التبر المسبوك في نصيحة الملوك
أصول الإيمان ابتداء قاعدة الاعتقاد الذي هو أصل الإيمان اعلم أيها السلطان أنك مخلوق ولك خالق وهو خالق العالم وجميع ما في العالم، وأنه لا شريك له، فرد لا مثل له، كان في الأزل وليس لكونه زوال، ويكون مع الأبد وليس لبقائه فناء، وجوده في الأبد والأزل وما للعدم إليه سبيل، وهو موجود بذاته، وكل أحد محتاج إليه وليس له إلى أحد احتياج، وجوده به ووجود كل شيء به. الأصل الثاني في تنزيه الخالق تعالى إعلم أن البارئ، تعالى ذكره، ليس له صورة ولا مثل، وأنه لا ينزل ولا يحل في قالب، وأنه تعالى منزّه عن الكيف والكم، وعن لماذا وكم، وأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبه شيء، وكلما يخطر في الوهم والخيال والفكر من التخيل والتمثيل والتكيف فانه منزّه عن ذلك، لأن ذلك من صفات المخلوقين وهو خالقها فلا يوصف بها، وأنه تعالى جدّه ليس في مكان ولا على مكان، فإن المكان لا يحصره، وكل ما في العالم فإنه تحت عرشه، وعرشه تحت قدرته وتسخيره، وأنه قبل العرش كان فترها عن المكان وليس العرش بحامل له بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته، واستواؤه على العرش كما قال، وعلى الوجه الذي قال وبالمعنى الذي أراد، استواء منزهاً عن الاستقرار والمماسة والتمكن والحلول والانتقال، وهو سبحانه فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب الى البعيد
والقريب من حبل الوريد، وهوعلى كل شيء قدير وشهيد، فعّال لما يريد لا يزال في نعوت الجمال، وصفات الجلال، منزهاً عن الزوال والانتقال، مستعيناً عن زيادة الاستكمال، وأنه منزه عن الحاجة إلى المكان قبل خلقه العرش وبعد خلقه العرش، وأنه متّصف بالصفة التي كان عليها في الأزل، ولا سبيل إلى التغير والانقلاب إلى صفاته، وهو سبحانه مقدّس عن صفات المخلوقين ومنزّه عنهم، وهو في الدنيا معلوم وفي الآخرة مرئي كما نعلمه ي الدنيا بلا مثل ولا شبيه، لأن تلك الرؤية لا تشابه رؤية الدنيا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. الأصل الثالث في القدرة وأنه تعالى على كل شيء قدير وملكه في نهاية الكمال، ولا سبيل إلى العجز والنقصان بل ما شاء وما يشاء يفعل، وأن السموات السبع والأرضين السبع والكرسي والعرش في قبضة قدرته وتحت قهره وتسخيره ومشيئته، وهو مالك لا ملك إلا ملكه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الأصل الرابع في العلم وأنه تعالى عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء، فليس شيء في العلا إلى الثرى إلا قد أحاط به علمه لأن الأشياء جميعها بعلمه ظهرت وبإرادته خلقها وبقدرته كونها، وأنه تعالى يعلم عدة رمال القفار، وقطرات الأمطار، وورق الأشجار، وغوامض الأفكار، وما دارت عليه الرياح والهواء في علمه ظاهر مثل عدد نجوم السماء. وأن جميع ما في العالم بإرادته ومشيئته وليس شيء من قليل أو كثير، صغير أو كبير، خير أو شر، نفع أو
ضر، زيادة أو نقصان، راحة أو تعب، صحة أو صب، إلا بحكمه وتدبيره، ومشيئته وتقديره. لو اجتمع الأنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحرَكوا في العالم ذرة أو يسكنوها أو ينقصوا منها أو يزيدوا فيها بغير إرادته وحوله وقوته لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا، وما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون، ولا ترد مشيئته ومهما كان ويكون أو هو كائن فإنه بتدبيره وأمره وتسخيره. الأصل الخامس والسادس في أنه سميع بصير وكما أنه عالم بجميع المعلومات فإنه سميع لكل مسموع، بصير لكل مبصر، وأنه بسمع واحد وبصر واحد يرى دبيب النملة في الليلة المظلمة، ولا يخفى عن سمعه صوت الدود تحت أطباق الأرض، وأن سمعه ليس بأذن وبصره ليس بعين. وكما أن علمه لا يصدر عن فكرة ففعله بغير آلة وعدة يقول للشيء كن فيكون. الأصل السابع في الكلام وأن أمره تعالى على جميع الخلق نافذ واجب مهما أخبره من وعد ووعيد فانه حق وأمره كلامه. وكما أنه عالم مريد قدير سميع بصير فهو متكلم وكلامه بغير حلق ولا لسان، ولا فم ولا أسنان، والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزَلة على الأنبياء، عليهم السلام جميعها، كلامه. وكلامه صفته وكل صفاته قديمة، وكما أن الكلام عند الآدمي حرف وصوت فكلام الله منزَه عن الأصوات والحروف.
الأصل الثامن في أفعاله تعالى وأن جميع ما في العالم مخلوق له تعالى وليس معه شريك ولا خالق بل هو الخالق الواحد، ومهما خلقه من تعب ومرض وفقر وعجز وجهل فعدل منه، ولا يمكن الظلم في أفعاله لأن الظالم هو الذي يتصرف في ملك غيره، والخالق تعالى لا يتصرف إلا في ملكه، وليس معه مالك سواء، وكل ما يكون وهو كائن فهو ملك له، وهو المالك بلا شبيه ولا شريك، وليس لأحد عليه اعتراض بلم وكيف، ولكن له الحكم والأمر في كل أفعاله وما لأحد غير التسليم والنظر إلى صنعه والرضا بقضائه. الأصل التاسع في ذكر الآخرة وأنه تعالى خلق العالم من نوعين جسد وروح، وجعل الجسد منزلاً للروح لتأخذ زاداً لآخرتها من هذا العالم، وجعل لكل روح مدة مقدّرة تكون في الجسد، فآخر تلك المدة هو أجل تلك الروح من غير زيادة ولا نقصان، فإذا جاء الأجل فرّق بين الروح والجسد، وإذا وضع الميت في قبره أعيدت روحه إلى جسده ليجيب سؤال منكر ونكير، وهما شخصان هائلان عظيمان فيسألانه من ربك ومن نبيك فإن استعجم ولم يجب عذّباه وملآ قبره حيات وعقارب. ويوم القيامة، يوم الحساب والمكافأة والمناقشة والمجازاة، تردّ الروح إلى الجسد وتنشر الصحف وتعرض الأعمال على الخلائق، فينظر كل إنسان في كتابه فيرى أعماله، ويشاهد أفعاله، ويعلم مقدار طاعته ومعصيته، وتوزن أعماله في ميزان الأعمال ثم يؤمر بالجواز على الصراط. والصراط أدق من الشعرة وأحدّ من الشفرة فكل من كان في هذا العالم على الطريقة المستقيمة الصالحة، وسلوك المحجة الواضحة، عبر على الصراط وجازه في راحة واستراحة، وإن لم يكن على السيرة المحمودة، والأعمال الصالحة
الرشيدة وعصي مولاه، واتَبع هواه، فأنه لا يجد الطريق على الصراط ولا يهتدي إلى الجواز ويقع في جهنم. والكل يوقفون على الصراط ويُسألون عن أفعالهم؛ فيُسأل الصادقون عن صدقهم ويمتحن المراؤون والمنافقون ويفضحون، فمن الناس قوم يدخلون الجنة بغير حساب وجماعة يحاسبون بالرفق والمسامحة، وجماعة يحاسبون بالصعوبة والمناقشة والمحاققة، ثم يسحب الكفار إلى نار جهنم بحيث لا يجدون خلاصاً، ويدخل أهل الجنة ويؤمر بالعصاة إلى النار، وكل من نالته شفاعة الأنبياء والعلماء والأكابر عُفي عنه، وكل من ليس له شفيع عوقب بمقدار إثمه وعُذب بقدر جرمه، ثم يدخل الجنة إن كان قد سلم معه أيمانه. الأصل العاشر في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قدّر الله تعالى هذا التقدير وجعل الإنسان وأحواله، واكتسابه وأعماله، منها ما هو سبب لسعادته، ومنها ما هو سبب لشقاوته، والإنسان لا يقدر أن يعرف ذلك من تلقاء نفسه، خلق الله تعالى، بحكم فضله ورحمته، وطوله ومنته، ملائكة وبعثهم إلى أشخاص قد حكم لهم بالسعادة في الأزل وهم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فأرسلهم إلى الخلق ليوضحوا لهم طرق السعادة والشقاوة لئلا يكون للناس على الله حجة، وأرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم آخراً، وجعله بشيراً ونذيراً، فأوصل نبوّته إلى درجة الكمال، فلم يبقَ للزيادة فيه مجال، ولهذا جعله خاتم الأنبياء فلا نبي بعده، وأمر الخلائق من الأنس والجن بطاعته واتباعه وجعله سيد الأولين والآخرين، وجعل أصحابه خير أصحاب الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين.
ذكر فروع شجرة الإيمان إعلم أيها السلطان أن كل ما كان في قلب الإنسان من معرفة واعتقاد فذلك أصل الإيمان، وما كان جارياً على أعضائه السبعة من الطاعة والعدل فذلك فرع الإيمان. فإذا كان الفرع ذاوياً دلّ على ضعف الأصل فإنه لا يثبت عند الموت، وعمل البدن عنوان إيمان القلب. والأعمال التي هي فروع الإيمان هي تجنب المحارم وأداء الفرائض، وهما قسمان: أحدهما بينك وبين الله تعالى مثل الصوم والصلاة والحج والزكاة واجتناب شرب الشراب والعفة عن الحرام. والأخرى بينك وبين الخلق وهي العدل في الرعية والكف عن الظلم. والأصل في ذلك أن تعمل فيما بينك وبين الخالق تعالى من طاعة أمره والازدجار بزجره، وما تختار أن تعتمده عبيدك في حقك، وأن تعمل فيما بينك وبين الناس ما تؤثر أن يعمل معك من سواك إذا كان غيرك السلطان وكنت من رعيته. واعلم أنّ ما كان بينك وبين الخالق سبحانه فإن عفوه قريب، وأما ما يتعلق بمظالم الناس فإنه لا يتجاوز به عنك على كل حال يوم القيامة وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر أحد من الملوك إلا ملك عمل بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة. وأصول العدل والإنصاف عشرة الأصل الأول من ذلك هو أن تعرف أولاً قدر الولاية وتعلم خطرها فإن الولاية نعمة من نعم الله عز وجل، من قام بحقّها نال من السعادة ما لا نهاية له ولا سعادة بعده، ومن قصّر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى. والدليل على عظم قدرها، وجلالة خطرها، ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه
قال: (عدل السلطان يوماً واحداً أحب إلى الله من عبادة سبعين سنة.) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان يوم القيامة لا يبقى ظل ولا ملجأ إلا ظل الله ولا يستظل بظله ألا سبعة أناس: سلطان عادل ي رعيته، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل يكون في السوق وقلبه في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل ذكر الله في خلوته فأذرى دمعه من مقلته، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال ومال إلى نفسها فقال إني أخاف الله، وجل يتصدق سراً بيمينه ولم تشعر بها شماله) . وقال عليه الصلاة والسلام: (أحب الناس إلى الله تعالى وأقربهم إليه السلطان العادل، وأبغضهم إليه وأبعدهم منه السلطان الجائر) .وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده إنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء من العمل مثل عمل جملة الرعية، وكل صلاة يصلّيها تعدل سبعين ألف صلاة) . فإذا كان كذلك فلا نعمة أجلّ من أن يعطى العبد درجة السلطنة ويجعل ساعة من عمره بجميع عمر غيره، ومن لم يعرف قدر هذه النعمة واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه أن يجعله الله من جملة أعدائه. ومما يدلّ على خطر الولاية ما روي عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتى بعض الأيام فلزم حقه باب الكعبة، وكان في البيت نفر من قريش فقال: (يا سادات قريش عاملوا رعاياكم وأتباعكم بثلاثة أشياء: إذا سألوكم الرحمة فارحموهم، وإذا حكموكم فاعدلوا فيهم، واعملوا بما تقولون؛ فمن لم يعمل بهذا فعليه لعنة الله وملائكته لا يقبل الله منه فرضاً ولا نفلاً) .وقال عليه الصلاة والسلام: (من حكم بين إثنين بظلم فلعنة الله على الظالمين) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم: سلطان كجائز كاذب، وشيخ زانٍ، وفقير متكبر، يعني أنه متكبر للطمع) . وقال عليه الصلاة والسلام يوماً للصحابة: (سيأتي عليكم يوم تفتحون فيه جانبي الشرق والغرب ويصير في أيديكم، وكل عمال تلك الأماكن في النار إلا من اتقى الله وسلك سبيل التقوى وأدّى الأمانة) . وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد ولاّه الله أمر رعية
فغشهم ولم ينصح لهم ولم يشفق عليهم الا حرَم الله عليه الجنة) . وقال عليه الصلاة والسلام: (من ولَي أمور المسلمين ولم يحفظهم كحفظة أهل بيته فقد تبوأ مقعده من النار) . وقال عليه الصلاة والسلام: (رجلان من أمتي يحرمان شفاعتي: ملك ظالم ومبتدع غال في الدين يتعدى الحدود) . وقال عليه الصلاة والسلام: (أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة السلطان الظالم) . وقال عليه الصلاة والسلام: (خمسة قد غضب الله عليهم إن شاء أمضى غضبه ومقرهم النار: أمير قوم يطيعونه يأخذ حقه منهم ولا ينصفهم من نفسه ولا يرفع الظلم عنهم، ورئيس قوم يطيعونه ولا يساوي بين القوي والضعيف ويحكم بالميل والمحاباة، ورجل لا يأمر أهله وأولاده بطاعة الله ولا يعلمهم أمور الدين ولا يبالي من أين أطعمهم، ورجل استأجر أجيراً فتمم عمله ومنعه أجرته، ورجل ظلم زوجته في صداقها) . ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تبع يوماً جنازة فتقدم رجل فصلى عن الجنازة فلما دفن الميت وضع ذلك الرجل يده على القبر وقال: اللهم إن عذبته فبحقك لأنه عصاك وأن رحمته فإنه فقير إلى رحمتك، وطوبي لك أيها الميت إن لم تكن أميراً أو عريفاً أو كابتاً أوعوانياً أو جابياً. فلما تكلم بهذه الكلمات غاب شخصه عن عيون الناس فأمر عمر بطلبه فلم يوجد، فقال عمر: هذا الخضر عليه السلام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للعوانية فإنهم أقوام يعلقون من السماء بذوائبهم في القيامة، ويسحبون على وجوههم إلى النار، يودون لو لم يعلموا عملاً قط) . وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من رجل ولي أمر عشرة من الناس إلا وجيء به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن كان عمله صالحاً فكّ الغل عنه، وإن كان عمله سيئاً زيد عليه غل آخره) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء حين يلقاه إلا من عدل وقضى بالحق ولم يحكم بالهوى ولم يمل مع أقاربه ولم يبدل حكماً لخوف أو طمع، لكن يجعل كتاب الله مرآته ونصب عينيه ويحكم بما فيه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالولاة يوم القيامة
فيقول الله جلّ وعلا: (أنتم كنتم رعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي) . ثم يقول لأحدهم: (لم ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به) . فيقول: يا رب لأنهم عصوك وخالفوك. فيقول جلّ جلاله: (لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي) . ثم يقول للآخر: (لم ضربت عبادي أقل من الحد الذي أمرت به) ؟ فيقول: يا رب رحمتهم. فيقول تعالى: (كيف تكون أرحم مني خذوا الذي زاد والذي نقص فاحشوا بهما زوايا جهنم) . قال حذيفة بن اليمان: أنا لا أثني على أحد من الولاة سواء كان صالحاً أو غير صالح، لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (يؤتي بالولاة العادلين والظالمين يوم القيامة فيوقفون على الصراط فيوحي الله إلى الصراط أن ينفضهم إلى النار مثل من جار في الحكم أو أخذ رشوة على القضاء أو أعار سمعه لأحد الخصمين دون الآخر، فيسقطون من الصراط فيهوون سبعين سنة في النار حتى يصلوا إلى قرارها) . وقد جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان يخرج ليلاً متنكراً بحيث لا يعرفه أحد، وكان يسأل كل من يلقاه عن حال داود سراً، فجاءه جبريل في صورة رجل فقال له داود: ما تقول في داود؟ فقال: نعم العبد، إلا أنه يأكل من بيت المال ولا يأكل من كدّه وتعب يديه. فعاد داود إلى محرابه باكياً حزيناً وقال: إلهي علمني صنعة آكل بها من كدي وتعب يدي. فعلمه الله تعالى صنعة الزرد. وكان عمر بن الخطاب يخرج كل ليلة يطوف مع العسس حتى يرى خللاً يتداركه وكان يقول: لوتركت عنزاً جرباء على جانب ساقية لم تدهن لخشيت أن أسئل عنها في القيامة. فانظر أيها السلطان إلى عمر مع احتياطه وعدله وما وصل أحد إلى تقواه وصلاته كيف يتفكر ويتخوف من أهوال يوم القيامة وأنت قد جلست لاهياً عن أحوال رعيتك غافلاً عم أهل ولايتك.
قال عبد الله بن عمر وجماعة من أهل بيته: كنا ندعو الله أن يرينا عمر في المنام، فرأيته بعد أثني عشر كأنه قد اغتسل وهو متلفع فقلت: يا أمير المؤمنين كيف وجدت ربك وبأي حسناتك جازاك؟ فقال: يا عبد الله كم لي منذ فارقتك؟ فقلت: إثنتا عشرة سنة. فقال: منذ فارقتكم في الحساب وخفت أن أهلك إلا أن الله غفور رحيم، جواد كريم. فهذا حال عمر ولم يكن له من دنياه شيء من أسباب الولاية سوى درة. حكاية: أرسل قيصر ملك لروم رسولاً إلى عمر بن الخطاب لينظر أحواله ويشاهد فعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم؟ قالوا: ليس لنا ملك، بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة. فخرج الرسول في طلبه فوجده نائماً في الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة تحت رأسه والعرق يسقط منه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل تكون جميع ملوك الأرض لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالة، ولكنك يا عمر عدلت فأمنت فنمت وملكنا يجور لا جرم أنه لا يزال ساهراً خائفاً. أشهد أن دينكم لدين الحق ولولا أني أتيت رسولاً لأسلمت، ولكن سأعود بعد هذا وأسلم. أيها السلطان خطر الولاية عظيم، وخطبها جسيم، والشرح في ذلك طويل، ولا يسلم الوالي الا بمقارنة عملاء الدين ليعلموه طرق العدل ويسهلوا عليه خطر هذا الأمر. الأصل الثاني أن يشتاق أبداً إلى رؤية العلماء ويحرص على استماع نصحهم، وأن يحذر من علماء السوء الذين يحرصون على الدنيا فإنهم يثنون عليك، ويغرونك ويطلبون رضاك طمعاً فيما في يديك من خبث الحطام ووبيل الحرام،
ليحصلوا منه شيئاً بالمكر والحيل. والعالم هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال، ومنصفك في الوعظ والمقال. كما يقال أن شقيقاً البلخي دخل على هارون الرشيد فقال له: أنت شقيق الزاهد؟ فقال: أنا شقيق ولست بزاهد. فقال له: أوصني. فقال: إن الله تعالى قد أجلسك مكان الصديق، وأنه يطلب منك مثل صدقة، وأنه أعطاك موضع عمر بن الخطاب الفاروق، وأنه يطلب منك الفرق بين الحق والباطل مثله، وأنه أقعدك موضع عثمان بن عفان ذي النورين وهو يطلب منك مثل حيائه وكرمه، وأعطاك موضع علي بن أبي طالب وهو يطلب منك مثل العلم والعدل كما يطلب منه. فقال له: زدني من وصيتك. فقال: نعم. اعلم أنا لله تعالى داراً تعرف بجهنم، وأنه قد جعلك بواب تلك الدار وأعطاك ثلاثة أشياء بيت المال والسوط والسيف، وأمرك أن تمنع الخلق من دخول النار بهذه الثلاثة فمن جاء محتاجاً فلا تمنعه من بيت المال، ومن خالف أخر ربه فأدبه بالسوط، ومن قتل نفساً بغير حق فاقتله بالسيف بإذن ولي المقتول، فإن لم تفعل ما أمرك فأنت الزعيم لأهل النار، والمتقدم إلى البوار. فقال له: زدني. فقال: إنما مثلك كمثل معين الماء، وسائر العلماء في العالم كمثل السواقي، فإذا كان المعين صافياً لا يضر كدر السواقي، وإذا كان المعين كدراً لا ينفع صفاء السواقي. حكاية: خرج هارون الرشيد والعباس ليلاً زيارة الفضيل بن عياض، فلما وصلا إلى بابه وجداه يتلو هذه الآية: (أم حَسِبَ الذين إجتَرحوُا السيئَات أن نجَعلُهُم كالذِينَ آمنَوُا وعَمِلوُا الصَالِحاتِ) ومعناها: أيظن الذين اكتسبوا الخطايا ويعملون الأعمال المذمومة أن نسوي بينهم في الآخرة، وبين الذين يعملون الخيرات وهم مؤمنون. كلا ساء ما يحكمون. فقال هارون: إن كنا جئنا للموعظة فكفى بهذه موعظة. ثم أمر العباس أن يطرق عليه الباب فطرق بابه فقال: افتح الباب لأمير المؤمنين. فقال الفضيل: ما يصنع عندي أمير المؤمنين؟ فقال: أطِع أمير المؤمنين وافتح الباب. وكان ليلاً والمصباح يتقد فأطفأه، وفتح الباب،
فدخل الرشيد وجمل يَطوف بيده ليصافح بها الفضيل، فلما وقعت يده عليه قال: الويل لهذه اليد الناعمة، إن لم تنج من العذاب في القيامة. ثم قال له: يا أمير المؤمنين استعد لجواب الله تعالى، فانه يوقفك مع كل واحد مسلم على حدة يطلب منك إنصافك إياه. فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً وضمه إلى صدره. فقال له العباس: مهلاً فقد قتلته. فقال الرشيد للعباس: ما جعلك هامان إلا وجعلني فرعون. ثم وضع الرشيد بين يديه ألف دينار وقال له: هذه من وجه حلال من صداق أمي وميراثها. فقال له الفضيل: أنا آمرك أن ترفع يديك عما فيها وتعود إلى خالقك وأنت تلقيه إليّ. فلم يقبلها وخرج من عنده. نكتة: سأل عمر بن عبد العزيز محمد بن كعب القرظي فقال: صف لي العدل. فقال: كل مسلم أكبر منك سناً فكن له ولداً، ومن كان أصغر منك فكن له أباً، ومن كان مثلك فكن له أخاً، وعاقب كل مجرم على قدر جرمه، وإياك أن تضرب مسلماً سوطاً واحداً على حقد منك فإن ذلك يصيرك إلى النار. نكتة: حضر بعض الزهاد بين يدي خليفة، فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين إني سافرت الصين وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه فسمعته يقول يوماً وهو يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته، ولكن الشكر لله إذ بصري سالم. وأمر منادياً ينادي ألا كل من كانت له ظلامة فليلبس ثوباً أحمر. فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوباً أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه من خصمائه. فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن من أهل بيت النبوة فأنظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك. نكتة أخرى: حضر أبو قلابة مجلس عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني قال: من عهد آدم إلى وقتنا هذا لم يبق خليفة سواك. فقال: زدني. فقال: أنت أول خليفة يموت. فقال: زدني. فقال: إن كان الله معك فممن تخاف وإن لم يكن معك فإلى من تلتجىء. قال: حسبي ما قلت.
حكمة: كان سليمان بن عبد الملك خليفة فتفكر يوماً وقال: قد تنعمت في الدنيا طويلاً فكيف حالي في الآخرة؟ وأتى إلى أبي حازم، وكان عالم أهل زمانه وزاهد أوانه، وقال: أنفذ لي شيئاً من قوتك الذي تفطر عليه. فأنفذ له قليلاً من نخالة وقد شواها، فقال: هذا فطوري. فلما رأي سليمان ذلك أفطر الليلة الثالثة على تلك النخالة المشوية، فيقال إنه في تلك الليلة تغشى أهله فكان منها عبد العزيز وجاء منه عمر بن عبد العزيز. وكان واحد زمانه في عدله وإنصافه وزهده وإحسانه، وكان على طريقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل أن ذلك ببركة نيته وصيامه وأكله من ذلك الطعام. نكتة: سئل عمر بن عبد العزيز: ما كان سبب توبتك؟ قال: كنت أضرب يوماً غلاماً فقال لي: اذكر الليلة التي تكون صبيحتها القيامة، فعمل ذلك الكلام في قلبي. نكتة أخرى: رأى بعض الأكابر هارون الرشيد في عرفات وهو حافٍ حاسر قائم على الرمضاء الحارة، وقد رفع يديه وهو يقول: إلهي أنت أنت وأنا أنا الذي دأبي كل يوم أعود إلى عصيانك ودأبك أن تعود إليّ برحمتك. فقال بعض الكبراء: انظروا إلى تضرع جبار الأرض بين يديّ جبار السماء. نكتة أخرى: سأل عمر بن عبد العزيز يوماً حازم الموعظة فقال له أبو حازم: إذا نمت فضع الموت تحت رأسك وكل ما أحببت أن يأتيك الموت وأنت عليه مصرّ فالزمه، وكل مالا تريد أن يأتيك الموت وأنت عليه فاجتنبه، فربما كان الموت منك قريباً. فينبغي لصاحب الولاية أن يجعل هذه الحكاية نصب عينيه، وأن يقبل المواعظ التي وعظ بها غيره فكلما رأى علماً سأله أن يعظه، وينبغي للعلماء أن يعظوا الملوك بمثل هذه المواعظ ولا يغرّوهم ولا يدّخروا عنهم كلمة الحق وكل من غرّهم فهو مشارك لهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الأصل الثالث من ذلك ينبغي أن لا تقنع برفع يدك عن الظلم لكن تهذّب غلمانك وأصحابك وعمالك ونوابك، فلا ترضى لهم بالظلم فإنك تُسأل عن ظلمهم كما تُسأل عن ظلم نفسك. نكتة: كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى عامله أبي موسى الأشعري: (أما فإن أسعد الولاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته. فإياك والتبسّط فإن عمالك يقتدون بك، وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضراً فأكلت كثيراً حتى سمنت فكان سمنها سبب هلاكها لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل) . وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كان ذلك الظلم منسوباً إليه وأخذ به وعوقب عليه. وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحدُ أشد غبناً ممن باع دينه وآخرته بدنيا غيره، وأكثر الناس في خدمة شهواتهم، فانهم يستنبطون الحيل ليصلوا إلى مرادهم من الشهوات. وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه في النار ليصلوا إلى أعراضهم، وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى في هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل على الرعية أن يرتّب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أحوال العمار، وينظر فيها كما ينظر في أحوال أهله وأولاده ومنزله، ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولاً من باطنه؛ وذلك أن لا يسلّط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه. ويجب أن يعلم أن العقل من جوهر الملائكة ومن جند البارئ، جلّت قدرته، وأن الشهوة والغضب من جند الشيطان. فمن يجعل جند الله وملائكته أسرى جند الشيطان كيف يعدل في غيرهم؟ وأول ما تظهر شمس العدل في الصدر ثم ينشر نورها في أهل البيت وخواص الملك فيصل شعاعها إلى
الرعية، ومن طلب الشعاع في غير الشمس فقد طلب المحال، وطمع فيما لا ينال. واعلم أيها السلطان وتبيّن أن ظهور العدل من كمال العقل، وكمال العقل أن ترى الأشياء على ما هي، وتدرك حقائق باطنها ولا تغتر بظاهرها. مثلاً إذا كنت تجور على الناس لأجل الدنيا فينبغي أن تنظر أي شيء مقصودك من الدنيا، فإن كان مقصودك من الدنيا أكل الطعام الطيب فيجب أن تعلم أن هذه شهوة بهيمة في صورة آدمي، لأن الشهوة إلى الأكل من طباع البهائم، وإن كان مقصودك لبس التاج فإنك امرأة في صورة رجل لأن التزين والرعونة من أعمال النساء، وإن كان مقصودك أن تمضي غضبك على أعدائك فأنت أسد أو سبع في صورة آدمي لأن إحضار الغضب للقلب من طباع السباع، وإن كان مقصودك أن تخدمك الناس فأنت جاهل في صورة عاقل فإنك لو كنت عاقلاً لعلمت أن الذين يخدمونك إنما هم خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم وإن خدمتهم وسجودهم لأنفسهم لا لك وعلامة ذلك أنهم لو سمعوا إرجافاً بأن الولاية تؤخذ منك وتعطى لسواك أعرضوا بأجمعهم عنك وفي أي موضع علموا الدرهم خدموا وسجدوا لذلك الموضع، فعلى الحقيقة ليست هذه خدمة وإنما هي ضحكة. والعاقل من نظر أرواح الأشياء وحقائقها ولا يغتر بصورها، وحقيقة هذه الأعمال ما ذكره وأوضحناه، فكل من لم يتيقن ذلك فليس بعاقل ومن لم يكن عاقلاً لم يكن عادلاً ومن لم يكن عادلاً مأواه جهنم، فلهذا السبب كان رأس مال السعادات كلها العقل. الأصل الرابع إن الوالي في الأغلب يكون متكبراً ومن التكبر يحدث عليه السخط
الداعية إلى الانتقام، والغضب غول العقل وعدوه وآفته، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الغضب في ربع المهلكات. وإذا كان الغضب غالباً فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الكرم والتجاوز فإذا صار ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء، ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السباع والدواب. حكاية: يقال أن أبا جعفر المنصور أمر بقتل رجل، والمبارك بن الفضل حاضر فقال: يا أمير المؤمنين أسمع خبراً قبل أن تقتله: روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة وجمع الخلائق في صعيد واحد، نادي منادٍ من كان له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا عن الناس، فقال أطلقوه فأني قد عفوت عنه) . وأكثر ما يكون غضب الولاة على من ذكرهم وطوّل لسانه عليهم فيسعون في سفك دمه. قال عيسى عليه السلام ليحيى بن زكريا عليهما السلام: إذا ذكرك أحد بشيء وقال فيك صحيحاً فاشكر الله، وإن قال فيك كذباً فازدد من ذكر الشكر، فإنه يزيد في ديوان أعمالك وأنت مستريح، يعني أن حسناته تكتب لك في ديوانك. وذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقيل إن فلاناً رجل قوي شجاع فقال: كيف ذاك؟ فقالوا: يقوى بكل أحد وما صارع أحداً إلا صرعه فقال عليه الصلاة السلام: (القوي الشجاع من قهر نفسه لا من صرع غيره) . وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كانت فيه فقد كمل إيمانه من كظم غيظه وأنصف في حال رضاه وغضبه وعفا عند المقدرة) . وقال عمر ابن الخطاب: لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب. حكاية: قيل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقاً مملوأً من التمر الجني وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل فطرق الباب فقام الرجل وفتح الباب فنظر إلى الحسين ومعه الطبق فقال: وما
هذا يا ابن بنت رسول الله؟ قال: خذه فأنه بلغني عنك إنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا. حكاية أخرى: خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه إلى المسجد فسبّه رجل فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذنه فنهاهم زين العابدين وقال: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول وما لا تعرفه مني أكثر مما قد عرفته فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك، فخجل واستحيى فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويروى أن زين العابدين استدعى غلاماً له وناداه مرتين فلم يجبه فقال له زين العابدين: أما سمعت ندائي؟ فقال: بلى قد سمعت، قال: فما حملك على تركك إجابتي عليّ؟ قال: أمنت وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت، فقال: الحمد لله الذي أمن مني عبدي. ويروى عنه أنه كان له غلام فعمد إلى شاة فكسر رجلها فقال له: لم فعلت هذا؟ قال: فعلته غمداً لأغيظك، قال: ما أنا أغيظ من الذي علمك وهو إبليس أذهب فأنت حر لوجه الله تعالى. ويروى أن رجلاً سبه فقال له زين العابدين: يا هذا بيني وبين جهنم عقبة إن أنا أجزتها فما أبالي وإن أنا لم أجزها فأنا أكثر مما تقول. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد يبلغ الرجل بحلمه وعفوه درجة الصائم القائم، ويكون رجل يكتب في جريدة الجائرين ولا ولاية له ولا حكم إلا على أهل منزله) . ويروى أن إبليس رأى موسى عليه السلام فقال: يا موسى أعلمك ثلاثة أشياء وتطلب لي من الله حاجة واحدة، فقال: وما الثلاثة أشياء؟ فقال يا موسى أحذر من الغضب والحرد، فإن الحَردان يكون خفيف الرأس وأنا ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة، وأحذر من البخل فإني أفسد على البخيل دنياه ودينه، وأحذر من النساء فإني ما نصبت للخلق شركاً اعتمد عليه مثل النساء.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من كظم غيظه وهو قادر على أن لايكظمه ملأ الله قلبه بالإيمان، ومن لم يلبس ثوباً طويلاً خوفاً من التكبر والخيلاء ألبسه الله تعالى حلل الكرامة) . وقال عليه الصلاة والسلام: (ويل لمن يغضب وينسى غضب الله) . جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملاً ادخل به الجنة، فقال: لا تغضب. قال: ثم ماذا؟ قال: استغفر الله قبل صلاة العصر سبعين مرة لتكفر عنك ذنوب سبعين سنة، فقال: ما لي ذنوب سبعين سنة، فقال: لأمك، قال: وما لأمي ذنوب سبعين سنة، قال: لأبيك، قال: وما لأبي ذنوب سبعين سنة قال: لأخوتك؟ قال: نعم. وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم يوماً مالاً فقال له رجل: ما هذه القسمة؟ يعني أنها ليست بإنصاف، فحكيت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب واحمرّ وجهه ولم يقل شيئاً سوى أن قال: رحم الله أخي موسى فإنه أوذي فصبر على الأذى. فهذه الجملة من الحكايات والأخبار تقنع في نصيحة الولاة إذا كان أصل إيمانهم ثابتاً اثر فيه هذا القدر، فإن لم يؤثر ما ذكرناه فيهم فقد أخلوا قلوبهم من الإيمان، وإنه ما بقي من إيمانهم إلا الحديث باللسان. عامل يتناول من أموال المسلمين في كل سنة كذا وكذا ألف درهم ويبقى في ذمته، ويطالب بها في القيامة ويحصل بمنفوعها ويبؤ بالعقوبة والعذاب يوم المرجع والمآب كيف تؤثر عنده هذه الأسباب؟ وهذا نهاية الغفلة، وقلة الدين وضعف النحلة. الأصل الخامس إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر إنك واحد من جملة الرعية وإن الوالي سواك فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين، وإن رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعداً يوم بدر في ظل فهيط الأمين جبريل عليه السلام فقال: يا محمد أتقعد في الظل وأصحابك في الشمس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب النجاة من النار والدخول إلى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين) . وقال عليه الصلاة والسلام: (من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم) . مس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب النجاة من النار والدخول الى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين) . وقال عليه الصلاة والسلام: (من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم) . الأصل السادس أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك وأحذر من هذا الخطر، ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة فلا تشتغل عن قضائها بنوافل العبادات فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات. نكتة: كان يوماً عمر بن عبد العزيز يقضي حوائج الناس فجلس إلى الظهر وتعب فدخل بيته ليستريح من تعبه فقال له ولده: وما الذي يؤمنك أن يأتيك الموت في هذه الساعة وعلى بابك منتظر حاجة وأنت مقصر في حقه؟ فقال: صدقت. ونهض فعاد إلى مجلسه. الأصل السابع أن لا تعود نفسك الاشتغال بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل الأطعمة الطيبة، لكن تستعمل القناعة في جميع الأشياء فلا عدل بلا قناعة. نكتة: سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعض الصالحين فقال: هل رأيت من حلاي شيئاً تكرهه؟ قال: سمعت أنك وضعن على مائدتك رغيفين وأن لك قميصين أحدهما لليل والآخر للنهار، فقال: غير هذين شيء؟ فقال: لا. قال: والله إن هذين لا يكونان أبداً.
