهيم عن الأسود عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله ولا نرى إلا أنه الحج وروى حماد بن سلمة قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت "لبينا بالحج حتى إذا كنا بسرف حضت فدخل علي النبي وأنا أبكي فقال "ما يبكيك يا عائشة" ؟ فقلت حضت ليتني لم أكن حججت يا رسول الله فقال "سبحان الله إنما هو شيء كتبه الله على بنات آدم انسكي المناسك كلها غير أن لا تطوفي بالبيت" فلما دخلنا مكة" وذكر باقي الحديث

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة فذكره

ففي هذا الحديث عن عائشة "لبينا بالحج" وفيه أن رسول الله قال لها حين شكت إليه حيضتها "انسكي المناسك كلها غير الطواف" وهذا واضح أنها كانت حاجة مهلة بالحج والله أعلم

وأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال أخبرنا أبو ثابت حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أفلح بن حميد وأخبرنا سعيد بن نصر أيضا قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال حدثنا عثمان بن عمر بن فارس قال حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة وهذا لفظ حديث حاتم وهو أتم معنى وبعض حديثهما دخل في بعض أنها قالت خرجنا مع رسول الله مهلين بالحج في أشهر الحج وأيام الحج حتى قدمنا سرف فقال رسول الله لأصحابه "من لم يكن منكم ساق هديا فأحب أن يحل من حجه بعمرة فليفعل" قالت عائشة فالآخذ بذلك من أصحابه والتارك

وفي حديث عثمان بن عمر وكان مع رسول الله ومع ناس من أصحابه الهدى فلم تكن لهم عمرة ثم رجع إلى حديث حاتم قال فلم يحلوا قالت فدخل علي رسول الله وأنا أبكي وقد أهللت بالحج فقال "ما يبكيك فقلت حرمت العمرة لست أصلي قال "إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني على حجك وعسى الله أن يرزقكها" وذكر تمام الحديث ألا ترى إلى قولها في هذا الحديث وقد أهللت بالحج وقوله "فكوني على حجك" وقولها في حديث حماد بن سلمة لبينا بالحج في أشهر الحج فهذه الألفاظ مع ما تقدم من قولها في رواية الحفاظ أيضا خرجنا لا نرى إلا الحج دليل على أنها لم تكن معتمرة ولا مهلة بعمرة كما زعم عروة والله أعلم فإذا لم تكن كذلك فكيف يأمرها رسول الله برفض عمرة وهي محرمة بحجة لا بعمرة

قال إسماعيل بن إسحاق قد اجتمع هؤلاء يعني القاسم وعمرة والأسود على الرواية التي ذكرنا فعلمنا بذلك أن الرواية التي رويت عن عروة غلط ويشبه أن يكون الغلط إنما وقع فيه أنها لم يمكنها الطواف بالبيت وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي فأمرها النبي أن تترك الطواف وتمضي على الحج فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة وأنها تركت عمرتها وابتدأت الحج قال وكيف يجوز لإنسان أن يترك عمرته أو حجه والله يقول وأتموا الحج والعمرة لله فأمر بإتمام ما دخل فيه من ذلك

قال فإذا حاضت المعتمرة وحضر يوم عرفة وخافت فوات الحج أدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة وكذلك الرجل إذا أهل بالعمرة ثم خاف فوات عرفة أهل بالحج وأدخل الحج على العمرة وصار قارنا كما يفعل من لا يخاف فوات عرفة سواء وعليه الهدي للقران

قال أبو عمر: وقال أيضا بعض من يأبى رفض العمرة للحائض محتجا لمذهبه قد روى ابن شهاب وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة أنها قالت يومئذ كنت مهلة بعمرة وهؤلاء حفاظ لا يدفع حفظهم وإتقانهم وقد صرحوا عنها بأنها كانت مهلة بعمرة ووافقهم جابر على ذلك من رواية الثقات عنه وذكر في حديثه أن رسول الله أمرها أن تغتسل وتهل بالحج فتكون قارنة مدخلة للحج على عمرتها إذ لم يمكنها الطواف بالبيت لحيضها وخشيت فوات عرفة قالوا وليس في رواية من روى عن عائشة كنا مهلين بالحج وخرجنا لا نرى إلا الحج بيان لأنها كانت هي مهلة بالحج وإنما هو استدلال لأنه يحتمل أن تكون أرادت بقولها خرجنا تعني خرج رسول الله وأصحابه مهلين بالحج تريد بعض أصحابه أو أكثر أصحابه والله أعلم وليس الاستدلال المحتمل للتأويل كالصريح وقد صرح جابر بأنها كانت مهلة يومئذ بعمرة كما قال عروة عنها قالوا والوهم الذي دخل على عروة والله أعلم إنما كان في قوله انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة وأهلي بالحج

أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله فقال "من أراد منكم أن يهل بالحج فليهل ومن أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل" قالت عائشة وأهل رسول الله بالحج وأهل به ناس معه وأهل ناس بالحج والعمرة وأهل ناس بالعمرة وكنت ممن أهل بالعمرة قال سفيان ثم غلبني الحديث فهذا الذي حفظت منه

فهذا واضح في أنها كانت مهلة بعمرة أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا البخاري حدثنا محمد حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله موافين لهلال ذي الحجة فقال لنا "من أحب منكم أن يهل بالحج فليهل ومن أحب أن يهل بعمرة فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة" قالت فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وكنت ممن أهل بعمرة فأظللني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال "ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" فلما كانت ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم فأهللت بعمرة مكان عمرتي

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن محمد بن أبي دليم وعبد الله بن محمد بن علي قالا حدثنا عمر بن حفص بن غالب قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبدالحكم قال حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله موافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله "من أحب منكم أن يهل بعمرة فليفعل فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة" قالت عائشة فأهل بعض أصحابه بعمرة وبعضهم بحجة وكنت أنا ممن أهل بعمرة قالت فأدركتني عرفة وأنا حائض فذكر الحديث وكذلك رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد والدراوردي وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مثله

وقال مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله فأهللنا بعمرة وقال معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللت بعمرة وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أهللت مع رسول الله في حجة الوداع بعمرة وروى ابن وهب عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر أن عائشة أقبلت مهلة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت فدخل عليها النبي فوجدها تبكي فقال "ما يبكيك" ؟ قالت حضت ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون الآن إلى الحج قال "فإن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج" ففعلت ووقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت طفت بالكعبة والصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك هكذا قال فقلت يا رسول الله إني أجد في نفسي إني لم أطف بالبيت حتى حججت فقال "اذهب يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم" وذلك ليلة الحصبة هكذا قال ابن وهب في هذا الحديث بإسناده عن جابر أن عائشة أقبلت مهلة بعمرة ثم قال فيه قد حللت من حجك وعمرتك

وحدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يونس بن محمد المؤدب قال حدثني الليث قال حدثني أبو الزبير عن جابر قال أقبلنا مهلين بحج مفرد وأقبلت عائشة مهلة بحجة وعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت وذكر الحديث وفيه "فإن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بحج" وليس في شيء من حديث جابر "ودعي العمرة" "ولا انقضي رأسك وامتشطي" قالوا فالوجه عندنا في حديثها أنها كانت مهلة بعمرة فلما حاضت وخافت فوت عرفة أمرها رسول الله أن تهل بالحج مدخلة له على العمرة وإذا كان هكذا فليس فيه ما يخالف قول الله تبارك وتعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [ البقرة: 196] لأنها تكون قارنة ويكون عليها حينئذ دم لقرانها وهذا ما لا خلاف في جوازه فالوهم الداخل على عروة في حديثه هذا إنما هو في قوله انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة

قال أبو عمر: قد روى حماد بن زيد أن هذا الكلام لم يسمعه عروة في حديثه ذلك من عائشة فبين موضع الوهم فيه

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف وإبراهيم بن شاكر قالا أخبرنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا الحسن بن أحمد قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت "خرجنا مع رسول الله موافين هلال ذي الحجة فقال النبي "من شاء أن يهل بحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل" فمنا من أهل بحج ومنا من أهل بعمرة حتى إذا كنت بسرف حضت فدخل علي رسول الله وأنا أبكي فقال "ما شأنك" ؟ فقلت وددت أني لم أخرج العام وذكرت له محيضها" قال عروة فحدثني غير واحد أن رسول الله قال لها "دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وافعلي ما يفعل الحاج المسلمون في حجهم" قالت فأطعت الله ورسوله فلما كانت ليلة الصدر أمر رسول الله عبد الرحمن بن أبي بكر فأخرجها إلى التنعيم فأهلت منه بعمرة ففي رواية حماد بن زيد عن هشام بن عروة في هذا الحديث علة اللفظ الذي عليه مدار المخالف في النكتة التي بها يستجيز رفض العمرة لأنه كلام لم يسمعه عروة من عائشة وإن كان حماد بن زيد قد انفرد بذلك فإنه ثقة فيما نقل وبالله التوفيق

قال أبو عمر: الاضطراب عن عائشة في حديثها هذا في الحج عظيم وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه ودفع بعضهم بعضا ببعض ولم يستطيعوا الجمع بينها ورام قوم الجمع بينها في بعض معانيها وكذلك أحاديثها في الرضاع مضطربة أيضا وقال بعض العلماء في أحاديثها في الحج والرضاع إنما جاء ذلك من قبل الرواة وقال بعضهم بل جاء ذلك منها فالله أعلم

وروى محمد بن عبيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم قال القاسم أهلت عائشة بالحج وقال عروة أهلت بعمرة وذكر الحارث بن مسكين عن يوسف بن عمر عن ابن وهب عن مالك أنه قال في حديث عروة عن عائشة في الحج ليس عليه العمل عندنا قديما ولا حديثا ولا ندري أذلك كان ممن حدثه أو من غيره، غير أنا لم نجد أحدا من الناس أفتى بهذا

قال أبو عمر: يريد مالك أنه ليس عليه العمل في رفض العمرة لأن العمل عليه عنده في أشياء كثيرة منها أنه جائز للإنسان أن يهل بعمرة ويتمتع بها ومنها أن القارن يطوف طوافا واحدا وغير ذلك مما فيه ما نذكره في هذا الباب إن شاء الله

وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه المعتمرة الحائض إذا خافت فوت عرفة رفضت عمرتها وألغتها وأهلت بالحج وعليها لرفض عمرتها دم ثم تقضي عمرة بعد وحجتهم في ذلك حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة وحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله قال لها في حديثها المذكور في هذا الباب "دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" قالوا ولا يقاس بالزهري وعروة أحد في الحفظ والإتقان فقالوا وكذلك روى عكرمة عن عائشة وابن أبي مليكة عن عائشة وزيادة مثل الزهري وهؤلاء مقبولة وقد زادوا وذكروا ما قصر عنه غيرهم وحذفه وليس من قصر عن ذكر شيء ولم يذكره بحجة على من ذكره قال عبد الرزاق ذكرت للثوري ما حدثنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قال علي رضي الله عنه إذا خشي المتمتع فوتا أهل بحج في عمرته وكذلك الحائض المعتمرة تهل بحج في عمرتها قال وحدثنا هشام عن الحسن مثله وعن طاووس مثله فقال الثوري لا نقول بهذا ولا نأخذ به ونأخذ بحديث عائشة ونقول عليها لرفض عمرتها دم

قال أبو عمر: ليس في حديث عروة عن عائشة وهو الذي أخذ به الثوري ذكر دم لا من رواية الزهري ولا من رواية غيره بل قال فيه هشام بن عروة ولم يكن في شيء من ذلك دم ذكر ذلك أنس بن عياض وغيره عن هشام بن عروة في حديثه هذا ومن حجة الثوري ومن قال بقوله في رفض العمرة قول عائشة لرسول الله حينئذ يا رسول الله يرجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج ولو كانت قارنة قد أدخلت على عمرتها حجا لم تقل ذلك

والله أعلم ولذلك أمر أخاها أن يخرج بها إلى التنعيم فتعتمر منه مكان العمرة التي رفضتها وهذا القول قد دفعناه فيما مضى من هذا الباب وإنما يؤخذ هذا اللفظ من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رواه أيمن بن نابل عنه والقاسم يقول عنها أنها أهلت بحج لا بعمرة وليس في حديثه رفض عمرة وقد يوجد معنى حديث القاسم هذا عن الأسود عن عائشة والقول في ذلك واحد لأنه يلزم من صحح هذا أن يصحح أنها كانت مهلة بحج مفرد فيبطل عليه أصله في رفض العمرة وقد روى ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن عائشة أنها قالت للنبي إني أجد في نفسي من عمرتي أن لم أكن طفت قال "فاذهب يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"

وهذا يدل على أنها كانت قد أدخلت الحج على عمرتها ولم تطف لذلك إلا طوافا واحدا فأحبت أن تطوف طوافين كما طاف من صواحبها من تمتع وسلم من الحيض حتى طاف بالبيت والله أعلم

وفي حديثنا المذكور في هذا الباب أيضا من الفقه على مذهب مالك والشافعي ومن دفع رفض العمرة إدخال الحج على العمرة وهو شيء لا خلاف فيه بين العلماء ما لم يطف المعتمر بالبيت أو يأخذ في الطواف واختلفوا في إدخال العمرة على الحج فقال مالك يضاف الحج إلى العمرة ولا تضاف العمرة إلى الحج قال فمن فعل ذلك فليست العمرة بشيء ولا يلزمه لذلك شيء وهو حاج مفرد وكذلك من أهل بحجة فأدخل عليها حجة أخرى أو أهل بحجتين لم تلزمه إلا واحدة ولا شيء عليه وهذا كله قول الشافعي والمشهور من مذهبه وقال ببغداد إذا بدأ فأهل بالحج فقد قال بعض أصحابنا لا يدخل العمرة عليه والقياس أن أحدهما إذا جاز أن يدخل على الآخر فهما سواء وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من أضاف إلى حج عمرته لزمته وصار قارنا وقد أساء فيما فعل

وقال أبو حنيفة من أهل بحجتين أو عمرتين لزمتاه وصار رافضا لإحداهما حين يتوجه إلى مكة

وقال أبو يوسف تلزمه الحجتان ويصير رافضا لإحداهما ساعتئذ وقال محمد بن الحسن بقول مالك والشافعي تلزمه الواحدة إذا أهل بهما جميعا ولا شيء عليه

وقال أبو ثور إذا أحرم بحجة فليس له أن يضم إليها عمرة ولا يدخل إحراما على إحرام كما لا يدخل صلاة على صلاة

وفيه أيضا أن القارن يجزيه طواف واحد وسعي واحد وبهذا قال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح وقول الحسن ومجاهد وطاووس وحجة من قال بهذا القول حديث مالك هذا عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وفيه قالت أن أصحاب رسول الله الذين جمعوا الحج والعمرة إنما طافوا طوافا واحدا

فإن قيل أن من روى هذا الحديث عن ابن شهاب لم يذكر هذا فيه من قول عائشة قيل له إن تقصير من قصر عنه ليس بحجة على من حفظه ومالك أثبت الناس عند الناس في ابن شهاب وقد ذكره مالك وحسبك به ومن حجتهم أيضا حديث الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي قال "من جمع الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد"

فإن قيل الدراوردي غلط في هذا الحديث فرفعه وإنما هو حديث موقوف كذلك رواه كل من رواه عن عبيد الله وكذلك رواه مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفا

قيل لهم قد روى أيوب بن موسى وأيوب السختياني وإسماعيل بن أمية والليث بن سعد وموسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه قال لما خرج إلى مكة معتمرا مخافة حصر قال ما شأنهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت إلى عمرتي حجة ثم تقدم فطاف لهما طوافا واحدا وقال هكذا فعل رسول الله

وقد ذكرنا الطرق عن هؤلاء في هذا الحديث في باب نافع والحمد لله

ومن حجتهم أيضا حديث ابن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة أن النبي قال لها "إذا رجعت إلى مكة فإن طوافك يجزيك لحجتك وعمرتك"

ومن حجتهم أيضا حديث أبي الزبير عن جابر رواه الليث وابن جريج وغيرهما عن أبي الزبير عن جابر أن النبي قال لعائشة "طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة ثم قد حللت من حجك وعمرتك"

وروى رباح بن أبي معروف عن عطاء عن جابر أن أصحاب النبي لم يزيدوا على طواف واحد وروى منصور بن أبي الأسود عن عبدالمالك عن عطاء عن ابن عباس أن النبي طاف بالبيت طوافا واحدا لحجته وعمرته

قال أبو عمر: هذا الحديث خطأ والله أعلم لأن فيه أن رسول الله كان قارنا أو متمتعا وهو مختلف فيه عن عطاء إلا أنه يشبه مذهب ابن عمر وهو معروف من مذهب ابن عباس في التمتع

وقال الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح على القارن طوافان وسعيان وروى هذا القول عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وهو قول الشعبي وجابر بن زيد وعبد الرحمن بن الأسود

وروى سعيد بن منصور عن هشام عن منصور بن زاذان عن الحكم عن زياد بن مالك عن علي وعبد الله قالا في القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين

وروى منصور عن إبرهيم ومالك بن الحارث عن أبي نصر السلمي قال أهللت بالحج فأدركت عليا فقلت له إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة قال لا لو كنت أهللت بعمرة ثم أردت أن تضيف إليها حجا ضممته قال قلت كيف أصنع إذا أردت ذلك قال تصب عليك إداوة من ماء ثم تحرم بهما جميعا وتطوف لكل واحد منهما طوافا ورواه شعبة والثوري عن منصور وروى الأعمش هذا الحديث عن إبراهيم ومالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن أذنية قال سألت عليا فذكره وردوا حديث عطاء عن عائشة قول النبي "طوافك يجزيك لحجك وعمرتك" بأن عروة روى عنها "انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة وأهلي بالحج" قالوا فكيف يكون طوافها في حجتها التي أحرمت بها بعد ذلك يجزىء عنها من حجتها تلك ومن عمرتها التي رفضتها وتركتها هذا محال

وزعموا أن حديث عطاء عن عائشة لم يتابع عليه ابن أبي نجيح وأن حديث عطاء عن جابر رواه أبو الزبير عن جابر فجعله في السعي قال لم يطف النبي عليه السلام وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا

وسنزيد القول في إدخال العمرة على الحج وفي طواف القارن بيانا في باب نافع من كتابنا هذا إن شاء الله

وفي قول عائشة في حديث مالك وأما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا دليل على أن الحاج يجزيه في حجه إن كان مفردا أو قارنا طواف واحد ويقضي بذلك فرضه فإن جعل الطواف يوم النحر ووصله بالسعي لم يكن عليه شيء في ترك طواف القدوم غير الدم وإن كان معذورا في تركه لم يأثم

والطواف الموصول بالسعي في حين دخول مكة لمالك وأصحابه في نيابته عن طواف الإفاضة مذهب نذكره في باب نافع إن شاء الله

حديث حادي عشر لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته "أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب قالت فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له علي"

قال أبو عمر: في هذا الحديث دليل على أن احتجاب النساء من الرجال لم يكن في أول الإسلام وأنهم كانوا يرون النساء ولا يستتر نساؤهم عن رجالهم إلا بمثل ما كان يستتر رجالهم عن رجالهم حتى نزلت آيات الحجاب وكان سبب نزولها فيما قال أهل العلم بالتفسير والسير أن رسول الله صنع طعاما ودعا إليه أصحابه في هداء زينب وذلك في بيت أم سلمة فلما أكلوا أطالوا الحديث فجعل النبي يدخل ويخرج ويستحي منهم فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [ الأحزاب: 53] يقول غير منتظرين ومتحينين وقته يعني وقت الطعام {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [ الأحزاب: 53]

وأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [ النور: 27] وقرئت حتى تستأذنوا ثم نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [ الأحزاب: 59] فأمر النساء بالحجاب ثم أمرن عند الخروج أن يدنين عليهن من جلابيبهن وهو القناع وهو عند جماعة العلماء في الحرائر دون الإماء.

وفيه أيضا أن ذوي المحارم من النسب والرضاع لا يحتجب منهم ولا يستتر عنهم إلا العورات والمرأة في ما عدا وجهها وكفيها عورة بدليل أنها لا يجوز لها كشفه في الصلاة وقبل الرجل ودبره عورة مجمع عليها

وقد ذكرنا اختلاف الناس في الفخذ من الرجل في غير هذا الموضع وبينا معاني العورة في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وفي باب صفوان بن سليم وذكرنا هناك من يلزم المرأة الاستتار عنه وزدنا ذلك بيانا في باب هشام بن عروة وجرى من هذا المعنى ذكر في الباب الذي يلي هذا لابن شهاب وأوضحنا في باب صفوان بن سليم المعنى في الاحتجاب والاستئذان على ذوات المحارم جملة وما يحل لذي المحرم أن يراه من ذات محارمه وما يحل من ذلك للعبيد الذكور والإماء والحمد لله

وذكر إسماعيل بن إسحاق حدثنا علي بن المديني حدثنا سفيان قال سمعناه من الزهري عن نبهان أنه كان يقود بأم سلمة بعيرها فسألته كم بقي عليك من كتابتك فقال ألف درهم قالت فهي عندك قال نعم قالت فأعطها فلانا قال علي قد سماه سفيان فذهب من كتابي وألقت الحجاب وقالت عليك السلام أن رسول الله قال "إذا كان لإحداكن مكاتب عنده ما يؤدي فلتحتجب منه"

وفيه أن لبن الفحل يحرم وهذا موضع اختلف فيه الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين ومعنى لبن الفحل تحريم الرضاع من قبل الرجال مثال ذلك المرأة ترضع الطفل فيكون ابنها ابن رضاعة بإجماع العلماء ويكون كل ولد لتلك المرأة إخوته وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من المسلمين وبه نزل القرآن فقال {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [ النساء: 23]

وسواء كان رضاعهم في زمن واحد أو واحدا بعد واحد من المرأة الواحدة هم كلهم إخوة رضاع بإجماع واختلفوا في زوج المرأة المرضعة هل يكون أبا للطفل بأنه كان سبب اللبن الذي به أرضع وهل يكون ولده من غير تلك المرأة إخوة الرضيع أم لا فقال جماعة من أهل العلم أن زوج تلك المرأة أب لذلك الطفل لأن اللبن له وبسببه ومنه وكل ولد لذلك الرجل من تلك المرأة ومن غيرها فهم إخوة الصبي المرضع وهذا موضع التنازع وفي حديث عائشة هذا بيان تحريم الرضاع من قبل الرجال لأن أفلح المستأذن عليها لم يكن بينه وبين أبي بكر الصديق رضاع ولو كان أبو بكر قد رضع مع أفلح هذا امرأة واحدة لم تحجبه عائشة وما كانت عائشة ولا مثلها ممن يخفى عليه مثل هذا ولكن لما علمت أنه ليس بأخ لأبيها من الرضاع حجبته وكانت امرأة أخيه أبي القعيس قد أرضعتها فصارت أمها من الرضاع وزوجها أبو القعيس أبا لها فلهذا صار أخو أبي القعيس عمها ولم تعلم أن الرجال يكون الرضاع واللبن من قبلهم أيضا فحجبته حتى أعلمها رسول الله ألا ترى مراجعتها رسول الله في حديث هشام بن عروة عن أبيه عنها إذ قالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل تقول أن هذا الرجل ليس أخا للمرأة التي أرضعتني وإنما هو أخو زوجها فقال لها رسول الله "إنه عمك" ومن ادعى أن أبا القعيس كان رضيع أبي بكر الصديق فقد كابر ودفع الآثار والله المستعان

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا المطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث بن سعد قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي عليه السلام أنها قالت استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس بعدما نزل الحجاب فقلت والله لا آذن له حتى أستأذن فيه رسول الله فإن أخا أبي القعيس ليس هو الذي أرضعني ولكن أرضعتني المرأة فقال رسول الله "ايذني له فإنه عمك تربت يمينك" قال عروة فلذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب قال ابن شهاب فنرى ذلك يحرم منه ما يحرم من النسب

أخبرنا أحمد بن محمد قال حدثنا قاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة قالا حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أحمد بن عمرو قال حدثنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت جاء عمي من الرضاعة بعد ما ضرب علينا الحجاب فقلت والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله فجاء رسول الله فقلت جاء عمي من الرضاعة فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك قال "فليلج" فقلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال رسول الله "إنه عمك فليلج عليك" وكانت تقول يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال سمعت الزهري يحدث عن عروة عن عائشة أنها قالت جاء عمي من الرضاعة أفلح بن أبي القعيس فاستأذن علي بعد ما ضرب الحجاب فلم آذن له فلما جاء النبي أخبرته فقال "إنه عمك فأذني له" قال الحميدي قال سفيان وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي مثله وزاد فيه أنها قالت قلت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة لم يرضعني الرجل فقال رسول الله "تربت يمينك هو عمك فأذني له" وقد ذكر معمر هذه الزيادة في حديثه هذا عن ابن شهاب

ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها فقال إني عمك فأبت أن تأذن له فلما دخل عليها النبي عليه السلام ذكرت ذلك له فقال النبي عليه السلام "أفلا أذنت لعمك" ؟ قالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال "فأذني له فإنه عمك تربت يمينك" .

