التعريف بآداب التأليف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - "إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
وأخرج ابن ماجة وابن خزيمة، عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنّ ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره".
حمل العلماء رضي الله عنهم: الصدقة الجارية بعد الوقف المنتفع به بعد الموت، وعلى التصنيف والتعليم، وهو التصنيف أظهر، لأنه أطول استمرار.
قال الشيخ تاج الدين السبكي في خطبة كتابه: "جمع الجوامع": أما بعد: فإن العالم وإن امتد باعه، واشتد في ميادين الجدال رفاعه، واشتد ساعده، حتى خرق به كل سد سُدَّ بابه، وأحكم امتناعه، فنفعه قاصر على مدة حياته، مالم يصنف كتابا يخلد بعده، أو يورث علما ينقله عنه تلميذ، إذا وجد الناس فقده، أو يهتدي به فئة مات عنها، وقد ألبسها به الرشاد برده، ولعمري إنّ التصنيف لأرفعها مكانا، لأنه أطولها زمانا، وأدومها إذا مات أحيانا، ولذلك لا يخلو وقت يمر بنا خاليا عن التصنيف، ولا يخلو إلا وقد تقلد عقد جواهره التأليف، ولا يخلو علينا الدهر ساعة فراغ إلا ونكل فيها القلم بالترتيب والترصيف. انتهى.
وقال الشيخ عز الدين الزركشي في قواعده: من فروض الكفاية: " تصنيف الكتب لمن منحه الله فهما واطلاعا، ولن تزال هذه الأمة، مع قصر أعمارها في از دياد وتَرقٍ في المواهب. والعلم لا يحل كتمه، فلو ترك التصنيف، لضيع العلم على الناس".
وقد سبقه إلى نحو ذلك: البغوي في أول التهذيب. وقال النووي في شرح المهذب، في باب آداب العالم: " وينبغي أن يعتني بالتصنيف إذا تأهل له فيه، يطلع على حقائق العلم ودقائقه، ويثبت معه؛ لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش، والمطالعة، والتحقيق، والمراجعة، والاطلاع على مختلف كلام الأئمة، ومتفقه، وواضحه عن مشكله، وصحيحه عن ضعيفه، وجزله عن ركيكه، وما لا اعتراض عليه، وبه يتصف المحقق بصفة المجتهد، وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له، فإن ذلك يضره في دينه، وعلمه، وعرضه، وليحذر أيضا من إخراج تصنيفه من يده، إلا بعد تهذيبه، وترداد نظره فيه وتكريره.
وليحرص على غيضاح العبارة وإيجازها، فلا يوضح إيضاحا ينتهي إلى الركاكة، ولا يوجز إيجازا يفضي إلى المحقق والاستغلاق.
وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر، والمراد بهذا أن يكون هناك مصنف يغني عن مصنفه في جميع أساليبه، فإن أغنى عن بعضها، فليصنف من جنسه ما يزيد زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب، وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به، ويكثر الاحتياج إليه".
وقال في "التقريب والتيسير" في علوم الحديث: " وليعتن بالتصنيف في شرحه، وبيان مشكله متقنا، فقلَّما يمهر في علم الحديث من لم يفعل هذا".
وقال الخطيب البغدادي في علوم الحديث: "لا يتمهر في الحديث، ويقف على غوامضه ويستبين الخفي من فوائده إلا من جمع متفرقه، ولم إلف مشتته، وضم بعضه إلى بعض، واشتغل بتصنيف أبوابه وترتيب أصنافه، فإن ذلك مما يقى النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشَّحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضا جميل الذكر، ويخلده إلى آخر الدهر، كما قال الشاعر:
يموت قوم فيُحي العلم ذكرهم * * والجهل يلحق أمواتا بأموات
قال: وكان بعض شيوخنا يقول: أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ، وليأخذ قلم التخريج"، وأخرج عن الربيع، قال: لم أر الشافعي استخلا بنهار، ولا نائما بليل، لاهتمامه بالتصنيف".