الأصل الثامن إنك متى أمكنك أن تعمل الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها بالشدة والعنف. قال صلى الله عليه وسلم: (كل والٍ لا يرفق برعيته لا يرفق الله به يوم القيامة) . ودعا عليه الصلاة والسلام يوماً: (اللهم الطف بكل والٍ يلطف برعيته واعنف على كل والٍ يعنف على رعيته) . وقال عليه الصلاة والسلام: (الولاية والإمرة حسنتان لمن قام بحقهما سيئتان لمن قصر فيهما) . نكتة: كان هشام بن عبد الملك من خلفاء بني أمية فسأل يوماً أبا حازم وكان من العلماء: ما التدبير في النجاة من أمور الخلافة؟ قال: أن تأخذ الدرهم الذي تأخذه من وجه حلال، وان تضعه في موضع حق. قال: من يقدر عل هذا؟ قال: من يرغب في نعيم الجنان، ويرهب من عذاب النيران. الأصل التاسع أن تجتهد أن ترضى عنك رعيتك بموافقة الشرع قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (خير أمتي الذين يحبونكم وتحبونهم، وشر أمتي الذين يبغضونكم وتبغضونهم ويلعنونكم وتلعنونهم، وينبغي للوالي أن لا يغتر بكل من وصل إليه وأثنى عليه، وأن لا يعتقد أن الرعية مثله راضون عنه، وأن الذي يثني عليه إنما يفعل ذلك من خوفه منه، بل ينبغي ترتيب معتمدين يسألون عن حاله من الرعية ليعلم عيبه من ألسنة الناس) . الأصل العاشر إن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع فإن من سخط بخلاف الشرع لا يضر سخطه. كان عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: إني لأصبح ونصف الخلق علي ساخط، ولابد لكل من يؤخذ منه الحق أن
يسخط، ولا يمكن أن يرضى الخصمين، وأكثر الناس جهلاً من ترك الحق لأجل رضا الخلق. كتب معاوية إلى عائشة، رضي الله عنهما، أن عظيني عظة مختصرة، فكتبت إليه تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب رضا الله تعالى في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخط الخلق عليه، مثل أن لا يأمرهم بالطاعة ولا يعلمهم أمور الدين ويطعمهم الحرام ويمنع الأجير أجرته والمرأة مهرها، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)
بيان العينين اللتين هما مشرب شجرة الإيمان وإذ قد عرفت أصول شجرة الإيمان، وعرفت فروعها، فاعلم أن هناك عينين للعلم تستمد الشجرة منهما الماء. العين الأولى في معرفة الدنيا ولم أوجد فيها الإنسان إعلم يا سلطان العالم أن الدنيا منزلة وليست بدار قرار، والإنسان مسافر فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره، وإنما وطنه وقراره ومكثه واستقراره بعدها. فكل سنة تنقضي من الإنسان فكالمرحلة، وكل شهر ينقضي منه فكاستراحة المسافر في كريقه، وكل أسبوع فكقرية تلقاه، وكل يوم فكفر سوف يقطعه، وكل نفس كخطوة يخطوها، وبقدر كل نفس يتنفسه يقرب من الآخرة. وهذه الدنيا قنطرة فمن عمر القنطرة واستعجل بعمارتها فني فيها زمانه، ونسى المنزلة التي هي مصيره ومكانه، وكان جاهلاً غير عاقل، وإنما العاقل الذي لا يشتغل في دنياه إلا لاستعداده لمعاده، ويكتفي منها بقدر الحاجة ومهما جمعه فوق كفايته كان سماً ناقعاً، ويتمنى أن تكون جميع خزائنه وسائر ذخائره رماداً وتراباً لا فضة ولا ذهباً، ولو جمع مهما جمع فإن نصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه، وجميع ما يخلفه يكون عليه حسرة وندامة ويصعب عليه نزعه عند موته فحلالها حساب، وحرامها عذاب، أن كان قد جمع المال من حلال طلب منه الحساب، وإن كان قد جمع من حرام وجب عليه العذاب،
وكان إيمانه صحيحاً سالماً لحضرة الديان، فلا وجه ليأسه من الرحمة والرضوان، فإن الله جواد كريم، غفور رحيم. واعلم أيها السلطان أن راحة الدنيا أيام قلائل وأكثرها منغص بالتعب، مشوب بالنصب، وبسببها تفوت راحة الآخرة التي هي الدائمة الباقية والملك الذي لا نهاية له ولا فناء، فيسهل على العاقل أن يصبر في هذه الأيام القلائل لينال راحة دائمة بلا انقضاء. نكتة: لو كان للإنسان معشوقة وقيل له إن صبرت عنها هذه الليلة سلمت إليك ألف ليلة بلا تعب ولا نصب، وإن كنت تزورها فإنك لا تراها أبداً فإنه كان عشقه لها عظيماً وصبره عنها أليماً لكن يهون عليه صبره على البعد عنها ليلة واحدة لينال الآخرة، بل الدنيا ليست بشيء في جنب الآخرة، ولا شبه بينهما لأن الآخرة لا نهاية لها، ولا يُدرك بالوهم طولها. وقد أفردنا في صفة الدنيا كتاباً لكنا نقتنع الآن بما نورده من حال الدنيا، وقد أوضحنا حالها على عشرة أمثلة. المثال الأول في بيان سحر الدنيا: وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أحذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت؛ وأول سحرها أنها تريك أنها ساكنة عندك مستقرة معك، وإذا تأملتها خلتها وهي هاربة منك نافرة عنك عل الدوام، وإنما تتسلسل عل التدريج ذرة ذرة ونفساً نفساً) . ومثل الدنيا مثل الظل إذا رأيته حسبته ساكناً وهو يمر دائماً، وكذلك عمر الإنسان يمر بالتدريج عل الدوام وينقص كل لحظة، وكذلك الدنيا تودعك وتهرب عنك وأنت غافل لا تخبر وذاهل لا تشعر، ولذلك قال بعض الشعراء في المعني. وما الدُنيَا وإن كثُرت وطابَت ... بها اللذاتُ إلا كالسَرابِ يمُرُ نعيمُها بعدُ اِلتذاذِ ... ويمضِي ذاهباً مرّ السحابِ المثال الثاني من ذلك: ومن سحرها أنها تظهر لك محبة لتعشقها، وتريك أنها لك مساعدة وأنها لا تنتقل عنك إلى غيرك ثم تعود عدوة لك على
غفلة. ومثلها مثل امرأة فاجرة خداعة للرجال حتى إذا رأوها عشقوها ودعتهم إلى بيتها فاغتالتهم وأهلكتهم. نكتة: رأى عيسى عليه السلام الدنيا في بعض مكاشفاته وهي على صورة عجوز هرمة فقال لها: كم كان لك من زوج؟ فقالت: لا يحصون كثرة، فقال عيسى: ماتوا أم طلقوك؟ فقالت: بل أنا قتلتهم وأفنيتهم، فقال: يا عجباً ومن دواهيك هذا صنعك بأهلك وهم فيك راعبون، وعليك يقتتلون، وبمن مضى لا يعتبرون. المثال الثالث من ذلك: ومن سحرها أنها تزين ظاهرها بمحاسنه، وتخفي محنتها وقواتلها في باطنها، لتغر الجاهل بما يرى من ظاهرها ومثلها كمثل عجوز قبيحة المنظر تخفي وجهها وتلبس حسن الثياب وتتزين وتتجمل لتفتن الخلق من بعد فإذا كشفوا عنها غطاءها وخمارها، والقوا عنها إزارها ندموا على محبتها لما شاهدوه من فضائح، وعاينوه من قبائحها. وقد جاء في الخبر أن الدنيا يؤتى بها يوم القيامة في صورة عجوز قبيحة مشوهة زرقاء العين وحشة الوجه قد كشّرت عن أنيابها، فإذا رآها الخلائق قالوا نعوذ بالله من هذه القبيحة المشوهة، فيقال لهم هذه الدنيا التي كنتم عليها تتحاسدون ولأجلها كنتم تتحاقدون وتسفكون الدماء بغير حق وتقطعون أرحامكم وتغترون زخرفها، ثم يؤمر بها إلى النار فتقول: إلهي أين أحبابي فيؤمر بهم فيلقون في نار جهنم. المثال الرابع من ذلك: إن الإنسان يحسب كم كان في الأزل قبل أن يوجد في الدنيا وكم يكون مدة عدمه بالموت وكم قدر هذه المدة التي بين الأبد والأزل وهي مدة حياته في الدنيا، فيعلم أن مثال الدنيا كطريق المسافر أوله المهد، وآخره اللحد، وفيما بينهما منازل معدودة، وأن كل سنة كمنزل وكل شهر لفرسخ، وكل يوم كميل، وكل نفس كخطوة وهو يسير دائماً فيبقى لواحد من طريقه فرسخ ولآخر أكثر وهو قاعد ذاهل، وساكن غافل، كأنه
مقيم لا يبرح وقد اشتغل بتدبير أعمال لا يحتاج إليها بعد عشر سنين وربما يحصل بعد عشرة أيام تحت التراب. المثال الخامس من ذلك: إعلم أن مثل الدنيا تتحف أهلها فيها بشهواتهم ولذاتهم من الأمور الفضائح التي يشاهدونها في الآخرة كمثل إنسان أكل فوق حاجته من طعام حلو سمين إلى أن هاض هاضت معدته فرأى فضيحته من هلاك معدته ونتونة نفسه وكره برازه وحاجته فندم بعد ذهاب لذته وبقاء فضيحته من هلاك معدته. وكذلك كلّما ألف الإنسان لذات الدنيا وتبين له ذلك كانت عاقبته أصعب، ويبتلي بمثل ذلك عند نزعه خروج روحه كمن كان له نعم كثيرة وذهب وفضة وجوار وغلمان وكروم وبساتين وفارقه كان ألم فراق روحه عليه أصعب ممن ليس له إلا القليل فإن ذلك الألم والعذاب لا يزول بالموت بل يزيد لأن تلك المحبة صفة القلب والقلب بحاله لا يموت. المثال السادس من ذلك: إعلم أيها السلطان أن أمور الدنيا أول ما تبدو يظنها الإنسان قريبة مختصرة وأن شغلها لا يدوم، وربما كان من بعض أشغالها وأحوالها أمر يتسلسل منه أمر وينفق فيه بضاعة العمر، فإن عيسى عليه السلام قال: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً ولهباً فلا يزال يشرب حتى يهلك ولا يروى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كما لا يمكن من خاض البحر أن لا يناله البلل كذلك لا يمكن من دخل في أمور الدنيا أن لا يتدنس) . المثال السابع من ذلك: مثل من حصل في الدنيا كمثل ضيف دُعي إلى مائدة ومن عادة المضيف أن يزين داره للأضياف ويدعو إليها قوماً بعد قوم، وفوجاً بعد فوج، ويضع بين يدي أضيافه طبقاً من ذهب مملوءاً بالجوهر ومجمرة من فضة من عود وبخور ليتطيبوا ويتبخروا وينالهم طيب رائحتها، ثم يعاودون الطبق والمجمرة بحالهما لمالكهما ليدعو غيرهم كما دعاهم. فمن كان عاقلاً عارفاً برسم الدعوات وضع من ذلك البخور على النار وتطيب وانصرف ولم يطمع أن يتناول الطبق والمجمرة وتركهما بطيبة من قلبه، وشكر لصاحب
البيت وربه. ومن كان أبله أحمق توهم أن ذلك الطبق والمجمرة قد أعدا له وهم يريدون أن يهبوهما له فلما همّ بالخروج أخذ الطبق والمجمرة فلم يمكن من الخروج بهما واستعادوهما منه فضاق صدره وتعب قلبه، وطلب الأقالة إذ ظهر ذنبه، فالدنيا كمثل طريق المسافر ودار الضيافة ليتزودوا منها لطريقهم ولا يطمعوا في الدار. المثال الثامن: مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالهم، واهتمامهم بأحوالها، ونسيان الآخرة وإهمالها كمثل قوم ركبوا مركباً في البحر فعدلوا إلى جزيرة لأجل الطهارة وقضاء الحاجة، فنزلوا إلى الجزيرة والملاّح يناديهم لا تطيلوا المكث لئلا يفوت الوقت ولا تشتغلوا بغير الوضوء والصلاة فإن المركب سائر، فمضوا وتفرّقوا في الجزيرة وانتشروا في نواحيها، فالعقلاء منهم لم يمكثوا وشرعوا في الطهارة وعادوا إلى المركب فأصابوا الأماكن خالية فجلسوا في أطهر الأماكن وأوفقها وأرفعها. ومنهم قوم نظروا إلى عجائب تلك الجزيرة ووقفوا يتنزهون في زهرتها وثمارها، وروضاتها وأشجارها؛ ويسمعون طيب ترنّم أطيارها، ويتعجبون من حصبائها الملونة وأحجارها، فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا موضعاً ولا رأوا متسعاً فقعدوا في أضيق مواضعه وأظلمها. ومنهم قوم لم يقنعوا بالنزهة ولم يقتصروا على الفرجة لكنهم جمعوا من تلك الحصباء الملونة ثم حملوها معهم إلى المركب فلم يجدوا مكاناً ولا فرجة فقعدوا في أضيق المواضع وحملوا ما استصحبوا من تلك الأحجار على أعناقهم فلم يمض إلا يوم أو يومان حتي تغيرت ألوان تلك الأحجار واسودت وفاح منها أكره رائحة ولم يجدوا مخلصاً من الزحام ليلقوا ثقلها عن أعناقهم فندموا عل ما فعلوا، وحصلوا بثقل الأحجار عل أعناقهم إذ كانوا بتحصيلها اشتغلوا. ومنهم قوم وقفوا مع عجائب تلك الجزيرة وتنزهوا، وفي الرجوع لم
يتفكروا حتى سار المركب فبعدوا عنه وانقطعوا في أماكنهم وتخلفوا إذ لم يصيحوا إلى المنادي ولم يسمعوا، فمنهم من أكلته السباع وتهشه الضباع. فالقوم المتقدمون هم القوم المؤمنون المتقون، والقوم المتخلفون الهالكون هم الكفار المشركون، الذين نسوا الله ونسوا الآخرة سلموا كليتهم إلى الدنيا وركنوا إليها كما قال عز من قائل: (ذلك بِأنهم اِستحَبُوا الحَياة الدُنيا على الآخرةِ) أي ركنوا إليها. وأما الجماعة المتوسطون فهم العصاة الذين حفظوا أصل الإيمان لكنهم لم يكفوا أيديهم عن الدنيا فمنهم من تمتع بغناه ونعمته ومنهم من تمتع مع فقره وحاجته إلى أن غلبت أوزارهم، وكثرت أوساخهم وأوضارهم. المثال التاسع: روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا هريرة أتريد أن أريك الدنيا؟) قلت: نعم يا رسول الله. فأخذ بيدي وانطلق حتى وقف بي على مزبلة فيها رؤوس الآدميين وبقايا عظام نخرة وخرق قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين فقال: (يا أبا هريرة هذه الرؤوس التي تراها كانت مثل رؤوسكم مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا. كانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يجدون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدون، فاليوم قد تغيرت عظامهم وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها وقت الرعونة والتجمل والتزين قد ألقتها الريح في النجاسات، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها وينهبها بعضهم من بعض قد القوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها؛ فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وترى فمن أراد أن يبكي علي الدنيا فليبكِ فإنها موضع البكاء) . قال أبو هريرة: فبكى جملة الحاضرين. المثال العاشر: كان في زمن عيسى عليه السلام ثلاثة سائرين في طريق
فوجدوا كنزاً فقالوا: قد جعنا فليمضِ واحد منا ويبتاع لنا طعاماً. فمضى أحدهم ليأتيهم بطعام فقال: الصواب أن أجعل لهما سماً قاتلاً في الطعام ليأكلا منه فيموتا وانفرد بالكنز دونهما، ففعل ذلك وسم الطعام. واتفق الرجلان الآخران أنه إذا وصل إليهما قتلاه وانفردا بالكنز دونه. فلما وصل ومعه الطعام المسموم قتلاه وأكلا من الطعام فماتا. فاجتاز عيسى عليه السلام بذلك الموضع فقال للحواريين: هذه الدنيا كيف قتلت هؤلاء الثلاثة وبقيت من بعدهم، ويل لطلاب الدنيا من الدنيا. العين الثانية معرفة النفس الأخير إعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتان: طائفة نظروا إلى شاهد حال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله؟ وهذه الفكرة واجبة على الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيراً أزعجوا قلوب الخلائق وأنفذوا إلى الناس الغلمان بالسيئات وأفزعوا الخليقة وأدخلوا في قلوبهم الرعب، فإن بحضرة الحق تعالى غلاماً اسمه عزرائيل لا مهرب لأحد من مطالبته وتشتيته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهباً وفضة وطعاماً وصاحب هذا التوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلاً وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع، وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون إليه اليوم والليلة والساعة وهذا الموكل لا يمهل نفساً واحداً وعجائب أحواله كثيرة إلا أنّا نذكر من أحواله خمس حكايات.
الحكاية الأولى وهو ما رواه وهب بن منبه وكان من علماء اليهود وأسلم، روى أنه كان ملك عظيم أراد أن يركب يوماً في جملة أهل مملكته ويري الخلق عجائبه وزينته فأمر أمراءه وحجابه وكبراء دولته رتبة بالركوب ليظهر للناس سلطنته، فأمر بإحضار فاخر الثياب وأمر بعرض خيوله المعروفة، وعتاقه الموصوفة، فاختار من جملتها جواداً يعرف السبق فركبه بالمركب والطوق المرصع بالجوهر وجعل يركض الحصان في عسكره، ويفتخر بتيهه وتجبره، فجاء إبليس فوضع فمه في منخره ونفخ هواء الكبر في أنف أنفته فقال في نفسه من في العالم مثلي؟ وجعل يركض بالكبرياء، ويزهو بالخيلاء، ولا ينظر إلى أحد من تيهه وكبره، وعجبه وفخره، فوقف بين يديه رجل عليه ثياب رثة فسلم عليه فلم يرد عليه سلامه فقبض على عنان فرسه فقال له الملك: إرفع يدك فإنك لا بدري بعنان من قد أمسكت؟ فقال: لي إليك حاجة، فقال: اذكر حاجتك، فقال: إنها سرُ ولا أقولها إلا في أذنك، فأصغي إليه بسمعه فقال: أنا ملك الموت أريد أن أقبض روحك، فقال: أمهلني بقدر ما أعود إلى بيتي وأودّع أولادي وزوجتي، فقال: كلا لا تعود تراهم أبداً فإنك قد فنيت مدة عمرك، وأخذ روحه وهو عل ظهر الفرس فخر ميتاً. وعاد ملك الموت من هناك فأتي رجلاً صالحاً قد رضي ربه عليه فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: لي إليك حاجة وهي سر، فقال الصالح: قل حاجتك في أذني، فقال: أنا ملك الموت، فقال: مرحباً بك الحمد لله عل مجيئك فإني كنت كثير الترقّب لوصولك، ولقد طالت علي غيبتك وكنت مشتاقاً إلى قدومك، فقال له ملك الموت: إن كان لك شغل فاقضِه، فقال: ليس لي شغل أهم عندي من لقاء ربي عز وجل، فقال: كيف تحب أن أقبض روحك فإني أمرت أنا سجدت فخذ روحي وأنا ساجد، ففعل ملك الموت ما أمره به ونقله الى رحمة ربه جل وعلا.
الحكاية الثانية روي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيماً من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفّه نفسه، ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعماً طائلة وبني قصراً عالياً، مرتفعاً سامياً يصلح للملوك والأمراء، والأكابر والعظماء، وركّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان الأجلاد، والحرسة والأجناد، والبوابين كما أراد. وأمر ببعض الأيام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهل مملكته وحشمه، وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده، وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته، واتكأ عل وسادته، وقال: يا نفس قد جمعت نعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي بالك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل. فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب رثة خلقة، ومخلاته في عنقه معلقة، على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزعزع القصر وتزلزل، وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا: يا ضعيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر حتى نأكل ونطعمك مما يفضل، فقال لهم: قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم، وأمر ملم. فقالوا تنح أيها الضعيف من أنت حتى تأمر صاحبنا بالخروج إليك؟ فقال: أنتم عرّفوه ما ذكرت، فلما عرّفوه من الطرقة الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوا فصاح بهم صيحة وقال: إلزموا أماكنكم فأنا ملك الموت، فارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم، ورعبت قلوبهم، وطاشت عقولهم، فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلاً مني، وعوضاً عني. فقال: ما آخذ إلا أنت ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين هذه النعم التي خولتها. فقال: لعن الله هذا المال الذي غرني وأضرني، ومنعني عن عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني، فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي. فأنطق الله المال حتى قال: لأي شيء تلعنني، إلعن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك
وتتصدّق بي على الفقراء، وتتزكي بي على الضعفاء، ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون لك عوناً فى اليوم الآخر، وأنت جمعتني وخزنتني، وفي هواك أنفقتني، ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لاعدائك، وأنت بحسرتك وضرائك. فأي ذنب لي حتى تلعنني ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام، فسقط عن سريره صريع الحمام. الحكاية الثالثة قال يزيد الرقاشي: كان في زمن بني إسرائيل جبار من الجبارة، وكان في بعض الأيام جالساً على سرير ملكه فرأى رجلاً قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة، فلشدة خوفه من هجومه، وهيبة قدومه، وثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل؟ ومن أمرك بالدخول إلى داري؟ فقال: صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا أحتاج في دخولي على ملك إلى إذن ولا أرهب من سياسة سلطان، ولا يفزعني جبار، ولا لأحد من قبضتي فرار. فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده فقال له: أنت ملك الموت؟ قال: نعم. قال: أقسم بالله عليك ألا ما أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي، وأطلب العذر من ربي، وأرد الأموال التي أودعتها خزانتي، فلا أتحمل مشقة عذابها في الآخرة. فقال: كيف أمهلك، وأيام عمرك محسوبة، وأوقاته مثبوتة مكتوبة؟ فقال: أمهلني ساعة. فقال: إن الساعات في الحساب، وقد عبرت وأنت غافل، وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد. فقال: من يكون عندي، إذا نقلتني إلى لحدي؟ قال: لا يكون عندك سوى عملك. فقال: مالي عمل. قال: لا جرم يكون مقيلك إلى النار، مصيرك إلي غضب الجبار. ثم قبض روحه فخر من سريره ووقه، وعلا الضجيج من أخل مملكته وارتفع، ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم اكثر وعويلهم أوفر.
الحكاية الرابعة يقال أن ملك الموت دخل على سليمان بن داود عليهما السلام فجعل يحد نظره، ويطيل بصره، إلى رجل من ندمائه، فلما خرج قال ذلك الرجل: يا بني الله من كان ذلك الرجل الذي دخل؟ فقال: ملك الموت. فقال: أخاف أن يريد قبض روحي فخلصني من يده. فقال: كيف أخلصك؟ فقال: تأمر الريح أن تحملني في هذه الساعة إلى بلاد الهند، لعله يضل عني ولا يجدني. فأمر سليمان الريح فحملته في الوقت والحال، فعاد ملك الموت ودخل على سليمان بن داود، عليهما السلام، فلما دخل عليه قال له: لأي سبب كنت تطيل النظر إلى ذلك الرجل؟ قال: كنت أتعجب منه لأني أُمرت أن أقبض روحه في أرض الهند، وكان بعيداً عنها إلى أن اتفق بحمل الريح له إلى هناك، فكان ما قدره الله تعالى. الحكاية الخامسة يروى أن ذا القرنين مر بقوم لا يملكون شيئاً من أسباب الدنيا، وقد حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم، وهم كل يوم يتعمّدون تلك القبور يكنّسونها وينظّفونها وينخرونها ويزورونها ويعبدون الله فيها، وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض. فبعث إليهم ذو القرنين رجلاً فدعا ملكهم فلم يجبه، وقال: ما لي وله. فجاء ذو القرنين، وقال: كيف حالكم؟ فإني لا أرى لكم شيئاً من ذهب ولا فضة، ولا أرى عندكم شيئاً من نعم الدنيا؟ قال: لأن نعم الدنيا لا يشبع منها أحد قط. وقال: لم حفرتم القبور على أبوابكم؟ فقال: لتكون نصب أعيننا فننظر إليها، ويتجدد لنا ذكر الموت، ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا، فقال: ولم تأكلون الحشيش؟ فقال: لأنا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً للحيوانات، ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق. ثم مد يده إلى طاقة فاخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال: يا ذا القرنين، أتعرف من كان صاحب هذا؟ قال: كان صاحب هذا القحف ملكاُ من ملوك الدنيا، وكان يظلم رعيته ويجور عليهم وعلى الضعفاء
ويستفرغ زمانه في جمع حطام الدنيا، فقبض الله روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه، ثم مد يده إلى الطاقة وأخرج قحفاً آخر فوضعه بين يديه وقال له: أتعرف من كان صاحب هذا؟ قال: كان هذا ملكاً عادلاً مشفقاً على رعيته محباُ لأهل مملكته فقبض الله روحه وأسكنه جنته، ورفع درجته، ثم انه وضع يده على رأس ذي القرنين وقال: ترى أىّ هذين الرأسين يكون هذا الرأس؟ فبكى ذو القرنين بكاء شديداً وضمه إلى صدره، فقال: هيهات ما لي رغبة في ذلك. قال: ولم؟ قال: لأن الناس جميعاً أعداؤك بسبب المال والمملكة، وكلهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة، فالله تعالى معك فالآن يجب أن تعرف حكايات النفس الأخير وتتيقن معرفتها. واعلم أن أهل الغفلة المغتربين لا يحبون استماع حديث الموت لئلا يبرد حب الدنيا في قلوبهم، وتتنغص عليهم لذة مأكولهم ومشروبهم. وقد جاء في الخبر أن من أكثر ذكر الموت وظلمة اللحد كان قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسي الموت وغفل عن ذكره كان قبره حفرة من النار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصف أجر الشهداء وثواب السعداء الذين قتلوا في معركة حرب الكفار فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هل ينال ثواب الشهداء من لم يمت شهيداً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (من ذكر الموت في كل يوم عشرين مرة كان له مثل أجر الشهداء ودرجتهم) . وقال عليه الصلاة والسلام: (أكثر من ذكر الموت فإنه يمحو الذنوب ويبرد الدنيا في القلوب) . سئل عليه الصلاة والسلام: من أعقل الناس وأحزمهم؟ فقال: أعقل الناس أكثرهم للموت ذكراً وأحزمهم أحسنهم له استعداداً. له شرف الدنيا وكرامة الآخرة فمن عرف الدنيا كما ذكره وكرر في قلبه ذكر النفس الأخير سهلت عليه أمور دنياه، وقوي أصل شجرة الإيمان في قلبه وأخذ في النمو والزيادة ونمت فروع شجرة الإيمان عنده ولقي الله وإيمانه سالم. والله جلت قدرته،
وعلت كلمته، ينّور بصيرة سلطان العالم ليرى الأشياء على ما هي عليه ويجتهد في آخرته، ويحسن إلى عباد الله وبريته، فإن في رعيته ألف ألف من الخلائق إذا عدل فيهم كان الكُل شفعاءه ومن شفع فيه من هؤلاء الخلائق من المؤمنين كان آمناً يوم القيامة من العذاب وإن ظلمهم كان الكل خصماءه وعاد أمره عظيم الخطر، شديد الغرر، وإذا صار الشفيع خصماً أشكل الأمر.
