التقية/المقام الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


المقام الثالث: في حكم الإعادة والقضاء إذا كان المأتي به تقية من العبادات.

فنقول: إن الشارع إذا أذن في إتيان واجب موسع على وجه التقية - إما بالخصوص كما لو أذن في الصلاة متكتفاً حال التقية، وإما بالعموم كأن يأذن بامتثال أوامر الصلاة أو مطلق العبادات على وجه التقية، كما هو الظاهر من أمثال قوله عليه السلام: «التقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين» ونحوه ثم ارتفعت التقية قبل خروج الوقت، فلا ينبغي الإشكال في إجزاء المأتي به وإسقاطه، للأمر، كما تقرر في محله من أن الأمر بالكلي كما يسقط بفرده الاختياري كذلك يسقط بفرده الاضطراري إذا تحقق الاضطرار الموجب للأمر به، فكما أن الأمر بالصلاة يسقط بالصلاة مع الطهارة المائية كذلك يسقط مع الطهارة الترابية إذا وقعت على الوجه المأمور به.

أما لو لم يأذن في امتثال الواجب الموسع في حال التقية خصوصاً أو عموماً على الوجه المتقدم، فيقع الكلام في أن الوجوب في الواجب الموسع هل يتعلق بإتيان هذا الفرد المخالف للواقع بمجرد تحقق التقية في جزء من الوقت، بل في مجموعه؟ وبعبارة أخرى: الكلام في أنه هل يحصل من الأوامر المطلقة بضميمة أوامر التقية أمر بامتثال الواجبات على وجه التقية أو لا؟ بل غاية الأمر سقوط الأمر عن المكلف في حال التقية ولو استوعب الوقت.

والتحقيق: أنه يجب الرجوع في ذلك إلى أدلة تلك الأجزاء والشروط المتعذرة لأجل التقية. فإن اقتضت مدخليتها في العبادة من دون فرق بين الاختيار والاضطرار، فاللازم الحكم بسقوط الأمر عن المكلف حين تعذرها لأجل التقية ولو في تمام الوقت، كما لو تعذرت الصلاة في تمام الوقت إلا مع الوضوء بالنبيذ، فإن غاية ذلك سقوط الأمر بالصلاة رأسا لاشتراطها بالطهارة بالماء المطلق المتعذرة في الفرض، فحاله كحال فاقد الطهورين.

وإن اقتضت مدخليتها في العبادة بشرط التمكن منها دخلت المسألة في مسألة أولي الأعذار: في أنه إذا استوعب العذر الوقت لم يسقط الأمر رأسا، وإن كان في جزء من الوقت - مع رجاء زواله في الجزء الآخر، أو مع عدمه - جاء فيه الخلاف المعروف في أولي الأعذار، وأنه هل يجوز لهم البدار أم يجب عليهم الانتظار.

فثبت من جميع ما ذكرنا أن صحة العبادة المأتي بها على وجه التقية تتبع إذن الشارع في امتثالها حال التقية. والإذن متصور بأحد أمرين:

أحدهما: الدليل الخارجي الدال على ذلك، سواء كان خاصا بعبادة أو كان عاما لجميع العبادات.

والثاني: فرض شمول الأوامر العامة بتلك العبادة لحال التقية.

لكن يُشترط في كل منهما بعض ما لا يُشترط في الآخر: فيُشترط في الثاني كون الشرط أو الجزء المتعذر للتقية من الأجزاء والشرائط الاختيارية، وأن لا تكون للمكلف مندوحة بأن لا يتمكن من الاتيان بالعمل الواقعي في مجموع الوقت، أو في الجزء الذي يوقعه مع اليأس من التمكن منه فيما بعده أو مطلقا على التفصيل والخلاف في أولي الأعذار، وهذان الأمران غير معتبرين في الأول، بل يرجع فيه إلى ملاحظة ذلك الدليل الخارجي، وسيأتي أن الدليل الخارجي الدال على الإذن في التقية في الأعمال لا يعتبر فيه شئ منهما.

