انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء العاشر/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

[عدل]

قال الواقدي: بويع له بالخلافة يوم مات عمه هشام بن عبد الملك يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة.

وقال هشام بن الكلبي: بويع له يوم السبت في ربيع الآخر، وكان عمره إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة.

وكان سبب ولايته أن أباه يزيد بن عبد الملك كان قد جعل الأمر من بعده لأخيه هشام، ثم من بعده لولده الوليد هذا، فلما ولي هشام أكرم ابن أخيه الوليد حتى ظهر عليه أمر الشراب وخلطاء السوء ومجالس اللهو، فأراد هشام أن يقطع ذلك عنه فأمره على الحج سنة ست عشر ومائة، فأخذ معه كلاب الصيد خفية من عمه، حتى يقال: إنه جعلها في صناديق، فسقط منها صندوق فيه كلب، فسمع صوته فأحالوا ذلك على الجمال، فضرب على ذلك.

قالوا: واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، ومن عزمه أن ينصب تلك القبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهي وغير ذلك من المنكرات، فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه من الجلوس فوق ظهر الكعبة خوفا من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك، فلما تحقق عمه ذلك منه نهاه مرارا فلم ينته، واستمر على حاله القبيح، وعلى فعله الرديء.

فعزم عمه على خلعه من الخلافة - وليته فعل - وأن يولي بعده مسلمة بن هشام، وأجابه إلى ذلك جماعة من الأمراء، ومن أخواله، ومن أهل المدينة ومن غيرهم، وليت ذلك تم.

ولكن لم ينتظم حتى قال هشام يوما للوليد: ويحك ! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا، فإنك لم تدع شيئا من المنكرات إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر، فكتب إليه الوليد:

يا أيها السائل عن ديننا * ديني على دين أبي شاكر

نشربها صرفا وممزوجةً * بالسخن أحيانا وبالفاتر

فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يسمى: أبا شاكر، وقال له: تشبه الوليد بن يزيد وأنا أريد أن أرقيك إلى الخلافة.

وبعثه على الموسم سنة تسع عشر ومائة فأظهر النسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة:

يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر

الواهب الجرد بأرسانها * ليس بزنديق ولا كافر

ووقعت بين هشام وبين الوليد بن يزيد وحشة عظيمة بسبب تعاطي الوليد ما كان يتعاطاه من الفواحش والمنكرات.

فتنكر له هشام وعزم على خلعه وتولية ولده مسلمة ولاية العهد، ففر منه الوليد إلى الصحراء، وجعلا يتراسلان بأقبح المراسلات، وجعل هشام يتوعده وعيدا شديدا، ويتهدده، ولم يزل كذلك حتى مات هشام والوليد في البرية، فلما كانت الليلة التي قدم في صبيحتها عليه البرد بالخلافة، قلق الوليد تلك الليلة قلقا شديدا وقال لبعض أصحابه: ويحك ! قد أخذني الليلة قلق عظيم، فاركب لعلنا نبسط.

فسارا ميلين يتكلمان في هشام وما يتعلق به، من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم رأيا من بعد رهجا وأصواتا وغبارا، ثم انكشف ذلك عن برد يقصدونه بالولاية فقال لصاحبه: ويحك ! إن هذه رسل هشام، اللهم أعطنا خيرها.

فلما اقتربت البرد منه وتبينوه ترجلوا إلى الأرض وجاؤا فسلموا عليه بالخلافة، فبهت وقال: ويحكم ! أمات هشام ؟

قالوا: نعم !

قال: فمن بعثكم ؟

قالوا: سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل، وأعطوه الكتاب فقرأه، ثم سألهم عن أحوال الناس، وكيف مات عمه هشام، فأخبروه.

فكتب من فوره بالاحتياط على أموال هشام وحواصله بالرصافة وقال:

ليت هشاما عاش حتى يرى * مكياله الأوفر قد طبعا

كلناه بالصاع الذي كاله * وما ظلمناه به إصبعا

وما أتيناه ذاك بدعة * أحله الفرقان إلى أجمعا

وقد كان الزهري يحث هشاما على خلع الوليد هذا، ويستنهضه في ذلك، فيحجم هشام عن ذلك، خوف الفضيحة من الناس، ولئلا تتنكر قلوب الأجناد من أجل ذلك، وكان الوليد يفهم ذلك من الزهري ويبغضه ويتوعده ويتهدده، فيقول له الزهري: ما كان الله ليسلطك عليَّ يا فاسق !

ثم مات الزهري قبل ولاية الوليد، ثم فر الوليد من عمه إلى البرية، فلم يزل بها حتى مات فاحتاط على أموال عمه ثم ركب من فوره من البرية وقصد دمشق، واستعمل العمال وجاءته البيعة من الآفاق، وجاءته الوفود، وكتب إليه مروان بن محمد - وهو إذ ذاك نائب أرمينية - يبارك له في خلافة الله له على عباده، والتمكين في بلاده، ويهنئه بموت هشام وظفره به، والتحكم في أمواله وحواصله، ويذكر له أنه جدد البيعة له في بلاده، وأنهم فرحوا واستبشروا بذلك.

ولولا خوفه من الثغر لاستناب عليه وركب بنفسه شوقا إلى رؤيته، ورغبة في مشافهته.

ثم إن الوليد سار في الناس سيرة حسنة بادي الرأي وأمر بإعطاء الزمنى والمجذومين والعميان، لكل إنسان خادما، وأخرج من بيت المال الطيب والتحف لعيالات المسلمين، وزاد في أعطيات الناس، ولاسيما أهل الشام والوفود، وكان كريما ممدحا شاعرا مجيدا، لا يسأل شيئا قط فيقول: لا !

ومن شعره قوله: - يمدح نفسه بالكرم -

ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق * بأن سماء الضر عنكم ستقلع

سيوشك إلحاق معا وزيادة * وأعطية مني إليكم تبرّع

محرَّمكم ديوانكم وعطاؤكم * به يكتب الكتّاب شهرا وتطبع

وفي هذه السنة عقد الوليد البيعة لابنه الحكم ثم عثمان، على أن يكونا وليي العهد من بعده، وبعث البيعة إلى يوسف بن عمر أمير العراق وخراسان، فأرسلها إلى نائب خراسان نصر بن سيار، فخطب بذلك نصر خطبة عظيمة بليغة طويلة، ساقها ابن جرير بكمالها.

واستوثق للوليد الممالك في المشارق والمغارب، وأخذت البيعة لولديه من بعده في الآفاق.

وكتب الوليد إلى نصر بن سيار بالاستقلال بولاية خراسان، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فسأله أن يرد إليه ولاية خراسان فردها إليه كما كانت في أيام هشام، وأن كان يكون نصر بن سيار ونوابه من تحت يده، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يستوفده إلى أمير المؤمنين بأهله وعياله، وأن يكثر من استصحاب الهدايا والتحف.

فحمل نصر بن سيار ألف مملوك على الخيل، وألف وصيفة وشيئا كثيرا من أباريق الفضة والذهب، وغير ذلك من التحف.

وكتب إليه الوليد يستحثه سريعا ويطلب منه أن يحمل معه طنابير وبرابط ومغنيات وبازات وبراذين فره، وغير ذلك من آلات الطرب والفسق، فكره الناس ذلك منه وكرهوه.

وقال المنجمون لنصر بن سيار: إن الفتنة قريبا ستقع بالشام، فجعل يتثاقل في سيره، فلما أن كان ببعض الطريق جاءته البرد فأخبروه بأن الخليفة الوليد قد قتل وهاجت الفتنة العظيمة في الناس بالشام، فعدل بما معه إلى بعض المدن فأقام بها.

وبلغه أن يوسف بن عمر قد هرب من العراق، واضطربت الأمور وذلك بسبب قتل الخليفة على ما سنذكره، وبالله المستعان.

وفي هذه السنة ولى الوليد يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ولاية المدينة ومكة والطائف، وأمره أن يقيم إبراهيم ومحمدا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة مهانين لكونهما خالي هشام، ثم يبعث بهما إلى يوسف بن عمر نائب العراق، فبعثهما إليه.

فما زال يعذبهما حتى ماتا، وأخذ منهما أموالا كثيرة.

وفي هذه السنة ولى يوسف بن محمد يحيى بن سعيد الأنصاري قضاء المدينة.

وفيها: بعث الوليد بن يزيد إلى أهل قبرص جيشا مع أخيه، وقال: خيِّرهم فمن شاء أن يتحول إلى الشام، ومن شاء أن يتحول إلى الروم، فكان منهم اختار جوار المسلمين بالشام، ومنهم من انتقل إلى بلاد الروم.

قال ابن جرير: وفيها قدم سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، ولاهز بن قريظ، وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم فقال: أحر هو أم لا ؟

فقالوا: أما هو فيزعم أنه حر، وأما مولاه فيزعم أنه عبده.

فاشتروه فاعتقوه، ودفعوا إلى محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألفا.

وقال لهم: لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا، فإن مت فإن صاحبكم إبراهيم بن محمد - يعني: ابنه - فإنه ابني فأوصيكم به.

ومات محمد بن علي في مستهل ذي القعدة في هذه السنة، بعد أبيه بسبع سنين.

وفيها: قتل يحيى بن يزيد بن علي بخراسان.

وحج الناس فيها يوسف بن محمد الثقفي أمير مكة والمدينة والطائف.

وأمير العراق ويوسف بن عمر، وأمير خراسان نصر بن سيار وهو في همة الوفود إلى الوليد بن يزيد أمير المؤمنين بما معه من الهدايا والتحف، فقتل الوليد قبل أن يجتمع به.

و ممن توفي فيها من الأعيان:

محمد بن علي

[عدل]

ابن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المدني، وهو أبو السفاح والمنصور.

روى عن: أبيه، وجده، وسعيد بن جبير، وجماعة.

وحدث عنه جماعة، منهم: ابناه الخليفتان، أبو العباس عبد الله السفاح، وأبو جعفر عبد الله المنصور.

وقد كان عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إليه بالأمر من بعده، وكان عنده علم بالأخبار، فبشره بأن الخلافة ستكون في ولدك، فدعا إلى نفسه في سنة سبع وثمانين، ولم يزل أمره يتزايد حتى توفي في هذه السنة.

وقيل: في التي قبلها.

وقيل: في التي بعدها عن ثلاث وستين سنة.

وكان من أحسن الناس شكلا، فأوصى بالأمر من بعده لولده إبراهيم، فما أبرم الأمر إلا لولده السفاح، فاستلب من بني أمية الأمر في سنة ثنتين وثلاثين، كما سيأتي.

وأما يحيى بن زيد

[عدل]

ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فإنه لما قتل أبوه زيد في سنة إحدى وعشرين ومائة، لم يزل يحيى مختفيا في خراسان عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ، حتى مات هشام، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يخبره بأمر يحيى بن زيد، فكتب نصر بن سيار إلى نائب بلخ مع عقيل بن معقل العجلي، فأحضر الحريش فعاقبه ستمائة سوط، فلم يدل عليه، وجاء ولد الحريش فدلهم عليه فحبس، فكتب نصر بن سيار إلى يوسف بذلك، فبعث إلى الوليد بن يزيد يخبره بذلك.

فكتب الوليد إلى نصر بن سيار يأمره بإطلاقه من السجن وإرساله إليه صحبة أصحابه، فأطلقهم وأطلق لهم وجهزهم إلى دمشق، فلما كانوا ببعض الطريق توسم نصر منه غدرا، فبعث إليه جيشا عشرة آلاف فكسرهم يحيى بن زيد، وإنما معه سبعون رجلا، وقتل أميرهم واستلب منهم أموالا كثيرةً، ثم جاء جيش آخر فقتلوه واحتزوا رأسه وقتلوا جميع أصحابه، رحمهم الله.

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة فيها كان مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك

[عدل]

وهذه ترجمته هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو العباس، الأموي الدمشقي.

بويع له بالخلافة بعد عمه هشام في السنة الخالية بعهد من أبيه كما قدمنا.

وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي.

وكان مولده سنة تسعين.

وقيل: ثنتين وتسعين.

وقيل: سبع وثمانين.

وقتل يوم الخميس لليلتين بقيتا في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، ووقعت بسبب ذلك فتنة عظيمة بين الناس بسبب قتله، ومع ذلك إنما قتل لفسقه، وقيل: وزندقته.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا ابن عياش، حدثني الأوزاعي وغيره، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: ولد لأخي أم سلمة زوج النبي غلام فسموه الوليد فقال النبي : «سميتموه باسم فراعينكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له: الوليد، لهو أشد فسادا لهذه الأمة من فرعون لقومه».

قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه الوليد بن مسلم ومعقل بن زياد ومحمد بن كثير وبشر بن بكر، عن الأوزاعي، فلم يذكروا عمر في إسناده وأرسلوه، ولم يذكر ابن كثير سعيد بن المسيب، ثم ساق طرقه هذه كلها بأسانيدها وألفاظها.

وحكي عن البيهقي أنه قال: هو مرسل حسن.

ثم ساق من طريق محمد، عن محمد بن عمر بن عطاء، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها، قالت: دخل النبي وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد فقال: «من هذا يا أم سلمة؟».

قالت: هذا الوليد !

فقال النبي : «وقد اتخذتم الوليد خنانا حسانا غيروا اسمه، فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له: الوليد».

وروى ابن عساكر من حديث عبد الله بن محمد بن مسلم، ثنا محمد بن غالب الأنطاكي، ثنا محمد بن سليمان بن أبي داود، ثنا صدقة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن النبي قال: «لا يزال هذا الأمر قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية».

مقتله وزوال دولته

[عدل]

كان هذا الرجل مجاهرا بالفواحش مصرا عليها، منتهكا محارم الله عز وجل، لا يتحاشى من معصية.

وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين، فالله أعلم.

لكن الذي يظهر أنه كان عاصيا شاعرا ماجنا متعاطيا للمعاصي، لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحي من أحد، قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي.

وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال: أشهد أنه كان شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق.

وحكى المعافى بن زكريا، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن العتبي: أن الوليد بن يزيد نظر إلى نصرانية من حسان نساء النصارى اسمها: سفرى فأحبها، فبعث يراودها عن نفسها، فأبت عليه، فألح عليها وعشقها، فلم تطاوعه.

فاتفق اجتماع النصارى في بعض كنائسهم لعيد لهم، فذهب الوليد إلى بستان هناك فتنكر وأظهر أنه مصاب، فخرج النساء من الكنيسة إلى ذلك البستان، فرأينه فأحدقن به، فجعل يكلم سفرى ويحادثها وتضاحكه ولا تعرفه، حتى اشتفى من النظر إليها، فلما انصرفت قيل لها: ويحك ! أتدرين من هذا الرجل ؟

فقالت: لا !

فقيل لها: هو الوليد.

فلما تحققت ذلك حنت عليه بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها، قبل أن تحن عليه.

فقال الوليد في ذلك أبياتا:

أضحك فؤادك يا وليد عميدا * صبا قديما للحسان صيودا

في حب واضحة العوارض طفلة * برزت لنا نحو الكنيسة عيدا

ما زلت أرمقها بعيني وامق * حتى بصرت بها تقبِّل عودا

عود الصليب فويح نفسي من رأى * منكم صليبا مثله معبودا

فسألت ربي أن أكون مكانه * وأكون في لهب الجحيم وقودا

وقال فيها أيضا: لما ظهر أمره وعلم بحال الناس.

وقيل: أن هذا وقع قبل أن يلي الخلافة:

ألا حبذا سفري و إن قيل إنني * كلفت بنصرانية تشرب الخمرا

يهون علينا أن نظل نهارنا * إلى الليل لا ظهرا نصلِّي ولا عصرا

قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري المعروف: بابن طرار النهرواني بعد إيراده هذه الأشياء: للوليد في نحو هذا من الخلاعة والمجون وسخافة الدين، وما يطول ذكره، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره المتضمن ركيك ضلاله وكفره.

وروى ابن عساكر بسنده أن الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمار بخمسمائة دينار.

وقال القاضي أبو الفرج: أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الأخباريون مجموعة ومفردة، وقد جمعت شيئا من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرح به من الإلحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأنزل عليه، وقد عارضت شعره السخيف بشعر حصيف، وباطله بحق نبيه شريف، وترجيت رضاء الله عز وجل، واستيجاب مغفرته.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال: أراد الوليد بن يزيد الحج، وقال: أشرب فوق ظهر الكعبة الخمر، فهموا أن يفتكوا به إذا خرج، فجاؤوا إلى خالد ابن عبد الله القسري فسألوه أن يكون معهم فأبى.

فقالوا له: فاكتم علينا.

فقال: أما هذا فنعم.

فجاء إلى الوليد فقال: لاتخرج فإني أخاف عليك.

فقال: ومن هؤلاء الذين تخافهم عليَّ ؟

قال: لا أخبرك بهم.

قال: إن لم تخبرني بهم بعثت بك إلى يوسف بن عمر.

قال: وإن بعثت بي إلى يوسف بن عمر.

فبعثه إلى يوسف فعاقبه حتى قتله.

وذكر ابن جرير أنه لما امتنع أن يعلمه بهم سجنه ثم سلمه إلى يوسف بن عمر، يستخلص منه أموال العراق فقتله.

وقد قيل: إن يوسف لما وفد إلى الوليد اشترى منه خالد بن عبد الله القسري بخمسين ألف ألف يخلصها منه، فما زال يعاقبه ويستخلص منه حتى قتله، فغضب أهل اليمن من قتله، وخرجوا على الوليد.

قال الزبير بن بكار: حدثنا مصعب بن عبد الله، قال: سمعت أبي يقول: كنت عند المهدي فذكر الوليد بن يزيد فقال رجل: في المجلس كان زنديقا.

فقال المهدي: خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق.

وقال أحمد بن عمير بن حوصاء الدمشقي: ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حصين بن الوليد، عن الأزهري بن الوليد، قال: سمعت أم الدرداء، تقول: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوما لم يزل طاعة مستخف بها ودم مسفوك على وجه الأرض بغير حق.

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري:

قتل يزيد بن الوليد الناقص للوليد بن يزيد

[عدل]

قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته وفسقه، وما ذكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها، فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شرا ولهوا ولذةً وركوبا للصيد وشرب المسكر ومنادمة الفساق، فما زادته الخلافة على ما كان قبلها إلا تماديا وغرورا، فثقل ذلك على الأمراء والرعية والجند، وكرهوه كراهة شديدة، وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه، إفساده على نفسه بني عميه هشام والوليد بن عبد الملك مع إفساده اليمانية، وهي أعظم جند خراسان، وذلك أنه لما قتل خالد بن عبد الله القسري وسلمه إلى غريمه يوسف بن عمر الذي هو نائب العراق إذ ذاك، فلم يزل يعاقبه حتى هلك، انقلبوا عليه وتنكروا له وساءهم قتله، كما سنذكره في ترجمته.

ثم روى ابن جرير بسنده أن الوليد بن يزيد ضرب ابن عمه سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل هناك حتى قتل الوليد وأخذ جارية كانت لآل عمه الوليد بن عبد الملك، فكلمه فيها عمر بن الوليد، فقال: لا أردها.

فقال: إذا تكثر الصواهل حول عسكرك.

وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وبايع لولديه الحكم وعثمان، وكانا دون البلوغ، فشق ذلك على الناس أيضا، ونصحوه فلم ينتصح، ونهوه فلم يرتدع ولم يقبل.

قال المدائني في روايته: ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه وباللواط وغيره، وقالوا: اتخذ مائة جامعة على كل جامعة اسم رجل من بني هاشم ليقتله بها، ورموه بالزندقة وكان أشدهم فيه قولا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه أظهر النسك والتواضع، ويقول: ما يسعنا الرضا بالوليد حتى حمل الناس على الفتك به.

قالوا: وانتدب للقيام عليه جماعة من قضاعة واليمانية وخلق من أعيان الأمراء وآل الوليد بن عبد الملك، وكان القائم بأعباء ذلك كله والداعي إليه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وهو من سادات بني أمية، وكان ينسب إلى الصلاح والدين والورع، فبايعه الناس على ذلك، وقد نهاه أخوة العباس بن الوليد، فلم يقبل.

فقال: والله لولا إني أخاف عليك لقيدتك وأرسلتك إليه.

واتفق خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها، فكان ممن خرج الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في طائفة من أصحابه نحو المائتين، إلى ناحية مشارف دمشق، فانتظم إلى يزيد بن الوليد أمره وجعل أخوه العباس ينهاه عن ذلك أشد النهي، فلا يقبل، فقال العباس ذلك:

إني أعيذكم بالله من فتن * مثل الجبال تسامى ثم تندفع

إن البرية قد ملت سياستكم * فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم * إن الذباب إذا ما ألحمت رتعوا

لا تبقرنَّ بأيديكم بطونكم * فثم لا حسرة تغني ولا جزع

فلما استوثق ليزيد بن الوليد أمره، وبايعه من الناس، قصد دمشق فدخلها في غيبة الوليد فبايعه أكثر أهلها في الليل، وبلغه أن أهل المزة قد بايعوا كبيرهم معاوية بن مَصَاد، فمضى إليه يزيد ماشيا في نفر من أصحابه، فأصابهم في الطريق خطر شديد، فأتوه فطرقوا بابه ليلا ثم دخلوا فكلمه يزيد في ذلك فبايعه معاوية بن مصاد.

ثم رجع يزيد من ليلته إلى دمشق على طريق القناة وهو على حمار أسود، فحلف أصحابه أنه لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحا من تحت ثيابه فدخلها.

وكان الوليد قد استناب على دمشق في غيبته عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي، وعلى شرطتها أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي.

فلما كان ليلة الجمعة اجتمع أصحاب يزيد بين العشائين عند باب الفراديس، فلما أذن العشاء الآخرة دخلوا المسجد، فلما لم يبق في المسجد غيرهم بعثوا إلى يزيد بن الوليد، فجاءهم فقصدوا باب المقصورة، ففتح لهم خادم، فدخلوا فوجدوا أبا العاج وهو سكران، فأخذوا خزائن بيت المال وتسلموا الحواصل، وتقووا بالأسلحة.

وأمر يزيد بإغلاق أبواب البلد، وأن لا يفتح إلا لمن يعرف، فلما أصبح الناس قدم أهل الحواضر من كل جانب فدخلوا من سائر أبواب البلد كل أهل محلة من الباب الذي يليهم، فكثرت الجيوش حول يزيد بن الوليد بن عبد الملك في نصرته، وكلهم قد بايعه بالخلافة.

وقد قال فيه بعض الشعراء في ذلك:

فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا * سكاسكها أهل البيوت الصنادد

وكلب فجاؤهم بخيل وعدة * من البيض والأبدان ثم السواعد

فأكرم بها أحياء أنصار سنة * هم منعوا حرماتها كل جاحد

وجاءتهم شيبان والأزد شرعا * وعبس ولخم بين حام وذائد

وغسان والحيَّان قيس وثعلب * وأحجم عنها كل وان وزاهد

فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها * قد استوثقوا من كل عات ومارد

وبعث يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس إلى قطنا، ليأتوه بعبد الملك بن محمد بن الحجاج نائب دمشق وله الأمان، وكان قد تحصن هناك، فدخلوا عليه فوجدوا عنده خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فلما مروا بالمزة قال أصحاب ابن مصاد: خذ هذا المال فهو خير من يزيد بن الوليد.

فقال: لا والله، لا تحدث العرب أني أول من خان.

ثم أتوا به يزيد بن الوليد فاستخدم من ذلك المال جندا للقتال قريبا من ألفي فارس، وبعث به مع أخيه عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك خلف الوليد بن يزيد ليأتوا به، وركب بعض موالي الوليد فرسا سابقا فساق به حتى انتهى إلى مولاه من الليل، وقد نفق الفرس من السوق، فأخبره الخبر فلم يصدقه وأمر بضربه، ثم تواترت عليه الأخبار فأشار عليه بعض أصحابه أن يتحول من منزله إلى حمص فإنها حصينة.

وقال الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: أنزل على قومي بتدمر، فأبى أن يقبل شيئا من ذلك، بل ركب بمن معه وهو في مائتي فارس، وقصد أصحاب يزيد فالتقوا بثقلة في أثناء الطريق، فأخذوه وجاء الوليد فنزل حصن البخراء الذي كان للنعمان بن بشير، وجاءه رسول العباس بن الوليد إني آتيك - وكان من أنصاره - فأمر الوليد بإبراز سريره فجلس عليه وقال: أعليَّ يتوثب الرجال وأنا أثب على الأسد وأتخصر الأفاعي ؟

وقدم عبد العزيز بن الوليد بمن معه، وإنما كان قد خلص معه من الألفي فارس ثمان مائة فارس، فتصافوا فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل من أصحاب العباس جماعة حملت رؤسهم إلى الوالي، وقد كان جاء العباس بن الوليد لنصرة الوليد بن يزيد، فبعث إليه أخوه عبد العزيز فجيء به قهرا حتى بايع لأخيه يزيد بن الوليد واجتمعوا على حرب الوليد بن يزيد، فلما رأى الناس اجتماعهم فروا من الوليد إليهم، وبقي الوليد في ذل وقل من الناس، فلجأ إلى الحصن، فجاؤا إليه وأحاطوا به من كل جانب يحاصرونه، فدنا الوليد من باب الحصن فنادى ليكلمني رجل شريف، فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي.

فقال الوليد: ألم أدفع الموت عنكم؟ ألم أعط فقرائكم؟ ألم أخدم نساءكم ؟

فقال يزيد: إنما ننقم عليك انتهاك المحارم وشرب الخمور ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله عز وجل.

فقال: حسبك يا أخا السكاسك، لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله لي لسعة عما ذكرته.

ثم قال: أما والله لئن قتلتموني لا ترتقن فتنتكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم.

ورجع إلى القصر فجلس ووضع بين يديه مصحفا فنشره، وأقبل يقرأ فيه وقال: يوم كيوم عثمان، واستسلم، وتسور عليه أولئك الحائط، فكان أول من نزل إليه يزيد بن عنبسة، فتقدم إليه وإلى جانبه سيف، فقال: نحه عنك.

فقال الوليد: لو أردت القتال به لكان غير هذا، فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه حتى يبعث به إلى يزيد بن الوليد.

فبادره عليه عشرة من الأمراء، فأقبلوا على الوليد يضربونه على رأسه ووجهه بالسيوف، حتى قتلوه، ثم جروه برجله ليخرجوه، فصاحت النسوة، فتركوه واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه.

واحتاطوا على ما كان معه مما كان خرج به في وجهه ذلك، وبعثوا به إلى يزيد مع عشرة نفر منهم: منصور بن جمهور، وروح بن مقبل، وبشر مولى كنانة من بني كلب، وعبد الرحمن الملقب: بوجه الفلس، فلما انتهوا إليه بشروه بقتل الوليد، وسلموا عليه بالخلافة، فأطلق لكل رجل من العشرة عشرة آلاف.

فقال له روح بن بشر بن مقبل: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد الفاسق، فسجد شكرا لله.

ورجعت الجيوش إلى يزيد، فكان أول من أخذ يده للمبايعة يزيد بن عنبسة السكسكي فانتزع يده من يده، وقال: اللهم إن كان هذا رضى لك فأعني عليه.

وكان قد جعل لمن جاءه برأس الوليد مائة ألف درهم، فلما جيء به وكان ذلك ليلة الجمعة - قيل: يوم الأربعاء - لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، فأمر يزيد بنصب رأسه على رمح وأن يطاف به في البلد.

فقيل له: إنما ينصب رأس الخارجي.

فقال: والله لأنصبنه.

فشهره في البلد على رمح ثم أودعه عند رجل شهرا ثم بعث به إلى أخيه سليمان بن يزيد فقال أخوه: بعدا له، أشهد أنك كنت شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي هذا الفاسق وأنا أخوه لم يأنف من ذلك.

وقد قيل: إن رأسه لم يزل معلقا بحائط جامع دمشق الشرقي مما يلي الصحن حتى انقضت دولة بني أمية.

وقيل: إنما كان ذلك أثر دمه، وكان عمره يوم قتل ستا وثلاثين سنة.

وقيل: ثمانيا وثلاثين.

وقيل: إحدى وثلاثين.

وقيل: ثنتان، وقيل: خمس، وقيل: ست وأربعون سنة.

ومدة ولايته سنة وست أشهر على الأشهر.

وقيل: ثلاثة أشهر.

قال ابن جرير: كان شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، كانت تضرب له سكة الحديد في الأرض ويربط فيها خيط إلى رجله ثم يثب على الفرس فيركبها ولا يمس الفرس، فتنقلع تلك السكة من الأرض مع وثبته.

خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

[عدل]

وهو الملقب: بالناقص لنقصه الناس من أعطياتهم ما كان زاده الوليد بن يزيد في أعطياتهم، وهي عشرة عشرة، ورده إياهم إلى ما كانوا عليه في زمن هشام.

ويقال: إن أول من لقبه بذلك مروان بن محمد.

بويع له بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد، وذلك ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من هذه السنة - حتى سنة ست وعشرين ومائة - وكان فيه صلاح وورع قبل ذلك، فأول ما عمل انتقاصه من أرزاق الجند ما كان الوليد زادهم، وذلك في كل سنة عشرة عشرة، فسمي الناقص لذلك.

ويقال في المثل الأشج والناقص أعدل خلفاء بني مروان - يعني: عمر بن عبد العزيز وهذا - ولكن لم تطل أيامه، فإنه توفي من آخر هذه السنة، واضطربت عليه الأمور، وانتشرت الفتن، واختلفت كلمة بني مروان.

فنهض سليمان بن هشام، وكان معتقلا في سجن الوليد بعمان، فاستحوز على أموالها وحواصلها، وأقبل إلى دمشق، فجعل يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر، فأكرمه يزيد ورد عليه أمواله التي كان أخذها من الوليد، وتزوج يزيد أخت سليمان، وهي أم هشام بنت هشام.

ونهض أهل حمص إلى دار العباس بن الوليد التي عندهم فهدموها، وحبسوا أهله وبنيه، وهرب هو من حمص، فلحق بيزيد بن الوليد إلى دمشق، وأظهر أهل حمص الأخذ بدم الوليد بن يزيد، وأغلقوا أبواب البلد، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وكاتبوا الأجناد في طلب الأخذ بالثأر، فأجابهم إلى ذلك طائفة كبيرة منهم، على أن يكون الحكم بن الوليد بن يزيد الذي أخذ له العهد هو الخليفة، وخلعوا نائبهم، وهو مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم قتلوه وقتلوا ابنه وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين.

فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد كتب إليهم كتابا مع يعقوب بن هانئ ومضمون الكتاب: أنه يدعوا إلى أن يكون الأمر شورى.

فقال عمرو بن قيس: فإذا كان الأمر كذلك فقد رضينا بولي عهدنا الحكم بن الوليد، فأخذ يعقوب بلحيته، وقال: ويحك ! و كان هذا الذي تدعو إليه يتيما تحت حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله فكيف أمر الأمة، فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد، فطردوهم عنهم وأخرجوهم من بين أظهرهم، وقال لهم أبو محمد السفياني: لو قدمت دمشق لم يختلف علي منهم اثنان، فركبوا معه وساروا نحو دمشق، وقد أمروا عليهم السفياني، فتلقاهم سليمان بن هشام في جيش كثيف قد جهزهم معه يزيد، وجهز أيضا عبد العزيز بن الوليد في ثلاثة آلاف يكونون عند ثنية العقاب، وجهز هشام بن مصاد المزي في ألف وخمسمائة ليكونوا على عقبة السلمية، فخرج أهل حمص، فساروا وتركوا جيش سليمان ابن هشام ذات اليسار، وتعدوه فلما سمع بهم سليمان ساق في طلبهم فلحقهم عند السليمانية، فجعلوا الزيتون عن إيمانهم والجبل عن شمائلهم، والحيات من خلفهم، ولم يبق تخلص إليهم إلا من جهة واحدة، فاقتتلوا هنالك في قبالة الحر قتالا شديدا، فقتل طائفة كبيرة من الفريقين، فبينما هم كذلك إذ جاء عبد العزيز بن الوليد بمن معه، فحمل على أهل حمص، فاخترق جيشهم حتى ركب التل الذي في وسطهم، وكانت الهزيمة، فهرب أهل حمص وتفرقوا فأتبعهم الناس يقتلون ويأسرون ثم تنادوا بالكف عنهم، على أن يبايعوا ليزيد بن الوليد وأسروا منهم جماعة، منهم أبو محمد السفياني، ويزيد بن خالد بن معاوية، ثم ارتحل سليمان وعبد العزيز فنزلا عذراء، ومعهم الجيوش وأشراف الناس وأشراف أهل حمص من الأساري، ومن استجاب من غير أسر، بعد ما قتل منهم ثلاثمائة نفس، فدخلوا بهم على يزيد بن الوليد، فأقبل عليهم، وأحسن إليهم، وصفح عنهم، وأطلق الأعطيات لهم، لاسيما لأشرافهم وولى عليهم الذي اختاروه وهو معاوية بن يزيد بن الحصين، وطابت عليه أنفسهم، وأقاموا عنده في دمشق سامعين مطيعين له.

وفيها: بايع أهل فلسطين يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وذلك أن بني سليمان كانت لهم أملاك هناك، وكانوا يتركونها يبدلونها لهم، وكان أهل فلسطين يحبون مجاورتهم، فلما قتل الوليد بن يزيد كتب سعيد بن روح بن زنباغ - وكان رئيس تلك الناحية - إلى يزيد بن سليمان بن عبد الملك يدعوهم إلى المبايعة له فأجابوه إلى ذلك، فلما بلغ أهل الأردن خبرهم بايعوا أيضا محمد بن عبد الملك بن مروان وأمروه عليهم، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد أمير المؤمنين بعث إليهم الجيوش مع سليمان بن هشام في الدماشقة وأهل حمص، الذين كانوا مع السفياني فصالحهم أهل الأردن أولا ورجعوا إلى الطاعة، وكذلك أهل فلسطين، وكتب يزيد بن الوليد ولاية الإمرة بالرملة وتلك النواحي إلى أخيه إبراهيم بن الوليد، واستقرت الممالك هنالك، وقد خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:

أما بعد أيها الناس أما والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي إني لظلوم لنفسي، إن لم يرحمني ربي فإني هالك، ولكني خرجت غضبا لله ورسوله ولدينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنة نبيه محمد لما هدمت معالم الدين، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة، مع أنه والله ما كان مصدقا بالكتاب، ولا مؤمنا بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفوي بالحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوته لا بحولي ولا بقوتي.

أيها الناس: إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا، و لا أكثر مالا ولا أعطية زوجة، ولا ولدا ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل عن ذلك فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم، ويقطع سبلهم وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني وإلا أن تستتيبوني فإن تبت قبلتم مني، وإن علمتم أحدا من أهل الصلاح والدين يعطيكم من نفسه ما مثل ما أعطيكم، فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته.

أيها الناس ! إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة طاعة الله فمن أطاع الله فأطيعوه ما أطاع الله، فإذا عصى أو دعا إلى معصية فهو أهل أن يعصى ولا يطاع، بل يقتل ويهان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وفي هذه السنة: عزل يزيد ين الوليد يوسف بن عمر عن إمرة العراق، لما ظهر منه من الحنق على اليمانية، وهم قوم خالد بن عبد الله القسري، حتى قتل الوليد بن يزيد، وكان قد سجن غالب من ببلاده منهم، وجعل الأرصاد على الثغور خوفا من جند الخليفة، فعزله عنها أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وولى عليها منصور بن جمهور مع بلاد السند وسجستان وخراسان.

وقد كان منصور بن جمهور أعرابيا جلفا وكان يدين بمذهب الغيلانية القدرية، ولكن كانت له آثار حسنة، وعناء كثير في مقتل الوليد بن يزيد، فحظي بذلك عند يزيد بن الوليد.

ويقال: إنه لما فرغ الناس من الوليد ذهب من فوره إلى العراق فأخذ البيعة من أهلها إلى يزيد، وقرر بالأقاليم نوابا وعمالا وكر راجعا إلى دمشق في آخر رمضان، فلذلك ولاه الخليفة ما ولاه، والله أعلم.

وأما يوسف بن عمر فإنه فر من العراق فلحق ببلاد البلقاء، فبعث إليه أمير المؤمنين يزيد فأحضره إليه، فلما وقف بين يديه أخذ بلحيته - وكان كبير اللحية جدا، ربما كانت تجاوز سرته وكان قصير القامة - فوبخه وأنبه ثم سجنه وأمر باستخلاص الحقوق منه.

ولما انتهى منصور بن جمهور إلى العراق قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليهم في كيفية مقتل الوليد، وأن الله أخذه أخذ عزيز مقتدر، وأنه قد ولى عليهم منصور بن جمهور لما يعلم من شجاعته ومعرفته بالحرب، فبايع أهل العراق ليزيد بن الوليد، وكذلك أهل السند وسجستان.

وأما نصر بن سيار نائب خراسان فإنه امتنع من السمع والطاعة لمنصور بن جمهور، وأبى أن ينقاد لأوامره، وقد كان نصر هذا جهز هدايا كبيرة للوليد بن يزيد فاستمرت له.

وفي هذه السنة: كتب مروان الملقب: بالحمار كتابا إلى عمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد، يحثه على القيام بطلب دم أخيه الوليد، وكان مروان يومئذ أميرا على أذربيجان وأرمينية، ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له: إن أهل العراق يحبون أباك فقد وليتكها.

وذلك في شوال، وكتب له إلى أمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم به خشية أن يمتنع منصور بن جمهور من تسليم البلاد إليه، فسلم إليه وأطاع وسلم.

وكتب الخليفة إلى نصر بن سيار باستمراره بولاية خراسان مستقلا بها، فخرج عليه رجل يقال له: الكرماني، لأنه ولد بكرمان، وهو: أبو علي جديع بن علي بن شبيب المغني، واتبعه خلق كثير بحيث إنه كان يشهد الجمعة في نحو من ألف وخمسمائة، وكان يسلم على نصر بن سيار ولا يجلس عنده، فتحير نصر بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيهم بعد جهد على سجنه، فسجن قريبا من شهر.

ثم أطلقه فاجتمع إليه ناس كثير، وجم غفير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصر من قاتلهم فقتلهم وقهرهم وكسرهم واستخف جماعات من أهل خراسان بنصر بن سيار وتلاشوا أمره وحرمته، وألحوا عليه في أعطياتهم وأسمعوه غليظ ما يكره وهو على المنبر، بسفارة سلم بن أحوز أدى إليه ذلك، وخرجت الباعة من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفض كثير من الناس عنه.

فقال لهم نصر فيما قال: والله لقد نشرتكم وطويتكم وطويتكم ونشرتكم فما عندي عشرة منكم على دين، فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين الرجل منكم أن ينخلع من أهله وماله وولده، ولم يكن رآها، ثم تمثل بقول النابغة:

فإن يغلب شقاؤكم عليكم * فإني في صلاحكم سعيت

وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن الورد بن المغيرة الجعد:

أبيت أرعى النجوم مرتفقا * إذا استقلت نحوي أوائلها

من فتنة أصبحت مجللة * قد عم أهل الصلاة شاملها

من بخراسان والعراق ومن * بالشام كل شجاه شاغلها

يمشي السفيه الذي يعنف بالـ * ـجهل سواء فيها وعاقلها

فالناس منها في لون مظلمة * دهماء ملتجة غياطلها

والناس في كربة يكاد لها * تنبذ أولادها حواملها

يغدون منها في كل مبهمة * عمياء تمنى لهم غوائلها

لا ينظر الناس من عواقبها * إلا التي لا يبين قائلها

كرغوة البكر أو كصيحة حبـ * ـلى طرقت حولها قوابلها

فجاء فينا تزري بوجهته * فيها خطوب حمر زلازلها

وفي هذه السنة: أخذ الخليفة البيعة من الأمراء وغيرهم بولاية العهد من بعده لأخيه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم من بعد إبراهيم لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب مرضه الذي مات فيه.

وكان ذلك في شهر ذي الحجة منها، وقد حرضه على ذلك جماعة من الأمراء والأكابر والوزراء.

وفيها: عزل يزيد عن إمرة الحجاز يوسف بن محمد الثقفي وولى عليها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فقدمها في أواخر ذي القعدة منها.

وفيها: أظهر مروان الحمار الخلاف ليزيد بن الوليد، وخرج من بلاد أرمينية يظهر أنه يطلب بدم الوليد بن يزيد، فلما وصل إلى حران أظهر الموافقة، وبايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد.

وفيها: أرسل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبا هاشم بكر بن ماهان إلى أرض خراسان، فاجتمع بجماعة من أهل خراسان بمرو، فقرأ عليهم كتاب إبراهيم بن محمد الإمام إليه وإليهم، ووصيته، فتلقوا ذلك بالقبول، وأرسلوا معه ما كان عندهم من النفقات.

وفي سلخ ذي القعدة: وقيل: في سلخ ذي الحجة، وقيل: لعشر مضين منه، وقيل: بعد الأضحى منها كان وفاة أمير المؤمنين.

يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

[عدل]

هو: يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو خالد الأموي، أمير المؤمنين.

بويع بالخلافة أول ما بويع بها في قرية المزة، من قرى دمشق، ثم دخل دمشق فغلب عليها، ثم أرسل الجيوش إلى ابن عمه الوليد بن يزيد فقتله، واستحوذ على الخلافة في أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يلقب: بالناقص لنقصه الناس العشرات التي زادهم إياها الوليد بن يزيد.

وقيل: إنما سماه بذلك مروان الحمار، وكان يقول: الناقص بن اليد، وأمه شاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى، كسروية.

وقال ابن جرير: وأمه شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو القائل:

أنا ابن كسرى وأبي مروان * وقيصر جدي وجدي خاقان

وإنما قال ذلك لأن جده فيروز، وأم أمه بنت قيصر، وأمه شيرويه وهي بنت خاقان ملك الترك، وكانت قد سباها قتيبة بن مسلم، هي وأخت لها فبعثهما إلى الحجاج، فأرسل بهذه إلى الوليد واستبقى عنده الأخرى، فولدت هذه الوليد بن يزيد الناقص هذا، وهذه أخذها الحجاج فكانت عنده بالعراق.

وكان مولده في سنة تسعين، وقيل: في سنة ست وتسعين.

وقد روى عنه الأوزاعي مسألة السلم.

وقد ذكرنا كيفية ولايته فيما سلف في هذه السنة، وأنه كان عادلا ديِّنا محبا للخير مبغضا للشر، قاصدا للحق.

وقد خرج يوم عيد الفطر من هذه السنة إلى صلاة العيد بين صفين من الخيالة والسيوف مسللة عن يمينه وشماله، ورجع من المصلى إلى الخضراء كذلك.

كان رجلا صالحا، يقال في المثل: الأشج والناقص أعدلا بني مروان، والمراد عمر بن عبد العزيز وهذا.

وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي عثمان الليثي، قال: قال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء فإنه داعية الزنا.

وقال ابن عبد الحكيم: عن الشافعي لما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي يقال له: الناقص، دعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه، وقرب غيلان. قاله ابن عساكر.

قال: ولعله قرب أصحاب غيلان، لأن غيلان قتله هشام بن عبد الملك.

وقال محمد بن المبارك: آخر ما تكلم به يزيد بن الوليد الناقص: واحزناه واشقاآه.

وكان نقش خاتمه: العظمة لله.

وكانت وفاته بالخضراء من طاعون أصابه، وذلك يوم السبت لسبع مضين من ذي الحجة، وقيل: يوم الأضحى منه، وقيل: بعده بأيام، وقيل: لعشر بقين منه، وقيل: في سلخه، وقيل: في سلخ ذي القعدة من هذه السنة.

وأكثر ما قيل في عمره: ست وأربعون سنة، وقيل: ثلاثون سنة، وقيل: غير ذلك، فالله أعلم.

وكانت مدة ولايته ستة أشهر على الأشهر، وقيل: خمسة أشهر وأيام.

وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد، وهو ولي العهد من بعده - رحمه الله -.

وذكر سعيد بن كثير بن عفير أنه دفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل: إنه دفن بباب الفراديس.

وكان أسمر نحيفا حسن الجسم حسن الوجه.

وقال علي بن محمد المديني: كان يزيد أسمر طويلا صغير الرأس، بوجهه خال، وكان جميلا، وفي فمه بعض السعة، وليس بالمفرط.

وحج بالناس فيها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو نائب الحجاز، وأخوه عبد الله نائب العراق، ونصر بن سيار على نيابة خراسان، والله سبحانه أعلم.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

خالد بن عبد الله بن يزيد

[عدل]

ابن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري، أبو الهيثم، البجلي القسري الدمشقي، أمير مكة والحجاز للوليد ثم لسليمان، وأمير العراقين لهشام خمس عشرة سنة.

قال ابن عساكر: كانت داره بدمشق في مربعة القز، وتعرف اليوم بدار الشريف اليزيدي، وإليه ينسب الحمام الذي داخل باب توما.

روى عن أبيه، عن جده، أن رسول الله قال له: «يا أسد أتحب الجنة؟». قال: نعم !

قال: «فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك».

رواه أبو يعلى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن هيثم، عن سيار بن أبي الحكم، أنه سمعه على المنبر يقول ذلك.

وممن روى عنه: إسماعيل بن أوسط، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي حبيب، وحميد الطويل.

وروي أنه روى عن جده، عن النبي في تكفير المرض الذنوب.

وكانت أمه نصرانية، وذكره أبو بكر بن عياش في الأشراف فيمن أمه نصرانية.

وقال المدائني: أول ما عرف من رياسته أنه وطأ صبيا بدمشق بفرسه فحمله فأشهد طائفة من الناس أنه هو صاحبه، فإن مات فعليه ديته.

وقد استنابه الوليد على الحجاز من سنة تسع وثمانين إلى أن توفي الوليد ثم سليمان، وفي سنة ست ومائة استنابه هشام على العراق إلى سنة عشرين ومائة، وسلمه إلى يوسف بن عمر الذي ولاه مكانه فعاقبه وأخذ منه أموالا ثم أطلقه، وأقام بدمشق إلى المحرم من هذه السنة فسلمه الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر يستخلص منه خمسين ألف ألف، فمات تحت العقوبة البليغة، كسر قدميه ثم ساقيه ثم فخذيه، ثم صدره، فمات ولا يتكلم كلمة واحدة، ولا تأوه حتى خرجت روحه - رحمه الله -.

قال الليثي: عن أبيه، خطب خالد القسري يوما فأرتج عليه، فقال: أيها الناس ! إن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه، ويتعذر عند عزوبه مطلبه، وقد يرد إلى السليط بيانه، ويثيب إلى الحصر كلامه، وسيعود إلينا ما تحبون، ونعود لكم كما تريدون.

وقال الأصمعي وغيره: خطب خالد القسري يوما بواسط فقال: يا أيها الناس ! تنافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكتسبوا بالمطل ذما، ولا تعتدُّوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما تكن لأحد منكم نعمة عند أحد لم يبلغ شكرها فالله أحسن له جزاء، وأجزل عطاء، واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعم فلا تملوها فتحول نقما، فإن أفضل المال ما كسب أجرا وأورث ذكرا.

ولو رأيتم المعروف لرأيتموه رجلا حسنا جميلا يسر الناس إذا نظروا إليه، ويفوق العالمين.

ولو رأيتم البخل لرأيتموه رجلا مشوها قبيحا تنفر منه القلوب، وتغض دونه الأبصار.

إنه من جاد ساد، ومن بخل ذل، وأكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن عفا عن قدرة، وأفضل الناس من وصل عن قطيعة، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع عند مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو.

وروى الأصمعي، عن عمر بن الهيثم، أن أعرابيا قدم على خالد فأنشده قصيدة امتدحه بها يقول فيها:

إليك ابن كرز الخير أقبلت راغبا * لتجبر مني ما وها وتبدَّدا

إلى الماجد البهلول ذي الحلم والندى * وأكرم خلق الله فرعا ومحتدا

إذا ما أناس قصروا بفعالهم * نهضت فلم تلقى هنالك مفقدا

فيالك بحرا يغمر الناس موجه * إذا يسأل المعروف جاش وأزبدا

بلوت ابن عبد الله في كل موطن * فألفيت خير الناس نفسا وأمجدا

فلو كان في الدنيا من الناس خالد * لجود بمعروف لكنت مخلدا

فلا تحرمني منك ما قد رجوته * فيصبح وجهي كالح اللون أربدا

قال: فحفظها خالد، فلما اجتمع الناس عند خالد قام الأعرابي ينشدها، فابتدره إليها خالد فأنشدها قبله وقال: أيها الشيخ ! إن هذا شعر قد سبقناك إليه.

فنهض الشيخ فولَّى ذاهبا فاتبعه خالد من يسمع ما يقول فإذا هو ينشد هذه الأبيات:

ألا في سبيل الله ما كنت أرتجي * لديه وما لاقيت من نكد الجهد

دخلت على بحر يجود بماله * ويعطي كثير المال في طلب الحمد

فخالفني الجد المشوم لشقوتي * وقاربني نحسي وفارقني سعدي

فلو كان لي رزق لديه لنلته * ولكن أمر من الواحد الفرد

فرده إلى خالد وأعلمه بما كان يقول فأمر له بعشرة آلاف درهم.

وقال الأصمعي: سأل أعرابي خالدا القسري أن يملأ له جرابه دقيقا فأمر بملئه له دراهم، فقيل للأعرابي حين خرج: ما فعل معك ؟

فقال: سألته بما أشتهي فأمر لي بما يشتهي هو.

وقال بعضهم: بينما خالد يسير في موكبه إذ تلقاه أعرابي فسأله أن يضرب عنقه، فقال: ويحك ! ولم؟ أقطعت السبيل؟ أأخرجت يدا من طاعة ؟

فكل ذلك يقول: لا !

قال: فلم ؟

قال: من الفقر والفاقة.

فقال: سل حاجتك.

قال: ثلاثين ألفا.

فقال خالد: ما ربح أحد مثل ما ربحت اليوم، إني وضعت في نفسي أن يسألني مائة ألف، فسأل ثلاثين فربحت سبعين.

ارجعوا بنا اليوم، وأمر له بثلاثين ألفا.

وكان إذا جلس يوضع المال بين يديه ويقول: إن هذه الأموال ودائع لابد من تفرقتها.

وسقط خاتم لجاريته رابعة يساوي ثلاثين ألفا، في بالوعة الدار، فسألت أن تؤتى بمن يخرجه، فقال: إن يدك أكرم علي من أن تلبسه بعد ما صار إلى هذا الموضع القذر.

وأمر لها بخمسة آلاف دينار بدله، وقد كان لرابعة هذه من الحلي شيء عظيم، من جملة ذلك ياقوتة وجوهرة، كل واحدة بثلاثة وسبعين ألف دينار.

وقد روى البخاري في كتاب أفعال العباد، وابن أبي حاتم في كتاب السنة، وغير واحد ممن صنف في كتب السنة، أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في عيد أضحى فقال: أيها الناس ! ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.

قال غير واحد من الأئمة: كان الجعد بن درهم من أهل الشام، وهو مؤدب مروان الحمار، ولهذا يقال له: مروان الجعدي، فنسب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية، الذين يقولون: إن الله في كل مكان بذاته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له: أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن أعصم، عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي في مشط وماشطه وجف طلعة ذكر له، وتحت راعوفة ببئر ذي أروان الذي كان ماؤها نقاعة الحناء.

وقد ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما.

وجاء في بعض الأحاديث: أن الله تعالى أنزل بسبب ذلك سورتي المعوذتين.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي، سمعت أبا بكر بن عياش، قال: رأيت خالدا القسري حين أتي بالمغيرة وأصحابه، وقد وضع له سرير في المسجد، فجلس عليه، ثم أمر برجل من أصحابه فضرب عنقه ثم قال للمغيرة: أحيه - وكان المغيرة يزعم أنه يحيي الموتى -.

فقال له: والله أصلحك الله ما أحيي الموتى.

قال: لتحيينه أو لأضربن عنقك.

قال: والله ما أقدر على ذلك.

ثم أمر بطن قصب فأضرموا فيه نارا ثم قال للمغيرة: أعتنقه.

فأبى، فعدا رجل من أصحابه فأعتنقه، قال أبو بكر: فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة.

قال خالد: هذا والله أحق بالرياسة منك.

ثم قتله وقتل أصحابه.

وقال المدائني: أتي خالد بن عبد الله برجل تنبأ بالكوفة فقيل له: ما علامة نبوتك ؟

قال: قد نزل عليَّ قرآن.

قال: إنا أعطياك الكماهر، فصل لربك ولا تجاهر، ولا تطع كل كافر وفاجر.

فأمر به فصلب، فقال وهو يصلب: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود.

وقال المبرد: أتي خالد بشاب قد وجد في دار قوم وادعي عليه السرقة، فسأله فاعترف، فأمر بقطع يده، فتقدمت حسناء فقالت:

أخالد قد أوطأت والله عثرة * وما العاشق المسكين فينا بسارق

أقرَّ بما لم يجنه غير أنه * رأى القطع أولى من فضيحة عاشق

فأمر خالد بإحضار أبيها فزوجها من ذلك الغلام، وأمهرها عنه عشرة آلاف درهم.

وقال الأصمعي: دخل أعرابي على خالد فقال: إني قد مدحتك ببيتين ولست أنشدهما إلا بعشرة آلاف وخادم.

فقال: نعم !

فأنشأ يقول:

لزمت نعم حتى كأنك لم تكن * سمعت من الأشياء شيئا سوى نعم

وأنكرت لا حتى كأنك لم تكن * سمعت بها في سالف الدهر والأمم

قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم وخادم يحملها.

قال: ودخل عليه أعرابي فقال له: سل حاجتك.

فقال: مائة ألف.

فقال: أكثرت حط منها.

قال: أضع تسعين ألفا.

فتعجب منه خالد فقال: أيها الأمير ! سألتك على قدرك، ووضعت على قدري.

فقال له: لن تغلبني أبدا، وأمر له بمائة ألف.

قال: ودخل عليه أعرابي، فقال: إني قد قلت فيك شعرا وأنا أستصغره فيك.

فقال: قل.

فأنشأ يقول:

تعرضت لي بالجود حتى نعشتني * وأعطيتني حتى ظننتك تلعب

فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى * حليف الندى ما للندى عنك مذهب

فقال: سل حاجتك.

قال: عليَّ خمسون ألف دينار.

فقال: قد أمرت لك بها وأضعفتها لك، فأعطاه مائة ألف.

قال أبو الطيب محمد بن إسحق بن يحيى الوساي: دخل أعرابي على خالد القسري فأنشده:

كتبت نعم ببابك فهي تدعو * إليك الناس مسفرة النقاب

وقلت للا عليك بباب غيري * فإنك لن تري أبدا ببابي

قال: فأعطاه على كل بيت خمسين ألفا.

وقد قال فيه ابن معين: كان رجل سوء يقع في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

وذكر الأصمعي، عن أبيه: أن خالدا حفر بئرا بمكة ادَّعى فضلها على زمزم، وله في رواية عنه: تفضيل الخليفة على الرسول، وهذا كفر إلا أن يريد بكلامه غير ما يبدو منه، والله أعلم.

والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيع، وقد أغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره.

وقد ذكر ابن جرير وابن عساكر وغيرهما أن الوليد بن يزيد كان قد عزم على الحج في إمارته فمن نيته أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، فلما بلغ ذلك جماعة من الأمراء اجتمعوا على قتله وتولية غيره من الجماعة، فحذر خالد أمير المؤمنين منهم، فسأله أن يسميهم فأبى عليه فعاقبه عقابا شديدا، ثم بعث به إلى يوسف بن عمر فعاقبه حتى مات شر قتلة وأسوئها، وذلك في محرم من هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائة -.

وذكره القاضي ابن خلكان في الوفيات، وقال: كان متهما في دينه، وقد بنى لأمه كنيسة في داره.

قال فيه بعض الشعراء وقال صاحب الأعيان: كان في نسبه يهود فانتموا إلى القرب، وكان يقرب من شق و سطيح.

قال القاضي بن خلكان: وقد كانا ابني خالة، وعاش كل منهما ستمائة، وولدا في يوم واحد، وذلك يوم ماتت طريفة بنت الحر بعد ما تفلت في فم كل منهما وقالت: إنه سيقوم مقامي في الكهانة، ثم ماتت من يومها.

وممن توفي في هذه السنة: جبلة بن سحيم، ودارج أبو السمح، وسعيد بن مسروق، في قول، وسليمان بن حبيب المحاربي، قاضي دمشق، وعبد الرحمن بن قاسم، شيخ مالك، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعمرو بن دينار، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

[عدل]

استهلت هذه السنة والخليفة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بوصية أخيه يزيد الناقص إليه، وبايعه الأمراء بذلك، وجميع أهل الشام إلا أهل حمص فلم يبايعوه.

وقد تقدم أن مروان بن محمد الملقب: بالحمار كان نائبا بأذربيجان وأرمينية، وتلك كانت لأبيه من قبله، وكان نقم على يزيد بن الوليد في قتله الوليد بن يزيد، وأقبل في طلب دم الوليد، فلما انتهى إلى حران أناب وبايع يزيد بن الوليد، فلم يلبث إلا قليلا حتى بلغه موته.

فأقبل في أهل الجزيرة حتى وصل قنسرين فحاصر أهلها فنزلوا على طاعته، ثم أقبل إلى حمص وعليها عبد العزيز بن الحجاج من جهة أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد فحاصرهم حتى يبايعوا لإبراهيم بن الوليد، وقد أصروا على عدم مبايعته، فلما بلغ عبد العزيز قرب مروان بن محمد ترحل عنها، وقدم مروان إليها فبايعوه وساروا معه قاصدين دمشق، ومعهم جند الجزيرة وجند قنسرين.

فتوجه مروان إلى دمشق في ثمانين ألفا، وقد بعث إبراهيم بن الوليد بن هشام بن عبد الملك في مائة وعشرين ألفا، فالتقى الجيشان عند عين الجر من البقاع، فدعاهم مروان إلى الكف عن القتال وأن يتخلوا عن ابني الوليد بن يزيد وهما الحكم وعثمان اللذان قد أخذ العهد لهما، وكان يزيد قد سجنهما بدمشق، فأبوا عليه ذلك، فاقتتلوا قتالا شديدا من حين ارتفاع النهار إلى العصر، وبعث مروان سرية تأتي جيش ابن هشام من ورائهم، فتم لهم ما أرادوه، وأقبلوا من ورائهم يكبرون، وحمل الآخرون من تلقاهم عليهم.