وقد رواه بعض أصحاب ابن عيينة عنه عن ابن شهاب مثل رواية معمر قال وكان أبو القعيس أخا زوج المرأة التي أرضعت عائشة

وقال معمر وأخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة نحوه

وقد رواه عراك بن مالك عن عروة فأوضح المعنى فيه وبين المراد منه أيضا

حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا أحمد بن دحيم وحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال حدثنا عبيد الله بن حبابة قالا حدثنا البغوي قال حدثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة عن الحكم عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة قالت استأذن علي أفلح ابن أبي قعيس فلم آذن له فقال لي إني عمك أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي قالت فذكرت ذلك للنبي قال "صدق هو عمك فأذني له"

وممن قال لبن الفحل يحرم والرضاع من قبل الرجل كهو من قبل النساء عروة بن الزبير وابن شهاب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو الشعثاء جابر بن زيد واختلف فيه عن القاسم بن محمد والحسن البصري وهو مذهب ابن عباس وروى مالك عن ابن شهاب عن عمرو بن الشريد قال سئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية وأرضعت الأخرى غلاما هل يتزوج الغلام الجارية فقال لا اللقاح واحد وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يحرم لبن الفحل وبهذا قال مالك بن أنس والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وحجتهم ما قدمنا من حديث عائشة في قصة أبي القعيس وهو مذهب ابن عباس وأصحابه وعائشة رضي الله عنهم على اختلاف عنها وذكر إسماعيل القاضي عن ابن أبي أويس قال قال مالك وقد اختلف في أمر الرضاعة من قبل الأب ونزل برجال من أهل المدينة في أزواجهم منهم محمد بن المنكدر وابن أبي حبيبة فاستفتوا في ذلك

فاختلف الناس عليهم فأما ابن المنكدر وابن أبي حبيبة ففارقوا نساءهم وروى سحنون عن ابن القاسم عن مالك مثله وزاد وقد اختلف فيه اختلافا شديدا

قال أبو عمر: وممن قال أن لبن الفحل ليس بشيء ولا يحرم شيئا سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وأخوه عطاء بن يسار ومكحول وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن البصري على اختلاف عنه والقاسم بن محمد على اختلاف عنه وأبو قلابة وإياس بن معاوية وهو قول داود وابن علية وقضى به عبد الملك بن مروان وكان يقول إن الرجل ليس من الرضاعة في شيء وروي ذلك عن ابن عمر وجابر بن عبد الله كل هؤلاء يقول لا بأس بلبن الفحل ولا يحرم شيئا ولا تكون الرضاعة من قبل الرجال بحال وحجتهم أن عائشة كانت تفتي بخلاف حديث أبي القعيس روى ذلك عنها القاسم بن محمد من رواية مالك وغيره

وذلك أن القاسم قال كانت عائشة تأذن لمن أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا تأذن لمن أرضعه نساء إخوتها ونساء بني أخيها وروى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها كانت تدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا تدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها وروى محمد بن عمرو بن علقمة الليثي قال قدم الزهري المدينة في أول خلافة هشام فذكر أن عروة كان يحدث عن عائشة أن أبا القعيس جاء يستأذن على عائشة وقد أرضعتها امرأة أخيه فأبت أن تأذن له فزعم عروة أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله فقال "فهلا أذنت له فإن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" ففزع أهل المدينة لذلك فذكر محمد بن عمرو أنه جاء عبد الرحمن بن القاسم فسأله فقال أشهد على القاسم بن محمد لكان يحدثنا أن عائشة كانت تأذن لمن أرضع أخواتها وبنات أخيها عليها ولا تأذن لمن أرضع نساء أخيها وبني أخيها حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا ابن وضاح حدثنا يحيى بن جابر من أهل القيروان قال حدثنا عبد الله بن فروخ عن هاشم بن حسان عن محمد بن سيرين أنه سئل عن لبن الفحل فقال يكرهه ناس من الفقهاء ولا يكرهه آخرون وكان من كرهه أحب إلي ممن لم يكرهه قال وحدثنا ابن وضاح قال حدثنا محمد بن عمرو قال

حدثنا مصعب بن ماهان عن سفيان عن منصور عن مجاهد أنه كان يكره لبن الفحل قال وحدثنا محمد بن عمرو قال حدثنا مصعب عن سفيان عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد وعطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن بن أبي الحسن أنهم كرهوا لبن الفحل قال وحدثنا أحمد بن عمرو قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد أنه كان يكره لبن الفحل

ووجدت في كتاب أبي بخطه رحمه الله حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أحمد بن سلمة قال حدثنا يزيد بن هرون عن محمد بن عمرو بن علقمة عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال سألت سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبا سلمة بن عبد الرحمن عن لبن الفحل فقالوا ما كان من الرضاع من قبل الرجال فإنه لا يحرم شيئا قال وحدثنا أحمد بن سلمة قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا أيوب السختياني قال أول ما سمعت بلبن الفحل وأنا بمكة فجعل إياس بن معاوية يقول وما بأس هذا ومن يكره هذا قال فلما قدمت البصرة ذكرت ذلك لمحمد بن سيرين فقال نبئت أن ناسا من أهل المدينة اختلفوا فيه فمنهم من كرهه ومنهم من لم يكرهه ومن كرهه في أنفسنا أفضل ممن لم يكرهه وممن كرهه القاسم بن محمد قال ابن وضاح

وحدثنا يحيى بن جابر حدثنا عبد الله بن فروخ عن هشام بن حسان عن ابن سيرين في لبن الفحل فقال من كرهه أحب إلينا ممن لم يكرهه قال وحدثنا محمد بن رمح قال حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد أن واقد بن عبد الله كان له أخ من مزينة من الرضاعة فأرضعت امرأة المزني اعتمر لعبد الله بن عبد الله بن عمر فتزوجها واقد بن عبد الله وسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر إذ ذاك حيان "لاينكران"

قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه كان لا يرى بلبن الفحل بأسا قال وحدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي قال لا بأس بلبن الفحل فإن قال قائل حديث أبي القعيس مضطرب يقول فيه الزهري أفلح أخو أبي القعيس وهو المستأذن وقال محمد بن عمرو أن أبا القعيس كان ذلك وقال الحكم بن عتيبة عن عراك بن مالك عن عروة أفلح بن أبي القعيس وهذا اضطراب

قيل له هذا اضطراب لا يمنع من القول بالحديث لأن المعنى المقصود بالحديث والمراد منه متفق عليه في الأثر وهو أن المستأذن من كان منهما فزوجة أخيه المرضعة لعائشة وصيره رسول الله بذلك عما لها وسواء سمي أو لم يسم وجائز أن يكون أفلح أخا أبي القعيس وابن أبي القعيس لأنه جائز أن يكون أبو القعيس بن أبي القعيس وليس في رواية ابن شهاب وعراك بن ملك ما يتدافع

وأما قول محمد بن عمرو أن أبا القعيس فأظنه وهما وابن شهاب فيما نقل من ذلك لا يقاس به غيره في حفظه وإتقانه فلا حجة فيما نزع به هذا القائل وكذلك لا حجة في حديث القاسم عن عائشة لأن لها أن تأذن لمن شاءت من ذوي محارمها وتحجب من شاءت ولو صح عنها هذا وذاك لكان المصير إلى السنة أولى لأن السنة لا يضرها من خالفها والمصير إليها أولى كما صار من خالفها في هذه المسألة إلى ما روته في فرض الصلاة وقصرها ولم يصر إلى إتمامها هي في السفر ونحن لا نعلم أن عائشة حجبت من حجبت ممن جرى ذكره في حديث القاسم إلا بخبر واحد عن واحد وبمثل ذلك علمنا حديث النبي في قصة أبي القعيس فوجب علينا العمل بالسنة إذا نقلها العدول ولم يجز لنا تركها بغير سنة فافهم وقد روي عن النبي ما يوافق حديث أبي القعيس وهو قوله "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"

رواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب عن النبي ورواه مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار وعن عروة عن عائشة ورواه أيضا مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة عن النبي

قال أحمد بن المعذل كل من لحقه الولد بشبهة في وطء أو نكاح صحيح فاللبن له يحرم من قبله وكل من لم يلحقه الولد ولم يقع له درؤه بشبهة فليس بأب ولا فحل مراعى لبنه لأنه لا يراعى له نسب فكيف رضاع قال وسمعت عبد الملك يقول ذلك يعني ابن الماجشون قال ولو كانت جارية ما حرمت عليه لأن رسول الله قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فقطع النسب وسيأتي ذكر لبن الذي يطأ امرأته وهي ترضع في باب أبي الأسود إن شاء الله تعالى.

حديث ثاني عشر لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال أخبرني عروة بن الزبير "أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وكان من أصحاب النبي وكان قد شهد بدرا كان تبنى سالما الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة كما تبنى رسول الله زيد بن حارثة وأنكح أبو حذيفة سالما وهو يرى أنه ابنه وأنكحه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول وهي يومئذ من أفضل أياى قريش فلما أنزل الله في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل فقال {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [ الأحزاب: 5] رد كل واحد من أولئك إلى أبيه فإن لم يعلم أبوه رد إلى مواليه فجاءت سهلة بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة وهي من بني عامر من لؤي إلى رسول الله فقالت يا رسول الله كنا نرى سالما ولدا وكان يدخل علي وأنا فضل وليس لنا إلا بيت واحد فماذا ترى في شأنه فقال لها رسول الله فيما بلغنا "ارضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها"

وكانت تراه ابنا من الرضاعة فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال وأبى سائر أزواج النبي أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس وقلن لا والله ما نرى الذي أمر به رسول الله سهلة بنت سهيل إلا رخصة من رسول الله في رضاعة سالم وحده لا والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد فعلى هذا كان أزواج النبي في رضاعة الكبير

هذا حديث يدخل في المسند للقاء عروة عائشة وسائر أزواج النبي وللقائه سهلة بنت سهيل وقد رواه عثمان بن عمر عن مالك مختصر اللفظ متصل الإسناد حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري حدثنا يزيد بن سنان حدثنا عثمان بن عمر وحدثنا خلف قال حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج حدثنا يزيد بن سنان حدثنا عثمان بن عمر حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "أن رسول الله أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالما خمس رضعات" فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة وسائر أزواج النبي يأبين ذلك ويقلن إنما كانت الرخصة في سالم وحده

وذكر الدارقطني حديث عثمان بن عمر ثم قال وقد رواه عبد الرزاق وعبد الكريم بن روح وإسحاق بن عيسى وقيل عن ابن وهب عن مالك وذكروا في إسناده عائشة أيضا ثم قال حدثناه أبو طالب أحمد بن نصر بن طالب الحافظ من كتابه حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد بصنعاء عن عبد الرزاق عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وكان بدريا وساق الحديث

قال أبو عمر: وقد رواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن شهاب عن عروة وابن عبد الله بن ربيعة عن عائشة وأم سلمة بلفظ حديث مالك هذا ومعناه سواء إلى آخره ورواه يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي سواء حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة قال حدثنا يونس عن ابن شهاب قال حدثنا عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي وأم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان قد تبنى سالما وساق الحديث بمعنى حديث مالك

وحدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال قال حدثنا أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال قال قال يحيى أخبرني ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير وابن عبد الله بن ربيعة عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي أن أبا حذيفة بن عتبة بن عبد شمس كان ممن شهد بدرا مع النبي تبنى سالما وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى النبي زيد بن حارثة وأنكح أبو حذيفة بن عتبة سالما بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وكانت هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة من المهاجرات الأول وهي يومئذ من أفضل أيامى قريش فلما أنزل الله تعالى في زيد بن حارثة ما أنزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [ الأحزاب: 5] رد كل أحد ينتمي من أولئك إلى أبيه فإن لم يعلم أبوه رد إلى مواليه فجاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله وهي من بني عامر بن لؤي فقالت له فيما بلغنا يا رسول الله كنا نرى سالما ولدا وكان يدخل علي وأنا فضل ليس لنا إلا بيت واحد فماذا ترى يا رسول الله فقال لها فيما بلغنا "أرضعيه عشر رضعات فتحرم بلبنها"

فكانت تراه ابنا من الرضاعة فأخذت بتلك الرضاعة عائشة زوج النبي فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر وبنات أخيها أن يرضعن لها من أحبت أن يدخل عليها من الرجال وأبي سائر أزواج النبي أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد وقلن لعائشة والله ما نرى الذي أمر به رسول الله بنت سهيل من رضاعة سالم إلا رخصة في رضاعة سالم وحده من رسول الله دون الناس فوالله لا يدخل علينا أحد بتلك الرضاعة فعلى هذا الأمر كان أزواج النبي في رضاعة الكبير وهكذا قال ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن عروة وابن عبد الله بن ربيعة وقال شعيب عن الزهري أخبرني عروة وابن عبد الله بن ربيعة عن عائشة وأم سلمة أن أبا حذيفة وقال الليث عن ابن مسافر عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة أن أبا حذيفة

قال محمد بن يحيى وهذه الوجوه كلها عندنا محفوظة غير أني لا أعرف من ابن عبد الله بن ربيعة وابن عائذ الله بن ربيعة وأظنه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة وهو ابن أم كلثوم بنت أبي بكر فقد روى عنه الزهري حديثين

قال أبو عمر: حديث يحيى بن سعيد عن ابن شهاب على ما ذكرناه في هذا الباب بمعنى حديث مالك من غير خلاف إلا أن في هذه الرواية هند بنت الوليد بن عتبة وفي رواية مالك فاطمة ابنة الوليد بن عتبة وهو الصواب وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة وذكرنا أيضا سهلة بنت سهيل وأباها وذكرنا أيضا هناك في أبي حذيفة وسالم ما فيه كفاية وفي رواية يحيى بن سعيد هذا الحديث عشر رضعات وفي رواية مالك خمس رضعات وسنبين ذلك كله إن شاء الله وقد روى هذا الحديث عبد الرزاق عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة وساق مثله سواء إلى قول سهلة فما ترى في شأنه ووصله أيضا جماعة من أصحاب الزهري منهم معمر وعقيل ويونس وابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بمعناه

وكذلك رواه عثمان بن عمر عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بمعناه أيضا مختصرا وقد روى معناه في رضاعة الكبير القاسم وعمرة عن سهلة بنت سهيل مختصرا وأبو حذيفة اسمه قيس بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وأمه فاطمة بنت صفوان بن أمية من بني ثعلبة بن الحرث بن مالك هكذا قال ابن البرقي في اسم أبي حذيفة بن عتبة قيس بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وأما قوله في الحديث يدخل علي وأنا فضل فإن الخليل ذكر قال رجل متفضل وفضل إذا توشح بثوب فخالف بين طرفيه على عاتقه قال ويقال امرأة فضل وثوب فضل فمعنى الحديث عندي أنه كان يدخل عليها وهي متكشفة بعضها مثل الشعر واليد والوجه يدخل عليها وهي كيف أمكنها وقال ابن وهب فضل مكشوفة الرأس والصدر وقيل الفضل الذي عليه ثوب واحد ولا إزار تحته وهذا أصح لأن انكشاف الصدر من الحرة لا يجوز أن يضاف إلى أهل الدين عند ذي محرم فضلا عن غير ذي محرم لأن الحرة عورة مجتمع على ذلك منها إلا وجهها وكفيها وقد أوضحنا ما لذي المحرم أن يراه من نسائه ذوات محارمه في باب صفوان بن سليم والحمد لله وقال امرؤ القيس

تقول وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل

هكذا أنشده أبو حاتم عن الأصمعي نضت بتخفيف الضاد ويقال نضوت الثوب انضوه إذا نزعته ولا يقال انضيته

والذي عليه جاء هذا الحديث رضاعة الكبير والتحريم بها وهو مذهب عائشة من بين أزواج النبي حملت عائشة حديثها هذا في سالم مولى أبي حذيفة على العموم فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها وصنعت عائشة ذلك بسالم بن عبد الله بن عمر وأمرت أم كلثوم فأرضعته فلم تتم رضاعه فلم يدخل عليها ورأى غيرها هذا الحديث خصوصا في سالم وسهلة بنت سهيل واختلف العلماء في ذلك كاختلاف أمهات المؤمنين فذهب الليث بن سعد إلى أن رضاعة الكبير تحرم كما تحرم رضاعة الصغير وهو قول عطاء بن أبي رباح وروى عن علي ولا يصح عنه والصحيح عنه أن لا رضاع بعد فطام وكان أبو موسى يفتي به ثم انصرف عنه إلى قول ابن مسعود وأما قول عطاء فذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال سمعت عطاء يسأل قال له رجل سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أفأنكحها قال لا قلت وذلك رأيك قال نعم قال عطاء كانت عائشة تأمر به بنات أخيها

قال أبو عمر: هكذا إرضاع الكبير كما ذكر يحلب له اللبن ويسقاه وأما أن تلقمه المرأة ثديها كما تصنع بالطفل فلا لأن ذلك لا يحل عند جماعة العلماء

وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة وإن لم يمصه من ثديها وإنما اختلفوا في السعوط به وفي الحقنة والوجور وفي حين يصنع له منه بما لا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا وروى ابن وهب عن الليث أنه قال أنا أكره رضاع الكبير أن أحل منه شيئا وروى عنه كاتبه أبو صالح عبد الله بن صالح أن امرأة جاءته فقالت إني أريد الحج وليس لي محرم فقال اذهبي إلى امرأة رجل ترضعك فيكون زوجها أبا لك فتحجين معه وقال بقول الليث قوم منهم ابن علية

وحجة من قال بذلك حديث عائشة في قصة سالم وسهلة وفتواها بذلك وعملها به حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت "جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي فقالت إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي كراهية قال "فأرضعيه قالت وهو شيخ كبير؟ فقال النبي أولست أعلم أنه شيخ كبير؟ فأرضعيه" ثم أتته بعد فقالت يا رسول الله ما رأيت في وجه أبي حذيفة شيئا أكرهه

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا سريج بن النعمان قال حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن سهلة امرأة أبي حذيفة أنها قالت "يا رسول الله إن سالما مولى أبي حذيفة يدخل علي وهو ذو اللحية فقال لها أرضعيه"

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثني الليث قال حدثني ابن الهاد عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن امرأة أبي حذيفة أنها ذكرت لرسول الله سالما مولى أبي حذيفة ودخوله عليها فزعمت عمرة أن رسول الله "أمرها أن ترضعه" فأرضعته وهو رجل بعد ما شهد بدرا

قال أبو عمر: الصحيح في حديث القاسم أنه عن عائشة لا عن سهلة كما قال ابن عيينة لا كما قال حماد بن سلمة وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله ابن عبيد الله بن أبي مليكة أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبره أن عائشة أخبرته أن سهلة بنت سهيل بن عمرو جاءت إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن سالما لسالم مولى أبي حذيفة معنا في البيت وقد بلغ ما بلغ الرجال وعلم ما يعلم الرجال فقال النبي "ارضعيه تحرمي عليه" قال ابن أبي مليكة فمكثت سنة أو قريبا منها لا أحدث به رهبة له ثم لقيت القاسم فقلت له لقد حدثتني حديثا ما حدثته بعد قال ما هو فأخبرته قال حدث به عني أن عائشة أخبرتنيه

قال أبو عمر: هذا يدلك على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل به ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه بل تلقوه على أنه خصوص والله أعلم وممن قال رضاع الكبير ليس بشيء ممن رويناه لك عنه وصح لدينا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة وجمهور التابعين وجماعة فقهاء الأمصار منهم الثوري ومالك وأصحابه والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري ومن حجتهم قوله "إنما الرضاعة من المجاعة ولا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم"

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أشعث عن أبيه عن مسروق عن عائشة قالت "دخل علي رسول الله وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه فقلت يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال "انظرن إخوانكن من الرضاعة إنما الرضاعة من المجاعة" ورواه عن أشعث هذا وهو ابن أبي الشعثاء شعبة والثوري بمثل رواية أبي الأحوص سواء ولا أعلم في هذا الباب مسنداً غير هذا الحديث وليس له غير هذا الإسناد وهو خلاف رواية أهل المدينة عن عائشة ولكن العمل بالأمصار على هذا وبالله التوفيق

وروى وكيع عن سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي أنه قال "لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم أو قال ما أنشز العظم" وبهذا احتج من قال أن الرضاعة الواحدة والمصة الواحدة لا تحرم لأنها لا تشد عظما ولا تنبت لحما في الحولين ولا في غيرهما

وحديث وكيع هذا حدثناه عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال حدثنا وكيع عن سليمان بن المغيرة فذكره ومن أصحاب سليمان بن المغيرة من يوقفه على ابن مسعود ووكيع حافظ حجة

واختلف الفقهاء في مدة الفطام فقال ابن وهب عن مالك قليل الرضاع وكثيره يحرم في الحولين وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم قليله ولا كثيره وهذا لفظه في موطأه وهو قول الشافعي والحسن بن حي والثوري وأبي يوسف ومحمد لا يعتبر عندهم الفطام وإنما يعتبر الوقت.

وروى ابن القاسم عن مالك الرضاع حولان وشهر أو شهران لا ينظر إلى رضاع أمه إياه بعد الحولين إنما ينظر إلى الحولين وشهر أو شهرين قال ابن القاسم فإن لم تفصله أمه وأرضعته ثلاث سنين فأرضعته امرأة بعد ثلاث سنين والأم ترضعه لم تفطمه قال مالك لا يكون هذا رضاعا ولا يلتفت فيه إلى رضاع أمه إنما ينظر في هذا إلى الحولين والشهر والشهرين قال ابن القاسم ولو فصلته أمه قبل الحولين مثل أن ترضعه لسنة أو نحوها فتفطمه قبل الحولين فينقطع رضاعه ويستغني عن الرضاع فترضعه امرأة أجنبية قبل تمام الحولين فلا يعد ذلك رضاعا إذا فطم قبل الحولين واستغنى عن الرضاع والحجة لقول ابن القاسم هذا قوله عز وجل في الحولين لمن أراد أن يتم الرضاعة مع ما روي عن النبي "لا رضاع بعد فطام"

وقال أبو حنيفة حولين وستة أشهر بعدهما سواء فطم أو لم يفطم

وقال زفر ما دام يجتزي باللبن ولم يطعم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين

وقال الأوزاعي إذا فطم لسنة أو ستة أشهر فما رضع بعده لا يكون رضاعا ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم كان رضاعا وقد قيل عنه لا يكون بعد الحولين رضاع

وقال الشافعي والثوري وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود لا رضاع إلا في الحولين وما كان بعد الحولين ولو بيوم أو يومين في حكم رضاع الكبير لا يحرم شيئا لأن الله سبحانه جعل تمام الرضاعة حولين فلا سبيل إلى أن يزاد عليهما إلا بنص أو توقيف ممن يجب له التسليم موجود

وأما قوله لسهلة في سالم مولى أبي حذيفة "أرضعيه خمس رضعات" لتحرم عليه بلبنها هذا لفظ حديث مالك وتابعه يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة في قوله في هذا الحديث خمس رضعات فإنه استدل بذلك الشافعي في أنه لا يحرم من الرضاع أقل من خمس رضعات متفرقات وأما معمر فقال في حديثه هذا عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "ارضعي سالما تحرمي عليه" ولم يذكر خمس رضعات ذلك وكذلك رواية عمرة عن عائشة "فأرضعيه" لم يقل خمسا ولا عشرا وكذلك رواية القاسم عن عائشة "ارضعيه" لم يقل خمسا ولا عشرا وليس من أجمل كمن أوضح وفصل مع حفظ مالك ويونس

وقد روى معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها أفتت بذلك وقال يحيى بن سعيد فيه عن ابن شهاب بإسناده عشر رضعات والصواب فيه ما قاله مالك ويونس بن يزيد خمس رضعات وقد روى عنها لا يحرم من الرضاع أقل من سبع رضعات والصحيح عنها خمس رضعات إلا أن أصحابنا يصححون عن عائشة في مذهبها العشر رضعات لأنه ترك لحديثها المرفوع في الخمس رضعات وقد روى مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله أخبره أن عائشة أرسلت به وهو يرضع إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر فقالت ارضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي قال سالم فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت فلم ترضعني غير ثلاث مرات فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات فلهذا الحديث قال أصحابنا أنها تركت حديثها حيث قالت نزل في القرآن عشر رضعات ثم نسخن بخمس وفعلها هذا يدل على وهي ذلك القول إذ يستحيل أن تدع الناسخ وتأخذ بالمنسوخ

وأما الشافعي فذهب إلى أن لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات ولا يحرم ما دونها والرضعة عنده ما وصل إلى الجوف قل أو كثر فهي رضعة إذا قطع فإن لم يقطع ولم يخرج الثدي من فمه فهي واحدة قال وإن التقم الثدي قليلا قليلا ثم أرسله ثم عاد إليه كان رضعة واحدة كما لو حلف الرجل ألا يأكل إلا مرة فأكل وتنفس بعد الإزدراد ويعود فيأكل ذلك أكل مرة وإن طال ذلك وانقطع قطعا بينا بعد قليل أو كثير ثم أكل كانت أكلتين قال ولو أنفد ما في أحد الثديين ثم تحول إلى الآخر فأنفد ما فيه كانت رضعة واحدة

وحجته في الخمس رضعات حديث مالك ويونس عن ابن شهاب عن عروة المذكور في هذا الباب وحديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله وهي مما يقرأ في القرآن وروى ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة مثله وروى معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت لا يحرم من الرضاع دون خمس رضعات معلومات قال الشافعي وهو مذهبها وبه كانت تفتي وتعمل فيمن أرادت أن يدخل عليها قال وقد روى عنها عشر وسبع ولا يصح ورد حديث نافع بأن أصحاب عائشة وهم عروة والقاسم وعمرة يروون عنها خمس رضعات لا يقولون عشر رضعات واحتج الشافعي أيضا بحديث ابن الزبير عن النبي أنه قال "لا تحرم المصة والمصتان ولا الرضعة ولا الرضعتان" وجعله كلاما خرج على جواب سائل عن الرضعة والرضعتين فأجابه لا يحرمان كما لو سأل هل يقطع في درهم أو درهمين كان الجواب لا قطع في درهم ولا درهمين ولم يكن في ذلك أن أقل زيادة على الدرهمين يقطع فيها لما جاء من تحديد القطع في ربع دينار فكذلك تحديد الخمس رضعات مع ذكر الرضعة والرضعتين واحتج أيضا بأن قال حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن الحجاج عن أبي هريرة قال لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء

قال أبو عمر: رفع هذا الحديث حماد بن سلمة عن هشام وتوقيفه أصح واحتج الشافعي بهذا كله وجعل حديث عائشة في الخمس رضعات مفسرا له ويحمله ظاهر القرآن في قوله {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [ النساء: 23] واعتبارا بقطع السراق في ربع دينار فصاعدا قال فبان بأن المراد بتحريم الرضاع بعض المرضعين دون بعض لا من لزمه اسم رضاع كما كان المراد بعض السارقين دون بعض وبعض الزناة دون بعض واحتج بعض من ذهب مذهبه بحديث الزهري عن سالم بن عبد الله قال كانت عائشة تقول نزل القرآن بعشر رضعات ثم صار إلى خمس فليس يحرم من الرضاع دون خمس رضعات فهذا ما روى مالك عن نافع في العشر رضعات في قصة سالم لأن الزهري أعلم من نافع وأحفظ لما يسمع ووعي من ذلك والله أعلم وقال أبو ثور وأبو عبيد وداود لا يحرم إلا ثلاث رضعات واحتجوا بحديث النبي أنه قال "لا تحرم المصة ولا المصتان" وحديثه عليه الصلاة والسلام "لا تحرم الأملاجة ولا الأملاجتان" قيل الأملاجة الرضعة وقيل المصة وقد روى لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان قالوا فأقل زيادة على الرضعتين تحرم وهي الثلاث وقالت حفصة لا يحرم دون عشر رضعات

وروى مالك عن نافع أن صفية ابنة أبي عبيد أخبرته أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع ففعلت فكان يدخل عليها وقال مالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والطبري وسائر العلماء فيما علمت قليل الرضاع وكثيره يحرم في وقت الرضاع

وقال الليث أجمع المسلمون أن قليل الرضاع وكثيره يحرم فيما يفطر الصائم

قال أبو عمر: أما حديث عائشة في الخمس رضعات فرده أصحابنا وغيرهم ممن ذهب في هذه المسألة مذهبنا ودفعوه بأنه لم يثبت قرآنا وهي قد أضافته إلى القرآن وقد اختلف عنها في العمل به فليس بسنة ولا قرآن وردوا حديث المصة والمصتان بأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي ومرة عن عائشة عن النبي ومرة عن أبيه عن النبي ومثل هذا الاضطراب يسقطه عندهم وحديث أم الفضل وأم سلمة في ذلك أضعف وردوا حديث عروة عن عائشة في الخمس رضعات أيضا بأن عروة كان يفتي بخلافه ولو صح عنده ما خالفه

وروى مالك عن إبراهيم بن عقبة أنه سأل سعيد بن المسيب عن الرضاعة فقال ما كان في الحولين وإن كان قطرة واحدة فهي تحرم قال ثم سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك

وروى معمر عن إبراهيم بن عقبة قال أتيت عروة بن الزبير فسألته عن صبي شرب قليلا من لبن امرأة فقال لي عروة كانت عائشة لا تحرم بدون سبع رضعات أو خمس قال فأتيت ابن المسيب فقال أقول بقول عائشة ولكن لو دخلت بطنه قطرة بعد أن يعلم أنها دخلت بطنه حرم

وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر يسأل عن المصة والمصتين فقال لا يصلح فقيل له أن ابن الزبير لا يرى بهما بأسا فقال ابن عمر قضاء الله أحق من قضاء ابن الزبير يقول الله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة

وروى حماد أيضا عن أبي الزبير قال أمرني عطاء بن أبي رباح أن أسأل ابن عمر عن الرضعة والرضعتين فسألته فقال لا يصلح فقيل له أن ابن الزبير فذكره

وفي هذا الحديث ما كانوا عليه من التبني وأن من تبنى صبيا كان ينتسب إليه حتى نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [ الأحزاب: 5] فنسخ ذلك فلا يجوز اليوم أن يقال ذلك في غير الابن الصحيح ولذلك لا يجوز عندي أن يقول المولى أنا ابن فلان أو يكتب بها شهادته ولكنه يقول مولى فلان والله أعلم

حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا عبد العزيز بن المختار قال حدثنا موسى بن عقبة قال حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول ما كنا ندعوه الا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [ الأحزاب: 5]

حديث ثالث عشر لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول "سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه فجئت رسول الله فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله "اقرأ" فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله "هكذا أنزلت" ثم قال لي "اقرأ" فقرأت فقال " هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما يتيسر منه"

قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك في إسناد هذا الحديث ومتنه وعبد الرحمن بن عبد القاري قيل أنه مسح النبي على رأسه وهو صغير وتوفي سنة ثمانين وهو ابن ثمان وسبعين سنة يكنى أبا محمد والقارة فخذ من كنانة وقد ذكرناه في القبائل من كتاب الصحابة والحمد لله ورواه معمر عن ابن شهاب عن عروة عن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري جميعا سمعا عمر بن الخطاب يقول مررت بهشام بن حكيم بن حزام وهو يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت قراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره فنظرت حتى سلم فلما سلم لببته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي أسمعك تقرؤها قال أقرأنيها رسول الله قال قلت له كذبت فوالله أن رسول الله لهو أقرأني هذه السورة قال فانطلقت أقوده إلى النبي فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان فقال النبي "أرسله يا عمر اقرأ يا هشام" فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها فقال النبي عليه السلام "هكذا أنزلت" ثم قال "اقرأ يا عمر" فقرأت القراءة التي أقرأنيها النبي ثم قال "هكذا أنزلت" "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما يتيسر منه"

وهكذا رواه يونس وعقيل وشعيب بن أبي حمزة وابن أخي ابن شهاب عن ابن شهاب عن عروة عن المسور وعبد الرحمن بن عبد القاري جميعا سمعا عمر بن الخطاب الحديث ففي رواية معمر تفسير لرواية مالك في قوله يقرأ سورة الفرقان لأن ظاهره السورة كلها أو جلها فبان في رواية معمر أن ذلك في حروف منها بقوله يقرأ على حروف كثيرة وقوله يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يقرئنيها وهذا مجتمع عليه أن القرآن لا يجوز في حروفه وكلماته وآياته كلها أن يقرأ على سبعة أحرف ولا شيء منها ولا يمكن ذلك فيها بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل أن تقرأ على سبعة أحرف إلا قليلا مثل عبد الطاغوت وتشابه علينا وعذاب بيس ونحو ذلك وذلك يسير جدا وهذا بين واضح يغني عن الاكثار فيه

وقد اختلف الناس في معنى هذا الحديث اختلافا كبيرا فقال الخليل بن أحمد معنى قوله سبعة أحرف سبع قراءات والحرف هاهنا القراءة وقال غيره هي سبعة أنحاء كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن خلاف للأنحاء غيره وذهبوا إلى أن كل حرف منها هو صنف من الأصناف نحو قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [ الحج: 11] الآية وكان معنى الحرف الذي يعبد الله عليه هو صنف من الأصناف ونوع من الأنواع التي يعبد الله عليها فمنها ما هو محمود عنده تبارك اسمه ومنها ما هو بخلاف ذلك فذهب هؤلاء في قول رسول الله "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف فمنها زاجر ومنها آمر ومنها حلال ومنها حرام ومنها محكم ومنها متشابه ومنها أمثال

واحتجوا بحديث يرويه سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي حدثناه محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أبو بكر بن أبي داود قال حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو المصري قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني حيوة بن شريح عن عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي قال "كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أوجه زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه واعتبروا بأمثاله وآمنوا بتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا"

وهذا حديث عند أهل العلم لا يثبت لأنه يرويه حيوة عن عقيل عن سلمة هكذا ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سلمة بن أبي سلمة عن أبيه عن النبي مرسلا وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود وابنه سلمة ليس ممن يحتج به

وهذا الحديث مجتمع على ضعفه من جهة إسناده وقد رده قوم من أهل النظر منهم أحمد بن أبي عمران قال من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه أو يكون حلالا لا ما سواه لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أو حرام كله أو أمثال كله ذكره الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران سمعه منه وقال هو كما قال ابن أبي عمران قال واحتج ابن أبي عمران بحديث أبي بن كعب أن جبريل عليه السلام أتى النبي فقال "اقرأ القرآن على حرف فاستزاده حتى بلغ سبعة أحرف" الحديث وقال قوم هي سبع لغات في القرآن مفترقات على لغات العرب كلها يمنها ونزارها لأن رسول الله لم يجهل شيئا منها وكان قد أوتي جوامع الكلم وإلى هذا ذهب أبو عبيد في تأويل هذا الحديث قال ليس معناه أن يقرأ القرآن على سبعة أوجه هذا شيء غير موجود ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات مفترقة في جميع القرآن من لغات العرب فيكون الحرف منها بلغة قبيلة والثاني بلغة قبيلة أخرى سوى الأولى والثالث بلغة أخرى سواهما كذلك إلى السبعة قال وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض وذكر حديث ابن شهاب عن أنس أن عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف ما اختلفتم أنتم وزيد فيه فاكتبوا بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم

وذكر حديث ابن عباس أنه قال نزل القرآن بلغة الكعبيين كعب قريش وكعب خزاعة قيل وكيف ذلك قال لأن الدار واحدة قال أبو عبيد يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم وذكر أخبارا قد ذكرنا أكثرها في هذا الكتاب والحمد لله

وقال آخرون هذه اللغات كلها السبعة إنما تكون في مضر واحتجوا بقول عثمان نزل القرآن بلسان مضر وقالوا جائز أن يكون منها لقريش ومنها لكنانة ومنها لأسد ومنها لهذيل ومنها لتميم ومنها لضبة ومنها لقيس فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب

وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر وقالوا في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن عليها مثل كشكشة قيس وعنعنة تميم فأما كشكشة قيس فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينا

فيقولون في {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} "جعل ربش تحتش سريا" وأما عنعنة تميم فيقولون في أن عن فيقولون عسى الله عن يأتي بالفتح وبعضهم يبدل السين تا فيقول في الناس النات وفي أكياس أكيات وهذه لغات يرغب بالقرآن عنها ولا يحفظ عن السلف فيه شيء منها

وقال آخرون أما بدل الهمزة عينا وبدل حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء وقد قرأ به الجلة وقد احتجوا بقراءة ابن مسعود ليسجنه عتى حين وبقول ذي الرمة

فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا عنها غير عاطل

يريد إلا أنها غير

أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي الواسطي قال حدثنا هشيم عن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب الأنصاري عن أبيه عن جده أنه كان عند عمر بن الخطاب فقرأ رجل {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ عتى حِينٍ} فقال عمر من أقرأكها قال أقرأنيها ابن مسعود فقال له عمر حتى حين وكتب إلى ابن مسعود أما بعد فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام

ويحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لا أن ما قرأ به ابن مسعود لا يجوز وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل عندي والله أعلم

وقد روى عن عثمان بن عفان مثل قول عمر هذا أن القرآن نزل بلغة قريش بخلاف الرواية الأولى وهذا أثبت عنه لأنه من رواية ثقات أهل المدينة

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال أخبرنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا هشيم بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال ابن شهاب وأخبرني أنس بن مالك أن حذيفة قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن فقال لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلي بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن اكتبوا الصحف في المصاحف وإن اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش

فإن القرآن أنزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق مصحفا

قال أبو عمر: قول من قال إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب والله أعلم لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراآت من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال أنزل القرآن على سبعة أحرف صار في عجز هوازن منها خمسة عجز هوازن ثقيف وبنو سعد بن بكر وبنو جشم وبنو نصر بن معاوية

قال أبو حاتم خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي ومنزل الوحي وإنما ربيعة ومضر أخوان قالوا وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن يقرأ بها لغات قريش ثم أدناهم من بطون مضر

قال أبو عمر: هو حديث لا يثبت من جهة النقل وقد روى عن سعيد بن المسيب أنه قال نزل القرآن على لغة هذا الحي من ولد هوازن وثقيف وإسناد حديث سعيد هذا أيضاً غير صحيح

وقال الكلبي في قوله "أنزل القرآن على سبع أحرف" قال خمسة منها لهوازن وحرفان لسائر الناس وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي "أنزل القرآن على سبعة أحرف" سبع لغات وقالوا هذا لا معنى له لأنه لو كان ذلك لم ينكر القوم في أول الأمر بعضهم على بعض لأنه من كانت لغته شيئا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم ينكر عليه

وفي حديث مالك عن ابن شهاب المذكور في هذا الباب رد قول من قال سبع لغات لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي ومحال أن ينكر عليه عمر لغته كما محال أن يقرئ رسول الله واحدا منهما بغير ما يعرفه من لغته

والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا وقالوا إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعلى هذا الكثير من أهل العلم

فأما الآثار المرفوعة فمنها ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا أبو العباس تميم قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب قال أخبرني سليمان بن بلال عن يزيد بن خصيفة عن بشر بن سعيد أن أبا جهيم الأنصاري أخبره أن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال أحدهما تلقيتها من رسول الله وقال الآخر تلقيتها من رسول الله فسئل رسول الله عنها فقال "أن القرآن نزل على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر" وروى جرير بن عبد الحميد عن مغيرة عن واصل بن حيان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله "أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد ومطلع"

وروى حماد بن سلمة قال أخبرني حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب عن النبي قال "أنزل القرآن على سبعة أحرف" وروى همام بن يحيى عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب قال قرأ أبي آية

وقرأ ابن مسعود آية خلافها وقرأ رجل آخر خلافهما فأتينا النبي فقلت ألم تقرأ آية كذا وكذا كذا وكذا وقال ابن مسعود ألم تقرأ آية كذا وكذا كذا وكذا فقال النبي "كلكم محسن مجمل" قال قلت ما كلنا أحسن ولا أجمل قال فضرب صدري وقال "يا أبي إني أقرئت القرآن فقلت على حرف أو حرفين فقال لي الملك الذي عندي على حرفين فقلت على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي على ثلاثة فقلت على ثلاثة هكذا حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا حكيما أو قلت عليما حكيما أو عزيزا حكيما أي ذلك قلت فإنه كما قلت وزاد بعضهم في هذا الحديث ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب"

قال أبو عمر: أما قوله في هذا الحديث قلت سميعا عليما وغفورا رحيما وعليما حكيما ونحو ذلك فإنما أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها أنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها لا تكون في شيء منها معنى وضده ولا وجه يخالف وجها خلافا ينفيه أو يضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده وما أشبه ذلك وهذا كله يعضد قول من قال إن معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه المختلف لفظه نحو هلم وتعال وعجل وأسرع وانظر وأخر ونحو ذلك وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يتبين لك به أن ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء الله فإنه أصح من قول من قال سبع لغات مفترقات لما قدمنا ذكره ولما هو موجود في القرآن بإجماع من كثرة اللغات المفترقات فيه حتى لو تقصيت لكثر عددها وللعلماء في لغات القرآن مؤلفات تشهد لما قلنا وبالله توفيقنا

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبدالمؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي قال "أنزل القرآن على سبعة أحرف غفورا رحيما عزيزا حكيما عليما حكيما وربما قال سميعا بصيرا"

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد ابن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا أحمد بن سليمان قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن شقير العبدي عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب قال "سمعت رجلا يقرأ فقلت من أقرأك فقال رسول الله فقلت انطلق إليه فانطلقنا إليه فقلت استقرئه يا رسول الله قال اقرأ فقرأ فقال رسول الله أحسنت فقلت أو لم تقرئني كذا وكذا قال بلى وأنت قد أحسنت فقلت بيدي قد أحسنت قد أحسنت قال فضرب رسول الله بيده في صدري وقال "اللهم أذهب عن أبي الشك" قال ففضضت عرقا وامتلأ جوفي فرقا قال فقال النبي "يا أبي إن ملكين أتياني فقال أحدهما اقرأ على حرف قال الآخر زده قلت زدني قال اقرأ على حرفين قال الآخر زده قلت زدني قال اقرأ على ثلاثة أحرف قال الآخر زده قلت زدني قال اقرأ على أربعة أحرف قال الآخر زده قلت زدني قال اقرأ علي خمسة أحرف قال الآخر زده قلت زدني قال اقرأ على ستة أحرف قال الآخر زده قلت زدني قال اقرأ على سبعة أحرف فالقرآن أنزل على سبعة أحرف"

وقرأت على أبي القاسم خلف بن القاسم أن أبا الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بحير القاضي بمصر أملى عليهم قال حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي القاضي قال أخبرنا أبو جعفر النفيلي قال قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة بن خالد عن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال أقرأني رسول الله سورة فبينما أنا في المسجد إذ سمعت رجلا يقرأها بخلاف قراءتي فقلت من أقرأك هذه السورة فقال رسول الله فقلت لا تفارقني حتى أتى رسول الله فأتيناه فقلت يا رسول الله إن هذا قد خالف قراءتي في هذه السورة التي علمتني قال "اقرأ يا أبي فقرأت فقال أحسنت" فقال للآخر اقرأ فقرأ بخلاف قراءتي فقال له "أحسنت ثم قال يا أبي إنه أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف" قال فما اختلج في صدري شيء من القرآن بعد

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن محمد البرتي قال حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا محمد بن جحادة عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب قال أتى جبريل النبي عليهما السلام وهو بأضاة بني غفار فقال إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرىء أمتك على حرف واحد قال فقال اسأل الله مغفرته ومعافاته أو قال معافاته ومغفرته سل لهم التخفيف فإنهم لا يطيقون ذلك فانطلق حتى رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين قال أسأل الله مغفرته ومعافاته أو قال معافاته ومغفرته إنهم لا يطيقون ذلك فاسأل لهم التخفيف فانطلق ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرىء أمتك القرآن على ثلاثة أحرف قال اسأل الله مغفرته ومعافاته أو معافاته ومغفرته إنهم لا يطيقون ذلك فسل لهم التخفيف فانطلق ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ منها حرفا فهو كما قرأ وروى حديث أبي بن كعب هذا من وجوه

والسورة التي أنكر فيها أبي القراءة سورة النحل ذكر ذلك الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن عبيد الله بن عمر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب وساق الحديث وروى ذلك من وجوه

وأما حديث عاصم عن زر عن أبي فاختلف على عاصم فيه فلم أر لذكره وجها وحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا ابن أبي أويس قال حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله قال هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر آية رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة

وهذه الآثار كلها تدل على أنه لم يعن به سبع لغات والله أعلم.

على ما تقدم ذكرنا له وإنما هي أوجه تتفق معانيها وتتسع ضروب الألفاظ فيها إلا أنه ليس منها ما يحيل معنى إلى ضده كالرحمة بالعذاب وشبهه.

"وذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله قال "أتيت المسجد فجلست إلى ناس وجلسوا إلي فاستقرأت رجلا منهم سورة ما هي إلا ثلاثون آية وهي حم الأحقاف فإذا هو يقرأ فيها حروفا لا أقرأها فقلت من أقرأك قال رسول الله فاستقرأت آخر فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرأها أنا ولا صاحبه فقلت من أقرأك قال أقرأني رسول الله فقلت وأنا أقرأني رسول الله وما أنا بمفارقكما حتى أذهب بكما إلى رسول الله فانطلقت بهما حتى أتيت رسول الله وعنده علي فقلت يا رسول الله إنا اختلفنا في قراءتنا فتمعر وجهه حين ذكرت الاختلاف وقال "إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف" وقال علي إن رسول الله يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم فلا أدري أسر إليه رسول الله إليه ما لم نسمع أو علم الذي كان في نفسه فتكلم به"

وكذلك رواه الأعمش وأبو بكر بن عياش وإسرائيل وحماد بن سلمة وأبان العطاء عن عاصم بإسناده

ومعناه ولم يذكر البصريان حماد وأبان وعليا وقالا رجل وقال الأعمش في حديثه ثم أسر إلى علي فقال لنا علي أن رسول الله يأمركم أن تقرأوا كما علمتم

وقال أبو جعفر الطحاوي في حديث عمر وهشام بن حكيم المذكور في هذا الباب قد علمنا أن كل واحد منهما إنما أنكر على صاحبه ألفاظا قرأ بها الآخر ليس في ذلك حلال ولا حرام ولا زجر ولا أمر وعلمنا بقول رسول الله "هكذا أنزلت" أن السبعة الأحرف التي نزل القرآن بها لا تختلف في أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام وإنما هي كمثل قول الرجل للرجل أقبل وتعال وهلم وأدن ونحوها

وذكر أكثر أحاديث هذا الباب حجة لهذا المذهب وبين ما ذكر في ذلك أن قال حدثنا بكار بن قتيبة قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا حماد قال أخبرنا علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة قال جاء جبريل إلى النبي عليهما السلام فقال اقرأ علي حرف قال فقال ميكائيل استزده فقال اقرأ علي حرفين فقال ميكائيل استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف فقال اقرأه فكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل

حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال قال الزهري إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس تختلف في حلال ولا حرام وذكر أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل ويونس عن ابن شهاب في الأحرف السبعة هي في الأمر الواحد الذي لا اختلاف فيه وروى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال إني سمعت القرأة فرأيتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف فأنما هو كقول أحدكم هلم وتعال وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ للذين آمنوا انظرونا للذين آمنوا أمهلونا للذين آمنوا اخرونا للذين آمنوا ارقبونا

وبهذا الإسناد عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} مروا فيه سعوا فيه كل هذه الأحرف كان يقرؤها أبي بن كعب فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث والله أعلم إلا أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد وعلى هذا أهل العلم فاعلم

وذكر ابن وهب في كتاب الترغيب من جامعه قال قيل لمالك أترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله فقال ذلك جائز قال رسول الله أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرأوا منه ما تيسر ومثل ما تعلمون ويعلمون وقال مالك لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا قال وقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم كانت لهم مصاحف

قال ابن وهب وسألت مالكا عن مصحف عثمان بن عفان قال لي ذهب قال وأخبرني مالك بن أنس قال اقرأ عبد الله بن مسعود رجلا "أن شجرة الزقوم طعام الأثيم" فجعل الرجل يقول طعام اليتيم فقال له ابن مسعود طعام الفاجر فقلت لمالك أترى أن يقرأ كذلك قال نعم أرى ذلك واسعا

قال أبو عمر: معناه عندي أن يقرأ به في غير الصلاة وإنما ذكرنا ذلك عن مالك تفسيرا لمعنى الحديث وإنما لم تجز القراءة به في الصلاة لأن ما عدا مصحف عثمان فلا يقطع عليه وإنما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد لكن لا يقدم أحد على القطع في رده وقد روى عيسى عن ابن القاسم في المصاحف بقراءة ابن مسعود قال أرى أن يمنع الإمام من بيعه ويضرب من قرأ به ويمنع ذلك وقد قال مالك من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصل وراءه وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلا قوم شذوا لا يعرج عليهم منهم الأعمش سليمان بن مهران وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها إلا حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان المصحف

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد وخلف بن القاسم بن سهل قال أنبأنا محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرىء قال حدثنا أبو علي الأصبهاني المقرئ قال حدثنا أبو علي الحسين بن صافي الصفار أن عبد الله بن سليمان حدثهم قال حدثنا أبو الطاهر قال سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل تدخل في السبعة الأحرف فقال لا وإنما السبعة الأحرف كقولهم هلم أقبل تعال أي ذلك قلت أجزاك قال أبو الطاهر وقاله ابن وهب قال أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ ومعنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة وبه قال محمد بن جرير الطبري وقال أبو جعفر الطحاوي كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها لأنهم كانوا أميين لا يكتبون إلا القليل منهم فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله فقرؤا بذلك على تحفظ ألفاظه فلم يسعهم حينئذ أن يقرأوا بخلافها وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد

واحتج بحديث أبي بن كعب المذكور في هذا الباب من رواية ابن أبي ليلى عنه قوله فيه "أن أمتي لا تطيق ذلك في الحرف والحرفين والثلاثة حتى بلغ السبعة"

واحتج بحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم واحتج بجمع أبي بكر الصديق للقرآن في جماعة الصحابة ثم كتاب عثمان كذلك وكلاهما عول فيه على زيد بن ثابت فأما أبو بكر فأمر فيما جمع منه وأما عثمان فأمره بإملائه من تلك الصحف التي كتبها أبو بكر وكانت عند حفصة

وقال بعض المتأخرين من أهل العلم بالقرآن تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} وأطهر لكم ويضيق صدري ويضيق ونحو هذا ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا تتغير صورته مثل قوله {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وباعد بين أسفارنا ومنها ما يتغير معناه بالحروف واختلافها بالأعراب ولا تغير صورته مثل قوله {إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} وننشرها ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه كقوله {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} والصوف المنفوش ومنها ما تتغير صورته ومعناه مثل قوله وطلع منضود {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} ومنها بالتقديم والتأخير مثل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت سكرة الحق بالموت ومنها الزيادة والنقصان مثل {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وصلاة العصر ومنها قراءة ابن مسعود له {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى

قال أبو عمر: هذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث وفي كل وجه منها حروف كثيرة لا تحصى عددا فمثل قوله {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} والصوف المنفوش قراءة عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله وهو كثير ومثل قوله نعجة أنثى قراءة ابن مسعود وغيره فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وقراءة أبي بن كعب {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها وهذا كثير أيضا وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها إلا حرف واحد وهو صورة مصحف عثمان وما دخل فيه ما يوافق صورته من الحركات واختلاف النقط من سائر الحروف وأما قوله كالصوف المنفوش فقراءة سعيد بن جبير وغيره وهو مشهور عن سعيد بن جبير روى عنه من طرق شتى منها ما رواه بندار عن يحيى القطان عن خالد بن أبي عثمان قال سمعت سعيد بن جبير يقرأ كالصوف المنفوش وذكر ابن مجاهد قال حدثني أبو الأشعث قال حدثنا كثير بن عبيد حدثنا بقية قال سمعت محمد بن زياد يقول أدركت السلف وهم يقرؤون في هذا الحرف في القارعة وتكون الجبال كالصوف المنفوش