ويُشترط في الأول أن تكون التقية من مذهب المخالفين، لأنه المتيقن من الأدلة الواردة في الإذن في العبادات على وجه التقية، لأن المتبادر التقية من مذهب المخالفين، فلا يجري في التقية عن الكفار أو ظلمة الشيعة، لكن في رواية مسعدة بن صدقة الآتية ما يظهر منه عموم الحكم لغير المخالفين، مع كفاية عمومات التقية في ذلك، بعد ملاحظة عدم اختصاص التقية في لسان الأئمة صلوات الله عليهم بالمخالفين، لما يظهر بالتتبع في أخبار التقية التي جمعها في الوسائل.

وكذا لا إشكال في التقية عن غير مذهب المخالفين، مثل التقية في العمل على طبق عمل عوام المخالفين الذين لا يوافق مذهب مجتهدهم، بل وكذا التقية في العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي اعتقدوا تحققه في الخارج مع عدم تحققه في الواقع، كالوقوف بعرفات يوم الثامن والإفاضة منها ومن المشعر يوم التاسع موافقاً للعامة إذا اعتقدوا رؤية هلال ذي الحجة في الليلة الأخيرة من ذي القعدة. فإن الظاهر خروج هذا عن منصرف أدلة الإذن في ارتفاع الأعمال على وجه التقية لو فرضنا هنا إطلاقاً، فإن هذا لا دخل له في المذهب، وإنما هو اعتقاد خطأ في موضوع خارجي.

نعم، العمل على طبق الموضوعات العامة الثابتة على مذهب المخالفين داخل في التقية عن المذهب، فيدخل في الإطلاق لو فرض هناك إطلاق، كالصلاة عند اختفاء الشمس، لذهابهم إلى أنه هو المغرب. ويمكن إرجاع الموضوع الخارجي أيضاً في بعض الموارد إلى الحكم، مثل ما إذا حكم الحاكم بثبوت الهلال من جهة شهادة من لا تقبل شهادته إذا كان مذهب الحاكم القبول، فإن ترك العمل بهذا الحكم قدح في المذهب، فيدخل في أدلة التقية.وكيف كان ففي هذا الوجه لا بد من ملاحظة إطلاق دليل الترخيص لإتيان العبادة على وجه التقية وتقييده والعمل على ما يقتضيه الدليل.

وأما في الوجه الثاني، فهذا الشرط غير معتبر قطعا، لأن مبناه على العمل المخالف للواقع من جهة تعذر الواقع، سواء كان تعذره للتقية من مخالف أو كافر أو موافق، وسواء كان في الموضوع أم في الحكم. كل ذلك لأن المناط في مسألة أولي الأعذار العذرية، من غير فرق بين الأعذار.

بقي الكلام: في اعتبار عدم المندوحة الذي اعتبرناه في الوجه الثاني. فإن الأصحاب فيه بين غير معتبر له، كالشهيدين، والمحقق الثاني في البيان والروض وجامع المقاصد. وبين معتبر له، كصاحب المدارك. وبين مفصل، كما عن المحقق الثاني: بأنه إذا كان متعلق التقية مأذوناً فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء والتكتف في الصلاة، فإنه إذا فعل على الوجه المأذون فيه كان صحيحاً مجزياً، وإن كان للمكلف مندوحة، التفاتاً إلى أن الشارع أقام ذلك مقام المأمور به حين التقية، فكان الإتيان به امتثالاً، وعلى هذا فلا تجب الإعادة وإن تمكن من فعله على غير وجه التقية قبل خروج الوقت. قال: ولا أعلم خلافاً في ذلك بين الأصحاب، وأما إذا كان متعلقها مما لم يرد فيه نص بالخصوص، كفعل الصلاة إلى غير القبلة والوضوء بالنبيذ ومع الاخلال بالموالاة فيجف الوضوء كما يراه بعض العامة، فإن المكلف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه وإظهار الموافقة لهم، ثم إن أمكن له الإعادة في الوقت وجب، ولو خرج الوقت ينظر في دليل يدل على القضاء، فإن حصل الظفر به أوجبناه، وإلا فلا، لأن القضاء إنما يجب بفرض جديد، انتهى.