في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم اعلم وتيقّن أن الله سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبينوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل، واختار الملوك لفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض، وملكهم أزمة الإبرام والنقض، فربط بهم مصالح خلقه في معايشهم بحكمته، وأحَلّهم أشرف محل بقدرته، كما يسمع في الأخبار السلطان ظل الله في أرضه. فينبغي أن يُعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في الأرض فإنه يجب على الخلق محبته، ويلزمهم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته. قال الله تعالى: (يا أيُها الذين آمنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرسُول وأوُلي الأمرَ مِنكُم) فينبغي لكل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وأن يعطيهم فيما يأمرون ويعلم أن الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأنه يؤتي ملكه من يشاء كما قال في محكم تنزليه: (تُؤتِي المُلك مَن تشَاء وتنزَع المُلك مِمن تشَاء وتُعِزُ مَن تشَاء وتُذِلُ مَن تشَاء بيدِك الخير إنِك على كُل شيء قَدير) .
والسلطان العادل من عدل بين العباد، وحذر من الجور والفساد، والسلطان الظالم شؤم لا يبقى ملكه ولا يدوم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم) . وفي التواريخ أن المجوس ملكوا العالم أربعة آلاف سنة وكانت المملكة فيهم وإنما دامت المملكة بعدلهم في الرعية، وحفظهم بالسوية، وإنهم ما كانوا يرون الظلم والجور في دينهم وملتهم جائز وعمروا بعدلهم البلاد، وأنصفوا العباد. وقد جاء في الخبر أن الله جلّ ذكره أوحى إلى داود عليه السلام أن آنْهِ قومك عن سب ملوك العجم فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي. فينبغي أن تعلم أن عمارة الدنيا وخرابها من الملوك فإذا كان السلطان عادلاً عمرت الدنيا وأمنت الرعايا كما كانت عليه في عهد أزدشير وأفريدون وبهرام كور وكسرى أنو شروان. وإذا كان السلطان جائراً خربت الدنيا كما كانت في عهد الضحاك وافراسيان وبرزدكنها الخاطىء وأمثال هؤلاء، وهكذا إلى أن استولى أهل الإسلام وغلبوا العجم وأزاحوهم عن بلادهم وعن الملك وقويت دولة دين الإسلام، ببركة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأعلم وتيقَن أن هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم كانوا أصحاب الدنيا وملوك الأرض وأنهم بلغوا من الدنيا مرادهم، وصرفوا باللذات أوقاتهم، ومضوا وبقيت أسماؤهم وسماتهم، كما عددناه من أفعالهم، وأوردناه من خصالهم، لتعلم أن الناس إنما هم الحديث الذي يبقي بعدهم فكل إنسان يذُكر بالذي كان يفعله، وينسب إليه ما كان يعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فيجب على الإنسان أن يزرع بذر الإحسان، وأن يبقى عن نفسه العيوب الفاحشات، والخطايا الموبقات، لا سيما الملوك ليبقى بعدهم حسن الإِسم، وصالح الرسم، لئلا يذكر بالقبيح، وقد حل بالضريح، كما قال الشاعر: اهرُب مِن الذَنبِ وتُب يا فَتَى ... وإن بَدا مِنك فعُد واندم
وانفِ عن نفسِك ما شَانَها ... ومن مساوُي الدهرُ خِف تسَلم وبُعدُك يُبقِى الذِكرَ لا غَيره ... فكُن حَديثاً حسناً تغنمُ يقال أن ذكر الرجال بعدهم حياتهم الثانية في الدنيا فواجب على العقلاء قراءة أخبار الملوك والنظر في أحوال هذه الدنيا القليل وفاؤها، والكثير بلاؤها، وأن لا يعقلوا قلوبهم بأمانيها فإنها لا يبقى عليها صالح، ولا يسلم فيها طالح. وليجتهد العاقل أن لا يكثر خصومه فإن أمر الخصوم صعب هائل، والباري تعالى حاكم عادل، لا بد أن ينصف يوم القيامة بين الخصوم، ويأخذ من الظالم للمظلوم، فلا تساوي الدنيا بأسرها، أن تجعل الناس خصوماً لأجلها كما جاء في الحكاية. حكاية: كان أبو علي بن إلياس إسفهسلار نيسابور فحضر يوماً عند الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله وكان زاهداً زمانه، وعالم أوانه. فقعد على ركبتيه، بين يديه، وقال له: عظني. فقال له أبو علي: أيها الأمير، أسألك مسألة وأريد الجواب عنها بغير نفاق. فقال: أجل أجيبك. فقال: أيها الأمير أيما أحب إليك المال أو العدو؟ فقال: المال أحب إليّ من العدو. فقال: كيف تترك ما تحبه بعدك وتصطحب العدو الذي لا تحبه معك؟ فبكى الأمير ودمعت عيناه وقال: نعم الموعظة هذه. وجميع الوصايا والحكم تحت هذا الكلام. والخالق سبحانه وتعالى أرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أخيراً حتى عادت ببركته دار الكفر دار الإيمان، وأظهره في أسعد وقت وأوان، وعمر الدنيا بشريعته، وختم الأنبياء بنبوّته. وكان الملك في ذلك الزمان كسرى أنو شروان. وهو الذي فاق ملوك إيران، بعدله ونصفته، وتدبيره وسياسته، وذلك جميعه ببركات نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم، لأنه ولد في زمانه، ووجد في أوانه. وعاش أنو شروان بعد مولده صلى الله عليه وسلم سنتين، والنبي صلى الله عليه وسلم افتخر بأيامه فقال: ولدت في زمن الملك العادل كسرى والإسم الجيد خير الأشياء. والملوك الذين كانوا قبله كانت همتهم في عمارة الدنيا والعدل بين الرعية وحفظ الجسم بالسياسة وحسن الإنالة وآثار عمارتهم التي أثروها إلى اليوم ظاهرة في العالم وكل بلد يعرف بإسم ملكه لأنهم عمروا المواضع، وبنوا الضياع والمزارع، واستخرجوا القنوات والمصانع واظهروا ما كان خافياً من مياه العيون وجميع ما ذكرناه كان أنو شروان يعمره بعدله وإنصافه، مع تجنبه الإسراف في عفافه. حكاية: يقال أن أنو شروان العادل أظهر يوماً من أيام ملكه انه مريض وأنفذ ثقافته وأمناءه أن يطوفوا أقطار مملكته، وأكناف ولايته وأن يتطلبوا له لبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها. وذكر لأصحابه أن الأطباء وصفوا له ذلك فمضوا وطافوا جميع ولايته وعادوا فقالوا: ما وجدنا مكاناً خراباً ولا لبنة عتيقة. ففرح أنو شروان وشكر إلَهه وقال: إنما أردت هذا لأجرب ولايتي، وأختبر مملكتي، ولأعلم هل بقي في الولاية موضع خراب لأعمره فالآن لم يبق مكان إلا هو عامر فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال، ووصلت العمارة إلى درجة الكمال. واعلم: أن أولئك الملوك القدماء همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم بعدهم. روي أنه كلما كانت الولاية أعمر، كانت الرعية أوفى وأشكر. وكانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء، ونطقت به الحكماء، صحيح لا ريب فيه وهو قولهم: إن الدين بالملك، والملك بالجند، والجند بالمال والمال بعمارة البلاد، وعمارة البلاد بالعدل في العباد. فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم، ولا يرضون لحشمهم بالخرق والغشم، علماً منهم أن الرعية لا تثبت على الجور وأن الأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون، ويتفرق أهل الولايات ويهربون في ولايات غيرها ويقع النقص في الملك ويقل في البلاد الدخل وتخلو الخزائن من الأموال ويتكدر عيش الرعايا
لأنهم لا يحبون جائراً، ولا يزال دعاؤهم عليه متواتراً، فلا يتمتع بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته. قال مؤلف الكتاب: الظلم نوعان: أحدهما: ظلم السلطان لرعيته وجور القوي على الضعيف والعني على الفقير. والثاني: ظلمك لنفسك وذلك من شؤم معصيتك فلا تظلم ليُرفع عنك الظلم كما جاء في الخير. حكاية: يقال أنه كان في بني إسرائيل رجل يصيد السمك ويقوت من صيده أطفاله وزوجته فكان في بعض الأيام يتصيد فوقعت في شبكته سمكة كبيرة ففرح بها وقال: أمضي بهذه السمكة وأبيعها وأخرج ثمنها في نفقة العائلة، فلقيه بعض العوانية في طريقه وقال له: أتبيع هذه السمكة؟ فقال في نفسه: إن قلت له نعم أخذها بنصف ثمنها، فقال له: ما أبيعها. فضربه العواني بخشبة كانت معه على صلبه ضربة موجعة وأخذ السمكة منه غصباً فدعا الصياد عليه وقال: إلَهي خلقتني مسكيناً ضعيفاً، وخلقته قوياً عنيفاً. اللهم فخذ بحقي منه في الدنيا فإني لا أصبر إلى الآخرة. ثم إن الغاصب انطلق بالسمكة إلى منزله وسلمها إلى زوجته وأمرها أن تشويها فلما شوتها وضعتها بين يديه على المائدة فمد يده ليأكل منها ففتحت السمكة فاها ونكزت أصبعه نكزة سلبت قراره، وأزالت لشدة نكزتها اصطبارة. فشكا حاله إلى الطبيب وذكر ما ناله فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع هذه الأصبع لئلا يسري الألم إلى جميع الكف. فقطع أصبعه فانتقل الألم إلى الكف وازداد تألمه وارتعدت من خوفه فرائضه، فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع اليد من المعصم لئلا يسري الألم إلى الساعد فقطع يده من المعصم فانتقل الألم إلى ساعده فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع الساعد لئلا يسرى الألم إلى الكتف. فقطع الساعد فانتقل الألم إلى الكتف وتوجع فخرج هائماً على وجهه داعياً إلى ربه، ليكشف ما نزل به فرأى شجرة فانكفأ إليها فأخذه النوم. فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له: يا مسكين إلى كم تقطع يدك، امضِ إلى خصمك وأرضه. فانتبه وتفكر وتذكر وقال: إنني أخذت السمكة
غصباً، وأوجعت الصياد ضرباً، وهي التي نكزتني. فنهض وقصد المدينة وطلب الصياد فوجده فوقع بين يديه والتمس الإقالة وأعطاه شيئاً من ماله وتاب من فعله، فرضي عنه خصمه، ففي الحال سكن ألمه، وبات تلك الليلة على فراشه وتاب واقلع عما كان يصنع، ونام على توبة خالصة، ففي اليوم الثاني تداركته رحمة ربه ورد يده كما كانت بقدرته فنزل الوحي على موسى عليه السلام: أن يا موسى وعزتي وجلالي وقدرتي لولا أن الرجل أرضى خصمه لعذبته مهما امتدت به حياته. حكاية: كان موسى عليه السلام يناجي ربه عز وجل على الطور فقال في مناجاته: إلَهي أرني عدلك وإنصافك. فقال له: أنت رجل عجول حاد جريء لا تقدر أن تصبر. فقال: أقدر علىالصبر بتوفيقك. فقال: اقصد العين الفلانية واختف بأزائها وانظر إلى قدرتي وعلمي بالغيوب. فمضى موسى وصعد إلى تل بأزاء تلك العين وقعد مختفياً فوصل إلى العين فارس فنزل عن فرسه وتوضأ من العين وشرب من مائها وحل من وسطه همياناً فيه ألف دينار فوضعه إلى جانبه وصلى، ثم ركب ونسى الهميان في موضعه وسار فجاء صبي صغير فشرب من العين وأخذ الهميان فجاء بعد الصبي شيخ أعمى فشرب من الماء وتوضأ ووقف في الصلاة فذكر الفارس الهميان فعاد من طريقه إلى العين فوجد الشيخ فلزمه وقال: إني نسيت همياناً فيه ألف دينار في هذا الموضع هذه الساعة وما جاء إلى هذا المكان سواك. فقال الأعمى: تعلم أني رجل أعمى فكيف أبصرت هميانك؟ فغضب الفارس من كلامه وجذب السيف فضرب الأعمى فقتله وفتشه عن الهميان فلم يجده فمضى وتركه فعند ذلك قال موسى: إلَهي وسيدي قد نفد صبي وأنت عادل فعرّفني كيف هذه الأحوال؟ فهبط جبريل عليه السلام وقال: يا موسى الباري تعالى يقول: أنا عالم الأسرار أعلم ما لا تعلم. أما الصبي الصغير الذي أخذ الهميان فأخذ حقه وملكه وذلك أن أبا الصبي كان أجيراً لذلك الفارس فاجتمع عليه
بقدر ما في الهميان فالذي أخذه الصبي حقه. وأما ذلك الأعمى فإنه قبل أن يعمى قتل أبا ذلك الفارس فقد اقتص منه ووصل كل ذي حق إلى حقه وعدلنا وإنصافنا دقيق. فلما علم موسى ذلك تحير واستغفر. وهذه الحكاية أوردناها ليعلم العقلاء، ويتصور الألّباء، أن الله جلّ ذكره لا يخفي عليه شيء وأنه يتصف من الظالم في الدنيا ولكن نحن غافلون عما جاءنا لا ندري من أين أتانا. سئل ذو القرنين فقيل له: أي شيء أنت به أكثر سرواً؟ فقال: شيئان أحدهما العدل والإنصاف. والثاني أن أكافىء من أحسن إلى بأكثر من إحسانه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب الإحسان في كل شيء حتى إنه يحب إنساناً إذا ذبح شاة أن يمهي لها المدية ليعجل خلاصها من ألم الذبح) . وقال موسى عليه السلام: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً في الأرض أفضل من العدل، والعدل ميزان الله في أرضه من تعلق به أوصله الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للمحسنين في الجنة منازل حتى المحسن إلى أهله وأتباعه) . وقال قتادة في تفسير هذه الآية (ألا تطَغوُا فِي المِيزَانِ) قال: أراد به العدل: فقال يا ابن آدم أعدل كما تحب أن يعدل فيك. وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى إليه أربع كلمات وقال: يا آدم علمك وعلم جميع ذريتك على هذه الكلمات الأربع وهي كلمة لي، وكلمة لك، وكلمة بيني وبينك وبين الناس. أما الكلمة التي لي فهي أن تعبدني لا تشرك بي شيئاً. وأما التي هي لك فأنا أجازيك بعملك. وأما الكلمة التي هي بيني وبينك، فمنك الدعاء ومني الإجابة. وأما الكلمة التي بينك وبين الناس فهي أن تعدل فيهم وتنصف بينهم) . وقال قتادة: الظلم ثلاثة أضرب: ظلم لا يغفر لصاحبه،
وظلم لا يدوم وظلم يغفر لصاحبه. فأما الذي لا يغفر لصاحبه فهو الشرك بالله تعالى قال الله تعالى: (إن الشِركَ لظُلمٍ عَظيم) . وأما الظلم الذي لا يدوم فهو ظلم العباد بعضهم لبعض. وأما الظلم الذي يغفر لصاحبه فهو ظلم العبد نفسه بارتكاب الذنوب ثم يرجع إلى ربه فإن الله يغفر له برحمته، ويدخله الجنة بفضله. نكتة: الدين والملك توأمان مثل أخوين ولدا من بطن واحد فيجب أن يهتم ويجتنب الهوى، والبدعة والمنكر والشبهة وكل ما يرجع بنقصان الشرع وإن علم أن في ولايته من يتهم بدينه ومذهبه أمر بإحضاره وتهديده، وزجره ووعيده، فإن تاب، وإلا أوقع عليه العقاب، ونفاه عن ولايته ليطهر الولاية من إغوائه وبدعته، وتخلو من أهل الأهواء ويعز الإسلام ويستديم عمارة الثغور بإنفاذ العساكر والحماة إليها ويجتهد في إعزاز الحق وإعادة رونق السنة النبوية، والسيرة المرضية لتحمد عند الله طريقته، وتعظم في الخلق هيبته، وتخاف سطوته أعداوه، ويعلو قدره وبهاؤه ومنزلته ويكبر في عين أضداده، ويعظم عند أنداده. ويجب أن يعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك فينبغي للملك أن ينظر في أمور الرعية ويقف على قليلها وكثيرها، وعظيمها وحقيرها ولا يشارك رعيته في الأشياء المذمومة، والأفعال المشؤومة. ويجب عليه احترام الصالحين وأن يثيب على الفعل الجميل، ويمنع من الفعل الرديء الوبيل ويعاقب على ارتكاب القبيح ولا يحابي من أصر على المعصية ليرغب الناس في الخيرات ويحذروا من السيئات. ومتى كان السلطان بلا سياسة وكان لا ينهي المفسد عن فساده، ويتركه على مراده، أفسد في سائر بلاده. وقالت الحكماء أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك لأن العامة إنما ينتحلون ويركبون الفساد وتضيق أعينهم اقتداء بالكبراء فإنهم يتعلمون منهم ويلزمون طباعهم. ألا ترى أنه قد ذكر في التواريخ أن الوليد بن عبد الملك من بني أمية كان مصروف الهمة إلى العمارة وإلى الزراعة. وكان سليمان بن عبد الملك همته في كثرة الأكل وطيب المطعم وقضاء الأوطار والمهمات وبلوغ
الشهوات، وكانت همة عمر بن عبد العزيز في العبادة والزهادة. قال محمد بن علي بن الفضل: ما كنت اعلم أن طباع الرعية تجري على عادة ملوكها حتى رأيت الناس في أيام الوليد قد اشتغلوا بعمارة الكروم والبساتين واهتموا ببناء الدور. وعمارة القصور، ورأيتهم في زمن سليمان ابن عبد الملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب المطعم حتى كان الرجل يسأل صاحبه أي لون اصطنعت وما الذي أكلت ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات، وإعطاء الصدقات، ليعلم أن في كل زمن يقتدون بأفعاله، من القبيح والجميل، وإتباع الشهوات وإدراك الإرادات. حكاية: ذكروا أن في زمن الملك العادل كسرى انو شروان ابتاع رجل من رجل أرضاً فوجد فيها كنزاً فمضى سريعاً إلى البائع وأخبره بذلك فقال: إنما بعتك ولم أعلم ما فيها والكنز الذي وجدته فهو لك ومبارك عليك فقال: لا أريده ولا أطمع في أموال الناس فترافعا بهذه الدعوى إلى الملك العادل انو شروان ففرح انو شروان بذلك وقال هل لكما أولاد فقال أحدهما لي ابن وقال الآخر لي بنت فقال انو شروان أحب أن يكون بينكما قرابة ووصلة وإن تزوجا الولد بالبنت وتنفقا هذا الكنز في جهازهما ليكون لكما ولولديكما ففعلا ما أمر به وتراضيا ما رسم لهما ولو أن الرجلين كانا في زمن سلطان جائر لقال كل واحد منهما الكنز لي ولكنهما لما علما أن ملكهما عادل طلباً الحق، وآثرا الصدق. وقالت الحكماء الملك كالسوق فكل أحد يحمل إلى السوق ما يعلم أنه فيه نافق وما يعلم أنه كاسد لا يحمله إلى ذلك السوق. والرجلان اللذان وجدا الكنز وترافعا إلى السلطان علما إن الزهد والعدل والصدق يعزعند الملك وأن الحق عنده نفاق فلذلك حملاه إليه، وعرضاه عليه. وأما الآن في هذا الزمان فكلما يجري على يد أمرائنا وألسنة ولاتنا فهو جزاؤنا
واستحقاقنا كما إننا رديئو الأعمال، قبيحو الأفعال، ذوو خيانة وقلة أمانة. فأمراؤنا ظلمة جائرون، وغشمة معتدون. (كما تكونوا يول عليكم) فقد صح بهذا الحديث أن أفعال الخلق عائدة إلى أفعال الملك، أما ترى أنه إذا وصف بعض البلاد بالعمارة وأن أهله في أمان وراحة ودعة وغبطة فإن ذلك دليل على عدل الملك وعقله وسداده وحسن نيته في رعيته، ومع أهل ولايته، وأن ليس ذلك من الرعية، فقد صح ما قالته الحكماء (الناس بملوكهم أشبه منهم بزمانهم) . وقد جاء في الخبر أيضاً (الناس على دين ملوكهم) . وكان من سياسة انو شروان أن بحيث لو أن رجلاً ألقى في مكان حملاً من ذهب وبقي مهما بقي في موضعه لم يقدر أحد على إزالته من مكانه إلا صاحبه وكان يونان وزير انو شروان متقدماً عنده فقال له يوماً: أيها الملك لا تركن للأشرار فتخرب ولايتك وتفقر رعيتك فيصير حينئذ ملكك إلى الخراب وسلطانك إلى الفقر ويقبح إسمك في الدنيا فكتب انو شروان إلى عماله: إن أخبرت أنه قد بقى في جميع مملكتي أرض خراب سوى أرض سبخة لا تقبل الزرع صلبت عامل تلك الأرض. وخراب الأرض من شيئين: أحدهما عجز الملك. والثاني جوره. وكان الملوك في ذلك الزمان يتفاخرون بالعمارة ويتحاسدون على إجتماع المملكة. حكاية: أرسل ملك هندوستان رسولاً إلى الملك العادل كسرى انو شروان فقال أنا أولى بالملك منك فأنفذ لي خراج ولايتك فأمر أنو شروان بإنزال الرسول ثم جمع في اليوم الثاني أرباب دولته وأعيان مملكته وأذن للرسول في الدخول إليه فلما مثل بين يديه قال له أسمع جواب رسالتك ثم أمر أنو شروان بإحضار صندوق ففتحه وأخرج منه صندوقاً صغيراً وأخرج منه قبضة من كبر وسلمه إلى الرسول وقال هل في بلادكم من هذا قال نعم من هذا عندنا كثير فقال أنو شروان: أرجع وقل لملك الهند يجب عليك أن تعمر ولايتك فإنها خراب ثم تطمع بعد ذلك في ولاية
عامرة فإنك لو طفت جميع ولايتي وطلبت أصلاً واحداً من كبر لم تجده ولو سمعت أن في موضع من ولايتي أصلاً واحداً من كبر لصلبت تلك الولاية على الملك أن سيلك طريق الملوك الذين تقدموه ويعمل على سننهم ويقرأ كتب مواعظهم وقضاياهم فإنهم كانوا أطول أعماراً، وأكثر تجارب وإعتباراً، وإنهم فرقوا بين الجيد والرديء، وعرفوا الجلّي من الخفي. وكان أنو شروان مع حسن سيرته يقرأ كتب مواعظهم ويطلب إستماع حكايتهم ويمضي على مناهجهم وسننهم وملوك هذا الزمان أجدر أن يفعلوا ذلك. حكاية: سأل أنو شروان العادل يوماً وزيره يونان وقال أريد أن تخبرني بسيرة الملوك المتقدمين فقال له يونان تريد أن أمدحهم بثلاثة أشياء أم بشيئين أم بشيء واحد فقال أنو شروان أمدحهم بالثلاثة فقال يونان ما وجدت لهم في شغل من الأشغال ولا عمل من الأعمال قط كذباً. ولا رأيت لهم بشيء جهلاً. ولا رأيت لهم في حال من الأحوال غضباً. فقال أنوشروان أمدحهم بالشيئين فقال يونان كانوا دائماً يسارعون إلى الخبر وعمله. وكانوا دائماً يحذرون من أعمال الشر. فقال أمدحهم بشيء واحد فقال كانت سلطنتهم وجرأتهم على أنفسهم أكثر مما كانت على غيرهم فطلب أنو شروان الكأس وقال ولهذا سرور بالكرام الذين يأتون بعدنا ويملكون تاجنا وتختنا ويذكروننا كما نذكر نحن من تقدمنا. وأشقى الناس من إغتر بملكه وعمر الدنيا وهو لا يدري كيف ينبغي أن يعيش فيها فيعبر دنياه بالتعب ويحصل في آخراه بالندم السرمد، والعذاب المؤبد. وإنما كان قصد أولئك الملوك وإجتهادهم في عمارة الدنيا ليبقى فيها بعدهم طيب الذكر، مدى الأيام والدهر. كما جاء في الحكاية. حكاية: كان لأنو شروان كرم يعرف بهزاركام فإجتمع يوماً فيه قيصر ملك الروم ويعفورجين ملك هندوستان في ضيافة أنو شروان فتكلم كل واحد منهم بكلمة حكمة. فقال قيصر الروم ليس شيء في هذه الدنيا أجود من فعل
الخير والإسم الصالح والذكر الطيب فإنه يذكر به صاحبه دائماً فيقال بعده لم لا نكون نحن مثله. فقال أبو شروان تعالوا حتى نفعل الخير ونتفكر في الخير فقال قيصر إذا تفكرت في الخير عملت الخير وإذا عملت الخير نلت المراد فقال يعفورجين أعاذنا الله من فكرة إن نحن أظهرناها استحييناها وأن ذكرناها خجلنا وأن أخفيناها ندمنا فقال قيصر لأنو شروان أي شيء أحب إليك قال أحب الأشياء إلى أن أقضي حاجة من رآني أهلاً لقضاء حاجته فقال قيصر بل أنا أحب أن لا أذنب حتى لا أخاف ملوكاً كان هذا كلامهم. أنظر كيف كانت سيرتهم مع رعيتهم يا سلطان الإسلام فيجب أن تسمع أقوال هؤلاء وتنظر أعمالهم وتقرأ حكاياتهم من الكتب وما ينظر فيها من نعت عدلهم وإنصافهم وحسن سيرتهم وطيب خبرهم وذكرهم الجاري على ألسنة الخلق إلى يوم القيامة. كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من العدل والسياسة إلى حد أقام فيه الحد والعقاب على ولده حتى مات. وكان إذا أنفذ عمالاً إلى أعمال قال لهم إشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إلى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج. قال عبد الرحمن ابن عوف دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال قد نزل بباب المدينة قافلة وأخاف عليهم إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته. وقال عمر رضي الله عنه يجب علي أن أسافر لأقضي حوائج الناس في أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرن على قصدي في حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال وأسير سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين فلا يكون في سنيّ عمر أبرك من هذه السنة. حكاية: قال زيد بن أسلم رأيت ليلة عمر بن الخطاب يطوف مع العسس فتبعته وقلت أتأذن لي أن أصاحبك قال نعم فلما خرجنا من
المدينة رأينا ناراً من بعد فقلنا ربما يكون قد نزل هناك مسافر فقصدنا النار فرأينا إمرأة أرملة ومعها ثلاثة أطفال وهم يبكون وقد وضعت لهم قدراُ على النار وهي تقول الَهي أنصفني من عمر وخذ لي منه بالحق فإنه شبعان ونحن جياع فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك تقدم وسلم عليها وقال أتأذنين أن أدنو إليك فقالت أن دنوت بخير فبسم الله فتقدم وسألها عن حالها وحال جياع وقد بلغ مني ومنهم الجهد والجوع، وقد منعهم عن الهجوع، فقال عمر وأي شيء في هذه القدر فقالت تركت فيها ماء لأشاغلهم به ليظنوا أنه طعام فيصبروا. قال زياد فعاد أمير المؤمنين وقصد دكان الدسم فإبتاع منه دسماً ومضى إلى دكان الدقيق فإبتاع منه ملء جراب ثم وضع الجميع على كاهله ومضى به يطلب المرأة والأطفال. فقلت يا أمير المؤمنين ناولنيه لأحمله عنك فقال إن حملته عني فمن يحمل عني ذنوبي ومن يحول بيني وبين دعاء تلك المرأة والأطفال عليّ وجعل يسعى وهو يبكي إلى أن وصلنا إلى المرأة فقالت المرأة جزاك الله عنا خير الجزاء فأخذ عمر جزأ من الدقيق وشيئاً من الدسم فوضعهما في القدر وجعل يوقد النار وكلما أرادت أن تخمد نفخها والرماد يسقط على وجهه ومحاسنه إلى أن إنطبخت القدر فوضع الطبيخ في القصعة وقال للمرأة كلي فأكلت المرأة والأطفال فقال عمر أيتها المرأة لا تدعين على عمر فإنه لم يكن عنده منك ولا من أطفالك خبر. وأول من دُعي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإن أبا بكر رضي الله عنه دعوه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصل الأمر إلى عمر كانوا يقولون يا خليفة خليفة رسول الله فكان يطول ذلك فقال يا أيها المؤمنون سموني أميراً فإني أميركم وإن دعوتموني أمير المؤمنين فأنا ذلك عمر بن الخطاب. حكاية: سئل خازن بيت المال هل إنبسط عمر في بيت المال فقال كان في أول الأمر إذا لم يكن له شيء يتقوت به أخذ قليلاً برسم القوت فإذا حصل عنده شيء أعاده إلى بيت المال. وخطب يوماً فقال أيها الناس قد
كان الوحي ينزل عي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نعرف به ظاهر الناس وباطنهم وجيدهم ورديئهم والآن قد إنقطع الوحي عنا فنحن ننظر من كل أحد إلى علانيته والله أعلم بسريرته وأنا على الجهد وعمالي أن لا نأخذ شيئاً بغير حق ولا تعطي شيئاً بغير حق. فإن شئت أن تعلم أن عدل السلطان وتقيته سبب لجميل ذكره، ونيل فخره، فإنظر في أخبار عمر بن عبد العزيز فإنه لم يكن لأحد من بني أمية وبني مروان مثل مدحه ومحمدته ولا يدعي إلا له ولا يثني إلا عليه لأنه كان عادلاً تقياً كريماً حسن السيرة، تقي السريرة. حكاية: كان في زمن عمر بن عبد العزيز قحط عظيم فوفد عليه قوم من العرب فإختاروا منهم رجلاً لخطابه فقال ذلك الرجل يا أمير المؤمنين أنا أتيناك من ضرورة عظيمة وقد يبست جلودنا على أجسادنا لفقد الطعام وراحتنا في بيت المال وهذا المال لا يخلو من ثلاثة أقسام: أما أن يكون لله، أو لعباد الله، أو لك. فإن كان لله فالله غني عنه، وإن كان لعباد الله فآتهم إياه وأن كان لك فتصدق به علينا إن الله يجزي المتصدقين. فتغرغرت عينا عمر ابن عبد العزيز بالدموع وقال هو كما ذكرت وأمر بحوائجهم فقضيت من بيت المال فهم الأعرابي بالخروج فقال له عمر أيها الإنسان لحر كما أوصلت إلي حوائج عباد الله وأسمعتني كلامهم فأوصل كلامي وارفع حاجتي إلى الله تعالى فحول الأعرابي وجهه قبل السماء وقال إلَهي أصنع مع عمر ابن عبد العزيز كصنيعه في عبادك فما استتم الأعرابي كلامه حتى إرتفع غيم فأمطر مطراً غزيراً وجاء في المطر بردة كبيرة فوقعت على آجرة فإنكسرت فخرج منها كاغد عليه مكتوب هذه براءة من الله العزيز لعمر ابن عبد العزيز من النار. حكاية: يقال أن عمر بن عبد العزيز كان ينظر ليلاً ف يقصص الرعية وروزناتهم في ضوء السراج فجاء غلام له فحدثه في سبب كان يتعلق