فكانت الهزيمة في أصحاب سليمان، فقتل منهم أهل حمص خلقا كثيرا، واستبيح عسكرهم، وكان مقدار ما قتل من أهل دمشق في ذلك اليوم قريبا من سبعة عشر ألفا أو ثمانية عشر ألفا وأسر منهم مثلهم، فأخذ عليهم مروان البيعة للغلامين ابني الوليد، الحكم وعثمان، وأطلقهم كلهم سوى رجلين، وهما: يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيان، فضربهما بين يديه بالسياط وحبسهما فماتا في السجن، لأنهما كانا ممن باشر قتل الوليد بن يزيد حين قتل.

وأما سليمان وبقية أصحابه فإنهم استمروا منهزمين، فما أصبح لهم الصبح إلا بدمشق، فأخبروا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد بما وقع، فاجتمع معهم رؤس الأمراء في ذلك الوقت وهم: عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وأبو علاقة السككي، والأصبغ بن ذؤالة الكلبي، ونظراؤهم، على أن يعمدوا إلى قتل ابني الوليد: الحكم وعثمان، خشية أن يلي الخلافة فيهلكا من عاداهما وقتل أباهما.

فبعثوا إليهما يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، فعمد إلى السجن وفيه الحكم وعثمان ابنا الوليد وقد بلغا، ويقال: ولد لأحدهما ولد فشدخها بالعمد، وقتل يوسف بن عمر - وكان مسجونا معهما - وكان في سجنهما أيضا أبو محمد السفياني فهرب فدخل في بيت داخل السجن وجعل وراء الباب ردما، فحاصروه فامتنع، فأتوا بنار ليحرقوا الباب.

ثم اشتغلوا عن ذلك بقدوم مروان بن محمد وأصحابه إلى دمشق في طلب المنهزمين.

ذكر دخول مروان الحمار دمشق وولايته الخلافة

[عدل]

لما أقبل مروان بمن معه من الجنود من عين الجر واقترب من دمشق وقد انهزم أهلها بين يديه بالأمس، هرب إبراهيم بن الوليد، وعمد سليمان بن هشام إلى بيت المال ففتحه وأنفق ما فيه على أصحابه ومن اتبعه من الجيوش، وسار موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه فيها، وانتهبوها ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان بن محمد دمشق فنزل في أعاليها، وأتي بالغلامين الحكم وعثمان وهما مقتولان وكذلك يوسف بن عمر فدفنوه.

وأتي بأبي محمد السفياني وهو في حبوله فسلم على مروان بالخلافة فقال مروان: مه.

فقال: إن هذين الغلامين جعلاها لك من بعدهما.

ثم أنشد قصيدة قالها الحكم في السجن وهي طويلة منها قوله:

ألا من مبلغ مروان عني * وعمي الغمر طال بذا حنينا

بأني قد ظلمت وصار قومي * على قتل الوليد متابعينا

فإن أهلك أنا وولي عهدي * فمروان أمير المؤمنينا

ثم قال أبو محمد السفياني لمروان: ابسط يدك.

فكان أول من بايعه بالخلافة، فمعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ثم بايعه رؤس أهل الشام من أهل دمشق وحمص وغيرهم، ثم قال لهم مروان: اختاروا أمراء نوليهم عليكم.

فاختار أهل كل بلد أميرا فولاه عليهم، فعلى دمشق: زامل بن عمرو الجبراني، وعلى حمص: عبد الله بن شجرة الكندي، وعلى الأردن: الوليد بن معاوية بن مروان، وعلى فلسطين: ثابت بن نعيم الجذامي.

ولما استوت الشام لمروان بن محمد رجع إلى حران وعند ذلك طلب منه إبراهيم بن الوليد الذي كان خليفة وابن عمه سليمان بن هشام الأمان فأمنهما، وقدم عليه سليمان بن هشام في أهل تدمر فبايعوه، ثم لما استقر مروان في حران أقام فيها ثلاثة أشهر فانتقض عليه ما كان انبرم له من مبايعة أهل الشام، فنقض أهل حمص وغيرهم، فأرسل إلى أهل حمص جيشا فوافوهم ليلة عيد الفطر من هذه السنة، وقدم مروان إليها بعد الفطر بيومين، فنازلها مروان في جنود كثيرة، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وهما عنده مكرمان خصيصان لا يجلس إلا بهما وقت الغداء والعشاء، فلما حاصر حمص نادوه إنا على طاعتك.

فقال: افتحوا باب البلد، ففتحوه.

ثم كان منهم بعض القتال فقتل منهم نحو الخمسمائة أو الستمائة، فأمر بهم فصلبوا حول البلد، وأمر بهدم بعض سورها.

وأما أهل دمشق فأما: أهل الغوطة فحاصروا أميرهم زامل بن عمر، وأمَّروا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت في المدينة نائبها، فبعث إليه أمير المؤمنين مروان من حمص عسكرا نحو عشرة آلاف، فلما اقتربوا من دمشق خرج النائب فيمن معه، والتقوا هم والعسكر بأهل الغوطة فهزموهم، وحرقوا المزة وقرى أخرى معها، واستجار يزيد بن خالد القسري وأبو علاقة الكلبي برجل من أهل المزة من لخم، فدل عليهم زامل بن عمرو فقتلهما وبعث برأسيهما إلى أمير المؤمنين مروان وهو بحمص.

وخرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين على الخليفة وأتوا طبرية فحاصروها، فبعث الخليفة إليهم جيشا فأجلوهم عنها واستباحوا عسكرهم، وفر ثابت بن نعيم هاربا إلى فلسطين فاتبعه الأمير أبو الورد فهزمه ثانية وتفرق عنه أصحابه، وأسر أبو الورد ثلاثة من أولاده فبعث بهم إلى الخليفة وهم جرحى فأمر بمداواتهم.

ثم كتب أمير المؤمنين إلى نائب فلسطين وهو الرماحس بن عبد العزيز الكناني يأمره بطلب ثابت بن نعيم حيث كان، فما زال يتلطف به حتى أخذه أسيرا، وذلك بعد شهرين، فبعثه إلى الخليفة وأمر بقطع يديه ورجليه، وكذلك جماعة كانوا معه، وبعث بهم إلى دمشق فأقيموا على باب مسجدها، لأن أهل دمشق كانوا قد أرجفوا بأن ثابت بن نعيم ذهب إلى ديار مصر فتغلب عليها وقتل نائب مروان فيها، فأرسل إليهم مقطع اليدين والرجلين ليعرفوا بطلان ما كانوا به أرجفوا.

وأقام الخليفة مروان بدير أيوب عليه السلام مدة حتى بايع لابنه عبد الله ثم عبيد الله وزوجهما ابنتي هشام، وهما: أم هشام وعائشة، وكان مجمعا حافلا وعقدا هائلا، ومبايعةً عامةً، ولكن لم تكن في نفس الأمر تامة.

وقدم الخليفة إلى دمشق، وأمر بثابت وأصحابه بعد ما كانوا تقطعوا أن يصلبوا على أبواب البلد، ولم يستبق منهم أحد إلا واحدا وهو: عمر بن الحارث الكلبي، وكان عنده فيما زعم علم بودايع كان ثابت بن نعيم أودعها عند أقوام.

واستوسق أمر الشام لمروان ماعدا تدمر، فسار من دمشق فنزل القسطل من أرض حمص، وبلغه أن أهل تدمر قد غوروا ما بينه وبينهم من المياه، فاشتد غضبه عليهم ومعه حجافل من الجيوش، فتكلم الأبرش بن الوليد وكانوا قومه فسأل منه أن يرسل إليهم أولا ليعذر إليهم.

فبعث عمرو بن الوليد أخا الأبرش، فلما قدم عليهم لم يلتفتوا إليه ولا سمعوا له قولا فرجع، فهمَّ الخليفة أن يبعث الجنود فسأله الأبرش أن يذهب إليهم بنفسه فأرسله، فلما قدم عليهم الأبرش كلمهم واستمالهم إلى السمع والطاعة، فأجابه أكثرهم وامتنع بعضهم، فكتب إلى الخليفة يعلمه بما وقع، فأمره الخليفة أن يهدم بعض سورها، وأن يقبل بمن أطاعه منهم إليه، ففعل.

فلما حضروا عنده سار بمن معه من الجنود نحو الرصافة على طريق البرية، ومعه من الرؤوس: إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وجماعة من ولد الوليد، ويزيد، وسليمان، فأقام بالرصافة أياما ثم شخص إلى البرية.

فاستأذنه سليمان بن هشام أن يقيم هناك أياما ليستريح ويجم ظهره فأذن له، فانحدر مروان فنزل عند واسط على شط الفرات فأقام ثلاثا، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها ليبعثه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الحروري، واشتغل مروان بهذا الأمر.

وأقبل عشرة آلاف فارس ممن كان مروان قد بعثهم في بعض السرايا، فاجتازوا بالرصافة وفيها سليمان بن هشام بن عبد الملك الذي كان استأذن الخليفة في المقام هناك للراحة، فدعوه إلى البيعة له وخلع مروان بن محمد ومحاربته، فاستزله الشيطان فأجابهم إلى ذلك، وخلع مروان وسار بالجيوش إلى قنسرين، وكاتب أهل الشام فانفضوا إليه من كل وجه.

وكتب سليمان إلى ابن هبيرة الذي جهزه مروان لقتال الضحاك بن قيس الخارجي يأمره بالمسير إليه، فالتفت إليه نحو من سبعين ألفا، وبعث مروان إليهم عيسى بن مسلم في نحو من سبعين ألفا، فالتقوا بأرض قنسرين فاقتتلوا قتالا شديدا، وجاء مروان والناس في الحرب فقاتلهم أشد قتال فهزمهم، وقتل يومئذ إبراهيم بن سليمان بن هشام، وكان أكبر ولده، وقتل منهم نيفا وثلاثين ألف.

وذهب سليمان مغلوبا فأتى حمص فالتف عليه من انهزم من الجيش فعسكر بهم فيها، وبنى ما كان مروان هدم من سورها.

فجاءهم مروان فحاصرهم بها ونصب عليهم نيفا وثمانين منجنيقا، فمكث كذلك ثمانية أشهر يرميهم ليلا ونهارا، ويخرجون إليه كل يوم ويقاتلون ثم يرجعون.

هذا وقد ذهب سليمان وطائفة من الجيش معه إلى تدمر وقد اعترضوا جيش مروان في الطريق وهموا بالفتك به وأن ينتهبوه فلم يمكنهم ذلك، وتهيأ مروان فقاتلهم فقتلوا من جيشه قريبا من ستة آلاف وهم تسعمائة، انصرفوا إلى تدمر، ولزم مروان محاصرة حمص كمال عشرة أشهر.

فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل، سألوه أن يؤمنهم فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم سألوه الأمان على أن يمكنوه من سعيد بن هشام، وابنيه مروان وعثمان ومن السكسكي الذي كان حبس معه، ومن حبشي كان يفتري عليه ويشتمه.

فأجابهم إلى ذلك فأمنهم وقتل أولئك، ثم سار إلى الضحاك، وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق قد صالح الضحاك الخارجي على ما بيده من الكوفة وأعمالها.

وجاءت خيول مروان قاصدة إلى الكوفة، فتلقاهم نائبها من جهة الضحاك - ملحان الشيباني - فقاتلهم فقتل ملحان، واستناب الضحاك عليها المثنى بن عمران من بني عائذة، وسار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل، وسار ابن هبيرة إلى الكوفة فانتزعها من أيدي الخوارج، وأرسل الضحاك جيشا إلى الكوفة فلم يجد شيئا.

وفي هذه السنة: خرج الضحاك بن قيس الشيباني، وكان سبب خروجه أن رجلا يقال له: سعيد بن بهدل - وكان خارجيا - اغتنم غفلة الناس واشتغالهم بمقتل الوليد بن يزيد، فثار في جماعة من الخوارج بالعراق، فالتف عليه أربعة آلاف - ولم تجتمع قبلها لخارجي - فقصدتهم الجيوش فاقتتلوا معهم، فتارة يكسرون وتارة يُكسرون.

ثم مات سعيد بن بهدل في طاعون أصابه، واستخلف على الخوارج من بعده الضحاك بن قيس هذا، فالتف أصحابه عليه، والتقى هو وجيش كثير فغلبت الخوارج وقتلوا خلقا كثيرا، منهم عاصم بن عمر بن عبد العزيز - أخو أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز - فرثاه بأشعار.

ثم قصد الضحاك بطائفة من أصحابه مروان فاجتاز الكوفة، فنهض إليه أهلها فكسرهم ودخل الكوفة فاستحوذ عليها، واستناب بها رجلا اسمه: حسان، ثم استناب ملحان الشيباني في شعبان من هذه السنة، وسار هو في طلب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق، فالتقوا فجرت بينهم حروب كثيرة يطول ذكرها وتفصيلها.

وفي هذه السنة: اجتمعت جماعة من الدعاة إلى بني العباس عند إبراهيم بن محمد الإمام ومعهم أبو مسلم الخراساني، فدفعوا إليه نفقات كثيرة، وأعطوه خمس أموالهم، ولم ينتظم لهم أمر في هذه السنة لكثرة الشرور المنتشرة، والفتن الواقعة بين الناس.

وفي هذه السنة: خرج بالكوفة معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدعا إلى نفسه، وخرج إلى محاربة أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فجرت بينهما حروب يطول ذكرها، ثم أجلاه عنها فلحق بالجبال فتغلب عليها.

وفي هذه السنة: خرج الحارث بن سريج الذي كان لحق ببلاد الترك ومالأهم على المسلمين فمنَّ الله عليه بالهداية ووفقه حتى خرج إلى بلاد الشام، وكان ذلك عن دعاء يزيد بن الوليد إلى الرجوع إلى الإسلام وأهله فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى خراسان فأكرمه نصر بن سيار نائب سورة، واستمر الحارث بن سريج على الدعوة إلى الكتاب والسنة وطاعة الإمام، وعنده بعض المناوأة لنصر بن سيار.

قال الواقدي وأبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز أمير الحجاز ومكة والمدينة والطائف، وأمير العراق نضر بن سعيد الحرشي، وقد خرج عليه الضحاك الحروري، وعبد الله بن عبد العزيز.

وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد خرج عليه الكرماني والحارث بن سريج.

وممن توفي هذه السنة: بكر بن الأشج، وسعد بن إبراهيم، وعبد الله بن دينار، وعبد الملك بن مالك الجزري، وعمير بن هانئ، ومالك بن دينار، ووهب بن كيسان، وأبو إسحاق السبيعي.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

[عدل]

فيها: كان مقتل الحارث بن سريج، وكان سبب ذلك أن يزيد بن الوليد الناقص كان قد كتب إليه كتاب أمان، حتى خرج من بلاد الترك وصار إلى المسلمين ورجع عن موالاة المشركين إلى نصرة الإسلام وأهله.

وأنه وقع بينه وبين نصر بن سيار نائب خراسان وحشة ومنافسات كثيرة يطول ذكرها، فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد استوحش الحارث بن سريج من ذلك.

وتولى ابن هبيرة نيابة العراق، وجاءت البيعة لمروان، فامتنع الحارث من قبولها وتكلم في مروان، وجاءه مسلمة بن أحوز أمير الشرطة، وجماعة من رؤس الأجناد والأمراء، وطلبوا منه أن يكف لسانه ويده، وأن لا يفرق جماعة المسلمين، فأبى وبرز ناحية عن الناس، ودعا نصر بن سيار إلى ما هو عليه من الدعوة إلى الكتاب والسنة فامتنع نصر من موافقته، واستمر هو على خروجه على الإسلام.

وأمر الجهم بن صفوان مولى بني راسب ويكنى: بأبي محرز - وهو الذي نسبت إليه الفرقة الجهمية - أن يقرأ كتابا فيه سيرة الحارث على الناس، وكان الحارث يقول: أنا صاحب الرايات السود.

فبعث إليه نصر يقول: لئن كنت ذاك فلعمري إنكم الذين تخربون سور دمشق وتزيلون بني أمية، فخذ مني خمسمائة رأس ومائة بعير، وإن كنت غيره فقد أهلكت عشيرتك.

فبعث إليه الحارث يقول: لعمري إن هذا لكائن.

فقال له نصر: فابدأ بالكرماني أولا، ثم سر إلى الري، وأنا في طاعتك إذا وصلتها.

ثم تناظر نصر والحارث ورضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان والجهم بن صفوان، فحكما أن يعزل نصر ويكون الأمر شورى.

فامتنع نصر من قبول ذلك، ولزم الجهم بن صفوان وغيره قراءة سيرة الحارث على الناس في الجامع والطرق، فاستجاب له خلق كثير وجمع غفير، فعند ذلك انتدب لقتاله جماعات من الجيوش عن أمر نصر بن سيار، فقصدوه فحارب دونه أصحابه، فقتل منهم طائفة كثيرة منهم الجهم بن صفوان طعنه رجل في فيه فقتله، ويقال: بل أسر الجهم فأوقف بين يدي سلم بن أحوز فأمر بقتله، فقال: إن لي أمانا من أبيك.

فقال: ما كان له أن يؤمنك، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم، ما نجوت، والله ولو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك.

وأمر ابن ميسر فقتله.

ثم اتفق الحارث بن سريج والكرماني على نصر ومخالفته، والدعوة إلى الكتاب والسنة واتباع أئمة الهدى وتحريم المنكرات إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة، ثم اختلفا فيما بينهما واقتتلا قتالا شديدا، فغلب الكرماني وانهزم أصحاب الحارث.

وكان راكبا على بغل فتحول إلى فرس فحرنت أن تمشي، وهرب عنه أصحابه ولم يبق معه منهم سوى مائة، فأدركه أصحاب الكرماني فقتلوه تحت شجرة زيتون، وقيل: تحت شجرة عبيرا.

وذلك يوم الأحد لست بقين من رجب من هذه السنة، وقتل معه مائة من أصحابه، واحتاط الكرماني على حواصله وأمواله، وأخذ أموال من خرج معه أيضا، وأمر بصلب الحارث بلا رأس على باب مرو، ولما بلغ نصر بن سيار مقتل الحارث قال في ذلك:

يا مدخل الذل على قومه * بعدا وسحقا لك من هالك

شؤمك أردى مضرا كلها * وغض من قومك بالحارك

ما كانت الأزد وأشياعها * تطمع في عمر ولا مالك

ولا بني سعد إذ ألجموا * كلَّ طمرٍّ لونه حالك

وقد أجابه عباد بن الحارث بن سريج فيما قال:

ألا يا نصر قد برح الخفاء * وقد طال التمني والرجاء

وأصبحت المزون بأرض مرو * تقضي في الحكومة ما تشاء

يجوز قضاؤها في كل حكم * على مضر وإن جار القضاء

وحمير في مجالسها قعود * ترقرق في رقابهم الدماء

فإن مضر بذا رضيت وذلت * فطال لها المذلة والشقاء

وإن هي أعتبت فيها وإلا * فخل على عساكرها العفاء

وفي هذه السنة: بعث إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم الخراساني إلى خراسان، وكتب معه كتبا إلى شيعتهم بها: إن هذا أبا مسلم فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان.

فلما قدم أبو مسلم خراسان وقرأ على أصحابه هذا الكتاب، لم يلتفتوا إليه ولم يعملوا به وأعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم، فرجع إلى إبراهيم بن محمد أيام الموسم، فاشتكاهم إليه وأخبره بما قابلوه من المخالفة، فقال له: يا عبد الرحمن ! إنك رجل منا أهل البيت، ارجع إليهم وعليك بهذا الحي من اليمن فأكرمهم وانزل بين أظهرهم فإن الله لا يتمم هذا الأمر إلا بهم.

ثم حذره من بقية الأحياء وقال له: إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لسانا عربيا فافعل، ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار واتهمته فاقتله، وعليك بذاك الشيخ فلا تقصه - يعني: سليمان بن كثير -.

وسيأتي ما كان من أمر أبي مسلم الخراساني فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة: قتل الضحاك بن قيس الخارجي في قول أبي مخنف، وكان سبب ذلك أن الضحاك حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط ووافقه على محاصرته منصور بن جمهور، فكتب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إليه: إنه لا فائدة لك في محاصرتي ولكن عليك بمروان بن محمد فسر إليه، فإن قتلته اتبعتك.

فاصطلحا على مخالفة مروان بن محمد أمير المؤمنين، فلما اجتاز الضحاك بالموصل كاتبه أهلها فمال إليهم فدخلها، وقتل نائبها واستحوذ عليها، وبلغ ذلك مروان وهو محاصر حمص، ومشغول بأهلها وعدم مبايعتهم إياه، فكتب إلى ابنه عبد الله بن مروان - وكان الضحاك قد التف عليه مائة ألف وعشرون ألفا، فحاصروا نصيبين - وساق مروان في طلبه فالتقيا هنالك، فاقتتلا قتالا شديدا فقتل الضحاك في المعركة وحجز الليل بين الفريقين، وفقد أصحاب الضحاك الضحاك وشكوا في أمره حتى أخبرهم من رآه قد قتل، فبكوا عليه وناحوا.

وجاء الخبر إلى مروان فبعث إلى المعركة بالمشاعل ومن يعرف مكانه بين القتلى، وجاء الخبر إلى مروان وهو مقتول، وفي رأسه ووجهه نحو عشرين ضربة، فأمروا برأسه فطيف به في مدائن الجزيرة.

واستخلف الضحاك على جيشه من بعده رجلا يقال له: الخبيري، فالتف عليه بقية جيش الضحاك، والتف مع الخبيري سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهل بيته ومواليه، والجيش الذي كانوا قد بايعوه في السنة الماضية على الخلافة، وخلعوا مروان بن محمد عن الخلافة لأجله، فلما أصبحوا اقتتلوا مع مروان، فحمل الخبيري في أربعمائة من شجعان أصحابه على مروان، وهو في القلب، فكرَّ منهزما واتبعوه حتى أخرجوه من الجيش، ودخلوا عسكره وجلس الخبيري على فرشه.

هذا وميمنة مروان ثابتة وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضا ثابتة وعليها إسحق بن مسلم العقيلي.

ولما رأى عبد الله العسكر فارِّين مع الخبيري، وأن الميمنة والميسرة من جهتهم باقيتان، طمعوا فيه فأقبلوا إليه بعمد الخيام فقتلوه بها، وبلغ قتله مروان وقد سار عن الجيش نحوا من خمسة أميال أو ستة، فرجع مسرورا وانهزم أصحاب الضحاك، وقد ولوا عليهم شيبان، فقصدهم مروان بعد ذلك بمكان يقال له: الكراديس فهزمهم.

وفيها: بعث مروان الحمار على إمارة العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ليقاتل من بها من الخوارج.

وفي هذه السنة: حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب المدينة ومكة والطائف، وأمير العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار.

وممن توفي في هذه السنة: بكرة بن سوادة، وجابر الجعفي، والجهم بن صفوان مقتولا كما تقدم، والحارث بن سريج أحد كبراء الأمراء، وقد تقدم شيء من ترجمته، وعاصم بن عبدلة، وأبو حصين عثمان بن عاصم، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو التياح يزيد بن حميد، وأبو حمزة النعنبعي، وأبو الزبير المكي، وأبو عمران الجوني، وأبو قبيل المغافري، وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

[عدل]

فيها: اجتمعت الخوارج بعد الخبيري على شيبان بن عبد العزيز بن الحليس اليشكري الخارجي، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن يتحصنوا بالموصل ويجعلوها منزلا لهم، فتحولوا إليها وتبعهم مروان بن محمد أمير المؤمنين، فعسكروا بظاهرها وخندقوا عليهم مما يلي جيش مروان.

وقد خندق مروان على جيشه أيضا من ناحيتهم، وأقام سنة يحاصرهم ويقتتلون في كل يوم بكرة وعشية، وظفر مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، وهو: أمية بن معاوية بن هشام، أسر بعض جيشه فأمر به فقطعت يداه ثم ضرب عنقه، وعمه سليمان والجيش ينظرون إليه، وكتب مروان إلى نائبه بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بقتال الخوارج الذين في بلاده.

فجرت له معهم وقعات عديدة، فظفر بهم ابن هبيرة، وأباد خضراءهم، ولم يبق لهم بقية بالعراق، واستنقذ الكوفة من أيدي الخوارج وكان عليها المثنى بن عمران العائذي - عائذة قريش - في رمضان من هذه السنة، وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما فرغ من الخوارج أن يمده بعمار بن صبارة - وكان من الشجعان - فبعثه إليه في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فأرسلت إليه سرية في أربعة آلاف فاعترضوه في الطريق فهزمهم ابن صبارة وقتل أميرهم الجون بن كلاب الشيباني الخارجي، وأقبل نحو الموصل، ورجع فل الخوارج إليهم.

فأشار سليمان بن هشام عليهم أن يرتحلوا عن الموصل، فإنه لم يكن يمكنهم الإقامة بها، ومروان من أمامهم وابن صبارة من ورائهم، وقد قطع عنهم الميرة حتى يجدوا شيئا يأكلونه، فارتحلوا عنها وساروا على حلوان إلى الأهواز، فأرسل مروان ابن صبارة في آثارهم في ثلاثة ألف، فأتبعهم يقتل من تخلف منهم ويلحقهم في مواطن فيقاتلهم، ومازال وراءهم حتى فرق شملهم شذر مذر، وهلك أميرهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري بالأهواز في السنة القابلة، قتله خالد بن مسعود بن جعفر بن خيلد الأزدي، وركب سليمان بن هشام في مواليه وأهل بيته السفن، وساروا إلى السند، ورجع مروان من الموصل فأقام بمنزله بحران وقد وجد سرورا بزوال الخوارج ولكن لم يتم سروره، بل أعقبه القدر من هو أقوى شوكة وأعظم اتباعا، وأشد بأسا من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخرساني الداعية إلى دولة بني عباس.

أول ظهور أبي مسلم الخراساني

[عدل]

وفي هذه السنة: رد كتاب إبراهيم بن محمد الإمام العباسي بطلب أبي مسلم الخراساني من خراسان، فسار إليه في سبعين من النقباء لا يمرون ببلد إلا سألوهم: إلى أين تذهبون ؟

فيقول أبو مسلم: نريد الحج.

وإذا توسم أبو مسلم من بعضهم ميلا إليهم دعاهم إلى ما هم فيه فيجيبه إلى ذلك، فلما كان ببعض الطريق جاء كتاب ثان من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم: إني بعثت إليك براية النصر فارجع إلى خراسان وأظهر الدعوة، وأمر قحطبة بن شيب أن يسير بما معه من الأموال والتحف إلى إبراهيم الإمام فيوافيه في الموسم.

فرجع أبو مسلم بالكتاب فدخل خراسان في أول يوم من رمضان فرفع الكتاب إلى سليمان بن كثير وفيه: أن أظهر دعوتك ولا تتربص.

فقدموا عليهم أبا مسلم الخراساني داعيا إلى بني العباس، فبعث أبو مسلم دعاته في بلاد خراسان، وأمير خراسان - نصر بن سيار - مشغول بقتال الكرماني، وشيبان بن سلمة الحروري، وقد بلغ من أمره أنه كان يسلم عليه أصحابه بالخلافة في طوائف كثيرة من الخوارج، فظهر أمر أبي مسلم وقصده الناس من كل جانب، فكان ممن قصده في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام هناك اثنين وأربعين يوما ففتحت على يديه أقاليم كثيرة.

ولما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان في هذه السنة: عقد أبو مسلم اللواء الذي بعثه إليه الإمام، ويدعى: الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام أيضا، وتدعى: السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39] .

ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير ومن أجابهم إلى الدعوة السواد، وصارت شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة نارا عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا.

ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب: أن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الأرض، ومعنى تسمية الأخرى بالظل: أن الأرض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم.

وأقبل الناس إلى أبي مسلم من كل جانب، وكثر جيشه.

ولما كان يوم عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي بالناس، ونصب له منبرا، وأن يخالف في ذلك بني أمية، ويعمل بالسنة، فنودي للصلاة: الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم خلافا لهم، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكبر ستا في الأولى قبل القراءة لا أربعا، وخمسا في الثانية لا ثلاثا خلافا لهم.

وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة، وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعدَّ لهم أبو مسلم طعاما فوضعه بين يدي الناس، وكتب إلى نصر بن سيار كتابا بدأ فيه بنفسه ثم قال:

إلى نصر بن سيار. بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإن الله عيَّر أقواما في كتابه فقال: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ } إلى قوله { تَحْوِيلا } [فاطر: 42-43] .

فعظم على نصر أن قدَّم اسمه على اسمه، وأطال الفكر، وقال: هذا كتاب له جواب.

قال ابن جرير: ثم بعث نصر بن سيار خيلا عظيمةً لمحاربة أبي مسلم، وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهرا، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا فدعاهم مالك إلى الرضا عن آل رسول الله فأبوا ذلك فتصافَّوا من أول النهار إلى العصر، فجاء إلى مالك مدد فقوي فظفر بهم مالك، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه جند بني العباس وجند بني أمية.

وفي هذه السنة: غلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ، وقتل عاملها من جهة نصر بن سيار، وهو: بشر بن جعفر السعدي، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم، وكان أبو مسلم إذ ذاك شابا حدثا قد اختاره إبراهيم لدعوتهم، وذلك لشهامته وصرامته وقوة فهمه وجودة ذهنه، وأصله من سواد الكوفة، وكان مولى لإدريس بن معقل العجلي، فاشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أخذه محمد بن علي ثم آل ولاؤه لآل العباس، وزوجه إبراهيم الإمام بابنة أبي النجم إسماعيل بن عمران، وأصدقها عنه، وكتب إلى دعاتهم بخراسان والعراق أن يسمعوا منه، فامتثلوا أمره، وقد كانوا في السنة الماضية قبل هذه السنة ردوا عليه أمره لصغره فيهم، فلما كانت هذه السنة أكَّد الإمام كتابه إليهم في الوصاة به وطاعته، وكان في ذلك الخير له ولهم، { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرا مَقْدُورا } [الأحزاب: 38] .

ولما فشا أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره الكرماني وشيبان لأنهما خرجا على نصر وأبو مسلم مخالف لنصر كحالهما، وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان الحمار، وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم، أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتل أبا مسلم عادا إلى عداوتهما، فأجابه إلى ذلك، فبلغ ذلك أبا مسلم فبعث إلى الكرماني يعلمه بذلك فلام الكرماني شيبان على ذلك، وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هراة النضر بن نعيم، فأخذها من عاملها عيسى بن عقيل الليثي، وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هاربا، ثم إن شيبان وادع نصر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه، وذلك عن كره من الكرماني، فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم: أني معك على قتال نصر.

وركب أبو مسلم في خدمة الكرماني، فاتفقا على حرب نصر ومخالفته.

وتحول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه، واستعمل على الحرس والشرط والرسائل والديوان وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك عمالا.

وجعل القاسم بن مجاشع التميمي - وكان أحد النقباء - على القضاء وكان يصلي بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعض القصص فيذكر محاسن بني هاشم ويذم بني أمية، ثم تحول أبو مسلم إلى قرية يقال لها: بالين، وكان في مكان منخفض، فخشي أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، وذلك في سادس ذي الحجة من هذه السنة، وصلى بهم يوم النحر القاضي القاسم بن مجاشع.

وصار نصر بن سيار في جحافل كالسحاب قاصدا قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نوابا وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية.

مقتل ابن الكرماني

[عدل]

ونشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين ابن الكرماني - وهو: جديع بن علي الكرماني - فقتل بينهما من الفريقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يكاتب كلا من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى ابن الكرماني: إن الإمام قد أوصاني بكم خيرا ولست أعدو رأيه فيكم.

وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس فاستجاب له خلق كثير وجم غفير، وأقبل أبو مسلم فنزل بين خندق نصر وخندق ابن الكرماني، فهابه الفريقان جميعا، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه بأمر أبي مسلم وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب في جملة كتابه:

أرى بين الرماد وميض جمر * وأحرى أن يكون له ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب مبدؤها الكلام

فقلت من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فكتب إليه مروان: الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.

فقال نصر: إن صاحبكم قد أخبركم أن لا نصر عنده.

وبعضهم يرويها بلفظ آخر:

أرى خلل الرماد وميض نار * فيوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب أولها كلام

فإن لم يطفها عقلاء قوم * يكون وقودها جثث وهام

أقول من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فإن كانوا لحينهم نياما * فقل قوموا فقد حان القيام

قال ابن خلكان: وهذا كما قال بعض علوية الكوفة حين خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن على المنصور أخي السفاح:

أرى نارا تشب على بقاع * لها في كل ناحية شعاع

وقد رقدت بنو العباس عنها * وباتت وهي آمنة رتاع

كما رقدت أمية ثم هبت * تدافع حين لا يغني الدفاع

وكتب نصر بن سيار أيضا إلى نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده وكتب إليه:

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه * وقد تحققت أن لا خير في الكذب

بأن أرض خراسان رأيت بها * بيضا إذا أفرخت حُدثتَ بالعجب

فراخ عامين إلا أنها كبرت * ولم يطرن وقد سربلن بالزغب

فإن يطرن ولم يحتل لهن بها * يلهبن نيران حرب أيما لهيب

فبعث ابن هبيرة بكتاب نصر إلى مروان، واتفق في وصول الكتاب إليه، أن وجدوا رسولا من جهة إبراهيم الإمام ومعه كتاب منه إلى أبي مسلم، وهو يشتمه فيه ويسبه، ويأمره أن يناهض نصر بن سيار وابن الكرماني، ولا يترك هناك من يحسن العربية.

فعند ذلك بعث مروان وهو مقيم بحران كتابا إلى نائبه بدمشق وهو الوليد بن معاوية بن عبد الملك، يأمر فيه أن يذهب إلى الحميمة، وهي البلدة التي فيها إبراهيم بن محمد الإمام، فيقيده ويرسله إليه.

فبعث نائب دمشق إلى نائب البلقاء فذهب إلى مسجد البلدة المذكورة فوجد إبراهيم الإمام جالسا فقيده وأرسل به إلى دمشق، فبعثه نائب دمشق من فوره إلى مروان، فأمر به فسجن ثم قتل كما سيأتي.

وأما أبو مسلم فإنه لما توسط بين جيش نصر وابن الكرماني، كاتب ابن الكرماني: إني معك.

فمال إليه، فكتب إليه نصر: ويحك ! لا تغتر فإنه إنما يريد قتلك وقتل أصحابك، فهلم حتى نكتب كتابا بيننا بالموادعة، فدخل ابن الكرماني داره ثم خرج إلى الرحبة في مائة فارس، وبعث إلى نصر: هلم حتى نتكاتب.

فأبصر نصر غرة من ابن الكرماني فنهض إليه في خلق كثير، فحملوا عليه فقتلوه وقتلوا من جماعته جماعة، وقتل ابن الكرماني في المعركة، طعنه رجل في خاصرته فخرَّ عن دابته، ثم أمر نصر بصلبه وصلب معه جماعة، وصلب معه سمكة، وانضاف ولده إلى أبي مسلم الخراساني ومعه طوائف من الناس من أصحاب ابن الكرماني، فصاروا كتفا واحدا على نصر.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: تغلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على فارس وكورها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، بعد حرب يطول ذكرها، ثم التقى عامر بن ضبارة معه باصطخر فهزمه ابن ضبارة وأسر من أصحابه أربعين ألفا.

فكان منهم: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فنسبه ابن ضبارة وقال له: ما جاء بك مع ابن معاوية وقد علمت خلافة لأمير المؤمنين ؟

فقال: كان عليَّ دين فأتيته فيه.

فقام إليه حرب بن قطن بن وهب الهلالي فاستوهبه منه وقال: هو ابن أختنا فوهبه له.

وقال: ما كنت لأقدم على رجل من قريش.

ثم استعلم ابن ضبارة منه أخبار ابن معاوية فذمه ورماه هو وأصحابه باللواط، وجيء من الأسارى بمائة غلام عليهم الثياب المصبغة، وقد كان يعمل معهم الفاحشة، وحمل ابن ضبارة عبد الله بن علي على البريد لابن هبيرة ليخبره بما أخبر به ابن ضبارة عن ابن معاوية.

وقد كتب الله عز وجل أن زوال ملك بني أمية يكون على يدي هذا الرجل، وهو: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا يشعر واحد منهم بذلك.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: ولي الموسم أبو حمزة الخارجي فأظهر التحكم والمخالفة لمروان، وتبرأ منه.

فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ أمير مكة والمدينة والطائف، وإليه أمر الحجيج في هذه السنة، ثم صالحهم على الأمان إلى يوم النفر، فوقفوا على حدة بين الناس بعرفات ثم تحيزوا عنهم، فلما كان يوم النفر الأول تعجل عبد الواحد وترك مكة فدخلها الخارجي بغير قتال، فقال بعض الشعراء في ذلك:

زار الحجيج عصابة قد خالفوا * دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الحلائل والإمارة هاربا * ومضى يخبط كالبعير الشارد

لو كان والده تنصَّل عرقه * لصفت موارده بعرق الوارد

ولما رجع عبد الواحد إلى المدينة شرع في تجهيز السرايا إلى قتال الخارجي، وبذل النفقات وزاد في أعطية الأجناد، وسيرهم سريعا.

وكان أمير العراق يزيد بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد استحوذ على بعض بلاده أبو مسلم الخراساني.

ممن توفي فيها من الأعيان: سالم أبو النضر، وعلي بن زيد بن جدعان، في قول، ويحيى بن أبي كثير.

وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل، ولله الحمد.

سنة ثلاثين ومائة

[عدل]

في يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأول منها: دخل أبو مسلم الخرساني مرو ونزل دار الإمارة بها، وأنتزعها من يد نصر بن سيار، وذلك بمساعدة علي بن الكرماني، وهرب نصر بن سيار في شرذمة قليلة من الناس، نحو من ثلاثة آلاف، ومعه امرأته المرزبانة، حتى لحق سرخس وترك امرأته وراءه، ونجا بنفسه، واستفحل أمر أبي مسلم جدا، والتفت عليه العساكر.

مقتل شيبان بن سلمة الحروري

[عدل]

ولما هرب نصر بن سيار بقي شيبان وكان ممالئا له على أبي مسلم، فبعث إليه أبو مسلم رسلا فحبسهم، فأرسل أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث يأمره أن يركب إلى شيبان فيقاتله، فسار إليه فاقتتلا فهزمه بسام فقتله واتبع أصحابه يقتلهم ويأسرهم، ثم قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابني الكرماني، ثم وجه أبو مسلم أبا داود إلى بلخ فأخذها من زياد بن عبد الرحمن القشيري، وأخذ منهم أموالا جزيلةً.

ثم إن أبا مسلم اتفق مع أبي داود على قتل عثمان بن الكرماني في يوم كذا، وفي ذلك اليوم بعينه يقتل أبو مسلم علي بن جديع الكرماني، فوقع ذلك كذلك.

وفي هذه السنة: وجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب إلى نيسابور لقتال نصر بن سيار، ومع قحطبة جماعة من كبار الأمراء، منهم خالد بن برمك.

فالتقوا مع تميم بن نصر بن سيار وقد وجهه أبوه لقتالهم بطوس، فقتل قحطبة من أصحاب نصر نحوا من سبعة عشر ألفا في المعركة، وقد كان أبو مسلم بعث إلى قحطبة مددا نحو عشرة آلاف فارس، عليهم علي بن معقل، فاقتتلوا فقتلوا من أصحاب نصر خلقا كثيرا، وقتلوا تميم بن نصر، وغنموا أموالا جزيلةً جدا، ثم إن يزيد بن عمر بن هبيرة نائب مروان على العراق بعث سرية مددا لنصر بن سيار، فالتقى معهم قحطبة في مستهل ذي الحجة، وذلك يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم جند بني أمية، وقتل من أهل الشام وغيرهم عشرة آلاف، منهم: نباتة بن حنظلة عامل جرجان، فبعث قحطبة برأسه إلى أبي مسلم.

ذكر دخول أبي حمزة الخارجي المدينة النبوية واستلائه عليها

[عدل]

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: كانت وقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي الذي كان عام أول في أيام الموسم، فقتل من أهل المدينة من قريش خلقا كثيرا، ثم دخل المدينة وهرب نائبها عبد الواحد بن سليمان، فقتل الخارجي من أهلها خلقا، وذلك لتسع عشرة ليلة خلت من صفر من هذه السنة، ثم خطب على منبر رسول الله ، فوبخ أهل المدينة، فقال: يا أهل المدينة إني مررت بكم أيام الأحول - يعني: هشام بن عبد الملك - وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فكتبتم إليه تسألونه أن يضع الخرص عنكم فوضعه، فزاد غنيكم غنا وزاد فقيركم فقرا، فكتبتم إليه جزاك الله خيرا، فلا جزاه الله خيرا. في كلام طويل.

فأقام عندهم ثلاثة أشهر بقية صفر وشهري ربيع وبعض جمادى الأول فيما قال الواقدي وغيره.

وقد روى المدائني أن أبا حمزة رقى يوما منبر رسول الله ثم قال: تعلمون يا أهل المدينة ! أنا لم نخرج من بلادنا بطرا ولا أشرا، ولا لدولة نريد أن نخوض فيها النار، وإنما أخرجنا من ديارنا أنا رأينا مصابيح الحق طمست، وضعف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، فلما رأينا ذلك ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله { وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ } [الأحقاف: 32] ، أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله بنعمة الله إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بني مروان، فشتان لعمر الله بين الغي والرشد، ثم أقبلوا نحونا يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنه فاتبعوه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون.

وأنتم يا أهل المدينة ! إن تنصروا مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدنا، ويشف صدور قوم مؤمنين.

يا أهل المدينة ! أولكم خير أول، وآخركم شر آخر.

يا أهل المدينة ! الناس منا ونحن منهم، إلا مشركا عابد وثن أو كافرا أهل كتاب، أو إماما جائرا.

يا أهل المدينة ! من زعم أن الله يكلف نفسا فوق طاقتها، أو يسألها ما لم يؤتها، فهو لله عدو، وأنا له حرب.

يا أهل المدينة ! أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها لنفسه، مكابرا محاربا لربه.

يا أهل المدينة ! بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة أجلاف، ويحكم ! فهل كان أصحاب رسول الله إلا شبابا أحداثا شبابا، شبابا والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن السعي في الباطل أقدامهم، قد باعوا لله أنفسا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة.

فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت، وإلى الرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا والله وعيد الكتيبة لوعيد الله في القرآن، ولم يستخفوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب، فكم من عين في مناقير الطير طال ما فاضت في جوف الليل من خشية الله، وطال ما بكت خالية من خوف الله، وكم من يد زالت عن مفصلها طال ما ضربت في سبيل الله وجاهدت أعداء الله، وطال ما اعتمد بها صاحبها في طاعة الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيري، وما توفيقي إلا بالله.

ثم روى المدائني، عن العباس، عن هارون، عن جده، قال: كان أبو حمزة الخارجي قد أحسن السيرة في أهل المدينة، فمالوا إليه حتى سمعوه يقول: برح الخفا أين عن بابك نذهب ؟

ثم قال: من زنا فهو كافر، ومن سرق فهو كافر.

فعند ذلك أبغضوه ورجعوا عن محبته.

وأقام بالمدينة حتى بعث مروان الحمار عبد الملك بن محمد بن عطية أحد بني سعد في خيل أهل الشام أربعة آلاف، قد أنتخبها مروان من جيشه، وأعطى كل رجل منهم مائة دينار وفرسا عربيةً، وبغلا لثقله، وأمره أن يقاتله ولا يرجع عنه، ولو لم يلحقه إلا باليمن فليتبعه إليها، وليقاتل نائب صنعاء عبد الله بن يحيى.

فسار ابن عطية حتى بلغ وادي القرى فتلقاه أبو حمزة الخارجي قاصدا قتال مروان بالشام فاقتتلوا هنالك إلى الليل، فقال له: ويحك يا ابن عطية ! إن الله قد جعل الليل سكنا فأخِّر إلى غد.

فأبى عليه أن يقلع عن قتاله، فما زال يقاتلهم حتى كسرهم فولوا ورجع فلهم إلى المدينة، فنهض إليهم أهل المدينة فقتلوا منهم خلقا كثيرا، ودخل ابن عطية المدينة، وقد انهزم جيش أبي حمزة عنها، فيقال: إنه أقام بها شهرا ثم استخلف عليها، ثم استخلف على مكة وسار إلى اليمن فخرج إليه عبد الله بن يحيى نائب صنعاء، فاقتتلا فقتله ابن عطية وبعث برأسه إلى مروان.

وجاء كتاب مروان إليه يأمره بإقامة الحج للناس في هذه السنة، ويستعجله في المسير إلى مكة.

فخرج من صنعاء في اثني عشر راكبا، وترك جيشه بصنعاء، ومعه خرجٌ فيه أربعون ألف دينار، فلما كان ببعض الطريق نزل منزلا إذ أقبل إليه أميران يقال لهما: ابنا جمانة من سادات تلك الناحية، فقالوا: ويحكم ! أنتم لصوص.

فقال: أنا ابن عطية وهذا كتاب أمير المؤمنين إلي بأمرة الحج، فنحن نعجل السير لندرك الموسم.

فقالوا: هذا باطل.

ثم حملوا عليهم فقتلوا ابن عطية وأصحابه ولم يفلت منهم إلا رجلٌ واحدٌ، وأخذوا ما معهم من المال.

قال أبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة: محمد بن عبد الملك بن مروان، وقد جعلت إليه إمرة المدينة ومكة والطائف، ونائب العراق ابن هبيرة، وإمرة خراسان إلى نصر بن سيار، غير أن أبا مسلم قد استحوذ على مدن وقرى كثيرة من خراسان، وقد أرسل نصر إلى ابن هبيرة يستمده بعشرة آلاف قبل أن لا يكفيه مائة ألف، وكتب أيضا إلى مروان يستمده، فكتب مروان إلى ابن هبيرة يمده بما أراد.

وممن توفي فيها من الأعيان: شعيب بن الحبحاب، وعبد العزيز بن صهيب، وعبد العزيز بن رفيع، وكعب بن علقمة، ومحمد بن المكندر، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة

[عدل]

في المحرم منها: وجَّه قحطبة بن شبيب ولده الحسن إلى قوميس لقتال نصر بن سيار، وأردفه بالأمداد، فخامر بعضهم إلى نصر ارتحل نصر فنزل الري، فأقام بها يومين ثم مرض فسار منها إلى همدان.

فلما كان بساوه قريبا من همدان توفي لمضي ثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة، عن خمس وثمانين سنة.

فلما مات نصر تمكن أبو مسلم وأصحابه من بلاد خراسان، وقويت شوكتهم جدا، وسار قحطبة من جرجان، وقدَّم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان قد ندم على اتباع أبي مسلم، فترك الجيش وأخذ جماعة معه وسلك طريق أصبهان ليأتي ابن ضبارة، فبعث قحطبة وراءه جيشا فقتلوا عامة أصحابه، وأقبل قحطبة وراءه فقدم قومس وقد افتتحها ابنه الحسن فأقام بها، وبعث ابنه بين يديه إلى الري، ثم ساق وراءه فوجده قد افتتحها، فأقام بها وكتب إلى أبي مسلم بذلك.

وارتحل أبو مسلم من مرو فنزل نيسابور واستفحل أمره، وبعث قحطبة بعد دخوله الري ابنه الحسن بين يديه إلى همدان، فلما اقترب منها خرج منها مالك بن أدهم وجماعة من أجناد الشام وخراسان، فنزلوا نهاوند، فافتتح الحسن همدان ثم سار وراءهم إلى نهاوند، وبعث إليه أبوه بالأمداد فحاصرهم حتى افتتحها.

وفي هذه السنة: مات عامر بن ضبارة، وكان سبب ذلك أن ابن هبيرة كتب إليه أن يسير إلى قحطبة وأمده بالعساكر، فسار ابن ضبارة حتى التقى مع قحطبة في عشرين ألفا، فلما تواجه الفريقان رفع قحطبة وأصحابه المصاحف ونادى المنادي: يا أهل الشام ! إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف.

فشتموا المنادي وشتموا قحطبة، فأمر قحطبة أصحابه أن يحملوا عليهم، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزم أصحاب ابن ضبارة، واتبعهم أصحاب قحطبة فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقتلوا ابن ضبارة في العسكر لشجاعته فإنه لم يولي، وأخذوا من عسكرهم ما لا يحد ولا يوصف.

وفيها: حاصر قحطبة نهاوند حصارا شديدا حتى سأله أهل الشام الذين بها أن يمهل أهلها حتى يفتحوا له الباب، ففتحوا له الباب وأخذوا لهم منه أمانا، فقال لهم من بها من أهل خراسان: ما فعلتم ؟

فقالوا: أخذنا لنا ولكم أمانا.

فخرجوا ظانين أنهم في أمان، فقال قحطبة للأمراء الذين معه: كل من حصل عنده أسير من الخراسانين فليضرب عنقه وليأتنا برأسه.

ففعلوا ذلك ولم يبق ممن كان هرب من أبي مسلم أحد، وأطلق الشاميين وأوفى لهم عهدهم وأخذ عليهم الميثاق أن لا يمالئوا عليه عدوا.

ثم بعث قحطبة أبا عون إلى شهر زور، عن أمر أبي مسلم في ثلاثين ألفا فافتتحها، وقتل نائبها عثمان بن سفيان.

وقيل: لم يقتل بل تحول إلى الموصل والجزيرة وبعث إلى قحطبة بذلك.

ولما بلغ مروان خبر قحطبة وأبي مسلم وما وقع من أمرهما، تحول مروان من حرَّان فنزل بمكان يقال له: الزاب الأكبر.

وفيها: قصد قحطبة في جيش كثيف نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، فلما اقترب منه تقهقر ابن هبيرة إلى ورائه، وما زال يتقهقر إلى أن جاوز الفرات، وجاء قحطبة فجازها وراءه، وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائة

[عدل]

في المحرم منها: جاز قحطبة بن شبيب الفرات ومعه الجنود والفرسان، وابن هبيرة مخيم على فم الفرات مما يلي الفلوجة، في خلقٍ كثيرٍ وجمٍ غفيرٍ، وقد أمده مروان بجنودٍ كثيرةٍ، وانضاف إليه كل من انهزم من جيش ابن ضبارة.

ثم إن قحطبة عدل إلى الكوفة ليأخذها، فاتبعه ابن هبيرة.

فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان مضين من المحرم: اقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل في الفريقين، ثم ولى أهل الشام منهزمين واتبعهم أهل خراسان، وفقد قحطبة من الناس فأخبرهم رجل أنه قتل وأوصى أن يكون أمير الناس من بعده ولده الحسن، ولم يكن الحسن حاضرا، فبايعوا حميد بن قحطبة لأخيه الحسن وذهب البريد إلى الحسن ليحضر.

وقتل في هذه الليلة: جماعة من الأمراء.

والذي قتل قحطبة معن بن زائدة، ويحيى بن حصين.

وقيل: بل قتله رجل ممن كان معه آخذا بثائر ابني نصر بن سيار، فالله أعلم.

ووجد قحطبة في القتلى فدفن هنالك، وجاء الحسن بن قحطبة فسار نحو الكوفة، وقد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري، ودعا إلى بني العباس وسوَّد، وكان خروجه ليلة عاشوارء لمحرم من هذه السنة، وأخرج عاملها من جهة ابن هبيرة، وهو: زياد بن صالح الحارثي، وتحول محمد بن خالد إلى قصر الإمارة فقصد حوثرة في عشرين ألفا من جهة ابن هبيرة، فلما اقترب من الكوفة أصحاب حوثرة يذهبون إلى محمد بن خالد فيبايعونه لبني العباس، فلما رأى حوثرة ذلك ارتحل إلى واسط.

ويقال: بل دخل الحسن بن قحطبة الكوفة، وكان قحطبة قد جعل في وصيته أن تكون وزارة الخلافة إلى أبي سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع الكوفي الخلال، وهو بالكوفة، فلما قدموا عليه أشار أن يذهب الحسن بن قحطبة في جماعة من الأمراء إلى قتال ابن هبيرة بواسط، وأن يذهب أخوه حميد إلى المدائن، وبعث البعوث إلى كل جانب يفتحونها، وفتحوا البصرة، افتتحها مسلم بن قتيبة لابن هبيرة، فلما قتل ابن هبيرة جاء أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي فأخذ البصرة لأبي مسلم الخراساني.

وفي هذه السنة ليلة الجمعة لثلاث عشرة حلت من ربيع الآخر: أخذت البيعة لأبي العباس السفاح، وهو: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب. قاله: أبو معشر وهشام الكلبي.

وقال الواقدي: في جمادى الأولى من هذه السنة، فالله أعلم.

ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام

[عدل]

قد ذكرنا في سنة تسع وعشرين ومائة أن مروان اطلع على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخرساني، يأمر فيه بأن لا يبقي أحدا بأرض خراسان ممن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلما وقف مروان على ذلك سأل عن إبراهيم، فقيل له: هو في بالبلقاء.

فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره فبعث نائب دمشق بريدا ومعه صفته ونعته، فذهب الرسول فوجد أخاه أبا العباس السفاح، فاعتقد أنه هو فأخذه فقيل له: إنه ليس به، إنما أخوه.

فدل على إبراهيم فأخذه وذهب معه بأم ولد كان يحبها، وأوصى إلى أهله أن يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السفاح، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة، فارتحلوا من يومهم إليها، منهم أعمامه الستة وهم: عبد الله، وداود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الصمد، بنوا علي، وأخواه: أبو العباس السفاح، ومحمد، ابنا محمد بن علي، وابناه: محمد، وعبد الوهاب، ابنا إبراهيم الإمام الممسوك، وخلق سواهم.

فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد، مولى بني هاشم، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من القواد والأمراء، ثم ارتحل بهم إلى موضع آخر، ثم لم يزل ينقلهم من مكان إلى مكان حتى فتحت البلاد، ثم بويع للسفاح.

أما إبراهيم بن محمد الإمام فإنه سير به إلى أمير المؤمنين في ذلك الزمان مروان بن محمد وهو بحرَّان فحبسه، وما زال في السجن إلى هذه السنة، فمات في صفر منها في السجن، عن ثمان وأربعين سنة.

وقيل: إنه غمّ بمرققة وضعت على وجهه حتى مات عن إحدى وخمسين سنة، وصلى عليه رجل يقال له: بهلول بن صفوان.

وقيل: إنه هدم عليه بيت حتى مات.

وقيل: بل سقي لبنا مسموما فمات.

وقيل: إن إبراهيم الإمام شهد الموسم عام إحدى وثلاثين، واشتهر أمره هنالك لأنه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب كثيرة، وحرمة وافرة، فأنهى أمره إلى مروان وقيل له: إن أبا مسلم يدعو الناس إلى هذا ويسمونه الخليفة.

فبعث إليه في المحرم من سنة ثنتين وثلاثين وقتله في صفر من هذه السنة، وهذا أصح مما تقدم.

وقيل: إنما أخذه من الكوفة لا من حميمة البلقاء، فالله أعلم.

وقد كان إبراهيم هذا كريما وجوادا له فضائل وفواضل.

وروى الحديث عن: أبيه، عن جده، وأبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنيفة.

وعنه: أخواه عبد الله السفاح، وأبو جعفر عبد الله المنصور، وأبو سلمة عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك بن هاشم.

ومن كلامه الحسن: الكامل المروءة من أحرز دينه، ووصل رحمه، واجتنب ما يلام عليه.

خلافة أبي العباس السفاح

[عدل]

لما بلغ أهل الكوفة مقتل إبراهيم بن محمد، أراد أبو سلمة الخلال أن يحول الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب، فغلبه بقية النقباء والأمراء، وأحضروا أبا العباس السفاح وسلموا عليه بالخلافة، وذلك بالكوفة، وكان عمره إذ ذاك ستا وعشرين سنة.

وكان أول من سلم عليه بالخلافة: أبو سلمة الخلال، وذلك ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، فلما كان وقت صلاة الجمعة خرج السفاح على برذون أبلق، والجنود ملبسة معه، حتى دخل دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد الجامع وصلى بالناس، ثم صعد المنبر وبايعه الناس وهو على المنبر في أعلاه، وعمه داود بن علي واقف دونه بثلاث درج.

وتكلم السفاح، وكان أول ما نطق به أن قال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه دينا، وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والقوام به والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، خصنا برحم رسول الله وقرابته، ووضعنا بالإسلام وأهله في الموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم فقال تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا } [الأحزاب: 33] .

وقال: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى: 23]

وقال: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] .

وقال: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [الحشر: 7] الآية.

فأعلمهم عز وجل فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا، وتفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم.

وزعمت السبابية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم.

أيها الناس ! بنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، ونصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم النقيصة وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دنياهم، وإخوانا على سرر متقابلين في أخراهم، فتح الله علينا ذلك منَّة ومنحة بمحمد ، فلما قبضه إليه قام بذلك الأمر بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها.

ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها لأنفسهم، وتداولوها.

فجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] ، فانتزع منهم ما بأيديهم بأيدينا، ورد الله علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وتولى أمرنا والقيام بنصرنا ليمنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.

يا أهل الكوفة ! أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح الهائج والثائر المبير.

وكان به وعك فاشتد عليه حتى جلس على المنبر، ونهض عمه داود فقال: الحمد لله شكرا الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من بيتنا.

أيها الناس ! الآن انقشعت حنادس الظلمات وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، فطلعت شمس الخلافة من مطلعها، ورجع الحق إلى نصابه، إلى أهل نبيكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم.

أيها الناس ! إنا والله ما خرجنا لهذا الأمر لنكنز لجينا ولا عقيانا، ولا لنحفر نهرا ولا لنبني قصرا، ولا لنجمع ذهبا ولا فضة، وإنما أخرجتنا الأنفة من انتزاع حقنا والغضب لبني عمنا، ولسوء سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم، واستئثاركم بفيئكم وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله.

تبا تبا لبني أمية وبني مروان، آثروا العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الأنام، وارتكبوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا منهم باستدراج الله، وعميا عن أخذ الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين.

وأدان الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل عدو الله في عنانه حتى عثر جواده في فضل خطامه، أظنَا عدو الله أن لن يقدر عليه أحد؟ فنادى حزبه وجمع جنده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وأحل دائرة السوء به، وأحاط به خطيئته، ورد إلينا حقنا وآوانا.

أيها الناس ! إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا، إنما عاد إلى المنبر بعد صلاة الجمعة لأنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن، وخليفة الشيطان، المتبع للسفلة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، المتوكل على الله، المقتدي بالأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى، ومناهج التقى.

قال: فعج الناس له بالدعاء، ثم قال: واعلموا يا أهل الكوفة ! أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا - وأشار بيده إلى السفاح - واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج عنا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.

ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر، ثم دخل الناس يبايعون إلى العصر، ثم من بعد العصر إلى الليل.

ثم إن أبا العباس خرج فعسكر بظاهر الكوفة واستخلف عليها عمه داود، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن أبي يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ بواسط يحاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف.

وأقام هو بالعسكر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية في قصر الإمارة، وقد تنكر لأبي سلمة الخلال، وذلك لما كان بلغه عنه من العدول بالخلافة عن ابن العباس إلى آل علي بن أبي طالب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مقتل مروان بن محمد بن مروان

[عدل]

آخر خلفاء بني أمية، وتحول الخلافة إلى بني العباس مأخوذة من قوله تعالى: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } [البقرة: 247] ، وقوله: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } [آل عمران: 26] الآية.

وقد ذكرنا أن مروان لما بلغه خبر أبي مسلم وأتباعه وما جرى بأرض خراسان، تحول من حران فنزل على نهر قريب من الموصل، يقال له: الزاب من أرض الجزيرة ثم لما بلغه أن السفاح قد بويع له بالكوفة والتفت عليه الجنود، واجتمع له أمره، شق عليه جدا، وجمع جنوده فتقدم إليه أبو عون بن أبي يزيد في جيش كثيف وهو أحد أمراء السفاح، فنازله على الزاب وجاءته الأمداد من جهة السفاح، ثم ندب السفاح الناس ممن يلي القتال من أهل بيته، فأنتدب له عبد الله بن علي فقال: سر على بركة الله.

فسار في جنود كثيرة فقدم على أبي عون فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه، وجعل عبد الله بن علي على شرطته حياش بن حبيب الطائي، ونصير بن المحتفز، ووجه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلا على البريد إلى عبد الله بن علي يحثه على مناجزة مروان، والمبادرة إلى قتاله ونزاله قبل أن تحدث أمور، وتبرد نيران الحرب.

فتقدم عبد الله بن علي بجنوده حتى واجه جيش مروان، ونهض مروان في جنوده وتصافَّ الفريقان في أول النهار، ويقال: إنه كان مع مروان يومئذ مائة ألف وخمسون ألفا.

ويقال: مائة وعشرون ألفا، وكان عبد الله بن علي في عشرين ألفا.

فقال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس يومئذ ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم أرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل، إن شاء الله.

وكان ذلك يوم السبت لإحدى عشر ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة، فقال مروان: قفوا لا تبتدئون بقتال.

وجعل ينظر إلى الشمس فخالفه الوليد بن معاوية بن مروان - وهو: ختن مروان على ابنته - فحمل، فغضب مروان فشتمه فقاتل أهل الميمنة فأنحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقاتل موسى بن كعب لعبد الله بن علي، فأمر الناس فنزلوا ونودي: الأرض الأرض.

فنزلوا وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون كأنما يدفعون، وجعل عبد الله يمشي قدما، وجعل يقول: يا رب حتى متى نقتل فيك ؟

ونادى يا أهل خراسان ! يا شارات إبراهيم الإمام، يا محمد يا منصور، واشتد القتال جدا بين الناس، فلا تسمع إلا وقعا كالمرازب على النحاس، فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا.

وأرسل إلى السكاسك أن احملوا فقالوا: قل لبني عامر أن يحملوا.

فأرسل إلى السكون أن احملوا فقالوا: قل إلى غطفان فليحملوا.

فقال لصاحب شرطته: انزل.

فقال: لا ! والله لا أجعل نفسي غرضا.

قال: أما والله لأسوءنك.

قال: وددت لو قدرت على ذلك.

ويقال: أنه قال ذلك لابن هبيرة.

قالوا: ثم انهزم أهل الشام واتبعتهم أهل خراسان في أدبارهم يقتلون ويأسرون، وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قتل وكان في جملة من غرق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع، وقد أمر عبد الله بن علي بعقد الجسر، واستخراج من غرق في الماء، وجعل يتلو قوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [البقرة: 50] .

وأقام عبد الله بن علي في موضع المعركة سبعة أيام، وقد قال رجل من ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ:

لج الفرار بمروان فقلت له * عاد الظلوم ظليما همه الهرب

أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت * عنك الهوينا فلا دين ولا حسب

فراشة الحلم فرعون العقاب وإن * تطلب نداه فكلب دونه كلب

واحتاز عبد الله ما في معسكر مروان من الأموال والأمتعة والحواصل، ولم يجد فيه امرأة سوى جارية كانت لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أبي العباس السفاح بما فتح الله عليه من النصر، وما حصل لهم من الأموال.

فصلى السفاح ركعتين شكرا لله عز وجل، وأطلق لكل من حضر الوقعة خمسمائة خمسمائة، ورفع في أرزاقهم إلى ثمانين، وجعل يتلو قوله: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } [البقرة: 249] الآية.

صفة مقتل مروان

[عدل]

لما انهزم مروان سار لا يلوي على أحد، فأقام عبد الله بن علي في مقام المعركة سبعة أيام، ثم سار خلفه بمن معه من الجنود، وذلك عن أمر السفاح له بذلك.

فلما مر مروان بحران اجتازها وأخرج أبا محمد السفياني من سجنه، واستخلف عليها أبان بن يزيد - وهو ابن أخته، وزوج ابنته أم عثمان - فلما قدم عبد الله على حران خرج إليه أبان بن يزيد مسوِّدا فأمنه عبد الله بن علي وأقره على عمله، وهدم الدار التي سجن فيها إبراهيم الإمام، واجتاز مروان قنسرين قاصدا حمص، فلما جاءها خرج إليه أهلها بالأسواق والمعايش، فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم شخص منها، فلما رأى أهل حمص قلة من معه اتبعوه ليقتلوه ونهبوا ما معه، وقالوا: مرعوب مهزوم.

فأدركوه بواد عند حمص فأكمن لهم أميرين، فلما تلاحقوا بمروان عطف عليهم فنانشدهم أن يرجعوا فأبوا إلا مقاتلته، فثار القتال بينهم وثار الكمينان من ورائهم، فانهزم الحمصيون، وجاء مروان إلى دمشق وعلى نيابتها من جهته زوج ابنته الوليد بن معاوية بن مروان فتركه بها واجتاز عنها قاصدا إلى الديار المصرية، وجعل عبد الله بن علي لا يمر ببلد وقد سوِّدوا فيبايعونه ويعطهيم الأمان.

ولما وصل إلى قنسرين وصل إليه أخوه عبد الصمد بن علي في أربعة آلاف، وقد بعثهم السفاح مددا له، ثم سار عبد الله حتى أتى حمص، ثم سار منها إلى بعلبك، ثم منها حتى أتى دمشق من ناحية المزة فنزل بها يومين أو ثلاثة، ثم وصل إليه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مددا من السفاح، فنزل صالح بمرج عذراء.

ولما جاء عبد الله بن علي دمشق نزل على الباب الشرقي، ونزل صالح أخوه على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، فحاصرها أياما ثم افتتحها يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان هذه السنة، فقتل من أهلها خلقا كثيرا وأباحها ثلاث ساعات، وهدم سورها.

ويقال: إن أهل دمشق لما حاصرهم عبد الله اختلفوا فيما بينهم، ما بين عباسي وأموي، فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضا، وقتلوا نائبهم ثم سلموا البلد، وكان أول من صعد السور من ناحية الباب الشرقي رجل يقال له: عبد الله الطائي، ومن ناحية الباب الصغير بسام بن إبراهيم، ثم أبيحت دمشق ثلاث ساعات حتى قيل: إنه قتل بها في هذه المدة نحوا من خمسين ألفا.

وذكر ابن عساكر في ترجمة عبيد بن الحسن الأعرج من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان أميرا على خمسة آلاف مع عبد الله بن علي في حصار دمشق، أنهم أقاموا محاصريها خمسة أشهر.

وقيل: مائة يوم.

وقيل: شهرا ونصفا.

وأن البلد كان قد حصنه نائب مروان تحصينا عظيما، ولكن اختلف أهلها فيما بينهم بسبب اليمانية والمضرية، وكان ذلك بسبب الفتح، حتى إنهم جعلوا في كل مسجد محرابين للقبلتين حتى في المسجد الجامع منبرين، وإمامين يخطبان يوم الجمعة على المنبرين، وهذا من عجيب ما وقع، وغريب ما اتفق، وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية، نسأل الله السلامة والعافية.

وقد بسط ذلك ابن عساكر في هذه الترجمة المذكورة، وذكر في ترجمة محمد بن سليمان بن عبد الله النوفلي قال: كنت مع عبد الله بن علي أول ما دخل دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتل فيها ثلاث ساعات، وجعل جامعها سبعين يوما إسطبلا لدوابه وجماله، ثم نبش قبور بني أمية فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطا أسود مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجد جمجمته، وكان يجد في القبر العضو بعد العضو، إلا هشام بن عبد الملك فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت وصلبه أياما ثم أحرقه ودقَّ رماده ثم ذره في الريح، وذلك أن هشاما كان قد ضرب أخاه محمد بن علي، حين كان قد اتهم بقتل ولد له صغير، سبعمائة سوط، ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء.

قال: ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين ألفا عند نهر بالرملة، وبسط عليهم الأنطاع ومد عليهم سماطا فأكل وهم يختلجون تحته، وهذا من الجبروت والظلم الذي يجازيه الله عليه، وقد مضى ولم يدم له ما أراده ورجاه، كما سيأتي في ترجمته.

وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي: عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة على وجهها وجسدها وثيابها ثم قتلوها.

ثم أحرق ما وجد من عظم ميت منهم.

وأقام بها عبد الله خمسة عشر يوما.

وقد استدعى بالأوزاعي فأوقف بين يديه فقال له: يا أبا عمرو ! ما تقول في هذا الذي صنعناه ؟

قال: فقلت له: لا أدري غير أنه قد حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله : «إنما الأعمال بالنيات»، فذكر الحديث.

قال الأوزاعي: وانتظرت رأسي أن يسقط بين رجلي ثم أخرجت، وبعث لي بمائة دينار، ثم سار وراء مروان فنزل على نهر الكسوة، ووجه يحيى بن جعفر الهاشمي نائبا على دمشق ثم سار فنزل مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس فوجد مروان قد هرب فدخل مصر، وجاءه كتاب السفاح: ابعث صالح بن علي في طلب مروان وأقم أنت في الشام نائبا عليها.

فسار صالح يطلب مروان في ذي القعدة من هذه السنة، ومعه أبو عمرو عامر بن إسماعيل، فنزل على ساحل البحر وجمع ما هناك من السفن وبلغه أن مروان قد نزل الفرما، وقيل: الفيوم.

فجعل يسير على الساحل والسفن تقاد معه في البحر حتى أتى العريش، ثم سار حتى نزل على النيل ثم سار إلى الصعيد فعبر مروان النيل وقطع الجسر وحرق ما حوله من العلف والطعام، ومضى صالح في طلبه.

فالتقى بخيل لمروان فهزمهم، ثم جعل كلما التقوا مع خيل لمروان يهزمزنهم حتى سألوا بعض من أسروا عن مروان فدلهم عليه، وإذا به في كنيسة أبو صير فوافوه من آخر الليل، فانهزم من معه من الجند وخرج إليهم مروان في نفر يسير معه فأحاطوا به حتى قتلوه، طعنه رجل من أهل البصرة يقال له: معود، ولا يعرفه حتى قال رجل: صرع أمير المؤمنين.

فابتدره رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه، فبعث به عامر بن إسماعيل أمير هذه السرية إلى أبي عون، فبعث به أبو عون إلى صالح بن علي فبعث به صالح مع رجل يقال له: خزيمة بن يزيد بن هانئ كان على شرطته، لأمير المؤمنين السفاح.

وكان مقتل مروان يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة، وقيل: يوم الخميس لست مضين منها سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام على المشهور.

واختلفوا في سنه، فقيل: أربعون سنة.

وقيل: ست، وقيل: ثمان وخمسون سنة.

وقيل: ستون.

وقيل: اثنتان، وقيل: ثلاث، وقيل: تسع وستون سنة.

وقيل: ثمانون، والله أعلم.

ثم إن صالح بن علي سار إلى الشام واستخلف على مصر أبا عون بن أبي يزيد، والله سبحانه أعلم.

وهذا شيء من ترجمة مروان الحمار

[عدل]

وهو: مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي الأموي، أبو عبد الملك، أمير المؤمنين، آخر خلفاء بني أمية، وأمه أمة كردية يقال لها: لبابة، وكانت لإبراهيم بن الأشتر النخعي، أخذها محمد بن مروان يوم قتله فاستولدها مروان هذا، ويقال: أنها كانت أولا لمصعب بن الزبير.

وقد كانت دار مروان هذا في سوق الأكافين، قاله ابن عساكر.

بويع له بالخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد، وبعد موت يزيد بن الوليد، ثم قدم دمشق وخلع إبراهيم بن الوليد، واستمر له الأمر في نصف صفر سنة سبع وعشرين ومائة.

وقال أبو معشر: بويع له بالخلافة في ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائة، وكان يقال له: مروان الجعدي، نسبة إلى رأي الجعد بن درهم، وتلقب بالحمار، وهو آخر من ملك من بني أمية، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وقيل: خمس سنين وشهرا.

وبقي بعد أن بويع للسفاح تسعة أشهر، وكان أبيض مشربا حمرة، أزرق العينين، كبير اللحية، ضخم الهامة، ربعة، ولم يكن يخضب.

ولاه هشام نيابة أذربيجان وأرمينية والجزيرة، في سنة أربع عشرة ومائة، ففتح بلاد كثيرة وحصونا متعددة في سنين كثيرة، وكان لا يفارق الغزو في سبيل الله، وقاتل طوائف من الناس الكفار ومن الترك والخزر واللان وغيرهم، فكسرهم وقهرهم، وقد كان شجاعا بطلا مقداما حازم الرأي لولا أن جنده خذلوه بتقدير الله عز وجل لما له من ذلك من حكمة سلب الخلافة لشجاعته وصرامته.

ولكن من يخذل الله يخذل، ومن يهن الله فما له من مكرم.

قال الزبير بن بكار، عن عمه مصعب بن عبد الله: كان بنو أمية يرون أنه تذهب منهم الخلافة إذا وليها من أمه أمة، فلما وليها مروان هذا أخذت منهم في سنة ثنتين وثلاثين ومائة.

وقد قال الحافظ بن عساكر: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الحسن، أخبرنا سهل بن بشر، أنبأ الخليل بن هبة الله بن الخليل، أنبأ عبد الوهاب الكلابي، حدثنا أبو الجهم أحمد بن الحسين، أنبأ العباس بن الوليد بن صبح، ثنا عباس بن يحيى أبو الحارث، حدثني الهيثم بن حمد، حدثني راشد بن داود، عن أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله : «لا تزال الخلافة في بني أمية يتلقفونها تلقف الغلمان الكرة فإذا خرجت من أيديهم فلا خير في عيش».

هكذا أورده ابن عساكر وهو منكر جدا.

وقد سأل الرشيد أبا بكر بن عياش: خير الخلفاء نحن أو بنوا أمية ؟

فقال: هم كانوا أنفع للناس وأنتم أقوم للصلاة، فأعطاه ستة آلاف.

قالوا: وقد كان مروان هذا كثير المروءة كثير العجب، يعجبه اللهو والطرب، ولكنه كان يشتغل عن ذلك بالحرب.

قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الحسين علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن الأمير في مجموع له: كتب مروان بن محمد إلى جارية له تركها بالرملة عند ذهابه إلى مصر منهزما:

وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى * فآبى ويدنيني الذي لك في صدري

وكان عزيزا أن تبيتي وبيننا * حجاب فقد أمسيت مني على عشر

وأنكاهما والله للقلب فاعلمي * إذا زدت مثليها فصرت على شهر

وأعظم من هذين والله أنني * أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر

سأبكيك لا مستبقا فيض عبرة * ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر

وقال بعضهم: اجتاز مروان وهو هارب براهب فاطلع عليه الراهب فسلم عليه فقال له: يا راهب ! هل عندك علم بالزمان ؟

قال: نعم ! عندي من تلونه ألوان.

قال: هل تبلغ الدنيا من الإنسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالكا ؟

قال: نعم !

قال: فكيف ؟

قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها، وتضييع الحزم وترك انتهاز الفرص، فإن كنت تحبها فإن عبدها من أحبها.

قال: فما السبيل إلى العتق ؟

قال: ببغضها والتجافي عنها.

قال: هذا ما لا يكون.

قال الراهب: أما إنه سيكون فبادر بالهرب منها قبل أن تسلبها.

قال: هل تعرفني ؟

قال: نعم ! أنت ملك العرب مروان، تقتل في بلاد السودان، وتدفن بلا أكفان، فلولا أن الموت في طلبك لدللتك على موضع هربك.

قال بعض الناس: كان يقال في ذلك الزمان: يقتل ع بن ع بن ع م بن م بن م يعنون: يقتل عبد الله بن علي بن عباس بن مروان بن محمد بن مروان.

وقال بعضهم: جلس مروان يوما وقد أحيط به وعلى رأسه خادم له قائم، فقال مروان لبعض من يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على أيد ما ذكرت، ونعم ما شكرت، ودولة ما نصرت.

فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين ! من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا.

فقال مروان: هذا القول أشد عليَّ من فقد الخلافة.

وقد قيل: إن مروان قتل يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة، سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وقد جاوز الستين وبلغ الثمانين، وقيل: إنما عاش أربعين سنة، والصحيح الأول.

وهو آخر خلفاء بني أمية به انقضت دولتهم.

ما ورد في انقضاء دولة بني أمية وابتداء بني العباس من الأخبار النبوية

[عدل]

قال العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «إذا بلغ بنو العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا».

ورواه الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعا بنحوه.

وروى ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن ابن وهب، أنه كان عند معاوية فدخل عليه مروان بن الحكم فتكلم في حاجة فقال: اقض حاجتي، فإني لأبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة.

فلما أدبر مروان، قال معاوية لابن عباس وهو معه على السرير: أما تعلم أن رسول الله قال: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا سبعة وتسعين وأربعمائة، كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة».

فقال ابن عباس: اللهم نعم ؟

فلما أدبر مروان قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله ذكر هذا فقال: «أبو الجبابرة الأربعة».

فقال ابن عباس: اللهم نعم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا القاسم بن الفضل، ثنا يوسف بن مازن الراسبي، قال: قام رجل إلى الحسين بن علي، فقال: يا مسود وجوه المؤمنين !

فقال الحسين: لا تؤنبني رحمك الله، فإن رسول الله رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر: 1] وهو نهر في الجنة، ونزلت: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } السورة إلى قوله: { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 1-3] مملكة بني أمية.

قال: فحسبنا ذلك فإذا هو كما قال لا يزيد ولا ينقص.

وقد رواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن مهدي.

قال: وشيخه يوسف بن سعد.

ويقال: يوسف بن مازن، رجل مجهول، ولا يعرف هذا بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه.

أخرجه الحاكم في مستدركه، من حديث القاسم بن الفضل الحداني، وقد تكلمت على نكارة هذا الحديث في التفسير بكلام مبسوط، وإنما يكون متجها إذا قيل إن دولتهم ألف شهر بأن نسقط منها أيام ابن الزبير، وذلك أن معاوية بويع به مستقلا بالملك في سنة أربعين، وهي عام الجماعة حين سلم إليه الحسن بن علي الأمر بعد ستة أشهر من قتل علي، ثم زالت الخلافة عن بني أمية في هذه السنة، وهي سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وذلك ثنتان وتسعون سنة، وإذا أسقط منها تسع سنين من خلافة ابن الزبير بقي ثلاث وثمانون سنة، وهي مباينة لما ورد في هذا الحديث، ولكن ليس هذا الحديث مرفوعا إلى النبي ، أنه فسر هذه الآية بهذا العدد، وإنما هذا من قول بعض الرواة، وقد تكلمنا على ذلك مطولا في التفسير، وتقدم في الدلائل أيضا تقريره، والله أعلم.

وقال علي بن المديني: عن يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله قال: «رأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك عليَّ».

فأنزلت: «إنا أنزلناه في ليلة القدر». فيه ضعف وإرسال.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا يحيى بن معين، ثنا عبد الله بن نمير، عن سفيان الثوري، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، في قوله: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [الإسراء: 60] .

قال: رأى ناسا من بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فقيل له: إنما هي دنيا يعطونها وتضمحل عن قليل فسري عنه.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، قال: لما أسري برسول الله رأى فلانا وهو من بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس فشق ذلك عليه فأنزل الله: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [الأنبياء: 111] .

وقال مالك بن دينار: سمعت أبا الجوزاء يقول: والله لَيُعِزَّنَّ الله ملك بني أمية كما أعز ملك من كان قبلهم، ثم ليذلنّ ملكهم كما أذلّ ملك من كان قبلهم، ثم تلا قوله تعالى: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران: 140] .

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سعيد، ثنا أبو أسامة، ثنا عمر بن حمزة، أخبرني عمر بن سيف مولى لعثمان بن عفان، قال: سمعت سعيد بن المسيب، وهو يقول لأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة - وذكروا بني أمية - فقال: لا يكون هلاكهم إلا بينهم.

قالوا: كيف ؟

قال: يهلك خلفاؤهم ويبقى شرارهم فيتنافسونها، ثم يكثر الناس عليهم فيهلكونهم.

وقال يعقوب بن سفيان: أنبأ أحمد بن محمد الأزرقي، ثنا الزنجي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «رأيت في النوم بني أبي الحكم أو بني أبي العاص ينزون على منبري، كما تنزوا القردة».

قال: فما رؤي رسول الله مستجمعا ضاحكا بعدها حتى توفي.

قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الداري - لعله الدرامي -، حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا سعيد بن زيد - أخو حماد بن زيد -، عن علي بن الحكم البنائي، عن أبي الحسن - هو الحمصي -، عن عمرو بن مرة - وكانت له صحبة -، قال: جاء الحكم بن أبي العاص يستأذن على رسول الله فعرف كلامه فقال: «ائذنوا له صبت عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هم، يشرفون في الدنيا ويوضعون في الآخرة، ذوو دهاء وخديعة، يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق».

وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: أنبأ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن محمد، أنبأ محمد بن المظفر الحافظ، أنبأ أبو القاسم تمام بن خريم بن محمد بن مروان الدمشقي، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن هشام بن ملابس، ثنا أبو النظر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد مولى أم الحكم بنت عبد العزيز، حدثنا يزيد بن ربيعة، حدثنا أبو الأشعث الصنعاني، عن ثوبان، قال: كان رسول الله نائما واضعا رأسه على فخد أم حبيبة بنت أبي سفيان، فنحب ثم تبسم، فقالوا: يا رسول الله رأيناك نحبت ثم تبسمت.

فقال: «رأيت في منامي بني أمية يتعاورون على منبري فساءني ذلك، ثم رأيت بني العباس يتعاورون على منبري فسرني ذلك».

وقال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن خالد بن العباس، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني أبو عبد الله، عن الوليد بن هشام المعيطي، عن أبان بن الوليد، عن عقبة بن أبي معيط، قال: قدم ابن عباس على معاوية وأنا حاضر فأجازه فأحسن جائزته، ثم قال: يا أبا العباس ! هل يكون لكم دولة ؟

فقال: اعفني يا أمير المؤمنين.

فقال: لتخبرني.

قال: نعم !

قال: فمن أنصاركم ؟

قال: أهل خراسان، ولبني أمية من بني هاشم نطحات.

وقال المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير: سمعت ابن عباس، يقول: يكون منا ثلاثة أهل البيت: السفاح والمنصور والمهدي.

رواه البيهقي من غير وجه، ورواه الأعمش، عن الضحاك، عن ابن عباس، مرفوعا.

وروى ابن أبي خيثمة، عن ابن معين، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس، قال: كما افتتح الله بأولنا فأرجو أن يختمه بنا.

وهذا إسناد صحيح إليه، وكذا وقع ويقع للمهدي إن شاء الله.

وروى البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله : «يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له: السفاح، يعطي المال حثيا».

وقال عبد الزراق: حدثنا الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله : «يقتتل عند حرتكم هذه ثلاثة كلهم ولد خليفة لا تصير إلى واحد منهم، ثم تقبل الرايات من خراسان فيقتلونكم مقتلة لم ير مثلها. ثم ذكر شيئا فإذا كان كذلك فأتوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي».

ورواه بعضهم، عن ثوبان، فوقفه وهو أشبه، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثني يحيى بن غيلان وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا راشد بن سعد، حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قصيبة، هو ابن ذؤيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله أنه قال: «يخرج من خراسان رايات سود لا يردها شيء حتى تنصب بإيليا».

وقد رواه البيهقي في الدلائل من حديث راشد بن سعد المصري، وهو ضعيف.

ثم قال: قد روي قريبا من هذا عن كعب الأحبار، وهو أشبه.

ثم رواه عن كعب أيضا، قال: «تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا الشام، ويقتل الله على أيديهم كل جبار وعدو لهم».

وروى إبراهيم بن الحسين، عن ابن أبي أويس، عن ابن أبي ذؤيب، عن محمد بن عبد الرحمن العامري، عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال للعباس: «فيكم النبوة وفيكم المملكة».

وروى عبد الله بن أحمد، عن ابن معين، عن عبيد بن أبي قرة، عن الليث، عن أبي قبيل، عن أبي ميسرة مولى العباس، قال: سمعت العباس، يقول: كنت عند رسول الله ذات ليلة فقال: «انظر هل ترى في السماء من شيء؟».

قلت: نعم !

قال: «ما ترى؟».

قلت: الثريا !

قال: «أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك».

قال البخاري: عبيد بن أبي قرة لا يتابع على حديثه.

وروى ابن عدي، من طريق سويد بن سعيد، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن العباس، قال: مررت برسول الله ومعه جبريل، وأنا أظنه دحية الكلبي، فقال جبريل لرسول الله : «إنه لوسخ الثياب، وسيلبس ولده من بعده السواد».

وهذا منكر من هذا الوجه، ولا شك أن بني العباس كان السواد من شعارهم، أخذوا ذلك من دخول رسول الله مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، فأخذوا بذلك وجعلوه شعارهم في الأعياد والجمع والمحافل.

وكذلك كان جندهم لا بد من أن يكون على أحدهم شيء من السواد، ومن ذلك الشربوش الذي يلبسه الأمراء إذا خلع عليهم.

وكذلك دخل عبد الله بن علي دمشق يوم دخلها وعليه السواد، فجعل النساء والغلمان يعجبون من لباسه، وكان دخوله من باب كيسان.

وقد خطب الناس يوم الجمعة وصلى بهم وعليه السواد.

وقد روى ابن عساكر عن بعض الخراسانية قال: لما صلى عبد الله بن علي بالناس يوم الجمعة صلى إلى جانبي رجل فقال: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، انظروا إلى عبد الله بن علي ما أقبح وجهه وأشنع سواده ؟!

وشعارهم إلى يومك هذا، كما تراه على الخطباء يوم الجمعة والأعياد.

استقرار أبي العباس السفاح واستقلاله بالخلافة وما اعتمده في أيامه من السيرة الحسنة

[عدل]

قد تقدم أنه أول ما بويع له بالخلافة بالكوفة يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر.

وقيل: الأول من هذه السنة، سنة ثنتين وثلاثين ومائة.

ثم جرد الجيوش إلى مروان فطردوه عن المملكة وأجلوه عنها، وما زالوا خلفه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد، بأرض مصر، في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة على ما تقدم بيانه، وحينئذ استقل السفاح بالخلافة واستقرت يده على بلاد العراق وخراسان والحجاز والشام والديار المصرية، خلا بلاد الأندلس، فإنه لم يحكم عليها ولا وصل سلطانه إليها، وذلك أن بعض من دخلها من بني أمية استحوذ عليها وملكها، كما سيأتي بيانه.

وقد خرج على السفاح في هذه السنة طوائف، فمنهم: أهل قنسرين بعد ما بايعوه على يدي عمه عبد الله بن علي وأقر عليهم أميرهم مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وأمرائه، فخلع السفاح ولبس البياض، وحمل أهل البلد على ذلك فوافقوه.

وكان السفاح يومئذ بالحيرة، وعبد الله بن علي مشغول بالبلقاء يقاتل بها حبيب بن مرة المزي ومن وافقه من أهل البلقاء والبثنية وحوران على خلع السفاح، فلما بلغه عن أهل قنسرين ما فعلوا صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين، فلما اجتاز بدمشق - وكان بها أهله وثقله - استخلف عليها أبا غانم، عبد الحميد بن ربعي الكناني في أربعة آلاف.

فلما جاوز البلد وانتهى إلى حمص نهض أهل دمشق مع رجل يقال له: عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة فخلعوا السفاح وبيضوا وقتلوا الأمير أبا غانم وقتلوا جماعة من أصحابه وانتهبوا ثقل عبد الله بن علي بن وحواصله، ولم يتعرضوا لأهله.

وتفاقم الأمر على عبد الله وذلك أن أهل قنسرين تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على أبي محمد السفياني، وهو: أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوه بالخلافة وقام معه نحو من أربعين ألفا، فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج الأخرم فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا شديدا، وهزموا عبد الله عبد الصمد، وقتل من الفريقين ألوف، فتقدم إليهم عبد الله بن علي ومعه حميد بن قحطبة فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، وجعل أصحاب عبد الله يفرون وهو ثابت هو وحميد.

وما زال حتى هزم أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد في خمسمائة فارس من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا وهرب أبو محمد السفياني ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ورجعوا إلى الطاعة، ثم كر عبد الله راجعا إلى دمشق وقد بلغه ما صنعوا، فلما دنا منها تفرقوا عنها ولم يكن منهم قتال، فأمنهم ودخلوا في الطاعة.

وأما أبو محمد السفياني فإنه مازال مضيعا ومشتتا حتى لحق بأرض الحجاز فقاتله نائب أبي جعفر المنصور في أيام المنصور، فقتله وبعث برأسه وبابنين له أخذهما أسيرين فأطلقما المنصور في أيامه.

وقد قيل: إن وقعة السفياني يوم الثلاثاء آخر يوم من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، فالله أعلم.

وممن خلع السفاح أيضا: أهل الجزيرة حين بلغهم أن أهل قنسرين خلعوا، فوافقهم وبيضوا وركبوا إلى نائب حران من جهة السفاح - وهو: موسى بن كعب - وكان في ثلاثة آلاف قد اعتصم بالبلد، فحاصروه قريبا من شهرين.

ثم بعث السفاح أخاه أبا جعفر المنصور فيمن كان بواسطة محاصري ابن هبيرة، فمر في مسيره إلى حران بقرقيسيا وقد بيضوا فغلقوا أبوابها دونه، ثم مر بالرقة وعليها بكار بن مسلم وهم كذلك، ثم بحاجر وعليها إسحاق بن مسلم فيمن معه من أهل الجزيرة يحاصرونها فرحل إسحاق عنها إلى الرها.

وخرج موسى بن كعب فيمن معه من جند حران فتلقاه المنصور ودخلوا في جيشه، وقدم بكار بن مسلم على أخيه إسحاق بن مسلم بالرها فوجهه إلى جماعة ربيعه بدارا وماردين، ورئيسهم حروري يقال له: بريكة، فصارا حزبا واحدا، فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل بريكة في المعركة، وهرب بكار إلى أخيه بالرها، فاستخلفه بها ومضى بمعظم العسكر حتى نزل سميساط وخندق على عسكره، وأقبل أبو جعفر فحاصر بكارا بالرها، وجرت له معه وقعات.

وكتب السفاح إلى عمه عبد الله بن علي أن يسير إلى سميساط، وقد اجتمع على إسحاق بن مسلم ستون ألفا من أهل الجزيرة، فسار إليهم عبد الله واجتمع إليه أبو جعفر المنصور، فكاتبهم إسحاق وطلب منهم الأمان فأجابوه إلى ذلك، على إذن أمير المؤمنين.

وولى السفاح أخاه أبا جعفر المنصور الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، فلم يزل عليها حتى أفضت إليه الخلافة بعد أخيه، ويقال: إن إسحاق بن مسلم العقيلي إنما طلب الأمان لما تحقق أن مروان قد قتل، وذلك بعد مضي سبعة أشهر وهو محاصر، وقد كان صاحبا لأبي جعفر المنصور فآمنه.

وفي هذه السنة: ذهب أبو جعفر المنصور عن أمر أخيه السفاح إلى أبي مسلم الخراساني وهو أميرها، ليستطلع رأيه في قتل أبي سلمة، لأنه كان يريد أن يصرف الخلافة عنهم، فيسأله هل ذلك كان عن ممالأة أبي مسلم لأبي سلمة في ذلك أم لا ؟

فسكت القوم، فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لَبعَرَ بلاء عظيم، إلا أن يدفعه الله عنا.

قال أبو جعفر: فقال لي أخي: ما ترى ؟

فقلت: الرأي رأيك.

فقال: إنه ليس أحد أخص بأبي مسلم منك، فاذهب إليه فاعلم لي علمه، فإن كان عن رأيه احتلنا له، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.

قال أبو جعفر: فخرجت إليه قاصدا على وجل.

قال المنصور: فلما وصلت إلى الري إذا كتاب أبي مسلم إلى نائبها يستحثني إليه في المسير، فازددت وجلا فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابه يستحثني أيضا.

وقال لنائبها: لا تدعه يقر ساعة واحدة.

فإن أرضك بها خوارج، فانشرحت لذلك، فلما صرت من مرو على فرسخين، خرج يتلقاني ومعه الناس، فلما واجهني ترجل فقبل يدي، فأمرته فركب.

فلما دخلت مرو نزلت في داره، فمكث ثلاثا لا يسألني في أي شيء جئت، فلما كان اليوم الرابع سألني: ما أقدمك ؟

فأخبرته بالأمر.

فقال: أفعلها أبو سلمة ؟

أنا أكفيكموه.

فدعا مرَّار بن أنس الضبي فقال: اذهب إلى الكوفة فحيث لقيت أبا سلمة فاقتله، وانته في ذلك إلى رأي الإمام.

فقدم مرَّار الكوفة الهاشمية، وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح، فلما خرج قتله مرِّار، وشاع أن الخوارج قتلوه، وغلقت البلد.

ثم صلى عليه يحيى بن محمد بن علي أخو أمير المؤمنين، ودفن بالهاشمية، وكان يقال له: وزير آل محمد.

ويقال لأبي مسلم: أمير آل محمد.

قال الشاعر:

إن الوزير وزير آل محمد * أودى فمن يشناك كان وزيرا

ويقال: إن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم بعد قتل أبي سلمة وكان معه ثلاثون رجلا على البريد، منهم: الحجاج بن أرطأة، وإسحاق بن الفضل الهاشمي، وجماعة من السادات.

ولما رجع أبو جعفر من خراسان قال لأخيه: لست بخليفة ما دام أبو مسلم حيا حتى تقتله.

لما رأى من طاعة العساكر له، فقال له السفاح: اكتمها. فسكت.

ثم إن السفاح بعث أخاه أبا جعفر إلى قتال بن هبيرة بواسط، فلما اجتاز بالحسن بن قحطبة أخذه معه، فلما أحيط بابن هبيرة كتب إلى محمد بن عبد الله بن الحسن ليبايع له بالخلافة فأبطأ عليه جوابه، فمال إلى مصالحة أبي جعفر، فاستأذن أبو جعفر أخاه السفاح في ذلك فأذن له في المصالحة، فكتب له أبو جعفر كتابا بالصلح، فمكث ابن هبيرة يشاور فيه العلماء أربعين يوما.

ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية، فلما دنا من سرادق أبي جعفر همَّ أن يدخل بفرسه فقال الحاجب سلام: انزل أبا خالد. فنزل.

وكان حول السرادق عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن له في الدخول فقال: أنا ومن معي ؟

قال: لا ! بل أنت وحدك.

فدخل ووضعت له وسادة فجلس عليها، فحادثه أبو جعفر ساعة ثم خرج من عنده فأتبعه أبو جعفر بصره، ثم جعل يأتيه يوما بعد يوم في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل، فشكوا ذلك إلى أبي جعفر فقال أبو جعفر للحاجب: مره فليأت في حاشيته.

فكان يأتي في ثلاثين نفسا، فقال الحاجب: كأنك تأتي متأهبا ؟

فقال: لو أمرتموني بالمشي لمشيت إليكم.

ثم كان يأتي في ثلاثة أنفس، وقد خاطب ابن هبيرة يوما لأبي جعفر فقال في غبون كلامه: يا هناه - أو قال: يا أيها المرء -.

ثم اعتذر إليه بأنه قد سبق لسانه إلى ذلك، فأعذره.

وقد كان السفاح كتب إلى أبي مسلم يستشيره في مصالحة ابن هبيرة فنهاه عن ذلك.

وكان السفاح لا يقطع أمرا دونه، فلما وقع الصلح على يدي أبي جعفر لم يحب السفاح ذلك ولم يعجبه، وكتب إلى أبي جعفر يأمر بقتله، فراجعه أبو جعفر مرارا لا يفيده ذلك شيئا، حتى جاء كتاب السفاح: أن أقتله لا محالة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كيف يعطي الأمان وينكث؟ هذا فعل الجبابرة.

وأقسم عليه في ذلك.

فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخراسانية فدخلوا عليه وعنده ابنه داود وفي حجره صبي صغير، وحوله مواليه وحاجبه، فدافع عنه ابنه حتى قتل، وقتل خلق من مواليه، وخلصوا إليه، فألقى الصبي من حجره وخرَّ ساجدا، فقتل وهو ساجد، واضطرب الناس، فنادى أبو جعفر في الناس بالأمان إلا عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزومي، وعمر بن ذر.

فسكن الناس ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقتل بعضا.

وفي هذه السنة: بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث إلى فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة الخلال فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.

وفيها: ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد الموصل وأعمالها، وولى عمه داود مكة والمدينة واليمن واليمامة، وعزله عن الكوفة وولى مكانه عليها عيسى بن موسى، وولى قضاءها ابن أبي ليلى، وكان على نيابة البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطأة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث.

وعلى أرمينية وأذربيجان والجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام وأعمالها عبد الله بن علي عم السفاح، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد.

وعلى خراسان وأعمالها أبو مسلم الخراساني، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.

وحج بالناس فيها داود بن علي.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

مروان بن محمد

[عدل]

ابن مروان بن الحكم، أبو عبد الملك، الأموي، آخر خلفاء بني أمية، فقتل في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، كما تقدم ذلك مبسوطا، وزيره عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بني عامر بن لؤي، الكاتب البليغ الذي يضرب به المثل، فيقال: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.

وكان إماما في الكتابة وجميع فنونها، وهو القدوة فيها.

وله رسائل في ألف ورقة، وأصله من قيسارية ثم سكن الشام، وتعلم هذا الشأن من سالم مولى هشام بن عبد الملك، وكان يعقوب بن داود وزير المهدي يكتب بين يديه، وعليه تخرج، وكان ابنه إسماعيل بن عبد الحميد ماهرا في الكتابة أيضا، وقد كان أولا يعلم الصبيان ثم تقلبت به الأحوال إلى أن صار وزيرا لمروان، وقتله السفاح ومثَّل به، وكان اللائق بمثله العفو عنه.

ومن مستجاد كلامه: العلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.

ومن كلامه وقد رأى رجلا يكتب خطا رديئا فقال: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرِّف قطتك وأيمنها.

قال الرجل: ففعلت ذلك فجاد خطي.

وسأله رجل أن يكتب له كتابا إلى بعض الأكابر يوصيه به، فكتب إليه: حقُّ موصل كتابي إليك كحقه علي إذ رآك موضعا لأمله، ورآني أهلا لحاجته، وقد قضيت أنا حاجته فصدِّق أنت أمله.

وكان كثيرا ما ينشد هذا البيت:

إذا خرج الكتاب كان دويهم * قسيا وأقلام القسي لها نبلا

وأبو سلمة حفص بن سليمان

[عدل]

هو أول من وزر لآل العباس، قتله أبو مسلم بالأنبار عن أمر السفاح بعد ولايته بأربعة أشهر، في شهر رجب.

وكان ذا هيئة فاضلا حسن المفاكهة، وكان السفاح يأنس به ويحب مسامرته لطيب محاضرته، ولكن توهم ميله لآل علي فدس أبو مسلم عليه من قتله غيلة كما تقدم، فأنشد السفاح عند قتله:

إلى النار فليذهب ومن كان مثله * على أي شيء فاتنا منه نأسف

كان يقال له: وزير آل محمد، ويعرف بالخلال، لسنكاه بدرب الخلالين بالكوفة، وهو أول من سمي بالوزير.

وقد حكى ابن خلكان، عن ابن قتيبة: أن اشتقاق الوزير من الوزر وهو: الحمل، فكأن السلطان حمله أثقالا لاستناده إلى رأيه، كما يلجأ الخائف إلى جبل يعتصم به.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة

[عدل]

فيها: ولى السفاح عمه سليمان البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان.

ووجه عمه إسماعيل بن علي إلى كور الأهواز.

وفيها: قتل داود بن علي من بمكة والمدينة من بني أمية.

وفيها توفي: داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، واستخلف ابنه موسى على عمله، وكانت ولايته على الحجاز ثلاثة أشهر، فلما بلغ السفاح موته استناب على الحجاز خاله محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الدار الحارثي، وولى اليمن لابن خاله محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الدار، وجعل إمرة الشام لعميه: عبد الله وصالح بن علي، وأقر أبا عون على الديار المصرية نائبا.

وفيها: توجه محمد بن الأشعث إلى إفريقية فقاتلهم قتالا شديدا حتى فتحها.

وفيها: خرج شريك بن شيخ المهري ببخارى على أبي مسلم وقال: ما على هذا بايعنا آل محمد، على سفك الدماء وقتل الأنفس ؟

واتبعه على ذلك نحو من ثلاثين ألفا، فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.

وفيها: عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل، وولى عليه عمه إسماعيل.

وفيها: ولى الصائفة من جهته صالحُ بن علي سعيدَ بن عبيد الله، وغزا ما وراء الدروب.

وحج بالناس خال السفاح زياد بن عبيد الله بن عبد الدار الحارثي.

ونواب البلاد هم الذين كانوا في التي قبلها سوى من ذكرنا أنه عزل.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة

[عدل]

فيها: خلع بسام بن إبراهيم بن بسام الطاعة وخرج على السفاح، فبعث إليه خازم بن خزيمة فقاتله فقتل عامة أصحابه، واستباح عسكره.

ورجع فمر بملأ من بني عبد الدار أخوال السفاح فسألهم عن بعض ما فيه نصرة للخليفة، فلم يردوا عليه، واستهانوا به، وأمر بضرب أعناقهم - وكانوا قريبا من عشرين رجلا ومثلهم من مواليهم - فاستعدى بنو عبد الدار على خازم بن خزيمة إلى السفاح، وقالوا: قتل هؤلاء بلا ذنب.

فهمَّ السفاح بقتله، فأشار عليه بعض الأمراء بأن لا يقتله ولكن ليبعثه مبعثا صعبا، فإن سلم فذاك، وإن قتل كان الذي أراد.

فبعثه إلى عمان وكان بها طائفة من الخوارج قد تمردوا وجهز معه سبعمائة رجل، وكتب إلى عمه سليمان بالبصرة أن يحملهم في السفن إلى عمان ففعل، فقاتل الخوارج فكسرهم وقهرهم واستحوذ على ما هنالك من البلاد، وقتل أمير الخوارج الصفرية وهو: الجُلُندي، وقتل من أصحابه وأنصاره نحوا من عشرة آلاف، وبعث برؤوسهم إلى البصرة، فبعث بها نائب البصرة إلى الخليفة.

ثم بعد أشهر كتب إليه السفاح أن يرجع فرجع سالما غانما منصورا.

وفيها: غزا أبو مسلم بلاد الصغد، وغزا أبو داود أحد نواب أبي مسلم بلاد كش، فقتل خلقا كثيرا، وغنم من الأواني الصينية المنقوشة بالذهب شيئا كثيرا جدا.

وفيها: بعث السفاح موسى بن كعب إلى منصور بن جمهور وهو بالهند في اثني عشر ألفا، فالتقاه موسى بن كعب وهو في ثلاثة آلاف فهزمه واستباح عسكره.

وفيها: مات عامل اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد الدار، فاستخلف السفاح عليها عمه وهو خال الخليفة.

وفيها: تحول السفاح من الحيرة إلى الأنبار.

وحج بالناس نائب الكوفة عيسى بن موسى، ونواب الأقاليم هم هم.

وفيها توفي من الأعيان: أبو هارون العبدي، وعمارة بن جوين، ويزيد بن جابر الدمشقي، والله أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

[عدل]

فيها: خرج زياد بن صالح من وراء نهر بلخ على أبي مسلم فأظفره الله بهم فبدد شملهم واستقر أمره بتلك النواحي.

وحج بالناس فيها سليمان بن علي نائب البصرة، والنواب هم المذكورون قبلها.

وممن توفي فيها من الأعيان: يزيد بن سنان، وأبو عقيل زهرة بن معبد، وعطاء الخراساني.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة

[عدل]

فيها: قدم أبو مسلم من خراسان على السفاح، وذلك بعد استئذانه الخليفة في القدوم عليه، فكتب إليه أن يقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه: إني قد وترت الناس، وإني أخشى من قلة الخمسمائة.

فكتب إليه أن يقدم في ألف فقدم في ثمانية آلاف، فرقهم وأخذ معه من الأموال والتحف والهدايا شيئا كثيرا.

ولما قدم لم يكن معه سوى ألف من الجند، فلقاه القواد والأمراء إلى مسافة بعيدة.

ولما دخل على السفاح أكرمه وعظمه واحترمه وأنزله قريبا منه، وكان يأتي إلى الخلافة كل يوم، واستأذن الخليفة في الحج فأذن له، وقال: لولا أني عينت الحج لأخي أبي جعفر لأمرتك على الحج.

وكان الذي بين أبي جعفر وأبي مسلم خرابا وكان يبغضه، وذلك لما رأى ما هو فيه من الحرمة حين قدم عليه نيسابور في البيعة للسفاح وللمنصور بعده، فحار في أمره لذلك، فحقد عليه المنصور وأشار على السفاح بقتله، فأمر بكتم ذلك.

وحين قدم أمره بقتله أيضا وحرضه على ذلك، فقال له السفاح: قد علمت بلاءه معنا وخدمته لنا.

فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين ! إنما ذلك بدولتنا، والله لو أرسلت سنورا لسمعوا لها وأطاعوا، وإنك إن لم تتعش به تغدى بك هو.

فقال له: كيف السبيل إلى ذلك ؟

فقال: إذا دخل عليك فحادثه ثم أجيء أنا من ورائه فأضربه بالسيف.

قال: كيف بمن معه ؟

قال: هم أذل وأقل.

فأذن له في قتله، فلما دخل أبو مسلم على السفاح ندم على ما كان أذن لأخيه فيه، فبعث إليه الخادم يقول له: إن ذاك الذي بينك وبينه ندم عليه فلا تفعله.

فلما جاءه الخادم وجده محتبيا بالسيف قد تهيأ لما يريد من قتل أبي مسلم، فلما نهاه عن ذلك غضب أبو جعفر غضبا شديدا.

وفيها: حج بالناس أبو جعفر المنصور عن ولاية أخيه السفاح، وسار معه إلى الحجاز أبو مسلم الخراساني عن أمر الخليفة، وأذن له في الحج، فلما رجعا من الحج وكانا بذات عرق جاء الخبر إلى أبي جعفر - وكان يسير قبل أبي مسلم بمرحلة - بموت أخيه السفاح، فكتب إلى أبي مسلم أن قد حدث أمر فالعجل العجل، فلما استعلم أبو مسلم الخبر عجل السير وراءه، فلحقه إلى الكوفة.

وكانت بيعة المنصور على ما سيأتي بيانه وتفصيله قريبا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ترجمة أبي العباس السفاح أول خلفاء بني العباس

[عدل]

هو: عبد الله السفاح - ويقال له: المرتضى، والقاسم أيضا - ابن محمد بن الإمام بن علي السجاد بن عبد الله الحبر بن العباس بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، أمير المؤمنين، وأمه: ريطة - ويقال: رايطة - بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد الدار الحارثي.

كان مولد السفاح بالحميمة من أرض الشراة من البلقاء بالشام، ونشأ بها حتى أخذ مروان أخاه إبراهيم الإمام فانتقلوا إلى الكوفة.

بويع بالخلافة بعد مقتل أخيه في حياة مروان يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول بالكوفة كما تقدم.

وتوفي بالجدري بالأنبار يوم الأحد الحادي عشر، وقيل: الثالث عشر من ذي الحجة، سنة ست وثلاثين ومائة.

وكان عمره ثلاثا، وقيل: ثنتين، وقيل: إحدى وثلاثين سنة، وقيل: ثمان وعشرين سنة. قاله غير واحد.

وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وكان أبيض جميلا طويلا، أقنى الأنف، جعد الشعر، حسن اللحية، حسن الوجه، فصيح الكلام، حسن الرأي، جيد البديهة.

دخل عليه في أول ولايته عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ومعه مصحف وعند السفاح وجوه بني هاشم من أهل بيته وغيرهم، فقال له: يا أمير المؤمنين ! أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف.

قال: فأشفق عليه الحاضرون أن يعجل السفاح عليه بشيء أو يترك جوابه فيبقى ذلك مسبة عليه وعليهم.

فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك عليا، كان خيرا مني وأعدل، وقد ولي هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك، شيئا قد أعطيتكه وزدتك عليه، فما كان هذا جزائي منك.

قال: فما رد عليه عبد الله بن حسن جوابا، وتعجب الناس من سرعة جوابه وجدته وجودته على البديهة.

وقد وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا الأعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله : «يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له: السفاح، يكون إعطاؤه المال حثيا».

وكذا رواه زائدة وأبو معاوية، عن الأعمش، به.

وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وقد تكلموا فيه.

وفي أن المراد بهذا الحديث هذا السفاح نظر، والله أعلم.

وقد ذكرنا فيما تقدم عند زوال دولة بني أمية أخبارا وآثارا في مثل هذا المعنى.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلمة بن محمد بن هشام، أخبرني محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثني داود بن عيسى، عن أبيه، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وهو: والد السفاح - قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من النصارى فقال له عمر: من تجدون الخليفة بعد سليمان ؟

قال له: أنت !

فأقبل عمر بن عبد العزيز عليه فقال له: زدني من بيانك.

فقال: ثم آخر، إلى أن ذكر خلافة بني أمية إلى آخرها.

قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني في بالي فرأيته يوما فأمرت غلامي أن يحبسه عليَّ، وذهبت إلى منزلي فسألته عما يكون في خلفاء بني أمية فذكرهم واحدا واحدا، وتجاوز عن مروان بن محمد.

قلت: ثم من ؟

قال: ثم ابن الحارثية، وهو ابنك.

قال: وكان ابني ابن الحارثية إذ ذاك حملا.

قال: ووفد أهل المدينة على السفاح فبادروا إلى تقبيل يده غير عمران بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع العدوي، فإنه لم يقبل يده، إنما حياه بالخلافة فقط.

وقال: والله يا أمير المؤمنين ! لو كان تقبيلها يزيدك رفعة ويزيدني وسيلة إليك ما سبقني إليها أحد من هؤلاء، وإني لغني عما لا أجر فيه، وربما قادنا عمله إلى الوزر، ثم جلس.

قال: فوالله ما نقصه ذلك عنده حظا من حظ أصحابه، بل أحبه وزاده.

وذكر القاضي المعافى بن زكريا: أن السفاح بعث رجلا ينادي في عسكر مروان بهذين البيتين ليلا ثم رجع:

يا آل مروان إن الله مهلككم * ومبدل أمنكم خوفا وتشريدا

لا عمَّر الله من أنسالكم أحدا * وبثكم في بلاد الخوف تطريدا

وروى الخطيب البغدادي أن السفاح نظر يوما في المرآة - وكان من أجمل الناس وجها - فقال: اللهم لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الخليفة الشاب، ولكن أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعا بالعافية.

فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لآخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام.

فتطير من كلامه وقال: حسبي الله لا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين. فمات بعد شهرين وخمسة أيام.

وذكر محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي: أن الرشيد أمر ابنه أن يسمع من إسحاق بن عيسى بن علي ما يرويه عن أبيه في قصة السفاح، فأخبره عن أبيه عيسى، أنه دخل على السفاح يوم عرفة بكرة فوجده صائما، فأمره أن يحادثه في يومه هذا ثم يختم ذلك بفطره عنده.

قال: فحادثته حتى أخذه النوم فقمت عنه وقلت: أقيل في منزلي ثم أجيء بعد ذلك.

فذهبت فنمت قليلا ثم قمت فأقبلت إلى داره فإذا على بابه بشير يبشر بفتح السند وبيعتهم للخليفة وتسليم الأمور إلى نوابه.

قال: فحمدت الله الذي وفقني في الدخول عليه بهذه البشارة، فدخلت الدار فإذا بشير أخر معه بشارة بفتح إفريقية، فحمدت الله فدخلت عليه فبشرته بذلك وهو يسرح لحيته بعد الوضوء، فسقط المشط من يده ثم قال: سبحان الله، كل شيء بائد سواه، نعيت والله إليَّ نفسي، حدثني إبراهيم الإمام، عن أبي هشام، عن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن رسول الله أنه قال: «يقدم عليَّ في مدينتي هذه وافدان: وافد السند والآخر وافد إفريقية بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم، فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أموت».

قال: وقد أتاني الوافدان فأعظم الله أجرك يا عم في ابن أخيك.

فقلت: كلا يا أمير المؤمنين ! إن شاء الله.

قال: بلى ! إن شاء الله، لئن كانت الدنيا حبيبة إليَّ فالآخرة أحب إلي، ولقاء ربي خير لي، وصحة الرواية عن رسول الله بذلك أحب إلي منها، والله ما كَذبت ولا كُذبت.

ثم نهض فدخل منزله وأمرني بالجلوس، فلما جاء المؤذن يعلمه بوقت الظهر خرج الخادم يعلمني أن أصلي عنه، وكذلك العصر والمغرب والعشاء، وبت هناك، فلما كان وقت السحر أتاني الخادم بكتاب معه يأمرني أن أصلي عنه الصبح والعيد ثم أرجع إلى داره، وفيه يقول: يا عم ! إذا مت فلا تعلم الناس بموتي حتى تقرأ عليهم هذا الكتاب فيبايعوا لمن فيه.

قال: فصليت بالناس ثم رجعت إليه فإذا ليس به بأس، ثم دخلت عليه من آخر النهار فإذا هو على حاله غير أنه قد خرجت في وجهه حبتان صغيرتان، ثم كبرتا، ثم صار في وجهه حب صغار بيض، يقال: إنه جدري، ثم بكرت إليه في اليوم الثاني فإذا هو قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري، ثم رجعت إليه بالعشي فإذا هو انتفخ حتى صار مثل الزق، وتوفي اليوم الثالث من أيام التشريق، فسجيته كما أمرني، وخرجت إلى الناس فقرأت عليهم كتابه فإذا فيه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى الأولياء وجماعة المسلمين، سلام عليكم أما بعد فقد قلد أمير المؤمنين الخلافة عليكم بعد وفاته أخاه فاسمعوا وأطيعوا، وقد قلدها من بعده عيسى بن موسى إن كان.

قال: فاختلف الناس في قوله: إن كان، قيل: إن كان أهلا لها، وقال آخرون: إن كان حيا.

وهذا القول الثاني هو الصواب، ذكره الخطيب وابن عساكر مطولا. وهذا ملخص منه. وفيه ذكر الحديث المرفوع وهو منكر جدا.

وذكر ابن عساكر أن الطبيب دخل عليه فأخذ بيده فأنشأ يقول عند ذلك:

انظر إلى ضعف الحرا * ك وذله بعد السكون

ينبيك أن بيانه * هذا مقدمة المنون

فقال الطبيب: أنت صالح.

فأنشأ يقول:

يبشرني بأني ذو صلاح * يبين له وبي داء دفين

ولقد أيقنت إني غير باق * ولا شك إذا وضح اليقين

قال أهل العلم: كان آخر ما تكلم به السفاح:

الملك لله الحي القيوم، ملك الملوك، وجبار الجبابرة.

وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله.

وكان موته بالجدري في يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بالأنبار العتيقة، عن ثلاث وثلاثين سنة.

وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر على أشهر الأقوال.

وصلى عليه عمه عيسى بن علي، ودفن في قصر الإمارة من الأنبار.

وترك: تسع جبات، وأربعة أقمصة، وخمس سراويلات، وأربعة طيالسة، وثلاث مطارف خز.

وقد ترجمه ابن عساكر فذكر بعض ما أوردناه، والله أعلم.

وممن توفي فيها من الأعيان: السفاح كما تقدم، وأشعث بن سوار، وجعفر بن أبي ربيعة، وحصين بن عبد الرحمن، وربيعة الراعي، وزيد بن أسلم، وعبد الملك بن عمير، وعبد الله بن أبي جعفر، وعطاء بن السائب، وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد.

خلافة أبي جعفر المنصور

[عدل]

واسمه: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

قد تقدم أنه لما مات السفاح كان في الحجاز، فبلغه موته وهو بذات عرق راجعا من الحج، وكان معه أبو مسلم الخراساني، فعجل السير وعزاه أبو مسلم في أخيه، فبكى المنصور عند ذلك.

فقال له: أتبكي وقد جاءتك الخلافة؟ أنا أكفيكها إن شاء الله.

فسري عنه، وأمر زياد بن عبيد الله أن يرجع إلى مكة واليا عليها، وكان السفاح قد عزله عنها بالعباس بن عبد الله بن معبد بن عباس فأقره عليها.

والنواب على أعمالهم حتى انسلخت هذه السنة، وقد كان عبد الله بن علي قدم على ابن أخيه السفاح الأنبار فأمره على الصائفة، فركب في جيوش عظيمة إلى بلاد الروم، فلما كان ببعض الطريق بلغه موت السفاح فكر راجعا إلى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى الشام أن يكون ولي العهد من بعده، فالتفت عليه جيوش عظيمة، وكان من أمره ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

[عدل]

ذكر خروج عبد الله بن علي على ابن أخيه المنصور

لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج بعد موت أخيه السفاح، دخل الكوفة فخطب بأهلها يوم الجمعة وصلى بهم.