ثم نقل عن بعض أصحابنا القول بعدم وجوب الإعادة، لكون المأتي به شرعياً، ثم رده: بأن الإذن في التقية من جهة الاطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة، انتهى.

أقول: ظاهر قوله في المأذون بالخصوص لا تجب فيه الإعادة وإن تمكن من فعله قبل خروج الوقت، أن عدم التمكن من فعله على غير وجه التقية حين العمل معتبر، وأن من كان في سوق وأراد الصلاة وجب عليه مع التمكن الذهاب إلى مكان مأمون فيه. وحينئذ فمعنى قوله قبل ذلك: وإن كان للمكلف مندوحة عن فعله، ثبوت المندوحة بالتأخير إلى زمان ارتفاع التقية، لا وجودها بالنسبة إلى زمان العمل.

وحينئذٍ يكون هذا قولاً باعتبار عدم المندوحة على الإطلاق كصاحب المدارك، إذ ليس مراد صاحب المدارك بعدم المندوحة عدم المندوحة في مجموع الوقت، إذ الظاهر أنه مما لم يعتبره أحد، لما سيجيء من مخالفته لظواهر الأخبار، بل لصريح بعضها. ومراد القائل بعدم اعتباره عدم اعتباره في الجزء الذي يقع الفعل فيه، فمن تمكن من الصلاة في بيته مغلقاً عليه الباب لا يجب عليه ذلك، بل يجوز له الصلاة تقية في مكانه ودكانه بمحضر المخالفين. نعم، لو كان الخلاف في اعتبار عدم المندوحة في تمام الوقت وعدمه، كان ما ذكره المحقق تفصيلا في المسألة.

وعلى أي تقدير فيُرد على ما ذكره المحقق في القسم الثاني أنه إن أراد من عدم ورود نص بالخصوص في الإذن في متعلق التقية عدم النص الموجب للإذن في امتثال العمل على وجه التقية، ففيه: أنه لا دليل حينئذ على مشروعية الدخول في العمل المفروض امتثالاً للأوامر المطلقة المتعلقة بالعمل الواقعي، لأن الأمر بالتقية لا يستلزم الإذن في امتثال تلك الأوامر، لأن التحفظ عن الضرر إن تأدى بترك ذلك العمل رأساً - بأن يترك الصلاة في تلك الحال - وجب، ولا يشرع الدخول في العمل المخالف للواقع بعد تأدي التقية بترك الصلاة رأسا، وإن فرضنا أن التقية ألجأته إلى الصلاة ولا تتأدى بترك الصلاة كانت الصلاة المذكورة واجبة عينا، لانحصار التقية فيها، فهي امتثال لوجوب التقية عينا لا للوجوب الموسع المتعلق بالصلاة الواقعية.

وإن أراد به: عدم النص الدال على الإذن في هذه العبادة بالخصوص، وإن كان هناك نص عام دال على الإذن في امتثال أوامر مطلق العبادات على وجه التقية. ففيه: أن هذا النص كما يكفي للدخول في العبادة امتثالا للأمر المتعلق بها، كذلك يوجب موافقة الأجزاء وعدم وجوب الإعادة في الزمن الثاني إذا ارتفعت التقية.

والحاصل: أن الفرق بين كون متعلق التقية مأذوناً فيه بالخصوص أو بالعموم لا يُفهم له وجه، كما اعترف به بعض، بل كلما يوجب الإذن في الدخول في العبادة امتثالاً لأوامرها كان امتثاله موجبا للاجزاء وسقوط الإعادة، سواء كان نصاً خاصاً أو دليلاً عاماً، وكلما لا يدل على الإذن في الدخول على الوجه المذكور لم يشرع بمجرده الدخول في العبادة على وجه التقية امتثالا لأمرها، بل إن انحصرت التقية في الإتيان بها كانت امتثالا لأوامر وجوب التقية لا لأوامر وجوب تلك العبادة.