ببيته فقال له عمر أطفيء السراج وحدثني فإن هذا الدهن من بيت مال المسلمين فلا يجوز إستعماله إلا في اشغال المسلمين. كذا يكون حذر السلطان وتوقيه إذا كان عادلاً كما جاء في الحكاية. حكاية: كان لعمر بن عبد العزيز غلام وكان خازناً لبيت المال وكان لعمر بنات جئنه يوم عرفة وقلن له غداً العيد ونساء الرعية وبناتهم يلمننا وقلن أنتن بنات أمير المؤمنين ونراكن عريانات لا أقل من ثياب بيضاء تلبسنها وبكين عنده فضاق صدر عمر فدعا غلامه الخازن وقال له أعطني مشاهرتي لشهر واحد فقال الخازن يا أمير المؤمنين تأخذ المشاهرة من بيت المال سلفاً أتظن أن لك عمر شهر فتأخذ مشاهرة شهر فتحير عمر وقال نعم ما قلت أيها الغلام بارك الله فيك ثم التفت إلى بناته وقال اكظمن شهواتكن فإن الجنة لا يدخلها أحد إلا بمشقة. حكمة: لما كان الأمراء كذلك كان حواشيهم وخدعهم على قاعدتهم والعدل التام هو أن تساوي بين المجهول الذي لا يعرف وبين المحتشم صاحب الجاه المعروف في مقام واحد في الدعاوي وتنظر أيضاً بعين واحدة ولا تفضل أحدهما على الآخر لأجل أن أحدهما فقير والاخر غني فإن الجوهر والخزف في الآخرة بسعر واحد، ولا يحرق عاقل نفسه بالنار، لحشمة الأغيار. وإذا كان لرجل ضعيف على سلطان من السلاطين دعوى فينبغي أن يقوم من صدر مملكته ويعمل بحكم الله تعالى وينصف ذلك العبد الضعيف ويرضيه ولا يحيف عليه ولا يسحي من الحق ويعمل بقول الله (إن الله يأمُر بِالعَدَلِ والإحسَان) وحقيقة ذلك إن كان للملك على آخر حق أن يسامحه ويمن به عليه ويأمر عماله الثقات أن يقتدوا بمثاله ويعملوا بسيرته لئلا يسئل عنه يوم القيامة. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل راع يسئل عن غنمه وكل إنسان يسئل عن رعيته والحال على هذه الصفة والمآل. حكاية: يقال أن إسماعيل بن أحمد أمير خراسان نزل بمرو وكان رسمه
في كل موضع ينزله أن يامر المنادي أن ينادي في العسكر إن الجند ما لهم في الرعية شغل فمضى رجل من الخرنبدية ودخل مبطخة قوم فتناول من البطيخ قدراً يسيراً فجاءوا إلى باب الملك واستغاثوا فأمر بإحضاره فأحضر بين يديه فقال له ما حملك على أن آذيت رعيتي قال أخطأت قال لا أقدر لأجل خطئك على دخول النار ثم أمر به فقطعت يده. حكاية: يحكى عن إسماعيل الساماني في كتاب سير الملوك أنه كان ينزل بحذاء موليان وكان يصل كل وقت إلى مدينة كغد ويأمر المنادي أن ينادي في الناس وكان يرفع الحجاب ويزيح البواب ليجيء كل من له ظلامة ويقف على جانب البساط ويخاطبه ويعود مقضي الحاجة. وكان يقضي بين الخصوم مثل الحكام إلى أن تفي الدعاوي ثم يقوم من موضعه ويقبض على محاسنه ويوجه وجهه نحو السماء ويقول: إلَهي هذا جهدي وطاقتي قد بذلتهما وأنت عالم الأسرار تعلم نيتي ولا أعلم على أي عبد من عبادك حفت، ولا لأيهم ظلمت. وماأنصفت أنا واحداً من أصحابي فأغفر لي يا ألَهي من ذلك ما لا أعلم. فلما كان نقي النية، جميل الطوية، لا جرم علا أمره، وارتفع قدره وكان عسكره ألف فارس معتدين بالسلاح مقنعين بالحديد وببركة ذلك العدل والأنصاف ظفره الله تعالى بعمرو بن ليث حتى قبض عليه وفتح خراسان. ثم أن عمرو ابن ليث أنفذ إليه من السجن فقال: لي بخراسان أموال كثيرة وكنوز موفورة. وأنا أسلم الجميع إليك وأطلقني من السجن فلما سمع إسماعيل ذلك ضحك وقال إلى الآن لم يستقم معي عمرو ابن ليث يريد أن يجعل المظالم التي احتقبها. والمآثم التي ارتكبها، في عنقي ويتخلص من ثقل أوزارها ي القيامة قولوا له مالي في مالك حاجة. ثم أنه أخرجه من السجن وأنفذه رسولاً إلى بغداد فنال من أمير المؤمنين الخلع والتشريق. وجلس إسماعيل في مملكته بخراسان آمناً فارغ البال، حسن الحال. وبقيت المملكة في عنصر السامانية مائة وثلاثين سنة فلما إنتقل الأمر إلى أصاغرهم وصبيانهم ظلموا الخلق، وتعدوا الحق فزال ملكهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عدل السلطان يوماً
واحداً خير من عبادة سبعين سنة) . وقال عليه الصلاة والسلام (من سل سيف الجور سل عليه سيف الغلبة ولازمه الغم) كما قال الشاعر: تَقَطُب مِنك طَلق الوجه يَوماً ... ترى بِالعَدلِ عن جُور جَزاء فَقُل لِلنَاسِ ما تهوَى إستماَعاَ ... ولا تقتل أن اختَرتُ البقاءِ جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان ينظر يوماً فرأى شيئاً ينزل من السماء مثل النخالة فقال: إلَهي ما هذا قال هذه لعنتي أنزلها على بيوت الجائرين. حكاية: لما قعد انو شروان في المملكة كتب إليه يونان الوزير فقال إعلم أيها السطان أن أمور الملك على ثلاثة أشياء: أما أن ينصف رعيته ولا ينتصف منهم وذلك هو الدرجة العليا. أو ينتصف وينصف أيها الملك إلى هذه الثلاثة وأختر أيها أردت وأنا أعلم أن مولانا يختار الأولى كما قال الشاعر: من أنصفَ الناسَ ولم ينتَصِف ... بفضلهِ منهُم فذاك الأمير ومن يرِد إنصَافِهم مِثلمَا ... أنصفَ أضحَى مالهُ من نظيرِ ومن يُرِد إنصَافه وهو لا ... ينصَفهُم فهو الدنيُء الحقيرُ (نصيحة وموعظة) دخل شبيب بن شيبة يوماً على المهدى فقال يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك الدنيا فأعط رعيتك قسطاً من طيب عيشك فقال المهدي وما الذي ينبغي أن تعطي الرعية فقال العدل فإنه إذا نامت الرعية في أمن منك نمت آمناً في قبرك. وقال أحذر يا أمير المؤمنين من يوم لا ليلة بعده ومن ليلة لا يوم بعدها وأعدل ما استطعت فإنك تجازي بالعدل عدلاً وبالجور جوراً وزين نفسك بالتقوى فإنك في الحشر لا يعيرك أحد زينته كما قال الشاعر. فحلِ نفَسك بِالتقَوى وزينَها ... فلن يُعارَ تقيُ في النَاسِ من رجلِ
وليس ُتبلى يدُ المعروفِ فاحظ بها ... تربح كثيراً ورأسُ المالِ لم يزَل حكاية: وصل كتاب من قيصر ملك الروم إلى الملك العادل أنوشروان يقول بماذا يكون دوام الملك فكتب إليه في الجواب جواب ذلك أني لا أعمل شيئاً بجهالة وإذا أمرت بأمر تممته ولا أتركه لخوف ولا لرجاء، يريد أنني إذا أمرت بشيء لا أبطله لأجل من يرجوني أو يخافني وأن لا أغير شيئاً أمرت به. حكمة: سئل ارسطاطاليس هل يجوز أن يدعي أحد ملكاً غير الله تعالى فقال من وجدت فيه هذه الخصال وإن كانت عارية: العلم والعدل والسخاء والحلم والرقة وما ناسبها لأن الملوك إنما كانوا ملوكاً بالظل الإلَهي وضياء الحس، وطهارة النفس وتزايد العقل، والعلم وقدم الدولة وشرف الأصل والدولة التي كانت في محتدهم وأصولهم فبذلك كانوا ملوكاً وسلاطين ومعنى قولهم (فرابرذي) وهو الظل الإلَهي يظهر في ستة عشر شيئاً العقل والعلم وحدة الذكاء وتدارك الأشياء والصور التامة والألمعية والفروسية والشجاعة والإقدام والتأني وحسن الخلق وإنصاف الضعيف ومحبة الرعية وإظهار الزعامة والإحتمال والمدارة في مكانها والرأى والتدبير في الأمور والإكثار من قراءة الأخبار وحفظ سير الملوك والفحص عن الأحوال والأعمال التي اعتمدوها الملوك وعملوا بها لأن هذه الدنيا بقية دول المتقدمين الذين تملكوها ثم مضوا وانقضوا وصاروا تذكاراً للناس يذكر كل إنسان بفعله. وللآخرة كنز، وللدنيا كنز هذه الدنيا حسن الثناء وطيب الذكر، وكنزالآخرة العمل الصالح واكتساب الأجر. حكمة: كان الاسكندر في بعض الأيام قد ركب في مركب مملكته فقال رجل من مقدمي عسكره إن الله تعالى أعطاك ملكاً عظيماً فاستكثر من النساء لتكثر أولادك فتذكر بهم بعدك فقال ليس ذكر الرجال بعدهم بكثرة
الأولاد لكن بحسن السيرة وعدل النية ورجل غلب رجال الدنيا لا يجوز أن تغلبه النساء. حكمة: سأل الإسكندر ارسطاطاليس أيما أفضل للملوك الشجاعة أم العدل فقال ارسطاطاليس إذا عدل السلطان لم يحتج إلى شجاعة. حكاية: عزل الإسكندر عاملاً من عماله من عمل كثير خطير، وولاه أمر عمل خفيف حقير، فجاء في بعض الأيام ذلك الرجل إلى الدركاه فقال له الأسكندر كيف تجد عملك فقال أطال الله بقاء الملك الرجال لا تشرف بالأعمال، بل الأعمال تشرف بالرجال، وذلك بحسن السيرة والإنصاف والعدل وتجنب الإسراف. فأحسن الأسكندر مقاله، وأعاد إليه أعماله. حكمة: قال سقراط العالم مركب من العدل فإذا جاء الجور لا يثبت ولا يستقر. حكمة أخرى: سئل بزرجمهر فقيل بأي شيء يظهر عز الملك؟ فقال بثلاثة أشياء: حفظ الأطراف مع دفع العدو عن الحوزة، وإكرام العلماء وإعزازهم وحب أهل الفضل لأنه كلما جار السلطان خاف أهل الأطراف وإن كانت نعمهم كثيرة فإنها مع الخوف لا تنساغ وإن كانت النعم قليلة إنساغت مع الأمن كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه إنقطع رجل من قافلة الحج وضل الطريق ووقع في الوحل فجعل يسير إلى أن وصل إلى خيمة فرأى إمراة عجوزاً ورأى على باب الخيمة كلباً نائماً فسلم الحاج على العجوز وطلب منها طعاماً فقالت العجوز امض إلى ذلك الوادى واصطد من الحيات بقدر كفايتك لأشوي لك
منها واطعمك فقال الرجل أنا لا أجسر أن أصطاد الجيات فقالت العجوز أنا أتصيد معك فلما مضت وأياه وتبعهما الكلب فأخذا من الحيات بقدر كفايتهما فأتت العجوز وجعلت تشوي له الحيات فلم ير الحاج من الأكل بداً وخاف أن يهلك من الجوع والهزال فأكل ثم أنه عطش وطلب منها الماء ليشرب فقالت له دونك والعين فأشرب فمضى إلى العين فوجد ماء مالحاً مراً ولم يجد من شربه بداً فشرب وعاد إلى العجوز وقال اعجب منك أيتها العجوز ومن مقامك في هذا الموضع فقالت كيف تكون بلادكم فقال يكون في بلادنا الدور الرحيبة الواسعة، والفواكه اللذيذة اليانعة، والمياه العذبة، والأطعمة الطيبة، واللحوم السمينة والغنم الكثيرة، والعيون الغزيرة. فقالت العجوز قد سمعت هذا كله فقل لي هل تكونون تحت يد سلطان يجور عليكم وإذا كان لكم ذنب أخذ أموالكم واستأصل أحوالكم وأخرجكم عن مسرتكم فقال قد يكون ذلك فقالت إذاً يعود ذلك الطعام اللطيف، والعيش الظريف، والنعم اللذيذة مع الجور والظلم سماً ناقعاً وتعود أطعمتنا مع الأمن، درياقاً نافعاً أو ما سمعت أن اجل النعم بعد نعمة الإسلام الصحة والأمن. والأمن إنما يكون مع سياسة السلطان. فيجب على السلطان أن يعمل بالسياسة وأن يكون مع السياسة عادلاً لأن السلطان خليفة الله ويجب أن تكون هيبته بحيث إذا رأته الرعية خافوا ولو كانوا بعيداً، وسلطان هذا الزمان ينبغي أن يكون له أوى سياسة وأتم هيبة أن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين فإن زماننا هذا زمان ذوي الوقاحة والسفهاء، وأهل القسوة والشحناء. وإذا كان السلطان منهم ضعيفاً أو كان غير ذي سياسة وهيبة فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد وأن الخلل يعود إلى الدين والدنيا، وفي الأمثال جور السلطان مائة عام ولا جور الرعية بعضهم على بعض سنة واحدة وإذا جارت الرعية سلط الله عليها سلطاناً جائراً وملكاً قاهراً كما جاء في الحكاية. حكاية: أُعطي الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض الأيام قصة مكتوب
فيا اتق الله ولا تجر على عباد الله كل هذا الجور فرقى الحجاج المنبر وكان فصيحاً فقال أيها الناس إن الله سلطني عليكم بأعمالكم فإن أنا مت فلا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيئة فإن الله تعالى خلق أمثالي كثيراً وإذا لم أكن أنا كان من هو أكثر من. قال الشاعر: وما مِن يدٍ إلا يدُ اللهِ فوقَها ... ولا ظالمُ إلا سيُبلى بأظلمِ حكمة: سئل بزرجمهر أي الملوك أطهر فقال من أمنه الطاهرون وخاف منه الخطاؤؤن. وأما السلطان الذي لا سياسة له فليس له في أعين الناس خطر ولا محل بل يكون الخلق عليه ساخطين ثم يذكرونه كل وقت بالقبيح ألا ترى أن الإنسان إذا كان من عوام الولاية وتولى عليها وأراد أن يطلب الحساب من الرعية أول ما يكلمهم بالهيبة ويظهر جاهه بالسياسة لعلمه أن الرعية إنما ينظرونه بالعين الأولى. وفي هذا الباب حكاية عجيبة كان لأبي سفيان بن الحارث ولد وكان يدع زياد بن أبيه وكان قد ولد في أيام الجاهلية ونفاه وتبرأ منه وقال ما هو لي بولد فلما وصل الأمر إلى معاوية قربه وأدناه وولاه ولاية العراق فلما وصل إلى العراق وجد أهل العراق قوماً عابثين يفسدون ويسرقون فقصد زيارة المسجد الجامع ورقى المنبر وخطب خطبة ثم قال بعد خطبته والله لئن خرج أحد بعد العشاء الآخرة لآخذن رأسه عن جسده فليعلم الشاهد الغائب. ثم أمر منادياً بذلك ثلاثة أيام فلما كان في الليلة الرابعة خرج زياد وقد مضى من الليل ثلثه فركب وجعل يطوف محال البلد فرأى إعرابياً ومعه غنم له وهو قائم فسأله زياد ما تصنع هاهنا فقال أتيت مساء ولم أجد موضعاً أستقر فيه فنزلت مكاني إلى أن أصبح وأبيع غنمي فقال له زياد أنا أعلم إنك صادق وأن أطلقتك خفت أن يذيع الخبر عني أن زياداً يقول ما لا يفعل فتفسد سياستي وتنكسر هيبتي والجنة خير لك مما هنا ثم ضرب عنقه وجعل يسير فكل من رآه ضرب عنقه وحز رأسه فلما أصبح من الغد كان قد أخذ رؤوس ألف وخمسمائة رجل ثم جعلها على باب داره مثل البيدر فتهوله
الناس وحزعوا لما رأوا من فعله كان الليل خرج وطاف فلقي ثلاثمائة رجل فأخذ رؤوسهم فلم يقدر أحد بعد ذلك أن يخرج من منزله بعد العشاء الآخرة. فلما كان يوم الجمعة رقى المنبر وقال أيها الناس لا يغلق أحد منكم دكانه بالليل ومهما سرق منكم كان غرامته على فلم يجسر أحد منهم أن يغلق دكانه تلك الليلة فلما كان من الغد أتاه رجل صيرفي وقال قد سرق مني البارحة أربعمائة دينار فقال له زياد تقدر أن تحلف على صحة قولك فقال نعم فحلفه وغرم له أربعمائة دينار وقال له اكتم هذا الأمر ولا تشعر به أحداً فلما كان في الجمعة الثانية اجتمع الناس لصلاة الجمعة وصعد زياد المنبر وقال اعلموا أنه قد سرق من دكان الصيرفي أربعمائة ديناراً وأنتم كلكم حاضرون فإن رددتم ذلك فقد عاد إلى الرجل ماله وإن لم تردوا ذلك فقد أمرت أن لا يمكن أحد منكم أن يخرج من الجامع وأمرت بقتلكم في هذه الساعة ففي الحال لوموا من كان يتهمونه بالسرقه وقدموه بين يديه فرد الذهب الذي كان سرقه فأمر بصلبه في الحال. ثم أنه سأل بعد ذلك أي محلة في البصرة ليس فيها أمن فقيل محلة بني الأزد فأمر أن يترك فيها ثوب ديباح له قيمة ثقيلة ليلاً بحيث لا يراه أحد فبقي أياماً ملقى بحاله ولم يكن لأحد جسارة أن يقربه ولا يرفعه من مكانه فقال له أقاربه بعد ذلك أن السياسة خير الأشياء إلا أنك لم ترحم المسلمين أولاً أهلكت خلقاً كثيراً فقال قد أخذت عليهم الحجة قبل ذلك بثلاثة أيام ومن شؤم مخالفتهم لم ينتهوا والذي أصابهم كان من شؤم أعمالهم.
فصل ولا ينبغي للسلطان أن يشتغل دائماً بلعب الشطرنج والنرد، وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد، لأن ذلك يمنعه ويشغله عن أمور الرعية فإن لكل عمل وقتاً فإذا فات الوقت عاد الربح خسراناً فإن الملوك القدماء قسموا النهار أربعة أقسام. قسم منها لطاعة الله وعبادته، وقسم للنظر في الرعية وإنصاف المظلومين والجلوس بين العلماء والعقلاء ولتدبير الأمور وسياسة الجمهور وتنفيذ المراسم والأوامر وكتابة الكتب وإرسال الرسل، وقسم للأكل والشرب والتزود من الدنيا وأخذ الحظوظ من الفرح والسرور، وقسم للصيد ولعب الشطرنج والكرة وما أشبه ذلك. حكمة: يقال أن بهرام كور قسم نهاره قسمين وجعله شطرين. ففي النصف الأول كان يقضي حوائج الناس، وفي النصف الثاني كان يطلب الراحة ويقال أنه في جميع عمره ما أشتغل يوماً تاماً بعمل واحد. وكان أنو شروان العادل يامر أصحابه الثقات أن يصعدوا إلى أعلى مكان في البلد فينظروا إلى بيوت الناس فكل بيت لا يخرج منه دخان نزلوا وسألوا عن حال أولئك القوم وما خطبهم فإن كانوا في غم أعملوا الملك فكان يحمل ويزيل هموهم. ويجب على السلطان أن لا يرضى لغلمانه أن يتناولوا شيئاً من الرعية بغير حق كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه كان قد ولى أنو شروان عاملاً فأنفذ العامل إليه زيادة في الخراج ثلاثة آلاف درهم فأمر شروان بإعادة الزيادة إلى أصحابها وأمر بصلب العامل. وكل سلطان أخذ من الرعية شيئاً بالجور والغصب وخزنه
في خزائنه كان مثله رجل عمل أساس حائط ولم يصبر حتى يجف ثم وضع البنيان عليه فلم يبق الأساس ولا الحائط. ينبغي للسلطان أن يأخذ ما يأخذه من الرعية وأن يهب ما يهبه بقدره لأن لكل واحد من هذين حداً محدوداً كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن المأمون ولى يوماً أربعة نفر ولايات فأعطى لواحد منهم منشور خراسان خلع عليه ثلاثة آلاف دينار وولى الآخر ولاية مصر وخلع عليه خلعة مثلها، وولى الآخر ولاية ارمينية وأعطاه خلعة مثلها ثم إستدعى يومئذ موبذان وقال يا دهقان هل كان لملوك العجم مثل هذه الخلع فإنه بلغني أن خلعهم ما كانت تبلغ أكثر من أربعة آلاف درهم فقال الموبذان أطال الله بقاء أمير المؤمنين كان لملوك العجم ثلاثة ليست لكم (أحدها) أنهم كانوا يأخذون ما يأخذونه من الرعية بقدر ويعطونه بقدر (والثاني) أنهم كانوا يأخذون من موضع يجوز الأخذ منه ويعطون لمن ينبغي أن يعطى (والثالث) أنهم ما كان يخافهم إلا أهل الريب فقال المأمون صدقت ولم يعد عليه جواباً. ولأجل هذا لما كشف المأمون تربة كسرى أنو شروان وفتح تابوته وفتشه وجد صورته وهي بمائها ما بليت، والثياب بجدتها ما تغيرت ولا خلقت، والخاتم في يده ياقوت أحمر كثير الثمن ما رأى المأمون قبله فصاً مثله وكان على فصه مكتوب به مه نه مه به. ومعنى ذلك الأجود أكبر وليس الأجود أكبر فأمر أن يغطى بثوب نسج من الذهب وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون فلما علم به أعاده وأمر بإهلاك الخادم وقال كاد يفضحني بحيث يقال عني إلى يوم القيامة إن المأمون كان نباشاً وأنه فتح تربة كسرى وأخذ خاتمه من أصبعه.
حكاية: سأل الاسكندرية يوماً حليماً من حكمائه وكان قد عزم على سفر فقال أوضحوا لي من الحكمة سبيلاً أحكم فيه أشغالى، وأتقن فيه أعمالي. فقال كبير الحكماء أيها الملك لا تدخل قلبك حب شيء ولا بغضه لأن القلب خاصته كإسمه وإنما سُميَ قلباً لتقبله وأعمل الفكر وإتخذه وزيراً واجعل العقل صاحباً ومشيراً، واجهد أن تكون متيقظاً ولا تشرع في عمل أمر بغير مشورة وتجنب الميل والمحابة في وقت العدل والإنصاف فإذا فعلت ذلك جرت الأشياء على آثارك، وتصرفت فيها بإختيارك، وينبغي أن يكون الملك وقوراً حليماً، وإن لا يكون طائشاً عجولاً. قالت الحكماء ثلاثة أشياء قبيحة وهي ف ثلاثة أقبح: الحدة في الملوك، والحرص في العلماء، والبخل في الأغنياء. حكاية: كتب الوزير يونان إلى الملك العادل أن شروان وصايا ومواعظ فقال ينبغي يا ملك العالم أن يكون معك أربعة أشياء دائمة: العقل، والعدل، والصبر، والحياء، وينبغي يا ملك الزمان أن تنفي عنك الحسد والكبر وضيق الصدر ويريد به البخل والعداوة، واعلم يا ملك الزمان أن الذين كانوا قبلك من الملوك مضوا والذين يأتون من بعدك لم يصلوا فاحتهد أن يكون جميع ملوك الزمان محييك ومشتاقيك. حكاية: يقال أن أنو شروان ركب يوماً من أيام الربيع على سبيل الرجة فجعل يسير في الرياض المخضرة، ويشاهد الأشجار المثمرة، وينظر إلى الكروم العامرة فنزل عن فرسه، وسجد شكراً لربه وخر ساجداً ووضع خده على التراب زماناً طويلاً فلما رفع رأسه قال لأصحابه إن خصب السنين من عدل السلاطين، وحسن نيتهم إلى رعيتهم. فالمنة لله تعالى الذي أظهر حسن نيتنا في سائر الأشياء وإنما قال ذلك لأنه جربه في الأوقات. حكاية: يقال أن أنو شروان الملك العادل خرج يوماً إلى الصيد فإنفرد من عسكره خلف الصيد فرأى ضيعة بالقرب منه وكان قد عطش فقصد الضيعة
وأتى باب دار قوم وطلب ماء ليشرب فخرجت صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت فدقت قصبة واحدة من قصب السكر ومزجت ما عصرته منها بالماء ووضعته في القدح فرأى فيه تراباً وقذى فشرب منه قليلاً قليلاً حتى انتهى لآخره وقال للصبية (سادناس) أي نعم الماء لولا قذى كدره فقالت (يا شرهيك) أنا عمداً ألقيت فيه القذى فقال ولم فعلت ذاك فقالت رأيتك شديد العطش ولو لم يكن فيه القذى لشربته نوبة واحدة وقد يضرك شربه فتعجب أنو شروان من كلامها وعلم أنها قالته عن ذكاء وفطنة. ثم قال لها من كم عصرت ذلك الماء فقالت من قصبة واحدة فتعجب أنو شروان وأضمر في نفسه أنع إذا عاد يأمر بزيادة الخراج على تلك الناحية. ثم عاد إلى تلك الناحية بعد وقت آخر واجتاز على ذلك الباب منفرداً وطلب ماء فخرجت إليه تلك الصبية بعينها فعرفته ثم عادت لتخرج الماء فأبطأت عليه فأستعجلها أنو شروان وقال لأي شيء أبطأت قالت لأنه لم يخرج من قصبة واحدة قدر حاجتك وقد دققت ثلاث قصبات ولم يخرج منها قدر ما كان يخرج من قصبة واحدة فقال أنو شروان وما سبب ذلك العجز؟ فقالت سببه تغير نية السلطان فقد قيل أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم طارت بركتهم، وقلت خيراتهم فضحك أنو شروان وعجب من قول الصبية وأزال من نفسه ما كان أضمره لهم وتزوج الصبية لحسن ذكائها وفصاحة كلامها. حكمة: يقال أن الصادقين من الناس ثلاثة الأنبياء والملوك والمجانين وقيل السكر جنون وإن المجنون يخاف من السكران لأن المجنون سكره باطن والسكران جنونه ظاهر والويل لمن يبقى في سكر الغفلة دائماً كما قال الشاعر: من أسكرَتُه الخمرُ في عقلِه ... ليس عليهِ إن صحاَ من خجلِ ومن يكُن بالمُلكِ ذا سكرة ... يصح إذا ما الملكُ عنه انتقلَ والقليل جداً من كان من سكر سلطنته صاحياً وكان المقدم على أعماله ثقة نصوحاً معيناً. وعلامة سكر السلطان أن يسلم وزارته إلى محتاج ومعوز ثم
يستديمه ويتمسك به إلى أن تزول حاجته، وتنقضي فاقته، ثم يعزله وينصب غيره فيكون مثله مثل من يربي طفلاً صغيراً إلى أن يصير بالغاً كبيراً يصلح للأشغال، وإمضاء الأعمال، ثم يقتله ويستأصله. قيل أربعة أشياء على الملوك من جملة الفرائض وهي إبعاد الأدنياء عن مملكتهم، وعمارة المملكة بتقريب العقلاء، وحفظ المشايخ وأُولى الحكمة والتجربة والزيادة في أمر الملك بالإقلال من الأعمال المذمومة. إشارة لطيفة: لما تولى الأمر عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري أن أعني بأصحابك فكتب إليه الحسن البصري أما طالب الدنيا فلا ينصح لك، وأما طالب الآخرة فلا يرغب فيك، ولا يجوز للسلطان أن يسلم وزارته ولا عملاً من أعماله إلى من ليس بأهل فإن سلم الأعمال إلى ذلك الرجل فقد أفسد ملكه وظهر له الخلل الوافر من كل وجه ومن كل جانب كما قال الشاعر: البيتُ إذا ما حانَ خَرَابه ... ظهَر التخلخُلُ مِن أساسِ الحائطِ وإذا تولىَ المُلكُ غير رِجالهُ ... ولُوا الأمورَ لكُلِ فدم ساقطِ وينبغي لمن خدم الملوك أن يكون كما قال الشاعر: إذا خدمَت الملوكَ فالبس ... مِن التوقِي اعزَ ملبس وأدخُل إذا ما دخلَت أعمى ... واخرُج إذا ما خرجَت أخرسَ وأما من تبسط مع السلطان فقد ظلم نفسه ولو كان ولد السلطان فليس للانبساط معهم في خدمتهم وجه كقول الشاعر: إذا كُنت للسُلطَانِ نجلاً فداره ... وخف مِنه إن أحبَبَت رأسك تسلمُ ومثل من تبسط مع السلطان كمثل الحواء الذي يكون دهره مع الحيات
يأكل معها وينام معها، أو كرجل في البحر بين التماسيح التي تبلع الناس فلا يزال مخاطراً. حكمة: قيل ويل لن ابتلى بصحبة السلاطين فإنهم ليس لهم صديق ولا قرابة ولا خادم ولا ولد ولا احترام إلا من كانوا محتاجين إليه لعلمه أو لشجاعته فإذا أخذوا حاجتهم منه لم يبق لهم عنده مودة ولم يبق له عندهم وفاء ولا حياء وأكثر أشغالهم رياء يستصغرون كبار ذنوبهم وسيتعظمون صغار ذنوب غيرهم. قال سفيان لا تصحب السلطان وإياك وخدمته لأنك إن كنت له مطيعاً أتعبك، وإن خالفته قتلك وأعطيك. حكاية: يقال أن يزدجر بن شهريار دخل على والده في وقت لم يكن لأحد إذن في الدخول فقال شهريار لبهرام أمض وأضرب الحاجب الفلاني ثلاثنين خشبة واطرده عن الدركاه وأقم عوضه فلانا الحر. وكان عمر يزدجرد يومئذ ثلاث عشرة سنة فعزل ذلك الحاجب الأول عن الباب فعاد يزدجرد في بعض الأيام وأراد أن يدخل على والده شهريار فجعل الحاجب يده في صدره ورده على عقبه وقال إن عدت ورأيتك ههنا ضربتك ستين خشبة ثلاثين لأجل الحاجب المعزول وثلاثين لئلا تعود تدخل على الملك في غير وقت الآذن وإن كنت ولده لئلا تجلب إلى الضرب والهوان والطرد. وأصلح الأشياء للملك أن لا يباشر الأسباب بنفسه ويحفظ ناموسه لأن كثيراً من الأرواح يتعلق بروحه وصلاح الرعية في حياته. وكذا ينبغي أن لا يجور على نفسه ولا يجور على الناس. ولا ينبغي للملك أن يجازف في الأشغال ولا يتساهل فيها. ويجب عليه أن ينيم على فراشه كل ليلة غيره ويتحول بنفسه عن ذلك الموضع حتى إذا قصده عدو لاتلاف نفسه وجد في مكانه غيره فلا تصل يد عدوه إليه كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه انهزم خسروبن ابرويز من بهرام جور وقال خربت وإن كان هربي عيباً لاخلص بهربي أرواح جماعة من أصحابي لأني
إن هلكت بسببي ألوف من الخلائق. والمقصود من المقال أن زماننا هذا غير موافق والناس فيه بين قبيح الفعل وعاقل الملوك مشغولون بالدنيا وحب المال ولا يجوز الإهمال والتغافل بين أناس السوء. في أمثال العرب (العبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة) وهذا المثل يضرب في من له أصل ومن لا أصل له وقد كان للناس وقت وزمان يؤمن فيه رجل واحد جميع أهل الدنيا ويسخرهم بدرة كان يحملها على عاتقه وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه والفضل في ذلك الزمان للوقت والرعية مشغولون ولو عوملوا بتلك المعاملة لم يحتملوا ولبدا فيها الفساد. لكن ينبغي للسلطان في هذا الوقت أن يكون له أتم سياسة وهيبة ليشتغل كل إنسان بشغله ويأمن الناس بعضهم من بعض. ونحن الآن نورد خبراً يستفيد به القارىء والسامع: سئل أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه لأي شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق فقال الخبر المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث وقال لا تسألوني عن حال أولئك فقال قوم من الصحابة أشار إلى ثلاثة أشهر وقال قوم إلى ثلاث سنين وقال قوم إلى ثلاثين سنة وقال قوم ثلاثمائة سنة يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ فيهم. وسئل عن هذا السؤال فقال كان الناس في ذلك الوقت نياماً وكان العلماء أيقاظاً واليوم العلماء نيام والخلق موتى فأي نفع لكلام النائم مع الميت. أما زماننا هذا فهو الزمان الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد خبثت أعمال الناس ونياتهم وإذا لم يكن فيه للسلطان سياسة على الخلائق لا هيبة لم يثبتوا على الطاعة والصلاح. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم العدل من الدين وفيه صلاح السلطان وقوة الخاص والعام وفيه يكون خير الرعية وأمنهم وعافيتهم وكل الأعمال توزن بميزان العدل.