ثم ارتحل منها إلى الأنبار، وقد أخذت له البيعة من أهل العراق وخراسان، وسائر البلاد سوى الشام، وقد ضبط عيسى بن علي بيوت الأموال والحواصل للمنصور حتى قدم، فسلم إليه الأمر، وكتب إلى عمه عبد الله بن علي يعلمه بوفاة السفاح، فلما بلغه الخبر نادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الأمراء والناس، فقرأ عليهم وفاة السفاح، ثم قام فيهم خطيبا، فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان الأمر إليه من بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، ونهضوا إليه فبايعوه، ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين ليلة، وقتل مقاتل العكي نائبها.

فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه بعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه جماعة من الأمراء، وقد تحصن عبد الله بن علي بحران، وأرصد عنده مما يحتاج إليه من الأطعمة والسلاح شيئا كثيرا جدا، فسار إليه أبو مسلم الخراساني وعلى مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي، فلما تحقق عبد الله قدوم أبي مسلم إليه خشي من جيش العراق أن لا يناصحوه، فقتل منهم سبعة عشر ألفا، وأراد قتل حميد بن قحطبة فهرب منه إلى أبي مسلم، فركب عبد الله بن علي فنزل نصيبين وخندق حول عسكره، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، وإنما بعثني أمير المؤمنين واليا على الشام فأنا أريدها.

فخاف جنود الشام من هذا الكلام فقالوا: إنا نخاف على ذرارينا وديارنا وأموالنا، فنحن نذهب إليها نمنعهم منه.

فقال عبد الله: ويحكم ! والله إنه لم يأت إلا لقتالنا.

فأبوا إلا أن يرتحلوا نحو الشام، فتحول عبد الله من منزله ذلك وقصد ناحية الشام، فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغوَّر ما حوله عن المياه - وكان موضع عبد الله الذي تحول منه موضعا جيدا جدا - فاحتاج عبد الله وأصحابه فنزلوا في موضع أبي مسلم فوجدوه منزلا رديئا، ثم أنشأ أبو مسلم القتال فحاربهم خمسة أشهر.

وكان على خيل عبد الله أخوه عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنته بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى ميمنته أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن خزيم، وقد جرت بينهم وقعات، وقتل منهم جماعات في أيام نحسات، وكان أبو مسلم إذا حمل يرتجز ويقول:

من كان ينوي أهله فلا رجع * فرَّ من الموت وفي الموت وقع

وكان يعمل له عرش فيكون فيه إذا التقى الجيشان فما رأى في جيشه من خلل أرسل فأصلحه.

فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة: التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فمكر بهم أبو مسلم ! بعث إلى الحسن بن قحطبة أمير الميمنة فأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام وكانت الهزيمة.

وانهزم عبد الله بن علي بعد تلوم، واحتاز أبو مسلم ما كان في معسكرهم، وأمن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحدا، وكتب إلى المنصور بذلك، فأرسل المنصور مولاه أبا الخصيب ليحصي ما وجدوا في معسكر عبد الله، فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني.

واستوثقت الممالك لأبي جعفر المنصور، ومضى عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد على وجهيهما، فلما مرَّا بالرصافة أقام بها عبد الصمد، فلما رجع أبو الخصيب وجده بها فأخذه معه مقيدا في الحديد فأدخله على المنصور فدفعه إلى عيسى بن موسى فاستأمن له المنصور.

وقيل: بل استأمن له إسماعيل بن علي.

وأما عبد الله بن علي فإنه ذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده زمانا مختفيا، ثم علم به المنصور فبعث إليه فسجنه في بيت بني أسامة على الملح ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد الله فمات.

وهذه من بعض دواهي المنصور، والله سبحانه أعلم.

فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات، كما سيأتي بيانه في موضعه، إن شاء الله تعالى.

مهلك أبي مسلم الخراساني

[عدل]

في هذه السنة أيضا: لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه خبر السفاح في الطريق، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه بالخلافة، ولا رجع إليه.

فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضت إليه الخلافة، وقيل: إن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة وأنه لما جاء خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما قدمنا.

فقال لأبي أيوب: اكتب له كتابا غليظا.

فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه بالخلافة وانقمع من ذلك.

وقال بعض الأمراء للمنصور: إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فإن معه من الجنود من لا يخالفه، وهم له أهيب وعلى طاعته أحرص، وليس معك أحد.

فأخذ المنصور برأيه ثم كان من أمره في مبايعته لأبي جعفر ما ذكرنا، ثم بعثه إلى عمه عبد الله فكسره كما تقدم، وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبة لأبي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر، فإنه إذا جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان استهزاء !

فقال أيوب: إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا.

ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبد الله من الأموال والجواهر الثمينة وغيرها، غضب أبو مسلم فشتم أبا جعفر وهمَّ بأبي الخصيب، حتى قيل له: إنه رسول. فتركه ورجع.

فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما همَّ به أبو مسلم من قتله، فغضب المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك، وأن تحدث حوادث، فكتب إليه مع يقطين: إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير من خراسان، فابعث إلى مصر من شئت، وأقم أنت بالشام لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين، إذا أراد لقاءك كنت منه قريبا.

فغضب أبو مسلم وقال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذا أذهب إليها وأستخلف على الشام ومصر.

فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيرا.

ورجع أبو مسلم من الشام قاصدا خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور.

فخرج المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء.

فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة.

فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقصت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والإهانة.

فلما وصل الكتاب إلى المنصور وكتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة، وقد حمَّل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك.

ويقال: إن أبا مسلم كتب إلى المنصور: أما بعد فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلا وفي قرابته من رسول الله قريبا، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه، وكان كالذي دلى بغرور، وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمة ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرّفكم الله من كان يجهلكم، وأطاعكم من كان عدوكم، وأظهركم الله بي بعد الإخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني الله بالتوبة.

فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد. وذكره المدائني عن شيوخه.

وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن عبد الله البجلي - وقد كان أوحد أهل زمانه - في جماعة من الأمراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما يقدر عليه، وأن يكون في جملة ما يكلمه به: أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والإطلاقات لك.

فإن جاء بهذا فذاك، وإن أبى فقل: هو بريء من العباس إن شققت العصا على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك. ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن.

فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما همَّ به من منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغَّبوه في الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه، وجنوده طوعا له، فإن استقام له الخليفة وإلا كان في عز ومنعة من الجند.

فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم: ارجعوا إلى صاحبكم فلست ألقاه.

فلما استيأسوا منه قالوا ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به.

فلما سمع ذلك كسره جدا وقال: قوموا عني الساعة.

وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين أتهم: إن ولاية خراسان لك ما بقيت، فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم.

فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة: إنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله ، فارجع إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام.

فزاده ذلك كسرا أيضا فبعث إليهم أبو مسلم: إني سأبعث إليه أبا إسحاق وهو ممن أثق به.

فبعث أبا إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده.

فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له: ما وراءك ؟

قال: رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك.

فغره ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميرا يقال له: نيزك، فنهاه، فصمم على الذهاب، فلما رآه نيزك عازما على الذهاب تمثل بقول الشاعر:

ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام

ثم قال له: احفظ عني واحدة.

قال: وما هي ؟

قال: إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك.

وكتب أبو مسلم يعلمه بقدومه عليه.

قال أبو أيوب كاتب الرسائل: فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر، وبين يديه كتاب فألقاه إلي فإذا هو كتاب أبي مسلم يعلمه بالقدوم عليه، ثم قال الخليفة: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.

قال أبو أيوب: فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وبت تلك الليلة لا يأتني نوم، وأفكر في هذه الواقعة، وقلت: إن دخل أبو مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة تقتضي أن يدخل آمنا ليتمكن منه الخليفة.

فلما أصبحت طلبت رجلا من الأمراء وقلت له: هل لك أن تتولى مدينة كسكر فإنها مغلة في هذه السنة ؟

فقال: ومن لي بذلك ؟

فقلت له: فاذهب إلى أبي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه ويستريح لنفسه.

واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له، وقال له: سلم عليه وقل له: إنا بالأشواق إليه.

فسار ذلك الرجل - وهو: سلمة بن فلان - إلى أبي مسلم فأخبره باشتياق الخليفة إليه، فسره ذلك وانشرح، وإنما هو غرور ومكر به، فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته، فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والأمراء أن يتلقوه، وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم، وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد، فقبل ذلك منه.

فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم قال: اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام، فإذا كان الغد فأتني.

فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه، فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الأمراء فقال له: كيف بلائي عندك ؟

فقال: والله يا أمير المؤمنين ! لو أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها.

قال: فكيف بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم ؟

قال: فوجم ساعة ثم قال له أبو أيوب: مالك لا تتكلم ؟

فقال قولة ضعيفة: أقتله.

ثم اختار له من عيون الحرس أربعة فحرضهم على قتله، وقال لهم: كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه.

ثم أرسل المنصور إلى أبي مسلم رسلا تترى يتبع بعضها بعضا، فأقبل أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم، فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة، فيعتذر عن ذلك كله.

ثم قال: يا أمير المؤمنين ! أرجو أن تكون نفسك قد طابت عليّ.

فقال المنصور: أما والله ما زادني هذا إلا غيظا عليك.

ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فخرج عثمان وأصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجلة، وكان آخر العهد به، وكان مقتله في يوم الأربعاء، لأربع بقين من شعبان، سنة سبع وثلاثين ومائة.

وكان من جملة ما عاتبه به المنصور أن قال: كتبت إليّ مرات تبدأ بنفسك، وأرسلت تخطب عمتي أمينة، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس إلى غير ذلك.

فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين ! لا يقال لي هذا، وقد سعيت في أمركم بما علمه كل أحد.

فقال: ويلك ! لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا.

ثم قال: والله لأقتلنك.

فقال: استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك.

فقال: وأي عدو لي أعدى منك ؟

ثم أمر بقتله كما تقدم، فقال له بعض الأمراء: يا أمير المؤمنين ! الآن صرت خليفة.

ويقال: إن المنصور أنشد عند ذلك:

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرّ علينا بالإياب المسافر

وذكر ابن خلكان: أن المنصور لما أراد قتل أبي مسلم تحير في أمره هل يستشير أحدا في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينشر، ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين ! قال الله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] .

فقال له: لقد أودعتها أذنا واعيةً.

ثم عزم على ذلك.

ترجمة أبي مسلم الخراساني

[عدل]

هو: عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له: أمير آل بيت رسول الله .

وقال الخطيب: يقال له: عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية.

يروي عن: أبي الزبير، وثابت البناني، وإبراهيم وعبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

زاد ابن عساكر في شيوخه: محمد بن علي، وعبد الرحمن بن حرملة، وعكرمة مولى ابن عباس.

قال ابن عساكر: روى عنه: إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مصعب بن بشر، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن منيب المروزي، وقديد بن منيع صهر أبي مسلم.

قال الخطيب: وكان أبو مسلم فاتكا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن.

وقال أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان: كان اسمه: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، قيل: إنه ولد بأصبهان، وروي عن السدي وغيره.

وقيل: كان اسمه: إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس بن حوذون، ولد بزرجمهر، وكان يكنى: أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد الإمام إلى خراسان قال له: غير اسمك وكنيتك.

فتسمى: عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى: بأبي مسلم، فسار إلى خراسان وهو ابن سبع عشرة سنة راكبا على حمار بأكاف، وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل خراسان وهو كذلك، ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها وحذافيرها.

وذكر أنه في ذهابه إليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكا، فكان بعد ذلك خرابا.

وذكر بعضهم أنه أصابه سبي في صغره، وأنه اشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أن إبراهيم بن محمد الإمام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه إبراهيم بنت أبي النجم إسماعيل الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وأصدقها عنه أربعمائة درهم، فولد لأبي مسلم بنتان: إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب.

وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة، وكيف نشر دعوة بني العباس، وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع في الأمور.

وقد روى ابن عساكر بإسناده: أن رجلا قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك ؟

فقال: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء». وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة. يا غلام اضرب عنقه.

وروى من حديث عبد الله بن منيب، عنه، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله : «من أراد هوان قريش أهانه الله».

وقد كان إبراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة، وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم بن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه، فأمر بضرب عنقه، وقال له: لم لا كنت تنكر على نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية ؟

فقال له: إن أولئك لم يقربوني من أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت.

وقد رأى بعضهم لإبراهيم بن ميمون هذا منازل عالية في الجنة بصبره على المعروف والنهي عن المنكر، فإنه كان آمرا ناهيا قائما في ذلك، فقتله أبو مسلم رحمه الله.

وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما صار الأمر إلى المنصور استخف به واحتقره، ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور.

ثم شمخت نفسه على المنصور وهمَّ بقتله، ففطن لذلك المنصور مع ما كان مبطنا له من البغضة، وقد سأل أخاه السفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبى عليه، فلما تولى المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله.

قال بعضهم: كتب المنصور إلى أبي مسلم: أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع عليها المعاصي، فع ِ أيها الطائش، وأفق أيها السكران، وانتبه أيها النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان قبلك وسم بها سوالف القرون: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا } [مريم: 98] .

وإن الله لا يعجزه من هرب، ولا يفوته من طلب، فلا تغتر بمن معك من شيعتي وأهل دعوتي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك، إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لك من الله ما لم تكن تحتسب، مهلا مهلا، احذر البغي أبا مسلم ! فإنه من بغى واعتدى تخلى الله عنه، ونصر عليه من يصرعه لليدين والفم، واحذر أن تكون سنة في الذين قد خلوا من قبلك، ومثلة لمن يأتي بعدك، فقد قامت الحجة وأعذرت إليك وإلى أهل طاعتي فيك.

قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الأعراف: 175] .

فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانبا، وعن الحق حائدا إذ تضرب فيه الأمثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فيه آيات منزلة من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

وإنني والله ما انسلخت من آيات الله، ولكنني يا عبد الله بن محمد كنت رجلا متأولا فيكم من القرآن آيات أوجبت لكم بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين لك من قبلك ثم بك من بعدهما، فكنت لهما شيعة متدينا أحسبني هاديا مهتديا، وأخطأت في التأويل وقدما أخطأ المتأولون، وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 54] .

وإن أخاك السفاح ظهر في صورة مهدي وكان ضالا فأمرني أن أجرد السيف، وأقتل بالظنة، وأقدم بالشبهة، وأرفع الرحمة، ولا أقيل العثرة، فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم.

ثم إن الله سبحانه تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة، فإن يعف عني ويصفح فإنه كان للأوابين غفورا، وإن يعاقبني فبذنوبي وما ربك بظلام للعبيد.

فكتب إليه المنصور: أما بعد أيها المجرم العاصي، فإن أخي كان إمام هدى يدعو إلى الله على بينة من ربه، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائدا، وعن الشيطان وأوامره صادرا، ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لأرشدهما تاركا، ولأغواهما راكبا، تقتل قتل الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، وتحكم بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين.

ثم من خبري أيها الفاسق أني قد وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بنيسابور، فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجه للقائك أقرانك، فاجمع كيدك وأمرك غير مسدد ولا موفق، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه الله ونعم الوكيل.

ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، ويستخف أحلام من حوله من الأمراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا لأبي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له: نيزك، فإنه لم يوافق على ذلك، فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عن ذلك البيت المتقدم وهو:

ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام

وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لما قدم المدائن تلقاه الأمراء عن أمر الخليفة، فما وصل إلا آخر النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم، فلما وقف بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه، وقال: اذهب الليلة فأذهب عنك وعثاء السفر، ثم ائتني من الغد.

فلما كان الغد أرصد له من الأمراء من يقتله منهم: عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، فقتلوه كما تقدم.

ويقال: بل أقام أياما يظهر له المنصور الإكرام والاحترام، ثم نشق منه الوحشة فخاف مسلم، واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به، وقال: إني أخافه على نفسي.

فقال: لا بأس عليك، فانطلق فإني آت وراءك، أنت في ذمتي حتى آتيك - ولم يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة -.

فجاء أبو مسلم يستأذن المنصور فقالوا له: اجلس هاهنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يود أن يطول مجلسه ليجيء عيسى بن موسى فأبطأ، وأذن له الخليفة فدخل عليه فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيدا، حتى قال له: فلم قتلت سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وفلانا، وفلانا ؟

قال: لأنهم عصوني وخالفوا أمري.

فغضب عند ذلك المنصور وقال: ويحك ! أنت تقتل إذا عصيت، وأنا لا أقتلك وقد عصيتني ؟

وصفق بيديه - وكانت الإشارة بينه وبين المرصدين لقتله - فتبادروا إليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فقال: يا أمير المؤمنين ! استبقني لأعدائك.

فقال: وأي عدو أعدى منك ؟

ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعا ولفوه في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على أثر ذلك فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟

فقال: هذا أبو مسلم.

فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال له المنصور: احمد الله الذي هجمت عليَّ نعمة، ولم تهجم عليَّ نقمة.

ففي ذلك يقول أبو دلامة:

أبا مسلم ما غيّر الله من نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد

أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى * عليك بما خوفتني الأسد الورد

وذكر ابن جرير: أن المنصور تقدم إلى عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، وأبي حنيفة حرب بن قيس، وآخر من الحرس أن يكونوا قريبا منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب بإحدى يديه على الأخرى فليقتلوه، فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور: ما فعل السيفان اللذان أصبتهما من عبد الله بن علي ؟

فقال: هذا أحدهما.

فقال: أرنيه.

فناوله السيف فوضعه تحت ركبته.

ثم قال له: ما حملك على أن تكتب لأبي عبد الله السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين ؟

قال: إنني ظننت أن أخذه لا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت أنه وأهل بيته معدن العلم.

قال: فلم تقدمت عليَّ في طريق الحج ؟

قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمت التماس الرفق.

قال: فلم لا رجعت إلي حين أتاك خبر موت أبي العباس ؟

قال: كرهت التضييق على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة، وليس عليك مني خلاف.

قال: فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك ؟

قال: لا ! ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها.

ثم قال له: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك؟ والكاتب إلي تخطب آمنة بنت علي؟ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ هذا كله ويد المنصور في يده يعركها ويقبلها ويعتذر.

ثم قال له: فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان ؟

قال: خفت أن يكون دخلك مني شيء فأردت أن أدخل خراسان وأكتب إليك بعذري.

قال: فلم قتلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك ؟

قال: أراد خلافي.

فقال: ويحك ! وأنت أردت خلافي وعصيتني، قتلني الله إن لم أقتلك.

ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج إليه أولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه، وضربه شبيب فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح ويحكم ! اضربوه قطع الله أيديكم.

ثم ذبحوه وقطعوه قطعا قطعا، ثم ألقي في دجلة.

ويرى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال: رحمك الله أبا مسلم ! بايعتنا فبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك، وحكمنا عليك حكمك على نفسك لنا.

ويقال: إن المنصور قال: الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله.

قال ابن جرير: وقال المنصور عند ذلك:

زعمت أن الدين لا يقتضى * فاستوف بالكيل أبا مجرم

سقيت كأسا كنت تسقي بها * أمرَّ في الحلق من العلقم

ثم إن المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس ! لا تنفروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة فإن أحدا لا يسر منكم شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم.

وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على أنه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه، فنكث وغدر وفجر وكفر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، وإن أبا مسلم أحسن مبتديا وأساء منتهيا، وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا.

ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علم اللائم لنا فيه لما لام، ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهاله، ومازال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمناه فيه حكمه في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني: ابن المنذر -:

فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك والله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبةً * تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

وقد روى البيهقي، عن الحاكم، بسنده: أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم: أهو خير أم الحجاج ؟

فقال: لا أقول أن أبا مسلم كان خيرا من أحد، ولكن كان الحجاج شرا منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره.

وقد روى الخطيب، عنه، أنه قال: ارتديت الصبر، وآثرت الكفاف، وحالفت الأحزان والأشجان، وشامخت المقادير والأحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي.

ثم أنشأ يقول:

قد نلت بالعزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذا حشدوا

ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة لم ينمها قبلهم أحد

وطفت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم في الشام قد رقدوا

ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الأسد

وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الأربعاء لسبع خلون، وقيل: لخمس بقين، وقيل: لأربع، وقيل: لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة - أعني: سنة سبع وثلاثين ومائة -.

قال بعضهم: كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة.

وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين، وهذا غلط من قائله، فإن بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، وردَّ هذا القول.

ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالأعطية والرغبة والرهبة والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعز أصحاب أبي مسلم - وكان على شرطة أبي مسلم، وهمَّ بضرب عنقه فقال: يا أمير المؤمنين ! والله ما أمنت قط إلا في هذا اليوم، وما من يوم كنت أدخل عليه إلا تحنطت ولبست كفني.

ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط، وعليه أدراع أكفان، فرقَّ له المنصور وأطلقه.

وذكر ابن جرير: أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة ألف صبرا زيادة عن من قتل بغير ذلك.

وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه: يا أمير المؤمنين ! لا يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني.

فقال له: يا ابن الخبيثة ! لو كانت أمة مكانك لأجزأت ناحيتها، إنما عملت ما عملت بدولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل.

ولما قتله المنصور لفه في كساء وهو مقطع إربا إربا، فدخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين ! أين أبو مسلم ؟

قال: قد كان هاهنا آنفا.

فقال: يا أمير المؤمنين ! قد عرفت طاعته ونصيحة ورأي إبراهيم الإمام فيه.

فقال له: يا أنوك ! والله ما أعلم في الأرض عدوا أعدى لك منه، هاهو ذاك في البساط.

فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال له المنصور: خلع الله قلبك ! وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ؟

ثم استدعى المنصور برؤوس الأمراء فجعل يستشيرهم في قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله، فكلهم يشير بقتله، ومنهم من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفا من أبي مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم على قتله أفزعهم ذلك وأظهروا سرورا كثيرا.

ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم.

ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، بكماله مطبوعا بكل فص الخاتم، فلما رآه الخازن استراب في الأمر، وقد كان أبي مسلم تقدم إلى خازنه: أنه إذا جاءك كتابي فإن رأيته مختوما بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك الكتاب مختوما عليه بكماله، فلا تقبل ولا تمض ما فيه.

فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد ذلك إليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن، وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيم بن خالد بإمرة خراسان، كما وعده قبل ذلك عوضا عن أبي مسلم.

وفي هذه السنة: خرج سنباذ يطلب بدم أبي مسلم، وقد كان سنباذ هذا مجوسيا تغلب على قومس وأصبهان، ويسمى: بفيروز أصبهبذ، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشا هم عشرة آلاف فارس عليهم جهور بن مرار العجلي، فالتقوا بين همذان والري بالمفازة، فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم، وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين يوما.

وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري.

وخرج في هذه السنة أيضا: رجل يقال له: ملبَّد بن حرمة الشيباني، في ألف من الخوارج بالجزيرة، فجهز إليه المنصور جيوشا متعددةً كثيفةً كلها تنفر منه وتنكسر، ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبَّد وتحصن منه حميد في بعض الحصون، ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبَّد وتقلع عنه.

وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس.

قال الواقدي: وكان نائب الموصل - يعني: عم المنصور - وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله.

ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره.

ومن مشاهير من توفي فيها: أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه، كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثون ومائة

[عدل]

فيها: دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها.

وفيها: غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من سور ملطية، وأطلق لأخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار.

وفيها: بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى طاعته، ولكن حبس في سجن بغداد، كما سيأتي.

وفيها: خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش كثيف فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من الأموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه.

وفيها: قتل الملبّد الخارجي على يدي خازم بن خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم بقيتهم.

قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون بالتي قبلها.

وممن توفي فيها من الأعيان: زيد بن واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول.

وفيها: كانت خلافة الداخل من بني أمية إلى بلاد الأندلس، وهو: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي.

قلت: ليس وهو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى: أمويا، كان قد دخل إلى بلاد المغرب فرارا من عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية والمضرية، فبعث مولاه بدرا إليهم فاستمالهم إليه فبايعوه ودخل بهم ففتح بلاد الأندلس واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله.

وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة ثنتين وسبعين ومائة، فتوفي فيها، وله في الملك أربع وثلاثون سنة وأشهر.

ثم قام من بعده ولده هشام ست سنين وأشهرا، ثم مات، فولي بعده الحكم بن هشام ستا وعشرين سنة وأشهرا ثم مات، ثم ولي بعده ولده عبد الرحمن بن الحكم ثلاثا وثلاثين سنة ثم مات، ثم ولي بعده محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستا وعشرين سنة، ثم ابنه المنذر بن محمد، ثم أخوه عبد لله بن محمد بن المنذر.

وكانت أيامه بعد الثلاثمائة بدهر، ثم زالت تلك الدولة كما سنذكره من زوال تلك السنون وأهلها وما قضوا فيها من النعيم، والعيش الرغيد، والنساء الحسان، ثم انقضت تلك السنوات وأهلها كأنهم على ميعاد، ثم أضحوا كأنهم ورق جف ألوت عليه الصبا والذبول.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثون ومائة

[عدل]

فيها: أكمل صالح بن علي بناء ملطية، ثم غزا الصائفة على طريق الحدث، فوغل في بلاد الروم، وغزا معه أختاه: أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن يجاهدا في سبيل الله عز وجل.

وفيها: كان الفداء الذي حصل بين المنصور وبين ملك الروم، فاستنقذ بعض أسرى المسلمين، ثم لم يكن للناس صائفة في هذه السنة إلى سنة ست وأربعين، وذلك لاشتغال المنصور بأمر ابني عبد الله بن حسن كما سنذكره.

ولكن ذكر بعضهم أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام سنة أربعين، فالله أعلم.

وفيها: وسع المنصور المسجد الحرام، وكانت هذه السنة خصبة جدا - أي: كثيرة الخصب، فكان يقال لها: السنة الخصبة -.

وقيل: إنما كان ذلك في سنة أربعين.

وفيها: عزل المنصور عمه سليمان عن إمرة البصرة، فاختفى عبد الله بن علي وأصحابه خوفا على أنفسهم، فبعث المنصور إلى نائبه على البصرة، وهو: سفيان بن معاوية، يستحثه في إحضار عبد الله بن علي إليه، فبعثه في أصحابه فقتل بعضهم وسجن عبد الله بن علي عمه، وبعث بقية أصحابه إلى أبي داود نائب خراسان فقتلهم هناك.

وحج بالناس فيها العباس بن علي بن عبد الله بن عباس.

وفيها توفي: عمرو بن مجاهد، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويونس بن عبيد، أحد العباد وصاحب الحسن البصري.

ثم دخلت سنة أربعين ومائة

[عدل]

فيها: ثار جماعة من الجند على أبي داود نائب خراسان، وحاصروا داره.

فأشرف عليهم، وجعل يستغيث بجنده ليحضروا إليه، واتكأ على آجرة في الحائط فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات، فخلفه على خراسان عاصم، صاحب الشرطة حتى قدم الأمير من جهة الخليفة عليها، وهو: عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، فتسلم بلاد خراسان، وقتل جماعة من الأمراء لأنه بلغه عنهم أنهم يدعون إلى خلافة آل علي بن أبي طالب، وحبس آخرين، وأخذ نواب أبي داود بجباية الأموال المنكسرة عندهم.

وفيها: حج بالناس الخليفة المنصور أحرم من الحيرة، ورجع بعد انقضاء الحج إلى المدينة، ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره، ثم سلك الشام إلى الرقة، ثم سار إلى الهاشمية - هاشمية الكوفة - ونواب الأقاليم هم المذكورون في التي قبلها، سوى خراسان فإنه مات نائبها أبو داود، فخلفه مكانه عبد الجبار الأزدي.

وفيها توفي: داود بن أبي هند، وأبو حازم سلمة بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وعمارة بن غزية بن قيس السكوني.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعون ومائة

[عدل]

فيها: خرجت طائفة يقال لها: الرواندية على المنصور.

ذكر بن جرير، عن المدائني: أن أصلهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلم الخراساني، كانوا يقولون بالتناسخ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بن معاوية جبريل، قبحهم الله.

قال ابن جرير: فأتوا يوما قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون: هذا قصر ربنا.

فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم مائتين، فغضبوا من ذلك وقالوا: علام تحبسهم ؟

ثم عمدوا إلى نعش فحملوه على كواهلهم وليس عليه أحد، واجتمعوا حوله كأنهم يشيعون جنازة، واجتازوا بباب السجن، فألقوا النعش ودخلوا السجن قهرا واستخرجوا من فيه من أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم في ستمائة.

فتنادى الناس وغلقت أبواب البلد، وخرج المنصور من القصر ماشيا، لأنه لم يجد دابة يركبها، ثم جيء بدابة فركبها وقصد نحو الرواندية، وجاء الناس من كل ناحية، وجاء معن بن زائدة، فلما رأى المنصور ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور وقال: يا أمير المؤمنين ارجع ! نحن نكفيكهم.

فأبى وقام أهل الأسواق إليهم فقاتلوهم، وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من كل ناحية فحصدوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم بقية.

وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه، فمرض أياما ثم مات، فصلى عليه الخليفة، وقام على قبره حتى دفن ودعا له، وولى أخاه عيسى بن نهيك على الحرس، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية بالكوفة.

ولما فرغ المنصور من قتال الرواندية ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر وقتها، ثم أتي بالطعام فقال: أين معن بن زائدة ؟

وأمسك عن الطعام حتى جاء معن فأجلسه إلى جبنه، ثم أخذ في شكره لمن بحضرته لما رأى من شهامته يومئذ.

فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت وإني لوجل، فلما رأيت استهانتك بهم وإقدامك عليهم قوي قلبي واطمأن، وما ظننت أن أحدا يكون في الحرب هكذا، فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين.

فأمر له المنصور بعشرة آلاف ورضي عنه وولاه اليمن.

وكان معن بن زائدة قبل ذلك مختفيا، لأنه قاتل المسودة مع ابن هبيرة، فلم يظهروا إلا في هذا اليوم، فلما رأى الخليفة صدقه في قتاله رضي عنه.

ويقال: إن المنصور قال عن نفسه: أخطأت في ثلاث: قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليلة، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت الخلافة، ويوم الرواندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا. وهذا من حزمه وصرامته.

وفي هذه السنة: ولى المنصور ابنه محمدا العهد من بعده، ودعاه: بالمهدي، وولاه بلاد خراسان، وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتل خلقا من شيعة الخليفة، فشكاه المنصور إلى أبي أيوب كاتب الرسائل فقال: يا أمير المؤمنين ! اكتب إليه ليبعث جيشا كثيفا إلى من خراسان إلى غزو الروم، فإذا خرجوا بعثت إليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلا.

فكتب إليه المنصور بذلك، فرد الجواب: بأن بلاد خراسان قد عاثت بها الأتراك، ومتى خرج منها جيش خيف عليها وفسد أمرها.

فقال المنصور لأبي أيوب: ماذا ترى ؟

قال: فاكتب إليه: إن بلاد خراسان أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها، وقد جهزت إليك بالجنود.

فكتب إليه أيضا: إن بلاد خراسان ضيقة في هذا العام أقواتها، ومتى دخلها جيش أفسدها.

فقال الخليفة لأبي أيوب: ماذا تقول ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! هذا رجل قد أبدى صفحته وخلع فلا تناظره.

فحينئذ بعث المنصور ابنه محمدا المهدي ليقيم بالري، فبعث المهدي بين يديه خازم بن خزيمة مقدمة إلى عبد الجبار، فما زال به يخدعه ومن معه حتى هرب من معه وأخذوه هو فأركبوه بعيرا محولا وجهه إلى ناحية ذنب البعير.

وسيروه كذلك في البلاد حتى أقدموه على المنصور ومعه ابنه وجماعة من أهله، فضرب المنصور عنقه، وسير ابنه ومن معه إلى جزيرة في طرف اليمن، فأسرتهم الهنود بعد ذلك، ثم فودي بعضهم بعد ذلك.

واستقر المهدي نائبا على خراسان، وأمره أبوه أن يغزو طبرستان، وأن يحارب الأصبهبذ بمن معه من الجنود وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء، وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان، وهو الذي يقول فيه الشاعر:

فقل للخليفة إن جئته * نصيحا ولا خير في المتهم

إذا أيقظتك الحروب العدى * فنبه لها عمرا ثم نم

فتى لا ينام على دمنة * ولا يشرب الماء إلا بدم

فلما تواقفت الجيوش على طبرستان فتحوها وحصروا الأصبهبذ حتى ألجأوه إلى قلعته، فصالحهم على ما فيها من الذخائر، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك، ودخل الأصبهبذ بلاد الديلم فمات هناك.

وكسروا أيضا ملك الترك الذي يقال له: المصمغان، وأسروا أمما من الذراري، فهذا فتح طبرستان الأول.

وفيها: فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى الخراساني.

وفيها: رابط محمد بن إبراهيم الإمام ببلاد ملطية.

وفيها: عزل المنصور زياد بن عبيد الله عن إمرة الحجاز وولى المدينة محمد بن خالد القسري وقدمها في رجب.

وولى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العكي.

وفيها توفي: موسى بن كعب، وهو على شرطة المنصور.

وعلى مصر من كان عليها في السنة الماضية، ثم ولى مصر محمد بن الأشعث، ثم عزله عنها وولى نوفل بن الفرات.

وحج بالناس فيها: صالح بن علي وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق، وبقية البلاد عليها من ذكرنا في التي قبلها، والله أعلم.

وفيها توفي: أبان بن تغلب، وموسى بن عقبة، صاحب المغازي، وأبو إسحاق الشيباني في قول، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائة

[عدل]

فيها: خلع عيينة بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة، فجهز إليه العساكر صحبة عمر بن حفص بن أبي صفرة، وولاه السند والهند، فحاربه عمر بن حفص وقهره على الأرض، وتسلمها منه.

وفيها: نكث أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين، وقتل طائفة ممن كان بطبرستان، فجهز إليه الخليفة الجيوش صحبة خازم بن خزيمة، وروح بن حاتم، ومعهم مرزوق أبو الخصيب، مولى المنصور، فحاصروه مدة طويلة، فلما أعياهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه، وذلك أن أبا الخصيب قال: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي.

ففعلوا ذلك، فذهب إليه كأنه مغاضب للمسلمين قد ضربوه وحلقوا لحيته، فدخل الحصن ففرح به الأصبهبذ وأكرمه وقربه، وجعل أبو الخصيب يظهر له النصح والخدمة حتى خدعه، وحظي عنده جدا وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه، فلما تمكن من ذلك كاتب المسلمين وأعلمهم أنه في الليلة الفلانية يفتح لهم، فاقتربوا من الباب حتى أفتحه لكم، فلما كانت تلك الليلة فتح لهم باب الحصن فدخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبوا الذرية وامتص الأصبهبذ خاتما مسموما فمات.

وكان فيمن أسروا يومئذ أم منصور بن المهدي، وأم إبراهيم بن المهدي، وكانتا من بنات الملوك الحسان.

وفيها: بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالجبان، وتولى بناءها سلمة بن سعيد بن جابر نائب الفرات والأبلة.

وصام المنصور شهر رمضان بالبصرة، وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى.

وفيها: عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر وولى عليها حميد بن قحطبة.

وحج بالناس فيها: إسماعيل بن علي.

وفيها توفي: سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عم الخليفة ونائب البصرة.

كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلى عليه أخوه عبد الصمد.

وروى عن: أبيه، وعكرمة، وأبي بردة بن أبي موسى.

وعنه جماعة منهم: بنوه جعفر، ومحمد، وزينب، والأصمعي.

وكان قد شاب وهو ابن عشرين سنة، وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن، وكان كريما جوادا ممدحا.

وكان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمة، وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والأنصار خمسة آلاف ألف، واطلع يوما من قصره فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة، فاتفق في نظره هذا إليهن أن قالت واحدة منهن: لو أن الأمير نظر إلينا واطلع على حالنا فأغنانا عن الغزل ؟

فنهض من فوره فجعل يدور في قصره ويجمع من حلى نسائه من الذهب والجواهر وغيرها ما ملأ به منديلا كبيرا، ثم دلاه إليهن ونثر عليهن من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا، فماتت إحداهن من شدة الفرح، فأعطى ديتها وما تركته من ذلك لورثتها.

وقد ولي الحج في أيام السفاح، وولي البصرة أيام المنصور، وكان من خيار بني العباس، وهو: أخو إسماعيل وداود وصالح وعبد الصمد وعبد الله وعيسى ومحمد، وهو: عم السفاح والمنصور.

وممن توفي فيها من الأعيان:

خالد الحذاء، وعاصم الأحول.

وعمرو بن عبيد القدري

[عدل]

في قول، وهو: عمرو بن عبيد بن ثوبان، ويقال: ابن كيسان، التيمي مولاهم، أبو عثمان البصري، من أبناء فارس، شيخ القدرية والمعتزلة.

روى الحديث عن: الحسن البصري، وعبيد الله بن أنس، وأبي العالية، وأبي قلابة.

وعنه: الحمادان، وسفيان بن عيينة، والأعمش - وكان من أقرانه -، وعبد الوارث بن سعيد، وهارون بن موسى، ويحيى القطان، ويزيد بن زريع.

قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس بأهل أن يحدث عنه.

وقال علي بن المدنيي و يحيى بن معين: ليس بشيء، وزاد ابن معين وكان رجل سوء، وكان من الدهرية الذين يقولون: إنما الناس مثل الزرع.

وقال الفلاس: متروك صاحب بدعة.

كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه.

وقال أبو حاتم: متروك.

وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال شعبة، عن يونس بن عبيد: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث.

وقال حماد بن سلمة: قال لي حميد: لا تأخذ عنه فإنه كان يكذب على الحسن البصري.

وكذا قال: أيوب، وعوف، وابن عون.

وقال أيوب: ما كنت أعدله عقلا.

وقال مطر الوراق: والله لا أصدقه في شيء.

وقال ابن المبارك: إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر.

وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه.

قال الحسن البصري: هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث.

قالوا: فأحدث والله أشد الحدث.

وقال ابن حبان: كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث، وهما لا تعمدا.

وقد روي عنه أنه قال: إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما تعد منه على ابن آدم حجة.

وروى له حديث ابن مسعود: حدثنا الصادق المصدوق: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما».

حتى قال: «فيؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» إلى آخره.

فقال: لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ما على هذا أخذت علينا الميثاق.

وهذا من أقبح الكفر، لعنه الله إن كان قال هذا، وإذا كان مكذوبا عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه.

وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:

أيها الطالب علما * إيتِ حماد بن زيد

فخذ العلم بحلم * ثمَّ قيده بقيد

وذر البدعة من * آثار عمرو بن عبيد

وقال ابن عدي: كان عمرو يغر الناس بتقشفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا، معلن بالبدع.

وقال الدار قطني: ضعيف الحديث.

وقال الخطيب البغدادي: جالس الحسن واشتهر بصحبته ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة وقال بالقدر ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحديث، وكان له سمت وإظهار زهد.

وقد قيل: أنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين، وحكى البخاري: أن عمرا مات سنة ثنتين وثلاث وأربعين ومائة بطريق مكة، وقد كان عمرو محظيا عند أبي جعفر المنصور، كان المنصور يحبه ويعظمه، لأنه كان يفد المنصور مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئا، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلا، وكان يعجبه ذلك منه وينشد:

كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيدْ * غير عمرو بن عبيدْ

ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين في زمانه.

وقد روينا عن إسماعيل بن خالد القعنبني، قال: رأيت الحسن بن جعفر في المنام بعد ما مات بعبادان فقال لي: أيوب ويونس وابن عون في الجنة.

قلت: فعمرو بن عبيد ؟

قال: في النار.

ثم رآه مرة ثانية ويروى ثالثة، فيسأله فيقول له: مثل ذلك.

وقد رؤيت له منامات قبيحة، وقد أطال شيخنا في تهذيبه في ترجمته ولخصنا حاصلها في كتابنا التكميل، وأشرنا ههنا إلى نبذ من حاله ليعرف فلا يغتر به، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة

[عدل]

فيها: ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم، لأنهم قتلوا من المسلمين خلقا، وأمر أهل الكوفة والبصرة من كان منهم يقدر على عشرة آلاف فصاعدا فليذهب مع الجيش إلى الديلم، فانتدب خلق كثير وجم غفير لذلك.

وحج بالناس عيسى بن موسى نائب الكوفة وأعمالها.

وفيها توفي: حجاج الصواف، وحميد بن رؤبة الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقد ذكرناه في التي قبلها، وعمرو بن عبيد في قول، وليث بن أبي سليم على الصحيح، ويحيى بن سعيد الأنصاري.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة

[عدل]

فيها: سار محمد بن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من الكوفة والبصرة، وواسط والموصل والجزيرة.

وفيها: قدم محمد بن أبي جعفر المنصور المهدي على أبيه من بلاد خراسان، ودخل بابنة عمه رايطة بنت السفاح بالحيرة.

وفيها: حج بالناس أبو جعفر المنصور، واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن خزيمة، وولى رباح بن عثمان المزني المدينة، وعزل عنها محمد بن خالد القسري، وتلقى الناس أبا جعفر المنصور إلى أثناء طريق مكة في حجه في سنة أربع وأربعين ومائة.

وكان في جملة من تلقاه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فأجلسه المنصور معه على السماط، ثم جعل يحادثه بإقبال زائد بحيث إن المنصور اشتغل بذلك عن عامة غدائه، وسأله عن ابنيه إبراهيم ومحمد: لم لا جاءاني مع الناس ؟

فحلف عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض الله.

وصدق في ذلك، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة وخلع مروان، وكان في جملة من بايعه، على ذلك أبو جعفر المنصور، وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس، فلما صارت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور خاف محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفا شديدا.

وذلك لأن المنصور توهم منهما أنهما لا بد أن يخرجا عليه كما أراد أن يخرجا على مروان، والذي توهم منه المنصور وقع فيه، فذهبا هربا في البلاد الشاسعة فصارا إلى اليمن، ثم سارا إلى الهند فاختفيا بها فدل على مكانهما الحسن بن زيد فهربا إلى موضع آخر، فاستدل عليه الحسن بن زيد ودل عليهما، ثم كذلك.

وانتصب إلبا عليهما عند المنصور. والعجب منه أنه من أتباعهما.

واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما فلم يتفق له ذلك، وإلى الآن.

فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا من أرض الله، ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه فغضب عبد الله من ذلك وقال: والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما.

فغضب المنصور وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله، فلبث في السجن ثلاث سنين، وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم، وجدّ في طلب إبراهيم ومحمد جدا، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين، ويكمنان في المدينة في غالب الأوقات، ولا يشعر بهما من ينم عليهما، ولله الحمد.

والمنصور يعزل نائبا عن المدينة ويولي عليها غيره، ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما، وبذل الأموال في طلبهما، وتعجزه المقادير عنهما لما يريده الله عز وجل.

وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء المنصور يقال له: أبو العساكر خالد بن حسان، فعزموا في بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا والمروة، فنهاهم عبد الله بن حسن لشرف البقعة.

وقد اطلع المنصور على ذلك وعلم بما مالأهما ذلك الأمير، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالؤا عليه من الفتك به.

فقال: وما الذي صرفكم عن ذلك ؟

فقال: عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك، فأمر به الخليفة فغيب في الأرض، فلم يظهر حتى الآن.

وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر ابني عبد الله بن حسن، وبعث الجواسيس والقصاد في البلاد فلم يقع لهما على خبر، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر، والله غالب على أمره.

وقد جاء محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال: يا أمه ! إني قد شفقت على أبي وعمومتي، ولقد هممت أن أضع يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي. فذهبت أمه إلى السجن فعرضت عليهم ما قال ابنها، فقالوا: لا ولا كرامة، بل نصبر على أمره فلعل الله يفتح على يديه خيرا، ونحن نصبر وفرجنا بيد الله إن شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق.

وتمالؤا كلهم على ذلك، رحمهم الله.

وفيها: نقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الأغلال.

وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر أبي جعفر المنصور، وقد أشخص معهم محمد بن عبد الله العثماني، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد حملت قريبا، فاستحضره الخليفة وقال: قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني، وهذه ابنتك حامل، فإن كان من زوجها فقد حبلت منه وأنت تعلم به، وإن كان من غيره فأنت ديوث.

فأجابه العثماني بجواب أحفظه به، فأمر به فجردت عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة النقية، ثم ضربه بين يديه مائة وخمسين سوطا، منها ثلاثون فوق رأسه، أصاب أحدها عينه فسالت، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب، وتراكم الدماء فوق جلده، فأجلس إلى جانب أخيه لأمه عبد الله بن حسن، فاستسقى ماءً فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم.

ثم ركب المنصور هودجه وأركبوا أولئك في محامل ضيقة، وعليهم القيود والأغلال، فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه، فناداه عبد الله بن حسن: والله يا أبا جعفر ! ما هكذا صنعنا بأسرائكم يوم بدر، فأخسأ ذلك المنصور وثقل عليه ونفر عنهم.

ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية، وكان فيهم محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان جميلا فتيا، فكان الناس يذهبون لينظروا إلي حسنه وجماله.

وكان يقال له: الديباج الأصغر، فأحضره المنصور بين يديه وقال له: أما لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا.

ثم ألقاه بين اسطوانتين وسد عليه حتى مات.

فعلى المنصور ما يسحقه من عذاب الله ولعنته.

وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم بعد هلاك المنصور على ما سنذكره.

فكان فيمن هلك في السجن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وقد قيل: والأظهر أنه قتل صبرا، وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وقل من خرج منهم من الحبس، وقد جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانا، ولا يعرفون فيه وقت صلاة إلا بالتلاوة، ثم بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني، فأمر به فضربت عنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان، لا جزاه الله خيرا، ورحم الله:

محمد بن عبد الله العثماني

[عدل]

وهو: محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي رحمه الله، أبو عبد الله المدني المعروف: بالديباج، لحسن وجهه، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي.

روى الحديث عن: أبيه، وأمه، وخارجة بن زيد، وطاوس، وأبي الزناد، والزهري، ونافع، وغيرهم.

وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته رقية زوجة ابن أخيه إبراهيم بن عبد الله، وكانت من أحسن النساء، وبسببها قتله أبو جعفر المنصور في هذه السنة.

وكان كريما جوادا ممدحا.

قال الزبير بن بكار: أنشدني سليمان بن عباس السعدي لأبي وجزة السعدي يمدحه:

وجدنا المحض الأبيض من قريش * فتى بين الخليفة والرسول

أتاك المجد من هنا وهناك * وكنت له بمعتلج السيول

فما للمجد دونك من مبيت * وما للمجد دونك من مقيل

ولا يمض وراءك يبتغيه * ولا هو قابل بك من بديل

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة

[عدل]

فمما كان فيها من الأحداث: مخرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة، على ما سنبينه إن شاء الله.

أما محمد فإنه خرج على أثر ذهاب أبي جعفر المنصور بأهله بني حسن من المدينة إلى العراق على الصفة والنعت الذي تقدم ذكره، وسجنهم في مكان ساء مستقرا ومقاما، لا يسمعون فيه آذانا ولا يعرفون فيه دخول أوقات صلوات إلا بالأذكار والتلاوة.

وقد مات أكثر أكابرهم هنالك رحمهم الله.

هذا كله ومحمد الذي يطلبه مختف بالمدينة، حتى أنه في بعض الأحيان اختفى في بئر نزل في مائه كله إلا رأسه، وباقيه مغمور بالماء، وقد تواعد هو وأخوه وقتا معينا يظهران فيه، هو بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، ولم يزل الناس - أهل المدينة وغيرهم - يؤنبون محمد بن عبد الله في اختفائه وعدم ظهوره حتى عزم على الخروج، وذلك لما أضرَّ به شدة الاختفاء وكثرة إلحاح رياح نائب المدينة في طلبه ليلا ونهارا، فلما اشتد به الأمر وضاق الحال واعد أصحابه على الظهور في الليلة الفلانية، فلما كانت تلك الليلة جاء بعض الوشاة إلى متولي المدينة فأعلمه بذلك، فضاق ذرعا وانزعج لذلك انزعاجا شديدا، وركب في جحافله فطاف المدينة وحول دار مروان، وهم مجتمعون بها، فلم يشعر بهم.

فلما رجع إلى منزله بعث إلى بني حسين بن علي فجمعهم ومعهم رؤوس من سادات قريش وغيرهم، فوعظهم وأنبهم وقال: يا معشر أهل المدينة، أمير المؤمنين يتطلب هذا الرجل في المشارق والمغارب وهو بين أظهركم، ثم ما كفاكم حتى بايعتموه على السمع والطاعة؟ والله لا يبلغني عن أحد منكم خرج معه إلا ضربت عنقه.

فأنكر الذين هم هنالك حاضرون أن يكون عندهم علم أو شعور بشيء من هذا، وقالوا: نحن نأتيك برجال مسلحين يقاتلون دونك إن وقع شيء من ذلك.

فنهضوا فجاؤوه بجماعة مسلحين فاستأذنوه في دخولهم عليه، فقال: لا إذن لهم، إني أخشى أن يكون ذلك خديعة.

فجلس أولئك على الباب ومكث الناس جلوسا حول الأمير وهو واجم لا يتكلم إلا قليلا حتى ذهبت طائفة من الليل، ثم ما فجيء الناس إلا وأصحاب محمد بن عبد الله قد ظهروا وأعلنوا بالتكبير، فانزعج الناس في جوف الليل، وأشار بعض الناس على الأمير أن يضرب أعناق بني حسين، فقال أحدهم: علام ونحن مقرون بالطاعة ؟

واشتغل الأمير عنهم بما فجأه من الأمر، فاغتنموا الغفلة ونهضوا سراعا فتسوروا جدار الدار وألقوا أنفسهم على كناسة هنالك.

وأقبل محمد بن عبد الله بن حسن في مائتين وخمسين، فمر بالسجن فأخرج من فيه، وجاء دار الإمارة فحاصرها فافتتحها ومسك الأمير رياح بن عثمان نائب المدينة فسجنه في دار مروان، وسجن معه ابن مسلم بن عقبة، وهو الذي أشار بقتل بني حسين في أول هذه الليلة فنجوا وأحيط به، وأصبح محمد بن عبد الله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها، فصلى بالناس الصبح وقرأ فيها سورة إنا فتحنا لك فتحا مبينا.

وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة.

وقد خطب محمد بن عبد الله أهل المدينة في هذا اليوم، فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم بها، وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل.

وقد روى ابن جرير عن الإمام مالك: أنه أفتى الناس بمبايعته.

فقيل له: فإن في أعناقنا بيعة للمنصور.

فقال: إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة.

فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك، ولزم مالك بيته.

وقد قال له إسماعيل بن عبد الله بن جعفر حين دعاه إلى بيعته: يا ابن أخي إنك مقتول.

فارتدع بعض الناس عنه واستمر جمهورهم معه، فاستناب عليهم عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى شرطتها عثمان بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن مسور بن مخرمة، وتلقب: بالمهدي، طمعا في أن يكون المذكور بالأحاديث فلم يكن به، ولا تم له ما رجاه ولا تمناه، فإنا لله.

وقد ارتحل بعض أهل المدينة عنها ليلة دخلها، فطوى المراحل البعيدة إلى المنصور في سبع ليال، فورد عليه فوجده نائما في الليل، فقال للربيع الحاجب: استأذن على الخليفة.

فقال: إنه لا يوقظ في هذه الساعة.

فقال: إنه لا بد من ذلك فأخبر الخليفة. فخرج.

فقال: ويحك ! ما وراءك ؟

فقال: إنه خرج ابن حسن بالمدينة.

فلم يظهر المنصور لذلك اكتراثا وانزعاجا، بل قال: أنت رأيته ؟

قال: نعم !

فقال: هلك والله وأهلك معه من اتبعه، ثم أمر بالرجل فسجن، ثم جاءت الأخبار بذلك فتواترت.

فأطلقه المنصور وأطلق له عن كل ليلة ألف درهم فأعطاه سبعة آلاف درهم.

ولما تحقق المنصور الأمر من خروجه ضاق ذرعا، فقال له بعض المنجمين: يا أمير المؤمنين ! لا عليك منه فوالله لو ملك الأرض بحذافيرها فإنه لا يقيم أكثر من سبعين يوما.

ثم أمر المنصور جميع رؤوس الأمراء أن يذهبوا إلى السجن فيجتمعوا بعبد الله بن حسن - والد محمد - فيخبروه بما وقع من خروج ولده ويسمعوا ما يقول لهم.

فلما دخلوا عليه أخبروه بذلك فقال: ما ترون ابن سلامة فاعلا ؟

يعني المنصور -، فقالوا: لا ندري.

فقال: والله لقد قتل صاحبكم البخل ينبغي له أن ينفق الأموال ويستخدم الرجال، فإن ظهر فاسترجاع ما أنفق سهل، وإلا لم يكن لصاحبكم شيء في الخزائن وكان ما خزن لغيره.

فرجعوا إلى الخليفة فأخبروه بذلك، وأشار الناس على الخليفة بمناجزته، فاستدعى عيسى بن موسى فندبه إلى ذلك، ثم قال: إني سأكتب إليه كتابا أنذره به قبل قتاله.

فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الله بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادا } الآية إلى قوله: { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 33-34] .

ثم قال: فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمننك ومن اتبعك، ولأعطينك ألف ألف درهم، ولأدعنك تقيم في أحب البلاد إليك، ولأقضين لك جميع حوائجك، في كلام طويل.

فكتب إليه محمد جواب كتابه: من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله بن حسن: بسم الله الرحمن الرحيم { طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [القصص: 1-5] .

ثم قال: وإني أعرض عليك من الأمان ما عرضت عليّ، فأنا أحق بهذا الأمر منكم، وأنتم إنما وصلتم إليه بنا، فإن عليا كان الوصيّ وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟

ونحن أشرف أهل الأرض نسبا، فرسول الله خير الناس وهو جدنا، وجدتنا خديجة وهي أفضل زوجاته، وفاطمة ابنته أمنا وهي أكرم بناته، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن حسنا ولده عبد المطلب مرتين، وهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وإن رسول الله ولد أبي مرتين، وإني أوسط بني هاشم نسبا، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأخفهم عذابا في النار.

فأنا أولى بالأمر منك، وأولى بالعهد وأوفى به منك، فإنك تعطي العهد ثم تنكث ولا تفي، كما فعلت بابن هبيرة فإنك أعطيته العهد ثم غدرت به، ولا أشد عذابا من إمام غادر، وكذلك فعلت بعمك عبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني.

ولو أعلم أنك تصدق لأجبتك لما دعوتني إليه، ولكن الوفاء بالعهد من مثلك لمثلي بعيد والسلام.

فكتب إليه أبو جعفر جواب ذلك في كتاب طويل حاصله: أما بعد فقد قرأت كتابك فإذا جلَّ فخرك وإدلالك قرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبية والأولياء، وقد أنزل الله: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] .

وكان له حينئذ أربعة أعمام، فاستجاب له اثنان أحدهما جدنا، وكفر اثنان أحدهما أبوك - يعني: جده أبا طالب - فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينهما إلّا ولا ذمة، وقد أنزل الله في عدم إسلام أبي طالب: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56] .

وقد فخرت به وأنه أخف أهل النار عذابا، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن أن يفخر بأهل النار، وفخرت بأن عليا ولده هاشم مرتين.

وأن حسنا ولده عبد المطلب مرتين، فهذا رسول الله إنما ولده عبد الله مرة واحدة، وقولك إنك لم تلد أمهات أولاد، فهذا إبراهيم بن رسول الله من مارية، وهو خير منك، وعلي بن الحسن من أم ولد وهو خير منك، وكذلك ابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد جداتهما أمهات أولاد وهما خير منك، وأما قولك بنو رسول الله فقد قال تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب: 40] .

وقد جاءت السنة التي لا خلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون، ولم يكن لفاطمة ميراث من رسول الله بنص الحديث.

وقد مرض رسول الله وأبوك حاضر فلم يأمره بالصلاة بالناس، بل أمر غيره.

ولما توفي لم يعدل الناس بأبي بكر وعمر أحدا، ثم قدموا عليه عثمان في الشورى والخلافة، ثم لما قتل عثمان اتهمه بعضهم به، وقاتله طلحة والزبير على ذلك، وامتنع سعد من مبايعته ثم بعد ذلك معاوية، ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال، ثم اتفق على التحكيم فلم يفِ به، ثم صارت إلى الحسن فباعها بخرق ودراهم، وأقام بالحجاز يأخذ مالا من غير حله، وسلم الأمر إلى غير أهله، وترك شيعته في أيدي بني أمية ومعاوية.

فإن كانت لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنها.

ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وحرقوكم بالنار، وحملوا نساءكم على الإبل كالسبايا إلى الشام، حتى خرجنا عليهم نحن، فأخذنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، وذكرنا فضل سلفكم، فجعلت ذلك حجة علينا، وظننت أنا إنما ذكرنا فضله على أمثاله على حمزة والعباس وجعفر، وليس الأمر كما زعمت، فإن هؤلاء مضوا ولم يدخلوا في الفتن، وسلموا من الدنيا فلم تنقصهم شيئا، فاستوفوا ثوابهم كاملا، وابتلى بذلك أبوك.

وكانت بنوا أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلوات المكتوبات، فأحيينا ذكره وذكرنا فضله وعنفناهم بما نالوا منه، وقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية بسقاية الحجيج الأعظم، وخدمة زمزم، وحكم رسول الله لنا بها.

ولما قحط الناس زمن عمر استسقى بأبينا العباس، وتوسل به إلى ربه وأبوك حاضر، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد رسول الله إلا العباس، فالسقاية سقايته، والوراثة وراثته، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورثه، في كلام طويل فيه بحث ومناظرة وفصاحة.

وقد استقصاه ابن جرير بطوله، والله سبحانه أعلم.

فصل مقتل محمد بن عبد الله بن حسن

[عدل]

بعث محمد بن عبد الله بن حسن في غبون ذلك رسولا إلى أهل الشام يدعوهم إلى بيعته وخلافته فأبوا قبول ذلك منه، وقالوا: قد ضجرنا من الحروب ومللنا من القتال.

وجعل يستميل رؤوس أهل المدينة، فمنهم من أجابه ومنهم من امتنع عليه، وقال له بعضهم: كيف أبايعك وقد ظهرت في بلد ليس فيه مال تستعين به على استخدام الرجال ؟

ولزم بعضهم منزله فلم يخرج حتى قتل محمد.