اللهم إلا أن يكون مراده من الأمر العام أوامر التقية، ومن وجوب العمل على وجه التقية إذا اقتضت الضرورة هو هذا الوجوب العيني لا الوجوب التخييري الحاصل من الوجوب الموسع، فيكون حاصل كلامه الفرق بين الإذن في العمل امتثالا للأوامر المتعلقة بالعبادة وبين الإذن في العمل امتثالا لأوامر التقية.

لكن ينبغي حينئذ تقييده بغير ما إذا كانت التقية في الأجزاء والشروط الاختيارية، وإلا فتدخل المسألة في مسألة أولي الأعذار، ويصح الاتيان بالعمل المذكور امتثالا للأوامر المتعلقة بذلك العمل مع تعذر تلك الأجزاء والشرائط لأجل التقية، على الخلاف والتفصيل المذكور في مسألة أولي الأعذار.

ومما ذكرنا يظهر أن ما أجاب به بعض عن هذا التفصيل - بأن المسألة مسألة ذوي الأعذار، وأن الحق فيها سقوط الإعادة بعد التمكن من الشرط المتعذر - لا وجه له على إطلاقه.

ثم إن الذي يقوى في النظر في أصل مسألة اعتبار عدم المندوحة: أنه إن أُريد عدم المندوحة بمعنى عدم التمكن حين العمل من الاتيان به موافقا للواقع - مثل أنه يمكنه عند إرادة التكفير للتقية من الفصل بين يديه: بأن لا يضع بطن أحدهما على ظهر الأخرى، بل يقارب بينهما، وكما إذا تمكن من صبه الماء من الكف إلى المرفق لكنه ينوي الغسل عند رجوعه من المرفق إلى الكف - وجب ذلك ولم يجز العمل على وجه التقية، بل التقية على هذا الوجه غير جائزة في غير العبادات أيضا، وكأنه مما لا خلاف فيه.

وإن أُريد به عدم التمكن من العمل على طبق الواقع في مجموع الوقت المضروب لذلك العمل - حتى لا يصح العمل تقية إلا لمن لم يتمكن في مجموع الوقت من الذهاب إلى موضع مأمون - فالظاهر عدم اعتباره، لأن حمل أخبار الإذن في التقية في الوضوء والصلاة على صورة عدم التمكن من إتيان الحق في مجموع الوقت مما يأباه ظاهر أكثرها، بل صريح بعضها، ولا يبعد أيضا كونه وفاقياً.

وإن أُريد عدم المندوحة حين العمل من تبديل موضوع التقية بموضوع الأمن - كأن يكون في سوقهم ومساجدهم، ولا يمكن في ذلك الحين من العمل على طبق الواقع إلا بالخروج إلى مكان خال أو التحيل في إزعاج من يتقي منه عن مكانه لئلا يراه - فالأظهر في أخبار التقية عدم اعتباره، إذ الظاهر منها الإذن بالعمل على التقية في أفعالهم المتعارفة من دون إلزامهم بترك ما يريدون فعله بحسب مقاصدهم العرفية، أو فعل ما يجب تركه كذلك مع لزوم الحرج العظيم في ترك مقاصدهم ومشاغلهم لأجل فعل الحق بقدر الامكان، مع أن التقية إنما شرعت تسهيلا للأمر على الشيعة ورفعا للحرج عنهم، مع أن التخفي عن المخالفين في الأعمال ربما يؤدي إلى اطلاعهم على ذلك، فيصير سببا لتفقدهم ومراقبتهم للشيعة وقت العمل، فيوجب نقض غرض التقية.

نعم، في بعض الأخبار ما يدل على اعتبار عدم المندوحة في ذلك الجزء من الوقت وعدم التمكن من رفع موضوع التقية. مثل رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر عن إبراهيم بن شيبة، قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام عن الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يرى المسح على الخفين، أو خلف من يحرم المسح على الخفين وهو يمسح؟ فكتب عليه السلام: إن جامعك وإياهم موضع لا تجد بداً من الصلاة معهم، فأذن لنفسك وأقم، فإن سبقك إلى القراءة فسبح.