وقال عز وجل في موضع آخر: (الذي أنزلَ الكِتَابَ بِالحقِِ والمِيزانِ) وأحق الناس بالجاه والمملكة من كان في قلبه مكان للعدل، وبيته مقر ذوي الدين والفضل، ورأيه من أرباب الدين والعقل، وصحبته مع العقلاء، ومشورته مع ذوي الآراء. كما قال الشاعر: يدُه خِزَانة جُودِه ... والقلبُ خازنُ قصدهِ قد رتبًت أبوابهَ ... أبداً لطلبِ عدلهِ قال الحسن البصرى كل ملك عظم أمر الدين كان عند رعيته مهيباً عظيم القدر والأمر ومن عرف الله تعالى تعرف الخلق به واختاروا أن يكونوا معارفه كما قال الشاعر: من عرفَ اللَهُ تعالىَ اسُمَهِ ... آثرَ كُلُ الخلق عرفاتَه طُوبي لمن أول ما حازهُ ... معرفة الخالق سُبحانه قال بزر جمهر ينبغي للملك أن لا يكون في مملكته أقل من البستاني ف حفظ بستانه إذا زرع الريحان ونبت بينه الحشيش إستعجل في قلع الحشيش كيلاً يضبط أماكن الريحان. قال أفلاطون علامة السلطان لامظفر على العدو أن يكون قوياً في نفسه لازماً لصمته مفكراً في رأيه وتدبيره بقلبه وان يكون عاقلاً في ملكه شريفاً في نفسه حلواً في قلوب الرعية رفيقاً في سائر أعماله، مجرباً لعهد من تقدمه خبيراً بأعمال من هو أقدم منه صلباً في دينه وعزمه. وكل ملك تجمعت فيه هذه الخلال، وحصلت له هذه الخصال، كان في عين عدوه مهيباً، ولا يجد العائب له معيباً، إذا كان الملك يرى أن حوله وقوته بالله جلت قدرته وإن كان عدوه قوياً فإنه يظفر به وينتصر عليه، مثاله قول الله عز وجل (كم مِن فئةٍ قليلةِ غلبًت فئةً كثيرة بإذنِ اللهِ والُله مع الصابرينَ) . نكتة: قال سقراط الحكيم علامة السلطان الذي يدوم ملكه أن يكون
الدين والعقل منه حيين في قلبه ليكون في قلوب الرعية محبوباً، وأن يكون العقل قريباً، وأن يكون طالباً للعلم ليعلم من العلماء وأن يكون فضله غزيراً، وبيته كبيراً، ليعظم عند الفضلاء، ويربي الأدباء ليتفرع عنه الأدباء، وأن يبعد عن مملكته متطلبي العيوب لتبعد عنه العيوب. وكل ملك لم يكن له مثل هذه الخصال لا يفرح بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته، ويتلف أقرباؤه على يده وجلساؤه لأن القيل يظهر من عدم العقل كما قال الشاعر: يقولُ الحكيمُ المقالَ الأسدَ ... دع المُزح إذ لستُ فيهِ أسدِ تحفظُ بنفسِك مع مُفلتِي ... ك فعينك للملكِ تجني الحردِ وخف أن تنازعَه مُلكهُ ... وفي حالةِ السخطِ عنه ابتعدِ سمِعًتُ عن الخمرِ أن المليكَ ... يسكرُ مِنها قُبيل الأمدِ إشارة وحكمة: سأل معاوية الأحنف بن قيس فقال يا أبا يحيى كيف الزمان فقال الزمان أنتا إن صلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان. وقال الأحنف بن قيس أن الدنيا عمرت بالعدل فكذلك تخرب بالجور لأن العدل يصفو نوره، وتلوح تباشيره، من مسيرة ألف فرسخ والجور يتراكم ظلامه، ويسود قتامه من مسيرة ألف فرسخ. وقال الفضيل بن عياض لو كان دعائي مستجاباً لم أدع به لغير السلطان العادل لأن السلطان العادل صلاح العباد، وزينة البلاد، وقد جاء في الخبر، عن سيد البشر صلوات الله وسلامه (عليه المقسطون على منابر اللؤلؤ يوم القيامة) . حكاية: كان الاسكندر يوماً على تخت مملكته وقد وقع الحجاب فقدم بين يديه لص فأمر فقال أيها الملك سرقت ولم يكن لي شهوة السرقة ولم يطلبها قلبي فقال له الاسكندر لا جرم تصلب ولا يطلب قلبك الصلب ولا يريده، فواجب على السلطان أن يعدل وينظر غاية النظر فيما يأمر به من السياسة لينفذ ذلك في أصحابه مثل وزيره وحاجبه ونائبه وعامله لأن كثيراً
من سياسة السلطان وعدله ونظره وحسن تأمله يغطي عليه بالبراطيل ويغرب وقته وذلك من تغافل الملك وتهاونه فينبغي أن يجتهد غاية الاجتهاد في تدارك ذلك كما جاء في الحاية. حكاية: كان للملك كستاشب وزير اسمه راشت روش وبهذا الاسم كان يظن كستاشب أنه تقي صالح وما كان يسمع فيه كلام أحد يقدح فيه ولم يكن يخبر حاله فقال راشت روش لخليفة الملك أن الرعية قد بطرت الآن من كثرة عدلنا فيهم وقلة تأديبنا لهم وقد قيل إذا عدل السلطان جارت الرعية والآن قد قامت منهم رائحة الفساد ويجب علينا أن نؤدبهم ونزجرهم ونبعد المعتدين ونقرب الصالحين ثم إنه كان كل من ألزمه الخليفة أن يؤدبه ارتشى منه راشت روش وأطلقه إلى أن ضعفت الرعية وضاقت بها الأحوال، وخلت الخزائن من الأموال، فظهر لكستاشب عدو فاعتبر خزائنه فلم يجد فيها شيئاً يصلح به أمور عسكره فركب يوماً في شغل عليه وسار في البرية فرأى من بعد قطيع غنم فقصده فرأى خيمة مضروبة والأغنام نيام ورأى كلباً مصلوباً فلما قرب من الخيمة خرج إليه شاب فسلم عليه وسأله النزول فأكرمه وقدم بين يديه ما حضر كما وجب فقال كستاشب اخبرنا عن حال هذا الكلب وصلبه قال يا مولانا كان هذا الكلب أميناً لي على أعنامي فصادف ذئبة فكان ينام معها ويقوم معها والذئبة كل يوم تأتي من الغنم رأساً بعد رأس فجاء في بعض الأيام صاحب الموضع وطلب مني حق المرعى فقعدت اتفكر واحسب حساب الغنم وهي تنقص في الحساب ورأيت ذئباً أخذ شاة والكلب ساكت مكانه فعلمت أنه كان سبب تلف الغنم وانه كان يخون أمانته فلزمته وصلبته فاعتبر كستاشب جعل يتفكر في نفسه وقال رعيتنا أغنامنا فيجب أن نسأل نحن أيضاً عنها لنصل إلى حقيقة أمرها فرجع إلى دراه فجعل ينظر في الوزمجات فإذا جميعها شفاعات راشت روش فضرب
مثلاً وقال من اغتر بالاسم من ذوي الفساد، بقي بغير زاد، ومن خان في الزاد بقي بلا روح ثم أمر بصلب الوزير وهذه الحكاية مكتوبة في كتاب بادركارنامه وفيها يقول الشاعر: وما أنا بالمُغترِ باسمكِ إنما ... تسميتُ كي تحَتال في طلبِ الرزقِ ومن يجعل الأسماءَ فخاً لِرزقِه ... يُعد غيرَ ذي روحِ على الجذعِ مستلقيِ حكاية: يقال أنه كان لعمرو بن ليث نسيب يعرف بأبي جعفر بن زيدويه وكان عمرو به حفياً ومن جملة محبته له أنه كان يصله من هراة في كل سنة مائة جمل حمر الوبر على كل جمل حمل من الحوائج فانفذ عمرو من كل حاجة حملاً إلى دار أبي جعفر بن زيدويه وقال ليوسع عليه في مطبخه فقيل لعمرو بن ليث أن أبا جعفر قد بطح علاماً له وقد ضربه عشرين خشبة فأمر أن يحضر ثم أمر بكل سيف في خزائنه فقال يا أبا جعفر اختر من هذه السيوف أجودها واعزله ناحية فجعل أبو جعفر يتخير وينتقي إلى أن أفرد منها مائة سيف فقال اختر الآن منها سيفين فاختار أبوجعفر منها سيفين أجودها فقال عمرو ارسم الآن أن يجعلا في قراب واحد فقال أبو جعفر أيها الأمير كيف يمكن أن يكون سيفان في قراب واحد فقال عمرو بن ليث فكيف يمكن أن يكون أميران في بلد واحد فعلم أبو جعفر أنه أخطأ فقبل الأرض والتمس العفو والإقالة فقال عمرو بن ليث لولا حق القرابة ما جئت بيتك فخل عن هذا الأمر لنا فقد عفونا هذه النوبة عنك. حكمة: قال ازدشير إذا كان الملك عاجزاً عن اصلاح خواصه ومنعهم عن الظلم فكيف يقدر على رد العوام الى الصلاح قال الله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) فالعرب تقول أنه ليس شيء أضيع للملك وأفسد للرعية من تعذر الإذن في الدخول وتكاثر الحجاب، وصعوبة الحجاب. وإذا كان الملك سهل الحجاب لم يكن للعمال أن يجوروا على الرعايا وخافت الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب يكون للملك على الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب
يكون للملك على سائر العمال اطلاع. لا يجوز للسلطان أن يكون غافلاً لتكون الهيبة من ناموس المملكة باقية ويستريح من الهموم الحادثة عن الغفلة. حكاية: يقال أن ازدشير كان متيقظاً ذا فطنة بالأمور بحيث إذا جاءه ندماؤه من الغد حدث كل واحد منهم بما صنعه وكان يقول لأحدهم انك البارحة فعلت الشيء الفلاني ونمت مع زوجتك ومع جاريتك الفلانية ويظنون أن ملكاً من السماء يأتي ويعرفه بأفعالهم وكذلك كان السلطان محمود بن سبكتكين رحمه الله. حكمة: قال أرسطاطاليس خير الملوك من كان في حدة نظره على مثال العقاب وكان الذين حوله كعقبان لا كالجيف يعني إذا كان السلطان جيد النظر ذا يقظة بالأمور ذا فكرة في العاقبة وكان المقربون منه وخواص دولته بهذه الصفة انتظمت أحوال مملكته واستقامت أمور أهل ولايته. حكمة: قال الاسكندر خير الملوك من بدل السنة السيئة بالسنة الحسنة وشر الملوك من بدل السنة الحسنة بالسنة السيئة. حكمة: قال أبرويز ثلاثة لا يجوز للملك التجاوز عنهم ولا يصفح عن ذنوبهم: من قدح في ملكه، أو أفسد حرمه، أو أفشى سره. قال سفيان الثوري خير الملوك من جالس أهل العلم ويقال أن جميع الأشياء تتجمل بالناس يتجملون بالعلم وتعلو أقدراهم بالعقل وليس شيء خيراً من العقل والعلم فإن العلم بقاء العز ودوامه، والعقل بقاء السرور ونظامه. ومن اجتمع العلم والعقل فيه فقد اجتمعت فيه اثنتا عشرة خصلة: العفة، والأدب، والتقى، والأمانة، والصحة، والحياء، والرحمة، وحسن الخلق، والوفاء، والصبر، والحلم، والمدارة في مكانها وهذه من خواص آداب الملك. وينبغي أن يكون مع العقل العلم كما أن مع النعمة الشكر، ومع
الصباحة الحلاوة، ومع الاجتهاد الدولة فإذا جاءت الدولة حصل المراد جميعه. حكاية: قال عبد الله بن ظاهر أن يعقوب بن ليث علا أمره وارتفع قدره، وظهر اسمه وذكره، وملك كرمان وفارس وخورستان وقصر الواق وكان الخليفة في ذلك الزمان المعتمد فكتب إليه المعتمد انك كنت رجلاً صفاراً فمن أين تعملت تدبير الملك فكتب إليه يعقوب جواباً وقال إن المولى الذي آتاني الدولة آتاني التدبير. وف عهد ازدشير كتوب كل عزيز لا يضع قدمه على بساط العلم كانت عاقبته ذلاً وكل عبد ليس معه خوف من الله تعالى وإن كان تاماً فإن مصيره إلى الندم. حكمة: قال عبد الله بن طاهر يوماً لأبيه كم تبقى هذه الدولة فينا وتبقى في بيتنا قال مادام بساط العدل والإنصاف مبسوطاً في هذه الإيوان. حكمة: كان المأمون قد جلس في بعض الأيام لفصل الدعاوى والأحكام فرفعت إليه فسلم القصة إلى وزيره الفضل بن سهل وقال اقض قصته ارفع هذه القصة في هذه الساعة فإن الفلك في سرعة دروانه قل أن يثبت على حاله. قال مؤلف الكتاب يجب على الملوك العقلاء، والافاضل الألباء أن ينظروا في هذه الأخبار ليأخذوا نصيباً من أيام دولتهم وينصفوا المظلومين ويقضوا حوائج السائلين، ويتيقنوا أن هذا الفلك لا يثبت على دور واحد لأنه لا اعتماد على الدولة وإن القضاء سماوي لا يرد بالعساكر، وكثرة الأموال والذخائر، وإذا انحلت الدولة وتلاشت الأموال، وتفانت الرجال، فلا ينفع الندم إذا زلت القدم كما جاء في الحكاية. حكاية: أن مروان آخر خلفاء بني أمية عرض العسكر فكان ثلاثمائة
ألف رجل بالعدد الكاملة فقال وزيره إن هذا لمن أعظم الجيوش فقال له مروان اسكت فإنه إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة وإذا نزل القضاء السماوي وإن كان العسكر عظيماً كثيراً بان قليلاً حقيراً، ولو ملكنا الدنيا بأسرها فلا بد أن تنزع منا ولمن وفت الدنيا حتى تفي لنا. حكمة: قال أبو الحسن الاهوازي في كتاب الفرائد والقلائد الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب فخذ زاداً من يومك لغدك فلا يبقى يوم عليك ولا غد. ويقال أنه كان على قبر يعقوب بن ليث مكتوباً هذه الأبيات عملها قبل موته وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه: سَلامُ عَلىَ أهلِ القُبُورِ الدوارِس ... كأنُهم لم يجلِسُوا فِي المجَالِسِ ولم يشَربُوا مِن بارِدِ الماءِ شربة ... ولم يأكلُوا ما بين رطبٍ ويابِسِ فقد جاءنِي الموتُ المهولُ بِسكرةٍ ... فلم تَغن عنِي ألف آلافِ فارِسِ فياَ زائرُ القبرِ اتعظ واعتبر بِنا ... ولا تك فِي الدُنيا هُدِيتَ بآنسِ خُرَاسان نحويها وأطرافُ فارسِ ... وما كُنتَ عن مُلكِ العِراقِ بآيسِ سَلامُ علىَ الدُنيا وطِيبِ نعِيمٍها ... كأن لم يكُن يعقُوبُ فِيها بِجالسِ سؤال وجواب: سئل ملك كان قد زال عنه الملك فقيل لاي سبب انتقلت الدولة عنك وسلمت إلى غيرك وسلبت منك؟ فقال لاغتراري بالدولة والقوة ورضاي برايي وعلمي وغفلتي عن المشورة وتوليتي لآصاغر العمال، على اكابر الأعمال، وتضييعي الحيلة في وقتها وقلة تفكري في الحيلة وإعمالها وقت الحاجة إليها والتباطؤ والوقفة في مكان العجلة والفرصة والاشتغال عن قضاء الحوائج. وقيل أي الاشرار أكثر شراً فقال الرسل الخونة الذين يخونون في الرسالة لاجل اطماعهم فكل خراب المملكة منهم كما قال ازدشير ف يحقهم كم سفكوا من الدماء وكم هزموا من الجيوشن وكم هتكوا من أستار ذوي الحرمات الاحرار، وكم من يمين كذبوها بخيانتهم، وكم من عهود نقضوها بقلة أمانهم وكم اجتاحوا من الأموال، وكان ملوك
العجم يتحرزن وما كانوا ينفذون رسولاً إلا بعد أن يجربوه ويمتحنوه. حكمة: يقال أن ملوك العجم كانوا إذا أرسلوا رسولاً إلى الملوك أرسلوا معه جاسوساً ليكتب ما قال وما سمعه فإذا عاد الرسول قابلوا كلامه بالنسخة التي كتبها الجاسوس فإن صح مقاله علموا أنه صادق فكانوا يرسلونه بعد ذلك إلى الأعداء. حكاية: أرسل الاسكندر رسولاً إلى الملك دارا فلما عاد الرسول وأعاد الجواب شك الاسكندر في كلمة من كلامه فلزمها عليه فقال الرسول يا مولاي أنا سمعت هذه الكلمة منه بأذني هاتين فأمر الاسكندر أن يكتب ذلك اللفظ بعينه وأنفذه على يد رسول آخر إلى دارا بن دارا فلما وصل وعرض المكتوب عليه قرأه وطلب سكيناً وقطع تلك الكلمة من الكتاب وأعاده إلى الاسكندر وكتب إليه أن إسّ الملك على حسن نية الملك وصحة طبعه وأساس صحة السلطان على صحة لفظ السفراء وصدق مقالة الرسل الأمناء لأن الرسول يقول ما قاله عن لسان الملك ويسمع ما يسمعه من الجواب بسمع املك والآن فقد قلعت تلك الكلمة من الكتاب لآنها لم تكن من كلامي ولم أجد سبيلاً إلى قطع لسان رسولك فلما عاد الرسول وأعاد الجواب إلى الاسكندر استدعى الرسول وصاح عليه وقال له ويلك من وضعك وقال إنه قصر في حقي وأسخطني فقال اسكندر سبحان الله ظننت أنا أرسلناك لتصلح أمورك أو تسعى في حقوق الناس إلينا ثم أمر به فسل لسانه من قفاه.
فصل يجب على السلطان أنه متى وقعت رعيته في ضائقة أو حصلوا في شدة وفاقه أن يعينهم لا سيما في أوقات القحط وغلاء الأسعار حيث يحجزون عن التعيش ولا يقدرون علىالاكتساب فينبغي حينئذ للسلطان أن يعينهم بالطعام ويساعدهم من خزائنه بالمال ولا يمكن أحداً من حشمه وخدعه وأتباعه أن يجور على رعيته لئلا يضعف الناس وينتقلوا إلى غير ولايته، ويتحولوا إلى سوى مملكته، فينكسر إرتفاع السلطان، ويقل حاصل اليوان، وتعود المنفعة على ذوي الاحتكار، الذين يسرون بغلاء الأسعار، ويقبح ذكر الملك ويدعى عليه ولاجل هذا كان الملوك المتقدون يحذرون من هذا غاية الحذر ويراعون الرعايا من خزائنهم، ويساعدونهم من ذخائرهم ودفائنهم. حكاية: يقال أنه كان رسم ملوك العجم أنياذنوا لرعاياهم في الدخول إليهم في أيام النوروز والمهرجان وكان المنادي ينادي قبل ذلك بثلاثة أيام أن استعدوا لليوم الفلاني ليأخذ كل من الناس أهبته، ويصلح أمره ويكشف قصته، ويتيقن حجته، ومن كان له خصم يعلم أنه يتألم منه عند الملك طلب رضاه فإذا كان ذلك اليوم وقف المنادي على باب الملك ونادى أن منه إنسان إنساناً من الدخول على الملك كان الملك بريئاً من دمه ثم كانت تؤخذ القصص من الناس وتوضع بين يدي الملك وكان ينظر في كل واحدة منها على الانفراد وموبذان قاعد عن يمينه وموبذان بلسانهم قاضي القضاة وإن كان في القصص قصة يتألم فيها من الملك قام الملك من مقامه وبرك بين يدي موبذموبذان مقابل خصمه وقال انصف أولاً هذا الرجل مني ولا تخلد إلى الميل والمجاباة ولا تخترني عن نفسك لأن الله إذا أهدى الحظوظ إلى عباده
اختار لهم وولى عليهم خير خلقه وإذا أراد أن يرى عباده أي قدر لذلك الخليفة عنده اطلق على لسانه ما لم يطلق على لسانك ثم كان ينظر الموبذان فإن كان بين الملك وخصمه دعوى صحيحة وقامت البينة على الملك أخذ الحق منه بتمامه وكماله، وإن لم يكن بين الملك وخصمه دعوى صحيحة وكانت دعواه باطلة لا يثبت على صحتها حجة أمر بعقوبة ونادى عليه هذا جزاء من يريد عيب الملك والمملكة وكان الملك إذا فرغ من الدعاوي واستوى على سرير ملكه وضع التاج على مفرقه وأقبل على جماعته وخاصته وقال إنما انصفت من نفسي لئلا يطمع أحد منكم في الظلم والجور على أحد فلك من كان له منكم خصم فليرضه وكان يبعد في ذلك اليوم كل من كان قريباً منه ومن كان قوياً ضعف عنده وكانت الملوك على هذا السبيل وعلى هذا المذهب إلى أيام يزدجرد الاثيم فانه عبر قواعد بني ساسان وظلم الخلق وافسد حتى جاء في بعض الأيام فرسه في غاية الجودة والكمال بحيث أنه لم ير أحد في ذلك الزمان مثله في حسن خلقته، وجمال هيئته، فدخل من باب الدار واجتهد جميع من في عسكره أن يلزموه فامتنع منهم ولم يقدروا على إمساكه حتى وصل قريباً من يزدجرد فوقف إلى جانب الايوان ساكناً فقال يزدجرد تنحوا عن هذا الفرس فلا يقربه أحد منكم فإنه هدية من الله تعالى خاصة لي فنهض من مكانه وجعل يمسح وجهه قليلاً ثم أمر يده على ظهر الفرس والفرس ساكن لا يتحرك فاستدعى يزدجرد السرج فأسرجه بيده وجذب حزامه وأوثقه وانحرف نحو كفله ليضع التفر فيه فرفسه الفرس على فؤاده رفسة محكمة فخر ميتاً في الحال وخرج الفرس ولم يعلم أحد من أين جاء ولا إلى أين ذهب فقال الناس كان هذا الفرس ملكاً أرسله الله تعالى ليهلكه ويخلصنا من جوره وظلمه. حكاية: قال القاضي أبو يوسف حضر عندي ف مجلس حكمي يحي ابن خالد البرمكي مع خصم له مجوسي فادعي المجوسي عليه فطلب منه
الشاهد فقال مالي شاهد فحلفه فحلفت يحي بن خالد وأرضيت خصمه بأحلافه وساويت في الحكم بين يحيى وبين الجوسي لعزة الإسلام وما ملت قط مع أحد ولا حابيت أحداً خوفاً أن يسألني الله تعالى عن ذلك بل يجب أن يعرفوا قدر الزعماء والأكابر وينبغي أن لا يظلموا أصاغرهم وإن يعظموا أمر الحق ويطيعوا أمر السلطان ولا يعصوه في حال ليكونوا قد عملوا بقول الله تعالى: (أطيِعُوُا الَلهَ وأطيعُوُا الرَسولَ وأولِي الأمرِ مِنكُم) ومن يجعل الله له هذه المرتبة الشريفة، والدرجة المنيفة، ويقرن طاعته بطاعته جل اسمه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فالواجب على الخلق أن يطيعوه ويخافوه ويجب على السلطان شكر هذه النعمة والطاعة لربه تعالى وامتثال ما أمره به من العدل والإحسان والرأفة بالمظلومين. فقد قيل احذروا من دعاء المظلومين وخافوا من ظلم من لا ينتصر من ظلمه إلا بدمع عينيه فما دون دعاء المظلوم حجاب، ودعاؤه مستجاب، لا سيما الدعاء في الأسحار، والتضرع في هدوء الليالي إلى الجبار، كما قال الشاعر: فلا تعجلن بالجُورِ ما دُمتَ قادراً ... فآخره إثمُ وخوفُ عذابِ تنامُ وما المظلومُ عنك بنائمِ ... ودعوته لا تنثني بحجابِ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تأسفت على موت أربعة من الكفار على أنوشروان لعدله وحاتم الطائي لسخائه وأمرىء القيس لشعره وأبي طالب لبره) .
الباب الثاني في سياسة الوزارة وسيرة الوزراء اعلم أن السلطان يرتفع ذكره ويعلو قدره بالوزير إذا كان صالحاً كافياً عادلاً لأنه لا يمكن لأحد من الملوك أن يصرف زمانه ويدير سلطانه بغير وزير ومن انفرد برأيه زل من غير شك. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره وعظم درجته وفصاحته أمره الله تعالى بالمشاورة لأصحابه العقلاء العلماء فقال عز من قائل: (وشَاوِرِهُم فيِ الأمرِ) . وأخبر في موضع آخر عن موسى عليه السلام: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري واشركه في أمري) وإذا لم يستغن الأنبياء عليهم السلام عن الوزراء واحتاجوا اليهم كان غيرهم من الناس أحوج. سئل ازدشير بن بابك أي الأصحاب أصلح للملك؟ فقال الوزير العاقل المتقن الأمين الصالح التدبير ليدبر معه أمره ويشير اليه بما في نفسه. وعلى السلطان أن يعامل الوزير بثلاثة أشياء. أحدها: إذا ظهرت منه زلة وجدت منه هفوة لا يعاجله بالعقوبة الثاني: إذا استغنى في خدمته وأينع ظله في دولته لا يطمع في ماله وثروته.