و بعث محمد هذا الحسين بن معاوية في سبعين رجلا ونحوا من عشرة فوارس إلى مكة نائبا إن هو دخلها فساروا إليها، فلما بلغ أهلها قدومهم خرجوا إليهم في ألوف من المقاتلة، فقال لهم الحسين بن معاوية: علام تقاتلون وقد مات أبو جعفر ؟

فقال السري بن عبد الله زعيم أهل مكة: إن برده جاءتنا من أربع ليال وقد أرسلت إليه كتابا فأنا أنتظر جوابه إلى أربع، فإن كان ما تقولون حقا سلمتكم البلد وعلي مؤنة رجالكم وخيلكم.

فامتنع الحسن بن معاوية من الانتظار وأبى إلا المناجزة، وحلف لا يبيت الليلة إلا بمكة، إلا أن يموت.

وأرسل إلى السري: أن أبرز من الحرم إلى الحل حتى لا تراق الدماء في الحرم.

فلم يخرج، فتقدموا إليهم فصافّوهم فحمل عليه الحسن وأصحابه حملة واحدة فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعة، ودخلوا مكة.

فلما أصبحوا خطب الحسن بن معاوية الناس وأغراهم بأبي جعفر، ودعاهم إلى محمد بن عبد الله بن حسن المهدي.

خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن

[عدل]

وظهر بالبصرة أيضا إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وجاء البريد إلى أخيه محمد فانتهى إليه ليلا ً فاستؤذن له عليه وهو بدار مروان فطرق بابها.

فقال: اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.

ثم خرج فأخبر أصحابه عن أخيه فاستبشروا جدا وفرحوا كثيرا، وكان يقول للناس بعد صلاة الصبح والمغرب: ادعوا الله لإخوانكم أهل البصرة، وللحسن بن معاوية بمكة، واستنصروه على أعدائكم.

وأما ما كان من المنصور فإنه جهز الجيوش إلى محمد بن عبد الله بن حسن، صحبة عيسى بن موسى عشرة آلاف فارس من الشجعان المنتخبين، منهم: محمد بن أبي العباس السفاح، وجعفر بن حنظلة البهراني، وحميد بن قحطبة، وكان المنصور قد استشاره فيه فقال: يا أمير المؤمنين ! ادع بمن شئت ممن تثق به من مواليك فابعث بهم إلى وادي القرى يمنعونهم من ميرة الشام، فيموت هو ومن معه جوعا، فإنه ببلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح.

وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودعه: يا عيسى ! إني أبعثك إلى جنبي هذين فإن ظفرت بالرجل فشمَّ سيفك، وناد في الناس بالأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم أعلم بمذاهبه.

وكتب معه كتبا إلى رؤساء قريش والأنصار من أهل المدينة يدفعها إليهم خفية يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة.

فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينة بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبد الله بن حسن، فوجدوا معه تلك الكتب فدفعوها إلى محمد فاستحضر جماعة من أولئك فعاقبهم وضربهم ضربا شديدا، وقيدهم قيودا ثقالا، وأودعهم السجن.

ثم إن محمدا استشار أصحابه بالقيام بالمدينة حتى يأتي عيسى بن موسى فيحاصرهم بها، أو أنه يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق ؟

فمنهم من أشار بهذا، ومنهم من أشار بذاك، ثم اتفق الرأي على المقام بالمدينة لأن رسول الله ندم يوم أحد على الخروج منها، ثم اتفقوا على حفر خندق حول المدينة، كما فعل رسول الله يوم الأحزاب، فأجاب إلى ذلك كله، وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله ، وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي حفره رسول الله ، ففرحوا بذلك وكبروا وبشروه بالنصر.

وكان محمد حاضرا عليه قباء أبيض وفي وسطه منطقة، وكان شكلا ضخما أسمر عظيم الهامة.

ولما نزل عيسى بن موسى الأعوص، واقترب من المدينة صعد محمد بن عبد الله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد - وكانوا قريبا من مائة ألف - فقال لهم جملة ما قال: إني جعلتكم في حل من بيعتي، فمن أحب منكم أن يقيم عليها فعل، ومن أحب أن يتركها فعل.

فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه، ولم يبق إلا شرذمة قليلة معه، وخرج أكثر أهل المدينة بأهليهم منها لئلا يشهدوا القتال بها، فنزلوا الأعراض ورؤوس الجبال.

وقد بعث محمد أبا الليث ليردهم عن الخروج فلم يمكنه ذلك في أكثرهم، واستمروا ذاهبين.

وقال محمد لرجل: أتأخذ سيفا ورمحا وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة ؟

فقال: نعم ! إن أعطيتني رمحا أطعنهم وهم بالأعراض، وسيفا أضربهم وهم في رؤوس الجبال فعلت.

فسكت محمد ثم قال لي: ويحك ! إن أهل الشام والعراق وخراسان قد بيضوا - يعني: لبسوا البياض - موافقة لي وخلعوا السواد.

فقال: وماذا ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة؟ وهذا عيسى بن موسى نازل بالأعوص.

ثم جاء عيسى بن موسى فنزل قريبا من المدينة، على ميل منها، فقال له دليله ابن الأصم: إني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعوا إلى معسكرهم سريعا قبل أن تدركهم الخيل.

ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك على أربعة أميال من المدينة، وذلك يوم السبت لصبح اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة.

وقال: إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة فتدركه الخيل.

وأرسل عيسى بن موسى خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكة، وقال لهم: هذا الرجل إن هرب فليس له ملجأ إلا مكة، فحولوا بينه وبينها.

ثم أرسل عيسى إلى محمد يدعوه إلى السمع والطاعة لأمير المؤمنين المنصور، وأنه قد أعطاه الأمان له ولأهل بيته إن هو أجابه، فقال محمد للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك.

ثم بعث إلى عيسى بن موسى يقول له: إني أدعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله، فاحذر أن تمتنع فأقتلك، فتكون شر قتيل، أو تقتلني فتكون قتلت من دعاك إلى الله ورسوله.

ثم جعلت الرسل تتردد بينهما ثلاثة أيام، هذا يدعو هذا، وهذا يدعو هذا، وجعل عيسى بن موسى يقف في كل يوم من هذه الأيام الثلاثة على الثنية عند سلع فينادي: يا أهل المدينة ! إن دماءكم علينا حرام فمن جاءنا فوقف تحت رايتنا فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، فليس لنا في قتالكم إرب، وإنما نريد محمدا وحده لنذهب به إلى الخليفة.

فجعلوا يسبونه وينالون من أمه، ويكلمونه بكلام شنيع، ويخاطبونه مخاطبة فظيعة، وقالوا له: هذا ابن رسول الله معنا ونحن معه، نقاتل دونه.

فلما كان اليوم الثالث أتاهم في خيل ورجال وسلاح ورماح لم ير مثلها، فناداه: يا محمد ! إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى الطاعة، فإن فعلت أمنك وقضى دينك وأعطاك أموالا وأراضي، وإن أبيت قاتلتك فقد دعوتك غير مرة.

فناداه محمد: إنه ليس لكم عندي إلا القتال.

فنشبت الحرب حينئذ بينهم، وكان جيش عيسى بن موسى فوق أربعة آلاف، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن السفاح، وعلى ميسرته داود بن كرار، وعلى الساقة الهيثم بن شعبة، ومعهم عدد لم ير مثلها.

وفرق عيسى أصحابه في كل قطر طائفة.

وكان محمد وأصحابه على عدة أصحاب أهل بدر، واقتتل الفريقان قتالا شديدا جدا، وترجل محمد إلى الأرض فيقال: إنه قتل بيده من جيش عيسى بن موسى سبعين رجلا من أبطالهم، وأحاط بهم أهل العراق فقتلوا طائفة من أصحاب محمد بن عبد الله بن حسن، فاقتحموا عليهم الخندق الذي كانوا قد حفروه وعملوا أبوابا على قدره.

وقيل: إنهم ردموه بحدائج الجمال حتى أمكنهم أن يجوزوه، وقد يكونون فعلوا هذا موضع منه، وهذا في موضع آخر، والله أعلم.

ولم تزل الحرب ناشبة بينهم حتى صليت العصر، فلما صلى العصر نزلوا إلى مسيل الوادي بسلع فكسر جفن سيفه وعقر فرسه وفعل أصحابه مثله وصبروا أنفسهم للقتال، وحميت الحرب حينئذ جدا، فاستظهر أهل العراق ورفعوا راية سوداء فوق سلع، ثم دنوا إلى المدينة فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوق مسجد رسول الله .

فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: أخذت المدينة، وهربوا وبقي محمد في شرذمة قليلة جدا، ثم بقي وحده وليس معه أحد، وفي يده سيف صلت يضرب به من تقدم إليه، فكان لا يقوم له شيء إلا أنامه، حتى قتل خلقا أهل العراق من الشجعان، ويقال: إنه كان في يده يومئذ ذو الفقار ثم تكاثر عليه الناس فتقدم إليه رجل فضربه بسيفه تحت شحمة أذنه اليمنى فسقط لركبته وجعل يحمي نفسه ويقول: ويحكم ! ابن نبيكم مجروح مظلوم.

وجعل حميد بن قحطبة يقول: ويحكم ! دعوه لا تقتلوه.

فأحجم عنه الناس، وتقدم إليه حميد بن قحطبة فحز رأسه وذهب به إلى عيسى بن موسى فوضعه بين يديه.

وكان حميد قد حلف أن يقتله متى رآه، فما أدركه إلا كذلك ولو كان على حاله وقوته لمات استطاعه حميد ولا غيره من الجيش.

وكان مقتل محمد بن عبد الله بن حسن عند أحجار الزيت يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة.

وقال عيسى بن موسى لأصحابه حين وضع رأسه بين يديه: ما تقولون فيه ؟

فنال منه أقوام وتكلموا فيه، فقال رجل: كذبتم والله ! لقد كان صواما قواما، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصى المسلمين فقتلناه على ذلك. فسكتوا حينئذ.

وأما سيفه ذو الفقار فإنه صار إلى بني العباس يتوارثونه حتى جربه بعضهم فضرب به كلبا فانقطع. ذكره ابن جرير وغيره.

وقد بلغ المنصور في غبون هذا الأمر أن محمدا فرَّ من الحرب فقال: هذا لا يكون، فإنا أهل بيت لا نفرّ.

وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن راشد، حدثني أبو الحجاج، قال: إني لقائم على رأس المنصور وهو يسألني عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى بن موسى قد انهزم وكان متكئا فجلس فضرب بقضيب معه مصلاه وقال: كلا ! وأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟ ما أنى لذلك بعد !

وبعث عيسى بن موسى بالبشارة إلى المنصور مع القاسم بن حسن، وبالرأس مع ابن أبي الكرام، وأمر بدفن الجثة فدفن بالبقيع، وأمر بأصحابه الذين قتلوا معه فصلبوا صفين ظاهر المدينة ثلاثة أيام ثم طرحوه على مقبرة اليهود عند سلع. ثم نقلوا إلى خندق هناك.

وأخذ أموال بني حسن كلها فسوغها له المنصور، ويقال: إنه ردها بعد ذلك إليهم، حكاه ابن جرير.

ونودي في أهل المدينة بالأمان فأصبح الناس في أسواقهم، وترفع عيسى بن موسى في الجيش إلى الجرف من مطر أصاب الناس يوم قتل محمد، وجعل ينتاب المسجد من الجرف، وأقام بالمدينة إلى اليوم التاسع عشر من رمضان، ثم خرج منها قاصدا مكة وكان بها الحسن بن معاوية من جهة محمد، وكان محمد قد كتب إليه يقدم عليه، فلما خرج من مكة وكان ببعض الطريق تلقته الأخبار بقتل محمد، فاستمر فارا إلى البصرة إلى أخي محمد إبراهيم بن عبد الله، الذي كان قد خرج بها ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكره.

ولما جيء المنصور برأس محمد بن عبد الله بن حسن فوضع بين يديه أمر به فطيف به في طبق أبيض، ثم طيف به في الأقاليم بعد ذلك، ثم شرع المنصور في استدعاء من خرج مع محمد من أشراف أهل المدينة، فمنهم من قتله، ومنهم من ضربه ضربا مبرحا، ومنهم من عفا عنه.

ولما توجه عيسى إلى مكة استناب على المدينة كثير بن حصين، فاستمر بها شهرا حتى بعث المنصور على نيابتها عبد الله بن الربيع، فعاث جنده في المدينة فصاروا إذا اشتروا من الناس شيئا لا يعطونهم ثمنه، وإن طولبوا بذاك ضربوا المطالب وخوفوه بالقتل، فثار عليهم طائفة من السودان واجتمعوا ونفخوا في بوق لهم، فاجتمع على صوته كل أسود في المدينة، وحملوا عليهم حملة واحدة وهم ذاهبون إلى الجمعة، لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة.

وقيل: لخمس بقين من شوال منها، فقتلوا من الجند طائفة كثيرة بالمزاريق وغيرها، وهرب الأمير عبد الله بن ربيع وترك صلاة الجمعة.

وكان رؤوس السودان: وثيق، ويعقل، ورمقة، وحديا، وعنقود، ومسعر، وأبو النار.

فلما رجع عبد الله بن الربيع ركب في جنوده والتقى مع السودان فهزموه أيضا فلحقوه بالبقيع، فألقى لهم رداءه يشغلهم فيه حتى نجا بنفسه ومن اتبعه، فلحق ببطن نخل على ليلتين من المدينة، ووقع السودان على طعام للمنصور كان مخزونا في دار مروان قد قدم به في البحر فنهبوه ونهبوا ما للجند الذين بالمدينة من دقيق وسويق وغيره، وباعوا ذلك بأرخص ثمن.

وذهب الخبر إلى المنصور بما كان من أمر السودان، وخاف أهل المدينة من معرة ذلك، فاجتمعوا وخطبهم ابن أبي سبرة - وكان مسجونا - فصعد المنبر وفي رجليه القيود، فحثهم على السمع والطاعة للمنصور، وخوفهم شر ما صنعه مواليهم، فاتفق رأيهم على أن يكفوا مواليهم ويفرقوهم ويذهبوا إلى أميرهم فيردوه إلى عمله، ففعلوا ذلك، فسكن الأمر، وهدأ الناس وانطفأت الشرور، ورجع عبد الله بن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر.

ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة

[عدل]

كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنزل في بني ضبيعة من أهل البصرة، في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلادا كثيرةً جدا، وجرت عليه وعلى أخيه خطوبٌ شديدةٌ هائلةٌ، وانعقد أسباب هلاكهما في أوقاتٍ متعددةٍ، ثم كان آخر ما استقر أمره بالبصرة في سنة ثلاث وأربعين ومائة، بعد منصرف الحجيج.

وقيل: إن قدومه إليها كان في مستهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة. قاله الواقدي.

قال: وكان يدعو في السر إلى أخيه، فلما قتل أخوه أظهر الدعوة إلى نفسه في شوال من هذه السنة، والمشهور أنه قدمها في حياة أخيه ودعا لنفسه كما تقدم، والله أعلم.

ولما قدم البصرة نزل عند يحيى بن زياد بن حسان النبطي، فاختفى عنده هذه المدة كلها، حتى ظهر في هذه السنة في دار أبي فروة، وكان أول من بايعه: نميلة بن مرة، وعبد الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي.

وندبوا الناس إليه فاستجاب له خلقٌ كثيرٌ فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة، واستفحل أمره، وبايعه فئام من الناس، وتفاقم الخطب به، وبلغ خبره إلى المنصور فازداد غما إلى غمه بأخيه محمد، وذلك لأنه ظهر قبل مقتل أخيه وإنما كان سبب تعجيله الظهور كتاب أخيه إليه فامتثل أمره ودعا إلى نفسه، فانتظم أمره بالبصرة.

وكان نائبها من جهة المنصور سفيان بن معاوية وكان ممالئا لإبراهيم هذا في الباطن، ويبلغه أخباره فلا يكترث بها، ويكذب من أخبره ويود أن يتضح أمر إبراهيم، وقد أمده المنصور بأميرين من أهل خراسان معهما ألفا فارس، وراجل، فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم، وتحول المنصور من بغداد - وكان قد شرع في عمارتها - إلى الكوفة، وجعل كلما اتهم رجلا من أهل الكوفة في أمر إبراهيم بعث إليه يقتله في الليل في منزله، وكان الفرافصة العجلي قد همَّ بالوثوب بالكوفة فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها، وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج لمبايعة إبراهيم، ويفدون إليها جماعات وفرادى، وجعل المنصور يرصد لهم المسالح فيقتلونهم في الطريق ويأتونه برؤوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس.

وأرسل المنصور إلى حرب الراوندي - وكان مرابطا بالجزيرة في ألفي فارس لقتال الخوارج - يستدعيه إليه إلى الكوفة، فأقبل بمن معه فاجتاز ببلدة بها أنصار لإبراهيم فقالوا له: لا ندعك تجتاز، لأن المنصور إنما دعاك لقتال إبراهيم.

فقال: ويحكم ! دعوني.

فأبوا فقاتلهم فقتل منهم خمسمائة وأرسل برؤوسهم إلى المنصور.

فقال: هذا أول الفتح.

ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة، خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارسا، وقدم في هذه الليلة أبو حماد الأبرص في ألفي فارس مدادا لسفيان بن معاوية، فأنزلهم الأمير في القصر، ومال إبراهيم وأصحابه على دواب أولئك الجيش وأسلحتهم فأخذوها جميعا، فتقووا بها، فكان هذا أول ما أصاب.

وما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جدا، فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع، والتف الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر، وتحصن سفيان بن معاوية نائب الخليفة بقصر الإمارة وحبس عنده الجنود فحاصرهم إبراهيم، فطلب سفيان بن معاوية من إبراهيم الأمان فأعطاه الأمان، ودخل إبراهيم قصر الإمارة فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر، فهبت الريح فقلبت الحصير ظهرا لبطن، فتطير الناس بذلك.

فقال إبراهيم: إنا لا نتطير.

وجلس على ظهر الحصير، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيدا وأراد بذلك براءة ساحته عند المنصور، واستحوذ على ما كان في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف، وقيل: ألفا ألف. فقوي بذلك جدا.

وكان في البصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي، وهما ابنا عم الخليفة المنصور، فركبا في ستمائة فارس إليه فهزمهما، وأركب إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزم ستمائة فارس كانت لهما، وأمن من بقي منهم.

وبعث إبراهيم إلى أهل الأهواز فبايعوه وأطاعوه، وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيرة فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف فارس فهزمه المغيرة واستحوذ على البلاد.

وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها، وكذلك واسط والمدائن والسواد، واستفحل أمره جدا، ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جدا، وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور.

قال بعضهم: والله لقد رأيت الموت في وجهه، وهو يخطب الناس فنعى إلى الناس أخاه محمدا، فازداد الناس حنقا على المنصور وأصبح فعسكر بالناس، واستناب على البصرة نميلة وخلف ابنه حسنا معه.

ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك، وكان قد بعث مع ابنه المهدي ثلاثين ألفا إلى الري، وبعث مع محمد بن الأشعث إلى إفريقية أربعين ألفا والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز، ولم يبق مع المنصور سوى ألفي فارس.

وكان يأمر بالنيران الكثيرة فتوقد ليلا، فيحسب الناظر إليها أن ثمَّ جندا كثيرا.

ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل من فورك ودع كل ما أنت فيه.

فلم ينشب أن أقبل إليه فقال له: اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه، فإنهم جملا بني هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك وثق بما عندك وستذكر ما أقول لك. فكان الأمر كما قال المنصور.

وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمة في أربعة آلاف إلى الأهواز، فذهب إليها فأخرج منها نائب إبراهيم - وهو المغيرة - وأباحها ثلاثة أيام، ورجع المغيرة إلى البصرة، وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي نقضت بيعته جندا يردون أهلها إلى الطاعة.

قالوا: ولزم المنصور موضع مصلاه فلا يبرح منه ليلا ونهارا في ثيابٍ بذلةٍ قد اتسخت، فلم يزل مقيما هناك بضعا وخمسين يوما حتى فتح الله عليه.

وقد قيل له في غبون ذلك: إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن.

فانتهر القائل وقال: ويحك ! ليست هذه أيام نساء، حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي، أو يحمل رأسي إليه.

وقال بعضهم: دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور، وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه، وما تفتق عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله به، وقد خرجت عن يده البصرة والأهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد، وفي الكوفة عنده مائة ألف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحدة، فيثبون مع إبراهيم، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر:

نفس عصام سوّدت عصاما * وعلمته الكر والإقداما

فصيرته ملكا هماما *

وأقبل إبراهيم بعساكر من البصرة إلى الكوفة في مائة ألف مقاتل، فأرسل إليه المنصور عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف.

وجاء إبراهيم فنزل في باخمرى في جحافل عظيمة، فقال له بعض الأمراء: إنك قد اقتربت من المنصور فلو أنك سرت إليه بطائفة من جيشك لأخذت بقفاه فإنه ليس عنده من الجيوش ما يردون عنه.

وقال آخرون: إن الأولى أن نناجز هؤلاء الذين بإزائنا، ثم هو في قبضتنا.

فثناهم ذلك عن الرأي الأول. ولو فعله لتم لهم الأمر.

ثم قال بعضهم: خندق حول الجيش.

وقال آخرون: إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله، فترك ذلك.

ثم أشار بعضهم أن يبيت جيش عيسى بن موسى فقال إبراهيم: أنا لا أرى ذلك، فتركه.

ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس فإن غلب كردوس ثبت الآخر.

وقال آخرون: الأولى أن نقاتل صفوفا لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [الصف: 4] .

والأمر لله وما شاء فعل ولو ساروا إلى الكوفة، وبيتوا الجيش أو جعل جيشه كراديس لتم له الأمر مع تقدير الله تعالى.

وأقبل الجيشان فتصافوا في باخمرى وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالا شديدا فانهزم حميد بن قحطبة بمن معه من المقدمة، فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة فلا يلوي عليه أحد، وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله، فقيل له: لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم.

فقال: والله لا أزول منه حتى يفتح الله لي، أو أقتل هاهنا.

وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره بعض المنجمين أن الناس يكون لهم جولة عن عيسى بن موسى ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له، فاستمر المنهزمون ذاهبين إلى نهر بين جبلين فلم يمكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم، وكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من انهزم.

ثم اجتلدوا هم وأصحاب إبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل من كلا الفريقين خلقٌ كثيرٌ، ثم انهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في خمسمائة.

وقيل: في أربعمائة.

وقيل: في تسعين رجلا.

واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه، وقتل إبراهيم في جملة من قتل واختلط رأسه مع رؤوس أصحابه، فجعل حميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم فبعثوه مع البشير إلى المنصور، وكان نيبخت المنجم قد دخل على المنصور قبل مجيء الرأس فأخبره أن إبراهيم مقتول فلم يصدقه، فقال: يا أمير المؤمنين ! إن لم تصدقني فاحبسني فإن لم يكن الأمر كما ذكرت فاقتلني.

فبينا هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة جيش إبراهيم، ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقي:

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرَّ عينا بالإياب المسافر

وقيل: إن المنصور لما رأى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس، وقال: والله لقد كنت لهذا كارها، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك.

ثم أمر بالرأس فنصب بالسوق.

وأقطع نيبخست المنجم الكذاب ألفي جريب، فهذا المنجم إن كان قد أصاب في قضية واحدة فقد أخطأ في أشياء كثيرة، فهم كذبة كفرة وقد كان المنصور في ضلال مع منجمه هذا، وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين وذلك ضلال لا يجوز.

وذكر صالح مولى المنصور قال: لما جيء برأس إبراهيم جلس المنصور مجلسا عاما وجعل الناس يدخلون عليه فيهنئونه وينالون من إبراهيم ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور، والمنصور ساكت متغير اللون لا يتكلم، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط من حقك.

قال: فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال له: يا أبا خالد ! مرحبا وأهلا ههنا فاجلس.

فعلم الناس أن ذلك وقع منه موقعا جيدا. فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظلة.

قال أبو نعيم الفضل بن دكين: كان مقتل إبراهيم في يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة من هذه السنة.

ذكر من توفي من الأعيان:

فمن أعيان أهل البيت عبد الله بن حسن وابناه: محمد وإبراهيم، وأخوه حسن بن حسن، وأخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، الملقب: بالديباج. وقد تقدمت ترجمته.

وأما أخوه:

عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب

[عدل]

القرشي الهاشمي، فتابعي.

روى عن: أبيه، وأمه فاطمة بنت الحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صاحبي جليل وغيرهم.

وروى عنه جماعة، منهم: سفيان الثوري، والدراوردي، ومالك، وكان معظما عند العلماء، وكان عابدا كبير القدر.

قال يحيى بن معين: كان ثقة صدوقا، وفد على عمر بن عبد العزيز فأكرمه، ووفد على السفاح فعظمه وأعطاه ألف ألف درهم، فلما ولي المنصور عامله بعكس ذلك، وكذلك أولاده وأهله، وقد مضوا جميعا والتقوا عند الله عز وجل، وأخذه المنصور وأهل بيته مقيدين مغلولين مهانين من المدينة إلى الهاشمية، فأودعهم السجن الضيق، كما قدمنا، فمات أكثرهم فيه، فكان عبد الله بن حسن هذا أول من مات فيه بعد خروج ولده محمد بالمدينة.

وقد قيل: إنه قتل في السجن عمدا.

وكان عمره يوم مات خمسا وسبعين سنة، وصلى عليه أخوه لأمه الحسن بن الحسن بن علي.

ثم مات بعده أخوه حسن فصلى عليه أخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان.

ثم قتل بعدهما وحمل رأسه إلى خراسان كما تقدم.

وأما ابنه:

محمد عبد الله بن حسن

[عدل]

الذي خرج بالمدينة، فروى عن: أبيه، ونافع، وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، في كيفية الهوي إلى السجود.

وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه.

وقد ذكر أن أمه حملت به أربع سنين، وكان طويلا سمينا أسمر ضخما، ذا همة سامية، وسطوة عالية، وشجاعة باهرة.

قتل بالمدينة في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة.

وقد حملوا برأسه إلى المنصور، وطيف به في الأقاليم.

وأما أخوه إبراهيم فكان ظهوره بالبصرة بعد ظهور أخيه بالمدينة وكان مقتله بعد مقتل أخيه في ذي الحجة من هذه السنة، وليس له شيء في الكتب الستة.

وحكى أبو داود السجستاني، عن أبي عوانة، أنه قال: كان إبراهيم وأخوه محمد خارجين.

قال داود: ليس كما قال، هذا رأي الزيدية.

قلت: وقد حكي عن جماعة من العلماء والأئمة أنهم مالوا إلى ظهورهما.

وفيها توفي من المشاهير والأعيان:

الأجلح بن عبد الله، وإسماعيل بن أبي خالد في قول، وحبيب بن الشهيد، وعبد الملك بن أبي سليمان، وعمرو مولى عفرة، ويحيى بن الحارث الذماري، ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمي، ورؤبة بن العجاج، والعجاج لقب، واسمه: أبو الشعثاء عبد الله بن رؤبة، وأبو محمد التميمي البصري، الراجز بن الراجز، ولكل منهما ديوان رجز، وكل منهما بارع في فنه لا يجاري ولا يماري، عالم باللغة.

وعبد الله بن المقفع الكاتب المفوه

[عدل]

أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وكتب له، وله رسائل وألفاظ صحيحة، وكان متهما بالزندقة، وهو الذي صنف كتاب كليلة ودمنة، ويقال: بل هو الذي عربها من المجوسية إلى العربية.

قال المهدي: ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من: ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد.

قالوا: ونسي الجاحظ وهو رابعهم.

وكان مع هذا فاضلا بارعا فصيحا.

قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك ؟

قال: نفسي، إذا رأيت من غيري قبيحا أبيته، وإذا رأيت حسنا أتيته.

ومن كلامه: شربت من الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما، ولا نسيت غيرها كلاما.

وكان قتل ابن المقفع على يد سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة نائب البصرة، وذلك أنه كان يعبث به ويسب أمه، وإنما كان يسميه: ابن المعلم، وكان كبير الأنف، وكان إذا دخل عليه يقول: السلام عليكما - على سبيل التهكم -.

وقال لسفيان بن معاوية مرة: ما ندمت على سكوت قط.

فقال: صدقت، الخرس لك خير من كلامك.

ثم اتفق أن المنصور غضب على ابن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية هذا أن يقتله، فأخذه فأحمى له تنورا وجعل يقطعه إربا إربا ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله، وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في صفة قتله.

قال ابن خلكان: ومنهم من يقول: إن ابن المقفع نسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالزنبيل بلا آذان، والصحيح أنه ابن المقفع وهو أبو دارويه كان الحجاج قد استعمله على الخراج فخان فعاقبه حتى تقفعت يداه، والله أعلم.

وفيها: خرج الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.

وحج بالناس في هذه السنة نائب المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي.

وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة مسلم بن قتيبة، وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة

[عدل]

فيها: تكامل بناء مدينة السلام ببغداد، وسكنها المنصور في صفر من هذه السنة، وكان مقيما قبل ذلك بالهاشمية المتاخمة للكوفة، وكان قد شرع في بنائها في السنة الخارجة، وقيل: في سنة أربع وأربعين ومائة، فالله أعلم.

وقد كان السبب الباعث له على بنائها أن الراوندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم، بقيت منهم بقية فخشي على جنده منهم، فخرج من الكوفة يرتاد لهم موضعا لبناء مدينة، فسار في الأرض حتى بلغ الجزيرة، فلم ير موضعا أحسن لوضع المدينة من موضع بغداد الذي هي فيه الآن، وذلك بأنه موضع يغدا إليه ويراح بخيرات ما حوله في البر والبحر، وهو محصن بدجلة والفرات من ههنا وههنا، لا يقدر أحد أن يتوصل إلى موضع الخليفة إلا على جسر.

وقد بات به المنصور قبل بنائه ليالي فرأى الرياح تهب به ليلا ونهارا من غير انجعار ولا غبار، ورأى طيب تلك البقعة وطيب هوائها، وقد كان في موضعها قرى وديور لعباد النصارى وغيرهم - ذكر ذلك مفصلا بأسمائه وتعداده أبو جعفر ابن جرير - فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى في طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك، ثم سلم كل ربع منها لأمير يقوم على بنائه، وأحضر من كل البلاد فعالا وصناعا ومهندسين، فاجتمع عنده ألوف منهم، ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

ثم قال: ابنوا على بركة الله.

وأمر ببنائها مدورة سمك سورها من أسفله خمسون ذراعا، ومن أعلاه عشرون ذراعا، وجعل لها ثمانية أبواب في السور البراني، ومثلها في الجواني، وليس كل واحد تجاه الآخر، ولكن جعله أزور عن الذي يليه، ولهذا سميت بغداد الزوراء، لازورار أبوابها بعضها عن بعض، وقيل: سميت بذلك لانحراف دجلة عندها.

وبنى قصر الإمارة في وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء، واختط المسجد الجامع إلى جانب القصر، وكان الذي وضع قبلته الحجاج بن أرطأة.

وقال ابن جرير: ويقال: إن في قبلته انحرافا يحتاج المصلي فيه أن ينحرف إلى ناحية باب البصرة، وذكر أن مسجد الرصافة أقرب إلى الصواب منه لأنه بني قبل القصر، وجامع المدينة بني على القصر، فاختلت بسبب ذلك.

وذكر ابن جرير، عن سليمان بن مجالد، أن المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء بها فأبى وامتنع فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة أن لا يتولى له، فولاه القيام بأمر المدينة وضرب اللبن، وأخذ الرجال بالعمل، فتولى ذلك حتى فرغوا من استتمام حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة أربع وأربعين ومائة.

قال ابن جرير: وذكر عن الهيثم بن عدي: أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له، فأخبر بذلك أبو حنيفة فدعاه بقصبة فعد اللبن ليبر بذلك يمين أبي جعفر، ومات أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك.

وذكر أن خالد بن برمك هو الذي أشار على المنصور ببنائها، وأنه كان مستحثا فيها للصناع، وقد شاور المنصور الأمراء في نقل القصر الأبيض من المدائن إلى بغداد لأجل قصر الإمارة بها، فقالوا: لا تفعل فإنه آية في العالم، وفيه مصلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

فخالفهم ونقل منه شيئا كثيرا، فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف في حمله فتركه، ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الإمارة ببغداد.

وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك كانت من بناء سليمان بن داود، وكانت الجن قد عملت تلك الأبواب، وهي حجارة هائلة.

وقد كانت الأسواق وضجيجها تسمع من قصر الإمارة، فكانت أصوات الباعة وهوسات الأسواق تسمع منه، فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم في بعض الرسائل من الروم، فأمر المنصور بنقل الأسواق من هناك إلى موضع آخر، وأمر بتوسعة الطرقات أربعين ذراعا في أربعين ذراعا، ومن بنى في شيء من ذلك هدم.

قال ابن جرير: وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت في خزائن المنصور في الكتب أنه أنفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والأسواق وغير ذلك، أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وكان أجرة الأستاذ من البنائين كل يوم قيراط فضة، وأجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة.

قال الخطيب البغدادي: وقد رأيت ذلك في بعض الكتب، وحكي عن بعضهم أنه قال: أنفق عليه ثمانية عشر ألف ألف، فالله أعلم.

وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين الذي بنى له بيتا حسنا في قصر الإمارة فنقصه درهما عما ساومه، وأنه حاسب بعض المستحثين على الذي كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهما فحبسه حتى جاء بها وأحضرها وكان شحيحا.

قال الخطيب: وبناها مدورة، ولا يعرف في أقطار الأرض مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم.

ثم ذكر عن بعض المنجمين قال: قال لي المنصور لما فرغ من بناء بغداد: خذ الطالع لها، فنظرت في طالعها - وكان المشتري في القوس - فأخبرته بما تدل عليه النجوم، من طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها وفقر الناس إلى ما فيها.

قال: ثم قلت له: وأبشرك يا أمير المؤمنين أنه لا يموت فيها أحد من الخلفاء أبدا.

قال: فرأيته يبتسم ثم قال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعرا منه:

قضى ربها أن لا يموت خليفة * بها إنه ما شاء في خلقه يقضي

وقد قرره على هذا الخطأ الخطيب وسلم ذلك ولم ينقضه بشيء، بل قرره مع اطلاعه ومعرفته.

قال: وزعم بعض الناس أن الأمين قتل بدرب الأنبار منها، فذكرت ذلك للقاضي أبي القاسم علي بن حسن التنوخي فقال: محمد الأمين لم يقتل بالمدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقتل هناك. ذكر ذلك الصولي وغيره.

وذكر عن بعض مشايخ بغداد أنه قال: اتساع بغداد مائة وثلاثون جريبا، وذلك بقدر ميلين في ميلين.

قال الإمام أحمد: بغداد من الصراة إلى باب التبن.

وذكر الخطيب: أن بين كل بابين من أبوابها الثمانية ميلا. وقيل: أقل من ذلك.

وذكر الخطيب صفة قصر الإمارة وأن فيه القبة الخضراء طولها ثمانون ذراعا، على رأسها تمثال فرس عليه فارس في يده رمح يدور به فأي جهة استقبلها واستمر مستقبلها، علم السلطان أن في تلك الجهة قد وقع حدث، فلم يلبث أن يأتي الخليفة خبره.

وهذه القبة وهي على مجلس في صدر إيوان المحكمة وطوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا.

وقد سقطت هذه القبة في ليلة برد ومطر ورعد وبرق، ليلة الثلاثاء لسبع خلون من شهر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

وذكر الخطيب البغدادي أنه كان يباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدرهم والحمل بأربعة دوانق، وينادى على لحم الغنم كل ستين رطلا بدرهم، ولحم البقر كل تسعين رطلا بدرهم، والتمر كل ستين رطلا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم.

ولهذا الأمن والرخص كثر ساكنوها وعظم أهلوها وكثر الدارج في أسواقها وأزقتها، حتى كان المار لا يستطيع أن يجتاز في أسواقها لكثرة زحام أهلها.

قال بعض الأمراء وقد رجع من السوق: طال والله ما طردت خلف الأرانب في هذا المكان.

وذكر الخطيب: أن المنصور جلس يوما في قصره، فسمع ضجة عظيمة، ثم أخرى ثم أخرى فقال للربيع الحاجب: ما هذا ؟

فكشف فإذا بقرة قد نفرت من جازرها هاربة في الأسواق.

فقال الرومي: يا أمير المؤمنين ! إنك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك، وفيه ثلاثة عيوب: بعده من الماء، وقرب الأسواق منه، وليس عنده خضره، والعين خضرة تحب الخضرة.

فلم يرفع بها المنصور رأسا ثم أمر بتغيير ذلك، ثم بعد ذلك ساق إليها الماء وبنى عندها البساتين، وحول الأسواق من ثم إلى الكرخ.

قال يعقوب بن سفيان: كمل بناء بغداد في سنة ست وأربعين ومائة، وفي سنة سبع وخمسين حول الأسواق إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، وأمر بتوسعة الأسواق أربعين ألفا، وبعد شهرين من ذلك شرع في بناء قصره المسمى: بالخلد، فكمل سنة ثمان وخمسين ومائة.

وجعل أمر ذلك إلى رجل يقال له: الوضاح، وبنى للعامة جامعا للصلاة والجمعة لئلا يدخلوا إلى جامع المنصور، فأما دار الخلافة التي كانت ببغداد بعد ذلك فإنها كانت للحسن بن سهل، فانتقلت من بعده إلى بوران زوجة المأمون، فطلبها منها المعتضد - وقيل: المعتمد - فأنعمت له بها، ثم استنظرته أياما حتى تنتقل منها فأنظرها.

فشرعت في تلك الأيام في ترميمها وتبييضها وتحسينها، ثم فرشتها بأنواع الفرش والبسط، وعلقت فيها أنواع الستور، وأرصدت فيها ما ينبغي للخلافة من الجواري والخدم، وألبستهم أنواع الملابس، وجعلت في الخزائن ما ينبغي من أنواع الأطعمة والمأكل، وجعلت في بعض بيوتها من أنواع الأموال والذخائر، ثم أرسلت بمفاتيحها إليه، ثم دخلها فوجد فيها ما أرصدته بها، فهاله ذلك واستعظمه جدا، وكان أول خليفة سكنها وبنى عليها سورا. ذكره الخطيب.

وأما التاج فبناه المكتفي على دجلة، وحوله القباب والمجالس والميدان والثريا وحير الوحوش.

وذكر الخطيب صفة دار الشجرة التي كانت في زمن المقتدر بالله، وما فيها من الفرش والستور والخدم والمماليك والحشمة الباهرة، والدنيا الظاهرة، وأنها كان بها إحدى عشر ألف طواشي، وسبعمائة حاجب.

وأما المماليك فألوف لا يحصون كثرة، وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في أيامهم ودولتهم التي ذهبت كأنها أحلام نوم، بعد سنة ثلثمائة.

وذكر الخطيب دار الملك التي بالمخرم، وذكر الجوامع التي تقام فيها الجمعات، وذكر الأنهار والجسور التي بها، وما كان في ذلك في زمن المنصور، وما أحدث بعده إلى زمانه، وأنشد لبعض الشعراء في جسور بغداد التي على دجلة:

يوم سرقنا العيش فيه خلسة * في مجلس بفناء دجلة مفرد

رق الهواء برقة وقدامة * فغدوت رقا للزمان المسعد

فكأن دجلة طيلسان أبيض * والجسر فيها كالطراز الأسود

وقال آخر:

يا حبذا جسر على متن دجلة * بإتقان تأسيس وحسن ورونق

جمال وحسن للعراق ونزهة * وسلوة من أضناه فرط التشوق

تراه إذا ما جئته متأملا * كسطر عبير خط في وسط مهرق

أو العاج فيه الأبنوس مرقش * مثال فيول تحتها أرض زئبق

وذكر الصولي، قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد أن ذرع بغداد من الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب، وأن الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا، وأن عدة حماماتها ستون ألف حمام، وأقل ما في كل حمام منها خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء، وأن بإزاء كل حمام خمسة مساجد، فذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وأقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر - يعني: إماما وقيما ومأذونا ومأمومين - ثم تناقصت بعد ذلك، ثم دثرت بعد ذلك حتى صارت كأنها خربة صورة ومعنى. على ما سيأتي بيانه في موضعه.

وقال الحافظ أبو بكر البغدادي: لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتمييز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، ثم ذكر تناقص أحوالها وهلم جرا إلى زمانه.

قلت: وكذا من بعده إلى زماننا هذا، ولا سيما في أيام هولاكو بن تولى بن جنكز بن خان التركي الذي ووضع معالمها، وقتل خليفتها وعالمها، وخرب دورها، وهدم قصورها، وأباد الخواص والعوام من أهلها في ذلك العام، وأخذ الأموال والحواصل، ونهب الذراري والأصائل، وأورث بها حزنا يعدد به في المبكرات والأصائل، وصيرها في الأقاليم، وعبرة لكل معتبر عليم، وتذكرة لكل ذي عقل مستقيم، وبدلت بعد تلاوة القرآن بالنغمات والألحان، وإنشاد الأشعار، وكان، وكان.

وبعد سماع الأحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية، والمناهج الكلامية والتأويلات القرمطية، وبعد العلماء بالأطباء، وبعد الخليفة العباسي بشر الولاة من الأناسي، وبعد الرياسة والنباهة بالخساسة والسفاهة، وبعد الطلبة المشتغلين بالظلمة والعيارين، وبعد العلم بالفقه والحديث وتعبير الرؤيا، بالموشح ودوبيت ومواليا.

وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت: 46] .

والتحول منها في هذه الأزمان لكثرة ما فيها من المنكرات الحسية والمعنوية، وأكل الحشيشة، والانتقال عنها إلى بلاد الشام الذي تكفل الله بأهلها أفضل وأكمل وأجمل.

وقد روى الأمام أحمد، عن رسول الله ، أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، وشرار أهل الشام إلى العراق».

ما ورد في مدينة بغداد من الآثار وما فيها من الأخبار

[عدل]

فيها: أربع لغات: بغداد، وبغداذ بإهمال الدال الثانية وإعجامها، وبغدان بالنون آخره وبالميم مع ذلك أولا مغدان، وهي كلمة أعجمية.

قيل: إنها مركبة من بغ وداد فقيل: بغ: بستان، وداد: اسم رجل.

وقيل: بغ: اسم صنم، وقيل: شيطان، وداد: عطية، أي: عطية الصنم.

ولهذا كره عبد الله بن المبارك والأصمعي وغيرهما تسميتها بغداد وإنما يقال لها: مدينة السلام، وكذا أسماها بانيها أبو جعفر المنصور، لأن دجلة كان يقال لها: وادي السلام، ومنهم من يسميها الزوراء.

فروى الخطيب البغدادي، من طريق عمار بن سيف، - وهو متهم - قال: سمعت عاصم الأحول، يحدث عن سفيان الثوري، عن أبي عثمان، عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله : «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة، تجبى إليها خزائن الأرض، وملوكها جبابرة، فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة».

قال الخطيب: وقد رواه عن عاصم الأحول سيف ابن أخت سفيان الثوري، وهو أخو عمار بن سيف.

قلت: وكلاهما ضعيف متهم يرمى بالكذب، ومحمد بن جابر اليماني ضعيف، وأبو شهاب الحناطي ضعيف.

وروى عن سفيان الثوري، عن عاصم، من طرق ثم أسند ذلك كله.

وأورد من طريق يحيى بن معين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عمار بن سيف، عن الثوري، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير، عن النبي .

وقال أحمد و يحيى: ليس لهذا الحديث أصل.

وقال أحمد: ما حدث به إنسان ثقة.

وقد علله الخطيب من جميع طرقه، وساقه أيضا من طريق عمار بن سيف، عن الثوري، عن أبي عبيدة حميد الطويل، عن أنس بن مالك، ولا يصح أيضا.

ومن طريق عمر بن يحيى، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن ربعي، عن حذيفة، مرفوعا بنحوه، ولا يصح.

ومن غير وجه عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وثوبان وابن عباس، وفي بعضها: ذكر السفياني وأنه يخربها، ولا يصح إسناد شيء من هذه الأحاديث.

وقد أوردها الخطيب بأسانيدها وألفاظها، وفي كل منها نكارة، وأقرب ما فيها عن كعب الأحبار.

وقد جاء في آثار عن كتب متقدمة أن بانيها يقال له: مقلاص، وذو الدوانيق لبخله.

فصل محاسن بغداد ومساويها وما روي في ذلك عن الأئمة

[عدل]

قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قال لي الشافعي: هل رأيت بغداد ؟

قلت: لا !

فقال: ما رأيت الدنيا.

وقال الشافعي: ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنا.

وقال بعضهم: الدنيا بادية وبغداد حاضرتها.

وقال ابن علية: ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد، ولا أحسن دعة منهم.

وقال ابن مجاهد: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت: ما فعل الله بك ؟

فقال لي: دعني من هذا، من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة.

وقال أبو بكر بن عياش: الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها لم ير الدنيا.

وقال أبو معاوية: بغداد دار دنيا وآخرة.

وقال بعضهم: من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس.

قال الخطيب: من شهد يوم الجمعة بمدينة السلام عظم الله في قلبه محل الإسلام، لأن مشايخنا كانوا يقولون: يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.

وقال بعضهم: كنت أواظب على الجمعة بجامع المنصور فعرض لي شغل فصليت في غيره، فرأيت في المنام كأن قائلا يقول: تركت الصلاة في جامع المدينة وإنه ليصلي فيه كل جمعة سبعون وليا.

وقال آخر: أردت الانتقال من بغداد فرأيت كأن قائلا يقول في المنام: أتنتقل من بلد فيه عشرة آلاف ولي لله عز وجل ؟

وقال بعضهم: رأيت كأن ملكين أتيا بغداد فقال أحدهما لصاحبه: اقلبها، فقد حق القول عليها.

فقال الآخر: كيف أقلب ببلد يختم فيها القرآن كل ليلة خمسة آلاف ختمة ؟

وقال أبو مسهر: عن سعيد بن عبد العزيز بن سليمان بن موسى، قال: إذا كان علم الرجل حجازيا وخلقه عراقيا وصلاته شامية فقد كمل.

وقالت زبيدة لمنصور النمري: قل شعرا تحبب فيه بغداد إلي.

فقد اختار عليها الرافقة فقال:

ماذا ببغداد من طيب الأفانين * ومن منازه للدنيا وللدين

تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت * وجوشت بين أغصان الرياحين

قال: فأعطته ألفي دينار.

وقال الخطيب: وقرأت في كتاب طاهر بن مظفر بن طاهر الخازن بخطه من شعره:

سقى الله صوب الغاديات محلة * ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر

هي البلدة الحسناء خصت لأهلها * بأشياء لم يجمعن مذ كنَّ في مصر

هواء رقيق في اعتدال وصحة * وماء له طعم ألذ من الخمر

ودجلتها شطان قد نظما لنا * بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر

تراها كمسك والمياه كفضة * وحصباؤها مثل اليواقيت والدر

وقد أورد الخطيب في هذا أشعارا كثيرة وفيما ذكرنا كفاية.

وقد كان الفراغ من بناء بغداد في هذه السنة - أعني: سنة ست وأربعين ومائة -.

وقيل: في سنة ثمان وأربعين.

وقيل: إن خندقها وسورها كملا في سنة سبع وأربعين.

ولم يزل المنصور يزيد فيها ويتأنق في بنائها حتى كان آخر ما بنى فيها قصر الخلد، فظن أنه يخلد فيها، أو أنها تخلد فلا تخرب، فعند كماله مات.

وقد خربت بغداد مرات كما سيأتي بيانه.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: عزل المنصور سلم بن قتيبة عن البصرة وولى عليها محمد بن سليمان بن علي، وذلك لأنه كتب إلى سلم يأمره بهدم بيوت الذين بايعوا إبراهيم بن عبد الله بن حسن فتوانى في ذلك فعزله، وبعث ابن عمه محمد بن سليمان فعاث بها فسادا، وهدم دورا كثيرةً.

وعزل عبد الله بن الربيع عن إمرة المدينة وولى عليها جعفر بن سليمان، وعزل عن مكة السري بن عبد الله، وولى عليها عبد الصمد بن علي.

قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي. قاله الواقدي وغيره.

قال: وفيها: غزا الصائفة من بلاد الروم جعفر بن حنظلة البهراني.

وفيها توفي من الأعيان: أشعث بن عبد الملك، وهشام بن السائب الكلبي، وهشام بن عروة، ويزيد بن أبي عبيد في قول.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

[عدل]

فيها: أغار اشترخان الخوارزمي في جيش من الأتراك على ناحية أرمينية فدخلوا تفليس وقتلوا خلقا كثيرا وأسروا كثيرا من المسلمين وأهل الذمة، وممن قتل يومئذ حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان مقيما بالموصل في ألفين لمقابلة الخوارج، فأرسله المنصور لمساعدة المسلمين ببلاد أرمينية، وكان في جيش جبريل بن يحيى، فهزم جبريل وقتل حرب رحمه الله.

وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور

[عدل]

وهو الذي أخذ الشام من أيدي بني أمية، وكان عليها واليا حتى مات السفاح، فلما مات دعا إلى نفسه فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه أبو مسلم وهرب عبد الله إلى عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة فاختفى عنده مدة ثم ظهر المنصور على أمره فاستدعى به وسجنه، فلما كان في هذه السنة عزم المنصور على الحج، فطلب عمه عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المنصور عن وصية السفاح - وسلم إليه عمه عبد الله بن علي، وقال له: إن هذا عدوي وعدوك، فاقتله في غيبتي عنك ولا تتوانى.

وسار المنصور إلى الحج وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك، ويقول له: ماذا صنعت فيما أودعت إليك فيه؟ مرة بعد مرة.

وأما عيسى بن موسى فإنه لما تسلم عمه حار في أمره وشاور بعض أهله فأشار بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وأبقه عندك وأظهر قتله فإنا نخشى أن يطالبك به جهرة فتقول: قتله، فيأمر بالقود فتدعي أنه أمرك بقتله بالسر بينك وبينه فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به، وإنما يريد المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معا.

فتغير عيسى بن موسى عند ذلك وأخفى عمه وأظهر أنه قتله.

فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ويشفعوا في عمه عبد الله بن علي، وألحوا في ذلك فأجابهم إلى ذلك، واستدعى عيسى بن موسى وقال له: إن هؤلاء شفعوا في عبد الله بن علي وقد أجبتهم إلى ذلك فسلمه إليهم.

فقال عيسى: وأين عبد الله؟ ذاك قتلته منذ أمرتني.

فقال المنصور: لم آمرك بذلك.

وجحد ذلك وأن يكون تقدم إليه منه أمره في ذلك، فأحضر عيسى الكتب التي كتبها إليه المنصور مرة بعد مرة في ذلك، فأنكر أن يكون أراد ذلك، وصمم على الإنكار، وصمم عيسى بن موسى أنه قد قتله، فأمر المنصور عند ذلك بقتل عيسى بن موسى قصاصا بعبد الله، فخرج به بنو هاشم ليقتلوه، فلما جاؤوا بالسيف قال: ردوني إلى الخليفة.

فردوه إليه فقال له: إن عمك حاضر ولم أقتله.

فقال: هلم به.

فأحضره فسقط في يد الخليفة وأمر بسجنه بدار جدرانها مبنية على ملح، فلما كان من الليل أرسل على جدرانها الماء فسقط عليه البناء فهلك.

ثم إن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد وقدم عليه ابنه المهدي، وكان يجلسه فوق عيسى بن موسى عن يمينه، ثم كان لا يلتفت إلى عيسى بن موسى ويهينه في الأذن والمشورة والدخول عليه والخروج من عنده، ثم مازال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده حتى خلع نفسه بنفسه، وبايع لمحمد بن منصور، وأعطاه المنصور على ذلك نحوا من اثني عشر ألف ألف درهم، وانصلح أمر عيسى بن موسى وبنيه عند المنصور، وأقبل عليه بعد ما كان قد أعرض عنه.

وكان قد جرت بينهما قبل ذلك مكاتبات في ذلك كثيرة جدا، ومراودات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع عيسى نفسه، وأن العامة لا يعدلون بالمهدي أحدا، وكذلك الأمراء والخواص.

ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرها، فعوضه عن ذلك ما ذكرنا، وسارت بيعة المهدي في الآفاق شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وفرح المنصور بذلك فرحا شديدا، واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا، فلم يكن الخليفة من بني العباس إلا من سلالته: { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [الأنعام: 96] .

وفيها توفي: عبيد الله بن عمر العمري، وهاشم بن هاشم، وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

[عدل]

فيها: بعث المنصور حميد بن قحطبة لغزو الترك الذين عاثوا في السنة الماضية ببلاد تفليس، فلم يجد منهم أحدا فإنهم انشمروا إلى بلادهم.

وحج بالناس فيها: جعفر بن أبي جعفر، ونواب البلاد فيها هم المذكرون في التي قبلها.

وفيها توفي: جعفر بن محمد الصادق المنسوب إليه كتاب اختلاج الأعضاء وهو مكذوب عليه.

وفيها توفي: سليمان بن مهران الأعمش أحد مشايخ الحديث في ربيع الأول منها، وعمرو بن الحارث، والعوام بن حوشب، والزبيدي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومحمد بن عجلان.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة

[عدل]

فيها: فرغ من بناء سور بغداد وخندقها.

وفيها: غزا الصائفة العباس بن محمد فدخل بلاد الروم ومعه الحسين بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، ومات محمد بن الأشعث في الطريق.

وفيها حج بالناس: محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي وولاه المنصور على مكة والحجاز عوضا عن عمه عبد الصمد بن علي.

وعمال الأمصار فيها: هم الذين كانوا في السنة قبلها.

وفيها توفي: زكريا بن أبي زائدة، وكهمس بن الحسن، والمثنى بن الصباح.

وعيسى بن عمر أبو عمرو

[عدل]

الثقفي البصري، النحوي شيخ سيبويه.

يقال: إنه من موالي خالد بن الوليد، وإنما نزل في ثقيف فنسب إليهم.

كان إماما كبيرا جليلا في اللغة والنحو والقراءات، أخذ ذلك عن: عبيد الله بن كثير، وابن المحيص، وعبد الله بن أبي إسحاق، وسمع الحسن البصري وغيرهم.

وعنه: الخليل بن أحمد، والأصمعي، وسيبويه.

ولزمه وعرف به وانتفع به، وأخذ كتابه الذي سماه: بالجامع فزاد عليه وبسطه، فهو كتاب سيبويه اليوم، وإنما هو كتاب شيخه، وكان سيبويه يسأل شيخه الخليل بن أحمد عما أشكل عليه فيه، فسأله الخليل أيضا عما صنف عيسى بن عمر فقال: جمع بضعا وسبعين كتابا ذهبت كلها إلا كتاب الإكمال، وهو بأرض فارس، وهو الذي اشتغل فيه وأسألك عن غوامضه.

فأطرق الخليل ساعة ثم أنشد:

ذهب النحو جميعا كله * غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع * وهما للناس شمس وقمر

وقد كان عيسى يغرب ويتقعر في عبارته جدا.

وقد حكى الجوهري عنه في الصحاح: أنه سقط يوما عن حماره فاجتمع عليه الناس فقال: مالكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي مرة؟ افرنقعوا عني.

معناه: مالكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون؟ انكشفوا عني.

وقال غيره: كان به ضيق النفس فسقط بسببه فاعتقد الناس أنه مصروع فجعلوا يعودونه ويقرأون عليه، فلما أفاق من غشيته قال ما قال.

فقال بعضهم: إني حسبته - يتكلم بالفارسية -.

وذكر ابن خلكان أنه كان صاحبا لأبي عمرو بن العلاء، وأن عيسى بن عمر قال يوما لأبي عمرو بن العلاء: أنا أفصح من معدّ بن عدنان.

فقال له أبو عمرو كيف تقرأ هذا البيت:

قد كنَّ يخبأن الوجوه تسترا * فاليوم حين بدأن للنظار

أو بدين؟ فقال: بدين.

فقال أبو عمرو: أخطأت.

ولو قال: بدأن لأخطأ أيضا.

وإنما أراد أبو عمرو تغليطه، وإنما الصواب بَدونَ، من: بدا يبدو إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء.

ثم دخلت سنة خمسين ومائة من الهجرة

[عدل]

فيها: خرج رجل من الكفرة يقال له: أستاذسيس، في بلاد خراسان فاستحوذ على أكثرها، والتف معه نحو ثلاثمائة ألف، وقتلوا من المسلمين هنالك خلقا كثير، وهزموا الجيوش في تلك البلاد، وسبوا خلقا كثيرا، وتحكم الفساد بسببهم، وتفاقم أمرهم، فوجه المنصور خازم بن خزيمة إلى ابنه المهدي ليوليه حرب تلك البلاد، ويضم إليه من الأجناد ما يقاوم أولئك.

فنهض المهدي في ذلك نهضة هاشمية، وجمع لخازم بن خزيمة الأمرة على تلك البلاد والجيوش، وبعثه في نحو من أربعين ألفا، فسار إليهم وما زال يراوغهم ويماكرهم ويعمل الخديعة فيهم حتى فاجأهم بالحرب، وواجههم بالطعن والضرب، فقتل منهم نحوا سبعين ألفا، وأسر منهم أربعة عشر ألفا، وهرب ملكهم أستاذسيس فتحرز في جبل.

فجاء خازم إلى تحت الجبل وقتل أولئك الأسرى كلهم ولم يزل يحاصره حتى نزل على حكم بعض الأمراء، فحكم أن يقيد بالحديد هو وأهل بيته، وأن يعتق من معه من الأجناد - وكانوا ثلاثين ألفا - ففعل خازم ذلك كله، وأطلق لكل واحد ممن كان مع أستاذسيس ثوبين، وكتب بما وقع من الفتح إلى المهدي، فكتب المهدي بذلك إلى أبيه المنصور.

وفيها: عزل الخليفة عن إمرة المدينة جعفر بن سليمان وولاها الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وفيها حج بالناس: عبد الصمد بن علي عم الخليفة.

وتوفي فيها: جعفر بن أمير المؤمنين المنصور ودفن أولا بمقابر بني هاشم من بغداد، ثم نقل منها إلى موضع آخر.

وفيها توفي: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أحد أئمة أهل الحجاز، ويقال: إنه أول من جمع السنن، وعثمان بن الأسود، وعمر بن محمد بن زيد.

وفيها توفي: الإمام أبو حنيفة.

ذكر ترجمة الإمام أبي حنيفة

[عدل]

هو: الإمام أبو حنيفة، واسمه: النعمان بن ثابت التيمي، مولاهم الكوفي، فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتنوعة، وهو أقدمهم وفاة، لأنه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك قيل: وغيره.

وذكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة، فالله أعلم.

وروى عن جماعة من التابعين منهم: الحكم، وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن كهيل، وعامر الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع مولى بن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي.

وروى عنه جماعة منهم: ابنه حماد، وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات، وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي.

وقال يحيى بن معين: كان ثقة، وكان من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا.

وقد كان يحيى بن سعيد يختار قوله في الفتوى، وكان يحيى يقول: لا نكذب الله ! ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.

وقال عبد الله بن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان الثوري لكنت كسائر الناس.

وقال في الشافعي: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته.

وقال الشافعي: من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد السِّير فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك، ومن أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان.

وقال عبد الله بن داود الحريبي: ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة، لحفظه الفقه والسنن عليهم.

وقال سفيان الثوري وابن المبارك: كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه.

وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل.

وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الأرض.

وروى الخطيب بسنده، عن أسد بن عمرو: أن أبا حنيفة كان يصلي بالليل ويقرأ القرآن كل ليلة، ويبكي حتى يرحمه جيرانه.

ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعين ألف مرة، وكانت وفاته في رجب من هذه السنة - أعني: سنة خمسين ومائة -، وعن ابن معين: سنة إحدى وخمسين، وقال غيره: سنة ثلاث وخمسين، والصحيح الأول.

وكان مولده في سنة ثمانين فتم له من العمر سبعون سنة، وصلي عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام، وقبره هناك رحمه الله.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

[عدل]

فيها: عزل المنصور عمر بن حفص عن السند وولى عليها هشام بن عمرو التغلبي، وكان سبب عزله عنها أن محمد بن عبد الله بن حسن لما ظهر بعث ابنه عبد الله الملقب: بالأشتر، ومعه جماعة بهدية وخيول عتاق إلى عمر بن حفص هذا إلى السند فقبلها، فدعوه إلى دعوة أبيه محمد بن عبد الله بن حسن في السر فأجابهم إلى ذلك ولبسوا البياض.

ولما جاء خبر مقتل محمد بن عبد الله بالمدينة سقط في أيديهم، وأخذوا في الاعتذار إلى عبد الله بن محمد، فقال له عبد الله: إني أخشى على نفسي.

فقال: إني سأبعثك إلى ملك من المشركين في جوار أرضنا، وإنه من أشد الناس تعظيما لرسول الله ، وأنه متى عرفك أنك من سلالته أحبك.

فأجابه إلى ذلك، وسار عبد الله بن محمد إلى ذلك الملك وكان عنده آمنا، وصار عبد الله يركب في موكب من الزيدية ويتصيد في جحفل من الجنود، وانضم إليه خلق، وقدم عليه طوائف من الزيدية.

وأما المنصور فإنه بعث يعتب على عمر بن حفص نائب السند، فقال رجل من الأمراء: ابعثني إليه واجعل القضية مسندة إليّ، فإني سأعتذر إليه من ذلك، فإن سلمت وإلا كنت فداءك وفداء من عندك من الأمراء.

فأرسله سفيرا في القضية إلى المنصور، فلما وقف بين يدي المنصور أمر بضرب عنقه، وكتب إلى عمر بن حفص بعزله عن السند وولاه بلاد إفريقية عوضا عن أميرها، ولما وجه المنصور هشام بن عمرو إلى السند أمره أن يجتهد في تحصيل عبد الله بن محمد، فجعل يتوانى في ذلك، فبعث إليه المنصور يستحثه في ذلك، ثم اتفق الحال أن سيفا أخا هشام بن عمرو لقي عبد الله بن محمد في بعض الأماكن فاقتتلوا فقتل عبد الله وأصحابه جميعا، واشتبه عليهم مكانه في القتلى فلم يقدروا عليه.

فكتب هشام بن عمرو إلى المنصور يعلمه بقتله، فبعث يشكره على ذلك ويأمره بقتال الملك الذي آواه، ويعلمه أن عبد الله كان قد تسرى بجارية هنالك وأولدها ولدا أسماه: محمدا، فإذا ظفرت بالملك فاحتفظ بالغلام فنهض هشام بن عمرو إلى ذلك الملك فقاتله فغلبه وقهره على بلاده وأمواله وحواصله، وبعث بالفتح والأخماس وبذلك الغلام والملك إلى المنصور، ففرح المنصور بذلك وبعث بذلك الغلام إلى المدينة، وكتب المنصور إلى نائبها يعلمه بصحة نسبه، ويأمره أن يلحقه بأهله يكون عندهم لئلا يضيع نسبه، فهو الذي يقال له: أبو الحسن الأشتر.

وفي هذه السنة: قدم المهدي بن المنصور على أبيه من خراسان فتلقاه أبوه والأمراء والأكابر إلى أثناء الطريق، وقدم بعد ذلك نواب البلاد والشام وغيرها للسلام عليه وتهنئته بالسلامة والنصر.

وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يحد ولا يوصف.

بناء الرصافة

[عدل]

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: شرع المنصور في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورا وخندقا، وعمل عندها ميدانا وبستانا، وأجرى إليها الماء من نهر المهدي.

قال ابن جرير: وفيها: جدد المنصور البيعة لنفسه ثم لولده المهدي من بعده، ولعيسى بن موسى من بعدهما، وجاء الأمراء والخواص فبايعوا وجعلوا يقبّلون يد المنصور ويد ابنه ويلمسون يد عيسى بن موسى ولا يقبلونها.

قال الواقدي: وولى المنصور معن بن زائدة سجستان.

وحج بالناس فيها: محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو نائب مكة والطائف، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة جابر بن زيد الكلابي، وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ونائب خراسان حميد بن قحطبة، ونائب سجستان معن بن زائدة.

وغزا الصائفة فيها: عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد.

وفيها توفي: حنظلة بن أبي سفيان، وعبد الله بن عون، ومحمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة النبوية التي جمعها وجعلها علما يهتدى به، وفخرا يستجلى به، والناس كلهم عيال عليه في ذلك، كما قال الشافعي وغيره من الأئمة.

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائة

[عدل]

فيها: عزل المنصور عن إمرة مصر يزيد بن حاتم وولاها محمد بن سعيد، وبعث إلى نائب إفريقية وكان قد بلغه أنه عصى وخالف، فلما جيء به أمر بضرب عنقه.

وعزل عن البصرة جابر بن زيد الكلابي وولاها يزيد بن منصور.

وفيها: قتلت الخوارج معن بن زائدة بسجستان.

وفيها توفي: عباد بن منصور، ويونس بن يزيد الأيلي.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسون ومائة

[عدل]

وفيها: غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورياني وسجنه وسجن أخاه خالدا وبني أخيه الأربعة: سعيدا، ومسعودا، ومخلدا، ومحمدا، وطالبهم بالأموال الكثيرة.

وكان سبب ذلك ما ذكره ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور، وهو أنه كان في زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شيء له ولا معه شيء، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة، ثم جعل يعدها ويمنيها أنه من بيت سيصير الملك إليهم سريعا، فاتفق حبلها منه، ثم تطلبه بنو أمية فهرب عنها وتركها حاملا، ووضع عندها رقعة فيها نسبته، وأنه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمرها إذا بلغها أمره أن تأتيه، وإذا ولدت غلاما أن تسميه: جعفرا.

فولدت غلاما فسمته: جعفرا، ونشأ الغلام فتعلم الكتابة وغوى العربية والأدب، وأتقن ذلك إتقانا جيدا، ثم آل الأمر إلى بني العباس، فسألت عن السفاح فإذا هو ليس صاحبها، ثم قام المنصور وصار الولد إلى بغداد فاختلط بكّتاب الرسائل فأعجب به أيوب المورياني صاحب ديوان الإنشاء للمنصور، وحظي عنده وقدمه على غيره فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة، فجعل الخليفة يلاحظه، ثم بعث يوما الخادم ليأتيه بكاتب فدخل ومعه الغلام فكتب بين يدي المنصور كتابا وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله، ثم سأله عن اسمه فأخبره أنه جعفر، فقال: ابن من ؟

فسكت الغلام، فقال: مالك لا تتكلم ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! إن من خبري كيت وكيت.

فتغير وجه الخليفة ثم سأله عن أمه فأخبره، وسأله عن أحوال بلد الموصل فجعل يخبره والغلام يتعجب.

ثم قام إليه الخليفة فاحتضنه، وقال: أنت ابني.

ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة الأمر وحال الولد.

وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة فأحرز ذلك ثم جاء إلى أبي أيوب فقال: ما بطأ بك عند الخليفة ؟

فقال: إنه استكتبني في رسائل كثيرة.

ثم تقاولا، ثم فارقه الغلام مغضبا، ونهض من فوره فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ويحملها وأهلها إلى بغداد، إلى أبيه الخليفة.

فسار مراحل، ثم سأل عنه أبو أيوب فقيل: سافر فظن أبو أيوب أنه أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه، فبعث في طلبه رسولا، وقال: حيث وجدته فرده علي.

فسار الرسول في طلبه فوجده في بعض المنازل فخنقه وألقاه في بئر وأخذ ما كان معه فرجع إلى أبي أيوب.

فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده وندم على بعثه خلفه، وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه وكشف عن خبره فإذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله، فحينئذ استحضر أبا أيوب وألزمه بأموال عظيمة، ومازال في العقوبة حتى أخذ جميع أمواله وحواصله ثم قتله وجعل يقول: هذا قتل حبيبي.

وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا.

وفيها: خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد إفريقية، فاجتمع منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفا، ما بين فارس وراجل، وعليهم أبو حاتم الأنماطي، وأبو عباد.

وانضم إليهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا، فقاتلوا نائب إفريقية فهزموا جيشه وقتلوه، وهو عمر بن عثمان بن أبي صفرة الذي كان نائب السند كما تقدم قتله هؤلاء الخوارج، رحمه الله.

وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد، وقتلوا الحريم والأولاد.

وفيها: ألزم المنصور الناس بلبس قلانس سود طوال جدا، حتى كانوا يستعينون عن رفعها من داخلها بالقصب، فقال أبو دلامة الشاعر في ذلك:

وكنا نرجي من إمام زيادة * فزاد الإمام المرتجى في القلانس

تراها على هام الرجال كأنها * دنان يهود جللت بالبرانس

وفيها: غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فأسر خلقا كثيرا من الروم بنيف على ستة آلاف أسير، وغنم أموالا جزيلةً.

وحج بالناس: المهدي بن المنصور، وهو ولي العهد الملقب: بالمهدي.

وكان على نيابة مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى مصر محمد بن سعيد.

وذكر الواقدي: أن يزيد بن منصور كان ولاه المنصور في هذه السنة اليمن، فالله أعلم.

وفيها توفي: أبان بن صمة، وأسامة بن زيد الليثي، وثور بن يزيد الحمصي، والحسن بن عمارة، وقطر بن خليفة، ومعمر، وهشام بن الغازي، والله أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة

[عدل]

فيها: دخل المنصور بلاد الشام وزار بيت المقدس، وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفا وولاه بلاد إفريقية، وأمره بقتال الخوارج، وأنفق على هذا الجيش نحوا ثلاث وستين ألف درهم، وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي.

وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم، ونواب البلاد والأقاليم هم المذكورون في التي قبلها سوى البصرة فعليها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان.

وفيها توفي: أبو أيوب الكاتب وأخوه خالد، وأمر المنصور ببني أخيه أن تقطع أيديهم وأرجلهم ثم تضرب بعد ذلك أعناقهم، ففعل ذلك بهم.

وفيها توفي:

أشعب الطامع

[عدل]

وهو: أشعب بن جبير، أبو العلاء، ويقال: أبو إسحاق المدني، ويقال له: أبو حميدة.

وكان أبوه مولى لآل الزبير، قتله المختار، وهو خال الواقدي.

وروى عن عبد الله بن جعفر: «أن رسول الله كان يتختم في اليمين».

وأبان بن عثمان، وسالم، وعكرمة.

وكان ظريفا ماجنا يحبه أهل زمانه لخلاعته وطمعه، وكان حميد الغناء، وقد وفد على الوليد بن يزيد دمشق، فترجمه ابن عساكر ترجمة ذكر عنه فيها أشياء مضحكة، وأسند عنه حديثين.

وروي عنه أنه سئل يوما أن يحدث فقال: حدثني عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله قال: «خصلتان من عمل بهما دخل الجنة» ثم سكت.

فقيل له: ما هما ؟

فقال: نسي عكرمة الواحدة ونسيت أنا الأخرى.

وكان سالم بن عبد الله بن عمر يستخفه ويستحليه ويضحك منه ويأخذه معه إلى الغابة، وكذلك كان غيره من أكابر الناس.

وقال الشافعي: عبث الولدان يوما بأشعب فقال لهم: إن ههنا أناسا يفرقون الجوز - ليطردهم عنه - فتسارع الصبيان إلى ذلك، فلما رآهم مسرعين قال: لعله حق فتبعهم.

وقال له رجل: ما بلغ من طمعك ؟

فقال: ما زفت عروس بالمدينة إلا رجوت أن تزف إلي فأكسح داري وأنظف بابي واكنس بيتي.

واجتاز يوما برجل يصنع طبقا من قش فقال له: زد فيه طورا أو طورين لعله أن يهدى يوما لنا فيه هدية.

وروى ابن عساكر أن أشعب غنَّى يوما لسالم بن عبد الله بن عمر قول بعض الشعراء:

مضين بها والبدر يشبه وجهها * مطهرة الأثواب والدين وافر

لها حسب زاكٍ وعرض مهذب * وعن كل مكروه من الأمر زاجر

من الخفرات البيض لم تلق ريبة * ولم يستملها عن تقى الله شاعر

فقال له سالم: أحسنت فزدنا.

فغناه:

ألمت بنا والليل داج كأنه * جناح غراب عنه قد نفض القطرا

فقلت أعطار ثوى في رحالنا * وما علمت ليلى سوى ريحها عطرا

فقال له: أحسنت ولولا أن يتحدث الناس لأجزلت لك الجائزة، وإنك من الأمر لبمكان.

وفيها توفي: جعفر بن برقان، والحكم بن أبان، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وقرة بن خالد.

وأبو عمرو بن العلاء

[عدل]

أحد أئمة القراء، واسمه كنيته، وقيل اسمه: ريان، والصحيح الأول.

وهو: أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين، التميمي المازني البصري، وقيل غير ذلك في نسبه.

كان علامة زمانه في الفقه والنحو وعلم القراءات، وكان من كبار العلماء العاملين، يقال: إنه كتب ملء بيت من كلام العرب، ثم تزهد فأحرق ذلك كله، ثم راجع الأمر الأول فلم يكن عنده إلا ما كان يحفظه من كلام العرب، وكان قد لقي خلقا كثيرا من أعراب الجاهلية، كان مقدما أيام الحسن البصري ومن بعده.

من اختياراته في العربية قوله في تفسيره الغرة في الجنين: إنها لا يقبل فيها إلا أبيض غلاما كان أو جارية.

فهم ذلك من قوله عليه السلام: «غرة عبد أو أمة».

ولو أريد أي عبد كان أو جارية لما قيده بالغرة، وإنما الغرة البياض.

قال ابن خلكان: وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قول أحد الأئمة المجتهدين أم لا.

وذكر عنه أنه كان إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتا من الشعر حتى ينسلخ، وإنما كان يقرأ القرآن وأنه كان يشتري له كل يوم كوزا جديدا وريحانا طريا، وقد صحبه الأصمعي نحوا من عشر سنين.

كانت وفاته في هذه السنة، وقيل: في سنة ست وخمسين، وقيل: تسع وخمسين، فالله أعلم.

وقد قارب التسعين، وقيل: إنه جاوزها، فالله أعلم.

وقبره بالشام، وقيل: بالكوفة، فالله أعلم.

وقد روى ابن عساكر في ترجمة صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، مرفوعا: «لأن يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب خير له من أن يربي ولدا لصلبه».

وهذا منكر جدا، وفي إسناده نظر.

ذكره من طريق تمام، عن خيثمة بن سليمان، عن محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عبد الله بن السمط، عن صالح، به.

وعبد الله بن السمط هذا لا أعرفه، وقد ذكره شيخنا الحافظ الذهبي في كتابه الميزان وقال: روى عن صالح بن علي حديثا موضوعا.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

[عدل]

فيها: دخل يزيد بن حاتم بلاد إفريقية فافتتحها عودا على بدء، وقتل من كان فيها ممن تغلب عليها من الخوارج، وقتل أمراءهم وأسر كبراءهم، وأذل أشرافهم واستبدل أهل تلك البلاد بالخوف أمنا وسلامةً، وبالإهانة كرامة، وكان من جملة من قتل من أمرائهم: أبو حاتم، وأبو عباد الخارجيان.

ثم لما استقامت له وبه الأمور في البلدان دخل ذلك بلاد القيروان فمهدها وأقر أهلها وقرر أمورها وأزال محذورها، والله سبحانه أعلم.

بناء الرافقة وهي المدينة المشهورة

[عدل]

وفيها: أمر المنصور ببناء الرافقة على منوال بناء بغداد في هذه السنة، وأمر فيها ببناء سور وعمل خندق حول الكوفة، وأخذ ما غرم على ذلك من أموال أهلها، من كل إنسان من أهل اليسار أربعين درهما، وقد فرضها أولا خمسة دراهم، خمسة دراهم، ثم جباها أربعين أربعين.

فقال في ذلك بعضهم:

يا لقومي ما رأينا * في أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا * وجبانا أربعينا

وفيها: غزا الصائفة يزيد بن أسد السلمي.

وفيها: طلب ملك الروم الصلح من المنصور على أن يحمل إليه الجزية.

وفيها: عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وغرمه أموالا كثيرةً.

وفيها: عزل محمد بن سليمان بن علي عن إمرة الكوفة.

فقيل: لأمور بلغته عنه في تعاطي منكرات، وأمور لا تليق بالعمال.

وقيل: لقتله محمد بن أبي العوجاء - وقد كان ابن أبي العوجاء هذا زنديقا - يقال: إنه لما أمر بضرب عنقه اعترف على نفسه بوضع أربعة آلاف حديث يحلُّ فيها الحرام ويحرم فيها الحلال، ويصوم الناس يوم الفطر ويفطرهم في أيام الصيام.

فأراد المنصور أن يجعل قتله له ذنبا فعزله به، وإنما أراد أن يقيده منه.

فقال له عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين ! لا تعزله بهذا ولا تقتله به، فإنه إنما قتله على الزندقة، ومتى عزلته به شكره العامة وذموك.

فتركه حينا ثم عزله وولى مكانه على الكوفة عمرو بن زهير.

وفيها: عزل عن المدينة الحسن بن زيد وولى عليها عمه عبد الصمد بن علي، وجعل معه فليح بن سليمان مشرفا عليه.

وعلى إمرة مكة محمد بن إبراهيم بن محمد، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى مصر محمد بن سعيد، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم.

وفيها توفي:

صفوان بن عمرو وعثمان بن أبي العاتكة الدمشقيان، وعثمان بن عطاء، ومسعر بن كدام.

حماد الراوية

[عدل]

وهو: ابن أبي ليلى، ميسرة - ويقال: سابور - بن المبارك بن عبيد، الديلمي الكوفي، مولى بكير بن زيد الخيل الطائي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع المعلقات الطوال، وإنما سمي: الرواية لكثرة روايته الشعر عن العرب، اختبره الوليد بن يزيد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك فأنشده تسعا وعشرين قصيدةً على حروف المعجم، كل قصيدة نحوا من مائة بيت، وزعم أنه لا يسمى شاعر من شعراء العرب إلا أنشد له ما لا يحفظه غيره. فأطلق له مائة ألف درهم.

وذكر أبو محمد الحريري في كتابه درة الغواص: أن هشام بن عبد الملك استدعاه من العراق من نائبه يوسف بن عمر، فلما دخل عليه إذا هو في دار قوراء مرخمة بالرخام والذهب وإذا عنده جاريتان حسنتان جدا، فاستنشده شيئا فأنشده، فقال له: سل حاجتك ؟

فقال: كائنة ما كانت يا أمير المؤمنين ؟

فقال: وما هي ؟

فقال: تطلق لي إحدى هاتين الجاريتين.

فقال: هما وما عليهما لك.

وأخلاه في بعض داره، وأطلق له مائة ألف درهم.

هذا ملخص الحكاية، والظاهر أن هذا الخليفة إنما هو الوليد بن يزيد فإنه ذكر أنه شرب معه الخمر، وهشام لم يكن يشرب، ولم يكن نائبه على العراق يوسف بن عمر، إنما كان نائبه خالد بن عبد الله القسري، وبعده يوسف بن عمر بن عبد العزيز.

كانت وفاة حماد في هذه السنة عن ستين سنة.

قال ابن خلكان: وقيل: إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين، فالله أعلم.

وفيها قتل: حماد عجرد على الزندقة.

وهو:

حماد بن عمر ابن يوسف بن كليب الكوفي

[عدل]

ويقال: إنه واسطي مولى بني سواد.

وكان شاعرا ماجنا ظريفا زنديقا متهما على الإسلام، وقد أدرك الدولتين الأموية والعباسية، ولم يشتهر إلا في أيام بني العباس، وكان بينه وبين بشار بن برد مهاجاة كثيرة، وقد قتل بشار هذا على الزندقة أيضا كما سيأتي.

ودفن مع حماد هذا في قبره، وقيل: إن حمادا عجرد مات سنة ثمان وخمسين، وقيل: إحدى وستين ومائة، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

[عدل]

فيها: ظفر الهيثم بن معاوية نائب المنصور على البصرة، بعمرو بن شداد الذي كان عاملا لإبراهيم بن محمد على فارس، فقيل: أمر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه ثم صلب.

وفيها: عزل المنصور الهيثم بن معاوية هذا الذي فعل هذه الفعلة عن البصرة وولى عليها قاضيها سوار بن عبد الله، فجمع له بين القضاء والصلاة، وجعل على شرطتها وأحداثها سعيد بن دعلج، ورجع الهيثم بن معاوية قاتل عمرو بن شداد إلى بغداد فمات فيها فجأة في هذه السنة، وهو على بطن جارية له، وصلى عليه المنصور ودفن في مقابر بني هاشم.

ويقال: إنه أصابته دعوة عمر بن شداد الذي قتله تلك القتلة، فليتق العبد الظلم.

وحج بالناس العباس بن محمد أخو المنصور.

ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وعلى فارس والأهواز وكور دجلة عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو.

وفيها توفي: حمزة الزيات في قول، وهو أحد القراء المشهورين والعباد المذكورين، وإليه تنسب المدود الطويلة في القراءة اصطلاحا من عنده، وقد تكلم فيه بسببها بعض الأئمة وأنكروها عليه.

وسعيد بن أبي عروبة، وهو أول من جمع السنن في قول، وعبد الله بن شوذب، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وعمر بن ذر.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

[عدل]

فيها: بنى المنصور قصره المسمى: بالخلد في بغداد، تفاؤلا بالتخليد في الدنيا، فعند كماله مات وخرب القصر من بعده، وكان المستحث في عمارته أبان بن صدقة، والربيع مولى المنصور وهو حاجبه.

وفيها: حول المنصور الأسواق من قرب دار الإمارة إلى باب الكرخ. وقد ذكرنا فيما تقدم سبب ذلك.

وفيها: أمر بتوسعة الطرقات.

وفيها: أمر بعمل جسر عند باب الشعير.

وفيها: استعرض المنصور جنده وهم ملبسون السلاح وهو أيضا لابس سلاحا عظيما، وكان ذلك عند دجلة.

وفيها: عزل عن السند هشام بن عمرو وولى عليها سعيد بن الخليل.

وفيها: غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي فأوغل في بلاد الروم، وبعث سنانا مولى البطال مقدمة بين يديه ففتح حصونا وسبى وغنم.

وفيها حج بالناس: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.

ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها.

وفيها توفي: الحسين بن واقد، والإمام الجليل علامة الوقت أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم.

وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحوا من مائتين وعشرين سنة.

شيء من ترجمة الأوزاعي رحمه الله

[عدل]

هو: عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أبو عمرو الأوزاعي.

والأوزاع: بطن من حمير وهو من أنفسهم. قاله محمد بن سعد.

وقال غيره: لم يكن من أنفسهم وإنما نزل في محلة الأوزاع، وهي قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق، وهو ابن عم يحيى بن عمرو الشيباني.

قال أبو زرعة: وأصله من سبي السند فنزل الأوزاع فغلب عليه النسبة إليها.

وقال غيره: ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد.

وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتا منه، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه، من حسنها، وكان يعاني الرسائل والكتابة، وقد اكتتب مرة في بعث إلى اليمامة فسمع من يحيى بن أبي كثير وانقطع إليه فأرشده إلى الرحلة إلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين.

فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين، ووجد ابن سيرين مريضا، فجعل يتردد لعيادته، فقوي المرض به ومات ولم يسمع منه الأوزاعي شيئا.

ثم جاء فنزل دمشق بمحلة الأوزاع خارج باب الفراديس، وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الإسلام.

وقد أدرك خلقا من التابعين وغيرهم، وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين: كمالك بن أنس والثوري، والزهري وهو من شيوخه.

وأثنى عليه غير واحد من الأئمة، وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته.

قال مالك: كان الأوزاعي إماما يقتدى به.

وقال سفيان بن عيينة وغيره: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه.

وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: أفسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه.

وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر، ومن العصر حتى صليا المغرب، فغمره الأوزاعي في المغازي، وغمره مالك في الفقه. أو في شيء من الفقه.

وتناظر الأوزاعي والثوري في مسجد الخيف في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه، فاحتج الأوزاعي على الرفع في ذلك بما رواه عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: «أن رسول الله : كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه».

واحتج الثوري على ذلك بحديث يزيد بن أبي زياد.

فغضب الأوزاعي وقال: تعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف ؟

فاحمر وجه الثوري، فقال الأوزاعي: لعلك كرهت ما قلت ؟

قال: نعم.

قال: فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق. فسكت الثوري.

وقال هقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بحدثنا. وأخبرنا.

وقال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة.

وقال غيرهما: أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله زاكٍ.

وقال يحيى القطان، عن مالك: اجتمع عندي الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة.

فقلت: أيهم أرجح ؟

قال: الأوزاعي.

وقال محمد بن عجلان: لم أر أحدا أنصح للمسلمين من الأوزاعي.

وقال غيره: ما رُئي الأوزاعي ضاحكا مقهقها قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقي أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط وكان إذا خلى بكى حتى يرحم.

وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي.

قال أبو حاتم: كان ثقةً متبعا لما سمع.

قالوا: وكان الأوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها.

وقد قال المنصور يوما: لأحظى كتَّابه عنده - وهو: سليمان بن مجالد -: ينبغي أن نجيب الأوزاعي على ذلك دائما، لنستعين بكلامه فيما نكاتب به إلى الآفاق إلى من لا يعرف كلام الأوزاعي.

فقال: والله يا أمير المؤمنين ! لا يقدر أحد من أهل الأرض على مثل كلامه ولا على شيء منه.

وقال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس، وكان يأثر عن السلف ذلك.

قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.

وقال الأوزاعي: رأيت رب العزة في المنام فقال: أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟

فقال: بفضلك أي رب.

ثم قلت: يا رب أمتني على الإسلام.

فقال: وعلى السنة.

وقال محمد بن شابور: قال لي شيخ بجامع دمشق: أنا ميت في يوم كذا وكذا.

فلما كان في ذلك اليوم رأيته في صحن الجامع يتفلى، فقال لي: اذهب إلى سرير الموتى فأحرزه لي عندك قبل أن تسبق إليه.

فقلت: ما تقول ؟

فقال: هو ما أقول لك، وإني رأيت كأن قائلا يقول: فلان قدري وفلان كذا وعثمان بن العاتكة نعمَ الرجل، وأبو عمرو الأوزاعي خير من يمشي على وجه الأرض، وأنت ميت في يوم كذا وكذا.

قال محمد بن شعيب: فما جاء الظهر حتى مات وصلينا عليه بعدها وأخرجت جنازته. ذكر ذلك ابن عساكر.

وكان الأوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة ورعا ناسكا طويل الصمت، وكان يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هوّن الله عليه طول القيام يوم القيامة، أخذ ذلك من قوله تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْما ثَقِيلا } [الإنسان: 26- 27] .

وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدا أشد اجتهادا من الأوزاعي في العبادة.

وقال غيره: حج فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة، فإذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.

ودخلت امرأة على امرأة الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا فقالت لها: لعل الصبي بال ههنا.

فقالت: هذا أثر دموع الشيخ من بكائه في سجوده، هكذا يصبح كل يوم.

وقال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.

وقال أيضا: اصبر على السنة وقف حيث يقف القوم، وقل ما قالوا وكف عما كفوا، وليسعك ما وسعهم.

وقال: العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجيء عنهم فليس بعلم.

وكان يقول: لا يجتمع حب عليٍّ وعثمان إلا في قلب مؤمن، وإذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم باب الجدل وسد عنهم باب العلم والعمل.

قالوا: وكان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء أقطاع صار إليه من بني أمية وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربهم وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فلم يمسك منها شيئا، ولا اقتنى شيئا من عقار ولا غيره، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه، بل كان ينفق ذلك في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين.

ولما دخل عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده - دمشق فطلب الأوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه.

قال الأوزاعي: دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتة - والعمد الحديد - فسلمت عليه فلم يرد ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده ثم قال: يا أوزاعي ! ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادا ورباطا هو ؟

قال: فقلت: أيها الأمير ! سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري، يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي، يقول: سمعت علقمة بن وقاص، يقول: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

قال: فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي ! ما تقول في دماء بني أمية ؟

فقلت: قال رسول الله : «لا يحل لمسلم دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة».

فنكت بها أشد من ذلك ثم قال: ما تقول في أموالهم ؟

فقلت: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا، وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.

فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال: ألا نوليك القضاء ؟

فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤني به من الإحسان.

فقال: كأنك تحب الانصراف ؟

فقلت: إن ورائي حرما وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي.

قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف.

فلما خرجت إذا برسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير: استنفق هذه.

قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفا.

قال: وكان في تلك الأيام الثلاثة صائما فيقال: إن الأمير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده.

قالوا: ثم رحل الأوزاعي من دمشق فنزل بيروت مرابطا بأهله وأولاده، قال الأوزاعي: وأعجبني في بيروت أني مررت بقبورها فإذا امرأة سوداء في القبور فقلت لها: أين العمارة يا هنتاه ؟

فقالت: إن أردت العمارة فهي هذه - وأشارت إلى القبور - وإن كنت تريد الخراب فأمامك - وأشارت إلى البلد - فعزمت على الإقامة بها.

وقال محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي، يقول: خرجت يوما إلى الصحراء فإذا رجل جراد وإذا شخص راكب على جرادة منها وعليه سلاح الحديد، وكلما قال بيده هكذا إلى جهة مال الجراد مع يده، وهو يقول: الدنيا باطل باطل باطل، وما فيها باطل باطل باطل.

وقال الأوزاعي: كان عندنا رجل يخرج يوم الجمعة إلى الصيد ولا ينتظر الجمعة فخسف ببغلته فلم يبق منها إلا أذناها.

وخرج الأوزاعي يوما من باب مسجد بيروت وهناك كان فيه رجل يبيع الناطف وإلى جانبه رجل يبيع البصل وهو يقول له: يا بصل ! أحلى من العسل، أو قال: أحلى من الناطف.

فقال الأوزاعي: سبحان الله ! أيظن هذا أن شيئا من الكذب يباح؟ فكان هذا ما يرى في الكذب بأسا.

وقال الواقدي: قال الأوزاعي: كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفظ.

وكتب إلى أخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، وإنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والقيام بين يديه، وأن يكون آخر العهد بك والسلام.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن إدريس، سمعت أبا صالح - كاتب الليث -، يذكر عن الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس ! تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم عما قليل عنها راحلون.

خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا آنقها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارا، وأمد أجساما، وأعظم أحلاما، وأكثر أموالا وأولادا، فخددوا الجبال، وجابوا الصخر بالواد، وتنقلوا في البلاد، مؤيدين بطش شديد، وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت آثارهم، وأخربت منازلهم وديارهم، وأنست ذكرهم، فهل تحسن منهم من أحد أو وتسمع له ركزا ؟

كانوا بلهو الأمل آمنين، وعن ميقات يوم موتهم غافلين، فآبوا إياب قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون المتخلفون يبصرون في نعمة الله وينظرون في آثار نقمته، وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين ينظرون والله في مساكن خالية خاوية، وقد كانت بالعز محفوفة، وبالنعم معروفة، والقلوب إليها مصروفة، والأعين نحوها ناظرة، فأصبحت آية للذين يخافون العذاب الأليم، وعبرة لمن يخشى.

وأصبحتم بعدهم في أجل منقوص ودنيا منقوصة، في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه وخيره وصفوه، فلم يبق منه إلا جمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير، وإرسال فتن، وتتابع زلال، ورذالة خلف بهم، ظهر الفساد في البر والبحر، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار بما يرتكبونه من العار والشنار، فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل، ولعبت به الأماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا دعي بدر، وإذا نهي انتهى، وعقل مثواه فمهد لنفسه.

وقد اجتمع الأوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه وأحبه المنصور وعظمه، ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الحقه فاسأله لم كره لبس السواد؟ ولا تعلمه أني قلت لك.

فسأله الربيع فقال: إني لم أر محرما أحرم فيه، ولا ميتا كفن فيه، ولا عروسا جليت فيه، فلهذا أكرهه.

وقد كان الأوزاعي في الشام معظما مكرما أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد همَّ به بعض مرة فقال له أصحابه: دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلونك لقتلوك.

ولما مات جلس على قبره بعض الولاة فقال: رحمك الله، فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني - يعني: المنصور -.

وقال ابن العشرين: ما مات الأوزاعي حتى جلس وحده وسمع شتمه بأذنه.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، قال: كنت جالسا عند الثوري فجاءه رجل، فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب - يعني: قلعت -.

قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي.

فكتبوا ذلك فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم.

وقال أبو مسهر: بلغنا أن سبب موته أن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه، ولم تكن عامدة ذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبه.

قال: وما خلف ذهبا ولا فضةً ولا عقارا، ولا متاعا إلا ستة وثمانين، فضلت من عطائه.

وكان قد اكتتب في ديوان الساحل.

وقال غيره: كان الذي أغلق عليه باب الحمام صاحب الحمام، أغلقه وذهب لحاجة له ثم جاء ففتح الحمام فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة رحمه الله.

قلت: لا خلاف أنه مات ببيروت مرابطا، واختلفوا في سنة وفاته، فروى يعقوب بن سفيان، عن سلمة، قال: قال أحمد: رأيت الأوزاعي وتوفي سنة خمسين ومائة.

قال العباس بن الوليد البيروتي: توفي يوم الأحد أول النهار لليلتين بقيتا من صفر سنة سبع وخمسين ومائة، وهو الذي عليه الجمهور وهو الصحيح، وهو قول: أبي مسهر، وهشام بن عمار، والوليد بن مسلم - في أصح الروايات عنه -، ويحيى بن معين، ودحيم، وخليفة بن خياط، وأبي عبيد، وسعيد بن عبد العزيز، وغير واحد.

قال العباس بن الوليد: ولم يبلغ سبعين سنة، وقال غيره: جاوز السبعين، والصحيح سبع وستون سنة، لأن ميلاده في سنة ثمان وثمانون على الصحيح.

وقيل: أنه ولد سنة ثلاث وسبعين، وهذا ضعيف.

وقد رآه بعضهم في المنام، فقال له: دلني على عمل يقربني إلى الله.

فقال: ما رأيت في الجنة درجة أعلى من درجة العلماء العاملين، ثم المحزونين.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

[عدل]

فيها: تكامل بناء قصر المنصور المسمى: بالخلد، وسكنه أياما يسيرة ثم مات وتركه.

وفيها: مات طاغية الروم.

وفيها: وجه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره بعزل موسى بن كعب عن الموصل، وأن يولى عليها خالد بن برمك وكان ذلك بعد نكته غريبة اتفقت ليحيى بن خالد، وذلك: أن المنصور كان قد غضب على خالد بن برمك، وألزمه يحمل ثلاثة آلاف ألف، فضاق ذرعا بذلك، ولم يبق له مال ولا حال، وعجز عن أكثرها، وقد أجله ثلاثة أيام، وأن يحمل ذلك في هذه الثلاثة أيام وإلا فدمه هدر فجعل يرسل ابنه يحيى إلى أصحابه من الأمراء يستقرض منهم، فكان منهم من أعطاه مائة ألف، ومنهم أقل وأكثر.

قال يحيى بن خالد: فبينا أنا ذات يوم من تلك الأيام الثلاثة على جسر بغداد، وأنا مهموم في تحصيل ما طلب منا مما لا طاقة لنا به، إذ وثب إلى زاجر من أولئك الذين يكونون عند الجسر من الطرقية، فقال لي: أبشر !

فلم ألتفت إليه فتقدم حتى أخذ بلجام فرسي ثم قال لي: أنت مهموم، ليفرجن الله همك ولتمرن غدا في هذا الموضع واللواء بين يديك، فإن كان ما قلت لك حقا فلي عليك خمسة آلاف.

فقلت: نعم !

ولو قال: خمسون ألفا لقلت: نعم ! لبعد ذلك عندي.

وذهبت لشأني، وقد بقي علينا من الحمل ثلاثمائة ألف فورد الخبر إلى المنصور بانتقاض الموصل وانتشار الأكراد فيها، فاستشار المنصور الأمراء: من يصلح للموصل ؟

فأشار بعضهم بخالد بن برمك، فقال له المنصور: أو يصلح لذلك بعد ما فعلنا به ؟

فقال: نعم ! وأنا الضامن أنه يصلح لها.

فأمر بإحضاره فولاه إياها ووضع عنه بقية ما كان عليه، وعقد له اللواء، وولى ابنه يحيى أذربيجان، وخرج الناس في خدمتهما.

قال يحيى: فمررنا بالجسر فسار إلي ذلك الزاجر فطالبني بما وعدته به، فأمرت له به فقبض خمسة آلاف.

وفي هذه السنة: خرج المنصور إلى الحج فساق الهدي معه، فلما جاوز الكوفة بمراحل أخذه وجعه الذي مات به وكان عنده سوء مزاج فاشتد عليه من شدة الحد وركوبه في الهواجر، وأخذه إسهال وأفرط به، فقوي مرضه، ودخل مكة فتوفي بها ليلة السبت لست مضين من ذي الحجة، وصلي عليه ودفن بكدا عند ثنية باب المعلاة التي بأعلا مكة، وكان عمره يومئذ ثلاثا، وقيل: أربعا، وقيل: خمسا وستين، وقيل: إنه بلغ ثمانيا وستين، فالله أعلم.

وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من القواد ورؤوس بني هاشم، ثم دفن.

وكان الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وهو الذي أقام للناس الحج في هذه السنة.

ترجمة المنصور

[عدل]

هو: عبد الله بن محمد بن علي بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو جعفر المنصور، وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح، وأمه أم ولد اسمها:، سلامة.

وروى عن جده، عن ابن عباس: «أن رسول الله كان يتختم في يمينه».

أورده ابن عساكر، من طريق محمد بن إبراهيم السلمي، عن المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن أبيه المنصور، به.

بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة، لأنه ولد في سنة خمس وتسعين على المشهور في صفر منها، بالحميمة من بلاد البلقاء، وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياما.

وكان أسمر اللون، موفور اللمة، خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان، يخالطه أبهة الملك، وتقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في مواضعه، والعنف في صورته، والليث في مشيته، هكذا وصفه بعض من رآه.

وقد صح عن ابن عباس أنه قال: منَّا السفاح والمنصور.

وفي رواية: حتى نسلمها إلى عيسى بن مريم.

وقد روي مرفوعا، ولا يصح، ولا وقفه أيضا.

وذكر الخطيب أن أمه سلامة قالت: رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد فزأر واقفا على يديه، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له.

وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا كان يقول: ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب، ويعلق في أعناق الصبيان.

قال: رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسول الله في الكعبة والناس مجتمعون حولها، فخرج من عنده مناد: أين عبد الله ؟

فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود.

ثم نودي: أين عبد الله ؟

فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها، فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر وبلال، فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كورا، وقال: «خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة».

وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية فاجتمع به نوبخت المنجم وتوسم فيه الرياسة فقال له: ممن تكون ؟

فقال: من بني العباس.

فلما عرف منه نسبه وكنيته قال: أنت الخليفة الذي تلي الأرض.

فقال له: ويحك ! ماذا تقول ؟

فقال: هو ما أقول لك، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت.

فكتب له، فلما ولي أكرمه المنصور وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه، وكان قبل ذلك مجوسيا، ثم كان من أخص أصحاب المنصور.

وقد حج المنصور بالناس سنة: أربعين ومائة وأحرم من الحيرة، وفي سنة أربع وأربعين، وفي سنة سبع وأربعين، وفي سنة ثنتين وخمسين، ثم في هذه السنة التي مات فيها.

وبنى بغداد والرصافة والرافقة وقصره الخلد.

قال الربيع بن يونس الحاجب: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.

والملوك أربعة: معاوية، وعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، وأنا.

وقال مالك: قال لي المنصور: من أفضل الناس بعد رسول الله ؟

فقلت: أبو بكر، وعمر.

فقال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين.

وعن إسماعيل البهري، قال: سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة، يقول: أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني.

فارغبوا إلى الله أيها الناس ! وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينا } [المائدة: 3] .

أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب.

وقد خطب يوما فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز وجل، فقال: يا أمير المؤمنين ! اذكر من أنت ذاكره، واتق الله فيما تأتيه وتذره.

فسكت المنصور حتى انتهى كلام الرجل، فقال: أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله عز وجل فيه: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } [البقرة: 206] أو أن أكون جبارا عصيا.

أيها الناس ! إن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا نبتت، ثم قال للرجل: ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله، وإنما أردت أن يقال عنك وعظ أمير المؤمنين.

أيها الناس ! لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله.

ثم أمر به فاحتفظ به وعاد إلى خطبته فأكملها، ثم قال لمن هو عنده: أعرض عليه الدنيا فإن قبلها فأعلمني، وإن ردها فأعلمني، فما زال به الرجل الذي هو عنده حتى أخذ المال ومال إلى الدنيا فولاه الحسبة والمظالم وأدخله على الخليفة في بزة حسنة، وثياب وشارة وهيئة دنيوية، فقال له الخليفة: ويحك ! لو كنت محقا مريدا وجه الله بما قلت على رؤوس الناس لما قبلت شيئا مما أرى، ولكن أردت أن يقال عنك: إنك وعظت أمير المؤمنين، وخرجت عليه، ثم أمر به فضربت عنقه.

وقد قال المنصور لابنه المهدي: إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.

وقال أيضا: يا بني ! استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.

وحضر عنده مبارك بن فضيلة يوما وقد أمر برجل أن يضرب عنقه وأحضر النطع والسيف، فقال له مبارك: سمعت الحسين، يقول: قال رسول الله : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا». فأمر بالعفو عن ذلك الرجل.

ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائم ذلك الرجل وما صنعه.

وقال الأصمعي: أتى المنصور برجل ليعاقبه فقال: يا أمير المؤمنين ! الانتقام عدل والعفو فضل، وتعوذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأدنى القسمين، دون أرفع الدرجتين.

قال: فعفا عنه.

وقال الأصمعي: قال المنصور لرجل من أهل الشام: احمد الله يا أعرابي ! الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا.

فقال: إن الله لا يجمع علينا حشفا وسوء كيل: ولايتكم والطاعون.

والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جدا.

ودخل بعض الزهاد إلى المنصور فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده.

قال: فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال فقال: لو احتجت إلى مالك لما وعظتك.

ودخل عمرو بن عبيد القدري على المنصور فأكرمه وعظمه وقربه وسأله عن أهله وعياله، ثم قال له: عظني.

فقرأ عليه سورة الفجر إلى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر: 14] .

فبكى المنصور بكاءً شديدا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل ذلك، ثم قال له: زدني.

فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، وإن هذا الأمر كان لمن قبلك ثم صار إليك هو صائر لمن بعدك، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة.

فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلفت أجفانه، فقال له سليمان بن مجالد: رفقا بأمير المؤمنين.

فقال عمرو: وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله عز وجل.

ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها.

فقال المنصور: والله لتأخذنها.

فقال: والله لا آخذنها.

فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه إلى جانب أبيه: أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت ؟

فالتفت إلى المنصور فقال: ومن هذا ؟

فقال: هذا ابني محمد ولي العهد من بعدي.

فقال عمرو: إنك سميته اسما لم يستحقه لعمله، وألبسته لبوسا ما هو لبوس الأبرار، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.

ثم التفت إلى المهدي فقال: يا ابن أخي ! إذا حلف أبوك وحلف عمك فلأن يحنث أبوك أيسر من أن يحنث عمك، لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك.

ثم قال المنصور: يا أبا عثمان ! هل من حاجة ؟

قال: نعم !

قال: وما هي ؟

قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك.

فقال المنصور: إذا والله لا نلتقي.

فقال عمرو: عن حاجتي سألتني. فودعه وأنصرف.

فلما ولى أمده بصره وهو يقول:

كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيد

غير عمر بن عبيد *

ويقال: إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظة إياه وهي قوله:

يا أيها الذي قد غره الأمل * ودون ما يأمل التنغيص والأجل

ألا ترى إنما الدنيا وزينتها * كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا

حتوفها رصد وعيشها نكد * وصفوها كدر وملكها دول

تظل تقرع بالروعات ساكنها * فما يسوغ له لين ولا جذل

كأنه للمنايا والردى غرض * تظل فيه بنات الدهر تنتقل

تديره ما تدور به دوائرها * منها المصيب ومنها المخطئ الزلل

والنفس هاربة والموت يطلبها * وكل عسرة رجل عندها جلل

والمرء يسعى بما يسعى لوارثه * والقبر وارث ما يسعى له الرجل

وقال ابن دريد: عن الرياشي، عن محمد بن سلام، قال: رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعا فقالت: خليفة وقميص مرقوع ؟

فقال: ويحك ! أما سمعت ما قال ابن هرمة:

قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه * خلق وبعض قميصه مرقوع

وقال بعض الزهاد للمنصور: اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة مثلها، واذكر ليلة تمخض عن يوم القيامة لا ليلة بعدها.

فأفحم المنصور قوله فأمر له بمال.

فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك.

ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة * فإن فساد الرأي أن يترددا

ولا تمهل الأعداء يوما لغدرة * وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا

ولما قتله ورآه طريحا بين يديه قال:

قد اكتنفتك خلات ثلاث * جلبن عليك محتوم الحمام

خلافك وامتناعك من يميني * وقودك للجماهير العظام

ومن شعره أيضا:

المرء يأمل أن يعيـ * ـش وطول عمر قد يضره

تبلى بشاشته ويبـ * ـقى بعد حلو العيش مره

وتخونه الأيام حتى * لا يرى شيئا يسره

كم شامت بي إن هلكـ * ـت وقائل لله دره

قالوا: وكان لمنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولايات والعزل والنظر في مصالح العامة، فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلاها جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل، ثم يقوم إلى أهله فينام في فراشه إلى الثلث الآخر، فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح، ثم يخرج فيصلى بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.

وقد ولى بعض العمال على بلد فبلغه أنه قد تصدى للصيد وأعد لذلك كلابا وبزاة، فكتب إليه: ثكلتك أمك وعشيرتك، ويحك ! إنا إنما استكفيناك واستعملناك على أمور المسلمين ولم نستكفيك أمور الوحوش في البراري، فسلم ما تلي من عملنا إلى فلان والحق بأهلك ملوما مدحورا.

وأتي يوما بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة فلما وقف بين يديه قال له المنصور: ويحك يا ابن الفاعلة ! مثلك يهزم الجيوش ؟

فقال الخارجي: ويلك سوأة لك بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب، وما يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فما استقبلها أبدا.

قال: فاستحيى منه المنصور وأطلقه. فما رأى له وجها إلى الحول.

وقال لابنه لما ولاه العهد: يا بني ! ائتدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والنصر بالتواضع، والتألف بالطاعة، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.

وقال أيضا: يا بني ! ليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكن العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.

وقال المنصور: يا بني ! لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك، فإن الزهري قال: علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة.

وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانبا جيدا وطرفا صالحا.

وقد قيل له يوما: يا أمير المؤمنين ! هل بقي شيء من اللذات لم تنله ؟

قال: شيء واحد.

قالوا: وما هو ؟

قال: قول المحدث للشيخ من ذكرت رحمك الله.

فاجتمع وزراؤه وكتَّابه وجلسوا حوله وقالوا: ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث.

فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن. فهؤلاء نقلة الحديث.

وقال يوم لابنه المهدي: كم عندك من دابة ؟

فقال: لا أدري.

فقال: هذا هو التقصير، فأنت لأمر الخلافة أشد تضييعا فاتق الله يا بني.

وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي: دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ويداه على صدغيه فقال لي: كم عندك من المال يا خالصة ؟

فقلت: ألف درهم.

فقال: ضعي يدك على رأسي واحلفي.

فقلت: عندي عشرة آلاف دينار.

قال: اذهبي فاحمليها إلي.

قالت: فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع وزوجته الخيزران فشكوت ذلك إليه فوكزني برجله وقال: ويحك ! إنه ليس له وجع، ولكني سألته بالأمس مالا فتمارض، وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به.

فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار، فاستدعى بالمهدي فقال له: تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة ؟

وقال المنصور لخازنه: إذا علمت بمجيء المهدي فأتني بخلقان الثياب قبل أن يجيء، فجاء بها فوضعها بين يديه ودخل المهدي والمنصور يقلبها، المهدي يضحك، فقال: يا بني ! من ليس له خلق ليس له جديد، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد.

فقال المهدي: عليَّ كسوة أمير المؤمنين وعياله.

فقال: دونك فافعل.

وذكر ابن جرير، عن الهيثم: أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم.

وفي هذا اليوم فرق في بيته عشرة آلاف درهم، ولا يعلم خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد.

وقرأ بعض القراء عند المنصور: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [النساء: 37] .

فقال: والله لولا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما ما بت ليلة واحدة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما لما أجد لبذل المال من اللذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.

وقرأ عنده قارئ آخر: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } الآية [الإسراء: 29] .

فقال: ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل.

وقال المنصور: سمعت علي بن عبد الله يقول: سادة أهل الدنيا في الدنيا الأسخياء، وسادة أهل الآخرة في الآخرة الأتقياء.

ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته وبسائر المسلمين خيرا، وعلمه كيف تفعل الأشياء وتسد الثغور، وأوصاه بوصايا يطول بسطها وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخوارج درهم عشر سنين، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين وهو ثلاثمائة ألف دينار، فإنه لم ير قضاءها من بيت المال. فامتثل المهدي ذلك كله.

وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة وساق بدنه وقال: يا بني ! إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة، وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا.

وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جدا، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم.

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت * سنوك وأمر الله لابد واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم * لك اليوم من كرب المنية مانع

فدعا بالحجبة فأقرأهم ذلك فلم يروا شيئا فعرف أن أجله قد نعي إليه.

قالوا: ورأى المنصور في منامه ويقال: بل هتف به هاتف وهو يقول:

أما ورب السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك

عليك يا نفس إن أسأت وإن * أحسنت يا نفس كان ذاك لك

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا بنقل السلطان عن ملك * إذا انقضى ملكه إلى ملك

حتى يصيرانه إلى ملك * ما عز سلطانه بمشترك

ذاك بديع السماء والأرض والمر * سي لجبال المسخر الفلك

فقال المنصور: هذا أوان حضور أجلي وانقضاء عمري.

وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه مناما أفزعه فقال للربيع: ويحك يا ربيع ! لقد رأيت مناما هالني، رأيت قائلا وقف في باب هذا القصر وهو يقول:

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه أهله ومنازله

وصار رئيس القصر من بعد بهجة * إلى جدث يبني عليه جنادله

فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى مرض في طريق الحج، ودخل مكة مدنفا ثقيلا.

وكانت وفاته ليلة السبت لست، وقيل: لسبع مضين من ذي الحجة، وكان آخر ما تكلم به أن قال: اللهم بارك لي في لقائك.

وقيل: إنه قال: يا رب إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مخلصا. ثم مات.

وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن.

وكان عمره يوم وفاته ثلاثا وستين سنة على المشهور، منها ثنتان وعشرون سنة خليفة، ودفن بباب المعلاة رحمه الله.

قال ابن جرير: ومما رثي به قول سلم الخاسر الشاعر:

عجبا للذي نعى الناعيان * كيف فاهت بموته الشفتان

ملك أن عدا على الدهر يوما * أصبح الدهر ساقطا للجران

ليت كفا حثت عليه ترابا * لم تعد في يمنيها ببنان

حين دانت له البلاد على العسـ* ـف وأغضى من خوفه الثقلان

أين رب الزوراء قد قلدته الـ * ـملك عشرين حجة واثنتان

إنما المرء كالزناد إذا ما * أخذته قوادح النيران

ليس يثني هواه زجر ولا يقـ * ـدح في حبله ذوو الأذهان

قلدته أعنة الملك حتى * قاد أعداءه بغير عنان

يكسر الطرف دونه وترى الأ يـ * ـدي من خوفه على الأذقان

ضم أطراف ملكه ثم أضحى * خلف أقصاهم ودون الداني

هاشمي التشمير لا يحمل الثقـ * ـل على غارب الشرود الهدان

ذو أناة ينسى لها الخائف الخو * ف وعزم يلوي بكل جنان

ذهبت دونه النفوس حذارا * غير أن الأرواح في الأبدان

وقد دفن عند باب المعلاة بمكة ولا يعرف قبره لأنه أعمي قبره، فإن الربيع الحاجب حفر مائة قبر ودفنه في غيرها لئلا يعرف.

أولاد المنصور

[عدل]

محمد المهدي وهو ولي عهده، وجعفر الأكبر مات في حياته، وأمهما أروى بنت منصور.

وعيسى، ويعقوب، وسليمان، وأمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله.

وجعفر الأصغر من أم ولد كردية، وصالح المسكين من أم ولد رومية - ويقال لها: قالي الفراشة -، والقاسم من أم ولد أيضا، من امرأة من بني أمية.

خلافة المهدي بن المنصور

[عدل]

لما مات أبوه بمكة لست أو لسبع مضين من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة أخذت البيعة للمهدي من رؤوس بني هاشم والقواد الذين هم مع المنصور في الحج قبل دفنه، وبعث الربيع الحاجب بالبيعة مع البرد إلى المهدي وهو ببغداد، فدخل عليه البريد بذلك يوم الثلاثاء النصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة وأعطاه الكتب بالبيعة، وبايعه أهل بغداد، ونفذت بيعته إلى سائر الآفاق.

وذكر ابن جرير: أن المنصور قبل موته بيوم تحامل وتساند واستدعى بالأمراء فجدد البيعة لابنه المهدي، فتسارعوا إلى ذلك وتبادروا إليه.

وحج بالناس في هذه السنة: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن وصية عمه المنصور.

وهو الذي صلى عليه، وقيل: إن الذي صلى على المنصور عيسى بن موسى ولي العهد من بعد المهدي، والصحيح الأول، لأنه كان نائب مكة والطائف، وعلى إمرة المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمر بن زهير الضبي - أخو المسيب بن زهير أمير الشرطة للخليفة -، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها وقضائها عبد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج.

قال الواقدي: وأصاب الناس في هذه السنة وباء شديد فتوفي فيه خلق كثير وجم غفير، منهم: أفلح بن حميد، وحيوة بن شريح، ومعاوية بن صالح بمكة.

وزفر بن الهذيل

[عدل]

ابن قيس بن سليم، ثم ساق نسبه إلى معد بن عدنان، يقال له: التميمي العنبري الكوفي الفقيه الحنفي، أقدم أصحاب أبي حنيفة وفاة، وأكثرهم استعمالا للقياس، وكان عابدا، اشتغل أولا بعلم الحديث ثم غلب عليه الفقه والقياس.

ولد سنة ست عشرة ومائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة عن ثنتين وأربعين سنة رحمه الله وإيانا.

ثم دخلت سنة تسع وخمسون ومائة

[عدل]

استهلت هذه السنة وخليفة الناس أبو عبد الله محمد بن المنصور المهدي، فبعث في أولها العباس بن محمد إلى بلاد الروم في جيش كثيف، وركب معهم مشيعا لهم، فساروا إليها فافتتحوا مدينة عظيمة للروم، وغنموا غنائم كثيرة ورجعوا سالمين لم يفقد منهم أحد.

وفيها توفي: حميد بن قحطبة نائب خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد، وولى حمزة بن مالك سجستان، وولى جبريل بن يحيى سمرقند.

وفيها: بنى المهدي مسجد الرصافة وخندقها.

وفيها: جهز جيشا كثيفا إلى بلاد الهند فوصلوا إليها في السنة الآتية، وكان من أمرهم ما سنذكره.

وفيها توفي: نائب السند معبد بن الخليل فولى المهدي مكانه روح بن حاتم بمشورة وزيره أبي عبد الله.

وفيها: أطلق المهدي من كان في السجون إلا من كان محبوسا على دم، أو من سعى في الأرض فسادا، أو من كان عنده حق لأحد.

وكان في جملة من أخرج من المطبق: يعقوب بن داود مولى بني سليم، والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمر بصيرورة حسن هذا إلى نصير الخادم ليحترز عليه.

وكان الحسن قد عزم على الهرب من السجن قبل خروجه منه، فلما خرج يعقوب بن داود ناصح الخليفة بما كان عزم عليه فنقله من السجن وأودعه عند نصير الخادم ليحتاط عليه، وحظي يعقوب بن داود عند المهدي جدا حتى صار يدخل عليه في الليل بلا استئذان، وجعله على أمور كثيرة، وأطلق له مائة ألف درهم.

سوما زال عنده كذلك حتى تمكن المهدي من الحسن بن إبراهيم، فسقطت منزلة يعقوب عنده.

وقد عزل المهدي نوابا كثيرة عن البلاد، وولى بدلهم.

وفي هذه السنة: تزوج المهدي بابنة عمه أم عبد الله بنت صالح بن علي، وأعتق جاريته الخيزران وتزوجها أيضا، وهي أم الرشيد.

وفيها: وقع حريق عظيم في السفن التي في دجلة بغداد.