فإن ظاهرها اعتبار تعذر ترك الصلاة معهم. ونحوها ما عن الفقه الرضوي من المرسل عن العالم عليه السلام، قال: ولا تصل خلف أحد إلا خلف رجلين؛ أحدهما من تثق به وبدينه وورعه، وآخر من تتقي سيفه وسوطه وشره وبوائقه وشنيعته، فصل خلفه على سبيل التقية والمداراة، وأذن لنفسك وأقم واقرأ فيها فإنه غير مؤتمن به، ... إلى آخره.

وفي رواية معمر بن يحيى الواردة في تخليص الأموال عن أيدي العشار أنه كلما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية.

وعن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الثامن (صلوات الله عليه): لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامة، إلا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم، فصلوا في بيوتكم ثم صلوا معهم، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً.

ويؤيده العمومات الدالة على أن التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فإن ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار، ولا يصدق الاضطرار مع التمكن من تبديل موضوع التقية بالذهاب إلى موضع الأمن مع التمكن وعدم الحرج.

نعم، لو لزم من التزام ذلك حرج أو ضيق، من تفقد المخالفين وظهور حاله في مخالفتهم سراً، فهذا أيضا داخل في الاضطرار. وبالجملة فمراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان الذي يوقع فيه الفعل أقوى، مع أنه أحوط. نعم، تأخير الفعل عن أول وقته لتحقق الأمن وارتفاع الخوف مما لا دليل عليه، بل الأخبار بين ظاهر وصريح في خلافه كما تقدم.

بقي هنا أمور:

الأول:

أنك قد عرفت أن صحة العبادة وإسقاطها للفعل ثانياً تابع لمشروعية الدخول فيها والإذن فيها من الشارع. وعرفت أيضاً أن نفس أوامر التقية الدالة على كونها واجبة من جهة حفظ ما يجب حفظه لا يوجب الإذن في الدخول في العبادة على وجه التقية، من باب امتثال الأوامر المتعلقة بتلك العبادة، إلا فيما كان متعلق التقية من الأجزاء والشروط الاختيارية، كنجاسة الثوب والبدن ونحوها، أما ما اقتضى الدليل ولو باطلاقه مدخليته في العبادة من دون اختصاص بحال الاختيار، فمجرد الأمر بالتقية لا يوجب الإذن في امتثال العبادة، فيضمن الفعل الفاقد لذلك الجزء أو الشرط تقية كما هو واضح. ثم إن الإذن المذكور قد ورد في بعض العبادات، كالوضوء مع المسح على الخفين أو غسل الخفين، والصلاة مع المخالف حيث يترك فيها بعض ماله مدخلية فيها وتوجد بعض الموانع مثل التكفير ونحوه.

والغرض هنا بيان أنه هل يوجد في عمومات الأمر بالتقية ما يوجب الإذن في امتثال العبادات عموما على وجه التقية - بحيث لا يحتاج في الدخول في كل عبادة على وجه التقية امتثالا للأمر المتعلق بتلك العبادة إلى النص الخاص، لتفيد قاعدة كلية في كون التقية عذرا رافعا لاعتبار ما هو معتبر في العبادات وإن لم يختص اعتباره بحال الاختيار، مثل الدخول في الصلاة مع الوضوء بالنبيذ أو مع التيمم في السفر بمجرد عزة الماء ولو كان موجوداً - أم لا؟

الذي يمكن الاستدلال به على ذلك أخبار، منها قوله عليه السلام: التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله.

بناء على أن المراد ترخيص الله سبحانه في كل فعل أو ترك يضطر إليه الانسان في عمله. فنقول: مثلاً أن الانسان يضطر إلى استعمال النبيذ أو المسح على الخفين أو غسل الرجلين في وضوئه، وإلى استعمال التراب للتيمم في صلاته، وإلى التكفير وترك البسملة، وغير ذلك من الأفعال والتروك الممنوعة شرعا في صلاته، فكل ذلك مرخص فيه في العمل، بمعنى ارتفاع المنع الثابت فيها لولا التقية وإن كان منعاً غيرياً من جهة التوصل بتركها إلى صحة العمل وأداء فعلها إلى فساد العمل.