وأخبرنا عيسى بن سعيد بن سعدان المقرئ سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة قال أنبأنا أبو القاسم إبراهيم بن أحمد بن جعفر الخرقي المقرئ قال حدثنا أبو الحسين صالح بن أحمد القيراطي قال حدثنا محمد بن سنان القزاز قال حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا خالد بن أبي عثمان قال سمعت سعيد بن جبير يقرؤها كالصوف المنفوش وأما قوله وجاءت سكرة الحق بالموت فقرأ به أبو بكر الصديق وسعيد بن جبير وطلحة بن مصرف وعلي بن حسين وجعفر بن محمد وأما وطلع منضود فقرأ به علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد وروى ذلك عن علي بن أبي طالب من وجوه صحاح متواترة منها ما رواه يحيى بن آدم قال أنبأنا يحيى بن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي عن قيس بن عبد الله وهو عم الشعبي عن علي أن رجلا قرأ عليه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} فقال علي إنما هو وطلع منضود قال فقال الرجل أفلا تغيرها فقال علي لا ينبغي للقرآن أن يهاج وهذا عندي معناه لا ينبغي أن يبدل وهو جائز مما نزل القرآن عليه وان كان علي كان يستحب غيره مما نزل القرآن عليه أيضا

وأما قوله نعجة أنثى فقرأ به عبد الله بن مسعود أخبرنا عبد الله ابن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد الفقيه ببغداد قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال قال سفيان كان صغيرهم وكبيرهم يعني أهل الكوفة يقرأ قراءة عبد الله بن مسعود قال وكان الحجاج يعاقب عليها قال وقال الحجاج بن مسعود يقرأ أن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أنثى كان ابن مسعود يرى أن النعجة يكون ذكرا وكسر الحسن والأعرج النون من نعجة وفتحها سائر الناس وفتح الحسن وحده التاء من تسع وتسعون وكسرها سائر الناس

وأما فامضوا إلى ذكر الله فقرأ به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو العالية وأبو عبد الرحمن السلمي ومسروق وطاوس وسالم بن عبد الله وطلحة بن مصرف

ومثل قراءة ابن مسعود نعجة أنثى في الزيادة والنقصان قراءة ابن عباس وشاورهم في بعض الأمر وقراءة من قرأ عسى الله أن يكف من بأس الذين كفروا وقراءة ابن مسعود وأبي الدرداء {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} والذكر والأنثى

وهذا حديث ثابت رواه شعبة عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود وعن أبي الدرداء عن النبي أخبرنا عيسى بن سعيد حدثنا إبراهيم بن أحمد حدثنا أبو الحسن حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان قال سمعت ابن شبرمة يقرؤها عسى الله أن يكف من بأس الذين كفروا قال سفيان وقرأ عبد الله بن مسعود وأقيموا الحج والعمرة لله وقد أجاز مالك القراءة بهذا ومثله فيما ذكر ابن وهب عنه وقد تقدم ذكره وذلك محمول عند أهل العلم اليوم على القراءة في غير الصلاة على وجه التعليم والوقوف على ما روى في ذلك من علم الخاصة والله أعلم وأما حرف زيد بن ثابت فهو الذي عليه الناس في مصاحفهم اليوم وقراءتهم من بين سائر الحروف لأن عثمان جمع المصاحف عليه بمحضر جمهور الصحابة وذلك بين في حديث الدراوردي عن عمارة بن غزبة عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه وهو أتم ما روى من الأحاديث في جمع أبي بكر للقرآن ثم أمر عثمان بكتابة المصاحف بإملاء زيد وقد تقدم عن الطحاوي أن أبا بكر وعثمان عولا على زيد بن ثابت في ذلك وأن الأمر عاد فيما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد بما لا وجه لتكريره وهو الذي عليه جماعة الفقهاء فيما يقطع عليه وتجوز الصلاة به وبالله التوفيق

وذكر ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم وخارجة "أن أبا بكر الصديق كان قد جمع القرآن في قراطيس وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى عليه حتى استعان عليه بعمر بن الخطاب ففعل وكانت تلك الكتب عند أبي بكر حتى توفي ثم كانت عند عمر حتى توفي ثم كانت عند حفصة زوج النبي فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردنها إليها فبعثت بها إليه فنسخها عثمان هذه المصاحف ثم ردها إليها فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها"

حدثنا محمد حدثنا علي بن عمر حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني مالك عن ابن شهاب عن سالم وخارجة فذكره سواء

وحدثنا خلف بن القاسم رحمه الله قال حدثنا أبو جعفر عبد الله بن عمر بن إسحاق الجوهري بمصر قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين قال حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي قال حدثنا إسماعيل ابن علية قال حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال لما بويع أبو بكر أبطأ علي عن بيعته فجلس في بيته

فبعث إليه أبو بكر ما بطأك عني أكرهت امرتي فقال علي ما كرهت أمارتك ولكني آليت أن لا أرتدي ردائي إلا إلى صلاة حتى أجمع المصحف قال ابن سيرين وبلغني أنه كتبه على تنزيله ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير

قال أبو عمر: أجمع أهل العلم بالحديث أن ابن سيرين أصح التابعين مراسل وأنه كان لا يروي ولا يأخذ إلا عن ثقة وأن مراسله صحاح كلها ليس كالحسن وعطاء في ذلك والله أعلم.

ولجمع المصاحف موضع من القول غير هذا إن شاء الله ونحن نذكر جميع ما انتهى إلينا من القراآت عن السلف والخلف في سورة الفرقان لما في حديثنا المذكور في هذا الباب من قول عمر بن الخطاب سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأنيها رسول الله وفي رواية معمر عن ابن شهاب يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة غير ما أقرأني رسول الله فرأيت ذكر حروف سورة الفرقان ليقف الناظر في كتابي هذا على ما في سورة الفرقان من الحروف المروية عن سلف هذه الأمة وليكون أتم وأوعب في معنى الحديث وأكمل فائدة إن شاء الله وبه العون لا شريك له

ذكر ما في سورة الفرقان من اختلاف القراآت على استيعاب الحروف وحذف الأسانيد

فأول ذلك قوله تبارك وتعالى {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} قرأ عبد الله بن الزبير عباده وقرأ سائر الناس عبده وقوله عز وجل {اكْتَتَبَهَا} قرأ طلحة بن مصرف اكتتبها وقرأ سائر الناس اكتتبها

وفي قوله عز وجل {يَأْكُلُ مِنْهَا} قرآتان الياء والنون فقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونافع والزهري وابن كثير وعاصم وقتادة وأبو عمرو وسلام ويعقوب وابن عامر وعمرو بن ميمون وعبد الله بن يزيد المقرئ يأكل بالياء وقرأ نأكل بالنون يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي وابن إدريس وخلف بن هشام وطلحة بن سلميان ونعيم بن ميسرة وعبيد الله بن موسى

وفي قوله عز وجل {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} ثلاث قراآت الرفع والنصب والجزم فقرأ بالرفع ويجعل لك ابن كثير وابن عامر والأعمش واختلف فيه عن عاصم فروى عنه الرفع أبو بكر بن عياش وشيبان وقرأ ويجعل لك مجزوما أبو جعفر وشيبة ونافع والزهري وعاصم في رواية حفص والأعمش أيضا وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي وابن إدريس وخلف بن هشام والحسن البصري وأبو عمرو وسلام ويعقوب ونعيم وميسرة وعمرو بن ميمون وقرأ ويجعل لك بالنصب عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان وفي قوله مكانا ضيقا قرآتان بالتخفيف والتشديد فقرأ بتخفيفها ابن كثير وأبو عمرو وفي رواية عقبة بن سيار عنه وعلي بن نصر ومسلم بن محارب والأعمش وقرأ بالتشديد ضيقا الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن محيصن وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وابن إدريس وخلف وابن عامر وأبو عمرو وسالم ويعقوب وأبو شيبة المهري وفي قوله عز وجل ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ثلاث قراآت الياءين فيهما جميعا والنون فيها جميعا والنون في نحشرهم والياء في فيقول فقرأ ويوم يحشرهم فيقول جميعا بالياء ابن هرمز الأعرج وأبو جعفر وابن كثير والحسن على اختلاف عنه وأبو عمرو على اختلاف عنه وعاصم الجحدري وقتادة والأعمش وعاصم على اختلاف عنهما.

قرأ {نَحْشُرُهُمْ} فنقول جميعا بالنون علي بن أبي طالب وابن عامر وقتادة على اختلاف عنه وطلحة بن مصرف وعيسى والحسن وطلحة بن سليمان وقرأ {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} بالنون فيقول بالياء علقمة وشيبة ونافع والزهري والحسن وأبو عمرو على اختلاف عنهما ويعقوب وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وابن إدريس وخلف وعمرو بن ميمون وقرأ نحشرهم بكسر الشين عبدالرحمان بن هرمز الأعرج

وفي قوله أن نتخذ قراءتان ضم النون وفتح الخاء وفتح النون وكسر الخاء فقرأ نتخذ بضم النون وفتح الخاء زيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو جعفر ومجاهد على اختلاف عنه ونصر بن علقمة! ومكحول على اختلاف عنه وزيد بن علي وأبو رجاء والحسن على اختلاف عنهم وحفص بن حميد وجعفر بن محمد وقرأ نتخذ بفتح النون وكسر الخاء ابن عباس وسعيد بن جبير وعلقمة وإبراهيم وعاصم والأعمش وحمزة وطلحة وعيسى والكسائى وابن إدريس وخلف والأعرج وشيبة ونافع والزهري ومجاهد على اختلاف عنه وابن كثير وعاصم الجحدري وحكيم بن عقال وأبو عمرو بن العلاء وقتادة وسلام ويعقوب وابن عامر وعمرو بن ميمون واختلف عن الحسن وأبي رجاء ومكحول فروى عنهم الوجهان جميعا

وفي قوله {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} أربعة أوجه أحدها جميعا بالتاء والثاني جميعا بالياء والثالث يقولون بالياء وتستطيعون بالتاء والرابع تقولون بالتاء ويستطيعون بالياء فقرأهما جميعا بالتاء والثاني جميعا بالتاء تقولون وتستطيعون عاصم في رواية حفص عنه وطلحة بن مصرف وقرأهما بالياء عبد الله بن مسعود والأعمش وابن جريج وقرأهما بما تقولون بالتاء فما يستطيعون بالياء أهل المدينة جميعا الأعرج وأبو جعفر وشيبة والزهري ونافع وابن كثير وأهل مكة وأهل الكوفة طلحة وعيسى الكوفي وحمزة والكسائي وابن إدريس وخلف وطلحة بن سليمان وعاصم والأعمش على اختلاف عنهما وأهل البصرة الحسن وقتادة وأبو عمرو وعيسى وسلام ويعقوب وابن عامر وعمرو بن ميمون وقرأ بما يقولون بالياء وتستطيعون بالتاء أبو حيوة

وفي قوله {وَيَمْشُونَ} قراءتان تخفيف الشين وتشديدها فمن خفف فتح الياء وسكن الميم ومن شدد ضم الياء وفتح الميم وقرأ يمشون علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عبد الله وقرأ سائر الناس يمشون

وفي قوله عز وجل {حِجْراً مَحْجُوراً} قراءتان ضم الحاء وكسرها فقرأ بضمها حجرا محجورا الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعمش وكذلك في قوله برزخا وحجرا محجورا وقرأ سائر الناس بكسرها والمعنى واحد حراما محرما في قوله عز وجل {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} قراءتان بتشديد الشين وتخفيفها فقرأ بتشديدها الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وابن محيصن وأهل مكة وابن عامر والحسن وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب وعبد الله بن يزيد وأبو عمر على اختلاف عنه وقرأ تشقق بتخفيف الشين الزهري وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وابن إدريس وطلحة بن سليمان وخلف وأبو عمرو ونعيم بن ميسرة وعمرو بن ميمون

وفي قوله {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} أربع قراءات ونزل الملائكة ونزل الملائكة ننزل الملائكة وأنزل الملائكة قرأ بالأولى الأعرج ونافع والزهري وعاصم والأعمش و عيسى وحمزة روينا وابن إدريس وخلف والحسن وقتادة وأبو عمرو وعاصم الجحدري وسلام ويعقوب وابن عامر وطلحة بن سليمان وقرأ بالثانية ونزل الملائكة أبو رجاء وقرأ بالثالثة ننزل الملائكة عبد الله بن كثير وأهل مكة وأبو عمرو على اختلاف عنه وقرأ بالرابعة وأنزل ابن مسعود والأعمش

وفي قوله يا ويلتا قراءتان كسر التاء على الإضافة وفتحها على الندبة قرأ بكسرها الحسن البصري وقرأ سائر الناس فيما علمت بفتحها

وفي قوله {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} قراءتان تسكين الياء وحذفها لالتقاء الساكنين وفتحها قرأ بكلا الوجهين جماعة

وفي قوله {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} قراءتان بالياء والنون قرأ بالياء عبد الله بن مسعود وقرأ سائر الناس بالنون

وفي قوله {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} قراءتان فدمرناهم فدمرانهم قرأ فدمرانهم علي بن أبي طالب ومسلمة بن محارب وقرأ سائر الناس فدمرناهم

وقرأ جماعة بصرف ثمود وجماعة بترك صرفها

وفي قوله {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قراءتان ألاهه وإلهه فقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقرأ سائر الناس ألاهه إلا أن أبا عمرو في بعض الروايات عنه يدغم الهاء في الهاء بعد تسكين المفتوحة منهما

وفي قوله {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً} قراءتان في الريح الجمع والتوحيد وفي نشرا ست قراءات نشرا بالنون مثقل ومخفف وبشرا بالباء مثقل ومخفف والخامسة نشرا بالنون المفتوحة والسادسة بشرى مثل حبلى فقرأ الرياح جمعا نشرا بالنون وبضمتين أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع والزهري وأبو عمرو وعيسى بن عمر ويعقوب وسلام وسفيان بن حسين وقرأ الرياح جمعا أيضا ونشرا بالنون أيضا إلا أنه خفف الشين ابن عامر وقتادة وأبو رجاء وعمرو بن ميمون وسهل وشعيب ورواية عن أبي عمرو رواها هارون الأعور وخارجة بن مصعب عن أبي عمرو وقرأ الريح واحدة نشرا بالنون وضمتين ابن كثير وابن محيصن والحسن وقرأ الرياح جماعة بشرا بالباء خفيفة الشين علي بن أبي طالب وعاصم ورواية عن أبي عبد الرحمن السلمي قال الفراء كأنه بشير وبشر وقرأ الرياح جماعة نشرا بالنون وفتحها عبد الله بن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش ومسروق والأسود بن يزيد والحسن وقتادة ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف على اختلاف عنه وعيسى الكوفي وحمزة والكسائي وابن ادريس وخلف بن هشام وأبو عبد الله جعفر بن محمد والعلاء بن سيابة وقرأ الريح واحدة نشرا بفتح النون وسكون الشين ابن عباس وطلحة وعيسى الهمداني على اختلاف عنهما وطلحة بن سليمان وقرأ "بشرى بين يدي رحمته" مثل حبلى محمد بن السميفع اليمني من البشارة وفي قوله {وَنُسْقِيَهُ} قراءتان ضم النون وفتحها فقرأ بضم النون من أسقى أهل المدينة أبو جعفر وشيبة ونافع والزهري والأعرج ومن أهل مكة ابن كثير ومن أهل الكوفة عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وطلحة بن سليمان وخلف بن هشام وعيسى الهمداني ومن أهل البصرة الحسن وأبو عمرو وسلام ويعقوب ومن أهل الشام ابن عامر وعمرو بن ميمون وقرأ نسقيه بفتح النون من سقي عاصم والأعمش على اختلاف عنهما

وفي {لِيَذَّكَّرُوا} قراءتان التخفيف والتثقيل فقرأ بالتخفيف أهل الكوفة وقد ذكرناهم وقرأ بالتشديد أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة وأهل الشام وقد ذكرناهم قبل

وفي قوله ملح قراءتان فتح الميم وكسرها فقرأ بفتح الميم ملح أجاج طلحة بن مصرف وقرأ سائر الناس بكسر الميم

وفي قوله {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} قراءتان الياء والتاء فقرأ بالتاء زيد بن ثابت وابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع والزهري وابن كثير وعاصم وإبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب والحسن وعيسى وأبو عمرو وسلام ويعقوب وابن عامر وعمرو بن ميمون وعبد الله بن يزيد وقرأ بالياء عبد الله بن مسعود والأسود والأعمش وطلحة و عيسى الكوفي وحمزة والكسائي وابن أدريس وخلف وطلحة بن سليمان ونعيم بن ميسرة

وفي قوله {سِرَاجاً} ثلاث قرأت سراجا وسرجا وسرجا فقرا سراجا عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وأبو الدرداء وأهل المدينة جميعا ابن هرمز وأبو جعفر وشيبة ونافع والزهري وعمر بن عبد العزيز وأهل مكة مجاهد وابن كثير وأهل البصرة الحسن على اختلاف عنه وأبو رجاء وقتادة وأبو عمرو و عيسى وسلام ويعقوب وأهل الشام ابن عامر وعمرو بن ميمون وعبد الله بن يزيد وقرأها أيضا من أهل البيت علي بن حسين وزيد بن علي ومحمد بن علي أبو جعفر وقرأ سرجا بضمتين ابن مسعود وأصحابه وإبراهيم ويحيى والأعمش وطلحة و عيسى وأبان بن تغلب ومنصور بن المعتمر وحمزة والكسائي وابن إدريس وطلحة بن سليمان وخلف ونعيم بن ميسرة هؤلاء كلهم كوفيون وعن بعضهم روى سرجا مخفف وهو أبان بن تغلب وإبراهيم النخعي

وفي قوله عز وجل {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} قراءتان التخفيف والتثقيل فقرأ يذكر مثقلة مشددة مفتوحة الكاف عمر بن الخطاب وابن عباس وأهل المدينة أبو جعفر وشيبة ونافع والزهري وأهل مكة ابن كثير وأصحابه وأهل البصرة الحسن وأبو رجاء وأبو عمرو و عيسى وسلام ويعقوب وأهل الشام ابن عامر وعمرو بن ميمون وعبد الله بن يزيد وعاصم والكسائي من الكوفيين

وقرأها علي بن أبي طالب على اختلاف عنه وقرأ يذكر مخففة علي بن أبي طالب في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عنه والرواية الأولى رواها الأصبغ بن نباتة وناجية بن كعب عنه وابن مسعود وإبراهيم ويحيى والأعمش وطلحة و عيسى وأبو جعفر محمد بن علي وعلي بن حسين وابن إدريس ونعيم بن ميسرة

وفي قوله {لَمْ يَقْتُرُوا} ثلاث قرآت منها في الثلاثي قراءتان من قتر يقتر ويقتر فقرأ يقتروا بفتح الياء وكسر التاء من قتر يقتر مجاهد وابن كثير والزهري وأبو عمر و عيسى وسلام ويعقوب وعمرو بن عبيد وعبد الله بن يزيد وعمرو بن ميمون وقرأ يقتروا بضم التاء من قتر أيضا علي بن أبي طالب في رواية الأصبغ بن نباتة وناجية وعاصم والأعمش وطلحة و عيسى وحمزة والكسائي وابن إدريس وطلحة بن سليمان وخلف وأبو رجاء وأبو عمرو على اختلاف عنه وقرأ من الرباعي يقتروا بضم الياء وكسر التاء من اقتر يقتر علي بن أبي طالب في رواية أبي عبد الرحمن السلمي والأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عبد الرحمن السلمي واختلف فيه عن الحسن وأبي رجاء وبن عامر ونعيم بن ميسرة

وفي قوله {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} قراءتان كسر القاف وفتحها قرأ بكسرها حسان بن عبد الرحمن صاحب عائشة وهو الذي يروي عنه قتادة كان يقرأ قواما وينكر قواما ويقول القوام قوام الدابة والقوام على المرأة وعلى أهل البيت وعلى الفرس والجارية وقرأ سائر الناس في جميع الأمصار قواما بفتح القاف

وفي قوله {يُضَاعَفْ} {وَيَخْلُدْ} قراآت في إعرابهما وفي تشديد العين فأما الإعراب فالجزم في الفاء والدال من يضاعف ويخلد والرفع فيهما فقرأ يضاعف ويخلد فيه مرفوعين عاصم على اختلاف كثير عنه في ذلك وقرأ يضاعف ويخلد بالجزم فيهما ابن هرمز الأعرج ونافع والزهري مدنيون والأعمش وطلحة والكسائي وابن إدريس وخلف كوفيون والحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو عمرو وسلام بصريون ونعيم بن ميسرة وعمرو بن ميمون وقرأ يضعف ويخلد بتشديد العين من يضعف والرفع فيهما ابن عامر والأعمش وقرأ يضعف ويخلد بالجزم فيهما وتشديد يضعف أبو جعفر وشيبة ويعقوب و عيسى الثقفي وابن كثير وأهل مكة وقرأ نضعف بالنون له العذاب نصبا ويخلد فيه بالياء جزما طلحة بن سليمان

وفي قوله ذرياتنا قراءاتان الجمع والتوحيد فقرأ ذريتنا واحدة مجاهد وأبو عمرو وعاصم على اختلاف عنه ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن إدريس وخلف وطلحة بن سليمان وعبيد الله بن موسى وقرأ {وَذُرِّيَّاتِنَا} جماعة أبو جعفر وشيبة ونافع والزهري وابن كثير وعاصم على اختلاف عنه والحسن وسلام ويعقوب وابن عامر وسلمة بن كهيل ونعيم بن ميسرة وعبد الله بن يزيد

وفي قوله {وَيُلَقَّوْنَ} قراءتان إحداهما ضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف والثانية فتح الياء وتسكين اللام وتخفيف القاف فقرأ بالترجمة الأولى ابن هرمز وأبو جعفر وشيبة ونافع والزهري ومجاهد وابن كثير والحسن وأبو عمرو و عيسى وسلام ويعقوب وابن عامر وعمرو بن ميمون واختلف عن عاصم والأعمش وقرأ بالترجمة الثانية علي وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة و عيسى الكوفي وحمزة والكسائي وابن إدريس وخلف وطلحة بن سليمان ومحمد بن السميفع اليماني وعاصم على اختلاف عنه

وقرأ ابن عباس وابن الزبير "فقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاما" وكذلك في حرف ابن مسعود وقرأ سائر الناس {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} فهذا ما في سورة الفرقان من الحروف التي بأيدي أهل العلم بذلك والله أعلم ما أنكر منها عمر على هشام بن حكيم وما قرأ به عمر وقد يمكن أن يكون هناك حروف لم تصل إلينا وليس كل من قرأ بحرف نقل عنه وذكر ولكن إن فات من ذلك شيء فهو اليسير النزر وأما عظم الشيء ومنته وجملته فمنقول محكي عنهم فجزاهم الله عن حفظهم علينا الحروف والسنن أفضل الجزاء وأكرمه عنده برحمته

وفي هذا الحديث ما يدل على أن في جبلة الإنسان وطبعه أن ينكر ما عرف ضده وخلافه وجهله ولكن يجب عليه التسليم لمن علم وفيه ما كان عليه عمر من الغضب في ذات الله فإنه كان لا يبالي قريبا ولا بعيدا فيه وقد كان كثير التفضيل لهشام بن حكيم بن حزام

ولكن إذ سمع منه ما أنكره لم يسامحه حتى عرف موقع الصواب فيه وهذا يجب على العالم والمتعلم في رفق وسكون ومما يدلك على موضع هشام بن حكيم عند عمر ما ذكره ابن وهب وغيره عن مالك قال كان عمر بن الخطاب إذا خشي وقوع أمر قال أما أنا وهشام بن حكيم بن حزام فلا

حديث رابع عشر لابن شهاب عن عروة[عدل]

ملك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت "كان رسول الله إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" هكذا قال ملك في الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة كذلك رواه عنه جمهور رواة الموطأ وممن رواه كذلك فيما ذكر الدارقطني معن بن عيسى والقعنبي وابن القاسم وأبو المصعب وابن كثير ويحيى بن يحيى يعني النيسابوري وإسحاق بن الطباع وأبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي وروح بن عبادة وأحمد بن إسماعيل وخالد بن مخلد وبشر بن عمر الزهراني

حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران السراج قال حدثنا عمي وأبي قالا حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري قال قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة قالت "كان رسول الله إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان"

وحدثنا خلف حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بإسناده مثله وذكره ابن وهب في موطأه فقال وأخبرني مالك ويونس والليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أنها كانت إذا اعتكفت في المسجد فدخلت بيتها لم تسأل عن المريض إلا وهي مارة وقالت عائشة "أن رسول الله لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" فأدخل حديث بعضهم في بعض وإنما يعرف جمع عروة وعائشة ليونس والليث لا لمالك والمحفوظ لمالك عن أكثر رواته في هذا الحديث ابن شهاب عن عمرة عن عروة وأما سائر أصحاب ابن شهاب غير مالك فقال أكثرهم فيه عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة منهم معمر وسفيان بن حسين وزياد بن سعد والأوزاعي وكذلك رواة بندار ويعقوب الدورقي عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت "كان رسول الله إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" لم تذكر عمرة في هذا الحديث

وتابع ابن مهدي على ذلك إسحاق بن سليمان الرازي وأبو سعيد مولى بني هاشم ومحمد بن إدريس الشافعي على اختلاف عنه وبشر بن عمر وخالد بن مخلد على اختلاف عنهما أيضا والمعافي بن عمران الحمصي وقال محمد بن المثنى عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة أنها كانت تعتكف وتمر بالمريض وتسأل به وهي تمشي قال عبد الرحمن فقلت لمالك عن عروة عن عمرة وأعدت عليه فقال الزهري عن عروة عن عمرة أو الزهري عن عمرة

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن عن مالك عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة أنها كانت تعتكف وذكره إلى آخره

وهذان حديثان أحدهما في ترجيل النبي والآخر في مرور عائشة بالمريض وقولها كان رسول الله لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان اختلف فيهما أصحاب الزهري عليه

حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني الزهري قال حدثني عروة أن عائشة قالت "كان رسول الله يأتيني وهو يعتكف في المسجد حتى يتكىء على عتبة باب حجرتي فأغسل رأسه وأنا في حجرتي وسائره في المسجد"