ولما ولي المهدي سأل عيسى بن موسى - وكان ولي العهد بعده - أن يخلع نفسه من الأمر فامتنع على المهدي، وسأل المهدي أن يقيم بأرض الكوفة في ضيعة له فأذن له، وكان قد استقر على إمرة الكوفة روح بن حاتم، فكتب إلى المهدي: إن عيسى بن موسى لا يأتي الجمعة ولا الجماعة مع الناس إلا شهرين من السنة، وإنه إذا جاء يدخل بدوابه داخل باب المسجد فتروث دوابه حيث يصلي الناس.

فكتب إليه المهدي أن يعمل خشبا على أفواه السكك حتى لا يصل الناس إلى المسجد إلا مشاة.

فعلم بذلك عيسى بن موسى فاشترى قبل الجمعة دار المختار بن أبي عبيدة من ورثته - وكانت ملاصقة للمسجد - وكان يأتي إليها من يوم الخميس، فإذا كان يوم الجمعة ركب حمارا إلى باب المسجد فنزل إلى هناك وشهد الصلاة مع الناس وأقام بالكلية بالكوفة بأهله، ثم ألح المهدي عليه في أن يخلع نفسه وتوعده إن لم يفعل، ووعده إن فعل فأجابه إلى ذلك فأعطاه أقطاعا عظيمة، وأعطاه من المال عشرة آلاف ألف، وقيل: عشرين ألف ألف، وبايع المهدي لولديه من بعده موسى الهادي، ثم هارون الرشيد كما سيأتي.

وحج بالناس يزيد بن منصور خال المهدي، وكان نائبا على اليمن فولاه الموسم واستقدمه عليه شوقا إليه، وغالب نواب البلاد عزلهم المهدي، غير أن إفريقية مع يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة، وعلى خراسان أبو عون، وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر بن المنذر، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى المدينة عبيد الله بن صفوان الجمحي.

وعلى مكة والطائف إبراهيم بن يحيى، وعلى أحداث الكوفة إسحق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى أحداث البصرة عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن العنبري.

وفيها توفي: عبد العزيز بن أبي رواد، وعكرمة بن عمار، ومالك بن مغول، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذيب المدني، نظير مالك بن أنس في الفقه، وربما أنكر على مالك أشياء ترك الأخذ فيها ببعض الأحاديث، كان يراها مالك من إجماع أهل المدينة وغير ذلك من المسائل.

ثم دخلت سنة ستين ومائة

[عدل]

فيها: خرج رجل بخراسان على المهدي منكرا عليه أحواله وسيرته وما يتعاطاه، يقال له: يوسف البرم، والتف عليه خلق كثير، وتفاقم الأمر وعظم الخطب به.

فتوجه إليه يزيد بن مزيد فلقيه فاقتتلا قتالا شديدا حتى تنازلا وتعانقا، فأسر يزيد بن مزيد يوسف هذا، وأسر جماعة من أصحابه فبعثهم إلى المهدي فأدخلوا عليه، وقد حملوا على جمال محمولة وجوههم إلى ناحية أذناب الإبل، فأمر الخليفة هرثمة أن يقطع يدي يوسف ورجليه ثم يضرب عنقه وأعناق من معه، وصلبهم على جسر دجلة الأكبر مما يلي عسكر المهدي، وأطفأ الله ثائرتهم وكفى شرهم.

البيعة لموسى الهادي

[عدل]

ذكرنا أن المهدي ألح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه وهو مع كل ذلك يمتنع، وهو مقيم بالكوفة، فبعث إليه المهدي أحد القواد الكبار وهو: أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لإحضاره إليه، وأمر كل واحد منهم أن يحمل طبلا، فإذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم على طبله.

ففعلوا ذلك فارتجت الكوفة، وخاف عيسى بن موسى، فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة فأظهر أنه يشتكي، فلم يقبلوا ذلك منه بل أخذوه معهم فدخلوا به على الخليفة في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة، فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والأعيان وسألوه في ذلك وهو يمتنع، ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب يوم الجمعة لأربع مضين من المحرم بعد العصر.

وبويع لولدي المهدي: موسى، وهارون الرشيد، صباحة يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة، ودخل الأمراء فبايعوا ثم نهض فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته، وقام عيسى بن موسى على أول درجة، وخطب المهدي فأعلم الناس بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه وأنه قد حلل الناس من الأيمان التي له في أعناقهم، وجعل ذلك إلى موسى الهادي.

فصدق عيسى بن موسى ذلك وبايع المهدي على ذلك، ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم، وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالأيمان البالغة من الطلاق والعتاق، وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم، وأعطاه ما ذكرنا من الأموال وغيرها.

وفيها: دخل عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة بإربد من الهند في جحفل كبير فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق، ورموها بالنفط فأحرقوا منها طائفة، وهلك بشر كثير من أهلها، وفتحوها عنوة وأرادوا الانصراف فلم يمكنهم ذلك لاعتلاء البحر، فأقاموا هنالك فأصابهم داء في أفواههم يقال له: حمام قر فمات منهم ألف نفس منهم: الربيع بن صبيح، فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر فهاجت عليهم ريح فغرق طائفة أيضا، ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير، فيهم: بنت ملكهم.

وفيها: حكم المهدي بإلحاق ولد أبي بكر الثقفي إلى ولاء رسول الله وقطع نسبهم من ثقيف، وكتب بذلك كتابا إلى والي البصرة.

وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ففي ذلك يقول بعض الشعراء وهو خالد النجار:

إن زيادا ونافعا وأبا * بكرة عندي من أعجب العجب

ذا قرشي كما يقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي

وقد ذكر ابن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك.

وفي هذه السنة: حج بالناس المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقا من الأمراء، منهم: يعقوب بن داود على منزلته ومكانته.

وكان الحسن بن إبراهيم قد هرب من الخادم فلحق بأرض الحجاز، فاستأمن له يعقوب بن داود فأحسن المهدي صلته وأجزل جائزته، وفرق المهدي في أهل مكة مالا كثيرا جدا، كان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب، وجاء من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة.

وشكت الحجبة إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوي، فأمر بتجريدها، فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبد الملك وجدها من ديباج ثخين جدا فأمر بإزالتها وبقيت كساوي الخلفاء قبله وبعده، فلما جردها طلاها بالخلوف وكساها كسوة حسنة جدا.

ويقال: إنه استفتى مالكا في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير، فقال مالك: دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة. فتركها على ما هي.

وحمل له محمد بن سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة، وكان أول خليفة حمل له الثلج إليها.

ولما دخل المدينة وسَّع المسجد النبوي، وكان فيه مقصورة فأزالها وأراد أن ينقص من المنبر ما كان زاده معاوية بن أبي سفيان، فقال له مالك: إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع، فتركه.

وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية، وانتخب من أهلها خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم.

وفيها توفي: الربيع بن صبيح، وسفيان بن حسين، أحد أصحاب الزهري.

وشعبة بن الحجاج

[عدل]

ابن الورد العتكي الأزدي، أبو بسطام الواسطي، ثم انتقل إلى البصرة.

رأى شعبة الحسن وابن سيرين، وروى عن أمم التابعين وحدث عنه خلق من مشايخه وأقرانه وأئمة الإسلام.

وهو شيخ المحدثين الملقب فيهم: بأمير المؤمنين. قاله الثوري.

وقال يحيى بن معين: هو إمام المتقين، وكان في غاية الزهد والورع والتقشف والحفظ وحسن الطريقة.

وقال الشافعي: لولاه ما عرف الحديث بالعراق.

وقال الإمام أحمد: كان أمة وحده في هذا الشأن، ولم يكن في زمانه مثله.

وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأمونا حجةً صاحب حديث.

وقال وكيع: إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات بذبه عن حديث رسول الله .

وقال صالح بن محمد بن حرزة: كان شعبة أول من تكلم في الرجال وتبعه يحيى القطان ثم أحمد وابن معين.

وقال ابن المهدي: ما رأيت أعقل من مالك، ولا أشد تقشفا من شعبة، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك، ولا أحفظ للحديث من الثوري.

وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة إلا ورأيته يصلي، وكان أبا للفقراء وأما لهم.

وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه، كان إذا رأى مسكينا لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عنه.

وقال غيره: ما رأيت أعبد منه لقد عبد الله حتى لصق جلده بعظمه.

وقال يحيى القطان: ما رأيت أرق للمسكين منه، كان يدخل المسكين في منزله فيعطيه ما أمكنه.

قال محمد بن سعد وغيره: مات في أول سنة ستين ومائة في البصرة عن ثمان وسبعين سنة.

ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

[عدل]

فيها: غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل دابق، وجاشت الروم عليه فلم يتمكن المسلمون من الدخول إليها بسبب ذلك.

وفيها: أمر المهدي بحفر الركايا وعمل المصانع وبناء القصور في طريق مكة، وولى يقطين بن موسى على ذلك، فلم يزل يعمل في ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، مقدار عشر سنين، حتى صارت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها.

وفيها: وسَّع المهدي جامع البصرة من قبلته وغربه.

وفيها: كتب إلى الآفاق أن لا تبقى مقصورة في مسجد جماعة، وأن تقصر المنابر إلى مقدار منبر رسول الله ، ففعل ذلك في المدائن كلها.

وفيها: اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي وظهرت عنده خيانته فضم إليه المهدي من يشرف عليه، وكان ممن ضم إليه إسماعيل بن علية ثم أبعده وأقصاه وأخرجه من معسكره.

وفيها: ولي القضاء عافية بن يزيد الأزدي، وكان يحكم هو وابن علاثة في عسكر المهدي بالرصافة.

وفيها: خرج رجل يقال له: المقنع بخراسان في قرية من قرى مرو، وكان يقول: بالتناسخ واتبعه على ذلك خلق كثير، فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه وأنفذ إليه جيوشا كثيرةً، منهم: معاذ بن مسلم أمير خراسان، وكان من أمره وأمرهم ما سنذكره.

وحج بالناس فيها: موسى الهادي بن المهدي.

وفيها: توفي إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي، وزائدة بن قدامة.

وسفيان بن سعد بن مسروق الثوري

[عدل]

أحد أئمة الإسلام وعبادهم والمقتدى به، أبو عبد الله الكوفي.

وروى عن غير واحد من التابعين، وروى عنه خلق من الأئمة وغيرهم.

قال شعبة وأبو عاصم وسفيان بن عيينة ويحيى بن معين وغير واحد: هو أمير المؤمنين في الحديث.

وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ هو أفضلهم.

وقال أيوب: ما رأيت كوفيا أفضله عليه.

وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل منه.

وقال عبد الله: ما رأيت أفقه من الثوري.

وقال شعبة: ساد الناس بالورع والعلم.

وقال: أصحاب المذاهب ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمان.

وقال الإمام أحمد: لا يتقدمه في قلبي أحد.

ثم قال: تدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري.

وقال عبد الرازق: سمعت الثوري يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني حتى إني لأمرُّ بالحائك يتغنى فأسد أذني مخافة أن أحفظ ما يقول.

وقال: لأن أترك عشرة آلاف دينار يحاسبني الله عليها أحل إلي من أن أحتاج إلى الناس.

قال محمد بن سعد: أجمعوا أنه توفي في البصرة سنة إحدى وستين ومائة، وكان عمره يوم مات أربعا وستين سنة، ورآه بعضهم في المنام يطير في الجنة من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة، وهو يقرأ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر: 74] الآية.

وقال: إذا ترأس الرجل سريعا أخَّر بكثير من العلم.

وممن توفي فيها:

أبو دلامة

[عدل]

زيد بن الجون، الشاعر الماجن، أحد الظرفاء، أصله من الكوفة وأقام ببغداد وحظي عند المنصور لأنه كان يضحكه وينشده الأشعار ويمدحه، حضر يوما جنازة امرأة المنصور - وكانت ابنة عمه - يقال لها: حمادة بنت عيسى وكان المنصور قد حزن عليها، فلما سووا عليها التراب وكان أبو دلامة حاضرا، فقال له المنصور: ويحك يا أبا دلامة ! ما أعددت لهذا اليوم ؟

فقال: ابنة عم أمير المؤمنين.

فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال: ويحك ! فضحتنا.

ودخل يوما على المهدي يهنئه بقدومه من سفره وأنشده:

إني حلفت لئن رأيتك سالما * بقرى العراق وأنت ذو وفر

لتصلين على النبي محمد * ولتملأن دراهما حجري

فقال المهدي: أما الأول فنعم، نصلي على النبي محمد ، وأما الثاني فلا.

فقال: يا أمير المؤمنين ! هما كلمتان فلا تفرق بينهما.

فأمر أن يملأ حجره دراهم، ثم قال له: قم !

فقال: ينخرق منها قميصي.

فأفرغت منه في أكياسها ثم قام فحملها وذهب.

وذكر عنه ابن خلكان: أنه مرض ابن له فداواه طبيب فلما عوفي قال له: ليس عندنا ما نعطيك، ولكن ادَّع على فلان اليهودي بمبلغ ما تستحقه عندنا من أجرتك حتى أشهد أنا وولدي بالمبلغ المذكور.

قال: فذهب الطبيب إلى قاضي الكوفة محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقيل: ابن شبرمة - فادَّعى عليه عنده فأنكر اليهودي فشهد له أبو دلامة وابنه، فلم يستطع القاضي أن يرد شهادتهما وخاف من طلب التزكية، فأعطى الطبيب المدعي المال من عنده وأطلق اليهودي. وجمع القاضي بين المصالح.

توفي أبو دلامة في هذه السنة، وقيل: إنه أدرك خلافة الرشيد سنة سبعين، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثنتين وستين ومائة

[عدل]

فيها: خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري بأرض قنسرين واتبعه خلق كثير، وقويت شوكته فقاتله جماعة من الأمراء فلم يقدروا عليه، فجهز إليه المهدي جيوشا وأنفق فيهم أموالا فهزمهم مرات ثم آل الأمر به أن قتل بعد ذلك.

وفيها: غزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا من المرتزقة سوى المتطوعة، فدمر الروم وحرق بلدانا كثيرةً، وخرب أماكن وأسر خلقا من الذراري.

وكذلك غزا يزيد بن أبي أسيد السلمي بلاد الروم من باب قاليقلا فغنم وسلم وسبى خلقا كثيرا.

وفيها: خرجت طائفة بجرجان فلبسوا الحمرة مع رجل يقال له: عبد القهار، فغزاه عمرو بن العلاء من طبرستان فقهر عبد القهار وقتله وأصحابه.

وفيها: أجرى المهدي الأرزاق في سائر الأقاليم والآفاق على المجذومين والمحبوسين، وهذه مثوبة عظيمة ومكرمة جسيمة.

وفيها: حج بالناس إبراهيم بن جعفر بن المنصور.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن أدهم

[عدل]

أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد.

كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله.

فهو: إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن عامر بن إسحاق التميمي، ويقال له: العجلي، أصله من بلخ ثم سكن الشام ودخل دمشق.

وروى الحديث عن: أبيه، والأعمش، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة، وأبي إسحاق السبيعي، وخلق.

وحدث عنه خلق منهم: بقية، والثوري، وأبو إسحاق الفزاري، ومحمد بن حميد. وحكى عنه الأوزاعي.

وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري، عن إبراهيم بن أدهم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: دخلت على رسول الله وهو يصلي جالسا فقلت: يا رسول الله إنك تصلي جالسا فما أصابك ؟

قال: «الجوع يا أبا هريرة».

قال: فبكيت.

فقال: «لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا».

ومن طريق بقية، عن إبراهيم بن أدهم، حدثني أبو إسحاق الهمداني، عن عمارة بن غزية، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «إن الفتنة تجيء فتنسف العباد نسفا، وينجوا العالم منها بعلمه».

قال النسائي: إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد.

وذكر أبو نعيم وغيره: أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال: فخرجت مرة فأثرت ثعلبا فهتف بي هاتف من قربوس سرجي: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت.

قال: فوقفت وقلت: انتهيت انتهيت، وجاءني نذير من رب العالمين.

فرجعت إلى أهلي فخليت عن فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت منه جبة وكساء ثم ألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصفُ لي بها الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام فأتيت طرطوس فعملت بها أياما أنطر البساتين وأحصد الحصاد، وكان يقول: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام.

أفر بديني من شاهق إلى شاهق ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس.

ثم دخل البادية ودخل مكة وصحب الثوري والفضل بن عياض ودخل الشام ومات بها، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه مثل الحصاد وعمل الفاعل وحفظ البستان وغير ذلك، وما روي عنه أنه وجد رجلا في البادية فعلمه اسم الله الأعظم فكان يدعو به حتى رأى الخضر فقال له: إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم.

وذكره القشيري وابن عساكر عنه بإسناد لا يصح.

وفيه أنه قال له: إن إلياس علمك اسم الله الأعظم.

وقال إبراهيم: أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار.

وذكر أبو نعيم، عنه: أنه كان أكثر دعائه: اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك.

وقيل له: إن اللحم قد غلا.

فقال: ارخصوه، أي: لا تشتروه، فإنه يرخص.

وقال بعضهم: هتف به الهاتف من فوقه: يا إبراهيم ! ما هذا العبث: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115] ، اتق الله وعليك بالزاد ليوم القيامة.

فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة.

وروى ابن عساكر بإسناد فيه نظر في ابتداء أمره قال: بينما أنا يوما في منظرة لي ببلخ وإذا شيخ حسن الهيئة حسن اللحية قد استظل بظلها فأخذ بمجامع قلبي، فأمرت غلاما فدعاه فدخل فعرضت عليه الطعام فأبى فقلت: من أين أقبلت ؟

قال: من وراء النهر.

قلت: أين تريد ؟

قال: الحج.

قلت: في هذا الوقت؟ - وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه -.

فقال: يفعل الله ما يشاء.

فقلت: الصحبة.

قال: إن أحببت ذلك فموعدك الليل.

فلما كان الليل جاءني فقال: قم بسم الله.

فأخذت ثياب سفري وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان ونقول: هذه فلانة هذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني ويقول: موعدك الليل.

فإذا كان الليل جاءني ففعلنا مثل ذلك.

فانتهينا إلى مدينة النبي ثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلا فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس، وقال: إني عازم على المقام بالشام.

ثم رجعت أنا إلى بلدي بلخ كسائر الضعفاء حتى رجعنا إليها ولم أسأله عن اسمه، فكان ذلك أول أمري. وروي من وجه آخر فيه نظر.

وقال أبو حاتم الرازي: عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، قال: كان إبراهيم بن أدهم يشبه الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه.

وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله، ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده.

وقال بشر بن الحارث الحافي: أربعة رفعهم الله بطيب المطعم: إبراهيم بن أدهم، وسليمان بن الخواص، ووهيب بن الورد، ويوسف بن أسباط.

وروى ابن عساكر، من طريق معاوية بن حفص، قال: إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثا واحدا فأخذ به فساد أهل زمانه.

قال: حدثنا منصور، عن ربعي بن خراش، قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس.

قال: «إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما عندك من فضولها فانبذه إليهم».

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو الربيع، عن إدريس، قال: جلس إبراهيم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت، ثم قال: حدثنا منصور، ثم سكت فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس.

فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ! فقال: إني لأخشى مضرة ذلك المجلس في قلبي إلى اليوم.

وقال رشدين بن سعد: مر إبراهيم بن أدهم بالأوزاعي وحوله حلقة فقال: لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم. فقام الأوزاعي وتركهم.

وقال إبراهيم بن بشار: قيل لابن أدهم: لم تركت الحديث ؟

فقال: إني مشغول عنه بثلاث: بالشكر على النعم، والاستغفار من الذنوب، وبالاستعداد للموت، ثم صاح وغشي عليه فسمعوا هاتفا يقول: لا تدخلوا بيني وبين أوليائي.

وقال أبو حنيفة يوما لإبراهيم بن أدهم: قد رزقت من العباد شيئا صالحا فليكن العلم من بالك فإنه رأس العبادة وقوام الدين.

فقال له إبراهيم: وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت.

وقال إبراهيم: ماذا أنعم الله على الفقراء لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين الأغنياء.

وقال شقيق بن إبراهيم: لقيت ابن أدهم بالشام وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا.

فقلت له: تركت ملك خراسان، وخرجت من نعمتك ؟

فقال: اسكت ما تهنيت بالعيش إلا ههنا، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول: هو موسوس أو حمال أو ملاح.

ثم قال: بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله فيقول له: يا عبدي ! مالك لم تحج ؟

فيقول: يا رب لم تعطني شيئا أحج به.

فيقول الله: صدق عبدي اذهبوا به إلى الجنة.

وقال: أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة ولم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لآشبع من خبز حلال.

وقال: الحزن حزنان: حزن لك وحزن عليك، فحزنك على الآخرة لك، وحزنك على الدنيا وزينتها عليك.

وقال: الزهد ثلاثة: واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب: فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال: مستحب، والزهد عن الشبهات: سلامة.

وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء، ولا يجعلون في ملحهم أبزارا، وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طبي رمى بطيبها إلى أصحابه وأكل هو الخبز والزيتون.

وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.

وقال له رجل: هذه جبة أحب أن تقبلها مني.

فقال: إن كنت غنيا قبلتها، وإن كنت فقيرا لم أقبلها.

قال: أنا غني.

قال: كم عندك ؟

قال: ألفان.

قال: تود أن تكون أربعة آلاف ؟

قال: نعم !

قال: فأنت فقير، لا أقبلها منك.

وقيل له: لو تزوجت ؟

فقال: لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها.

ومكث بمكة خمسة عشر يوما لا شيء له ولم يكن له زاد سوى الرمل بالماء، وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة، وأكل يوما على حافة الشريعة كسيرات مبلولة بالماء وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي، فأكل منها ثم قام فشرب من الشريعة ثم جاء واستلقى على قفاه وقال: يا أبا يوسف ! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش.

فقال أبو يوسف: طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم.

فتبسم إبراهيم وقال: من أين لك هذا الكلام ؟

وبينما هو بالمصيصة في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم ؟

فأرشد إليه، فقال: يا سيدي ! أنا غلامك وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ، وفرس وبغلة.

فسكت إبراهيم طويلا ثم رفع رأسه فقال: إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والبغلة لك ولا تخبر به أحدا.

ويقال: إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ وأخذ المال من الحاكم وجعله كله في سبيل الله.

وكان معه بعض أصحابه فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شيء يأكلونه، فقال له إبراهيم: أدخل إلى هذه الغيضة - وكان ذلك في يوم شاتٍ -.

قال: فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير فملأت منه جرأبي ثم خرجت، فقال: ما معك ؟

قلت: خوخ.

فقال: يا ضعيف اليقين ! لو صبرت لوجدت رطبا جنيا، كما رزقت مريم بنت عمران.

وشكا إليه بعض أصحابه الجوع فصلى ركعتين فإذا حوله دنانير كثيرة فقال لصاحبه: خذ منها دينارا.

فأخذه واشترى لهم به طعاما.

وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ثم يذهب فيشتري البيض والزبدة وتارة الشواء والجوذبان والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم، فإذا أفطر يأكل من رديء الطعام ويحرم نفسه المطعم الطيب ليبر به الناس تأليفا لهم وتحببا وتوددا إليهم.

وأضاف الأوزاعي إبراهيم بن أدهم فقصر إبراهيم في الأكل فقال: مالك قصرت ؟

فقال: لأنك قصرت في الطعام.

ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ودعا الأوزاعي فقال الأوزاعي: أما تخاف أن يكون سرفا ؟

فقال: لا ! إنما السرف ما كان في معصية الله، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه فهو من الدين.

وذكروا أنه حصد مرة بعشرين دينارا، فجلس مرة عند حجام هو صاحب له ليحلق رؤوسهم ويحجمهم، فكأنه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم، فتأذى صاحبه من ذلك ثم أقبل عليهم الحجام فقال: ماذا تريدون ؟

قال إبراهيم: أريد أن تحلق رأسي وتحجمني.

ففعل ذلك، فأعطاه إبراهيم العشرين دينارا وقال: أردت أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا.

وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ولكن بالصدقة والسخاء.

وكان إبراهيم يقول: فروا من الناس كفراركم من الأسد الضاري، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة.

وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يحدثه إبراهيم، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رؤوسهم الطير هيبةً له وإجلالا.

وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة الشاتية إلى الصباح، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام.

ورأى رجلا قيل له: هذا قاتل خالك.

فذهب إليه فسلم عليه وأهدى له وقال: بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه.

وقال له رجل: طوبى لك أفنيت عمرك في العبادة وتركت الدنيا والزوجات.

فقال: ألك عيال ؟

قال: نعم !

فقال: لروعة الرجل بعياله - يعني: في بعض الأحيان من الفاقة - أفضل من عبادة كذا وكذا سنة.

ورآه الأوزاعي ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب فقال: يا أبا إسحاق ! إن إخوانك يكفونك هذا.

فقال له: اسكت يا أبا عمرو ! فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.

وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا: أنت عبد ؟

قال: نعم !

قالوا: آبق ؟

قال: نعم ! فسجنوه.

فبلغ أهل بيت المقدس خبره فجاؤوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا: علام سجنت إبراهيم بن أدهم ؟

قال: ما سجنته.

قالوا: بلى ! هو في سجنك.

فاستحضره، فقال: علام سجنت ؟

فقال: سل المسلحة.

قالوا: أنت عبد؟ قلت: نعم ! وأنا عبد الله.

قالوا: آبق؟ قلت: نعم ! وأنا عبد آبق من ذنوبي.

فخلى سبيله.

وذكروا أنه مر مع رفقة فإذا الأسد على الطريق فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له: يا قسورة ! إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به وإلا فعودك على بدئك.

قالوا: فولى السبع ذاهبا يضرب بذنبه، ثم أقبل علينا إبراهيم فقال: قولوا: اللهم راعنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا الله، يا الله، يا الله.

قال خلف بن تميم: فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره.

وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر.

وروي أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءه أُسد ثلاثة فتقدم إليه أحدهم فشم ثيابه ثم ذهب فربض قريبا منه، وجاء الثاني ففعل مثل ذلك، وجاء الثالث ففعل مثل ذلك، واستمر إبراهيم في صلاته، فلما كان وقت السحر قال لهم: إن كنتم أمرتم بشيء فهلموا، وإلا فانصرفوا، فانصرفوا.

وصعد مرة جبلا بمكة ومعه جماعة فقال لهم: فقال لهم: لو أن وليا من أولياء الله قال لجبل: زل لزال.

فتحرك الجبل تحته فوكزه برجله وقال: اسكن فإنما ضربتك مثلا لأصحابي. وكان الجبل أبا قبيس.

وركب مرة سفينة فأخذهم الموج من كل مكان فلف إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع وعج أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء، وأيقظوه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه من الشدة ؟

فقال: ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس.

ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فصار البحر كأنه قدح زيت.

وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين وألح عليه، فقال له: اذهب معي حتى أعطيك ديناريك، فأتى إلى جزيرة في البحر فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا وإذا ما حوله قد مليء دنانير، فقال له: خذ حقك ولا تزد ولا تذكر هذا لأحد.

وقال حذيفة المرعشي: أويت أنا وإبراهيم إلى مسجد خراب بالكوفة، وكان قد مضى علينا أياما لم نأكل فيها شيئا، فقال لي: كأنك جائع ؟

قلت: نعم !

فأخذ رقعة فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال، المشار إليه بكل معنى.

أنا حامد أنا ذاكر أنا شاكر * أنا جائع أنا حاسر أنا عاري

هي ستة وأنا الضمين لنصفها * فكن الضمين لنصفها يا باري

مدحي لغيرك وهج نار خضتها * فأجر عبيدك من دخول النار

ثم قال لي: اخرج بهذه الرقعة ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى، وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه.

فخرجت فإذا رجل على بغلة فدفعتها إليه فلما قرأها بكى ودفع إليّ ستمائة دينار وانصرف، فسألت رجلا: من هذا الذي على البغلة ؟

فقالوا: هو رجل نصراني.

فجئت إبراهيم فأخبرته فقال: الآن يجيء مسلم.

فما كان غير قريب حتى جاء فأكب على رأس إبراهيم وأسلم.

وكان إبراهيم يقول: دارنا إمامنا وحياتنا بعد وفاتنا، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، مثِّل لبصرك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك وانظر كيف تكون حينئذ، ومثِّل له هول المضجع ومساءلة منكر ونكير وانظر كيف تكون، ومثِّل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب، وانظر كيف تكون. ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه.

ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له: لا تطمع فيما لا يكون، ولا تنسى ما يكون.

فقيل له: كيف هذا يا أبا إسحاق ؟

فقال: لا تطمع في البقاء والموت يطلبك، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب به إلى جنة أم إلى نار؟ ولا تنس ما يكون الموت يأتيك صباحا أو مساء.

ثم قال: أوّه أوّه ! ثم خرّ مغشيا عليه.

وكان يقول: ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا.

ثم يقول: ثكلت عبدا أمه أحب الدنيا ونسي ما في خزائن مولاه.

وقال: إذا كنت بالليل نائما وبالنهار هائما وفي المعاصي دائما فكيف ترضي من هو بأمورك قائما.

ورآه بعض أصحابه وهو بمسجد بيروت وهو يبكي ويضرب بيديه على رأسه، فقال: ما يبكيك ؟

فقال: ذكرت يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار.

وقال: إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية.

وكتب إلى الثوري: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.

وسأله بعض الولاة: من أين معيشتك ؟

فأنشأ يقول:

نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا * فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:

لما توعد الدنيا به من شرورها * يكون بكاء الطفل ساعة يوضع

وإلا فما يبكيه منها وإنها * لأروح مما كان فيه وأوسع

إذا أبصر الدنيا استهل كأنما * يرى ما سيلقى من أذاها ويسمع

وكان يتمثل أيضا:

رأيت الذنوب تميت القلوب * ويورثها الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب * وخير لنفسك عصيانها

وما أفسد الدين إلا ملوك * وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس فلم يربحوا * ولم يغل بالبيع أثمانها

لقد رتع القوم في جيفة * تبين لذي اللب أنتانها

وقال: إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك.

وقال: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها، ومنتكم فانقدتم خاضعين لأمانيها تتمرغون في زهراتها وزخارفها، وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها.

وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال: ابعث إليّ منهم من لا رزقه على الله. فسكت الرجل.

وقال: ومررت في بعض جبال فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية:

كل حيّ وإن بقي * فمن العيش يستقي

فاعمل اليوم واجتهد * واحذر الموت يا شقي

قال: فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي، وإذا برجل أشعر أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم وقال: مم تبكي ؟

فقلت: من هذا.

فأخذ بيدي ومضى غير بعيد فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب فقال: اقرأ وابك ولا تقصر.

وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي:

لا تبغين جاها وجاهك ساقط * عند المليك وكن لجاهك مصلحا

وفي الجانب الآخر نقش بين عربي:

من لم يثق بالقضاء والقدر * لاقى هموما كثيرة الضَّرر

وفي الجانب الأيسر نقش بين عربي:

ما أزين التقى وما أقبح الخنا * وكل مأخوذ بما جنا

وعند الله الجزا *

وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر:

إنما الفوز والغنى * في تقى الله والعمل

قال: فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك، فما أدري أنصرف أم حجب عني.

وقال: أثقل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان، ومن وفى العمل وفي له الأجر، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير.

وقال: كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة، وكل عالم لا يكون ورعا فهو والذئب بمنزلةٍ واحدةٍ، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلةٍ واحدةٍ.

وقال: ما ينبغي لمن ذل لله طاعته أن يذل لغير الله في مجاعته، فكيف بمن هو يتقلب في نعم الله وكفايته ؟

وقال: أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب.

وقال: كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره.

وقال: جانبوا الناس ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة.

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسن بن محمد بن زامين الاسترابادي، قال: أنبأ عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي، أنبأ القاضي أحمد بن خرزاد الأهوازي، حدثني علي بن محمد القصوي، حدثني أحمد بن محمد الحلبي، سمعت سريا السقطي، يقول: سمعت بشر بن الحارث الحافي، يقول: قال إبراهيم بن أدهم: وقفت على راهب فأشرف عليَّ فقلت له: عظني. فأنشأ يقول:

خذ عن الناس جانبا * كن بعدوك راهبا

إن دهرا أظلني * قد أراني العجائبا

قلب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا

قال بشر: فقلت لإبراهيم: هذه موعظة الراهب لك، فعظني أنت. فأنشأ يقول:

توحش من الأخوان لا تبغ مونسا * ولا تتخذ خلا ولا تبغ صاحبا

وكن سامري الفعل من نسل آدم * وكن أوحديا ما قدرت مجانبا

فقد فسد الإخوان والحب والإخا * فلست ترى إلا مذوقا وكاذبا فقلت ولولا أن يقال مدهده * وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا

قال سري: فقلت لبشر: هذه موعظة إبراهيم لك فعظني أنت.

فقال: عليك بالخمول ولزوم بيتك.

فقلت: بلغني عن الحسن، أنه قال: لولا الليل وملاقاة الإخوان ما باليت متى مت.

فأنشأ بشر يقول:

يا من يسر برؤية الإخوان * مهلا أمنت مكايد الشيطان

خلت القلوب من المعاد وذكره * وتشاغلوا بالحرص والخسران

صارت مجالس من ترى وحديثهم * في هتك مستور وموت جنان

قال الحلبي: فقلت لسري: هذه موعظة بشر فعظني أنت.

فقال: ما عليك بالإخمال.

فقلت: أحب ذاك. فأنشأ يقول:

يا من يروم بزعمه إخمالا * إن كان حقا فاستعدَّ خصالا

ترك المجالس والتذاكر يا أخي * واجعل خروجك للصلاة خيال

بل كن بها حيا كأنك ميت * لا يرتجي منه القريب وصالا

قال علي بن محمد القصري: قلت للحلبي: هذه موعظة سري لك فعظني أنت.

قال: يا أخي ! أحب الأعمال إلى الله ما صعد إليه من قلب زاهد في الدنيا، فازهد في الدنيا يحبك الله.

ثم أنشأ يقول:

أنت في دار شتات * فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم * صمته عن شهواتك

واجعل الفطر إذا * ما صمته يوم وفاتك

قال ابن خرزاد: فقلت لعلي: هذه موعظة الحلبي لك فعظني أنت.

فقال لي: احفظ وقتك واسخ بنفسك لله عز وجل، وانزع قيمة الأشياء من قلبك يصفو لك بذلك سرك ويذكو به ذكرك.

ثم أنشدني:

حياتك أنفسا تعد فكلما * مضى نفس منها انتقضت به جزءا

فتصبح في نقص وتمسي بمثله * وما لك معقول تحس به رزءا

يميتك ما يحييك في كل ساعة * ويحدوك حاد ما يزيد بك الهزءا

قال أبو محمد لأحمد: هذه موعظة علي لك فعظني.

فقال: يا أخي ! عليك بلزوم الطاعة وإياك أن تفارق باب القناعة، وأصلح مثواك، ولا تؤثر هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك.

ثم أنشدني:

ندمت على ما كان مني ندامة * ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم

فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم * ستلقون ربا عادلا ليس يظلم

فليس لمغرور بدنياه زاجر * سيندم إن زلت به النعل فاعلموا

قال ابن زامين: فقلت لأبي محمد: هذه موعظة أحمد لك فعظني أنت.

فقال: اعلم رحمك الله أن الله عز وجل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها، فانظر أين ينزل قلبك، واعلم أن الله سبحانه يقرب من القلوب على حسب ما تقرب منه، وتقرب منه على حسب ما قرب إليها، فانظر من القريب من قلبك.

وأنشدني:

قلوب رجال في الحجاب نزول * وأرواحهم فيما هناك حلول

تروح نعيم الأنس في عزِّ قربه * بأفراد توحيد الجليل تحول

لهم بفناء القرب من محض بره * عوائد بذل خطبهن جليل

قال الخطيب: فقلت لابن زامين: هذه موعظة الحميدي لك فعظني أنت.

فقال: اتق الله وثق به ولا تتهمه فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك.

وأنشدني:

اتخذ اللهَ صاحبا * ودع الناس جانبا

جرب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا

قال أبو الفرج غيث الصوري: فقلت للخطيب: هذه موعظة ابن زامين لك فعظني أنت.

فقال: احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها، فذاك أعضل دائك، واستشرف الخوف من الله تعالى بخلافها، وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء، والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.

وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل له جنة الخلد قراره ومأواه، ثم أنشد لنفسه:

إن كنت تبغي الرشاد محضا * في أمر دنياك والمعاد

فخالف النفس في هواها * إن الهوى جامع الفساد

قال ابن عساكر: المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة.

وقال غيره: إحدى وستين، وقيل: سنة ثلاث. والصحيح: ما قاله ابن عساكر، والله أعلم.

وذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة مات نحوا من عشرين مرة، وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا، وكان به البطن، فلما كانت غشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه فقبض عليه فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو، رحمه الله وأكرم مثواه.

وقد قال أبو سعيد بن الأعرابي: حدثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ، قال: سمعت الشافعي، يقول: كان سفيان معجبا به:

أجاعتهم الدنيا فخافوا ولم يزل * كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما

أخو طيء داود منهم ومسعر * ومنهم وهيب والعريب ابن أدهما

وفي ابن سعيد قدوة البر والنهى * وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما

وحسبك منهم بالفضل مع ابنه * ويوسف إن لم يأل أن يتسلما

أولئك أصحابي وأهل مودتي * فصلى عليهم ذو الجلال وسلما

فما ضر ذا التقوى نصال أسنة * وما زال ذو التقوى أعز وأكرما

ومازالت التقوى تريك على الفتى * إذا محض من العز ميسما

وروى البخاري في كتاب الأدب عن إبراهيم بن أدهم، وأخرج الترمذي في جامعه حديثا معلقا في المسح على الخفين، والله سبحانه أعلم.

وفيها توفي:

أبو سليمان داود بن نصير الطائي

[عدل]

الكوفي الفقيه الزاهد، أخذ الفقه عن أبي حنيفة. قال سفيان بن عيينة: ثم ترك داود الفقه وأقبل على العبادة ودفن كتبه.

قال عبد الله بن المبارك: وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي.

وقال ابن معين: كان ثقة، وفد على المهدي ببغداد ثم عاد إلى الكوفة.

ذكره الخطيب البغدادي، وقال: مات في سنة ستين ومائة، وقيل: في سنة ست وخمسين ومائة.

وقد ذكر شيخنا الذهبي في تاريخه أنه توفي في هذه السنة - أعني: سنة ثنتين وستين ومائة -، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة

[عدل]

فيها: حصر المقنع الزنديق الذي كان قد نبغ بخراسان وقال بالتناسخ، واتبعه على جهالته وضلالته خلق من الطغام وسفهاء الأنام، والسفلة من العوام، فلما كان في هذا العام لجأ إلى قلعة كش فحاصره سعيد الحريثي فألح عليه في الحصار، فلما أحس بالغلبة تحسى سما وسم نساءه فماتوا جميعا، عليهم لعائن الله.

ودخل الجيش الإسلامي قلعته فاحتزوا رأسه وبعثوا إلى المهدي، وكان المهدي بحلب.

قال ابن خلكان: كان اسم المقنع: عطاء، وقيل: جكيم، والأول: أشهر.

وكان أولا قصارا ثم ادّعى الربوبية، مع أنه كان أعور قبيح المنظر، وكان يتخذ له وجها من ذهب، وتابعه على جهالته خلق كثير، وكان يرى الناس قمرا يرى من مسيرة شهرين ثم يغيب، فعظم اعتقادهم له ومنعوه بالسلاح، وكان يزعم - لعنه الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا -: أن الله ظهر في صورة آدم، ولهذا سجدت له الملائكة، ثم في نوح، ثم في الأنبياء واحدا واحدا، ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إليه.

ولما حاصره المسلمون في قلعته كان جددها بناحية كش مما وراء النهر ويقال لها: سنام، تحسى هو ونساؤه سما فماتوا واستحوذ المسلمون على حواصله وأمواله.

وفيها: جهز المهدي البعوث من خراسان وغيرها من البلاد لغزو الروم، وأمّر على الجميع ولده هارون الرشيد، وخرج من بغداد مشيعا له، فسار معه مراحل واستخلف على بغداد ولده موسى الهادي، وكان في هذا الجيش الحسن بن قحطبة والربيع الحاجب، وخالد بن برمك - وهو مثل الوزير للرشيد ولي العهد - ويحيى بن خالد - وهو كاتبه وإليه النفقات - وما زال المهدي مع ولده مشيعا له حتى بلغ الرشيد إلى بلاد الروم، وارتاد هناك المدينة المسماة: بالمهدية في بلاد الروم، ثم رجع إلى الشام وزار بيت المقدس.

فسار الرشيد إلى بلاد الروم في جحافل عظيمة، وفتح الله عليهم فتوحات كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة جدا، وكان لخالد بن برمك في ذلك أثر جميل لم يكن لغيره، وبعثوا بالبشارة مع سليمان بن برمك إلى المهدي وأجزل عطاءه.

وفيها: عزل المهدي عمه عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى عليها زفر بن عاصم الهلالي، ثم عزله وولى عبد الله بن صالح بن علي.

وفيها: ولى المهدي ولده هارون الرشيد بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية، وجعل على رسائله يحيى بن خالد بن برمك، وولى وعزل جماعة من النواب.

وحج بالناس فيها علي بن المهدي.

وفيها: توفي إبراهيم بن طهمان، وحريز بن عثمان الحمصي الرحبي، وموسى بن علي اللخمي المصري، وشعيب بن أبي حمزة، وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، وإليه ينسب قصر عيسى، ونهر عيسى ببغداد.

قال يحيى بن معين: كان له مذهب جميل، وكان معتزلا للسلطان، توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة.

وهمام بن يحيى، ويحيى بن أيوب المصري، وعبيدة بنت أبي كلاب العابدة، بكت من خشية الله أربعين سنة حتى عميت.

وكانت تقول: أشتهي الموت فإني أخشى أن أجني على نفسي جناية تكون سبب هلاكي يوم القيامة.

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة

[عدل]

فيها: غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بلاد الروم، فأقبل إليه ميخائيل البطريق في نحو من تسعين ألفا، فيهم طازاذ الأرمني البطريق ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف راجعا، فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فيه فحبسه في المطبق.

وفي يوم الأربعاء في أواخر ذي القعدة: أسس المهدي قصرا من لبن بعيسا باذ، ثم عزم على الذهاب إلى الحج فأصابه حمى فرجع من أثناء الطريق، فعطش الناس في الرجعة حتى كاد بعضهم يهلك، فغضب المهدي على يقطين صاحب المصانع، وبعث من حيث رجع المهلب بن صالح بن أبي جعفر ليحج بالناس فحج بهم عامئذ.

وفيها توفي: شيبان بن عبد الرحمن النحوي، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومبارك بن فضالة صاحب الحسن البصري.

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة

[عدل]

فيها: جهز المهدي ولده الرشيد لغزو الصائفة، وأنفذ معه من الجيوش خمسة وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا، وكان معه من النفقة مائة ألف دينار، وأربعة وتسعون ألف دينار، وأربعمائة وخمسون دينارا، ومن الفضة إحدى وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف، وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم.

قاله ابن جرير: فبلغ بجنوده خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون، ومعها ابنها في حجرها من الملك الذي توفي عنها، فطلبت الصلح من الرشيد على أن تدفع له سبعين ألف دينار في كل سنة، فقبل ذلك منها، وذلك بعد ما قتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسين ألفا وأسر من الذراري خمسة آلاف رأس وستمائة وأربعة وأربعين رأسا، وقتل من الأسرى ألفي قتيل صبرا، وغنم من الدواب بأدواتها عشرين ألف فرس، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس.

وبيع البرذون بدرهم والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم، وعشرون سيفا بدرهم.

فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة:

أطفت بقسطنطينية الروم مسندا * إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها

وما رمتها حتى أتتك ملوكها * بجزيتها والحرب تغلي قدورها

وحج بالناس صالح بن أبي جعفر المنصور.

وفيها توفي: سليمان بن المغيرة، وعبد الله بن العلاء بن دبر، وعبد الرحمن بن نائب بن ثوبان، ووهب بن خالد.

ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

[عدل]

في المحرم منها: قدم الرشيد من بلاد الروم فدخل بغداد في أبهة عظيمة ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره.

وفيها: أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي، ولقب: بالرشيد.

وفيها: سخط المهدي على يعقوب بن داود وكان قد حظي عنده حتى استوزره وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة، وفي ذلك يقول بشار بن برد:

بني أمية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا * خليفة الله بين الخمر والعود

فلما تزل السعادة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه، وكلما سعوا به إليه دخل إليه فأصلح أمره معه، حتى وقع من أمره ما سأذكره، وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير، وحول ذلك المكان أصحان مزهرة بأنواع الأزاهير، فقال: يا يعقوب كيف رأيت مجلسنا هذا ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! ما رأيت أحسن منه.

فقال: هو لك بما فيه، وهذه الجارية ليتم بها سرورك، ولي إليك حاجة أحب أن تقضيها.

قلت: وما هي يا أمير المؤمنين ؟

فقال: حتى تقول نعم.

فقلت: نعم ! وعلى السمع والطاعة.

فقال: الله ؟

فقلت: ألله.

قال: وحياة رأسي.

قلت: وحياة رأسك.

فقال: ضع يدك على رأسي وقل ذلك، ففعلت.

فقال: إن ههنا رجلا من العلويين أحب أن تكفينيه، والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.

فقلت: نعم.

فقال: وعجل عليّ.

ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية، فما فرحت بشي فرحي بها.

فلما صارب بمنزلي حجبتها في جانب الدار في خدر، فأمرت بذلك العلوي فجيء به فجلس إليّ فتكلم، فما رأيت أعقل منه ولا أفهم.

ثم قال لي: يا يعقوب ! تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله ؟

فقلت: لا والله ! ولكن اذهب حيث شئت وأين شئت.

فقال: إني أختار بلاد كذا وكذا.

فقلت: اذهب كيف شئت، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك.

فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد، ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى، وأنها كالجاسوس عليّ، فبعثت بخادمها إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك العلوي فحبسه عنده في بيت من دار الخلافة، وأرسل إليّ من اليوم الثاني فذهبت إليه ولم أشعر من أمر العلوي بشيء، فلما دخلت عليه قال: ما فعل العلوي ؟

قلت: مات.

قال: ألله !

قلت: ألله.

قال: فضع يدك على رأسي واحلف بحياته، ففعلت.

فقال: يا غلام ! أخرج ما في هذا البيت.

فخرج العلوي فأسقط في يدي، فقال المهدي: دمك لي حلال.

ثم أمر به، فألقي في بئر في المطبق.

قال يعقوب: فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر، فذهب بصري وطال شعري حتى ثرت مثل البهائم، ثم مضيت عليّ مدد متطاولة، فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.

فسلمت وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قال: رحم الله المهدي.

فقلت: الهادي؟ فقال: رحم الله الهادي.

فقلت: الرشيد؟ قال: نعم.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة، فإن رأيت أن تطلقني.

فقال: أين تريد؟ قلت: مكة.

فقال: اذهب راشدا.

فسار إلى مكة فما لبث بها إلا قليلا حتى مات رحمه الله تعالى.

وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه، وكثرة سماع الغناء فكان يلومه على ذلك ويقول: ما على هذا استوزرتني، ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغني بين يديك ؟

فيقول له المهدي: فقد سمع عبد الله بن جعفر.

فقال له يعقوب: إن ذلك لم يكن له من حسناته، ولو كان هذا قربة لكان كلما داوم عليه العبد أفضل.

وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثا للمهدي على ذلك:

فدع عنك يعقوب بن داود جانبا * وأقبل على صهباء طيبة النشر

وفيها ذهب المهدي إلى قصره المسمى: بعيسا باذ - بني له بالآجر بعد القصر الأول الذي بناه باللبن - فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير.

وفيها: أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ولم يفعل أحد هذا قبل هذه السنة.

وفيها: خرج موسى الهادي إلى جرجان.

وفيها: ولي القضاء أبا يوسف صاحب أبي حنيفة.

وفيها: حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة.

ولم يكن في هذه السنة صائفة للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم.

وفيها: توفي صدقة بن عبد الله السمين، وأبو الأشهب العطاردي، وأبو بكر النهشلي، وعفير بن معدان.

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

[عدل]

فيها: وجه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم ير مثله، وجعل على رسائله أبان بن صدقة.

وفيها توفي: عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد من بعد المهدي: مات بالكوفة فأشهد نائبها روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الأعيان. ثم دفن.

وكان قد امتنع من الصلاة عليه فكتب إليه المهدي يعنفه أشد التعنيف، وأمر بمحاسبته على عمله.

وفيها: عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع بن يونس الحاجب، فاستخلف فيه سعيد بن واقد وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.

وفيها: وقع وباء شديد وسعال كثير ببغداد والبصرة، وأظلمت الدنيا حتى كانت كالليل حتى تعالى النهار، وكان ذلك لليال بقين من ذي الحجة من هذه السنة.

وفيها: تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبرا بين يديه، وكان المتولي أمر الزنادقة عمر الكلواذي.

وفيها: أمر المهدي بزيادة كثيرة في المسجد الحرام، فدخل في ذلك دور كثيرة، وولى ذلك ليقطين بن موسى الموكل بأمر الحرمين، فلم يزل في عمارة ذلك حتى مات المهدي كما سيأتي.

ولم يكن للناس صائفة للهدنة.

وحج بالناس نائب المدينة إبراهيم بن يحيى بن محمد وتوفي بعد فراغه من الحج بأيام.

وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس.

وممن توفي فيها من الأعيان:

بشار بن برد

[عدل]

أبو معاذ الشاعر مولى عقيل، ولد أعمى، وقال الشعر وهو دون عشر سنين، وله التشبيهات التي لم يهتد إليها البصراء.

وقد أثنى عليه الأصمعي والجاحظ وأبو تمام وأبو عبيدة، وقال له: ثلاثة عشر ألف بيت من الشعر.

فلما بلغ المهدي أنه هجاه وشهد عليه قوم أنه زنديق أمر به فضرب حتى مات عن بضع وسبعين سنة. وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات: فقال: بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي مولاهم، وقد نسبه صاحب الأغاني فأطال نسبه.

وهو بصري قدم بغداد أصله من طخارستان، وكان ضخما عظيم الخلق، وشعره في أول طبقات المولدين، ومن شعره البيت المشهور:

هل تعلمين وراء الحب منزلة * تدنى إليك فإن الحب أقصاني

وقوله:

أنا والله أشتهي سحر عينيـ * ـك وأخشى مصارع العشاق

وله:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة * والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا لم لا نرى عينيك قلت لهم * الأذن كالعين تروي القلب مكانا

وله:

إذا بلغ الرأي التشاور فاستعن * بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فريش الخوافي قوة للقوادم

وما خير كف أمسك الغل أختها * وما خير سيف لم يؤيد بقائم

كان بشار يمدح المهدي حتى وشى إليه الوزير أنه هجاه وقذفه ونسبه إلى شيء من الزندقة، وأنه يقول بتفضيل النار على التراب، وعذر إبليس في السجود لآدم، وأنه أنشد:

الأرض مظلمة والنار مشرقة * والنار معبودة مذ كانت النار

فأمر المهدي بضربه فضرب حتى مات.

ويقال: إنه غرق ثم نقل إلى البصرة في هذه السنة.

وفيها توفي: الحسن بن صالح بن حيي، وحماد بن سلمة، والربيع بن مسلم، وسعيد بن عبد العزيز بن مسلم، وعتبة الغلام: وهو عتبة بن أبان بن صمعة أحد العباد المشهورين البكائين المذكورين، كان يأكل من عمل يده في الخوص، ويصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح.

والقاسم الحذاء، وأبو هلال محمد بن سليم، ومحمد بن طلحة، وأبو حمزة اليشكري محمد بن ميمون.

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة

[عدل]

فيها في رمضان منها: نقضت الروم ما بينهم وبين المسلمين من الصلح الذي عقده هارون الرشيد عن أمر أبيه المهدي، ولم يستمروا على الصلح إلا ثنتين وثلاثين شهرا، فبعث نائب الجزيرة خيلا إلى الروم فقتلوا وأسروا وغنموا وسلموا.

وفيها: اتخذ المهدي دواوين الأزمة ولم يكن بنو أمية يعرفون ذلك.

وفيها: حج بالناس علي بن محمد المهدي الذي يقال له: ابن ريطة.

وفيها توفي:

الحسن بن زيد بن حسن بن علي بن علي بن أبي طالب، ولاه المنصور المدينة خمس سنين، ثم غضب عليه فضربه وحبسه وأخذ جميع ماله. وحماد عجرد، كان ظريفا ماجنا شاعرا، وكان ممن يعاشر الوليد بن يزيد ويهاجي بشار بن برد.

وقدم على المهدي ونزل الكوفة واتهم بالزندقة.

قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: ثلاثة حمادون بالكوفة يرمون بالزندقة: حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان النحوي.

وكانوا يتشاعرون ويتماجنون.

وخارجة بن مصعب.

وعبد الله بن الحسن بن الحصين

ابن أبي الحسن البصري، قاضي البصرة بعد سوار.

سمع: خالدا الحذاء، وداود بن أبي هند، وسعيدا الجريري.

وروى عنه: ابن مهدي.

وكان ثقة فقيها له اختيارات تعزى إليه غريبة في الأصول والفروع، وقد سئل عن مسألة فأخطأ في الجواب فقال له قائل: الحكم فيها كذا وكذا.

فأطرق ساعة ثم قال: إذا أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنبا في الحق أحب إليّ من أن أكون رأسا في الباطل.

توفي في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: بعد ذلك بعشر سنين، فالله أعلم.

غوث بن سليمان بن زياد بن ربيعة، أبو يحيى الجرمي، قاضي مصر، كان من خيار الحكام، ولي الديار المصرية ثلاث مرات في أيام المنصور والمهدي.

وفليح بن سليمان، وقيس بن الربيع في قول، ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة بن مالك، أبو اليسر العقيلي، قاضي الجانب الشرقي من بغداد للمهدي، هو وعافية بن يزيد.

وكان يقال لابن علاثة: قاضي الجن، لأنه كانت بئر يصاب من أخذ منها شيئا فقال: أيها الجن ! إنا حكمنا أن لكم الليل ولنا النهار.

فكان من أخذ منها شيئا في النهار لم يصبه شيء.

قال ابن معين: كان ثقة.

وقال البخاري: في حفظه شيء.

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

[عدل]

فيها في المحرم منها: توفي المهدي بن المنصور بمكان يقال له: ما سبذان، بالحمى، وقيل: مسموما، وقيل: عضه فرس فمات.

وهذه ترجمته المهدي بن المنصور

[عدل]

هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المهدي، أمير المؤمنين، وإنما لقب بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الأحاديث فلم يكن به، وإن اشتركا في الاسم فقد افترقا في الفعل، ذاك يأتي في آخر الزمان عند فساد الدنيا فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما.

وقد قيل: إن في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق كما سيأتي ذلك في أحاديث الفتن والملاحم.

وقد جاء في حديث من طريق عثمان بن عفان: أن المهدي من بني العباس، وجاء موقوفا على ابن عباس وكعب الأحبار ولا يصح، وبتقدير صحة ذلك لا يلزم أن يكون على التعيين، وقد ورد في حديث أخر أن المهدي من ولد فاطمة فهو يعارض هذا، والله أعلم.

وأم المهدي بن المنصور أم موسى بنت منصور بن عبد الله الحميري.

وروى عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس: «أن رسول الله جهر ببسم الله الرحمن الرحيم».

رواه عنه: يحيى بن حمزة النهشلي قاضي دمشق، وذكر أنه صلى خلف المهدي حين قدم دمشق فجهر في السورتين بالبسملة، وأسند ذلك عن رسول الله ، ورواه غير واحد عن يحيى بن حمزة، ورواه المهدي، عن المبارك بن فضالة، ورواه عنه أيضا جعفر بن سليمان الضبعي، ومحمد بن عبد الله الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن مهدي.

وكان مولد المهدي في سنة ست أو سبع وعشرين ومائة، أو في سنة إحدى وعشرين ومائة ولي الخلافة بعد موت أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة، ولد بالحميمة من أرض البلقاء، وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني: سنة تسع وستين ومائة عن ثلاث أو ثمان وأربعين سنة، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وبعض شهر.

وكان أسمر طويلا جعد الشعر، على إحدى عينيه نكتة بيضاء، قيل: على عينه اليمنى، وقيل: اليسرى.

قال الربيع الحاجب: رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهوٍ له عليه ثياب حسنة، فما أدري هو أحسن أم القمر، أم بهوه، أم ثيابه.

فقرأ: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22] الآية.

ثم أمرني فأحضرت رجلا من أقاربه كان مسجونا فأطلقه.

ولما جاء خبر موت أبيه بمكة كما تقدم، كتم الأمر يومين ثم نودي في الناس يوم الخميس الصلاة جامعة، فقام فيهم خطيبا فأعلمهم بموت أبيه وقال: إن أمير المؤمنين دعي فأجاب فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وأستعينه على خلافة المسلمين.

ثم بايعه الناس بالخلافة يومئذ.

وقد عزاه أبو دلامة وهنأه في قصيدة له يقول فيها:

عيناي واحدة ترى مسرورة * بأميرها جذلا وأخرى تذرف

تبكي وتضحك تارة ويسؤها * ما أنكرت ويسرها ما تعرف

فيسؤها موت الخليفة محرما * ويسرها أن قام هذا الأرأف

ما أن رأيت كما رأيت ولا أرى * شعرا أرجله وآخر ينتف

هلك الخليفة يال أمة أحمد * وأتاكم من بعده من يخلف

أهدى لهذا الله فضل خلافة * ولذاك جنات النعيم تزخرف

وقد قال المهدي يوما في خطبة: أيها الناس ! أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافية، وتحمدوا العاقبة، واحفظوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم، ويطوي ثوب الإصر عنكم.

وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله، مقدما ذلك على فعل من تقدمه، والله لأعفين عمري من عقوبتكم، ولأحملن نفسي على الإحسان إليكم.

قال: فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه.

ثم استخرج حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة، ففرقها في الناس، ولم يعط أهله ومواليه منها شيئا، بل أجرى لهم أرزاقا بحسب كفايتهم من بيت المال، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الأعطيات.