والحاصل أن المراد بالإخلال رفع المنع الثابت في كل ممنوع بحسب حاله من التحريم النفسي كشرب الخمر، والتحريم الغيري كالتكفير في الصلاة والمسح على حائل واستعمال ماء نجس أو مضاف في الوضوء.

فإن قلت: الاضطرار إلى هذه الأمور الممنوعة تابع للاضطرار إلى الصلاة التي تقع هذه فيها، وحينئذ فإن فرض عدم اضطرار المكلف إلى الصلاة مع أحد هذه الأمور الممنوعة فهي غير مضطر إليها، فلا ترخصها التقية، وإن فرض اضطراره إلى الصلاة معها فهي مرخص فيها، لكن يرجح الترخيص فيها بملاحظة ما دل على كونها مبطلة إلى الترخيص في صلاة باطلة، ولا بأس به إذا [اقتضته] الضرورة، فإن الصلاة الباطلة ليست أولى من شرب الخمر الذي [سوغته] التقية.

قلت: لا نسلم توقف الاضطرار إلى هذه الأمور على الاضطرار إلى الصلاة التي تقع فيها، بل الظاهر أنه يكفي في صدق الاضطرار إليها كونها لا بد من فعلها مع وصف إرادة الصلاة في تلك الوقت لا مطلقاً.

نظير ذلك: أنهم يعدون من أولي الأعذار من لا يتمكن من شرط الصلاة في أول الوقت مع العلم أو الظن بتمكنه منه فيما بعده، فإن تحقق الاضطرار ثبت الجواز الذي هو رفع المنع الثابت فيه حال عدم التقية، وهو المنع الغيري.

ومنها: ما رواه في أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: التقية في كل شيء إلا في شرب المسكر والمسح على الخفين.

دلت الرواية على ثبوت التقية ومشروعيتها في كل شئ ممنوع لولا التقية، إلا في الفعلين المذكورين، فاستثناء المسح على الخفين مع كون المنع فيه عند عدم التقية منعا غيريا دليل على عموم الشئ لكل ما يشبهه من الممنوعات لأجل التوصل بتركها إلى صحة العمل، فدل على رفع التقية لمثل هذا المنع الغيري وتأثيرها في ارتفاع أثر ذلك الممنوع منه، فيدل على أن التقية ثابتة في التكفير في الصلاة مثلاً، بمعنى عدم كونه ممنوعا عليه فيها عند التقية، وكذا في غسل الرجلين واستعمال النبيذ في الوضوء ونحوهما.

وفي معنى هذه الرواية روايات أخر واردة في هذا الباب، مثل قوله عليه السلام: ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً؛ المسح على الخفين، وشرب النبيذ، ومتعة الحج.

فإن معناه ثبوت التقية فيما عدا الثلاث من الأمور الممنوعة في الشريعة، و رفعها للمنع الثابت فيها بحالها من المنع النفسي والغيري كما تقدم. ثم إن مخالفة ظاهر المستثنى في هذه الروايات لما أُجمع عليه - من ثبوت التقية في المسح على الخفين وشرب النبيذ - لا يقدح فيما نحن بصدده.

لأن ما ذكرنا في تقريب دلالتها على المطلب لا يتفاوت الحال فيه بين إبقاء الاستثناء على ظاهره أو حمله على بعض المحامل، مثل اختصاص الاستثناء بنفس الإمام عليه السلام، كما يظهر من الرواية المذكورة، وتفسير الراوي في بعضها الآخر، والتنبيه على عدم تحقق التقية فيها، لوجود المندوحة أو لموافقة بعض الصحابة أو التابعين على المنع من هذه الأمور، إلى غير ذلك من المحامل الغير القادحة في استدلالنا المتقدم.

ومنها: موثقة سماعة عن الرجل يصلي، فدخل الإمام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة الفريضة، قال: إن كان إماماً عادلاً فليصل أخرى، وينصرف ويجعلها تطوعاً، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلي ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يتم صلاته معه على ما استطاع، فإن التقية واسعة، ولبس إلا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله.