وأخرج ابن عساكر: في تاريخه من طريق المزني، قال: سمعت البويطي يقول: قلت للشافعي: إنك تتعنى في تنظيف الكتب، وتصنيفها، والناس لا يلتفتون إلى كتبك، ولا إلى تصنيفك، فقال يابني: إن هذا هو الحقّ، والحق لا يضيع.
وأخرج من طريق البويطي، قال سمعت الشافعي، يقول: قد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعنا عنه.
وأخرج من طريق الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: وَدِدْت أنّ الناس يعلمون هذه الكتب، ولا ينسب إلي منها شيء.
وأخرج عن أبي الوليد بن أبي الجارود قال: ما رأيت أحدا إلا وكتبه من مشاهدته إلا الشافعي، فإن لسانه أكبر كتبه.
وأخرج عن هارون بن سعيد إلايلى قال: سمعت الشافعي يقول: لولا أن يطول على الناس لوضعت في كل مسئلة جزء حُجَج وبيان.
وأخرج عن بحر بن نصر الخولاني المصري قال: قدم الشافعي مصر، فوضع هذه الكتب، وكان أقدم معه من الحجاز كتب: ابن عيينة وخرج إلى يحيى بن حسان، فكتب عنه وأخذ كتبا من أشهب فيه آثار وكلام أشهب، وكان يضع الكتب بين يديه، ويصنف الكتب، فإذا ارتفع له كتاب جاءه صديق يقال له: ابن هرم، فيكتب ويقرأ عليه البويطي، ويجمع من يحضر يسمع في كتاب ابن هرم، ثم ينسخونه بعد.
وفي البيان للجاحظ: " قالوا: القلم أبقى أثرا، واللسان أكثر هذرا.
وقال عبد الرحمن بن كيسان: استعمال القلم أجدر أن يحضَّ الذهن على تصحيح الكتاب، من استعمال اللسان في تصحيح الكلام.
وقالوا: اللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مطلقٌ في الشاهد والغائب، وهو للغائب الكائن، مثله للقائم الراهن.
والكتاب يُقرأ بكلِّ مكان، ويُدرس في كلّ زمان؛ واللسان لا يعْدُو سامِعَه، ولا يتجاوزه إلى غيره.
وقال ابن الجوزي: الأمل مذموم للناس، إلا للعلماء، فلولا أملهم، لما صنفوا ولا ألفوا. نقله شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري.
وقال الحافظ : أبو الفضل العراقي في شرح الفية الحديث: روينا عن الحافظ أبي عبد الله الصوري قال: رايت عبد الغني بن سعيد في المنام، فقال لي: يا أبا عبد الله : خرج وصحح قبل أن يحال بينك وبينه، أما قد تراني حيل بيني وبين ذلك.
وقال صاحب الأزدي: لا ينبغي لمصنف يتصدى لتصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أنيبتدع وضعا ومبنى، وما سوى هذين الوحهين، فهو تسويد الورق، والتحلى بحلية السرف.
وفي كتاب "ملح النوادر" للثعالبي: كان الجاحظ يقول: الوضع وضعان: وضع له، ووضع به، يعني في تأليف الكتب.
وقال بعض الظرفاء: الوضع وضعان: وضع بدا فتخار، ووضع به بخار.
وكان يقال: من صنف، فقد استهدف، فإن أحسن، فقد استشرف. وإن أساء فقد استقذف، والله أعلم بالصواب.
تم وكمل بحمد الله، وعونه، وحسن توفيقه، على يد أفقر العباد:كاتبه مصطفى مترجي بن المكرم الحاج أيوب مرتجي، غفر الله له، ولوالديه والمسلمين.
وذلك في يوم الأربع المبارك، الموافق ثلاثة عشر يوما مضت من شهر محرم ، افتتاح عام ألف ومائتين اثنين وثمانين من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التسليم. آمين آمين.