قال الأوزاعي وحدثني الزهري قال حدثني عروة وعمرة أن عائشة كانت إذا اعتكفت في المسجد تعتكف العشر الأواخر من رمضان ولا تدخل بيتها إلا لحاجة الإنسان التي لا بد منها وكانت تمر بالمريض من أهلها فتسأل عنه وهي تمشي لا تقف فجعل الأوزاعي المعنيين بإسنادين أحدهما عروة عن عائشة والآخر عروة وعمرة عن عائشة وروى مالك حديث عائشة هذا عن الزهري عن عمرة عنها كذلك هو في الموطأ عند جمهور الرواة وقال فيه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة

أخبرنا محمد حدثنا علي بن عمر حدثنا الحسن بن يحيى حدثنا الحسن بن محمد حدثنا الشافعي حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة "أن عائشة كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي لا تقف"

وحدثناه محمد بن عبد الملك حدثنا ابن الأعرابي حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني حدثنا الشافعي فذكره

وقال ابن وهب وخالد بن سليمان في هذا الحديث عن مالك عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة وقال القطان وابن مهدي فيه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة فخالف ابن مهدي والشافعي ومن ذكرناه من رواة الموطأ في إسناد الحديثين جميعا المرفوع والموقوف

وذكر محمد بن يحيى الذهلي في كتابه في علل حديث الزهري هذين الحديثين مرور عائشة وترجيل النبي وهما يعتكفان عن جماعة من أصحاب الزهري منهم يونس والأوزاعي والليث ومعمر وسفيان بن حسين والزبيدي ثم قال اجتمع هؤلاء كلهم على خلاف مالك في ترجيل النبي فلم يجامعه عليه منهم أحد فأما يونس والليث فجمعا عروة وعمرة عن عائشة وأما معمر والأوزاعي وسفيان بن حسين فاجتمعوا على عروة عن عائشة قال والمحفوظ عندنا حديث هؤلاء قال

وأما القصة الأخرى في مرور عائشة على المريض فاجتمع معمر ومالك وهشيم على عمرة عن عائشة وقال يونس من رواية الليث مرة عن عمرة عن عائشة ومرة من رواية عثمان بن عمر عن عروة وعمرة عن عائشة قال وعثمان بن عمر أولى بالحديث لأن الليث قد اضطرب فيه فقال مرة عن عروة عن عائشة ومرة عن عمرة عن عائشة وثبته عثمان بن عمر عنهما جميعا وقد واطأه ابن وهب عن يونس في الحديثين جميعا فصارت روايته عن يونس أولى وأثبت

وأما شبيب بن سعيد فإنه تابع الليث على روايته عن يونس في القصة الأخيرة فقال عروة عن عمرة عن عائشة قال فقد صح الخبر الآخر عندنا عن عروة وعمرة عن عائشة باجتماع يونس من رواية ابن وهب وعثمان بن عمر والأوزاعي من رواية المغيرة والليث بن سعد من رواية ابن أبي مريم عن عروة وعمرة عن عائشة وباجتماع معمر ومالك وهشيم على عمرة وعبد الرحمن بن مهدي وأبو نعيم عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أن عائشة كانت تجاور فتمر بالمريض من أهلها فلا تعرض له

فالحديثان عندنا محفوظان بالخبرين جميعا إلا ما كان من رواية مالك في ترجيل النبي فقط إن شاء الله

قال وقد روى ابن أبي حبيب ما حدثنا به أبو صالح الحراني قال حدثنا ابن لهيعة عن ابن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "كان رسول الله يعتكف فيمر بالمريض في البيت فيسلم عليه ولا يقف" قال وهذا معضل لا وجه له إنما هو فعل عائشة ليس ذكر النبي من هذا الحديث في شيء وهذا الوهم من ابن لهيعة فيما نرى والله أعلم

قال أبو عمر: الذي أنكروا على مالك ذكره عمرة في حديث عائشة أنها كانت ترجل رسول الله وهو معتكف هذا ما أنكروا عليه لاغير في هذا الحديث لأن ترجيل عائشة رسول الله وهو معتكف لا يوجد إلا حديث عروة وحده عن عائشة وغير هذا قد جومع مالك عليه من حديث مرور عائشة وغيره من ألفاظ حديث مالك وإسناده وقد روى حديث الترجيل هذا عن عروة تميم بن سلمة وهشام بن عروة ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن نمير ويعلى عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة قالت "كنت أرجل رأس رسول الله وأنا حائض وهو عاكف" وقال يعلى في حديثه هذا كنت أغسل قال أبو بكر وحدثنا وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت "كان النبي يدني إلي رأسه وهو مجاور وأنا في حجرتي فأغسله وأرجله بالماء وأنا حائض"

وقد رواه الأسود بن يزيد عن عائشة مثل رواية عروة سواء إلا أن في حديث الأسود يخرج إلي رأسه وفي حديث عروة يدني إلي رأسه وبعضهم يقول فيه يدخل إلي رأسه وفي ذلك ما يدل على جواز ادخال المعتكف رأسه البيت ليغسل ويرجل وقد يحتمل قول الأسود يخرج إلي رأسه أي يخرجه من المسجد إلي في البيت فأرجله

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبدالسلام قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا حسين بن علي عن زائدة جميعا عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة

وهذا لفظ حديث سفيان قال "كان رسول الله يخرج إلي رأسه وهو معتكف فأغسله وأنا حائض" وليس في حديث زائدة ذكر وهو معتكف

وفي هذه الأحاديث الثلاثة حديث تميم بن سلمة وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة وحديث الأسود عن عائشة وأنا حائض وليس ذلك في حديث الزهري من وجه يثبت

وأما معنى قوله عن عائشة يدني إلي رأسه فأرجله فالترجيل أن يبل الشعر ثم يمشط

وقد ذكرنا هذا المعنى وما فيه من اختلاف الآثار في غير موضع من كتابنا هذا والحمد لله

وفي ترجيل عائشة شعر رسول الله وهو معتكف دليل على أن اليدين من المرأة ليستا بعورة ولو كانتا عورة ما باشرته بهما في اعتكافه ويدلك على ذلك أيضا أنها تنهى في الإحرام عن لباس القفازين وتؤمر بستر ما عدا وجهها وكفيها وتؤمر بكشف الوجه والكفين في الصلاة فدل على أنهما غير عورة منها وهو عندنا أصح ما قيل في ذلك

وقد مضى القول في معنى العورة من الرجال والنساء في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب والحمد لله

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الحائض طاهرة غير نجسة إلا موضع النجاسة منها ويوضح لك ذلك قول رسول الله لعائشة "ناوليني الخمرة" فقالت إني حائض فقال "إن حيضتك ليست في يدك" فدل قوله هذا على أن كل موضع منها ليس فيه الحيضة فهو كما كان قبل الحيضة وأنها متعبدة في اجتناب ما أمرت باجتنابه وفي ترجيلها رسول الله وخدمتها له وهي حائض ما يدل على ذلك وفي هذا كله إبطال قول من كره سؤر الحايض والجنب وفي حديث شريح بن هانىء عن عائشة "كنت أشرب وأنا حايض وأناوله رسول الله فيضع فاه على موضع فمي وآخذ العرق فأعضه فيضع فمه على موضع فمي"

قال أبو عمر: معنى الاعتكاف في كلام العرب الإقامة على الشيء والمواظبة عليه والملازمة له هذا معنى العكوف والاعتكاف في اللسان

وأما في الشريعة فمعناه الإقامة على الطاعة وعمل البر على حسب ما ورد من سنن الاعتكاف فمما أجمع عليه العلماء من ذلك أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد لقول الله عز وجل {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} إلا أنهم اختلفوا في المراد بذكر المساجد في الآية المذكورة فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وإن كان لفظها العموم فقالوا لا اعتكاف إلا في مسجد نبي كالمسجد الحرام أو مسجد الرسول أو مسجد بيت المقدس لاغير وروى هذا القول عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب ومن حجتهم أن الآية نزلت على النبي وهو معتكف في مسجده فكان المقصد والإشارة إلى نوع ذلك المسجد في ما بناه نبي

وقال الآخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد روى هذا القول عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي وهو أحد قولي مالك

وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز روى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وإبرهيم النخعي وهمام بن الحارث وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي الأحوص والشعبي وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد وهو أحد قولي مالك وبه يقول ابن علية وداود والطبري وقال الشافعي لا يعتكف في غير المسجد الجامع إلا من الجمعة إلى الجمعة قال واعتكافه في المسجد الجامع أحب إلي ويعتكف المسافر والعبد والمرأة حيث شاءوا ولا اعتكاف إلا في مسجد لقول الله عز وجل {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}

قال أبو عمر: في حديثنا هذا من قول عائشة وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تعني رسول الله دليل على أنه لم يكن اعتكافه في بيته وأنه كان في مسجده وفيه دليل على أن المعتكف لا يشتغل بغير لزومه المسجد ومعلوم أن لزوم المسجد إنما هو للصلوات وتلاوة القرآن وأن المعتكف إذا لم يدخل بيت نفسه فأحرى أن لا يدخل بيت غيره وفي اجتناب رسول الله ذلك دليل على أنه لا يجوز وإذا لم يجز له دخول البيت وإن لم يكن في ذلك معصية فكل شغل يشغله عن اعتكافه لا يجوز له لأنه في ذلك المعنى وإن لم يكن فيه معصية

وفي معنى دخول البيت لحاجة الإنسان كل ما لا غنى بالإنسان عنه من منافعه ومصالحه وما لا يقضيه عنه غيره

وفي معنى ترجيل رسول الله رأسه كل ما كان فيه صلاح بدنه من الغذاء وغيره مما يحتاج إليه

ومن جهة النظر المعتكف ناذر جاعل على نفسه المقام في المسجد لطاعة الله فواجب عليه الوفاء بذلك فإن خرج لضرورة ورجع في فور زوال الضرورة بني على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه ومن الضرورة المرض البين والحيض وهذا عندي في معنى خروجه لحاجة الإنسان لأنها ضرورة

واختلف مالك في المعتكف يخرج لعذر غير ضرورة مثل أن يموت أبوه أو ابنه ولا يكون له من يقوم به أو شراء طعام يفطر عليه أو غسل نجاسة من ثوبه لا يجد من يكفيه شيئا من ذلك فروي عنه من فعل هذا كله أو ما كان مثله يبتدىء

وروى عنه أنه يبني وهو الأصح عند ابن خواز بنداد وغيره قياسا على حاجة الإنسان والحيض والمرض اللذين لم يختلف قول ملك فيهما أنه يبني واختلف العلماء في اشتغال المعتكف بالأمور المباحة فقال مالك لا يعرض المعتكف لتجارة ولا غيرها ولا بأس أن يأمر بصنعته ومصلحة أهله ويبيع ماله ويصنع كل ما لا يشغله إذا كان خفيفا قال مالك ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف قال ولا بأس بنكاح المعتكف ما لم يكن الوقاع والمرأة المعتكفة تنكح نكاح الخطبة هذا كله قوله في الموطآت

وقال ابن القاسم عن مالك لا يقوم المعتكف إلى رجل يعزيه بمصيبة ولا يشهد نكاحا يعقد في المسجد يقوم إليه ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر بذلك بأسا ولا يقوم لناكح فيهنئه ولا يكتب العلم ولا يشتغل في مجلس العلم قال ويشتري ويبيع إذا كان خفيفا ولا يشهد الجنائز ولا يعود المرضى وجملة مذهبه أن المعتكف لا يشتغل بشيء من أمور الدنيا إلا اليسير الذي لا يستغني عنه في مصالحه مثل الكتاب الخفيف يكتبه فيما يحتاج إليه أو يأمر من يخدمه ومثل هذا من مراعاة أحواله إذا كان يسيرا خفيفا ومن مذهبه عند أصحابه أن المعتكف إذا أتى كبيرة من الكبائر فسد اعتكافه لأن الكبيرة ضد العبادة كما الحدث ضد الطهارة والصلاة وترك ما حرم عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة هذا كله قول ابن خواز بنداد عن مالك.

وقال الثوري المعتكف يعود المريض ويشهد الجمعة وما لا يحسن أن يضيعه لا يدخل سقفا إلا أن يكون ممره فيه ولا يجلس عند أهله ولا يوصيهم بحاجته إلا وهو قائم أو ماش ولا يبيع ولا يشتري وإن دخل سقفا بطل اعتكافه.

وقال الحسن بن حي أن دخل المعتكف بيتا ليس في طريقه أو في غير جامع بطل اعتكافه ويحضر الجنازة ويعود المريض ويشهد الجمعة ويخرج للوضوء ويدخل بيت المريض للعيادة ويكره أن يبيع ويشتري.

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يخرج المعتكف لجنازة ولا لعيادة مريض وله أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد ويتشاغل بما لا يأثم فيه ويزوج ويتزوج ويشهد في النكاح ويتطيب

وقال الشافعي لا يعود المعتكف مريضا ولا يشهد جنازة ولا يفارق موضع اعتكافه بعيدا إلا لحاجة الإنسان وكل ما يفعله غير المعتكف في المسجد فعله المعتكف ولا يقعد بعد الفراغ من أكله في بيته

قال أبو عمر: معاني الشافعي وأبي حنيفة في هذا الباب واحدة ومعاني مالك متقاربة والحجة لمن ذهب مذهبهم أن عائشة كانت لا تعود المريض من أهلها وهي معتكفة الإمارة وقد روى عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا ما لا بد له منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع

ولم يقل أحد في حديث عائشة هذا السنة إلا عبد الرحمن بن إسحاق ولا يصح هذا الكلام كله عندهم إلا من قول الزهري في صوم المعتكف ومباشرته وسائر الحديث والحجة لمذهب الثوري ومن تابعه أن علي بن أبي طالب قال إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم وأجاز علي البيع والشراء للمعتكف

وذكر الحسن الحلواني قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن أبي إسحاق الشيباني عن سعيد بن جبير قال اعتكفت في مسجد الحي فأرسل إلي عمرو بن حريث يدعوني وهو أمير على الكوفة فلم آته فعاد ثم عاد فأتيته فقال ما منعك أن تأتينا قلت إني كنت معتكفا قال وما عليك أن المعتكف يشهد الجمعة ويعود المريض ويمشي مع الجنازة ويجيب الإمام

قال أبو عمر: أجمع العلماء أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك فقال مالك والشافعي إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه قال المزني وقال الشافعي في موضع آخر من مسائل الاعتكاف لا يفسد الاعتكاف من الوطىء إلا ما يوجب الحد واختاره المزني قياسا على أصله في الصوم والحج وقال أبو حنيفة إن فعل فأنزل بطل اعتكافه وأجمعوا أن المعتكف لا يدخل بيتا ولا يستظل بسقف إلا في المسجد الذي يعتكف فيه أو يدخل لحاجة الإنسان أو ما كان مثل ترجيله

ومسائل الاعتكاف ونوازله يطول ذكرها ويقصر الكتاب عن تقصي أقاويل العلماء فيها والاعتلال لها وقد ذكرنا من ذلك ما في معنى حديثنا وذكرنا الأصول التي عليها مدار الاعتكاف وسنذكر حكم الاعتكاف بصوم وبغير صوم واختلاف العلماء في ذلك عند ذكر حديث ابن شهاب عن عمرة من هذا الكتاب على ما رواه يحيى عن مالك في ذلك إن شاء الله وبالله التوفيق

حديث خامس عشر لابن شهاب عن عروة[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن أم سليم قالت لرسول الله المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل أتغتسل فقال لها رسول الله "نعم فلتغتسل" فقالت لها عائشة أف لك وهل ترى ذلك المرأة فقال لها رسول الله "تربت يمينك ومن أين يكون الشبه"

هكذا هذا الحديث في الموطأ عن عروة أن أم سليم وقال فيه ابن أبي أويس عن مالك عن أبي شهاب عن عروة عن أم سليم وكل من روى هذا الحديث عن مالك لم يذكر فيه عن عائشة فيما علمت إلا ابن أبي الوزير وعبد الله بن نافع أيضا فإنهما روياه عن مالك عن عروة عن عائشة

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا المقدمي قال حدثنا ابن أبي الوزير قال حدثنا مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أم سليم قالت "يا رسول الله المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل" وذكر الحديث

وأخبرنا خلف بن القاسم وعلي بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا العباس بن محمد قال حدثنا أحمد بن صالح قال قرأت على عبد الله بن نافع عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أن أم سليم قالت لرسول الله المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل أتغتسل فقال لها "نعم فلتغتسل" وذكر الحديث وقال الدارقطني تابع ابن أبي الوزير على إسناد هذا الحديث عن مالك حباب بن جبلة وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ومعن بن عيسى

فيما ذكره ابن رشيدين في غرائب حديث مالك عن عبد الرحمن بن يعقوب بن أبي عباد عن معن ولم يذكر الدارقطني ابن نافع ورواية عبدالأعلى الشامي هذا الحديث عن معمر كرواية يحيى وجمهور رواة الموطأ له عن مالك عن ابن شهاب عن عروة لم يذكروا عائشة ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عائشة ولم يذكر عروة ورواه يونس وعقيل وصالح بن أبي الأخضر والزبيدي وابن أخي الزهري كلهم عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة والحديث عند أهل العلم بالحديث صحيح لابن شهاب عن عروة عن عائشة

قال أبو داود وقد تابع ابن شهاب على قوله عن عروة عن عائشة مسافع الحجبي فرواه أيضا عن عروة عن عائشة

قال أبو عمر: كذا روى مسافع الحجبي عن عروة عن عائشة إلا أنه خالف في لفظه وقال فيه أن رسول الله قال "إذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه اخواله وإذا علا ماء الرجل أشبهه ولده"

وهذا اللفظ في حديث ثوبان عن النبي في "علا ماء الرجل" "وعلا ماء المرأة" إلا أن المعنى المذكور فيما يوجب الشبه مخالف لما في هذه الأحاديث

وحديث ثوبان رواه معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام الحبشي يقول حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى النبي عليه السلام حدثه أن حبرا من أحبار يهود قال لرسول الله أسألك عن الولد فقال رسول الله "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا وعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله" فقال اليهودي صدقت ثم انصرف فذهب وذكر تمام الحديث

وقد روى في حديث أم سلمة مراعاة سبق المني لا مراعاة علوه في معنى الشبه لا الاذكار ولا الإناث ذكر ابن وهب قال أخبرني ابن أبي ذئيب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن أم سليم امرأة أبي طلحة قالت يا رسول الله هل على المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها غسل؟ فقال رسول الله "إذا رأت بللا" فقالت أم سلمة يا رسول الله وتفعل ذلك المرأة فقال "ترب جبينك وأنى يكون شبه الخؤلة! إلا من ذلك" أي النطفتين سبق إلى الرحم غلب على الشبه"

وكذلك رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة فذكر فيه سبق النطفة إلا أنه قال فيه قالت أم سلمة وغطت وجهها أو تفعله المرأة فقال لها رسول الله "تربت يداك فبم يشبهها ولدها"

قال أبو عمر: الإسناد في ذكر سبق النطفة أثبت والله أعلم بما قال رسول الله

قال أبو عمر: أما هشام بن عروة فرواه عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أن أم سليم سألت رسول الله بمعناه من حديث مالك وغيره عن هشام

قال محمد بن يحيى وهما حديثان عندنا

قال أبو عمر: أكثر رواة هذا الحديث عن ابن شهاب يقولون فيه نعم إذا وجدت الماء وكذلك في حديث أم سلمة وأنس في قصة أم سليم هذه وكذلك روته خولة بنت حكيم عن النبي

وفي إجماع العلماء على أن المحتلم رجلا كان أو امرأة إذا لم ينزل ولم يجد بللا ولا أثر للإنزال أنه لا غسل عليه وإن رأى الوطء والجماع الصحيح في نومه وأنه إذا أنزل فعليه الغسل امرأة كان أو رجلا وأن الغسل لا يجب في الاحتلام إلا بالانزال ما يغني عن كل تأويل وتفسير وبالله التوفيق

وقد روى من أخبار الآحاد ما يوافق الإجماع ويرفع الإشكال أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حماد بن خالد الخياط قال حدثنا عبد الله العمري عن عبيد الله عن القاسم عن عائشة قالت سئل رسول الله عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال "يغتسل" وعن الرجل يرى قد احتلم ولا يجد البلل قال "لا يغتسل" فقالت أم سليم المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال "نعم إنما النساء شقايق الرجال"

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا يزيد بن هرون عن سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أن أم سليم سألت رسول الله عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال رسول الله "إذا رأت ذلك فأنزلت فعليها الغسل" فقالت أم سلمة كيف هذا يا رسول الله؟ قال "نعم ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق وعلا أشبه الولد" وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه نساء ذلك الزمان من الاهتمام بأمر دينهم والسؤال عنه وهذا يلزم كل مومن ومومنة إذا جهل شيئا من دينه أن يسأل عنه قال رسول الله "شفاء العي السؤال"

وقالت عائشة رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن وأم سليم من فاضلات نساء الأنصار وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة فأغنى عن ذكرها هاهنا وكل امرأة عليها فرضا أن تسأل عن حكم حيضتها وغسلها ووضوئها وما لا غناء بها عنه من أمر دينها وهي والرجل فيما يلزمها من فرائضهما سواء وفيه أيضا دليل على أن ليس كل النساء يحتلمن ولهذا ما أنكرت عائشة وأم سلمة سؤال أم سليم وقد يوجد عدم الاحتلام في بعض الرجال إلا أن ذلك في النساء أوجد وأكثر منه في الرجال وقد قيل أن إنكار عائشة لذلك إنما كان لصغر سنها وكونها مع زوجها فلذلك لم تعرف الاحتلام لأن الاحتلام لا تعرفه النساء ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الجماع بعد المعرفة به فإذا فقد النساء أزواجهن ربما احتلمن والوجه الأول عندي أصح لأن أم سلمة قد فقدت زوجها وكانت كبيرة عالمة بذلك فأنكرت منه ما أنكرت عائشة على ما مضى في حديث قتادة عن أنس في هذا الباب وإذا كان في الرجال من لا يحتلم فالنساء أحرى بذلك والله أعلم

وفيه جواز الإنكار والدعاء بالسوء على المعترض فيما لا علم له به وفيه أن الشبه في بني آدم إنما يكون من غلبة الماء وسبقه ونزوله والله أعلم

ومن هاهنا قالوا إذا غلب ماء المرأة أشبه الرجل أخواله وأمه وإن غلب ماء الرجل أشبه الولد أباه وأعمامه وأجداده

وأما قوله في الحديث أف لك فقال أبو عبيدة تجر وترفع وتنصب بغير تنوين وهو ما غلظ من الكلام وقبح وقال غيره يجوز صرفها وترك صرفها ومعناها أن تقال جوابا لما يستثقل من الكلام ويضجر منه قال والاف والتف بمعنى واحد وقال غيره الاف وسخ الأذن والتف وسخ الاظفار

وأما قوله تربت يمينك ففيه قولان أحدهما أن يكون أراد استغنت يمينك كأنه تعرض لها بالجهل لما أنكرت وأنها كانت تحتاج أن تسأل عن ذلك فكأنه خاطبها بالضد تنبيها كما تقول لمن كف عن السؤال عما لا يعلم أما أنت فاستغنيت عن أن تسأل أي لو أنصفت نفسك ونصحتها لسألت وقال غيره هو كما يقال للشاعر إذا أجاد قاتله الله وأخزاه لقد أجاد ومنه قوله ويل أمه مسعر حرب وهو يريد مدحه وهذا كله عند من قال هذا القول فرارا من الدعاء على عائشة وأن ذلك عنده غير ممكن من النبي وأنكر أكثر أهل العلم باللغة والمعاني أن تكون هذه اللفظة بمعنى الاستغناء وقالوا لو كان بمعنى الاستغناء لكانت أتربت يمينك لأن الفعل منه رباعي تقول أترب الرجل إذا استغنى وترب إذا افتقر وقالوا معنى هذا افتقرت يمينك من العلم بما سألت عنه أم سليم ونحو هذا

قال أبو عمر: أما تربت يمينك فمن دعاء العرب بعضهم على بعض معلوم مثل قاتله الله وهوت أمه وثكلتك أمك وعقرى حلقي ونحو ذلك وأما الشبه ففيه لغتان إحداهما كسر الشين وتسكين الباء والثانية فتح الشين والباء جميعا مثل المثل والمثل والقتب والقتب

ابن شهاب عن محمد بن عبد الله الهاشمي حديث واحد[عدل]

وهو محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم معروف النسب

وأما الرواية فلا أعرفه إلا برواية ابن شهاب عنه وأبوه عبد الله يلقب ببه مشهور نزل البصرة وتراضى به أهلها في الفتنة عند موت يزيد بن معاوية فولى أمرهم وكانت فيه غفلة وأخوه عبد الله بن عبد الله بن الحارث معروف عند أهل العلم وأهل النسب روى عنه ابن شهاب وروى ابن شهاب أيضا عن عبدالحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عنه حديث الطاعون من رواية مالك وغيره عن ابن شهاب قال الحسن بن علي الحلواني سمعت أحمد بن صالح قال روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث وعن عبد الله بن عبد الله بن الحارث وعن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل وهؤلاء كلهم إخوة

ولم يسمع من أبيهم عبد الله بن الحارث شيئا وقال محمد بن يحيى الذهلي لعبد الله بن الحارث بن نوفل ثلاثة بنين عبد الله وعبيد الله ومحمد بنو عبد الله بن الحارث بن نوفل وأما سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس فموضع ذكرهما كتاب الصحابة مالك عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب أنه حدثه أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي

سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله فقال سعد بئس ما قلت يا ابن أخي فقال الضحاك فإن عمر قد نهى عن ذلك فقال سعد قد صنعها رسول الله وصنعناها معه

لم يختلف الرواة عن مالك في إسناد هذا الحديث ومتنه بمعنى واحد فيما علمت وكذلك رواه معمر عن الزهري بإسناد مالك ومعناه ولم يقمه ابن عيينة