فإن الأمر بإتمام الصلاة على ما استطاع مع عدم الاضطرار إلى فعل الفريضة في ذلك الوقت معللا بأن التقية واسعة، يدل على جواز أداء الصلاة في سعة الوقت على جميع وجوه التقية، بل على جواز كل عمل على وجه التقية وإن لم يضطر إلى ذلك العمل، لتمكنه من تأخيره إلى وقت الأمن. ومنها: قوله عليه السلام في موثقة مسعدة بن صدقة وتفسير ما يتقى فيه: أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على خلاف حكم الحق وفعله.

فكل شيء يعمله المؤمن منهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى فساد الدين فهو جائز، بناء على أن المراد بالجواز في كل شئ بالقياس إلى المنع المتحقق فيه لولا التقية، فيصدق على التكفير في الصلاة الذي يفعله المصلي في محل التقية أنه جائز وغير ممنوع عنه بالمنع الثابت فيه لولا التقية.

ودعوى أن الداعي على التكفير ليس التقية، لا مكان التحرز عن الخوف بترك الصلاة في هذا الجزء من الوقت، فلا يكون عمل التكفير لمكان التقية. مدفوعة بنظير ما عرفت في الرواية الأولى: من أنه يصدق على المصلي أنه يكفر لمكان التقية وإن قدر على ترك الصلاة.

ومنها قوله عليه السلام في رواية أبي الصباح: ما صنعتم [من] شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة.

فيدل على أن المتقي في سعة من الجزء والشرط المتروكين تقية، ولا يترتب عليه من جهتهما تكليف بالإعادة والقضاء، نظير قوله عليه السلام: الناس في سعة ما لم يعلموا. بناء على شموله لما لم تعلم جزئيته أو شرطيته كما هو الحق.

الثاني:

أنه لا ريب في تحقق التقية مع الخوف الشخصي بأن يخاف على نفسه أو غيره من ترك التقية في خصوص ذلك العمل، ولا يبعد أن يكتفى بالخوف من بناؤه على ترك التقية في سائر أعماله أو بناء سائر الشيعة على تركها في العمل الخاص أو مطلق العمل النوعي في بلاد المخالفين، وإن لم يحصل للشخص بالخصوص خوف، وهو الذي يفهم من إطلاق أوامر التقية وما ورد من الاهتمام فيها. ويؤيده، بل يدل عليه إطلاق قوله عليه السلام: ليس منا من لم يجعل التقية شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيته مع من يحذره.

نعم، في حديث أبي الحسن الرضا (صلوات الله عليه) معاتباً لبعض أصحابه الذين صحبهم: إنكم تتقون حيث لا تجب التقية وتتركون حيث لا بد من التقية.

وليحمل على بعض ما لا ينافي القواعد.

الثالث:

أنه لو خالف التقية في محل وجوبها فقد أطلق بعض بطلان العمل المتروك فيه.

والتحقيق: أن نفس ترك التقية في جزء العمل أو في شرطه أو في مانعه لا يوجب بنفسه إلا استحقاق العقاب على تركها، فإن لزم عن ذلك ما يوجب بمقتضى القواعد بطلان الفعل بطل، وإلا فلا.

فمن مواقع البطلان: السجود على التربة الحسينية مع اقتضاء التقية تركه، فإن السجود يقع منهيا عنه، فيفسد الصلاة.

ومن مواضع عدم البطلان: ترك التكفير في الصلاة، فإنه وإن حرم لا يوجب البطلان، لأن وجوبه من جهة التقية لا يوجب كونه معتبراً في الصلاة لتبطل بتركه.

وتوهم أن الشارع أمر بالعمل على وجه التقية مدفوع بأن تعلق الأمر بذلك العمل المقيد ليس من حيث كونه مقيداً بتلك الوجه، بل من حيث نفس الفعل الخارجي الذي هو قيد اعتباري للعمل لا قيد شرعي.