الثالث: إذا سأله حاجة لا يتوقف في قضاء حاجته وينبغي أن لا يمنعه من ثلاثة أشياء وهي متى أحب أن يراه لا يمنعه من رؤيته وأن لا يسمع في حقه كلام مفسد، ولا يكتم عنه شيئاً من سره لأن الوزير الصالح حافظ سر السلطان ومدبر أحوال المملكة وعمارة الولايات والخزائن وزينة المملكة وشدة الهيبة والقدرة وله الكلام على الأعمال واستماع الأجوبة وبه يكون سرور الملك وقمع أعدائه وهو أحق الناس بالاستماع له وتفخيم القدر، وتعظيم الأمر. وقال لقمان لابنه أكرم وزيرك لأنه إذا رآك على أمر لا يجوز أن يوافقك عليه. وينبغي للوزير أن يكون مائلاً في الأمور إلى الخير متوقياً من الشر وإذا كان سلطانه حسن الاعتقاد، مشفقاً على العباد، كان له عوناً على ذلك وأمره بالازدياد، وإذا كان سلطانه ذا حنق أو كان غير ذي سياسة كان على الوزير أن يرشده قليلاً قليلاً بألطف وجه ويهديه إلى الطريق المحمودة، وينبغي أن يعلم أن دوام الملك بالوزير وان دوام الدنيا بالملك، وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز له أن يهتم بغير الخير ويعلم أنه أول إنسان يحتاج إليه السلطان. وسئل بهرام جور إلى كم يحتاج السلطان حتى تتم سلطنته وتتكامل بالسرور دولته. فقال إلى ستة من الأصحاب: الوزير الصالح ليظهر إليه سره، ويدبر معه رأيه ويسوس أمره، والفرس الجواد لينجيه يوم الحاجة إلى النجاة والسيف القاطع والسلاح الحصين، والمال الكثير الذي يخف حمله ويثقل ثمنه كالجوهر واللؤلؤ والياقوت، والزوجة الحسناء لتكون مؤنسة لقلبه، مزيلة لكربه، والطباخ الخبير الذي إذا أمسك شيئاً دبره بلطفه. حكمة: قال ازدشير: حقيق على الملك أن يكون طالباً لأربعة فإذا وجدهم احتفظ بهم: الوزير الأمين والكاتب العالم، والحاجب المشفق، وإذا كان الكاتب عالماً دل على عقل الملك ورزانته، وإذا كان الحاجب مشفقاً دل
على رضا الملك عن رعيته، ولم يغضب على أهل مملكته، وإذا كان النديم صالحاً دل على انتظام الأمر وصلاحه. حكمة: قال موبذان في عهد أنو شروان أنه لا يمكن حفظ السلطنة إلا بالأصحاب الناصحين المساعدين ولا ينفع خير الأصحاب إلا إذا كان الملك تقياً أنه ينبغي أن يكون الأصل جيداً ثم الفرع، ومعنى تقوى السلطان وصدقه وصحته أن يكون صحيحاً في سائر الأمور يأمر بالصحة بأقواله وأفعاله ليصح بصحته سائر حشمه ورعيته وأن يكون واثقاً بالله تعالى وأن يرى أن قوته وقدرته وظفره بأعدائه ونصرته ووصوله إلى مرداه من الله تعالى وأن لا يعجب بنفسه فإن أعجب خشي عليه الهلاك كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال ان سليمان عليه السلام كان جالساً على سرير ملكه وقد حملته الريح في الجو فنظر سليماه إلى مملكته وطاعة الإنس والجن وانقيادهم لعظيم هيبته وسياسته فاضطرب السرير وهم بالانقلاب فقال سليما للسرير استقم فنطق السرير وقال استقم أنت حتى نستقيم نحن كما قال عز من قائل: (إن اللهَ لا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيروُا ما بأنفسِهمِ) وقال أبو عبيدة في أمثاله (من سلك منهج الجد أمن العثار) ويجب أن يكون الوزير عالماً عاقلاً شيخاً لأن الشاب وإن كان عاقلاً لا يكون في التجربة كالشيخ والذي يتعلمه الناس من تجارب الأيام لا يتعلم إلا من المشايخ والوزير زين السلطن والزين يجب أن يكون صالحاً طاهراً من الشين ويحتاج الوزير إلى خمسة أشياء لتحمد خبرته، وتحسن سيرته، التيقظ ليظهر في كل أمر يدخل فيه له وجه المخرج منه، والعلم حتى تتضح له الأمور الحقيقية، والشجاعة حتى لا يخاف من شيء في غير موضع الخوف، والصدق لئلا يعمل مع أحد غير الصحيح وكتمان سر السلطان إلى أن يدركه الموت. قال أزدشير بابك يجب أن يكون الوزير ساكناً متمهلاً شجاعاً واسع الصدر حسن المقال مليح الوجه مستحيياً صامتاً حيث
يحسن الصمت ومتكلماً إذا حسن الكلام ومع ذلك يجب أن يكون تقياً حسن المذهب ليطهر نفسه وينفي عنها كل ما لا يليق ولا بد من حسن الاعتقاد، وينبغي أن يكون ذا تجارب ليسهل الأمور على الملك متيقظاً لينظر عواقب الأمور، ويخاف عليه من تصاريف الدهور ويتحفظ أن يصيبه عيب الزمان وكل ملك كان وزيره له محباً وعليه مشفقاً كان ذلك الوزير كثير الأعداء وكان أعداؤه أكثر من أصدقائه، ولا يجوز للسلطان أن يسمع في وزيره كلام المحرضين عليه الساعين به إليه ليحسده أصدقاؤه، وتنكبت أعداؤه. ويجب أن يكون الوزير محمود الطريقة حتى إذا رأى ي الملك خلة مذمومة غير رشيدة رده إلى العادة المستقيمة الحميدة من غير غلظة شديدة، لأن الملك إذا كان على ما لا يريده وسمع ما يكرهه منه من التقريع عمل شراً من ذلك، والدليل على ذلك أن البارىء تعالى لما أرسل موسى إلى فرعون بأمره قال عز من قائل: (فقُولا لهُ قولاً ليناً) وإذا كان الحق سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه السلام أن يقول لعدوه قولاً ليناً فالناس أجدر أن يلينوا أقوالهم، وإن كان السلطان يخشن كلامه فلا يجوز للوزير أن يحقد بما يريد. وإذا كان الوزير محباً للملك صحيح المقال، حسن الفعال كان له عوناً على ذلك وأمره بالملازمة لذلك، ولا يجوز أن يعلم الوزير وسائر خاصة الملك انهم مهما فعلوه من حسن فإن ذلك بإقبال الملك وببركة ظله انفعل فالمنة حينئذ تصلح أن تكون له على الناس، وأعظم فساد ينشأ في دولة الملك يكون من أمرين أحدهما من الوزير الخائن، والثاني من نية الملك الرديئة الفاسدة. قال أنو شروان شر الوزراء من جرأ السلطان على الحرب وجرأه على القتال في موضع يمكن أن ينصلح الحال بغير حرب لأن الحرب في سائر الأحوال تفني ذخائر الأموال، وفيها تبذل كرائم النفوس ومصونات الأرواح.
وقال أيضاً كل ملك كان وزيره جاهلاً فمثله كمثل الغيم الذي يبدو ويظهر، ولا يندي ولا يمطر. حكمة: في كتاب وصايا أرسطاطاليس: كل أمر ينقضي على يد غيرك بلا حرب ولا خشونة فهو خير مما تقضيه بيدك. وترتيب الوزراء انهم متى أمكنهم أن يحاربوا بالكتب فليحاربوا وان لم تتأت الأمور بالاحتيال والتدبير فليحتالوا في تأتيها بعطاء الأموال، وبذل الصلات والنوال، ومتى انهزم عسكر عفوا عن جنود الجند ولا يستعدجلوا بقتلهم لأنه قد يمكن قتل الأحياء ولا يمكن أحياء القتلى فإن الرجل يصير رجلاً في أربعين سنة ومائة رجل يكون رجل يصلح لخدمة الملوك وان أسر احد من الجند م أصحاب الملك كان على الوزير ان يفكه ويفديه ويخلصه ويشتريه ليسمع الجند بصنيعه فتقوى قلوبهم إذا باشروا حروبهم، وعلى الوزير أن يحفظ أرزاق الجند كل إنسان على قدره وإن يدرب الرجال الشجعان بألات الحرب، وان يخاطبهم بأحسن كلام ويلين لهم في الخطاب، ويلطف بهم في الجواب، فان الجند قد قتلوا كثيراً من الوزراء في قديم الأيام، وسالف الأعوام، ومن سعادة السلطان ويمن طالعه وتوحده أن يسهل الله له وزيراً صالحاً، ومشيراً ناصحاً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأمير خيراً قيض له وزيراً نصيحاً صادقاً صبيحاً، إن نسي ذكره وإن إستعان به أعانه. قال المؤلف الكتاب إن الله سبحانه وتعالى يظهر قدرته في كل حين وزمان، ووقت وأوان، ويصطفي جماعة يختارهم من عباده مثل السلاطين والوزراء وأكابر العلماء ليعمر بهم الدنيا. ومن عجائب الزمان حديث البرامكة الذين لم يوجد لهم في الدنيا نظير في الكرم والعطاء، وبذل المعروف والسخاء. وكان تحت حكمهم الولايات الوافرة المرتفعات وبعد انقراضهم فسدت أحوال الوزراء ولم يبق لخدمة الملوك رونق ولا نضارة إلى أن أوجد الله تعالى بركات آل سلجوق وظل دولتهم
إلى النظام وأوصلهم إلى درجة الوزراء المتقدمين وأرفع بحيث أنه لم يبق أحد في الدنيا من أهل الفضل والادباء، وأبناء السبيل الغرباء، من شريف ووضيع إلا هو مشمول بإحسانهم، مغمور بامتنانهم ولم يكن أحد من خيرهم محروماً وإنما ذكرنا هذا ليعلم من يقرأ كتابنا هذا الفرق بين الصالح وغير الصالح. حكمة: قال بزرجمهر: لا تقاس الأشياء بعضها ببعض لأن جوهر الناس أجل من كل جوهر وانما زينة الدنيا جميعها بالناس، والباري تعالى لا ينسب إلى الخطأ وهو واهب الصلاح لمن يشاء وأنه يؤتي كل أحد ما يصلح له ويليق به فينبغي أن يكون وزراء الملوك ومدبرو دولتهم على هذه الصفة وأن يحفظوا رسوم المتقدمين وطرائفهم وأن يلتمسوا الأموال التي تؤخذ من الرعية في أوقاتها وأحيانها، وعند وجوبها واتيانها، وليعرفوا الرسم ويحملوا الرعية بحسب طاقتها وقدرتها، وأن يكونوا في تصيدهم كصائد الكركي لا قاتل العصفور. ولا يجوز أن يحرصوا على تناول أموال المواريث مادام الوارث موجوداً فالطمع في ذلك مشؤوم غير جائز ويجب عليهم استمالة قلوب الرعية والحشم، بهبات الفوائد والنعم، ليعلموا أن كفايتهم وسمو مرتبتهم وصلاحهم، منوط بصلاح الرعية ليحسن ذكرهم في الدنيا وينالوا جزيل الثواب في العقبى.
الباب الثالث في ذكر الكتاب وآدابهم قالت العلماء ليس شيء أفضل من القلم لأنه به يمكن اعادة السالف والماضي. ومن فضل القلم وشرفه أالله تعالى اقسم به فقال عز من قائل: (ن والَقلَم وما يسطرَون) . وقال تعالى: (اِِقرَأ ورُبكَ الأكَرمُ الذِي عَلَمَ بِالَقلمِ عَلَمَ الِإنسانِ ما لم يعَلم) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو سائر إلى يوم القيامة الحديث) . قال عبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية حكاية عن يوسف عليه السلام: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) . قال معناه كاتب حاسب. وقال إن القلم صائغ الكلام. حكمة: قال ابن المعتز القلم معدن والعقل جوهر والقلم صائغ والخط صناعة. قال جالينوس القلم طبيب الكلام. قال بليناس القلم طلسم كبير. قال اسكندر الدنيا تحت شيئين السيف والقلم والسيف تحت القلم والقلم أدب المتعملين وبضاعتهم وبه يعرف رأي كل إنسان من قريب وبعيد ومهما كان الرجل مجرباً للزمان فانه ما لم ينظر في الكتب لا يكون كامل العقل لأن مدة عمر الإنسان معلومة ومعلوم أيضاً أن في هذه المدة القريبة والعمر قصير كم يمكنه أن يدرك بتجربته ومعلوم أيضاً كم يمكنه أن يحفظ بقلبه. السيف والقلم حاكمان في جميع الأشياء، ولولا السيف والقلم ما قدمت الدنيا.
وأما الكتاب فلا يجوز لهم أن يعرفوا أكثر من حدود الكتابة ليصلحوا لخدمة الاكابر. وقالت الحكماء والملوك القدماء: ينبغي أن يكون الكاتب عالماً بعشرة أشياء. الأول بعد الماء وقربه تحت الأرض، ومعرفة استخراج الافتاء، ومعرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما في الصيف والشتاء وسير الشمس والقمر والنجوم، ومعرفة الاجتماع والاستقبال، والحساب بالأصابع وحساب الهندسة والتقويم واختيارات الأيام وما يصلح للمزارعين ومعرفة الطب والأدوية، ومعرفة ريح الجنوب ولشمال، وعلم الشعر والقوافي. ومع هذا كله ينبغي أن يكون الكاتب خفيف الروح طيب اللقاء عالماً ببراية القلم وتدبيره وقطه ورفعه وخطه ومهما كان في قلبه أظهره بسنان قلمه وان يحرس نفسه أن يكون مجتمعاً متصلاً. وأن يكون الخط مبنياً ويعطي كل حرف حقه كما يحكى أنه كان لامير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنع عامل فكتب إلى عمرو بن العاص كتاباً لم يظهر سين سم الله الرحمن الرحيم فاستدعاه عمرو وقال له اظهر أولاً سين بسم الله ثم توجه بعد ذلك إلى عملك. وأول ما ينبغي للكاتب أن يعلم براية القلم فإن الإنسان إذا كان يحسن الخط ويعرف أن يبري قلمه فإن الخط على كل حال يجيء صالحاً. حكاية: كان لشاهنشاه عشرة من الوزراء وكان في حملتهم لصاحب إسماعيل بن عباد فاجتمع الوزراء على تنكيسه واتفقوا على التضريب عليه وقالوا أن الصاحب لا يقدر أن يبري قلمه فلما علم بذلك شاهنشاه جمعهم وقالوا أن الصاحب أي أدب فيكم ليس لي مثله حتى تتجاسروا أن تتحدثوا عني بحضرة شاهنشاه وأن أبي علمني الوزارة ولم يعلمني التجارة أقل أدبي براية القلم وهل فيكم من يقدر أن يكتب كتاباً تاماً بقلم مكسور الرأس فجز الجماعة عن ذلك فقال له شاهنشاه اكتب أنت فأخذ الصاحب قلماً وكسر رأسه وكتب به درجاً تاماً فأقر الجماعة بفضله، واعترفوا بسداده ونبله،
وأجود الأقلام ما كان مستقيماً أصفر اللون رقيق الوسط، والقلم المحرف من جانبه الايمن يصلح للخط العربي والفارسي والعبري واللسان الدري يجب أن يكون قلمه محرفاً من الجانب الأيسر، وخير الأقلام ما وصفه يحيى بن جعفر البرمكي في كتاب كتبه إلى يحيى بن ليث قلم لا غليظ ولا رقيق وسطه دقيق، يجب أن تكون السكين التي يبرى بها الأقلام في غاية الحدة وان تكون براية القلم على شكل منقار الكركي محرفاً من الجانب الايمن، وينبغي أن يكون المقط الذي يقط عليه في غاية الصلابة، ويجب أن تكون الانقاش فارسية خفيفة الوزن والكاغد صقيلاً متساوياً وان يجوز مده لانه يتوحش بذلك الخط وأن تكون صور الحروف يشبه بعضها بعضاً ولا يقدر ذلك إلا حكيم عاقل أو من تعودت بذلك أنامله. وكان عبد الله بن رافع كاتباً لامير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال كنت أكتب يوماً فقال لي أمير المؤمنين ألق دواتك وأطل جلفة قلمك ووسع ما بين السطور واجمع ما بين الحروف وكان عبد الله بن جبلة كاتباً محسناً فقال لغلمانه لتكون أقلامكم بحرية فإن لم تكن بحرية فلتكن صفراً واقطعوا عقد الأقلام لئلا تنعقد الأمور، ولا يجوز انفاذ كتاب بغير ختم فإن كرم الكتاب ختمه. وقال عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: (أنِي ألقِي إِلي كِتَابٍ كَرِيمٍ) . أي مختوم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً إلى العجم وقال انهم لا يريدون كتاباً بغير ختم فختمه بخاتمه المبارك وكان عليه ثلاثة أسطر محمد رسول الله. خبر روى صخر بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب كتاباً إلى النجاشي
رماه على التراب ثم أنفذه فلا جرم أنه أسلم. ولما كتب كتاباً إلى كسرى أنوشروان لم يلقه على التراب لا جرم أنه لم يسلم وقال صلى الله عليه وسلم تربوا كتبكم فإنه أنجح لحوائجكم. وقال تربوا الكتاب فإن التراب مبارك وإذا كتب الكتاب فليقرأ قبل طيه فإن رأى فيه خطأ تدراكه وأصلحه. وينبغي أن يجتهد الكاتب أن يكون الكلام قصيراً والمعنى طويلاً، وأن لا يكرر كلمة يكتبها، وأن يحترز من الألفاظ الثقيلة الغثة ليكون كاتبها محموداً. وفي باب الكتابة كلام طويل كثير ان ذكرناه طال الكتاب ونقتنع منه بهذا القدر فقد قيل خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل.
الباب الرابع في سمو همم الملوك قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد أن لا تكون دنيء الهمة فاني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همته. وقال عمرو بن العاص المرء حيث وضع نفسه يريد إن أعز نفسه علا أمره، وان أذله ذل وهان قدره. وتفسير معنى الهمة أن يرفع نفسه فإن أنفة القلب من همم الاكابر لانهم يعرفون قدر أنفسهم فيعزونها ولا يرفع قدر أحد حتى يكون هو الرافع لقدر نفسه. واعزاز المرء نفسه أن لا يختلط بالاراذل ولا يشرع في عمل ما لا يجوز لمثله أن يعمله ولا ما يعاب به والهمة والآنفة للملوك لأن الله ركب فيهم الخصلة ليتعلمها منهم الوزراء والندماء كما جاء في الحكاية. حكاية: أمر أبو الدوانيق لرجل بخمسمائة درهم فقال أحمد بن الخصيب لا يجوز للملك أن يهب ما دون الألف من الاعداد. وكان هارون الرشيد يوماً راكباً في موكبه فسقط فرس رجل من عسكره فقال هارون ليعط خمسمائة درهم فأشار إليه يحيى بعينه وقال هذا خطأ فلما نزلوا قال الرشيد أي خطأ بدا مني حتى أشرت ألي بعينك فقال لا يجوز أن يجري على لسان أحد من الملوك أقل من الألف من الاعداد فقال الرشيد فإن اتفق أمر لا يجوز أن يعطى فيه أكثر من خمسمائة درهم مثل هذا فكيف يقال قل ليعطى فرساً فيدفع إليه فرس على جاري العادة والرسم وتكون قد نزهت
همتك عن ذكر الحقير. ولهذا خلع المأمون ولده من ولاية عهده وذلك أن المأمون اجتاز بحجرة العباس فسمعه يقول لغلامه يا غلام قد رأيت بباب الرصافة بقلاً حسناً فخذ نصف درهم وصل إلى باب الرصافة وائتني بشيء منه فناداه المأمون من الآن علمت أن للدرهم نصفاً فأنت لا تصلح لولاية العهد وتدبير المملكة ولا يأتي منك صلاح ولا فلاح. حكمة: في وصية نامةأزدشير لولده إذا أردت أن تهب لاحد من ولدك شيئاً فاجتهد أن لا يكون عطاؤك أقل من دخل ولاية أو قرية أو قيمة بلد أو رستاق يستغني به الشخص الذي تهبه تزول حاجته ويستغني اعقابه به وأولاده ما عاشوا فيحصل بذلك في حساب الاحياء لا في حساب الأموات واجتهد انك لا ترغب في التجارة بوجه من الوجود فإن ذلك يدل على دناءة همة الملك. حكمة: يقال أنه كان الملك هرمز بن سابور وزير فكتب إليه كتاباً يذكر فيه أنه وصل من جانب البحر تجار معهم اللؤلؤ والياقوت والجواهر النفيسة القيمة وانني ابتعت منهم برسم الخزانة بمبلغ ألف دينار والآن قد حضر فلان التاجر وهو يطلب الجوهر بربح كثير فإن رغب مولانا فليرسم بما يرى. فكتب هرمز جوابه وقال مائة ألف ومائة ألف مثلها وأمثالها ليس لها في أعيننا خطر ولا نرغب فيها بوجه من الوجوه لنفسك ولا تعد لمثل هذا الكلام ولا تخلط في أموالنا درهماً واحداً ولا دانقاً فرداً من أرباح التجارة فإن ذلك يسقط قيمة الملك ويزري بحسن اسمه، ويعود بقبح قاعدته ورسمه، ويضر بصيته في حال حياته وبعد وفاته. حكاية: حكى أن الأمير عمارة بن حمزة كان في بعض الأيام جالساً في مجلس الخليفة المنصور وكان يوم نظره في المظالم فنهض رجل على قدميه وقال انا مظلوم فقال من ظلمك فقال عمارة بن حمزة اغتصب ضياعي وابتز ملكي وعقاري فأمره المنصور أن يقوم من مقامه ويساوس خصمه
للمحاكمة فقال عمارة يا أمير المؤمنين ان كانت الضياع له فما أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ومالي حاجة في محاكمته وما ابيع مكاني الذي أكرمن به أمير بضياع ولا غيرها فتعجب الأكابر الحاضرون من علو همته، وشرف نفسه ومروءته، الهة والنهمة على شكل واحد وكل إنسان له منهما نصيب فواحد بالسخاء وإطعام الطعام وآخر بالعلم وآخر بالعبادة والقناعة والزهادة، وترك الدنيا، وطلب العقبى وآخر بطلب الزيادة. وأما الهمة بالسخاء وبذل المال، واسداء النوال فينبغي أن تكون كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن يحيى بن خالد خرج يوماً من دار الخلافة راكباً إلى داره فرأى على باب الدار رجلاً فلما قرب نهض قائماً وسلم عليه وقال يا أبا جعفر أنا محتاج إلى ما في يدك وقد جعلت الله وسيلتي اليك فأمر يحيى أن يفرد له موضع في داره وان يحمل إليه في كل يوم ألف درهم وأن يكون طعامه من طعامه المختص به فبقي على ذلك شهراً كاملاً فلما انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم فأخذ الرجل الدراهم وانصرف فقيل ليحيى في ذلك فقال والله لو أقام مدة عمره، وطول دهره، ما منعته صلتي ولا قطعت عنه ضيافتي. حكاية: كان لجعفر بن موسى الهادي جارية عوادة تعرف ببدر الكبرى ولم يكن في زمانها أحسن وجهاً منها ولا أحذق بصناعة الغناء وضرب الأوتار منها وكانت في غاية الكمال، ونهاية الجمال، فسمع بخبرها محمد ابن زبيدة الأمين فالتمس منه أن يبيعها له فقال له جعفر أنه لا يجيء من مثلي بيع الجواري، ولا المساومة في السراري، ولولا أنها مزينة داري، لأنفذتها إليك، ولم أبخل بها عليك. ثم بعد ذلك بأيام جاء محمد ابن زبيدة إلى داره فرتب مجلس الشراب وأمر بدراً أن تغني له وتطربه فأخذ محمد في الشراب والطرب ومال على جعفر بكثرة الشرب حتى اسكره وأخذ الجارية معه ألى داره ولم يمد اليها يده من شرف نفسه وهمته ثم رسم من الغد
باستدعاء جعفر فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني من وراء الستر فسمع جعفر غناءها فلم ينطق من شرف نفسه ولم يظهر تغيراً في محاضرته ثم أمر محمد الأمين أن يملأ ذلك الزورق الذي ركب فيه جعفر أليه دراهم فكانت الفي ألف بدرة وجملتها عشرون ألف الف درهم حتى استغاث الملاحون وقالوا ما بقي الزورق يحمل شيئاً آخر وأمر بحمله ألى دار جعفر والجارية أيضاً. هكذا كانت همم الأكابر. وسئل بعض الحكماء من أعلا الناس حالاً فقال أعلاهم همة وأكثرهم علماً، وأغزرهم فهماً واصفاهم حالاً فقيل له فمن ينبغي أن يتوصل ليخلص من نحوسة حظه وضائقته فقال بالملوك والأكابر وذوي الهمم العالية، والنفوس الشريفة السامية، كما قيل جاور بحراً أن ملكاً. حكاية: قال سعد بن سالم الباهلي اشتدت بي الحال في زمن الرشيد واجتمع علي ديون يعجزني بعض قضائها، وعسر علي أداؤها، واحتشد ببابي أرباب الديون، وتزاحم الطالبون، ولازمني الغمرماء فضاقت حيلتي، وازدادت فكرتي فقصدت عبد الله بن مالك الخزاعي التمست منه أن يمدني برأيه وإن يرشدني ألى باب الفرج فقال عبد الله لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك، وضائقتك وغمكم، ألا البرامكة فقلت ومن يقدر على احتمال تكبرهم، والصبر على تيههم وتجبرهمز فقال تصبر على ذلك لمصلحة أحوالك فنهضت إلى الفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد فقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما غصتي. فقالا أعانك الله وأقام لك الكفاية فعدت إلى عبد الله ابن مالك ضيق الصدر، منقسم الفكر، منكسر القلب وأعدت عليه ما قالاه فقال يجب أن تكون عندنا اليوم لننظر ما يقدره الله تعالى فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل فقال
عبد الله أرجو أن يكون قد جاء الفرج فقم وانظر ما الشأن فنهضت وأسرعت عدواً فرأيت ببابي رجلاً معه رقعة مكتوب فيها انك لما عدت من عندنا مضيت إلى الخليفة وعرفته ما قد أفضت بك الحال أليه يصرفها إلى غرمائه فمن أين يقيم وجوه نفقاته فأمر بثمانمائة ألف درهم أخرى وقد حملت أنا من خاصتي الف الف درهم فصارت الجملة الفي ألف درهم وثمانمائة ألف درهم أصلح بها أحوالك. حكاية: يقال انه كان لانو شروان نديم وكان في مجلس الشراب جام من ذهب مرصع باللؤلؤ والجواهر النفيسة فسرقه النديم ونظر اليه انو شروان فرآه وهو يخفيه فجاء الشرابي وطلب الجام فلم يجده فنادى يا أهل المجلس قد ضاع لنا جام مرصع بالجواهر فلا يخرجن أحد حتى يرد الجام فقال أنو شروان مكنهم من الخروج فإن الذي سرق الجام لا يرده والذي رآه لا يقر عليه فأين كان السخاء وعلو الهمة كانت الراحة والخير ولكن من ينكر الاحسان، ويحجد الامتنان لا أصل له ومن لا أصل له لا يقدر أن يستر فكره. حكاية: يقال أن الرشيد استدعى صالحاً في التاريخ الذي تغير فيه علىالبرامكة وقال صالح صر إلى منصور بن زياد وقل له لنا عليك عشرة الآف ألف درهم نريد أن تحصلها في هذه الساعة وان لم يحصلها ألى المغرب فخذ رأسه عن جسده وأتني به واياك ومراجعتي في شيء من أمره. قال صالح فصرت إلى منصور وعرفته ما ذكره الرشيد من سياسته فقال له هلكت وحلف أن جميع أسبابه وأملاكه لا يقوم بمائة ألف درهم فمن أين يقوم بتحصيل عشرة الآف ألف درهم قال صالح فقلت له دبر حيلة في امرك
فاني لا أقدر أن أمهل احابي فيما أمر به أمير المؤمنين فقال احملني إلى بيتي أودع أولادي وأهلي وصبيتي وأوصي أقاربي فجعل منصور يودع أهل بيته وارتفع ف منزله البكاء والاستغاثة والصراخ. قال صالح فقلت له ربما يكون لك فرج على أيدي البرامكة فامض بنا اليهم فأخذ يبكي ويصرخ حتى أتينا يحيى بن خالد فقصصت عليه القصة وشرحت عليه ما ناله فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساكناً زماناً ثم رفع رأسه ثم استدعى خازنه وقال له كم في خزانتنا من الدراهم فقال مقدار ألف ألف درهم فأمر باحضارها وأنفذ قاصداً إلى الفضل ولده فقال للرسول قل له انه عرض بيع ضياع جليلة فانفذ ما عندك من الدراهم فانفذ ألفي ألف درهم وأنفذ بآخر إلى جعفر وقال للرسول قل له اتفق لنا شغل ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فانفذ جعفر ألفي ألف درهم فقال منصور يا مولاي قد تمسكت بك وما اعرف خلاصي إلا منك واتمام بقية ديني فاطرق يحيى إلى الأرض وبكى وقال يا غلام إن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان وهب جاريتنا العوادة منانير وجوهرة عظيمة القيمة فامض إليها وقل لها تنفذ تلك الجوهرة فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال يحيى يا صالح أنا ابتعت هذه لامير المؤمنين من التجار بمائتي ألف درهم ووهبها أمير المؤمنين لدنانير العوادة وإذا رآها عرفها وقد بم الآن مال مصارة منصور يا صالح قل لامير المؤمنين ليهب لنا منصوراً. قال صالح فحملت المال والجوهرة إلى الخليفة فبينما نحن في الطريق أنا ومنصور إذ سمعته يتمثل ببيت من الشعر فتعجبت من ردائته وفساده. وخبث أصله وميلاده، وهو هذا البيت. فما استوهبَتَنِي مُتمَسكاً بِي ... ولكن خفت مِن ألمِ النِبالِ قال صالح فحردت عليه وقلت ما على الأرض خير من البرامكة ولا شر منك اشتروك وانقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم وتحمدهم ولم تفعل فعل الاحرار وقلت ما قلت ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وعرفته ما جرى وكتمت عنه ما جرى من منصور من خبث الطوية مخافة على نفسه من الرشيد فعند ذلك تعجب وأمر
برد تلك الجوهرة وقال شيء وهبناه لا يجوز ان نعود فيه فأعدتها إلى يحيى وقصصت عليه القصة وما جرى من منصور من سوء فعله. قال يحيى إذا كان الإنسان مقلاً وجعل يطلب العذر لمنصور. قال صالح فبكيت وقلت لا يعود الفلك الدائريخرج رجلاً مثلك في الوجود، فوا أسفاً كيف يتوارى رجل مثلك له خلق مثل أخلاقك تحت التراب. حكاية: يقال أنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الحزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها وكان سبب تلك العداوة التي بينهما أن هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك إلى ابعد غاية بحيث أن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان والحقد في صدورهما وقلوبهما فولى الرشيد ولاية أومينية لعبد الله وسيره إليها. ثم أن رجلاً من أهل العراق كان له أدب وذكاء وفطنة فضاق ما بيده وفني ماله، واختل عليه حاله، فزور كتاباً عن يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر به إلى أرمينية فحين وصل إليها قصد باب عبد الله وسلم الكتاب إلى بعض حجابه فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك ففضه وقرأه وتدبره وعلم أنه مزور فأذن للرجل فدخل عليه فقال له حملت بعض المشقة وجئني بكتاب مزور ولكن طب نفساً فانا لا نخيب سعيك فقا الرجل أطال الله بقاء الأمير إن كان قد ثقل عليك وصولي إليك فلا تحتج في منعي لحجة فأرض الله واسعة والرازق حي متين والكتاب الذي وصل صحيح غير مزور. فقال عن حال هذا الكتاب الذي اتيت به فأن الف درهم مع الفرس والجنيب والحلة والتشريف. وان كان الكتاب مزوراً أمرت أن تضرب مائتي خشبة وان تحلق محاسنك. ثم أمر عبد الله أن يحمل إلى حجرة الحبس وان يحمل اليه ما يحتاج اليه وكتب كتاباً
الى وكيله ببغداد أنه قد وصل الينا رجل معه كتاب يذكر أنه من يحيى بن خالد وأن سيء الظن في هذا الكتاب فيجب أن تتحقق الحال في هذا الكتاب لتعلم صحته من سقمه وعرفني الجواب فلما وصل كتاب عبد الله الى وكيله ركب ومضى الى باب دار يحيى بن خالد فوجده مع ندمائه وخواصه جالساً فسلم الكتاب إليه فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل عد الينا من الغد لأكتب لك الجواب ثم التفت الى ندمائه وقال لهم ما جزاء من حمل عني كتاباً مزوراً الى عدوي فقال كل واحد منهم شيئاً يصف نوعاً من العذاب، ويذكر جنساً من العقاب، فقال يحيى كلكم أخطأتم وهذا الذي ذكرتم من خسة الأصل ودنائته وكلكم تعرفون قرب عبد الله من أمير المؤمنين وتعرفون ما بيني وبينه من البغض والآن قد سبب الله هذا الرجل وجعله متوسطاً في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليمحو حقد عشرين سنة من قلوبنا، وتنصلح بواسطته شؤوننا وقد وجب علي أن أفي لهذا الرجل بتأميله وأصدق ظنونه واكتب له كتاباً إلى عبد الله ليتوفر على اكرامه، واعزازه واحترامه وسمو همته. ثم إنه طلب الكاغد والدواة وكتب إلى عبد الله بخط يده. بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك أطال الله بقائك وقرأته وفهمته وسررت بسلامتك، وابتهجت باستقامتك، وكان ظنك أن ذلك الحر زور عني كتاباً، ولفق عني خطاباً، وليس كذلك فإن الكتاب أنا الذي كتبته وعلى يديه أنفذته، وليس بمزور عني، وتوقعي من كرمك، وحسن شيمك أن تفي لذلك الحر الكريم بأمله، وتعرف له حرمة قصده، وان تخصه منك بغامر الإحسان، ووافر الامتنان، فمهما فعلته في حقه فأنا المعتد به والشاكر عليه. ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه الى الوكيل فأنفذه الوكيل الى عبد الله فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر الرجل وقال أي الأمرين اللذين ذكرتهما تختار أن أفعل معك فقال الرجل العطاء أحب الي فامر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية منها خمسة بالمراكب المحلاة وخمسة بالحلال وعشرين تختاً من الثياب وعشرة مماليك ركاب الخيول وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة
من الثياب وسيره بصحبة مأمونه الى بغداد فلما وصل الى أهله قصد باب دار يحيى بن خالد وطلب الإذن فدخل الحاجب وقال يا مولانا ببابنا رجل ظاهر الحشمة جميل الهيئة حسن الجمال كثير الغلمان، فاذن له في الدخول فدخل اليه، وقبل الأرض بين يديه. فقال له يحيى ما أعرفك فقال أنا الرجل الذي كنت ميتاً من جور الزمان، وغدر الحدثان، فنشرتني واحييتني، أنا الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك ووهب لك. فقال من بركاتك وظلك، وكرمك وهمتك وفضلك أعطاني، ونولني وأغنائي، وقد حملت جميع عطيته وها هي ببابك والأمر اليك، والحكم في يديك، فقال له يحيى صنيعك معي أكثر من صنيعي معك ولك على المنة العظيمة، واليد الجسيمة، إذ بدلت تلك العداوة التي كانت بين وبينك وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة وأنت كنت في ذلك السبب وأنا أهب من المال مثل ما وهب لك. ثم أمر له من المال بمثل ما اعطاه عبد الله ابن مالك. وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم من يقرؤها أن الإنسان إذا كانت همته عالية لا يضيع أبداً كما لم يضع ذلك الرجل ولو كان خسيس الطبع لالتجأ ألى عمل دنيء وتعلق بلئام الناس ولكنه لما كانت له همة سامية تهور وأقدم، وخاطر مع رجل محتشم، كريم الأخلاق، طاهر الأعراق، فوصل بذلك التهور الى مراده. انظر الى الرجلين الكريمين المحتشمين الزعيمين السيدين، وإلى سمو همتهما بماذا عاملاه، وبماذا قابلاه، ولم يريا في مروءتهما عقوبته وعذابه ونال من بركتهما طلابه وتخلص من شدة زمانه وضائقته، وأفلت من شر محنته وعاد ذا نعمة سنية، ورتبة علية وحصل بجميل الذكر على جزيل الأجر. حكاية: يقال أنه تفاخر عبدان: عبد لبني هاشم وعبد لبني أمية فكل واحد منهما قال موالي أكرم من مواليك فقالا
نمضي ونجرب فمضى مولى بني أمية إلى واحد من مواليه وشكا حالته وضائقته وتألم من فاقته فأعطاه عشرة آلاف درهم حتى طاف على عشرة من مواليه فاجتمع له مائة ألف درهم فأخذها وأحضرها بين يدي مولى بني هاشم وقال امض أنت الى بني هاشم وجربهم وانظر كرمهم فأتى مولى بني هاشم الى الحسين بن علي رضي الله عنهما وشكا حاله وذكر فقره وما أفضى به الحال إليه فأمر له بمائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن جعفر وشكا اليه فأعطاه مائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن ربيعة فأعطاه مائة ألف درهم فمضى بالمال الى مولى بني أمية وقال له: إن مواليك تعلموا الكرم من موالي، ولكن عد بنا اليهم لنجربهم ثايناً ونعيد المال إليهم فمضى مولى بني أمية الى مواليه وقال لهم قد استغنيت عن هذا المال وقد سهل الله تعالى لي من مكان ما أسدّ به فقري ولم يبق لي في هذه الدراهم حاجة وقد اعدتها فأخذ كل واحد منهم دراهمه، وحمل مولى هاشم الدراهم الى مواليه قال لهم قد تيسر لي من مكان ما زالت به حاجتي وانقضت وقد أعدت المال الذي أخذت منكم فاستعيدوه فقالوا نحن لا نأخذ شيئاً قد وهبناه ولاتعود هباتنا تختلط بأموالنا. حكمة: قال بعض الحكماء اجلال الأكابر من الكرم وحسن الخلال، واحتقار الناس من لؤم الأصل وقبح الخلال، والهمة بغير آلة خفة وإنما الهمة مع الجد تجمل وتلطف، وتحسن وتظرف، لأن الرجل إذا كان ذا همة وجدة غير مساعد لم يكن له من همته سوى الانحطاط لأنه يجب أن تكون الهمة علوية والجد عالياً، وقد قيل أيضاً الكلام بالدرجة والعمل بالقدرة. وينبغي أن تكون الهمة الى بغداد والزاد الى فرسخين وكذا الجلال. حكاية: كان عبد العزيز بن مروان أميراً بمصر فركب ذات يوم واجتاز بموضع وإذا برجل ينادي ولده يا عبد العزيز فسمع الأمير نداءه فأمر له بعشرة الآف درهم لينفقها على ذلك الولد الذي هو سميه ففشا الخبر بمدينة
مصر فكل من ولد في تلك السنة ولد سماه عبد العزيز. وبضد ذلك كان الحاجب تاش الأمير الكبير بخراسان فإنه اجتاز يوماً بصيارف بخارى ورجل ينادي غلامه وكان اسم الغلام تاس فأمر بإزالة الصيارف ومصادرتهم وقال إنما أردتم الاستخفاف باسمي. فانظر الآن بين الحر القرشي وبين المتشرف بالدراهم. وفي هذا الباب كلام طويل ونكتفي بهذا لئلا يطول الكتاب. وينبغي أن تعلم أن الهمة وإن تأخرت فإنها توصل صاحبها الى مراده يوماً من الزمان قال الشاعر: سَعيي لِمجدِ ولولاَ صِدقُ معَرفتي ... انِي سأَدرك ما قد كُنتُ أطلُبه لو كُنتُ فِي خِدمةِ السُلطانِ ذا طلبِ ... للِزَادِ ما كُنت مِن حَامِيهِ أخَطُبه وإنما المحمود في الرجال أن لا يتجاوز بهمته، فوق قدره وقدرته، لئلا يعيش مغتماً طول زمانه ومدته، كما قال الشاعر: لو كُنتَ تَقَنعُ بِالكِفَايةِ لَم يكُن ... بِالدَهرِ أرفَه مِنكَ عَيشاً فِيه أو كُنتَ يُوَماً َفوقَ ذَلِكَ طَامعَاً ... لم تكفِك الدُنيَا بِما تَحوِيه ماذا يَفيد عُلو هِمَتكَ الذِي ... لا يسَتجيب لِنيلِ ما تَبغِيِه
الباب الخامس في ذكر حلم الحكماء أما الحكمة فإنها عطاء من الله جلت قدرته يؤتيها من يشاء من عباده. قال سقراط مثل من أعطاه الله الحكمة وهو يعرف قدرها وهو بحرصه يعمل للدنيا وللمال الكثير كمثل من يكون في صحة وسلامة فيبيعها بالتعب والنصب فإن ثمرة الحكمة الراحة والعلاء، وثمرة المال التعب والبلاء. قال ابن المقفع كان لملوك الهند كتب كثيرة بحيث كانت تحمل على الفيلة فامروا حكماءهم أن يختصروها فاتفق العلماء في اختصارها فاختصروها على أربعة كلمات أحداها للملوك وهي العدل، والثانية للرعية وهي الطاعة، والثالثة للنفس وهي الامساك عن الطعام الى وقت الجوع، والرابعة للانسان وهي أن لا ينظر الى غير نفسه. حكمة: قال بعض الحكماء الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري وذلك ناس فذكروه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فاحذروه. (حكمة) سئل بعض الحكماء أي شي أقرب فقال الأجل فقيل أي شيء أبعد قال الأمل.