وروى هذا الحديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء إلا أنه لم يذكر فيه نهي عمر عن التمتع وقد ذكرنا في باب ابن شهاب عن عروة اختلاف الآثار في ما كان رسول الله به في خاصته محرما في حجته وذكرنا مذاهب العلماء في الأفضل من ذلك ولا خلاف علمته بين علماء المسلمين في جواز التمتع بالعمرة إلى الحج

وفي هذا الحديث ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج وذلك عند العلماء على أربعة أوجه منها ما اجتمع على أنه تمتع ومنها ما اختلف فيه فأما الوجه المجتمع على أنه التمتع المراد بقول الله عز وجل {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فهو الرجل يحرم بعمرة في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقد قيل ذو الحجة كله فإذا أحرم أحد بعمرة في أشهر الحج وكان مسكنه من وراء الميقات من أهل الآفاق ولم يكن من حاضري المسجد الحرام والحاضرو المسجد الحرام عند مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة وعند الشافعي وأصحابه هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة وذلك أقرب المواقيت وعند أبي حنيفة وأصحابه هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام وعند غير هؤلاء هم أهل الحرم

وعلى هذه الأقاويل الأربعة مذاهب السلف في تأويل قول الله عز وجل {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فليس له التمتع بالعمرة إلى الحج ولا يكون متمتعا أبدا أعني التمتع الموجب للهدي ما كان هو وأهله كذلك ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فخرج من موضعه محرما بعمرة في أشهر الحج أو أحرم بها من ميقاته وقدم مكة محرماً بالعمرة فطاف لها وسعى وحل بها في أشهر الحج ثم أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده وقبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته فهو متمتع بالعمرة إلى الحج وعليه ما أوجب الله على من تمتع بالعمرة إلى الحج

وذلك ما استيسر من الهدي يذبحه لله ويعطيه المساكين بمنى أو بمكة فإن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة فإن صامها من حين يحرم بحجه إلى يوم النحر فقد أدى ما عليه من صيام أيام الحج وإن فاته ذلك فليس له صيام يوم النحر بإجماع من علماء المسلمين نقلا عن النبي

واختلف في صيامه أيام التشريق إذ هي من أيام الحج فرخص له خاصة في ذلك قوم وأبى من ذلك آخرون وسنذكر ذلك إن شاء الله

فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة والتمتع المراد بقول الله {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} والمعنى والله أعلم أنه تمتع بحله كله فحل له النساء وغير ذلك مما يحرم على المحرم وسقط عنه السفر لحجه من بلده وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج وقد قال بعض أصحابنا إنما ذلك لسقوط السفر خاصة لا لتمتعه بالحل لأن القارن لم يتمتع بحل وعليه دم والوجه العام ما ذكرت لك من تمتعه بحله وسقوط سفره وسقوط الإحرام من ميقاته فلذلك كله وجب الدم عليه إذ حصل حاجا ولم يحرم بحجه ذلك من ميقات أهله ولا شخص لذلك الحج من موضعه بعد أن حصل محرما في أشهر الحج وزمانه وحج من عامه فهذه العلة الموجبة عليه الدم والله أعلم فإن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه ذلك فليس بمتمتع ولا هدى عليه ولا صيام عند جماعة العلماء أيضا إلا الحسن البصري فإنه قال عليه هدي حج أو لم يحج قال لأنه كان يقال عمرة في أشهر الحج متعة وروى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال "كان أصحاب رسول الله يعتمرون في أشهر الحج ثم يرجعون ولا يهدون" فقيل لسعيد بن المسيب فإن حج من عامه قال عليه الهدي قال قتادة وقال الحسن عليه الهدي حج أو لم يحج

وهشيم عن يونس عن الحسن أنه قال عليه الهدي حج أو لم يحج وقد روى عن يونس عن الحسن قال ليس عليه هدي والصحيح عن الحسن ما ذكرنا

أخبرنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا محمد بن جرير قال أخبرنا ابن حميد حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن أشعث النجار عن الحسن قال إن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله ثم حج من عامه ذلك فعليه هدي لأنه كان يقال عمرة في أشهر الحج متعة

وقد روى عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم وذلك أنه قال من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة والذي عليه جماعة الفقهاء وعامة العلماء ما ذكرت لك قبل هذا

روى هشيم وغيره عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال من اعتمر في أشهر الحج ثم أقام حتى يحج فهو متمتع وعليه الهدي فإن رجع إلى مصره ثم حج من عامه فلا شيء عليه وعلى هذا الناس

فإن ظن ظان أن معنى حديث مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة قبل الحج فقد استمتع ووجب عليه الهدي أو الصيام إن لم يجد هديا كمعنى ما روى عن الحسن في إيجاب الهدي على من اعتمر في أشهر الحج وإن لم يحج فليس كما ظن ولا يعرف ذلك من مذهب ابن عمر وفي قوله في هذا الحديث قبل الحج دليل على أنه حج ولذلك فسره مالك في الموطأ فقال بأثر حديثه ذلك قال مالك وذلك إذا أقام حتى الحج ثم حج

وذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة ثم أقام حتى يحج فهو متمتع عليه الهدي أو الصيام إن لم يجد هديا

قال إسماعيل وحدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن سعيد المسيب أنه قال إذا اعتمر الرجل في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله ثم حج من عامه فليس عليه هدي وعلى هذا جماعة العلماء على ما قدمنا

وقد روى عن طاوس في التمتع قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن أحدهما أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج ثم حج من عامه أنه متمتع وهذا لم يقل به أحد من العلماء فيما علمت غيره ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار وذلك والله أعلم أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة لأن العمرة جائزة في السنة كلها والحج إنما موضعه شهور معلومة فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج ولم يأت في ذلك العام بحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به ثم رخص الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع والقارن للحج معها ولمن شاء أن يفردها في أشهر الحج كما فعل رسول الله والآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي وهذا لم يعرج عليه لظاهر قول الله عز وجل {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والتمتع على ما قد أوضحنا عن جماعة العلماء بالشرائط التي وصفنا وبالله توفيقنا

واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فقال مالك عمرته في الشهر الذي حل فيه يريد أن كان حل منها أشهر الحج فليس بمتمتع وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه

وقال الثوري إذا قدم الرجل معتمرا في شهر رمضان وقد بقي عليه منه يوم أو يومان فلم يطف لعمرته حتى رأى هلال شوال فكان إبراهيم يقول هو متمتع وأحب إلى أن يهريق دما

وقال أبو حنيفة وأصحابه إن طاف للعمرة ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة أشواط في شوال كان متمتعا وإن طاف لها أربعة في رمضان وثلاثة في شوال لم يكن متمتعا

وقال الشافعي إذا طاف بالبيت في أشهر الحج للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه ذلك وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت وإنما ينظر إلى إكمالها

وقال أبو ثور إذا دخل في العمرة في أشهر الحج فسواء طاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا

واختلفوا في وقت وجوب الهدي على المتمتع فذكر ابن وهب عن مالك أنه سئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج يموت بعدما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها أترى عليه هديا قال من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي قيل له فالهدي من رأس المال أو من الثلث قال بل من رأس المال.

وقال الشافعي إذا أحرم بالحج فقد وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك ذكره الزعفراني عنه وقال عنه الربيع إذا أهل المتمتع بالحج ثم مات من ساعته أو بعد قبل أن يصوم ففيها قولان أحدهما أن عليه دم المتعة لأنه دين عليه ولا يجوز أن يصام عنه والآخر أنه لا دم عليه لأن الوقت الذي وجب عليه فيه الصوم قد زال وغلب عليه

واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم أن المتمتع إذا لم يجد هديا صام الثلاثة أيام إذا أحرم وأهل بالحج إلى آخر يوم عرفة وهو قول أبي ثور

وقال عطاء لا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال قبل أن يحرم

وقال مجاهد وطاوس إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه

وأجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي واختلفوا فيه إذاكان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه فذكر ابن وهب عن مالك قال إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي وإن لم يفعل أجزأه الصيام وقال الشافعي يمضي في صومه وهو فرضه وكذلك قال أبو ثور وقال أبو حنيفة إذا أيسر المتمتع في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام ولا يرجع إلى الهدي وقال إبراهيم النخعي إذا وجد ما يذبح قبل أن يحل فليذبح وإن كان قد صام وإن لم يجد ما يذبح حتى يحل فقد أجزأه الصوم وقال عطاء إن صام ثم وجد ما يذبح فليذبح حل أم لم يحل ما كان في أيام التشريق واختلفوا فيما على من فاته صوم الثلاثة الأيام قبل يوم النحر فذكر ابن وهب عن مالك قال من نسي صوم الثلاثة الأيام في الحج أو مرض فيها فإن كان بمكة فليصم الأيام الثلاثة بمكة وقال إن لم يصم قبل يوم عرفة فليصم أيام منى الثلاثة وليصم إذا رجع إلى أهله سبعة وإن كان رجع إلى أهله فليهد إن قدر فإن لم يقدر فليصم ثلاثة أيام في بلده وسبعة بعد ذلك وهو قول أبي ثور

وتحصيل مذهب مالك أنه إذا قدم بلده ولم يصم ثم وجد الهدي لم يجزه الصوم ولا يصوم إلا إذا لم يجد هديا

وقال أبو حنيفة وأصحابه إن انقضى يوم عرفة ولم يصم الثلاثة أيام فعليه دم لا يجزيه غيره

وقال الشافعي بالعراق يصوم أيام منى إن لم يكن صام قبل يوم النحر وقال بمصر لا يصومها وعليه أكثر أصحابه ويصومها كلها إذا رجع إلى بلده فإن مات قبل ذلك أطعم عنه

وأجمعوا على أن رجلا من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه ذلك فحج أنه متمتع عليه ما على المتمتع

وأجمعوا على أن مكيا لو أهل بعمرة من خارج الحرم في أشهر الحج فقضاها ثم حج من عامه ذلك أنه من حاضر المسجد الحرام الذين لا متعة لهم وأن لا شيء عليه

وأجمعوا في المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة ثم ينشىء الحج من مكة وأهله بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له أهل فيها وفي غيرها

وأجمعوا على أنه لو انتقل عن مكة بأهله وسكن غيرها ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع كسائر أهل الآفاق

وقد ذكرنا مسألة طاوس فيما مضى من هذا الباب

واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة وعليه بعد أيضا طواف آخر لحجه وسعي بين الصفا والمروة وروى عن عطاء وطاوس ومجاهد أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة وأما طواف القارن فقد ذكرناه في باب ابن شهاب عن عروة واختلفوا في حكم المتمتع الذي يسوق الهدي فقال مالك إن كان متمتعا حل إذا طاف وسعى ولا ينحر هديه إلا بمنى إلا أن يكون مفردا للعمرة فإن كان مفردا للعمرة نحر هديه بمكة وإن كان قارنا نحره بمنى ذكره ابن وهب عن مالك وقال مالك من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجزه ذلك وعليه هدي آخر للمتعة لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته وحينئذ يجب عليه الهدي

وقال أبو حنيفة والثوري وأبو ثور وإسحاق لا ينحر المتمتع هديه إلى يوم النحر وقال أحمد إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر وقاله عطاء

وقال الشافعي يحل من عمرته إذا طاف وسعى ساق هديا أو لم يسق

وقال أبو ثور يحل ولكن لا ينحر هديه حتى يحرم بالحج وينحره يوم النحر وقول أحمد بن حنبل في التمتع ومسائله المذكورة هاهنا كلها كقول الشافعي سواء وله قولان أيضا في صيام المتمتع أيام التشريق إن لم يصم قبل يوم النحر وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا لم يسق المتمتع هديا فإذا فرغ من عمرته صار حلالا فلا يزال كذلك حتى يحرم بالحج فيصير حراما ولو كان ساق هديا لمتعته لم يحل من عمرته حتى يحل من حجته لأنه ساق الهدي على حديث حفصة وحجة الشافعي في جواز إحلاله إن المتمتع إنما يكون متمتعا إذا استمتع بإحلاله إلى أن يحرم بالحج فأما من لم يحل من المعتمرين فإنما هو قارن لا متمتع والقران قد أباح التمتع

فهذه جملة أصول أحكام التمتع بالعمرة إلى الحج وهذا هو الوجه المشهور في التمتع وقد قيل أن هذا الوجه هو الذي روى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود أو إحداهما يأتي أحدهم منى وذكره يقطر منيا

وقد أجمع علماء المسلمين على جواز هذا وعلى أن رسول الله أباحه وأذن فيه

وقد قال جماعة من العلماء إنما كرهه عمر رضي الله عنه لأن أهل الحرم كانوا قد أصابتهم يومئذ مجاعة فأراد عمر أن ينتدب الناس إليهم لينعشوا بما يجلب من المير

وقال آخرون أحب أن يزار البيت في العام مرتين مرة للحج ومرة للعمرة ورأى أن الإفراد أفضل فكان يميل إليه ويأمر به وينهى عن غيره استحبابا ولذلك قال افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم ولعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا صدقة بن موسى عن ملك بن دينار قال سألت بالحجاز عطاء بن أبي رباح وطاووسا والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسألت بالبصرة الحسن وجابر بن زيد ومعبدا الجهني وأبا المتوكل الناجي كلهم أمرني بمتعة الحج

والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يجمع الرجل بين العمرة والحج فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها يقول لبيك بعمرة وحجة معا فإذا قدم مكة طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا أو طاف طوافين وسعى سعيين على مذهب من رأى ذلك

وقد ذكرنا القائلين بالقولين جميعا وحجة كل فريق منهم في باب ابن شهاب عن عروة وإنما جعل القران من باب التمتع لأن القارن متمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى وتمتع بجمعهما لم يحرم لكل واحدة من ميقاته وضم إلى الحج فدخل تحت قول الله عز وجل {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}

وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين الحج والعمرة إلا بسياق الهدي وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها

وأهل العراق يختارون البدنة ويستحبونها وتجزى عندهم عن القارن شاة وهو قول الشافعي وقد قال في بعض كتبه القارن أخف حالا من المتمتع فإن لم يجد القارن الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده حكمه في ذلك حكم المتمتع بالعمرة إلى الحج ومما يدلك على أن القران تمتع قول ابن عمر إنما جعل القران لأهل الآفاق وتلا {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقرن أو تمتع فعليه دم

وكان عبد الملك بن الماجشون يقول إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله تعالى إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع لا في القران

وقال مالك لا أحب لمكي أن يقرن بين الحج والعمرة وما سمعت أن مكيا قرن فإن فعل لم يكن عليه دم ولا صيام وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك

والوجه الثالث من التمتع هو الذي تواعد عليه عمر بن الخطاب الناس وقال متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما متعة النساء ومتعة الحج وقد تنازع العلماء بعده في جواز هذا الوجه هلم جرا وذلك أن يهل الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية فهذا هو الوجه الذي تواترت الآثار عن رسول الله فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه منهم هدي ولم يسقه وكان قد أحرم بالحج أن يجعلها عمرة

وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه ولم يدفعوا شيئا منها إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل نذكرها إن شاء الله

فجمهور أهل العلم على ترك العمل بها لأنها عنده خصوص خص بها رسول الله أصحابه في حجته تلك لعلة قالها ابن عباس رحمه الله قال العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر أو قالوا دخل صفر حلت العمرة لمن اعتمر ذكره ابن أبي شيبة عن أبي أسامة عن وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس.

قال أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا وهيب قال حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال كان أهل العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وكانوا يسمون المحرم صفر وكانوا يقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم رسول الله صبيحة رابعة فأمرهم أن يجعلوها عمرة فقالوا يا رسول الله أي الحل قال الحل كله

ففي هذا دليل على أن رسول الله إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها فكان ذلك له ولمن معه خاصة لأن الله قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من دخل فيهما أمرا مطلقا ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة واحتجوا من الحديث بما حدثنا به محمد بن إبرهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أنبأنا إسحاق بن إبرهيم عن عبد العزيز بن محمد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة فقال بل لنا خاصة

وحدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميدي حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال قلت يا رسول الله افسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا قال بل لنا خاصة

وحدثنا سعيد وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا حجاج بن منهال حدثنا أبو عوانة عن معاوية بن إسحاق عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال سئل عثمان بن عفان عن متعة الحج فقال كانت لنا ليست لكم

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن ابن ذر قال إنما كانت المتعة بالحج لأصحاب محمد خاصة

وقال أبو معاوية يعني أن يجعل الحج عمرة

وقال إسماعيل حدثنا حجاج حدثنا عبدالوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد قال أخبرني المرقع عن أبي ذر قال ما كانت لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخها بعمرة وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز والعراق والشام كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم وأكثر علماء التابعين وجمهور فقهاء المسلمين إلا شيء يروى عن ابن عباس وعن الحسن البصري وبه قال أحمد بن حنبل قال أحمد بن حنبل لا أرد تلك الآثار المتواترة الصحاح عن النبي في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر قال ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر ولو أجمعوا كان حجة وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا وذكر عن يحيى القطان عن الأجلح عن عبد الله بن أبي الهذيل قال كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل يزعم أنه مهل بالحج وأنه طاف بالبيت وبالصفا والمروة فقال له ابن عباس أنت معتمر فقال له الرجل لم أرد عمرة فقال أنت معتمر وروى ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير أنه قال لابن عباس أضللت الناس قال وما ذاك قال تفتي الناس إذا طافوا بالبيت فقد حلوا وقال أبو بكر وعمر من أحرم بالحج لم يزل محرما إلى يوم النحر فقال ابن عباس أحدثكم عن رسول الله وتحدثوني عن أبي بكر وعمر فقال عروة كانا أعلم برسول الله منك وذكر روح بن عبادة عن أشعث عن الحسن جواز فسخ الحج في العمرة

واحتج أحمد ومن قاله بهذا القول بقول سراقة بن مالك بن جعشم في حديث جابر "يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا أم للأبد قال رسول الله "بل للأبد" وهذا يحتمل أن يكون أراد وجوب ذلك مرة في الدهر والله أعلم

والوجه الرابع من المتعة متعة المحصر ومن صد عن البيت ذكر يعقوب بن شيبة أنبأنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب ويقول يا أيها الناس إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي وسنذكر وجوه ذلك في باب نافع عن ابن عمر إن شاء الله

وأما قول سعد صنعها رسول الله وصنعناها معه فليس فيه دليل على أن رسول الله تمتع لأن عائشة وجابرا يقولان أن رسول الله أفرد الحج ويقول أنس وابن عباس وجماعة قرن رسول الله وقال أنس سمعته يلبي بعمرة وحجة معا وقال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" ويحتمل قوله صنعها رسول الله بمعنى أذن فيها وأباحها وإذا أمر الرئيس بالشيء جاز أن يضاف فعله إليه كما يقال رجم رسول الله في الزنا وقطع في السرقة ونحو هذا ومن هذا المعنى قول الله عز وجل {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} أي أمر فنودي والله أعلم

ابن شهاب عن عبدالحميد بن عبد الرحمن القرشي العدوي الأعرج حديث واحد[عدل]

وهو عبدالحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل مدني ثقة مشهور ولي الكوفة لعمر بن عبد العزيز ولما ولاه عمر بن عبد العزيز الكوفة ضم إليه أبا الزناد يستكتبه واستقضى عبدالحميد على الكوفة الشعبي أيام امارته وكان فاضلا ناسكا روى عنه ابن شهاب والحكم بن عتيبة وابنه يزيد بن عبدالحميد وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وكان رحمه الله أعرج وصاحب شرطته أعرج فقال فيه الحكم بن عبدل الشاعر أبياتا منها قوله

وأميرنا وأمير شرطتنا معا ... لكليهما يا قومنا رجلان

مالك عن ابن شهاب عن عبدالحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام قال ابن عباس فقال عمر أدع لي المهاجرين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا عليه فقال بعضهم قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال ارتفعوا عني ثم قال أدع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين

واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال أدع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم له فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة فرارا من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجاته فقال إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله يقول "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" فحمد الله عمر ثم انصرف هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة

ورواه إبراهيم بن عمر بن أبي الوزير عن مالك عن ابن شهاب عن عبدالحميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أبيه عن ابن عباس وليس في الموطأ عن أبيه

ورواه ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن عبدالحميد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن ابن عباس لم يقل عن عبد الله بن عبد الله والذي في الموطأ عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث ورواية يونس عن ابن شهاب كما قال ابن وهب وأظنه دخل عليه لفظ أحدهما في الآخر

ورواية صالح بن نصر لهذا الحديث كما روى ابن وهب

وأما عبدالحميد فقد تقدم القول فيه

وأما عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل فمشهور روى عنه ابن شهاب أحاديث منها حديث الصدقة الحديث الطويل الذي فيه إنما الصدقة أوساخ الناس يرويه مالك وصالح بن كيسان وغيرهما عن ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث هذا عن عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ويروي عبد الله بن عبد الله هذا أيضا عن أبيه المعروف بببة قال سألت في إمارة عثمان وأصحاب رسول الله متوافرون عن صلاة الضحى روى هذا الخبر أيضا الزهري عنه عن أبيه

وقد اختلف عليه فيه فقيل عن عبد الله عن أبيه وقيل عن عبيد الله عن أبيه والصواب فيه إن شاء الله عبد الله وكذلك قال عبدالكريم أبو أمية ويزيد بن أبي زياد عنه في حديث صلاة الضحى فابن شهاب يروي عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث نفسه ويروي عن عبدالحميد بن عبد الرحمن عنه فاعلم

وأما محمد بن عبد الله أخو عبد الله بن عبد الله هذا فقد تقدم ذكره في الباب قبل هذا وأما أخوهما عبيد الله فمعروف أيضا عند أهل الأثر وأهل النسب وله ابن يسمى العباس ولهم عند أهل النسب أخوان أحدهما الصلت بن عبد الله بن الحارث بن نوفل كان من رجال قريش وكان عنده بنتان لعلي بن أبي طالب قال العدوي وكان فقيها

قال أبو عمر: أظنه كان له حظ من العلم ولا أحفظ له رواية وعون بن عبد الله بن الحارث وابنه الحارث بن عون كان جوادا وفيه يقول الشاعر

لولا ندى الحارث مات الندى ... وانقطع المسؤول والسائل

فأما قول الذهلي بأنه ببه كان له ثلاثة بنين فإنما أخذه من الأحاديث ولم يطالع ما قاله أهل النسب والله أعلم

وفي هذا الحديث من المعاني خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها وينظر إليها ويعرف أحوال أهلها وكان عمر رضي الله عنه قد خرج إلى الشام مرتين في قول بعضهم ومنهم من يقول لم يخرج إلا مرة واحدة وهي هذه والمعروف عندأهل السير أنه خرج إليها مرتين

ذكر خليفة عن ابن الكلبي قال لما صالح أبو عبيدة أهل حلب شخص وعلى مقدمته خالد بن الوليد فحاصرا أهل إيليا فسألوه الصلح على أن يكون عمر هو يعطيهم ذلك ويكتب لهم امانا فكتب أبو عبيدة إلى عمر فقدم عمر فصالحهم فأقام أياما ثم شخص إلى المدينة وذلك في سنة ست عشرة

قال أبو عمر: وكان خروجه المذكور في هذا الحديث سنة سبع عشرة قال خليفة بن خياط فيها خرج عمر بن الخطاب إلى الشام واستخلف على المدينة زيد بن ثابت وانصرف من سرغ وبها الطاعون وقد تقدم في باب ابن شهاب عن عبد الله بن عمر بن ربيعة في ذكر سرغ ومعنى الطاعون وأخبار في الفرار منه ما يغني عن تكراره هاهنا حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن يونس حدثنا بقي حدثنا ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر حدثنا هشام بن سعد قال حدثني عروة بن رويم عن القاسم عن عبد الله بن عمرو قال جئت عمر حين قدم الشام فوجدته قائلا في خبائه فانتظرته في فيء الخباء فسمعته حين تضور من نومه وهو يقول اللهم أغفر لي رجوعي من غزوة سرغ يعني حين رجع من أجل الوباء

وفيه استعمال الخليفة أمراء عددا في موضع واحد لوجوه يصرفهم فيها وكان عمر قد قسم الشام على أربعة أمراء تحت يد كل واحد منهم جند وناحية من الشام منهم أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وأحسب الرابع معاذ بن جبل كل واحد منهم على ناحية من الشام ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية وقد استخلف زيد بن ثابت مرات على المدينة في خروجه إلى الحج وما أظنه استخلف غير زيد بن ثابت قط في خروجه من المدينة إلا ما حكى عن أبي المليح أن عمر استخلف خالا له مرة واحدة على المدينة يقال له عبد الله

وأما عماله في أقطار الأرض فكثير وكان يعزل ويولي كثيرا لا حاجة بنا إلى ذكرهم هاهنا وإنما ذكرنا هذا لما في الحديث من ذكر أمراء الأجناد أبو عبيدة وأصحابه

وفيه دليل على إباحة العمل والولاية وأن لا بأس للصالحين والعلماء إذا كان الخليفة فاضلا عالما يأمر بالحق ويعدل

وفيه دليل على استعمال مشورة من يوثق بفهمه وعقله عند نزول الأمر المعضل

وفيه دليل على أن المسألة إذا كان سبيلها الاجتهاد ووقع فيها الاختلاف لم يجز لأحد القائلين فيها عيب مخالفه ولا الطعن عليه لأنهم اختلفوا وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبه اجتهاده ولا وجد عليه في نفسه إلى الله الشكوى وهو المستعان على أمة نحن بين أظهرها تستحل الأعراض والدماء إذا خولفت فيما تجيء به من الخطأ وفيه دليل على أن المجتهد إذا قاده اجتهاده إلى شيء خالفه فيه صاحبه لم يجز له الميل إلى قول صاحبه إذا لم يبن موقع الصواب فيه ولا قام له الدليل عليه

وفيه دليل على أن الإمام والحاكم إذا نزلت به نازلة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة كان عليه أن يجمع العلماء وذوي الرأي ويشاورهم فإن لم يأت واحد منهم بدليل كتاب ولا سنة غير اجتهاده كان عليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه

وفيه دليل على أن الاختلاف لا يوجب حكما وإنما يوجبه النظر وأن الإجماع يوجب الحكم والعمل

وفيه دليل على إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في النوازل والأحكام ألا ترى إلى قول أبي عبيدة لعمر رحمهما الله تعالى تفر من قدر الله فقال نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله ثم قال له أرأيت فقايسه وناظره بما يشبه في مسألته

وفيه دليل على أن الاختلاف إذا نزل وقام الحجاج فالحجة والفلج بيد من أدلى بالسنة إذا لم يكن من الكتاب نص لا يختلف في تأويله وبهذا أمر الله عباده عند التنازع أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه فمن كان عنده من ذلك علم وجب الانقياد إليه

وفيه دليل على أن الحديث يسمى علما ويطلق ذلك عليه ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن عوف عندي من هذا علم وفيه دليل على أن الخلق يجرون في قدر الله وعلمه وأن أحدا منهم أو شيئا لا يخرج عن حكمه وإرادته ومشيئته لا شريك له

وفيه أن العالم قد يوجد عند من هو في العلم دونه ما لا يوجد منه عنده لأنه معلوم أن موضع عمر من العلم ومكانه من الفهم ودنوه من رسول الله في المدخل والمخرج فوق عبد الرحمن بن عوف وقد كان في هذا الباب عند عبد الرحمن عنه عليه السلام ما جهله عمر

وهذا واضح يغني عن القول فيه

وقد جهل محمد بن سيرين حديث رجوع عمر من أجل الطاعون ذكر ابن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن ابن عون عن محمد قال ذكر له أن عمر رجع من الشام حين سمع بها وباء فلم يعرفه وقال إنما أخبر أن الصائفة لا تخرج العام فرجع

وفيه أن القاضي والإمام والحاكم لا ينفذ قضاء ولا يفصله إلا عن مشورة من بحضرته ويصل إليه ويقدر عليه من علماء موضعه وهذا مشهور من مذهب عمر رضي الله عنه

ذكر سيف بن عمر عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين قال عهد عمر إلى القضاة أن لا يصرموا القضاء إلا عن مشورة وعن ملا وتشاور فإنه لم يبلغ من علم عالم أن يجتزىء به حتى يجمع بين علمه وعلم غيره وتمثل خليلي ليس الرأي في صدر واحد أثيرا على اليوم ما يرياني

قال سيف وحدثنا سهل بن يوسف بن سهل بن مالك الأنصاري عن أبيه عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري قال بعث رسول الله معاذ بن جبل معلما لأهل اليمن وحضرموت قال "يا معاذ إنك تقدم على أهل كتاب وإنهم سائلوك" فذكر الحديث وفيه "ولا تقضين إلا بعلم وإن أشكل عليك أمر فسل واستشر فإن المستشير معان والمستشار مؤتمن وإن التبس عليك فقف حتى تتبين أو تكتب إلي ولا تصرمن قضاء فيما لم تجده في كتاب الله أو سنتي إلا عن ملا" وذكر تمام الخبر

وفيه دليل على عظيم ما كان عليه القوم من الإنصاف للعلم والانقياد إليه وكيف لا يكون كذلك وهم خير الأمم رضي الله عنهم

وفيه دليل على استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب العمل به وهذا هو أوضح وأقوى ما نرى من جهة الآثار في قبول خبر الواحد لأن ذلك كان في جماعة الصحابة وبمحضرهم في أمر قد أشكل عليهم فلم يقل لعبد الرحمن بن عوف أنت واحد والواحد لا يجب قبول خبره إنما يجب قبول خبر الكافة ما أعظم ضلال من قال بهذا والله عز وجل يقول {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقرئت فتثبتوا فلو كان العدل إذا جاء بنبأ يتثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى الفاسق والعدل وهذا خلاف القرآن قال الله عز وجل {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} والقول في خبر العدل من جهة النظر له موضع غير هذا وما التوفيق إلا بالله

وقد مضى في معنى الطاعون أخبار وتفسير في باب ابن شهاب عن عبد الله بن عامر لا معنى لتكرارها هاهنا والعرب تزعم أن الطاعون طعن من الشيطان وتسميه أيضا رماح الجن ولهم في ذلك أشعار لم أذكرها لأني على غير يقين منها وقد روى أن عمرو بن العاص قام في الناس في طاعون عمواس بالشام وقال إن هذا الطاعون قد ظهر وإنما هو رجز من الشيطان ففروا منه في هذه الشعاب فأنكر ذلك عليه معاذ بن جبل حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا دحيم حدثنا الوليد بن مسلم عن الوليد بن محمد عن الزهري قال أصاب الناس طاعون بالجابية فقام عمرو بن العاص وقال تفرقوا عنه فإنما هو بمنزلة نار فقام معاذ بن جبل فقال لقد كنت فينا ولأنت أضل من حمار أهلك سمعت رسول الله يقول "هو رحمة لهذه الأمة" اللهم فاذكر معاذا وآل معاذ فيمن تذكر بهذه الرحمة

قال دحيم حدثنا عفان عن شعبة عن يزيد بن خمير قال سمعت شرحبيل بن شفعة يحدث عن عمرو بن العاص قال وقع الطاعون بالشام فقال عمرو إنه رجس فتفرقوا عنه فقال شرحبيل سمعت رسول الله "يقول إنها رحمة بكم ودعوة نبيكم" أظنه أراد بقوله ودعوة نبيكم قوله "اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون" وقد ذكرنا هذا الخبر في مواضع من هذا الكتاب وروينا عن ابن مسعود أنه قال الطاعون فتنة على المقيم والفار أما الفار فيقول فررت فنجوت وأما المقيم فيقول أقمت فمت وكذبا فر من لم يجىء أجله وأقام من جاء أجله وقد مضى القول في الفرار من الطاعون في باب ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة والحمد لله

ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص حديث واحد[عدل]

وهو عامر بن سعد بن أبي وقاص واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري وقد ذكرنا أباه في كتابنا في الصحابة بما فيه كفاية وعامر هذا أحد ثقات التابعين وهم خمسة إخوة كلهم روى الحديث عامر بن سعد هذا سكن المدينة ومات بها سنة أربع ومائة وقيل أنه توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك ومصعب بن سعد سكن الكوفة ومات بها وروى عنه أهلها وكانت وفاته سنة ثلاث ومائة ومحمد بن سعد بن أبي وقاص خرج مع ابن الأشعث وقتله الحجاج وابنه إسماعيل بن محمد روى عنه العلم روى عنه مالك وغيره وموسى بن سعد روى عنه الحديث وعن ابنه مجاهد بن موسى وعمر بن سعد ولى قتل الحسين ثم قتله المختار بن أبي عبيد وقتل معه ابنه حفص بن عمر وأبو بكر بن حفص بن عمر أحد رواة الحديث وثقاتهم وفقهائهم وأهل العلم بالسير والخبر منهم وكل بني سعد من حملة العلم من التابعين

وفي هذا الحديث دليل على أن أي واحد منهم لم يدرك النبي لقوله "ولا ترثني إلا ابنة لي أو الا ابنتي" على ما روى من اختلاف ألفاظ نقلة حديثه هنا وذلك يومئذ لأنه توفي وله بنات ومرضه ذلك في حجة الوداع فيما ذكر أكثر أصحاب ابن شهاب عنه في هذا الحديث وقال فيه ابن عيينة عنه عام الفتح ولا أعلم أحدا من أصحاب الزهري قال ذلك فيه عنه غير ابن عيينة وسنذكر روايته في ذلك وقول من وافقه عليه من غير رواة ابن شهاب بعد في هذا الباب إن شاء الله

مالك عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال جاءني رسول الله يعودني عام حجة الوداع وبي وجع قد اشتد بي فقلت يا رسول الله قد بلغ مني الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا ترثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي قال "لا"

قلت فالشطر قال "لا" قلت الثلث قال "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في في امرأتك" قال قلت يا رسول الله اخلف بعد أصحابي قال "إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به رفعة ودرجة ولعلك إن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم" لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله إن مات بمكة

هذا حديث قد اتفق أهل العلم على صحة إسناده وجعله جمهور الفقهاء أصلا في مقدار الوصية وإنه لا يتجاوز بها الثلث إلا أن في بعض ألفاظه اختلافا عند نقلته فمن ذلك أن ابن عيينة قال فيه عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه مرضت عام الفتح انفرد بذلك عن ابن شهاب فيما علمت وقد روينا هذا الحديث من طريق معمر ويونس بن يزيد وعبد العزيز بن أبي سلمة ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن أبي عتيق وإبراهيم بن سعد فكلهم قال فيه عن ابن شهاب عام حجة الوداع كما قال مالك

حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا يونس بن عبدالأعلى وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل وأحمد بن زهير قالا حدثنا الحميدي قالا جميعا حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا الزهري قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال مرضت بمكة عام الفتح مرضا أشفيت منه فأتاني رسول الله يعودني فقلت يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس لي من يرثني إلا ابنتي أفأتصدق بمالي كله قال "لا" قال قلت أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال "لا" قلت فالشطر؟ قال "لا" قلت فالثلث؟ قال "الثلث والثلث كثير" وذكر الحديث قال يعقوب بن شيبة سمعت علي بن المديني وذكر هذا الحديث فقال قال معمر ويونس ومالك حجة الوداع وقال ابن عيينة عام الفتح قال والذين قالوا حجة الوداع أصوب

قال أبو عمر: لم أجد ذكر عام الفتح إلا في رواية ابن عيينة لهذا الحديث وفي حديث عمرو القاري رجل من الصحابة في هذا الحديث رواه عفان بن مسلم عن وهيب بن خالد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عمرو القاري عن أبيه عن جده عمرو القاري أن رسول الله قدم مكة عام الفتح فخلف سعدا مريضا حين خرج إلى حنين فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو وجع مغلوب فقال سعد يا رسول الله إن لي مالا وإني أورث كلالة أفأوصي بمالي كله أو أتصدق بمالي كله؟ قال "لا"

وذكر الحديث هكذا في حديث عمرو القاري أفأوصي على الشك أيضا وأما حديث ابن شهاب فلم يختلف عنه أصحابه لا ابن عيينة ولا غيره أنه قال فيه أفأتصق بمالي كله أو بثلثي مالي؟ ولم يقل أفأوصي فإن صحت هذه اللفظة قوله أفأتصدق كان في ذلك حجة قاطعة لما ذهب إليه جمهور أهل العلم في هبات المريض وصدقاته وعتقه أن ذلك من ثلثه لا من جميع ماله وهو قول مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد وعامة أهل الحديث والرأي وحجتهم حديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم ثم توفي "فأعتق رسول الله منهم اثنين وأرق أربعة"

وقالت فرقة من أهل النظر وأهل الظاهر منهم داود في هبة المريض أنها من جميع ماله والحجة عليهم شذوذهم عن السلف ومخالفة الجمهور وما ذكرنا في هذا الباب من حديث سعد وعمران بن حصين

وقد قال بعض أهل العلم أن عامر بن سعد هو الذي قال في حديث سعد أفأتصدق بثلثي مالي أو بمالي؟ وأما مصعب بن سعد فإنما قال أفأوصي ولم يقل أفأتصدق؟

والذي أقوله أن ابن شهاب هو الذي قال عن عامر بن سعد في هذا الحديث أفأتصدق؟ لأن غير ابن شهاب رواه عن عامر فقال فيه أفأوصي؟ كما قال مصعب بن سعد وهو الصحيح إن شاء الله

روى شعبة والثوري عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال جاء النبي يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال يرحم الله سعد بن عفراء قلت "يا رسول الله أفأوصي بمالي كله قال لا قلت فالشطر قال لا قلت فالثلث قال "الثلث والثلث كثير" وذكر تمام الحديث حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعد عن أبيه قال عادني رسول الله فقلت له أوصي بمالي كله؟ قال "لا" قلت فالنصف؟ قال "لا" قلت فالثلث؟ قال "نعم والثلث كثير"

فهذه الآثار في الوصية بالثلث

وأجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه إذا ترك ورثة من بنين أو عصبة

واختلفوا إذا لم يترك بنين ولا عصبة ولا وارثا بنسب أو نكاح فقال ابن مسعود إذا كان كذلك جاز له أن يوصي بماله كله وعن أبي موسى الأشعري مثله وقال بقولهما قوم منهم مسروق وعبيدة السلماني وبه قال إسحاق بن راهويه واختلف في ذلك قول أحمد

وذهب إليه جماعة من المتأخرين ممن يقول بقول زيد بن ثابت في هذه المسألة ومن حجتهم أن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء وهذا لا ورثة له فليس ممن عني بالحديث والله أعلم.

"ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا موسى أجاز وصية امرأة بمالها كله لم يكن لها وارث وعن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال لي ابن مسعود إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت ولا يدع عصبة ولا رحما فما يمنعه إذا كان ذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال "إذا مات الرجل وليس عليه عقد لأحد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء" وعن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق مثله وقال زيد بن ثابت لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه كان له بنون أو ورث كلالة أو ورثه جماعة المسلمين لأن بيت مالهم عصبة من لا عصبة له وبهذا القول قال جمهور أهل العلم وإليه ذهب جماعة فقهاء الأمصار إلا ما ذكرنا عن طوائف من المتأخرين من أصحابهم

وفي هذا الحديث تخصيص للقرآن لأنه أطلق الوصية ولم يقيدها بمقدار لا يتعدى وكان مراده عز وجل من كلامه ما بينه عنه رسوله قال الله عز وجل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يعني لتبين لهم مراد ربهم فيما أحتمله التأويل من كتابهم الذي نزل عليهم وسيأتي القول في حكم الوصية لغير الوالدين والأقربين في باب نافع وباب يحيى بن سعيد إن شاء الله وأجمع فقهاء الأمصار أن الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازها الورثة جازت وإن لم يجزها الورثة لم يجز منها إلا الثلث

وقال أهل الظاهر أن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز أجازها الورثة أو لم يجيزوها وهو قول عبد الرحمن بن كيسان وإلى هذا ذهب المزني لقول رسول الله لسعد حين قال له أوصي بشطر مالي؟ قال "لا" ولم يقل له إن أجازه ورثتك جاز وكذلك قالوا إن الوصية للوارث لا تجوز أجازها الورثة أو لم يجيزوها لقول رسول الله "ولا وصية لوارث" وسائر الفقهاء يجيزون ذلك إذا أجازها الورثة ويجعلونها هبة مستأنفة من قبل الورثة في الوجهين جميعا منهم مالك والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وفي قول رسول الله "الثلث كثير" دليل على أنه الغاية التي إليها تنتهي الوصية وإن ذلك كثير في الوصية وإن التقصير عنه أفضل ألا ترى إلى قول رسول الله بعقب قوله "الثلث كثير ولأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" فاستحب له الابقاء لورثته

وكره جماعة من أهل العلم الوصية بجميع الثلث ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال إذا كان ورثته قليلا وماله كثيرا فلا بأس أن يبلغ الثلث في وصيته واستحب طائفة منهم الوصية بالربع روى ذلك عن ابن عباس وغيره

وقال إسحاق بن راهويه السنة في الوصية الربع لقول رسول الله "الثلث كثير" إلا أن يكون رجل يعرف في ماله شبهات فيجوز له الثلث لا يجوز غيره

قال أبو عمر: لا أعلم لإسحاق حجة في قوله السنة في الوصية الربع وهذا الذي نزع به ليس بحجة في تسمية ذلك سنة

وقد روى عن أبي بكر الصديق أنه كان يفضل الوصية بالخمس وبذلك أوصى وقال رضيت لنفسي ما رضى الله لنفسه كأنه يعني خمس الغنائم واستحب جماعة الوصية بالثلث واحتجوا بحديث ضعيف عن النبي أنه قال "جعل الله لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم" وهو حديث انفرد به طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة وطلحة ضعيف روى عنه هذا الخبر وكيع وابن وهب وغيره ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز على حسب ما قدمنا ذكره

وقد روى معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال الثلث وسط لا غبن فيه ولا شطط وهذا لا ندري ما هو لأن الغاية ليست بوسط إلا أن يكون أراد حكم النبي بذلك وسط أي عدل والوسط العدل

وروى هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس قال لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله قال "الثلث والثلث كثير" فليتهم نقصوا إلى الربع

وقال قتادة الثلث كثير والقضاة يجيزونه والربع قصد وأوصى أبو بكر بالخمس

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال الثلث جهد وهو جائز

وعن معمر عن قتادة قال أوصى عمر رضي الله عنه بالربع وأوصى أبو بكر بالخمس وهو أحب إلي

وعن الثوري عن الأعمش عن إبرهيم قال كان الخمس أحب إليهم من الربع والربع أحب إليهم من الثلث

قال الثوري وأخبرني من سمع الحسن وأبا قلابة يقولان أوصى أبو بكر بالخمس

أخبرنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا ابن أبي داود قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا معاذ بن أيوب قال حدثنا إسماعيل بن علية قال حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد قال أوصاني أبي أن أسأل العلماء أي الوصية أعدل فما تتابعوا عليه فسألت فتتابعوا على الخمس

قال وأخبرنا ابن أبي داود قال حدثنا أحمد بن سنان قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم قال كانوا يقولون صاحب الربع أفضل من صاحب الثلث وصاحب الخمس أفضل من صاحب الربع يعني في الوصية

وأجمعوا أن الوصية ليست بواجبة إلا على من كانت عليه حقوق بغير بينة أو كانت عنده أمانة بغير شهادة فإن كان ذلك فواجب عليه الوصية فرضا لا يحل له أن يبيت ليلتين إلا وقد أشهد بذلك وأما التطوع فليس على أحد أن يوصي به إلا فرقة شذت فأوجبت ذلك والآية بإيجاب الوصية للوالدين والأقربين منسوخة وسنبين ذلك في باب نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا إن شاء الله

ولم يوص رسول الله ولو كانت الوصية واجبة كان أبدر الناس إليها رسول الله بل قال عليه الصلاة والسلام "أفضل الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت النفس الحلقوم قلت هذا لفلان وهذا لفلان" وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم النخعي أنه ذكر له أن الزبير وطلحة كانا يشددان على الرجل في الوصية فقال ما كان عليهما أن يفعلا توفي رسول الله فما أوصى وأوصى أبو بكر فإن أوصى فحسن وإن لم يوص فلا بأس

قال أبو عمر: ليس قول النخعي هذا بشيء لأن رسول الله لم يتخلف عنه ما يوصي فيه لأنه مخصوص بأن يكون كل ما يتركه صدقة

قال وحدثنا إسماعيل قال سمعت عبد الله بن عون يقول إنما الوصية بمنزلة الصدقة فأحب إلي إذا كان الموصى له غنيا عنها أن يدعها

وأما قول سعد في الحديث وأنا ذو مال ففيه دليل على أنه لو لم يكن ذا مال ما أذن له رسول الله في الوصية والله أعلم ألا ترى إلى قوله "لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" وقد منع علي بن أبي طالب أو ابن عمر مولى لهم من أن يوصي وكان له سبع مائة درهم وقال إنما قال الله تبارك وتعالى إن ترك خيرا وليس لك كبير مال

وروى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال لا يجوز لمن كان ورثته كثيرا وماله قليلا أن يوصي بثلث ماله

قال وسئل ابن عباس عن ثمانمائة درهم فقال قليل وسئلت عائشة عن رجل له أربع مائة درهم وله عدة من الولد فقالت ما في هذا فضل عن ولده

وفي هذا الحديث أيضا عيادة العالم والخليفة وسائر الجلة للمريض وفيه دليل على أن الأعمال لا تزكو عند الله إلا بالنيات لقوله "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها" فدل على أنه لا يؤجر على شيء من الأعمال إلا ما ابتغى به وجهه تبارك وتعالى

وفيه دليل على أن الانفاق على البنين والزوجات من الأعمال الصالحات وإن ترك المال للورثة أفضل من الصدقة به إلا لمن كان واسع المال والأصول تعضد هذا التأويل لأن الانفاق على من تلزمه نفقته فرض وأداء الفرائض أفضل من التطوع

ولو استدل مستدل على وجوب نفقات الزوجات بهذا الحديث لكان مذهبا لقوله "حتى ما تجعل في في امرأتك"

وأما قول سعد أخلف بعد أصحابي فمعناه عندي والله أعلم اخلف بمكة بعد أصحابي المهاجرين المنصرفين إلى المدينة ويحتمل أن يكون لما سمع رسول الله يقول "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله" وتنفق فعل مستقبل أيقن أنه لا يموت من مرضه ذلك أو ظن ذلك فاستفهمه هل يبقى بعد أصحابه فأجابه رسول الله بضرب من قوله "لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله" وهو قوله "إنك إن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به رفعة ودرجة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون" وهذا كله ليس بتصريح ولكنه قد كان كما قاله وصدق في ذلك ظنه وعاش سعد حتى انتفع به أقوام واستضر به آخرون

وروى ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن وعثمان قال سألت عامر بن سعد بن أبي وقاص عن قول رسول الله لأبيه عام حجة الوداع "ولعلك إن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون" فقال أمر سعد على العراق فقتل قوما على ردة فأضر بهم واستتاب قوما سجعوا سجع مسيلمة فتابوا فانتفعوا

قال أبو عمر: مما يشبه قول رسول الله لسعد هذا الكلام قوله للرجل الشعث الرأس ماله ضرب الله عنقه فقال الرجل في سبيل الله فقال رسول الله "في سبيل الله" فقتل الرجل في تلك الغزاة"

ومثله قوله في غزوة مؤتة "أميركم زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحه" فقال بعض أصحابه نعى إليهم أنفسهم فقتلوا ثلاثتهم في تلك الغزاة

ومثل ذلك أيضا قصة عامر بن سنان حين ارتجز برسول الله في سيره إلى خيبر فقال له رسول الله "غفر لك ربك يا عامر" فقال له عمر يا رسول الله لو امتعتنا به قال وذلك أنه ما استغفر لإنسان قط يخصه بذلك إلا استشهد فاستشهد عامر يوم خيبر وهذا كله ليس بتصريح من رسول الله في القول ولا تبيين في المراد والمعنى ولكنه كان يخرج كله كما ترى وقد خلف سعد بن أبي وقاص بعد حجة الوداع نحو خمس وأربعين سنة وتوفي سنة خمس وخمسين وقد ذكرنا أخباره وسيره وطرفا من فضائله في كتابنا في الصحابة فأغنى عن ذكره هاهنا

وفيه دليل على أن المهاجر لا يجوز له المقام بالأرض التي هاجر منها أكثر مما وقت له وذلك ثلاثة أيام وذلك محفوظ في حديث العلاء بن الحضرمي أن رسول الله جعل للمهاجرين ثلاثة أيام بعد الصدر وهذه الهجرة هي التي كان يحرم بها على المهاجر الرجوع إلى الدار التي هاجر منها وقالت عائشة إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبي بالمدينة ليفر الرجل بدينه إلى رسول الله وروى ابن عباس أن رسول الله قال يوم الفتح "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" رواه مجاهد عن طاوس عن ابن عباس وقد جاءت أحاديث ظاهرها في الهجرة على خلاف هذه منها حديث عبد الله بن وقدان القرشي وكان مسترضعا في بني سعد قال قال رسول الله "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار"

وروى ابن محيريز عن عبد الله بن السعدي عن النبي مثله

ومنها حديث معاوية أن النبي قال "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"

قال أبو جعفر الطحاوي هذه الهجرة هجرة المعاصي غير الهجرتين الأوليين كما روى الزهري عن صالح بن بشير بن فديك قال خرج فديك إلى رسول الله فقال يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك فقال رسول الله "يا فديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من أرض قومك حيث شئت تكن مهاجرا"

وقال الحكم بن عتيبة أفضل الجهاد والهجرة كلمة عدل عند إمام جائر

وقد قيل أنه لم تكن هجرة مفترضة بالجملة على أحد إلا على أهل مكة فإن الله عز وجل افترض عليهم الهجرة إلى نبيهم حتى فتح عليه مكة فقال حينئذ "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" فمضت الهجرة على أهل مكة من كان مهاجرا لم يجز له الرجوع إلى مكة واستيطانها وترك رسول الله بل افترض عليهم المقام معه فلما مات افترقوا في البلدان وقد كانوا يعدون من الكبائر أن يرجع أعرابيا بعد هجرته

وهذا الحديث يدل على قوله لا هجرة بعد الفتح أي لا هجرة مبتداة يهجر بها المرء وطنه هجرانا لا ينصرف إليه من أهل مكة قريش خاصة بعد الفتح وأما من كان مهاجرا منهم فلا يجوز له الرجوع إليها على حال من الأحوال ويدع رسول الله

وهذا بين مما ذكرنا إن شاء الله

وقد بقي من الهجرة باب باق إلى يوم القيامة وهو المسلم في دار الحرب إذا أطاقت أسرته أو كان كافرا فأسلم لم يحل له المقام في دار الحرب وكان عليه الخروج عنها فرضا واجبا قال رسول الله "أنا برىء من كل مسلم مع مشرك" وكيف يجوز لمسلم المقام في دار تجرى عليه فيها أحكام الكفر وتكون كلمته فيها سفلى ويده وهو مسلم هذا لا يجوز لأحد

وفيه دليل على قطع الذرائع في المحرمات لأن سعدا وإن كان مريضا فربما حمل غيره حب الوطن على دعوة المرض فلذلك قال رسول الله "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ولكن البائس سعد بن خولة"

وقوله يرثي له رسول الله إن مات بمكة من قول ابن شهاب "حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن أبي العوام حدثنا يونس بن هارون أخبرنا سفيان بن حسين عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله عاده في مرضه بمكة فقال يا رسول الله إني أدع مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بمالي كله قال "لا" قال فنصفه قال "لا" قال فبثلثه قال "الثلث والثلث كثير سعد انك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وإنك توجر في نفقتك كلها حتى فيما تجعل في في امرأتك" قال يا رسول الله إني أرهب أن أموت في الأرض التي هاجرت منها فادع الله لي "قال اللهم اشف سعدا اشف سعدا" قال يا رسول الله أأخلف عن هجرتي قال "إنك عسى أن تخلف ولعلك أن تعيش بعدي حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم" لكن البائس سعد بن خولة