وتوضيحه: أن المأمور به ليس هو الوضوء المشتمل على غسل الرجلين، بل نفس غسل الرجلين الواقع في الوضوء، وتقييد الوضوء باشتماله على غسل الرجلين مما لم يعتبره الشارع في مقام الأمر، فهو نظير تحريم الصلاة المشتملة على محرم خارجي لا دخل له في الصلاة.

فإن قلت: إذا كان إيجاب الشئ للتقية لا يجعله معتبرا في العبادة حال التقية، لزم الحكم بصحة وضوء من ترك المسح على الخفين، لأن المفروض أن الأمر بمسح الخفين للتقية لا يجعله جزءا، فتركه لا يقدح في صحة الوضوء، مع أن الظاهر عدم الخلاف في بطلان الوضوء.

قلت: ليس الحكم بالبطلان من جهة ترك ما وجب بالتقية، بل لأن المسح على الخفين متضمن لأصل المسح الواجب في الوضوء مع إلغاء قيد مماسة الماسح للمسوح، كما في المسح على الجبيرة الكائنة في موضع الغسل أو المسح، وكما في المسح على الخفين لأجل البرد المانع من نزعها، فالتقية إنما أوجبت إلغاء قيد المباشرة، وأما صورة المسح ولو مع الحائل فواجبة واقعا لا من حيث التقية، فالاخلال بها يوجب بطلان الوضوء بنقض جزء منه.

ومما يدل على انحلال المسح إلى ما ذكرنا من الصورة وقيد المباشرة قول الإمام عليه السلام لعبد الأعلى مولى آل سام، سأله عن كيفية مسح من جعل على إصبعه مرارة: أن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله، وهو قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ثم قال: امسح عليه.

فإن معرفة وجوب المسح على المرارة الحائلة بين الماسح والممسوح من آية نفي الحرج لا تستقيم إلا بأن يُقال إن المسح الواجب في الوضوء ينحل إلى صورة المسح ومباشرة الماسح للممسوح، ولما سقط قيد المباشرة لنفي الحرج تعين المسح من دون مباشرة، وهو المسح على الحائل، وكذلك فيما نحن فيه سقط قيد المباشرة ولا تسقط صورة المسح عن الوجوب.

وكذلك الكلام في غسل الرجلين للتقية، فإن التقية إنما أوجبت سقوط الخصوصية المائزة بين الغسل والمسح، وأما ايصال الرطوبة إلى الممسوح فهو واجب لا من حيث التقية، فإذا أخل به المكلف فقد ترك جزءا من الوضوء، فبطلان الوضوء من حيث ترك ما وجب لا لأجل التقية، لا ترك ما وجب للتقية.

ومما يؤيد ما ذكرنا ما ذكره غير واحد من الأصحاب: من أنه لو دار الأمر بين المسح على الخفين وغسل الرجلين قدم الثاني، لأن فيه إيصال الماء، بخلاف الأول، فلو كان نفس الفعل المشتمل على القيد - والمقيد إنما وجب تقية - لم يعقل ترجيح شرعي بين فعلين ثبت وجوبهما بأمر واحد، وهو الأمر بالتقية، لأن نسبة هذا الأمر إلى الفردين نسبة واحدة، إلا أن يكون ما ذكروه فرقا اعتباريا منشؤه ملاحظة الأسباب العقلية. لكن يبقى على ما ذكرنا في غسل الرجلين أنه لو لم يتمكن المكلف من المسح تعين عليه الغسل الخفيف، ولا يحضرني من أفتى به، لكن لا بأس باعتباره، كما في عكسه المجمع عليه، وهو تعين المسح عند تعذر الغسل، ويمكن استنباطه من رواية عبد الأعلى المتقدمة.

ولو قلنا بعدم الحكم المذكور فلا بأس بالتزام عدم بطلان الوضوء فيما إذا ترك غسل الرجلين الواجب للتقية، لما عرفت من أن أوامر التقية لم تجعله جزءا، بل الظاهر أنه لو نوى به الجزئية بطل الوضوء، لأن التقية لم توجب نية الجزئية، وإنما أوجب العمل الخارجي بصورة الجزء.