حكمة: قال لقمان الحكيم لولده: شيئان إذا حفظتهما لا تبالي بما ضيعت بعدهما درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. حكمة: سأل أنو شروان بزر جمهر لاي شيء يمكن أن يجعل العدو صديقاً قال لأن تخريب العامر أسهل من عمارة الخراب وكسر الزجاج إذا كان صحيحاً أسهل من تصحيحه إذا كان مكسوراً. وقال صحة الجسم خير من شرب الأدوية، وترك الذنب خير من الاستغفار، وكظم الشهوات خير من كظم الحزن، ومخالفة الهوى في الاستكبار خير من دخول النار. حكمة: كان رجل من الحكماء المتقدمين يطوف البلاد عدة سنين وكان يعلم الناس هذه الكلمات الست وهي: من ليس له علم فليس له عز في الدنيا ولا في الآخرة، ومن ليس له صبر فما له سلامة في دينه، ومن كان جاهلاً لم ينتفع بعمله، ومن لا تقوى له فما له عند الله كرامة، ومن لا سخاء له فما له من ماله نصيب، ومن لا طاعة له فما له عند الله حجة. حكمة: سئل بزر جمهر أي عز يكون بالذل متصلاً فقال العز في خدمة السلطان، والعز مع الحرص والعز مع السفه. حكمة: سئل بزر جمهر بماذا يؤدب البله فقال بان يؤمروا بكثرة الأعمال، ويستخدموا في مشقات الأشغال، بحيث لا يجعل لهم الى الفضول طريقاً ولا فراغاً، قيل وبماذا يؤدب الاخساء فقال باهانتهم واحتقارهم، ليعرفوا وضاعة أقدارهم. قيل فبماذا يؤدب الاحرار قال بالتوقف في قضاء حوائجهم. وسئل أيضاً من الكريم فقال الذي يهب ولا يذكر أنه وهب. حكمة: قيل لاي سبب تتلف الناس نفوسهم لاجل المال فقال لانهم يظنون أن المال خير الأشياء ولا يعلمون أن الذي يراد من أجله المال خير من المال. حكمة: قيل له أيكون شيء أعز من الروح بحيث تعطي الناس فيه
أرواحهم ولا يبالون فقال ثلاثة هي أعز من الروح الدين والعقل والخلاص من الشدائد. وسئل أيضاً في أي شيء يكون العلم والكرم والشجاعة فقال زينة العلم الصدق وزينة الكرم البشر وزينة الشجاعة العفو عند القدرة. حكمة: قال يونان الوزير أربعة أشياء من عظيم البلاء: كثرة العيال مع قلة المال والجار المسيء الجوار، والمرأة التي لا تقية لها ولا وقار. واتفق أهل الدنيا على أن أعمال الخلائق كلها خمسة وعشرون وجهاً: خمسة منها بالقضاء والقدر وهي طلب الزوجة، والولد، والمال، والملك، والحياة، وخمسة منها بالكسب والاجتهاد وهي العلم، والكتابة، والفروسية ودخول الجنة، والنجاة من النار. وخمسة منها بالطبع وهي الوفاء، والمداراة والتواضع والسخاء. وخمسة منها بالعادة وهي المشي في الطريق، والأكل والنوم والجماع والبول والتغوط. وخمسة منها بالإرث وهي الجمال، وطيب الخلق وعلو الهمة، والتكبر، والدناءة. حكمة: ستة أشياء تساوي الدنيا: الطعام السائغ، والولد السليم الأعضاء والصاحب الموافق، والأمير المشفق، والكلام الصحيح النظام، والعقل التام. حكمة: قال الحكيم خمسة أشياء ضائعة: السراج في الشمس والمطر في السباخ المالحة، والمرأة الحسناء عند الأعمى، والطعام الطيب يقدم بين يدي الشبعان، وكلام الله سبحانه في صدر الظالم. حكمة: سئل الاسكندر لم تكرم معلمك فوق كرامة أبيك فقال ان أبي سبب حياتي الفانية ومعلمي سبب حياتي الباقية.
حكمة: قال الحكيم إذا كنت بقسمة الله تجري الأمور، فالاجتهاد محظور، وتاركه مشكور. وقال إذا لم يمش معك الزمان كما تريد، فامش مع الزمان كما يريد، فإن الإنسان عبد الزمان، والزمان عدو الإنسان، وكل تنفس تنفسه فبقدره عن الحياة ويقرب من الممات. حكمة: سأل قوم من الحكماء بزر جمهر فقالوا عرفنا من أبواب الحكمة ما ينفع أرواحنا وأشباحنا لنجتهد فيه وما يضرنا فيه وما يضرنا للبعد عنه فقال اعلموا وتيقنوا أن أربعة من الأشياء تزيد ف نور العين وتحد النظر. واربعة تنقص نورها وأربعة تسمن الجسم وتخصبه، وأربعة تضعفه وتهزله، وأربعة أشياء تحيي القلب، وأربعة تميتهن وأربعة يصح بها الجسم دائماً، وأربعة تكسر البدن. أما الأربعة التي تزيد في نور العين فهي الخضرة، والماء الجاري، والشراب الصافي والنظر الي وجوه الأحباب. وأما الأربعة التي تنقصه فهي أكل المالح واللحم القديد، وصب الماء على الرأس، والنظر الدائم في عين الشمس، ورؤية العدو. وأما الأربعة التي تسمن الجسم وتخصبه فهي الثوب الناعم، وخلو البال من الأحزان، والرائحة الزكية، والنوم في المكان الساخن. وأما الأربعة التي تضعفه وتهزله فأكل اللحم القديد، وكثرة الجماع، وطول المكث في الحمام، ونوم العشايا. وأما الأربعة التي يصح به الجسم فأكل الطعام في قته، وحفظ مقادير الأشياء ومجانية الأعمال الشاقة، وترك الحزن على غير موجب. وأما الأربعة التي تكسر البدن دائماً فسلوك الطريق الصعب، وركوب الفرس الحرون، والمشي على التعب، ومجامعة العجائز، وأما الأربعة التي تحيي القلب فالعقل النافع، والأستاذ العالم والشريك الأمين والزوجة الموافقة، والصديق المساعد. وأما الأربعة التي تميته فبرد الزمهرير وحر السموم والدخان الكريه ومخافة العدو. وقال سقراط الحكيم خمسة أشياء يهلك الأنسان فيها نفسه: خديعة
الاصدقاء، والالتفات عن العلماء، واحتقار الرجل نفسه، وتكبر من لا يسوى واتباع الهوى. حكمة: قال سقراط خمسة أشياء لا يشبع منها خمس: عين من نظر، وأنثى من ذكر، وأذن من خبر، ونار من حطب، وعالم من علم. حكمة: سئل حكيم ما أمر الأشياء في الدنيا وما أحلاها فقال أمر الأشياء استماع الحسن ممن لا قيمة له والدين الفادح وضائقة اليد وأحلى الأشياء الولد والكلام الطيب واليسار. حكمة: سئل حكيم ما الموت وما النوم فقال النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل. حكمة: سئل حكيم ما الغنى فقال القناعة والرضا فقيل ما العشق فقال مرض الروح وموت في حسرة. حكمة: سئل ارسطاطاليس أي صديق أوثق وأي صاحب أشفق فقال الصديق الأصيل أوثق والصاحب القديم أشفق وتدبير العقلاء أفضل. حكمة: قال حالينوس سبعة أشياء تجلب النسيان: استماع الكلام الخشن ولا يصوره القلب، والحجامة على خرزة العتق، والبول في الماء الراكد وأكل الحوامض، والنظر في وجه الميت، والنوم الكثير، والنظر في الأماكن الخراب. وقال أيضاً في كتاب الأدوية أن النسيان يحدث من سبعة أشياء وهي البلغم، وضحك القهقهة، وأكل المالح واللحم السمين وكثرة الجماع، والسهر مع التعب، وسائر البرودات والرطوبات فإن أكلها يضر ويجلب النسيان. حكمة: قال أبو القاسم الحكيم فتن الدنيا تنشأ من ثلاثة نفر من قائل الأخبار، وطالب استماع الأخبار ومتلقي الأخبار وهؤلاء الثلاثة لا يخلصون من الندامة.
حكمة: قيل ثلاثة أشياء لا تجتمع مع ثلاثة أكل الحلال مع اتباع الشهوات والشفقة مع ارتكاب الغضب وصدق المقال مع كثرة الكلام. حكمة: قال بزر جمهر الحكيم إن شئت إن تصبر من جملة الابدال فحول أخلاقك الى أخلاق الصبيان الأطفال. فقيل كيف ذلك فقال في الأطفال خمس خصال لو كانت في الكبار لكانوا أبدالاً وهي أنهم لا يغتمون للرزق، وإذا مرضوا لم يشكوا من خالقهم تعالى، وانهم يأكلون الطعام فيجتمعون، وإذا تخاصموا لم يتحاقدوا ويساعون الى الصلح، وانهم يخوفون فيخافون بأدنيى تخويف وتدمع أعينهم. حكمة: قال وعب بن منبه ف التوراة أربع كلمات مكتوبة وهي كل عالم لم يكن متورعاً فهو كاللص وكل رجل خلا عن العقل فهو والبهيمة على مثال واحد. حكمة: قال بعض الحكماء أصل الزعامة العطف وأصل الذنب العجلة، وأصل الذل البخل. حكمة: قال الحكيم ينبغي أن لا يكون الانسان لقلبه خادماً وبقلبه متقدماً وبعادته أبله أي يتجاوز عن الجيد والرديء وينبغي أن يسمع كلام الحكمة من غير حكيم فإنه قد يصيب الغرض من لم يكن رامياً. حكمة: قال الاحنف بن قيس لا صديق لملول، ولا وفاء لكذوب ولا راحة لحسود، ولا مروءة لدنيء ولا زعامة لسيء الخلق. حكمة: قال ذو الرياستين اشتكى رجل من خصم له الى الاسكندر فقال له الاسكندر أتحب أن أسمع كلامك فيه بشرط أن أسمع كلامه فيك فخاف الرجل وأمسك فقال الاسكندر كفوا أنفسكم عن الناس لتأمنوا من أناس السوء. حكمة: قال بزر جمهر العوافي أربعة وهي عافية الدين، وعافية المال عافية الجسم وعافيت الأهل. فأما عافية الدين ففي ثلاثة أشياء.: أن
لا تتابع الهوى وأن تعمل بأوامر الشرع وأن لا تحسد أحداً. وعافية المال في ثلاثة أشياء: انعام النظر، وأداء الأمانة واخراج الحق من المال. وعافية الجسم في ثلاثة قلة الكلام، والاقلال من الكلام، والاقلال من النوم. وعافية الأهل في ثلاثة القناعة، وحسن العشرة، وحفظ طاعة الله تعالى. وسئل حاتم الأصم لأي شيء لا نجد ما وجده المتقدمون فقال: لأنكم فاتكم خمسة أشياء: المعلم الناصح، والصاحب الموافق، والجهد الدائم والكسب الحلال والزمان المساعد. خبر: جاء في الخبر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا علي أقبل على بوجهك واخل إلى قلبك وسمعك، كل وغط، واجمع وهب، وتشدد فقال علي ما معنى هذه الكلمات يا رسول الله فقال كل الغضب وغط عيب أخيك وهب ظلم الظالم وأجمع لذلك القبر المظلم وتشدد في دين الإسلام. حكمة: سئل حكيم أي شيء أكثر بين الخلق فقال: كثرة التدبير وليس قدرة ومع الاستكثار لا تزول الحاجة والعبد يحرص على كل شيء الا على الفقر فليس يحرص عليه أحد لأن الخلق كلهم يطلبون الغنى ولا يحرص أحد على الغم لأن الكل يطلبون السرور ويحرصون على الفرح لا يحرص أحد على الموت لانهم يحرصون على الحياة. حكمة: قال أبو القاسم الحكيم هلاك العبد في شيئين المعصية والانفراد بالرأي. حكمة: قال الحكيم بلاء الخلق من ثلاثة: العلماء المضلين، والقراء البله، والعوام الحسدة. وقيل لا تطلب صحبة من طامع، ولا تطلب وفاء من خسيس الأصل. وقال الحكيم شيئان غريبان في هذا الزمان الدين والفقر.
حكمة: قال الحكيم اربعة أحوال ان حفظتها كنت من جملة الرجال: أحدها سرك يجب أن يكون بحيث إذا علمه الناس رضيت والثاني علانيتك يجب أن تكون بحيث لو اقتدى بك الناس جاز لك. والثالث أن تعامل الناس بما لو عاملوك به اخترته لنفسك. والرابع أن تكون حالتك للناس بحيث لو كانت لك رضيت بها. حكمة: قال الحكيم ينبغي أن تنظر ثلاثة أشياء بعين ثلاثة وهي أن تنظر الفقراء بعين التواضع لا بعين التكبر وأن تنظر الأغنياء بعين النصح لا بعين الحسد. وأن تنظر النساء بعين الشفقة لا بعين الشهوة. حكمة: قال وهب بن منبه: في التوراة مكتوب أن أم المعاصي ثلاثة الكبر والحرص والحسد وانها نتيجة خمسة أشياء الأكل والنوم وراحة الجسم وحب الدنيا ومدح الناس. وقال من خلص من ثلاثة أشياء فمأواه الجنة وهي المنة والمؤونة والملامة إذا أحسن لم يمن باحسانه، وأن يخفف مؤونته عن الناس وإذا رأى في أحد عيباً لم يلمه. حكمة: يقال ان ابن القرية دخل على الحجاج وكان من أكابر أهل زمانه فطنة وعلماً فسأله الحجاج وقال له ما الكفر قال البطر بالنعمة، والاياس من الرحمة. فقال ما الرضى قال الثقة بقضاء الله والصبر على المكاره فقال ما الحلم قال اظهار الرحمة عند القدرة والرضى عند الغضب. فقال ما الصبر قال كظم الغيظ والاحتمال لما يراد. فقال ما الكرم قال حفظ الصديق وقضاء الحقوق. قال ما القناعة قال الصبر على الجوع والعري عن اللباس. قال ما الغنى قال استعظام الصغير واستكثار القليل. فقال ما الرفق قال اصابة الأشياء الكبيرة بالآلة الصغيرة الحقيرة. فقال ما الحمية قال الوقوف على رأس من هو دونك. قال ما الشجاعة قال الحملة في وجوه الاعداء والكفار، والثبات في موضع الفرار. فقال ما العقل قال صدق
المقال وارضاء الرجال فقال ما العدل قال ترك المراد وصحة السيرة والاعتقاد. فقال ما الانصاف قال المساواة عند الدعاوي بين الناس. فقال ما الذل قال المرض من خلو اليد والانكسار من قلة الرزق. فقال ما الحرص قال حدة الشهوة عند الرجال. فقال ما الأمانة قال قضاء الواجب. فقال: ما الخيانة قال التراخي مع القدرة قال فما الفهم قال التفكر وإدراك الأشياء على حقائقها. حكمة: قال الحكيم ثمانية تجلب الذل على أصحابها وهي جلوس الرجل على مائدة لم يدع اليها، ومن تأمر على صاحب البيت والطامع في الاحسان من اعدائه، والمصغي الى حديث اثنين لم يدخلاه بينهما، ومحتقر السلطان، ومن جلس فوق مرتبته ومن تكلم عند من لا يستمع ومن صادق من ليس بأهل. حكمة: سئل بزر حمهر أي شيء يقبح بالانسان ذكره وإن كان صحيحاً قال مدح الإنسان نفسه لأنك لا تجد بخيلاً ممدوحاً، ولا ذا غضب مسروراً، ولا عاقلاً حريصاً، ولا ترى كريماً حاسداً، ولا قنوطاً عتياً، ولا تجد لملول صديقاً. حكمة: قال الحكيم خمسة يفرحون بخمس ثم يندمون بعدها الكسلان إذا فاتته الأمور والمنقطع عن اخوانه إذا نالته شدة، ومن أمكنته فرصة على اعدائه ثم عجز عن انتهازها، ومن ابتلى بامرأة سوء وتذكر المرأة الصالحة قبلها، والرجل الصالح يندم على ارتكاب الذنوب. حكمة: سئل بزر جمهر هل يقلب المال قلوب العلماء من الرجال فقال من قلب المال قلبه فليس بعالم. حكمة: قال الحكيم العتاب الظاهر خير من الحقد الباطن. حكمة: قال بزرجمهر أصحاب الغم والحزن في الدنيا ثلاثة: محب فارق حبيبه، ووالد شفوق ضل عنه ولده، وغني عاد فقيراً.
حكمة: قال عمرو بن معدي كرب الكلام اللين يلين القلوب التي هي أقسى من الصخر، والكلام الخشن يخشن القلوب التي هي أنعم من الحرير. حكمة: قال الحكيم الحزن مرض الروح كما ان الوجع مرض الجسد والفرح غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الجسد. وطلب حكيم من رجل أن يدينه ديناراً فلم يفعل فقال الحكيم لم يكن من منعك إياي الا أن احمر وجهي من الحياء مرة واحدة ولوأعطيتني لم يصفر وجهي من مطالبتك مرة بل الف مرة. حكمة: قال الحكيم من يزرع وطينه رطب لم يساو قيمته شيئاً. وقال من ليس له لب ولا خطر فهو شجر بلا ثمر. وقال من سل سيف الجور قتل به، ومن لم ينصف من نفسه لم يخلص من حسرته، ومن أطلق يده بالعطاء أشرق وجهه بالضياء. وقال من لم يجترز من ذنبه فقد تعلق به. وقال الشباب رضيع الجنون، والشيب قرين التوفيق والسكون. وقال تزود طاهر الزاد، ولا تخف من الاضداد. عظة: قال لقمان كنت أسير في طريق فرأيت رجلاً عليه مسح فقلت ما انت أيها الرجل فقال آدمي فقلت ما اسمك فقال حتى انظر بماذا اسمى فقلت ماذا تصنع قال ترك الأذى فقلت ماذا تأكل قال الذي يطعمني ويسقيني فقلت من أين يطعمك فقال من حيث شاء فقلت طوبى لك وقرة عين فقال ما الذي يمنعك عن هذه الطوبى وقرة العين. حكمة: قيل ثلاثة تذهب عن القلب العمى: صحبة العالم، وقضاء
الدين، ومشاهدة الحبيب. وقيل شيئان يجلبان الحزن الى القلب: الطمع في وجود البخلاء، والمراء مع الوضعاء. حكمة: قال الحكيم تجنب أربعة أشياء تخلص من أربعة أشياء: تجنب الحسد لتخلص من الحزن ولا تجالس جليس السوء وقد تخلصت من الملامة ولا ترتكب المعاصي وقد خلصت من النار، ولا تجمع المال وقد خلصت من العداوة. حكمة: قال الحكيم أربعة أعمال مذمومة يعملها الناس فيجازون بها في الدنيا والآخرة. الغيبة فقد قيل فارس يلحق سريعاً، والثاني احتقار العلماء لأن من احتقر عالماً عاد حقيراً، والثالث كفران نعم الله عز وجل، والرابع قتل النفس بغير حق، وللأكابر والحكماء مثل قديم كل قاتل مقتول ولو بعد حين. قال الشاعر: إذَا مكَنتَ بِالسَكِينِ كَفاً ... لِقتلِ النَاسِ فاذكَر الَسبيلا رأى عِيسَى قَتِيلاً فِي طَريِقِ ... فعَضَ عَلى أنَامِلِهِ طَويلاً وقاَلَ لِمن قَتلَت نَراَك حَتى ... غَدوت كَما أرى مُلقَى قَتِيلاً وَقاتلك الذي ارَادك أيضَاً ... يَذوُقَ القَتلَ فَاليطل العويلا
الباب السادس في شرف العقل والعقلاء إن الله سبحانه وتعالى خلق العقل على أحسن صورة وقال له أقبل فاقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت في خلقي شياً أحسن منك بك آخذ وبك أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب. والدليل على صحة هذا أن الله تعالى على العباد شيئين وكلاهما موقوفان على العقل وهما الأمر والنهي كما جاء في محكم التنزيل قوله جل ذكره: (فاتقوا الله يا أولي الألباب) . وهم ذوو العقول، واشتقاق العقل من العقال، والمعقل المنيع القلعة على رأس الجبل لا يصل إليها يد أحد لامتناعها وقوتها واحكامها. سئل حكيم الفرس لم سمي العاقل عاقلاً فقال للعاقل أربع علامات يعرف بها. وهي أن يتجاوز عن ذنب من ظلمه، وان يتواضع لمن دونه، وان يسابق الى فع الخير لمن هو أعلى منه، وان يذكر ربه دائماً وان يتكلم عن العلم ويعرف منفعة الكلام في موضعه وإذا وقع في شدة التجأ الى الله تعالى. وكذلك الجاهل له علامات وهو أن يجور على الناس ويظلمهم ويعسف بمن دونه وأن يتكبر على الزعماء والتقدمين وأن يتكلم بغير علم، وأن يسكت عن خطأ وإذا وقع في شدة أهلك نفسه وإذا رأى أعمال الخير لفت عنها وجهه. حكمة: قال سعيد بن جبر: ما رأيت للإنسان لباساً أشرف من العقل إن
انكسر صححه، وان وقع أقامه وان ذل أعزه وإن سقط في هوة جذبه بضبعه منها واستنقذه منها وان افتقر أغناه وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال انه ما كان في خلفاء بني العباس اعلم من المأمون في جميع العلوم فكان له في كل أسبوع يومان يجلس فيهما لمناظرة الفقهاء وكان يجتمع عنده الفقهاء والمناظرون، والعلماء والمتكلمون، فدخل في بعض الأيام الى مجلسه رجل غريب عليه ثياب بياض رثة فجلس في أواخر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكان مجهول فلما ابتدأوا في المسائل وكان رسمهم يديرون المسألة على جماعة أهل المجلس فكل من وجد زيادة لطيفة او نكتة غريبة ذكرها فدارت المسألة الى ان وصلت الى ذلك الرجل الغريب فتكلم بكلام عجيب فاستحسنه المأمون فأمر أن يرفع الى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم فأمر أن يرفع الى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابيين الأولين فأمر المأمون أن يجلس قريباً منه فلما اتقضت المناظرة أحضر الماء وغسلوا أيديهم ثم أحضر الطعام فأكلوا ثم نهض الفقهاء وخرجوا وقرب المأمون ذلك الرجل وأدناه وطيب قلبه ووعده بالاحسان إليه والإنعام عليه. ثم عبي مجلس الشراب ونضد وحضر الندماء الملاح، ودارت الراح. فلما وصل الدور الى الرجل نهض قائماً وقال ان أذن أمير المؤمنين تكلمت بكلمة واحدة فقال قل ما تشاء فقال قد علم الرأي العالي زاده الله علواً ان العبد كان في مجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلاس، وان أمير المؤمنين بقدر يسير من العقل الذي أبداه جعله مرفوعاً على درجة غيره وبلغ به الغاية التي لم تسم اليها همته وإن العبد إذا شرب الشراب
تباعد عنه العقل وقرب منه الجهل وسلب أدبه فعاد الى تلك الدرجة ووقع في اعين الناس كما كان ذليلاً فإن رأى الرأي العالي أن لا يفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعزه بعد الذلة وكثرة بعد القلة بمنه وفضله وكرمه، وسيادته وحسن شيمه، فعل متطولاً، وأنعم متفضلاً. فلما سمع المأمون منه ذلك مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووفره وأمر له بمائة ألف درهم وحمله على فرس وأعطاه ثياب تجمل وكان كل مجلس يرفعه على جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجة، وأعلى منزلة. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأجل نعت العقل لأن العقل يوصل صاحبه الى درجة عالية، ومرتبة سامية، وان الجهل يحط صاحبه عن درجته ويهبط به من علو مكانته. حكاية: يقال أنه جاء في بعض الأيام رجل الى باب الخليفة المنصور فقال أيها الحاجب أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من أهل العلم واسمه عاصم وهو يذكر أنه كان في الزمن الماضي بينه وبين أمير المؤمنين صحبة مدة سنة وأكثر بالشام في التعليم والدرس وقد وصل الأن للسلام، ولتجديد العهد بالامام. فلما عرفه الحاجب أذن له فلما دخل وسلم عليه ثقل قدومه ووصوله على قلب أبي الوانيق لغاثة منطقه وسوء أدبه فأجلسه وسأله وقال له في أي حاجة قدمت فقال لرؤية أمير المؤمنين بوسيلة تلك الصحبة القديمة فأمر له بألف درهم فأخذها الرجل وانصرف ثم عاد بعد سنة أخرى وكان قد مات للمنصور ولد وهو جالس في العزاء فدخل الرجل وسلم عليه ودعا له فقال فيم قدمت قال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام وقد قدمت معزياً برزيتك، ومؤدياً حق تعزيتك، فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها ثم عاد بعد سنة أخرى فلم يجد حجة يحتج بها في الدخول إلا أنه دخل في جملة الناس وسلم فقال له الخليفة لأي سبب وصلت فقال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام في التعليم والدرس وكتابة الأخيار واستماع الأحاديث وكنت قد كتبت معك دعاء الحاجة وان كل من دعا به في حاجة قضى الله حاجته وقد ضاع المنصور لا تتعب في طلب ذلك الدعاء فانه غير
أخلص ولو كان مستحباً لتخلصت منك فخجل ذلك الرجل لما سمع هذا الكلام. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأن الإنسان إذا كان عالماً ولم يكن له عقل سقط جاهه ومرتبته. حكاية: كان في ذلك العصر وصل رجل من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم الى المنصور بحكم الصداقة التي كانت بينهما قديماً فلما وصل خليفة الزمان قدم عليه، ووفد إليه، وكان الرجل عاقلاً لبيباً ولم يكن عالماً. فلما رآه المنصور قربه وأدناه، وأزلفه واستدعاه. فقال له الرجل يا أمير المؤمنين أنا محب لك شديد المحبة والولاء مخلص في الطاعة والدعاء غير انني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزروك بحيث لا يظهر مني سوء انني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزورك بحيث لا يظهر مني سوء أدب فقال المنصور أخر الزيارة وإذا زرتني فاجعل بين زيارتك وانقطاعك مدة إذا غبت فيها لم أنسك وإذا حضرت لم أملك وازدادت محبتك عندي عما كانت عليه أولاً. وإذا دخلت فاجلس بعيداً مني حتى يقربك الحاجب بالتدريج ولا تطل جلوسك فتنسب الى سوء الأدب ولا تسأل حاجتك لئلا تثقل على قلبي، وإذا أحسنت اليك فاشكرني في كل محلة تحلها ومنزلة تنزل بحيث إذا بلغني سررت بشكرك، وازددت في برك، ولا تذكر في المجالس ما جرى بيني وبينك في الزمان الماضي. فامتثل الرجل هذه الوصايا فكان في كل سنة يمضي الى سلامه مرتين وكان المنصور يعطيه في كل مرة يسلم عليه ألف درهم. وانما ذكرت هذه الحكاية ليعلم أن من كان له عقل وان لم يكن عالماً فان عقله يكون له دليلاً، ومن كان ذا علم وليس له عقل عادت أموره كلها منعكسة منقلبة، ومن كان تام العقل والعلم كان في الدنيا نبياً أو حكيماً أو إماما فان جمال الانسان وعزه ومرتبته وصلاح أحوال دنياه وآخرته بالعقل وتمامه، فتتكامل صفاته وأقسامه كما قال الشاعر: بِالعَقلِ يَنَالُ المَرءُ أوَجَ البَدرِ ... والَعقلُ بِه الجَاه وسَامِي القَدرِ والعَقَلُ بِه يُغسَلُ عَارَ الوِزرِ ... فِي العَقلِ التَاجُ مَع نَفاذِ الأمرِ والعقل أول الإيمان ووسط الإيمان وآخر الإيمان. قال بعض القدماء
ليس العقل أن الإنسان إذا وقع في أمر اجتهد في حسن خلاصه منه بل العقل ان لا يوقع نفسه في أمر يحتاج الى الخلاص منه. حكمة: قال أبرويز الملك لولده احفظ الرعية ليحفظك العقل واصرف آفتك عن الرعية ليصرف العقل آفته عنك. واعلم انك حكم بين الناس والعقل حكم جليل فكما ينبغي أن يقبل الناس أمرك فكذلك ينبغي أن تقبل أمر العقل. حكمة: كتب يونان الوزير كتاباً الى الملك العادل كسرى انو شروان وأدى رسائل في باب العقل وما يأمر به العقل فشكره أنو شروان وأمر الكاتب أن يكتب اليه جواباً وقال أيها الحكيم لقد أحسنت في تأدية رسالة العقل لأننا ومن تقدمنا من الملوك إنما تحلينا بالعقل فكيف يمكننا مخالفته فان العاقل أقرب الناس الى الله تعالى والعقل كالشمس في الدنيا وهو قلب الحسنات والعقل حسن في كل واحد وهو في الأكابر والزعماء أحسن كالرطوبة في الشجرة مادامت طرية رطبة كان الناس من رائحتها ونشر أزهارها وطيب ثمارها ونضارتها وطراوتها في سرور وغيظة ونزهة وفرحة فاذا جفت رطوبتها وقحلت نضارتها فلا تصلح حينئذ لسوى القلع وكذلك الإنسان مادام عقله قويماً، وجسمه سليماً، صحبته مباركة ومواصلته حسنة نافعة فاذا زال عقله، وغلب عليه جهله. فحينئذ لا يصلح للحياة، ولا يستره غير الوفاة. وقال أنو شروان كيف يسعني أن أخالف العقل ولا أفعل ما يامرني به العقل وأنه ليس لملك ولا رعية خير من العقل فان بضيائه يفرق بين المليح والقبيح والجيد والردئ والحق والباطل والصدق والكذب. قال بزرجمهر شيئان لا يمكن وجودهما في شخص كاملين العقل والشجاعة. حكمة: قال لقمان الحكيم مهما كان الرجل عالماً فانه لا ينتفع بعلمه ما لم يكن العقل لعلمه مصاحباً.