وفي قول سعد في هذا الحديث أرهب أن أموت في الأرض التي هاجرت وقول النبي "اللهم امض لأصحابي هجرتهم" دليل على أنه إنما يحزن على سعد بن خولة لأنه مات في الأرض التي هاجر منها لا أنه لم يهاجر كما ظن بعض من لا يعلم ذلك لأن سعد بن خولة ممن شهد بدرا عند جماعة أهل العلم والسير والخبر على أنه قد روى ذلك أيضا نصا

وقد روى جرير بن حازم قال حدثني عمي جرير بن يزيد عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرضت بمكة فأتاني رسول الله يعودني فقلت يا رسول الله أموت بأرضي التي هاجرت منها ثم ذكر معنى حديث ابن شهاب هذا وفي آخره لكن سعد بن خولة البائس قد مات في الأرض التي هاجر منها حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عبد الرحمن الأعرج قال خلف النبي على سعد رجلا فقال "إن مات بمكة فلا تدفنه بها"

قال سفيان لأنه كان مهاجرا" وروى سفيان بن عيينة عن محمد بن قيس عن أبي بردة عن سعد بن أبي وقاص قال سألت النبي أتكره للرجل أن يموت في الأرض التي هاجر منها قال "نعم" وقال فضيل بن مرزوق سألت إبرهيم عن الجوار بمكة فرخص فيه وقال إنما كره لئلا يغلو السعر وكره لمن هاجر أن يقيم بها حدثنا خلف بن القاسم حدثنا أحمد بن المفسر حدثنا أحمد بن علي حدثنا يحيى بن معين حدثنا وكيع عن عبد الله بن سعد عن أبيه عن ابن عمر قال كان رسول الله إذا قدم مكة قال "اللهم لا تجعل منايانا بها حتى تخرجنا منها" لأنه كان مهاجرا

وأما سعد بن خولة فرجل من بني عامر بن لؤي وقد قيل أنه حليف لهم وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة بما فيه كفاية

حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثنا الحسن بن علية وإسحاق بن إبراهيم بن جابر قالا حدثنا يحيى بن بكير قال حدثني الليث عن يزيد بن أبي حبيب قال توفي سعد بن خولة في حجة الوداع

ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن حديثان أحدهما مرسل ثم أكثر الرواة عن مالك[عدل]

وهو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة قرشي مخزومي ذكرنا نسبه ثم ذكر الحارث ابن هشام في كتابنا في الصحابة فأغنى عن ذكره هاهنا

وأبو بكر هذا أحد فقهاء التابعين بالمدينة العشرة الذين كان عليهم مدار الفتوى في زمانهم وقد ذكرناهم ولد في خلافة عمر بن الخطاب وأمه فاخته بنت عقبة بن سهيل بن عمرو قرشية عامرية واسمه كنيته وقد قيل أن اسمه المغيرة ولا يصح والصحيح أن اسمه كنيته واستصغر يوم الجمل فرد من الطريق هو وعروة بن الزبير وكان يقال له راهب قريش لكثرة صلاته وعبادته وقال مالك رحمه الله ما بلغني أن أحدا من التابعين اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن وذلك لشدة الاعتكاف فيما أرى والله أعلم

وكان عبد الملك بن مروان مكرما لأبي بكر هذا مجلا له وأوصى الوليد وسليمان بإكرامه وقال عبد الملك إني لأهم بالشيء أفعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا فأذكر أبا بكر فأستحي منه وأدع ذلك الأمر

وكان موته فجأة ويقولون أنه صلى العصر ثم دخل مغتسله فسقط وكان قد كف بصره فجعل يقول والله ما أحدثت في صدر نهاري شيئا فما غربت الشمس حتى مات وذلك سنة أربع وتسعين بالمدينة.

وفي هذه السنة توفي جماعة من الفقهاء منهم علي بن حسين وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير ذكر هذه الجملة من خبره الواقدي والطبري ومصعب الزبيري وذكر الحسن الحلواني قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثني يحيى بن سعيد أن عروة بن الزبير كان يستودع أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأنه استودعه عشرين ألف دينار فسرقت فاتهم بها أبو بكر بن عبد الرحمن امرأة من العرب كانت عندهم فحذرها واشتد عليها وخوفها فاعترفت بأنها أخذتها وأنها عندها وأنها تؤديها فأرسل أبو بكر بن عبد الرحمن إلى مشايخ من قريش فأشهدهم على اعترافها وفيه القاسم بن محمد وهو يومئذ من أحدثهم سنا فخلى سبيلها فلما خرجت من داره وأمنت قالت ما أخذت من ذلك قليلا ولا كثيرا فخاصمها إلى أبان بن عثمان وهو أمير المدينة فسأل الشهود عن شهادتهم فشهدوا أنها اعترفت بعشرين ألف دينار وأنها مؤديتها فسألهم رجلا رجلا حتى بلغ القاسم بن محمد فقال ماذا تشهد به يا قاسم فقال أشهد أن أبا بكر دعانا لنشهد على هذه المرأة وهي في الحديد ظاهرا عليها الضرب فاعترفت بأنها أخذت العشرين ألفا فأقبل أبان على المشايخ فقال أكان أمرها على ما ذكر القاسم قالوا نعم قال فما منعكم أن تقولوا كما قال فلولا مكانه لقضيت عليها بعشرين ألف دينار يا قاسم جئت والله بالشهادة على وجهها كما قال الله عز وجل قال فارتفع أمر القاسم من يومئذ على الناس وفطنوا لفضله وكان المال لولد مصعب بن الزبير فباع أبو بكر ماله بعشرين ألفا حتى أداها إلى عروة فقال له عروة والله ما عليك منها شيء إنما أنت مستودع فأبى أبو بكر إلا أن يغرمها

وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب بن خالد عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي عن عمر بن عبد الرحمن أن أخاه أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان يصوم الدهر ولا يفطر قال وحدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال رددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام من الطريق يوم الجمل استصغرنا وإياه عنى عبيد الله بن عبد الله بقوله شهيدي أبو بكر فنعم شهيد

في أبيات أذكرها في باب عبيد الله إن شاء الله تعالى

حديث أول لابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن مسند[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي مسعود الأنصاري قال "نهى رسول الله عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"

وقع في نسخة موطأ يحيى وعن أبي مسعود الأنصاري وهذا من الوهم البين والغلط الواضح الذي لا يعرج على مثله والحديث محفوظ في جميع الموطآت وعند رواة ابن شهاب كلهم لأبي بكر عن أبي مسعود وأما لابن شهاب عن أبي مسعود فلا يلتفت إلى مثل هذا لأنه من خطأ اليد وسوء النقل وأبو مسعود هذا اسمه عقبة بن عمرو ويكنى أبا مسعود أنصاري يعرف بالبدري لأنه كان يسكن بدرا

واختلف في شهوده بدرا وقد ذكرناه في كتاب الصحابة بما فيه كفاية

وحدثنا خلف بن قاسم حدثنا محمد بن أحمد بن كامل وعمر بن محمد بن القاسم ومحمد بن أحمد بن المسور قالوا حدثنا أبو بكر بن سهل حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي مسعود الأنصاري "أن رسول الله نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"

قال أبو عمر: في هذا الحديث ما اتفق عليه وفيه ما اختلف فيه فأما مهر البغي والبغي الزانية ومهرها ما تأخذ على زناها فمجتمع على تحريمه تقول العرب بغت المرأة إذا زنت تبغي بغاء فهي بغي وهن البغايا قال الله عز وجل {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} يعني زانية وقال {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} يعني الزنا وهو مصدر

وأما حلوان الكاهن فمجتمع أيضا على تحريمه قال مالك وهو ما يعطى الكاهن على كهانته والحلوان في كلام العرب الرشوة والعطية تقول منه حلوت الرجل حلوانا إذا رشوته بشيء.

قال أوس بن حجر:

أني حلوت الشعر يوم مدحته ... صفا صخرة صماء يبس بلالها

وقال غيره:

فمن رجل أحلوه رحلي وناقتي ... يبلغ عني الشعر إذ مات قائله

وأما ثمن الكلب فمختلف فيه فظاهر هذا الحديث يشهد لصحة قول من نهى عنه وحرمه وأما اختلاف العلماء في ذلك فقال مالك في موطأه أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري لنهي رسول الله عن ثمن الكلب

قال أبو عمر: روى عن النبي أنه نهى عن ثمن الكلب من خمسة أوجه من حديث علي بن أبي طالب وابن عامر وأبي مسعود وأبي هريرة وأبي جحيفة قال مالك لا يجوز بيع شيء من الكلاب ويجوز أن يقتني كلب الصيد والماشية وقد روى عن مالك إجازة بيع كلب الصيد والزرع والماشية فوجه إجازة بيع كلب الصيد وما أبيح اتخاذه من الكلاب أنه لما قرن ثمنها في الحديث مع مهر البغي وحلوان الكاهن وهذا لا إباحة في شيء منه فدل على أن الكلب الذي نهى عن ثمنه ما لم يبح اتخاذه ولم يدخل في ذلك ما أبيح اتخاذه والله أعلم

ووجه النهي عن ثمن الضاري وغير الضاري من الكلاب عموم ورود النهي عن ثمنها وأن ما أمر بقتله معدوم وجوده منها ولا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه القيمة وأن من قتل كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا زرع فلا شيء عليه قال مالك وإذا لم يسرح كلب الدار مع الماشية فلا شيء على قاتله

وقال أبو حنيفة وأصحابه بيع الكلاب جائز إذا كانت لصيد أو ماشية كما يجوز بيع الهر

وذكر محمد بن الحسن عن أسد بن عمرو عن أبي حنيفة فيمن قتل كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية قال عليه قيمته كلها إذا استأنست وانتفع بها وكذلك كل ذي مخلب من الطير

وقال الشافعي لا يجوز بيع الكلاب كلها ولا شيء منها على حال كان لصيد أو لغير صيد ولا شيء على من قتل كلبا من قيمة ولا ثمن وسواء كان كلب صيد أو ماشية أو زرع أو لم يكن وحجته نهى رسول الله عن ثمن الكلب قال وما لا ثمن له فلا قيمة فيه إذا قتل واحتج بأمر رسول الله بقتلها وقال ولو كانت الكلاب مما يجوز تموله وملكه والانتفاع به لم يأمر رسول الله بقتلها لأن في ذلك إضاعة الأموال وتلفها وهذا لا يجوز أن يضاف إليه وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله "أمر بقتل الكلاب وأرسل في أقطار المدينة لتقتل"

ذكره ابن أبي شيبة عن أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال "أمر رسول الله بقتل الكلاب" وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا جعفر بن محمد حدثنا عفان حدثنا حماد حدثنا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله "أمر بقتل الكلاب حتى إن المرأة لتدخل بالكلب فما تخرج حتى يقتل"

وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة قال حدثنا عبيد الله يعني ابن عمر عن عبد الرحمن عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس قال "نهى رسول الله عن ثمن الكلب" قال ان جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا

وأخبرنا عبد الله حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب قال حدثنا معروف الجذامي أن علي بن رباح اللخمي حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله "لا يحل ثمن الكلب ولا مهر البغي" وقد روى حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله نهى عن ثمن الكلب والسنور

وهذا لم روه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي مثله قال "نهى رسول الله عن ثمن الكلب والسنور" وحديث أبي سفيان عن جابر لا يصح لأنها صحيفة

ورواية الأعمش في ذلك عندهم ضعيفة كلما أبيح اتخاذه والانتفاع به وفيه منفعة فثمنه جائز في النظر إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له مما لا معارض له فيه وليس في السنور شيء صحيح وهو على أصل الإباحة وبالله التوفيق

وأجاز الشافعي بيع كل ما فيه منفعة في حياته نحو الفهد والجوارح المعلمة حاشا الكلب

وقال ابن القاسم يجوز بيع الفهود والنمور والذئاب إذا كانت تذكى لجلودها لأن مالكا يجيز الصلاة عليها إذا ذكيت

وقال الحسن بن حي من قتل كلبا أو بازيا فعليه القيمة روى عن جابر بن عبد الله أنه جعل في كلب الصيد القيمة وعن عطاء مثله وعن ابن عمر أنه أوجب فيه أربعين درهما وأوجب في كلب ماشية فرقا من طعام وعن عثمان أنه أجاز الكلب الضاري في المهر وجعل على قاتله عشرا من الإبل

قال أبو عمر: احتج من أجاز بيع الكلب بحديث عبد الله بن المغفل قال أمر رسول الله بقتل الكلاب ثم قال "ما لي وللكلاب" ثم رخص في كلب الصيد وكلب آخر فجعلوا نهيه في ذلك منسوخا بإباحته وقالوا في هذا الحديث أن كلب الصيد وغيره كان مما أمر بقتله فكان بيعه ذلك الوقت والانتفاع به حراما وكان قاتله مؤديا للفرض عليه فلما نسخ ذلك وأبيح الاصطياد به كان كسائر الجوارح في جواز بيعه وزعموا أن من هذا الباب نهيه عن كسب الحجام وقوله "أنه خبيث" ثم لما أعطى الحجام أجره كان ناسخا لمنعه وقد ذكرنا القول في كسب الحجام في باب حميد الطويل من كتابنا هذا وبالله التوفيق

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبدالسلام قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن أبي التياح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن مغفل "أن رسول الله أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الزرع وكلب الصيد وقال إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات واعفروه الثانية بالتراب"

وذكر ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال "سمعت رسول الله رافعا صوته يأمر بقتل الكلاب فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد أو ماشية"

ففي هذه الأحاديث ما يدل على أن الكلاب التي أذن في اتخاذها لم يؤذن في قتلها وقد قيل أن قتل الكلاب كلها منسوخ وسيأتي القول في ذلك في باب نافع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى

حديث ثان لابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسل يتصل من وجوه[عدل]

مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله قال "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء"

هكذا هو في جميع الموطئات التي رأينا وكذلك رواه جميع الرواة عن مالك فيما علمنا مرسلا إلا عبد الرزاق فإنه رواه عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي فأسنده وقد اختلف في ذلك عن عبد الرزاق

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن قاسم قال حدثنا مالك بن عيسى قال حدثنا عبد الله بن بركة الصنعاني قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة عن النبي قال "أيما رجل باع متاعا فأفلس المبتاع ولم يقبض من الثمن شيئا فإن وجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها وإن مات المشتري فهو أسوة الغرماء

وكذلك رواه محمد بن علي وإسحاق بن إبراهيم بن جوى الصنعانيان عن عبد الرزاق عن مالك بهذا الإسناد مسندا عن أبي هريرة عن النبي ورواه محمد بن يوسف الحذامي وإسحاق بن إبراهيم البيري عن عبد الرزاق عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن النبي مرسلا كما في الموطأ ليحيى وغيره وذكر الدارقطني أنه قد تابع عبد الرزاق على إسناده عن مالك أحمد بن موسى وأحمد بن أبي طيبة وإنما هو في الموطأ مرسل

قال أبو عمر: واختلف أصحاب ابن شهاب عليه في هذا الحديث أيضا نحو الاختلاف على مالك فرواه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد ومعمر بن راشد عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن النبي مرسلا كما في الموطأ ورواه موسى بن عقبة عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي مسندا حدث به هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة عن النبي قال "أيما رجل باع سلعة فوجدها بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء" ذكره بقي بن مخلد ومحمد بن يحيى النيسابوري وغيرهما عن هشام هكذا

وإسماعيل بن عياش فيما روى عن أهل المدينة ليس بالقوي ورواه الزبيدي واسمه محمد بن الوليد حمصي يكنى أبا الهذيل عن الزهري عن أبي بكر عن أبي هريرة مسندا كما رواه موسى بن عقبة حدث به عبد الله بن عبدالجبار الخبائري قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن الزبيدي ذكر أبو داود قال حدثنا محمد بن عوف الطائي قال حدثنا عبد الله بن عبدالجبار الخبائري قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن الزبيدي فذكره

وذكره ابن الجارود حدثنا محمد بن عوف حدثنا عبد الله بن عبدالجبار حدثنا إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله قال "أيما رجل باع سلعة وأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ولم يقبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قضاه من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء"

فجمع إسماعيل بن عياش حديث موسى بن عقبة وحديث الزبيدي جميعا وإنما ذكر أبو داود روايته عن الزبيدي لأنه من أهل بلده وحديثه عنهم مقبول عند أكثر أهل العلم بالحديث وحديثه عن غير أهل بلده فيه تخليط كثير فهم لا يقبلونه

وفي رواية الزبيدي بعد قوله فإن كان قضاه من ثمنها شيئا فما بقي فهو أسوة الغرماء قال وأيما امرىء هلك وعنده متاع امرىء بعينه اقتضى منه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء قال وقد روى هذا الحديث عن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهو خطأ والله أعلم وإنما يحفظ للزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن لا عن أبي سلمة

أخبرنا سعيد بن عثمان حدثنا أحمد بن دحيم حدثنا أبو عروبة الحسين بن محمد الحراني حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا اليمان بن عدي قال أخبرنا الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال النبي "أيما رجل أفلس وعنده مال امرىء بعينه اقتضى منه شيئا أو لم يقتض منه شيئا فهو أسوة الغرماء"

قال أبو عمر: ليس هذا الحديث محفوظا من رواية أبي سلمة وإنما هو معروف لأبي بكر بن عبد الرحمن وقد تكون رواية من أسنده عن ابن شهاب عن أبي بكر عن أبي هريرة صحيحة لأن يحيى بن سعيد يروي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة عن النبي في التفليس مثله سواء إلا أنه لم يذكر الموت ولا حكمه وفي حديث ابن شهاب أن الغريم في الموت أسوة الغرماء وإن وجد ماله بعينه وروى بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي مثله في التفليس ولم يذكر حكم الموت والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت

وحدثنا أبو عبد الله محمد بن رشيق قال حدثنا المغيرة بن عمر العدني بمكة قال حدثنا أحمد بن زيد بن هارون قال حدثنا عبدالأعلى بن حماد قال حدثنا حماد بن سلمة قال حدثنا قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة أن رسول الله قال "إذا أفلس الرجل فوجد غريمه متاعه بعينه فهو أحق به" وروى أيوب وابن عيينة وابن جريج عن عمرو بن دينار عن هشام بن يحيى عن أبي هريرة أن النبي قال "إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء"

وحديث التفليس هذا من رواية الحجازيين والبصريين حديث صحيح عند أهل النقل ثابت وأجمع فقهاء الحجازيين وأهل الأثر على القول بجملته وإن اختلفوا في أشياء من فروعه ودفعه من أهل العراق أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين وردوه وهو مما يعد عليهم من السنن التي ردوها بغير سنة صاروا إليها وأدخلوا النظر حيث لا مدخل له فيه ولا مدخل للنظر مع صحيح الأثر

وحجتهم أن السلعة ملك المشتري وثمنها في ذمته فغرماؤه أحق بها كسائر ماله وهذا ما لا يخفى على أحد لولا أن صاحب الشريعة جعل لصاحب السلعة إذا وجدها بعينها أخذها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}

ولو جاز أن ترد مثل هذه السنة المشهورة عند علماء المدينة وغيرهم بأن الوهم والغلط ممكن فيها لجاز ذلك في سائر السنن حتى لا تبقى بأيدي المسلمين سنة إلا قليل مما اجتمع عليه وبالله التوفيق

ذكر الحسن الحلواني قال حدثنا بشر بن عمر قال سمعت مالك بن أنس كثيرا إذا حدث عن النبي بحديث فيقال له وما تقول أنت أو رأيك فيقول مالك {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

قال أبو عمر: من أقبح ما جاء به أهل الكوفة في هذه المسألة دعواهم أن ذلك في الودائع والأمانات وهذا تجليح وتصريح برد السنة بالرأي لأن في حديث هذا الباب قوله من باع متاعا فأفلس المبتاع فذكر البيع من وجوه كثيرة بألفاظ البيع والابتاع لا بوديعة ولا بشيء من الأمانات وهذا لا خفاء به على من استحيى ونصح نفسه وبالله التوفيق لا بأحد سواه

وهذه السنة أصل في نفسها فلا سبيل أن ترد إلى غيرها لأن الأصول لا تنقاس وإنما تنقاس الفروع ردا على أصولها وممن قال بهذا الحديث واستعمله وأفتى به فقهاء المدينة وفقهاء الشام وفقهاء البصرة وجماعة أهل الحديث ولا أعلم لأهل الكوفة سلفا في هذه المسألة إلا ما رواه قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي قال هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها وروى الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال هو والغرماء فيه شرع سواء وأحاديث خلاس عن علي يضعفونها والواجب كان على إبراهيم النخعي الرجوع إلى ما عليه الجماعة فكيف أن يتبع ويقلد والله المستعان

واختلف مالك والشافعي في المفلس يأبى غرماؤه دفع السلعة إلى صاحبها وقد وجدها بعينها ويريدون دفع الثمن إليه من قبل أنفسهم لما لهم في قبض السلعة من الفضل فقال مالك ذلك لهم وليس لصاحب السلعة أخذها إذا دفع إليه الغرماء الثمن

وقال الشافعي ليس للغرماء في هذا مقال قال وإذا لم يكن للمفلس ولا لورثته أخذ السلعة لأن رسول الله جعل صاحبها أحق بها منهم فالغرماء أبعد من ذلك وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها وإن شاء تركها وضرب مع الغرماء بثمنها

وبهذا قال أبو ثور وأحمد بن حنبل وجماعة

واختلف مالك والشافعي أيضا إذا اقتضى صاحب السلعة من ثمنها شيئا فقال ابن وهب وغيره عن مالك إن أحب صاحب السلعة أن يرد ما قبض من الثمن ويقبض سلعته كان ذلك له وإن أحب أن يخلص الغرماء كان ذلك له

وقال أشهب سئل مالك عن رجل باع من رجل عبدين بمائة دينار وانتقد من ذلك خمسين وبقيت على الغريم خمسون ثم أفلس غريمه فوجده عنده بائع العبدين منه أحد عبديه بعينه وفات الآخر فأراد أخذه بالخمسين له على غريمه وقال الخمسون التي أخذت ثمن العبد الذاهب وقال الغرماء بل الخمسون التي أخذت ثمن هذا فقال مالك إن كانت قيمة العبدين سواء رد نصف ما اقتضى وهو خمسة وعشرون دينارا وأخذ العبد وذلك أنه من ثمن كل عبد خمسة وعشرون دينارا فليس عليه أن يرد إلا ما اقتضى قال ولو كان باعه عبدا واحدا بمائة دينار فاقتضى من ثمنه خمسين دينار رد الخمسين إن أحب وأخذ العبد وكذلك العمل في روايا الزيت وغيرها على هذا القياس

وقال الشافعي لو كانت السلعة عبدا فأخذ نصف ثمنه ثم أفلس الغريم كان له نصف العبد لأنه بعينه وبيع النصف الثاني الذي بقي للغريم لغرمائه ولا يرد شيئا مما أخذ لأنه مستوف لما أخذ ولو زعمت أنه يرد شيئا مما أخذ جعلت له أن يرد الثمن كله لو أخذه ويأخذ سلعته ومن قال هذا فقد خالف السنة والقياس وقال في المسألة التي ذكرناها عن أشهب عن مالك أن صاحب العبد أحق به من الغرماء إذا كانت قيمة العبدين سواء من قبل أنه وجد عين ماله بعينه عند معدم والذي قبض من الثمن إنما هو بدل لما فات إذا كانت القيمة سواء ثم يأخذ عين ماله لأنه لم يقبض منه شيئا

وقال جماعة من العلماء إذا اقتضى من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء وسواء كانت السلعة شيئا واحدا أو أشياء كثيرة

وبهذا قال أحمد بن حنبل وحجته ما ذكر في الحديث المذكور في هذا الباب قوله "فلم يقبض البائع من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء" فجعل شرط كونه أحق بها إذا لم يقبض من ثمنها شيئا فوجب أن يكون حكمه إذا قبض من ثمنها شيئا بخلاف ذلك ومسائل التفليس كثيرة وفروعها جمة نحو تغير السلعة عنده بزيادة أو نقصان أو ولادة الحيوان أو خلطها بغيرها أو اختلاف سوقها وليس يصلح بنا في هذا الموضع ذكرها واختلف مالك والشافعي أيضا في المفلس يموت قبل الحكم عليه وقبل توقيفه فقال مالك ليس حكم الفلس كحكم الموت وبائع السلعة إذا وجدها بعينها أسوة الغرماء في الموت بخلاف الفلس وبهذا قال أحمد بن حنبل وحجة من قال بهذا القول حديث ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن المذكور في هذا الباب وفيه النص على الفرق بين الموت والفلس وهو قاطع لموضع الخلاف ومن جهة القياس بينهما فرق آخر وذلك أن المفلس يمكن أن تطرأ له ذمة وليس الميت كذلك وقال الشافعي الموت والفلس سواء وصاحب السلعة أحق بها إذا وجدها بعينها في الوجهين جميعا وحجة من قال بهذا القول ما رواه ابن أبي ذئب عن أبي المعتمر عن عمرو بن رافع عن عمر بن خلدة الزرقي قال أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس فقال أبو هريرة قضى رسول الله "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه"

فجعل الشافعي ذكر الموت زيادة مقبولة في حديث أبي هريرة وغيره لا يقبلها لأن حديث ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن ذكر حكم الموت في ذلك بخلاف الفلس وزعم الشافعي أن حديث ابن أبي ذئب هذا متصل وذلك مرسل والمتصل أولى وزعم غيره أن المذكور في هذا الحديث ليس بمعروف بحمل العلم والله أعلم وروى حديث ابن أبي ذئب عنه جماعة منهم ابن أبي فديك وغيره