حكمة: سأل أنو شروان بزرجمهر من تحب أن يكون أعقل الناس فقال العدو إذا عاداني فقال لم؟ قال لآمن اساءته وكل شيء إذا كثر هان إلا العقل فإنه كلما كان أكثر كان صاحبه أعز. حمكمة: قيل لبزرجمهر أي شيء لا بد للإنسان منه ولا مندوحة له عنه فقال العقل فقيل له ما قدر العقل فقال شيء لا يوجد في الإنسان كاملاً كيف يعرف قدره. حكمة: قال بعض الحكماء جميع الأشياء مفتقرة الى العقل والعقل مفتقر الى التجربة ولا غنى أعم من العقل ولا فقر أشد من الجهل وكل من كان علمه أكثر كانت حاجته الى العقل أوفر، والمرء في هذا كراع ضعيف معه قطيع كبير يضرب للعالم الذي لا عقل له. حكمة: قالت العلماء العقل أمير وله جنود وجنوده التمييز والحفظ والفهم. وسرور الروح العقل لأن به ثبات الجسم والروح سراج نوره العقل ثم ينبسط في جميع الجسد والعاقل لا يغتم أبداً لأنه لا يفعل ما يوجب الاغتنام ولا يشرع في أمر لا يجوز لمثله الاهتمام به. حكمة: سئل ابن عباس العقل أم الأدب؟ فقال لأن العقل من الله تعالى والأدب تلكيف من العبد. وسئل عبد الله بن المبارك العقل خير أخ الأدب فقال العقل فقيل له ما العقل فقال العقل تعلم العلم والعمل بالعلم أن تعلم أنه ينبغي أن تعمل والعقل أنك متى علمت عملت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قسم الله لعباده خيراً من العقل ونوم العاقل خير من عبادة الجاهل والعاقل المفطر خير من الجاهل الصائم، وضحك العاقل خير من بكاء الجاهل. حكمة: قال رجل لأقليدس لا أستريح أو أتلف روحك فقال أنا لا أستريح أو أخرج الحقد من قلبك.
حكمة: قال الحكيم كما تفوح من الميتة الرائحة المكروهة يفوح من الجاهل نتونة الجهل فتضرّ به وبجيرانه وأهله وأقاربه. حكمة: سئل الحكيم ما العقل فقال سداد وعقد بين ثلاثة وعشرين شيئاً فلولا هذه العقود لاختلط الجيد بالردىء. أولاً هو عقد بين التوحيد والشرك، وبين الايمان والكفر، وبين الحقد والتهور، وبين الإسلام والغفلة، وبين اليقين والشك وبين العاقبة والبلاء، وبين الكرم والبخل، وبين حسن الخلق والقباحة وبين التواضع والتكبر، وبين الصداقة والعداوة، وبين العلم والجهل، وبين الحياء والوقاحة، وبين الحق والباطل، وبين الرزانة والخفة، وبين الظلمة والضياء، وبين الكرامة والزلة، وبين الطاعة والمعصية، وبين ذكر الله تعالى والغفلة، وبين النصيحة والحسد، وبين السنة والبدعة، وبين الرحمة والقساوة، وبين الحلم والحمق. وقال صاحب الكتاب رحمه الله تعالى جميع محاسن الدنيا في العقل وسائر العلوم والأعمال مرجعها الى العقل كما جاء في الحكاية. حكاية: روي أن الريح حملت كرسي سليمان بن داود عليهما السلام وجعلت تسير به فلاح لسليمان بلد فامر الريح أن تحطه فنزل على باب ذلك البلد فرأى على بابه مكتوباً: أجرة اجتهاد يوم واحد درهم، والحسن والجمال أجرتهما في يوم مائتا مثقال وعلم ساعة واحدة لا تحصى قيمته وجميع الأشياء منوط بالعلم والعلم أسير والتدبير مع العقل توأمان ون آتاه الله العقل فقد آتاه خيراً كثيراً كما قال الشاعر: ان كُنتَ مِن أصلِ جُوهَرٍ مَنسوُب ... أو يُوسف الحَسَن ولدُ يَعقُوب ما أنَت مُجَالسُ بِعقِلكَ المحبُوبِ ... فِي النَاسِ سِوى مُحقرُ معيوبِ لتعلم أيها الأخ كنه العقل ونفاسته وعلو قيمته فيجب عليك أيها العاقل الحمد والشكر لواهب الشكر الباري جلت قدرته.
الباب السابع في ذكر النساء خير النساء وأبركهن الحسناء الولود الخفيفة المهر. قال عليه الصلاة والسلام (عليكم بالمرأة الحرة فإنها أطهر وأبرك) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (التجئوا الى الله عز وجل من شرار النساء واحذورا خيارهن) . قال صاحب الكتاب من أراد صلاحه وتدبيره ولم يجد المرأة الحسناء يلهو بها فعليه بالمرأة الدينة فذات الدين خير وأبرك وإذا جاءت الديانة أتى المال وكان أبرك لأن المرأة لا دين لها فما لها أصل لا معها بركة وببركة الديانة يوجد كل خير كما في الحكاية. حكاية: كان بمدينة مرو رجل اسمه نوح بن مريم وكان رئيس مرو وقاضيها وكان له نعمة كبيرة وحال موفورة وكانت له ابنة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال، قد خطبها جماعة من الأكابر والرؤساء وذوي النعمة والثروة فلم ينعم بها لأحد منهم وتحير في أمرها ولم يدر لأيهم يزوجها وقال ان زوجتها لفلان أسخطت فلاناً وكان له غلام هندي تقي اسمه مبارك وكان له كرم عامر الأشجار والفاكهة والثمار. فقال للغلام أريد أن تمضي وتحفظ الكرم لينظره فقال له يا مبارك ناولني عنقود عنب فناوله عنقوداً من العنب
فوجده حامضاً فقال له سيده أعطني غير هذا فناوله عنقوداً حامضاً فقال له سيده ما السبب في أنك لا تناولني من هذا الكثير غير الحامض فقال لأني لا أعلم أحامض هو أم حلو فقال له سيده سبحان الله لك في هذا الكرم شهر كامل ما تعرف الحامض من الحلو فقال وحقك أيها السيد انني ما ذقته ولم أعلم أحامض أم حلو فقال له لم لا أكلت منه فقال لأنك أمرتني بحفظه ولم تأمرني بأكله فما كنت أخونك فعجب القاضي منه فقال له حفظ الله عليك أمانتك وعلم القاضي أن الغلام غزير العقل فقال له القاضي أيها الغلام قد وقع لي رغبة فيك وينبغي أن تفعل ما آمرك به فقال الغلام أنا مطيع لله لك فقال القاضي: إعلم أن لي بنتاً جميلة وقد خطبها كثير من الرؤساء والتقدمين ولا أعلم لمن أزوجها فأشر علي بما ترى فقال الغلام: إن الكفار في زمن الجاهلية كانوا يريدون الأصل والنسب والبيت والحسب واليهود والنصارى يطلبون الحسن والجمال وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الناس يطلبون الدين والتقى. أما وفي زماننا هذا فالناس يطلبون المال فاختر من هذه الأربعة ما تريد فقال القاضي قد اخترت الدين والأمانة، وجربت منك العفة والصيانة. فقال الغلام أيها السيد أنا عبد رقيق هندي أسود أبتعتني بمالك كيف تزوجني بإبنتك وترضاني فقال له القاضي قم بنا إلى البيت لندبر هذا الأمر فلما صارا الى المنزل قال القاضي لزوجته اعلمي أن هذا الغلام الهندي دين تقي وقد رغبت في صلاحه وأريد أن أزوجه ابنتي فما تقولين فقالت الأمر إليك ولكن أمضي الى الصبية وأخبرها وأعيد عليك جوابها فجاءت المرأة الى الصبية وأدت إليها رسالة أبيها فقالت مهما أمرتماني به فعلته ولا أخرج من تحت حكمكما ولا أعاندكما بالمخالفة بل أبركما فزوج القاضي ابنته بالمبارك واعطاهما مالاً عظيماً فأولدها المبارك ولداً وسماه عبد الله وهو معروف في جميع العالم وهو عبد الله بن المبارك صاحب العلم والزاهد ورواية الأحاديث فما دامت الدنيا يحدث عنه يروى.
نعم أيها الأخ إذا تزوجت فاطلب ذات الدين ولا تطلب ذات الصيت والمال فإن المال يعود وبالاً ولا تعطيكه المرأة وإذا أردت أن تطلب زوجة فلا تطلبها وتخطبها لأجل بلوغ الشهوة وارغب فيها بنية أنها دينة وصالحة لتكون في خدرك وطاعتك وتكون لك ستراً من النار. حكاية: نزل بعبد الله بن المبارك في بعض الأيام عشرة من العلماء ولم يكن عنده ما يضيفهم به وما كان يملك سوى فرس يحج عليها سنة ويغزو سنة فذبح ذلك الفرس وطبخ منه وقدمه بين يدي أضيافه فقالت له زوجته سبحان الله ما كنت تملك سوى هذا الفرس من الدنيا فلم ذبحته فدخل سريعاً الى بيته وأخرج من متاع بيته بقدر مهرها وطلقها في وقته وساعته وقال امرأة تبغض الأضياف لا تصلح لنا فأتاه بعد ذلك بأيام رجل وقال له يا امام المسلمين لي بنت وقد توفيت أمها وهي في كل يوم تمزق دست ثياب حزناً وغماً واليوم تريد أن تقصد مجلسك فقل في تسليتها شيئاً لعل قلبها يرق فلما جلس على المنبر ذكر من هذا الباب ما تسلت به الصبية عن أمها فلما عادت الى البت قالت يا أبت قد تبت ولا أعود أسخط الله تعالى ولكن لي اليك حاجة قال وما حاجتك قالت أنت تقول دائماً أرباب الأحوال وأبناء الدنيا يطلبونك ويخطبونك فناشدك الله لاتزوجني لغير عبد الله بن المبارك فإن كان ماله دنيا فإن لنا دنيا فزوجها أبوها بعبد الله بن المبارك وحمل اليه جهازاً كثيراً ومالاً كبيراً وأنفذ اليه عشرة أفراس ليجاهد عليها في سبيل الله فرأى عبد الله في بعض الليالي في منامه قائلاً يقول ان كنت طلقت من أجلنا عجوزاً فقد أعطيناك صبية بكراً وان كنت ذبحت فرساً واحداً فقد أعطيناك عشرة أفراس وعوضها لتعلم أن الحسنة بعشر أمثالها عندنا ولا يضيع عندنا أجر المحسنين وما عاملنا احد فخسر ولا يخسر كما جاء في الحكاية. حكاية: حكى أبو سعيد أنه كان في بني اسرائيل رجل صالح وله زوجة دينة تقية ذات رأي وحزم فأوحى الله تعالى الى نبي الزمان أن قل لذلك العبد الصالح أني قدرت له أن يمضي نصف عمره بالغنى ونصفه بالفقر فإن اختار أن يكون غناه في شبيبته اغنيناه وإن اختار أن يكون في شيخوخته قدرنا
له ذلك فيسرناه له. لما أعلم الرجل ذلك اخبر به زوجته وقال لها قد جاء خطاب من الله تعالى وقص عليه ما سمعه وقال لها ما تريد فقالت له الاختيار اليك فقال الرجل قد رأيت الفقر في الشبيبة فإذا كنت شاباً فقيراً احتملت وصبرت عليه فإذا صرت كبيراً غنياً كان لي ما أتقوت به وأشتغل بطاعة ربي وعبادته فقالت المرأة أيها الرجل إذا كنا في الشبيبة في ضنك ولم نقدر على طاعة ربنا تعالى ولم تصل أيدينا الى فعل الخيرات واعطاء الصدقات فالواجب أن تختار الغنى في زمان الشباب فيكون لنا شباب وغنى وطاعة فنقدر حينئذ على عبادته باجسمامنا وأموالنا فقال الرجل نعم ما رأيت وكذلك نفعل فنزل الوحي على ذلك النبي عليه السلام فقال قل لذلك الرجل إذا آثرت طاعتنا واستفرغت جهدك في عبادتنا واتفقت نيتك ونية زوجتك على طاعتنا فقد قضيت وقدرت أن أقضي جميع عمرك في الغنى وكن أنت وزوجتك على عبادتي ومهما رزقتكما فتصدقا به على بريتي ليكون لكما حظ الدنيا والآخرة. قال صاحب الكتاب وما أوردنا هذه الحكاية إلا لتعلم قدر الزوجة الصالحة وما فيها من النعمة من الله تعالى.
فصل واعلم أن ديانة المرأة وسترها نعمة من نعم الله تعالى على عباده وهيهات أن يقدر على المرأة العفيفة طامع كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه اراد رجل فاسق أن يكابر امرأة عفيفة فقال لها امضي وأغلقي أبواب الدار جميعها واحكمي اغلاقها فمضت المرأة ثم عادت فقالت قد أغلقت سائر الأبواب وأوثقت اغلاقها سوى باب واحد فقال أي الأبواب ذلك الباب فقالت تلك الأبواب التي بيننا وبين الخلق قد أغلقتها وقد بقي الباب الذي بيني وبين الخالق جلت عظمته ما قدرت عليه ولا استطعت أن أغلقه وهو بحاله مفتوح فرقع في نفس هذا لرجل من هذا الكلام الهيبة فاخلص لله التوبة وأقلع عن ذنبه وعاد الى طاعة ربه الأعلى. حكاية مثلها: يقال أنه كان رجل علوي بسمرقند في بعض الأيام قائماً على باب داره فاجتازت عليه امرأة ذات حسن وجمال وكان الدرب خالياً فقبض العلوي على زند المرأة وجذبها الى داخل الدار وهم أن يفسد معها فقالت له المرأة أسألك مسألة اجبني عنها وافعل ما بدا لك فقال اذكري ما تريدين فقالت إذا أنت وطئتني حراماً وحبلت منك وولدت ولداً هل يكون ذلك الولد علوياً أو خبيثاً عامياً فقال إنه يكون علوياً فقالت المرأة لا شك أنك أنت من خبيثي العلويين ولو لم تكن خبيثاً لم تفعل مثل هذا فخجل العلوي في الحال ورفع يده عنها ونذر على نفسه لله نذراً أنه لا يعود ينظر الى امرأة محرمة عليه نظرة فساد. وينبغي أن يكون الرجل صاحب حمية وغيرة على حرمه وناسه فإن
الحمية من الدين الى حد أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يسمع دق المرأة الأجنبية بالهاون وإذا دق رجل أجنبي باب الدار فلا يحل للمرأة أن تجيبه بلين وسهولة لأن قلوب الرجال تتعلق بأقل الأشياء وأكثرها وان كان لابد للمرأة أن تجيبه فلتضع أصبعها في فمها ولتجبه ليصير صوتها شبيهاً بصوت العجائز ولايجوز للنساء أن ينظرن الى الرجال الأجانب ولو كان المنظور أعمى. وجاء في الخبر إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل الى بيت عائشة رضي الله عنها فرأى عبد الله بن أم مكتوم قاعداً النساء فقال يا عائشة لا يحل للمرأة أن تقعد عند غير ذي محرم فقالت يا رسول الله إنه أعمى فقال ان كان لا يراك فانك تريه. حكاية: يقال أن الحسن البصري رحمة الله عليه قصد زيارة رابعة العدوية رضي الله عنها في جماعة من اصحابه فلما وصلوا الباب قالوا اتأذنين لنا في الدخول فقالت تمهلوا ساعة وجعلت الكساء بينها وبينهم ستراً وأذنت لهم فدخلوا وسلموا عليها فأجابتهم من وراء الستر فقالوا لم علقت بيننا وبينك ستراً فقالت أمرت بذلك في قوله تعالى: (فَاسألَوُهِن مِن وَراَء حِجَابِ) وواجب على الرجل أن لا ينظر الىامرأة أجنيبة بحال فإنه قبل أن يجازي به في الآخرة يجازي به في الدنيا كما جاء في الحكاية. حكاية: كان بمدينة بخارى رجل سقاء يحمل الماء الى دار رجل صائغ مدة ثلاثين سنة وكان لذلك الصائغ زوجة في نهاية الحسن والجمال والظرف والكمال، معروفة بالديانة، موصوفة بالستر والصيانة. فجاء السقاء على عادته يوماً وقلب الماء في البات وكانت المرأة قائلة في وسط الدار فدنا منها واخذ بيدها ولواها وفركها وعصرها ثم مضى وتركها. فلما جاء زوجها من السوق قالت له أريد أن تعرفني أي شيء صنعت اليوم في السوق لم يكن لله تعالى
فيه رضا فقال الرجل ما صنعت شيئاً فقالت المرأة ان لم تصدقني وتعرفني فلا أقعد في بيتك ولا تعود تراني ولا أراك فقال اعلمي أن في يومنا هذا اتت امرأة الى دكاني فصنعت لها سواراً من ذهب فأخرجت المرأة يدها ووضعت السوار في ساعدها فحيرت من بياض يدها وحسن زندها فتذكرت هذا المثنوي. فِي سَاعِدِهَا سُوارُ تِبرِ وأرَى ... كنَارَ يَلُوحُ فَوَقَ ماءٍ جَارِي هل يَخطُر فِي هَواجِسِ الأفَكارِ ... ماء ولهُ منَطقَه مِن نَارِ ثم أخذت يدها فعصرتها ولويتها فقالت المرأة الله أكبر لم فعلت مثل هذا الحال؟ لا جرم أن ذلك الرجل الذي كان يدخل البيت منذ ثلاثين سنة ولم نر منه خيانة أخذ اليوم يدي فعصرها ولواها فقال الرجل الأمان أيتها المرأة مما بدا مني فاجعلني في حل فقالت المرأة الله المسؤول أن يجعل عاقبة أمرنا الى خير فلما كان من الغد جاء الرجل السقاء اجعليني في حل فإن الشيطان أضلني وأغواني فقالت المرأة امض في حال سبيلك فأن ذلك الخطأ لم يكن منك وانما كان من ذلك الشخص صاحب الدكان فاقتص الله منه في الدنيا. وكذلك ينبغي أن تكون المرأة مع زوجها ظاهرها وباطنها واحد وتقنع معه بالقليل إن لم يقدر على الكثير وتقتدي بعائشة وفاطمة رضي الله عنهما من أهل الجنة كما جاء في الحكاية. حكاية: كانت فاطمة رضي الله عنها تطحن الجاروشة الى أن أدمت أناملها فشكت ذلك في بعض الأيام الىبعلها علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه فقال قولي لأبيك يبتع لك خادمة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إني مفتقرة الى خادمة تعينني على اشغالي وتحمل عني بعض اثقالي فقال عليه الصلاة والسلام ألا أعلمك ما هو خير لك من خادم وأعز من سبع سموات وسبع أرضين فقالت يا رسول الله علمني فقال صلى الله عليه وسلم اذا أردت فقولي قبل منامك ثلاث مرات سبحان الله والحمد لله ولا آله الا الله والله اكبر. وفي الأخبار انهم لم يكن لهم في البيت إلا كساء كانوا إذا غطوا به رؤوسهم انكشفت أرجلهم، وفي الليلة التي كانت فاطمة عروساً وزفت الى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان تحتها جلد شاة وكانا ينامان عليه وما كان لفاطمة من متاع البيت سوى كساء ومخدة من أدم حشوها ليف لاجرم ينادي لها يوم القيامة يا أهل الموقف غضوا أبصاركم حتى سيدة النساء فاطمة الزهراء. والمرأة تعز عند زوجها وتنو محبتها في قلبه باكرامها له وكاعتها لامره وقت خلوته ومجامعته لها وبحفظها منافعه واجتنابها مضاره وتربيتها ولده واكتنافها في بيته وقلة خروجها من خدرها وأن تكون عنده كاتمة للسر محتملة للأمر وأن تحفظ وقت طعامه ومهما علمت أن يشتهيه اصطنعته بطلاقة وجه وبشر وان لا تكلفه حاجة ثقيلة وان لا تكون لجوجة وان تستر نفسها عند منامها وان تحفظ سر زوجها في غيبته وحضوره. قال صاحب الكتاب وواجب على الرجال أن يؤدوا حق النساء العورات وأن يتحفظوا بهن من وجه الرحم والإحسان والمدارة ومن أحب أن يكون مشفقاً على زوجته رحيماً لها فليذكر عشرة أشياء من أحوالها لينصفها بها. أولها أالمرأة لا تقدر أن تطلقه بغير اذن وهو قادر على ذلك متى شاء، وانها لا تقدر ان تأخذ شيئاً بغير اذنه وهو يقدر على ذلك، وانها ما دامت في حباله لا تقدر على زوج سواه وهو يقدر على الزواج عليها، وانها لا يجوز لها أن تخرج من البيت بغير إذنه وهو يجوز له ذلك، وانها لا يمكنها ان تعزي وهو يمكنه ذلك، وانها تخاف منه وهو لا يخافها،
وأنها تفارق أمها وأباها وجميع أقاربها، وإنها تخدمه دائماً وهو لايخدمها دائماً، وإنها تتلف نفسها إذا كان مريضاً وهو لايغتم لو ماتت. فلهذه الوجوه التي ذكرناها يجب على العقلاء أن يكونوا رحماء على النساء ولا يظلمونهن ولا يجوروا عليهن فإن المرأة أسير الرجل ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن وبسبب نقص عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر برأيهن ولا يتلفت إلى أقوالهن ومن اعتمد على آرائهن ودبر نفسه بمشورتهن كان كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن خسرو بن أبرويز كان يحب أكل السمك فكان يوماً جالساً وشيرين معه فجاء الصياد ومعه سمكة كبيرة فأهداها لخسرو ووضعها بين يديه فأعجبته فأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت شيرين بئس ما فعلت فقال ولم فقالت لأنك إذا أعطيت أحداً من حشمك بعد هذا مثل هذه العطية احتقرها وقال أعطاني مثل ما اعطى الصياد فقال الملك لقد صدقت ولكن يقبح بالملك استرجاع ما وهبه وقد فات ذلك الأمر فقالت شيرين أنا أدبر هذا الحال فقال وكيف ذاك فقالت تدعو الصياد وتقول له هذه السمكة ذكر أم أنثى فإن قال أنثى فقل إنما أردت ذكراً وان قال ذكر فقل إنما أردت أنثى فنودي الصياد وكان ذا ذكاء وفطنة فقال خسرو هذه السمكة ذكر أم أنثى فقبل الصياد الأرض وقال أدام الله إقبال الملك هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى فمضى الصياد إلى الخازن وقبض منه ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب كان معه وحملها على كاهله وهم بالخروج فوقع من الجراب درهم واحد فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم والملك وشيرين ينظران إليه فقالت شيرين لخسروا أرايت إلى خسة هذا الصياد وسفالته سقط منه درهم واحد فألقى عن عنقه ثمانية آلاف درهم وانحنى على ذلك الدرهم فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه فكان يأخذه بعض غلمان الملك فحرد خسرو من ذلك ثم أعاد الصياد إليه وقال له يا ساقط الهمة ألست
بإنسان وضعت مثل هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد وأسفت أن تتركه فكان يتبلغ به بعض الصعاليك فقبل الصياد الأرض وقال أطال الله إقبال الملك لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على أحد وجهيه اسم الملك وعلى وجهه الآخر صورته فخشيت أن يجيء أحد بغير علم فيضع قدمه عليه فيكون ذلك استخفافاً باسم الملك وصورته فاكون أنا المأخوذ بهذا الذنب فعجب خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى فعاد الصياد ومعه اثنا عشر ألف درهم وأمر خسرو منادياً ينادي لا يتدبر أحد برأي النساء فإن من تدبر بآرائهن أو ائتمر بمشورتهن خسر درهمه درهمين. قال صاحب الكتاب رضي الله عنه عمارة الدنيا وتناسل بني آدم بالنساء والعمارة لا تصح بغير رأي وتدبير وقيل شاورهن وخالفوهن ويجب على الرجل الفاضل المتيقظ أن يحتاط في خطبة النساء وطلبهن وليزوج البنت لا سيما إذا بلغت لئلا يقع في الغدر والعيب ومرض الروح وتعب القلب. وعلى الحقيقة كلما ينال الرجل من البلاء الهلاك والمحن فبسبب النساء كما قال الشاعر: مِن فِتنَةِ النِسوانِ قَد يَعصِى الَفتَى الر ... حمن أو يخشى من السلطان اللصُ لولاهِن لَم يك بَائِعاً ... للروح منه بأرخص الأثمان مِنُهن قَرَعَ آدَمُ معَ يُوسِفُ ... في محكم التنزيل بالعصيان وكذاَك هَارُوت بِبَابِلِ مُنَكَسُ ... ومعلق بالشعر في جذعان مَجنُونُ عَامِرِ هَامَ مِن أجلِ النِسَا ... في السند باد عجائب النسوان كُل البلا منِهُن يأتِي والوفَا ... منهن لا يأتي مدى الأزمان