وقد كان أبوه حريصا على توفير بيت المال، وإنما كان ينفق في السنة ألفي درهم من مال السراة.

وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولها، وبنى مدنا ذكرناها فيما تقدم.

وذكر له عن شريك بن عبد الله القاضي أنه لا يرى الصلاة خلفه، فأحضره فتكلم معه ثم قال له المهدي في جملة كلامه: يا ابن الزانية !

فقال له شريك: مه مه يا أمير المؤمنين ! فلقد كانت صوامة قوامة.

فقال له: يا زنديق ! لأقتلنك.

فضحك شريك، فقال: يا أمير المؤمنين ! إن للزنادقة علامات وذكروا أنه هاجت ريح شديدة، فدخل المهدي بيتا في داره فألزق خده بالتراب وقال: اللهم إن كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي الأعداء من أهل الأديان.

فلم يزل كذلك حتى انجلت.

ودخل عليه رجل يوما ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله قد أهديتها لك.

فقال: هاتها، فناوله إياها، فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم.

فلما انصرف الرجل قال المهدي: والله إني لأعلم أن رسول الله لم ير هذه النعل، فضلا عن أن يلبسها، ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله فردها عليَّ، فتصدقه الناس، لأن العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي وإن كان ظالما، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح وأصلح.

واشتهر عنه أنه كان يحب اللعب بالحمام والسباق بينها، فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث أبي هريرة: «لا سبق إلا في خف أو نعل أو حافر».

وزاد في الحديث: «أو جناح». فأمر له بعشرة آلاف.

ولما خرج قال: والله إني أعلم أن عتابا كذب على رسول الله ثم أمر بالحمام فذبح ولم يذكر عتابا بعدها.

وقال الواقدي: دخلت على المهدي يوما فحدثته بأحاديث فكتبها عني ثم قام فدخل بيوت نسائه ثم خرج وهو ممتلئ غيظا فقلت: مالك يا أمير المؤمنين ؟

فقال: دخلت على الخيزران فقامت إليّ ومزقت ثوبي.

وقالت: ما رأيت منك خيرا، وإني والله يا واقدي إنما اشتريتها من نخاس، وقد نالت عندي ما نالت، وقد بايعت لولديها بأمرة المؤمنين من بعدي.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! إن رسول الله قال: «إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام».

وقال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله، وقد خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته».

وحدثته في هذا الباب بكلام حضرني.

فأمر لي بألفي دينار، فلما وافيت المنزل إذا رسول الخيزران قد لحقني بألفي دينار إلا عشرة دنانير، وإذا معه أثواب أخر، وبعثت تشكرني وتثني عليَّ معروفا.

وذكروا أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به مائة ألف، فدخل الرجل بغداد متنكرا فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى: هذا طلبة أمير المؤمنين.

وجعل الرجل يريد أن ينفلت منه فلا يقدر، فبينا هما يتجاذبان وقد اجتمع الناس عليهما، إذ مر أمير في موكبه - وهو: معن بن زائدة - فقال الرجل: يا أبا الوليد ! خائف مستجير.

فقال معن: ويلك مالك وله ؟

فقال: هذا طلبة أمير المؤمنين، جعل لمن جاء به مائة ألف.

قال معن: أما علمت أني قد أجرته؟ أرسله من يدك.

ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله، وانطلق ذلك الرجل إلى باب الخليفة وأنهى إليهم الخبر، فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل عليه فسلم ولم يرد عليه السلام، وقال: يا معن ! أبلغ من أمرك أن تجير عليَّ ؟

قال: نعم.

قال: ونعم أيضا !

قال: نعم ! قد قتلت في دولتكم أربعة آلاف مصل فلا يجار لي رجل واحد ؟

فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال: وقد أجرنا من أجرت يا معن.

فقال: يا أمير المؤمنين ! إن الرجل ضعيف، فأمر له بثلاثين ألفا.

فقال: إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية.

فأمر له بمائة ألف، فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل، فقال له معن: خذ المال وادع لأمير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل.

وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين ! مر هؤلاء فلينتظروني حتى أتوضأ - يعني: المؤذنين - فأمرهم بانتظاره، ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا الأعرابي قد جاء، فكّبر، فتعجب الناس من سماحة أخلاقه.

وقدم أعرابي ومعه كتاب مختوم فجعل يقول: هذا كتاب أمير المؤمنين إليّ، أين الرجل الذي يقال له: الربيع الحاجب ؟

فأخذ الكتاب وجاء به إلى الخليفة وأوقف الأعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة ضعيفة، والأعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة، فتبسم المهدي وقال: صدق الأعرابي، هذا خطي، إني خرجت يوما إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل فتعوذت بتعويذ رسول الله فرفع لي نار من بعيد فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان نارا، فسلمت عليهما فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني مذقة من لبن مشوب بماء، فما شربت شيئا إلا وهي أطيب منه، ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أني نمت أحلى منها.

فقام إلى شويهة له فذبحها فسمعت امرأته تقول له: عمدت إلى مكسبك ومعيشة أولادك فذبحتها، هلكت نفسك وعيالك.

فما التفت إليها، واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له: أعندك شيء أكتب لك فيه كتابا ؟

فأتاني بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك الرماد خمسمائة ألف، وإنما أردت خمسين ألفا، والله لأنفذنها له كلها ولو لم يكن في بيت المال سواها.

فأمر له بخمسمائة ألف فقبضها الأعرابي واستمر مقيما في ذلك الموضع في طريق الحاج من ناحية الأنبار، فجعل يقري الضيف ومن مر به من الناس، فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي.

وعن سوار - صاحب رحبة سوار - قال: انصرفت يوما من عند المهدي فجئت منزلي فوضع لي الغداء فلم تقبل نفسي عليه، فدخلت خلوتي لأنام في القائلة فلم يأخذني نوم، فاستدعيت بعض حظاياي لأتلهى بها فلم تنبسط نفسي إليها، فنهضت فخرجت من المنزل وركبت بغلتي فما جاوزت الدار إلا قليلا حتى لقيني رجل ومعه ألفا درهم، فقلت: من أين هذه ؟

فقال: من ملكك الجديد.

فاستصحبته معي وسرت في أزقة بغداد لأتشاغل عما أنا فيه من الضجر، فحانت صلاة العصر عند مسجد في بعض الحارات، فنزلت لأصلي فيه، فلما قضيت الصلاة إذا برجل أعمى قد أخذ بثيابي فقال: إن لي إليك حاجة.

فقلت: وما حاجتك ؟

فقال: إني رجل ضرير ولكنني لما شممت رائحة طيبك ظننت أنك من أهل النعمة والثروة، فأحببت أن أفضي إليك بحاجتي.

فقلت: وما هي ؟

فقال: إن هذا القصر الذي تجاه المسجد كان لأبي فسافر منه إلى خراسان فباعه وأخذني معه وأنا صغير، فافترقنا هناك وأصابني أنا الضرر، فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فجئت إلى صاحب هذا القصر أطلب منه شيئا أتبلغ به لعلي أجتمع بسوار، فإنه كان صاحبا لأبي، فلعله أن يكون عنده سعة يجود منها عليّ.

فقلت: ومن أبوك ؟

فذكر رجلا كان أصحب الناس إليّ، فقلت: إني أنا سوار صاحب أبيك، وقد منعني الله يومك هذا النوم والقرار والأكل والراحة حتى أخرجني من منزلي لأجتمع بك، وأجلسني بين يديك، وأمرت وكيلي فدفع له الألفي الدرهم التي معه.

وقلت له: إذا كان الغد فأت منزلي في مكان كذا وكذا.

وركبت فجئت دار الخلافة وقلت: ما أتحف المهدي الليلة في السمر بأغرب من هذا.

فلما قصصت عليه القصة تعجب من ذلك جدا وأمر لذلك الأعمى بألفي دينار، وقال لي: هل عليك دين ؟

قلت: نعم !

قال: كم ؟

قلت: خمسون ألف دينار.

فسكت وحادثني ساعة ثم لما قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا الحمالون قد سبقوني بخمسين ألف دينار وألفي دينار للأعمى، فانتظرت الأعمى أن يجيء في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسيت عدت إلى المهدي فقال: قد فكرت في أمرك فوجدتك إذا قضيت دينك لم يبقى معك شيء، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.

فلما كان اليوم الثالث جاءني الأعمى فقلت: قد رزقني الله بسببك خيرا كثيرا، ودفعت له الألفي دينار التي من عند الخليفة وزدته ألفي دينار من عندي أيضا.

ووقفت امرأة للمهدي فقالت: يا عصبة رسول الله اقض حاجتي.

فقال المهدي: ما سمعتها من أحد غيرها، اقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم.

ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه فأمر له بخمسين ألف درهم ففرقها ابن الخياط وأنشأ يقول:

أخذت بكفي كفه أبتغي الغنى * ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى * أفدت، وأعداني فبددت ما عندي

قال: فبلغ ذلك المهدي فأعطاه بدل كل درهم دينارا.

وبالجملة فإن للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة، وقد كانت وفاته بماسبذان، كان قد خرج إليها ليبعث إلى ابنه الهادي ليحضر إليه من جرجان حتى يخلعه من ولاية العهد ويجعله بعد هارون الرشيد، فامتنع الهادي من ذلك، فركب المهدي إليه قاصدا إحضاره، فلما كان بماسبذان مات بها.

وكان قد رأى في النوم وهو بقصره ببغداد - المسمى: بقصر السلامة - كأن شيخا وقف بباب القصر، ويقال إنه سمع هاتفا يقول:

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه ربعه ومنازله

وصار عميد القوم بعد بهجة * وملك إلى قبر عليه جنادله

ولم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله

فما عاش بعدها إلا عشرا حتى مات.

وروي أنه لما قال له الهاتف:

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وقد درست أعلامه ومنازله

فأجابه المهدي:

كذاك أمور الناس يبلى جديدها * وكل فتى يوما ستبلى فعائله

فقال الهاتف:

تزود من الدنيا فإنك ميت * وإنك مسؤول فما أنت قائله

فأجابه المهدي:

أقول بأن الله حق شهدته * وذلك قول ليس تحصى فضائله

فقال الهاتف:

تزود من الدنيا فإنك راحل * وقد أزف الأمر الذي بك نازل

فأجابه المهدي:

متى ذاك خبرني هديت فإنني * سأفعل ما قد قلت لي وأعاجله

فقال الهاتف:

تلبث ثلاثا بعد عشرين ليلة * إلى منتهى شهر وما أنت كامله

قالوا: فلم يعش بعدها إلا تسعا وعشرين يوما حتى مات رحمه الله تعالى.

وقد ذكر ابن جرير اختلافا في سبب موته، فقيل: إنه ساق خلف ظبي والكلاب بين يديه فدخل الظبي إلى خربة فدخلت الكلاب وراءه وجاء الفرس فحمل بمشواره فدخل الخربة فكسر ظهره، وكانت وفاته بسبب ذلك.

وقيل: إن بعض حظاياه بعثت إلى أخرى لبنا مسموما فمر الرسول بالمهدي فأكل منه فمات.

وقيل: بل بعثت إليها بصينية فيها الكمثري وفي أعلاها واحدة كبيرة مسمومة وكان المهدي يعجبه الكمثري، فمرت به الجارية ومعها تلك الصينية فأخذ التي في أعلاها فأكلها فمات من ساعته، فجعلت الحظية تندبه وتقول: وا أمير المؤمنيناه، أردت أن يكون لي وحدي فقتلته بيدي.

وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة - أعني: سنة تسع وستين ومائة - وله من العمر ثلاث وأربعون سنة على المشهور، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وكسورا، ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة قد ذكرها ابن جرير وابن عساكر.

وفيها: توفي عبيد الله بن إياد، ونافع بن عمر الجمحي، ونافع بن أبي نعيم القارئ.

خلافة موسى الهادي بن المهدي

[عدل]

توفي أبوه في المحرم من أول سنة تسع وستين ومائة وكان ولي العهد من بعد أبيه، وكان أبوه قد عزم قبل موته على تقديم أخيه الرشيد عليه في ولاية العهد، فلم يتفق ذلك حتى مات المهدي بماسبذان.

وكان الهادي إذ ذاك بجرجان، فهمَّ بعض الدولة منهم: الربيع الحاجب، وطائفة من القواد على تقديم الرشيد عليه والمبايعة له، وكان الرشيد حاضرا ببغداد، عزموا على النفقة على الجند لذلك تنفيذا لما رآه المهدي من ذلك.

فأسرع الهادي السير من جرجان إلى بغداد حين بلغه الخبر، فساق منها إليها في عشرين يوما، فدخل بغداد وقام في الناس خطيبا، وأخذ البيعة منهم فبايعوه، وتغيب الربيع الحاجب فتطلبه الهادي حتى حضر بين يديه، فعفا عنه وأحسن إليه وأقرّه على حجوبيته، وزاده الوزراء وولايات أخر.

وشرع الهادي في تطلب الزنادقة من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة، واقتدى في ذلك بأبيه، وقد كان موسى الهادي من أفكه الناس مع أصحابه في الخلوة، فإذا جلس في مقام الخلافة كانوا لا يستطيعون النظر إليه، لما يعلوه من المهابة والرياسة، وكان شابا حسنا وقورا مهيبا.

وفيها: - أعني: سنة تسع وستين ومائة - خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذلك أنه أصبح يوما وقد لبس البياض وجلس في المسجد النبوي، وجاء الناس إلى الصلاة فلما رأوه ولوا راجعين، والتف عليه جماعة فبايعوه على الكتاب والسنة والرضى من أهل البيت.

وكان سبب خروجه أن متوليها خرج منها إلى بغداد ليهنئ الخليفة بالولاية ويعزيه في أبيه.

ثم جرت أمور اقتضت خروجه، والتف عليه جماعة وجعلوا مأواهم المسجد النبوي، ومنعوا الناس من الصلاة فيه، ولم يجبه أهل المدينة إلى ما أراده، بل جعلوا يدعون عليه لانتهاكه المسجد، حتى ذكر أنهم كانوا يقذرون في جنبات المسجد، وقد اقتتلوا مع المسودة مرات فقتل من هؤلاء وهؤلاء.

ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج، فبعث إليه الهادي جيشا فقاتلوه بعد فراغ الناس من الموسم فقتلوه وقتلوا طائفة من أصحابه، وهرب بقيتهم وتفرقوا شذر مذر.

فكان مدة خروجه إلى أن قتل تسعة أشهر وثمانية عشر يوما، وقد كان كريما من أجود الناس.

دخل يوما على المهدي فأطلق له أربعين ألف دينار ففرقها في أهله وأصدقائه من أهل بغداد والكوفة، ثم خرج من الكوفة وما عليه قميص، إنما كان عليه فروة وليس تحتها قميص.

وفيها: حج بالناس سليمان بن أبي جعفر عم الخليفة.

وغزا الصائفة من طريق درب الراهب معتوق بن يحيى في جحفل كثيف، وقد أقبلت الروم مع بطريقها فبلغوا الحدث.

وفيها توفي: الحسن بن علي بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، قتل في أيام التشريق كما تقدم.

والربيع بن يونس

[عدل]

الحاجب مولى المنصور، وكان حاجبه ووزيره، وقد وزر للمهدي والهادي، وكان بعضهم يطعن في نسبه.

وقد أورد الخطيب في ترجمته حديثا من طريقه ولكنه منكر، وفي صحته عنه نظر.

وقد ولي الحجوبية بعده ولده الفضل بن الربيع، ولاه إياها الهادي.

ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية

[عدل]

وفيها: عزم الهادي على خلع أخيه هارون الرشيد من الخلافة وولاية العهد لابنه جعفر بن الهادي فانقاد هارون لذلك ولم يظهر منازعة بل أجاب، واستدعى الهادي جماعة من الأمراء فأجابوه إلى ذلك، وأبت ذلك أمهما الخيزران، وكانت تميل إلى ابنها هارون أكثر من موسى، وكان الهادي قد منعها من التصرف في شيء من المملكة لذلك، بعدما كانت قد استحوذت عليه في أول ولايته، وانقلبت الدول إلى بابها والأمراء إلى جانبها.

فحلف الهادي لئن عاد أمير إلى بابها ليضربن عنقه ولا يقبل منه شفاعة، فامتنعت من الكلام في ذلك، وحلفت لا تكلمه أبدا، وانتقلت عنه إلى منزل آخر.

وألح هو على أخيه هارون في الخلع وبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك - وكان من أكابر الأمراء الذين هم في صف الرشيد - فقال له: ماذا ترى فيما أريد من خلع هارون وتولية ابني جعفر ؟

فقال له خالد: إني أخشى أن تهون الأيمان على الناس، ولكن المصلحة تقتضي أن تجعل جعفرا ولي العهد من بعد هارون، وأيضا فأني أخشى أن لا يجيب أكثر الناس إلى البيعة لجعفر، لأنه دون البلوغ، فيتفاقم الأمر ويختلف الناس.

فأطرق مليا - وكان ذلك ليلا - ثم أمر بسجنه ثم أطلقه.

وجاء يوما إليه أخوه هارون الرشيد فجلس عن يمنيه بعيدا، فجعل الهادي ينظر إليه مليا ثم قال: يا هارون ! تطمع أن تكون وليا للعهد حقا ؟

فقال: إي والله، ولئن كان ذلك لأصلن من قطعت، ولأنصفن من ظلمت، ولأزوجن بنيك من بناتي.

فقال: ذاك الظن بك.

فقام إليه هارون ليقبل يده فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه، ثم أمر له بألف ألف دينار، وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد، وإذا جاء الخراج دفع إليه نصفه.

ففعل ذلك كله ورضي الهادي عن الرشيد.

ثم سافر الهادي إلى حديثة الموصل بعد الصلح، ثم عاد منها فمات بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول، وقيل: لآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت خلافته ستة أشهر وثلاثة وعشرون يوما.

وكان طويلا جميلا، أبيض، بشفته العليا تقلص.

وقد توفي هذه الليلة: خليفة وهو الهادي، وولي خليفة وهو الرشيد، وولد خليفة وهو المأمون بن الرشيد.

وقد قالت الخيزران أمهما في أول الليل: إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت خليفة ويولى خليفة.

يقال: إنها سمعت ذلك من الأوزاعي قبل ذلك بمدة، وقد سرها ذلك جدا.

ويقال: إنها سمت ولدها الهادي خوفا منه على ابنها الرشيد، ولأنه كان قد أبعدها وأقصاها وقرب حظيته خالصة وأدناها، فالله أعلم.

وهذا ذكر شيء من ترجمة الهادي

[عدل]

هو: موسى بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو محمد الهادي.

ولي الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة.

ومات في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث، وقيل: أربع، وقيل: ست وعشرون سنة، والصحيح الأول.

ويقال: إنه لم يل الخلافة أحد قبله في سنه، وكان حسنا جميلا طويلا، أبيض، وكان قوي البأس يثب على الدابة وعليه درعان، وكان أبوه يسميه: ريحانتي.

ذكر عيسى بن دأب قال: كنت يوما عند الهادي إذ جيء بطست فيه رأس جاريتين قد ذبحا وقطعا، لم أر أحسن صورا منهما، ولا مثل شعورهما، وفي شعورهما اللآلئ والجواهر منضدة، ولا رأيت مثل طيب ريحهما.

فقال لنا الخليفة: أتدرون ما شأن هاتين ؟

قلت: لا.

فقال: إنه ذكر أنه تركب إحداهما الأخرى يفعلان الفاحشة، فأمرت الخادم فرصدهما ثم جاءني فقال: إنهما مجتمعتان، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد وهما على الفاحشة، فأمرت بحز رقابهما.

ثم أمر برفع رؤوسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الأول كأنه لم يصنع شيئا.

وكان شهما خبيرا بالملك كريما، ومن كلامه: ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات، ليقل الطمع عن الملك.

وغضب يوما من رجل فاسترضى عنه فرضي، فشرع الرجل يعتذر فقال الهادي: إن الرضا كفاك مؤنة الاعتذار.

وعزى رجلا في ولده فقال له: سرك وهو عدو وفتنة، وساءك وهو صلاة ورحمة.

وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة له منها قوله:

تشابه يوما بأسه ونواله * فما أحد يدري لأيهما الفضل

فقال له الهادي: أيما أحب إليك؟ ثلاثون ألفا معجلة أو مائة ألف تدور في الدواوين ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! أو أحسن من ذلك ؟

قال: ما هو ؟

قال: تكون ألفا معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين.

فقال الهادي: أو أحسن من ذلك، نعجل الجميع لك.

فأمر له بمائة ألف وثلاثين ألفا معجلة.

قال الخطيب البغدادي: حدثني الأزهري، ثنا سهل بن أحمد الديباجي، ثنا الصولي، ثنا الغلابي، حدثني محمد بن عبد الرحمن التيمي المكي، حدثني المطلب بن عكاشة المزني، قال: قدمنا على أبي محمد الهادي شهودا على رجل منا أنه شتم قريشا وتخطى إلى رسول الله ، فجلس لنا مجلسا أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ومن كان بالحضرة على بابه، وأحضر الرجل وأحضرنا فشهدنا عليه بما سمعنا منه.

فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه ثم قال: إني سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، قال: من أهان قريشا أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن آذيت قريشا حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله ؟

اضربوا عنقه، فما برحنا حتى قتل.

توفي الهادي في ربيع الأول من هذه السنة، وصلى عليه أخوه هارون، ودفن في قصر بناه وسماه: الأبيض بعيساباذ من الجانب الشرقي من بغداد، وكان له من الولد تسعة: سبعة ذكور وابنتان، فالذكور: جعفر، وعباس، وعبد الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى الأعمى، الذي ولد بعد وفاته فسمي باسم أبيه.

والبنتان هما: أم عيسى التي تزوجها المأمون، وأم العباس تلقب: توبة.

خلافة هارون الرشيد بن المهدي

[عدل]

بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه، وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة، فبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك فأخرجه من السجن، وقد كان الهادي عزم تلك الليلة على قتله وقتل هارون الرشيد، وكان الرشيد ابنه من الرضاعة، فولاه حينئذ الوزارة، وولى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الإنشاء.

وكان هو الذي قام خطيبا بين يديه حتى أخذت البيعة له على المنبر بعيساباذ.

ويقال: إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى خالد بن برمك إلى الرشيد فوجده نائما فقال: قم يا أمير المؤمنين.

فقال له الرشيد: كم تروعني، لو سمعك هذا الرجل لكان ذلك أكبر ذنوبي عنده ؟

فقال: قد مات الرجل.

فجلس هارون فقال: أشر عليّ في الولايات، فجعل يذكر ولايات الأقاليم لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال: أبشر يا أمير المؤمنين فقد ولد لك الساعة غلام.

فقال: هو عبد الله وهو المأمون.

ثم أصبح فصلى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلف لا يصلي الظهر إلا ببغداد.

فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد لأنه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة: اصبر وقف حتى يجوز ولي العهد.

فقال الرشيد: السمع والطاعة للأمير.

فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسورا ذليلا.

فلما ولي أمر بضرب عنق أبي عصمة، ثم سار إلى بغداد.

فلما انتهى إلى جسر بغداد استدعى بالغواصين فقال: إني سقط مني ههنا خاتم كان والدي المهدي قد اشتراه لي بمائة ألف، فلما كان من أيام بعث إلى الهادي يطلبه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا.

فغاص الغواصون وراءه فوجدوه فسرّ به الرشيد سرورا كثيرا.

ولما ولى الرشيد يحيى بن خالد الوزارة قال له: قد فوضت إليك أمر الرعية وخلعت ذلك من عنقي وجعلته في عنقك، فول من رأيت واعزل من رأيت.

ففي ذلك يقول إبراهيم بن الموصلي:

ألم تر أن الشمس كانت سقيمة * فلما ولي هارون أشرق نورها

بيمن أمين الله هارون ذي الندي * فهارون واليها ويحيى وزيرها

ثم إن هارون أمر يحيى بن خالد أن لا يقطع أمرا بمشاورة والدته الخيزران.

فكانت هي المشاورة في الأمور كلها، فتبرم وتحل وتمضي وتحكم.

وفيها: أمر الرشيد بسهم ذوي القربى أن يقسم بين بني هاشم على السواء.

وفيها: تتبع الرشيد خلقا من الزنادقة فقتل منهم طائفة كثيرة.

وفيها: خرج عليه بعض أهل البيت.

وفيها: ولد الأمين محمد بن الرشيد بن زبيدة.

وذلك يوم الجمعة لست عشرة خلت من شوال من هذه السنة.

وفيها: كمل بناء مدينة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس.

وفيها: حج بالناس أمير المؤمنين الرشيد، وأعطى أهل الحرمين أموالا كثيرةً، ويقال: إنه غزا في هذه السنة أيضا.

وفي ذلك يقول داود بن رزين الشاعر:

بهارون لاح النور في كل بلدة * وقام به في عدل سيرته النهج

إمام بذات الله أصبح شغله * وأكثر ما يعني به الغزو والحج

تضيق عيون الناس عن نور وجهه * إذا ما بدا للناس منظره البلج

وإن أمين الله هارون ذا الندا * ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو

وغزا الصائفة فيها: سليمان بن عبد الله البكائي.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

الخليل بن أحمد بن عمرو

[عدل]

ابن تميم، أبو عبد الرحمن الفراهيدي، ويقال: الفرهودي الأزدي، شيخ النحاة، وعنه أخذ: سيبويه، والنضر بن شميل، وغير واحد من أكابرهم.

وهو الذي اخترع علم العروض، قسمه إلى خمس دوائر وفرعه إلى خمسة عشر بحرا، وزاد الأخفش فيه بحرا آخر وهو: الخبب، وقد قال بعض الشعراء:

قد كان شعر الورى صحيحا * من قبل أن يخلق الخليل

وقد كان له معرفة بعلم النغم، وله فيه تصنيف أيضا، وله كتاب العين في اللغة، ابتدأه وأكمله النضر بن شميل وأضرابه من أصحاب الخليل، كمؤرج السدوسي، ونصر بن علي الجهضمي، فلم يناسبوا ما وضعه الخليل.

وقد وضع ابن درستويه كتابا وصف فيه ما وقع لهم من الخلل فأفاد.

وقد كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا، وكان متقللا من الدنيا جدا، صبورا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: لا يجاوز همي ما وراء بابي، وكان ظريفا حسن الخلق.

وذكر أنه اشتغل رجل عليه في العروض وكان بعيد الذهن فيه قال: فقلت له يوما: كيف تقطع هذا البيت ؟

إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع

فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض من عندي فلم يعد إليّ، وكأنه فهم ما أشرت إليه.

ويقال: إنه لم يسم أحد بعد النبي بأحمد سوى أبيه، وروى ذلك عن أحمد بن أبي خيثمة، والله أعلم.

ولد الخليل سنة مائة من الهجرة، ومات بالبصرة سنة سبعين ومائة على المشهور، وقيل: سنة ستين، وزعم ابن الجوزي في كتابه شذور العقود أنه توفي سنة ثلاثين ومائة، وهذا غريب جدا والمشهور الأول.

وفيها: توفي الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم، المصري المؤدب راوية الشافعي، وآخر من روى عنه.

وكان رجلا صالحا تفرس فيه الشافعي وفي البويطي والمزني وابن عبد الحكم العلم فوافق ذلك ما وقع في نفس الأمر، ومن شعر الربيع هذا:

صبرا جميلا ما أسرع الفرجا * من صدق الله في الأمور نجا

من خشي الله لم ينله أذى * ومن رجا الله كان حيث رجا

فأما الربيع بن سليمان بن داود الجيزي فإنه روى عن الشافعي أيضا.

وقد مات في سنة ست وخمسين ومائتين، والله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: أضاف الرشيد الخاتم إلى يحيى بن خالد مع الوزارة.

وفيها: قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ نائب الجزيرة صبرا في قصر الخلد بين يديه.

وفيها: خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتل.

وفيها: قدم روح بن حاتم نائب إفريقية.

وفيها: خرجت الخيزران إلى مكة فأقامت بها إلى أن شهدت الحج، وكان الذي حج بالناس فيها عبد الصمد بن علي عم الخلفاء.

ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: وضع الرشيد عن أهل العراق العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.

وفيها: خرج الرشيد من بغداد يرتاد له موضعا يسكنه غير بغداد فتشوش فرجع.

وفيها: حج بالناس يعقوب بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.

وفيها: غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: توفي بالبصرة محمد بن سليمان فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء، فوجدوا من ذلك شيئا كثيرا من الذهب والفضة والأمتعة وغير ذلك، فنضدوه ليستعان به على الحرب وعلى مصالح المسلمين.

وهو: محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه أم حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي، وكان من رجالات قريش وشجعانهم.

جمع له المنصور بين البصرة والكوفة وزوجه المهدي ابنته العباسة، وكان له من الأموال شيء كثير، كان دخله في كل يوم مائة ألف.

وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله.

وروى الحديث عن أبيه عن جده الأكبر، وهو حديث مرفوع في مسح رأس اليتيم إلى مقدم رأسه، ومسح رأس من له أب إلى مؤخر رأسه.

وقد وفد على الرشيد فهناه بالخلافة فأكرمه وعظمه وزاده في عمل شيئا كثيرا.

ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذا.

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة، وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف، خارجا عن الأملاك.

وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد، وقد وقفت جارية من جواريه على قبره فأنشأت تقول:

أمسى التراب لمن هويت مبيتا * القَ التراب فقل له حييتا

إنا نحبك يا تراب وما بنا * إلا كرامة من عليه حثيتا

وفيها: توفيت الخيزران جارية المهدي وأم أمير المؤمنين الهادي والرشيد، اشتراها المهدي وحظيت عنده جدا ثم أعتقها وتزوجها ولدت له خليفتين: موسى الهادي، والرشيد.

ولم يتفق هذا لغيرها من النساء إلا الولادة بنت العباس العبسية، زوجة عبد الملك بن مروان، وهي: أم الوليد، وسليمان.

وكذلك لشاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد، ولدت لمولاها الوليد بن عبد الملك: يزيد، وإبراهيم. وكلاهما ولي الخلافة.

وقد روي من طريق الخيزران، عن مولاها المهدي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، عن النبي قال: «من اتقى الله وقاه كل شيء».

ولما عرضت الخيزران على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة في ساقيها، فقال لها: يا جارية ! إنك لعلى غاية المنى والجمال لولا دقة ساقيك وخموشهما.

فقالت: يا أمير المؤمنين ! إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما فاستحسن جوابها واشتراها وحظيت عنده جدا.

وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها ويتشوق إليها بهذا الشعر:

نحن في غاية السرور ولكن * ليس إلا بكم يتم السرور

عيب ما نحن فيه يا أهل ودي * أنكم غيب ونحن حضور

فأجدوا في السير بل إن قدرتم * أن تطيروا مع الرياح فطيروا

فأجابته أو أمرت من أجابه:

قد أتانا الذي وصفت من الشو * ق فكدنا وما قدرنا نطير

ليت أن الرياح كن يؤدين * إليكم ما قد يكنّ الضمير

لم أزل صبة فإن كنت بعدي * في سرور فدام ذاك السرور

وذكروا أنه أهدى إليها محمد بن سليمان نائب البصرة الذي مات في اليوم الذي ماتت فيه مائة وصيفة، مع كل وصيفة جام من فضة مملوء مسكا.

فكتبت إليه: إن كان ما بعثته ثمنا عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما بعثت، وقد بخستنا في الثمن، وإن كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني في المودة. وردت ذلك عليه.

وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران، فزادتها في المسجد الحرام.

وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفا، واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة.

وخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين.

فلما انتهى إلى المقبرة أتي بماء فغسل رجليه ولبس خفا وصلى عليها، ونزل لحدها.

فلما خرج من القبر أتي بسرير فجلس عليه واستدعى بالفضل بن الربيع فولاه الخانم والنفقات.

وأنشد الرشيد قول ابن نويرة حين دفن أمه الخيزران:

وكنا كندماني جذيمة برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وفيها توفيت:

غادر

[عدل]

جارية كانت لموسى الهادي، كان يحبها حبا شديدا جدا، وكانت تحسن الغناء جدا، فبينما هي يوما تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها وتغير لونه، فسأله بعض الحاضرين: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟

فقال: أخذتني فكرة أني أموت وأخي هارون يتولى الخلافة بعدي ويتزوج جاريتي هذه.

ففداه الحاضرون ودعوا له بطول العمر.

ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فعوذه الرشيد من ذلك، فاستحلفه الهادي بالأيمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشيا حافيا أن لا يتزوجها، فحلف له واستحلف الجارية كذلك فحلفت له، فلم يكن إلا أقل من شهرين حتى مات، ثم خطبها الرشيد فقالت: كيف بالأيمان التي حلفناها أنا وأنت ؟

فقال: إني أكفر عني وعنك.

فتزوجها وحظيت عنده جدا، حتى كانت تنام في حجره فلا يتحرك خشية أن يزعجها.

فبينما هي ذات ليلة نائمة إذا انتبهت مذعورة تبكي فقال لها: ما شأنك ؟

فقالت: يا أمير المؤمنين ! رأيت الهادي في منامي هذا وهو يقول:

أخلفت عهدي بعد ما * جاورت سكان المقابر

ونسيتي وحنثت في * أيمانك الكذب الفواجر

ونكحت غادرة أخي * صدق الذي سماك غادر

أمسيت في أهل البلى * وعددت في الموتى الغوابر

لا يهنك الألف الجديـ * ـد ولا تدر عنك الدوائر

ولحقت بي قبل الصبا * ح وصرت حيث غدوت صائر

فقال لها الرشيد: أضغاث أحلام.

فقالت: كلا والله يا أمير المؤمنين، فكأنما كتبت هذه الأبيات في قلبي.

ثم ما زالت ترتعد وتضطرب حتى ماتت قبل الصباح.

وفيها ماتت: هيلانة جارية الرشيد، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها: هي لانه.

قال الأصمعي: وكان لها محبا، وكانت قبله لخالد بن يحيى بن برمك، فدخل الرشيد يوما منزله قبل الخلافة فاعترضته في طريقه وقالت: أما لنا منك نصيب ؟

فقال: وكيف السبيل إلى ذلك ؟

فقالت: استوهبني من هذا الشيخ.

فاستوهبها من يحيى بن خالد فوهبها له وحظيت عنده، ومكثت عنده ثلاث سنين ثم توفيت فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها وكان من قوله فيها:

قد قلت لما ضمنوك الثرى * وجالت الحسرة في صدري

أذهب فلاق الله لا سرني * بعدك شيء آخر الدهر

وقال العباس بن الأحنف في موتها:

يا من تباشرت القبور بموتها * قصد الزمان مساءتي فرماك

أبغي الأنيس فما أرى لي مؤنسا * إلا التردد حيث كنت أراك

قال: فأمر له الرشيد بأربعين ألفا، لكل بيت عشرة آلاف، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة من الهجرة

[عدل]

فيها: وقعت عصبية بالشام وتخبيط من أهلها.

وفيها: استقضى الرشيد يوسف بن القاضي أبي يوسف وأبوه حي.

وفيها: غزا الصائفة عبد الملك بن صالح فدخل بلاد الروم.

وفيها: حج بالناس الرشيد، فلما اقترب من مكة بلغه أن فيها وباء فلم يدخل مكة حتى كان وقت الوقوف وقف ثم جاء المزدلفة ثم منى ثم دخل مكة فطاف وسعى ثم ارتحل ولم ينزل بها.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: أخذ الرشيد بولاية العهد من بعده لولده محمد بن زبيدة وسماه: الأمين، وعمره إذ ذاك خمس سنين، فقال في ذلك سلم الخاسر:

قد وفق الله الخليفة إذ بنى * بيت الخلافة للهجان الأزهر

فهو الخليفة عن أبيه وجده * شهدا عليه بمنظر وبمخبر

قد بايع الثقلان في مهد الهدى * لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر

وقد كان الرشيد يتوسم النجابة والرجاحة في عبد الله المأمون، ويقول: والله إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت، وإني لأقدم محمد بن زبيدة وإني لأعلم أنه متبع هواه ولكن لا أستطيع غير ذلك.

ثم أنشأ يقول:

لقد بان وجه الرأي لي غير أنني * غلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكيف يرد الدر في الضرع بعدما * نوزع حتى صار نهبا مقسما

أخاف التواء الأمر بعد استوائه * وأن ينقض الأمر الذي كان أبرما

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح، في قول الواقدي.

وحج بالناس الرشيد.

وفيها: سار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم وتحرك هناك.

وفيها توفي من الأعيان:

شعوانة العابدة الزاهدة

[عدل]

كانت أمة سوداء كثيرة العبادة، روي عنها كلمات حسان، وقد سألها الفضيل بن عياض الدعاء فقالت: أما بينك وبينه ما إن دعوته استجاب لك ؟

فشهق الفضيل ووقع مغشيا عليه.

وفيها توفي:

الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم

[عدل]

قال ابن خلكان: كان مولى قيس بن رفاعة وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي، كان الليث إمام الديار المصرية بلا مدافعة، وولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع وتسعين.

وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة، ونشأ بالديار المصرية.

وقال ابن خلكان: أصله من قلقشندة وضبطه بلامين الثانية متحركة.

وحكي عن بعضهم أنه كان جيد الذهن، وأنه ولي القضاء بمصر فلم يحمدوا ذهنه بعد ذلك، ولد سنة أربع وعشرين ومائة، وذلك غريب جدا.

وذكروا أنه كان يدخله من ملكه في كل سنة خمسة آلاف دينار.

وقال آخرون: كان يدخله من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة، وكان إماما في الفقه والحديث والعربية.

قال الشافعي: كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه.

وبعث إليه مالك يستهديه شيئا من العصفر لأجل جهاز ابنته، فبعث إليه بثلاثين حملا، فاستعمل منه مالك حاجته وباع منه بخمسمائة دينار، وبقيت عنده منه بقية.

وحج مرة فأهدى له مالك طبقا فيه رطب فرد الطبق وفيه ألف دينار.

وكان يهب للرجل من أصحابه من العلماء الألف دينار وما يقارب ذلك.

وكان يخرج إلى الإسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبخه في مركب.

ومناقبه كثيرةٌ جدا.

وحكى ابن خلكان: أنه سمع قائلا يقول يوم مات الليث:

ذهب الليث فلا ليث لكم * ومضى العلم غريبا وقبر

فالتفتوا فلم يروا أحدا.

وفيها توفي:

المنذر بن عبد الله بن المنذر

[عدل]

القرشي، عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فقال: إني عاهدت الله أن لا ألي شيئا، وأعيذ أمير المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي.

فقال له المهدي: الله ؟

قال: الله.

قال: انطلق فقد أعفيتك.

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: كان ظهور يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم، واتبعه خلق كثير وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في خمسين ألفا، وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبرستان وقومس وغير ذلك.

فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة، وكُتُب الرشيد تلحقه مع البرد في كل منزلة، وأنواع التحف والبر، وكَاتَب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه، وأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد.

فامتنع يحيى أن يخرج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده.

فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعا عظيما.

وكتب الأمان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم، منهم: عبد الصمد بن علي، وبعث الأمان وأرسل معه جوائز وتحفا كثيرةً إليهم، ليدفعوا ذلك جميعه إليه.

ففعلوا وسلمه إليه فدخلوا به بغداد، وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء، وخدمه آل برمك خدمة عظيمة، بحيث أن يحيى بن خالد كان يقول: خدمته بنفسي وولدي.

وعظم الفضل عند الرشيد جدا بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسين والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا:

ظفرت فلا شلت يد برمكية * رتقت بها الفتق الذي بين هاشم

على حين أعيا الراتقين التئامه * فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم

فأصبحت قد فازت يداك بخطة * من المجد باق ذكرها في المواسم

وما زال قدح الملك يخرج فائزا * لكم كلما ضمت قداح المساهم

قالوا: ثم إن الرشيد تنكر ليحيى بن عبد الله بن حسن وتغير عليه، ويقال: إنه سجنه ثم استحضره وعنده جماعات من الهاشمين، وأحضر الأمان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن الأمان: أصحيح هو ؟

قال: نعم !

فتغيظ الرشيد عليه.

وقال أبو البختري: ليس هذا الأمان بشيء فأحكم فيه بما شئت، ومزق الأمان.

وبصق فيه أبو البختري، وأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال: هيه هيه، وهو يبتسم تبسم الغضب، وقال: إن الناس يزعمون أنا سممناك.

فقال يحيى: يا أمير المؤمنين ! إن لنا قرابة ورحما وحقا، فعلام تعذبني وتحبسني ؟

فرق له الرشيد، فاعترض بكار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين ! لا يغرنك هذا الكلام من هذا، فإنه عاص شاق، وإنما هذا منه مكر وخبث، وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان.

فقال له يحيى: ومن أنتم عافاكم الله؟ وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا.

ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين ! لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه نحوا من عشرين بيتا، وقال لي: إن تحركت إلى هذا الأمر فأنا من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة وأيدينا معك ؟

قال: فتغير وجه الرشيد ووجه الزبيري وأنكر وشرع يحلف بالأيمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك، وتحير الرشيد.

ثم قال ليحيى: أتحفظ شيئا من المرثية ؟

قال: نعم. وأنشده منها جانبا.

فازداد الزبيري في الإنكار، فقال له يحيى بن عبد الله: فقل: إن كنت كاذبا فقد برئت من حول الله وقوته، ووكلني الله إلى حولي وقوتي.

فامتنع من الحلف بذلك، فعزم عليه الرشيد وتغيظ عليه، فحلف بذلك فما كان إلا أن خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته.

ويقال: إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله.

ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق له مائة ألف دينار، ويقال: إنما حبسه بعض يوم، وقيل: ثلاثة أيام.

وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت المال، وعاش بعد ذلك كله شهرا واحدا ثم مات رحمه الله.

وفيها: وقعت فتنة عظيمة بالشام بين الننزارية وهم: قيس، واليمانية وهم: يمن، وهذا كان أول بدو أمر العشيرتين بحوران، وهم: قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن، وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير.

وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى، وقيل: عبد الصمد بن علي، فالله أعلم.

وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندي بن سهل أحد موالي جعفر المنصور، وقد هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفا من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزي رأس القيسية، وقد كان مزي هذا دميم الخلق.

قال الجاحظ: وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك، ويقول: القول قولهم، ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب.

وقد توفي سنة أربع ومائتين.

فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر الرعية، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

قد هاجت الشام هيجا * يشيب رأس وليده

فصب موسى عليها * بخيله وجنوده

فدانت الشام لما * أتى بسنح وحيده

هذا الجواد الذي بـ * ـذِ كل جود بجوده

أعده جود أبيه * يحيى وجود جدوده

فجاد موسى بن يحيى * بطارف وتليده

ونال موسى ذرى المجـ * ـد وهو حشو مهوده

خصصته بمديحي * منثوره وقصيده

من البرامك عودا * له فأكرم بعوده

حووا على الشعر طرا * خفيفه ومديده

وفيها: عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعي الملقب: بالعروس.

وفيها: ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر، فاستناب عليها جعفر عمر بن مهران، وكان رديء الخلق رديء الشكل زمن الكف أحول، وكان سبب ولايته إياها أن نائبها موسى بن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد، فقال الرشيد: والله لأعزلنه ولأولين عليها أحسن الناس.

فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي.

فسار إليها على بغل وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك فانتهى إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس، فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرف من هو، فقال: ألك حاجة يا شيخ ؟

قال: نعم ! أصلح الله الأمير.

ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال: أنت عمر بن مهران ؟

قال: نعم !

قال: لعن الله فرعون حين قال: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف: 51] .

ثم سلم إليه العمل وارتحل منها، وأقبل عمر بن مهران على عمله، وكان لا يقبل شيئا من الهدايا إلا ما كان ذهبا أو فضة أو قماشا، ثم يكتب على كل هدية اسم مهديها، ثم يطالب بالخراج ويلح في طلبه عليهم، وكان بعضهم يماطله به، فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل.

فجمع من ذلك شيئا كثيرا، وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد، ومن ماطله بعثه إلى بغداد، فتأدب الناس معه.

ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الأداء فجعل يستحضر ما كانوا أدوه إليه من الهدايا، فإن كان نقدا أداه عنهم، وإن كان برا باعه وأداه عنهم.

وقال لهم: إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم.

ثم أكمل استخراج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد من قبله، ثم انصرف عنها لأنه كان قد شرط على الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى الخراج، فذاك إذنه في الانصراف.

ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه، وهو منفذ أموره.

وفيها: غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصنا.

وفيها: حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها، وكان أمير الحج سليمان بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.

وفيها توفي:

إبراهيم بن صالح

[عدل]

ابن علي بن عبد الله بن عباس، كان أميرا على مصر، توفي في شعبان.

وإبراهيم بن هرمة

[عدل]

كان شاعرا، وهو: إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة، أبو إسحاق الفهري المدني، وفد على المنصور في وفد أهل المدينة حين استوفدهم عليه، فجلسوا إلى سترٍ دون المنصور، يرى الناس من ورائه ولا يرونه، وأبو الخصيب الحاجب واقف يقول: يا أمير المؤمنين ! هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب، ويقول: هذا فلان الشاعر فيأمره فينشد.

حتى كان من آخرهم ابن هرمة هذا، فسمعته يقول: لا مرحبا ولا أهلا ولا أنعم الله بك عينا.

قال: فقلت: هلكت.

ثم استنشدني فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

سرى ثوبه عند الصبا المتجابل * وقرب للبين الخليط المزايل

حتى انتهيت إلى قولي:

فأما الذي أمنته يأمن الردى * وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل

قال: فأمر برفع الحجاب فإذا وجهه كأنه فلقة قمر، فاستنشدني بقية القصيدة وأمر لي بالقرب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال: ويحك يا إبراهيم ! لولا ذنوب بلغتني عنك لفضلتك على أصحابك.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! كل ذنب بلغك عني لم تعف عنه فأنا مقر به.

قال: فتناول المخصرة فضربني بها ضربتين وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة وعفا عني وألحقني بنظرائي.

وكان من جملة ما نقم المنصور عليه قوله:

ومهما ألام على حبهم * فإني أحب بني فاطمة

بني بنت من جاء بالمحكما * ت وبالدين وبالسنة القائمة

فلست أبالي بحبي لهم * سواهم من النعم السائمة

قال الأخفش: قال لنا ثعلب: قال الأصمعي: ختمت الشعراء بابن هرمة.

ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرج بن الجوزي.

وفيها: توفي الجراح بن مليح والد وكيع بن الجراح، وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جميل أبو عبد الله المديني، ولي قضاء بغداد سبعة عشر سنة لعسكر المهدي، وثقه ابن معين وغيره.

وفيها توفي:

صالح بن بشير المري

[عدل]

أحد العباد والزهاد، كان كثير البكاء، وكان يعظ فيحضر مجلسه سفيان الثوري وغيره من العلماء.

ويقول سفيان: هذا نذير قوم.

وقد استدعاه المهدي ليحضر عنده فجاء إليه راكبا على حمار فدناه من بساط الخليفة وهو راكب فأمر الخليفة ابنيه - وليي العهد من بعده موسى الهادي وهارون الرشيد - أن يقوما إليه لينزلاه عن دابته، فابتدراه فأنزلاه، فأقبل صالح على نفسه فقال: لقد خبت وخسرت إن أنا داهنت ولم أصدع بالحق في هذا اليوم، وفي هذا المقام.

ثم جلس إلى المهدي فوعظه موعظة بليغة حتى أبكاه، ثم قال له: اعلم أن رسول الله خصم من خالفه في أمته، ومن كان محمد خصمه كان الله خصمه، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججا تضمن لك النجاة، وإلا فاستسلم للهلكة، واعلم أن أبطأ الصرعى نهضة صريع هوى بدعته، واعلم أن الله قاهر فوق عباده، وأن أثبت الناس قدما آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله، وكلام طويل.

فبكى المهدي وأمر بكتابة ذلك الكلام في دواوينه.

وفيها: توفي عبد الملك بن محمد بن محمد بن أبي بكر، عمرو بن حزم قدم قاضيا بالعراق

وفرج بن فضالة التنوخي الحمصي، كان على بيت المال ببغداد في خلافة الرشيد، فتوفي في هذه السنة، وكان مولده سنة ثمان وثمانين فمات وله ثمان وثمانون سنة.

ومن مناقبه أن المنصور دخل يوما إلى قصر الذهب فقام الناس إلا فرج بن فضالة فقال له وقد غضب عليه: لم لم تقم ؟

قال: خفت أن يسألني الله عن ذلك ويسألك لم رضيت بذلك، وقد كره رسول الله القيام للناس.

قال: فبكى المنصور وقربه وقضى حوائجه.

والمسيب بن زهير بن عمرو، أبو سلمة الضبي، كان والي الشرطة ببغداد في أيام المنصور والمهدي والرشيد، وولي خراسان مرة للمهدي.

عاش ستا وتسعين سنة.

والوضاح بن عبد الله، أبو عوانة السري مولاهم، كان من أئمة المشايخ في الرواية.

توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: عزل الرشيد جعفر البرمكي عن مصر وولى عليها إسحاق بن سليمان، وعزل حمزة بن مالك عن خراسان وولى عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافا إلى ما كان بيده من الأعمال بالري وسجستان وغير ذلك.

وذكر الواقدي: أنه أصاب الناس ريح شديدة وظلمة في أواخر المحرم من هذه السنة، وكذلك في أواخر صفر منها.

وفيها حج بالناس: الرشيد.

وفيها توفي:

شريك بن عبد الله

[عدل]

القاضي الكوفي النخعي، سمع أبا إسحاق وغير واحد، وكان مشكورا في حكمه وتنفيذ الأحكام، وكان لا يجلس للحكم حتى يتغدى ثم يخرج ورقة من خفه فينظر فيها ثم يأمر بتقديم الخصومة إليه، فحرص بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة فإذا فيها: يا شريك بن عبد الله ! اذكر الصراط وحدته، يا شريك بن عبد الله ! اذكر الموقف بين يدي الله عز وجل.

كانت وفاته يوم السبت مستهل ذي القعدة منها.

وفيها توفي: عبد الواحد بن زيد، ومحمد بن مسلم وموسى بن أعين.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: وثبت طائفة من الحوفية من قيس وقضاعة على عامل مصر إسحاق بن سليمان فقاتلوه وجرت فتنة عظيمة فبعث الرشيد هرثمة بن أعين نائب فلسطين في خلق من الأمراء مددا لإسحاق، فقاتلوهم حتى أذعنوا بالطاعة وأدّوا ما عليهم من الخراج والوظائف، واستمر هرثمة نائبا على مصر نحوا من شهر عوضا عن إسحاق بن سليمان، ثم عزله الرشيد عنها وولى عليها عبد الملك بن صالح.

وفيها: وثبت طائفة من أهل إفريقية فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم وأخرجوا من كان بها من آل المهلب، فبعث إليهم الرشيد هرثمة فرجعوا إلى الطاعة على يديه.

وفيها: فوض الرشيد أمور الخلافة كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.

وفيها: خرج الوليد بن طريف بالجزيرة وحكم بها وقتل خلقا من أهلها، ثم مضى منها إلى أرمينية فكان من أمره ما سنذكره.

وفيها: سار الفضل بن يحيى إلى خراسان فأحسن السيرة فيها وبنى فيها الربط والمساجد، وغزا ما وراء النهر، واتخذ بها جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم له، وكانوا نحوا من خمسمائة ألف، وبعث منهم نحوا من عشرين ألفا إلى بغداد، فكانوا يعرفونه بها بالكرمينية، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

ما الفضل إلا شهاب لا أفول له * عند الحروب إذا ما تأفل الشهب

حام على ملك قوم غرٌّ سهمهم * من الوراثة في أيديهم سبب

أمست يد لبني ساق الحجيج بها * كتائب ما لها في غيرهم أرب

كتائب لبني العباس قد عرفت * ما ألّف الفضل منها العجم والعرب

أثبت خمس مئين في عدادهم * من الألوف التي أحصت لها الكتب

يقارعون عن القوم الذين هم * أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا

إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق * يبقى على جود كفيه ولا ذهب

ما مر يوم له مذ شد مئزره * إلا تمول أقوام بما يهب

كم غاية في الندى والبأس أحرزها * للطالبين مداها دونها تعب

يعطي النهى حين لا يعطي الجواد ولا * ينبو إذا سلت الهندية القضب

ولا الرضى والرضى لله غايته * إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب

وقد فاض عرفك حتى ما يعادله * غيث ولا بحر له حدب

وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان:

ألم تر أن الجود من يد آدم * تحدر حتى صار في راحة الفضل

إذا ما أبو العباس سحت سماؤه * فيا لك من هطل ويا لك من وبل

وقال فيه أيضا:

إذا أم طفل راعها جوع طفلها * دعته باسم الفضل فاعتصم الطفل

ليحيى بك الإسلام إنك عزه * وإنك من قوم صغيرهم كهل

قال: فأمر له بمائة ألف درهم. ذكره ابن جرير.

وقال سلم الخاسر فيهم أيضا:

وكيف تخاف من بؤس بدار * يجاورها البرامكة البحور

وقوم منهم الفضل بن يحيى * نفير ما يوازنه نفير

له يومان يوم ندى وبأس * كأن الدهر بينهما أسير

إذا ما البرمكي غدا ابن عشر * فهمته أمير أو وزير

وقد اتفق للفضل في هذه السفرة إلى خرسان أشياء غريبة، وفتح بلادا كثيرةً، منها: كابل، وما وراء النهر، وقهر ملك الترك وكان ممتنعا، وأطلق أموالا جزيلةً جدا، ثم أقفل راجعا إلى بغداد، فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس إليه، وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس، فجعل يطلق الألف ألف، والخمسمائة ألف ونحوها، وأنفذ في ذلك من الأحوال شيئا كثيرا لا يمكن حصره إلا بتعب وكلفة، وقد دخل عليه بعض الشعراء والبدر موضوعة بين يديه وهي تفرق على الناس فقال:

كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالد * وجود يديه بخل كل بخيل

فأمر له بمال جزيل.

وغزا الصائفة في هذه السنة: معاوية بن زفير بن عاصم.

وغزا الشاتية: سليمان بن راشد.

وحج بالناس فيها: محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس نائب مكة.

وفيها توفي: جعفر بن سليمان، وعنتر بن القاسم، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، القاضي ببغداد، وصلى عليه الرشيد ودفن بها، وقد قيل: إنه مات في التي قبلها، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة

[عدل]

فيها: كان قدوم الفضل بن يحيى من خراسان وقد استخلف عليها عمر بن جميل، فولى الرشيد عليها منصور بن يزيد بن منصور الحميري.

وفيها: عزل الرشيد خالد بن برمك عن الحجوبة وردها إلى الفضل بن ربيع.

وفيها: خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني، وكان من أمره ما سيأتي طرف منه.

وفيها: رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فراوغه حتى قتله وتفرق أصحابه، فقالت الفارعة في أخيها الوليد بن طريف ترثيه:

أيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحبُّ الزاد إلا من التقى * ولا المال إلا من قنا وسيوف

وفيها: خرج الرشيد معتمرا من بغداد شكرا لله عز وجل، فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشيا، ثم انصرف إلى بغداد على طريق البصرة.

وفيها توفي:

إسماعيل بن محمد

[عدل]

ابن يزيد بن ربيعة، أبو هاشم الحميري، الملقب: بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضيا خبيثا، وشيعيا غثيثا، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة - أي: بالدور -.

قال يوما لرجل: أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا.

فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري.

وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره.

قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما.

وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد أسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا.

ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم.

وفيها توفي:

حماد بن زيد، أحد أئمة الحديث.

وخالد بن عبد الله، أحد الصلحاء، كان من سادات المسلمين، اشترى نفسه من الله أربع مرات.

ومالك بن أنس الإمام، والهقل بن زياد، صاحب الأوزاعي، وأبو الأحوص.

وكلهم قد ذكرناهم في التكميل.

والإمام مالك

[عدل]

هو أشهرهم وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فهو: مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيلان بن حشد بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الحميري، أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة في زمانه.

روى مالك عن: غير واحد من التابعين، وحدث عنه خلق من الأئمة، منهم: السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والأوزاعي، وابن مهدي، وابن جريج، والليث، والشافعي، والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.

قال البخاري: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر.

وقال سفيان بن عيينة: ما كان أشد انتقاده للرجال.

وقال يحيى بن معين: كل من روى عن مالك فهو ثقة، إلا أبا أمية.

وقال غير واحد: هو أثبت أصحاب نافع والزهري.

وقال الشافعي: إذا جاء الحديث فمالك النجم.

وقال: من أراد الحديث فهو عيال على مالك.

ومناقبه كثيرة جدا، وثناء الأئمة عليه أكثر من أن يحصر في هذا المكان.

قال أبو مصعب: سمعت مالكا، يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.

وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسنا.

وكان نقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزله قال: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله.

وكان منزله مبسوطا بأنواع المفارش.

ومن وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن لزم مالك بيته فلم يكن يأتي أحدا لا لعزاء ولا لهناء، ولا يخرج لجمعة ولا لجماعة، ويقول: ما كل ما يعلم يقال، وليس كل أحد يقدر على الاعتذار.

ولما احتضر قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم جعل يقول: لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ليلة أربعة عشر من صفر.

وقيل: من ربيع الأول من هذه السنة، وله خمس وثمانون سنة.

قال الواقدي: بلغ سبعين سنة ودفن بالبقيع.

وقد روى الترمذي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة».

ثم قال: هذا حديث حسن.

وقد روي عن ابن عيينة، أنه قال: هو مالك بن أنس. وكذا قال عبد الرزاق.

وعن ابن عيينة رواية: أنه عبد العزيز بن عبد الله العمري.

وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات فأطنب وأتى بفوائد جمة.

ثم دخلت سنة ثمانين ومائة

[عدل]

فيها: هاجت الفتنة بالشام بن النزارية واليمنية، فانزعج الرشيد لذلك فندب جعفر البرمكي إلى الشام في جماعة من الأمراء والجنود، فدخل الشام فانقاد الناس له ولم يدع جعفر بالشام فرسا ولا سيفا ولا رمحا إلا استلبه من الناس، وأطفأ الله به نار تلك الفتنة.

وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

لقد أوقدت بالشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش موج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانكسارها

رماها بميمون النقيبة ماجد * تراضى به قحطانها ونزارها

ثم كرَّ جعفر راجعا إلى بغداد بعد ما استخلف على الشام عيسى العكي، ولما قدم على الرشيد أكرمه وقربه وأدناه، وشرع جعفر يذكر كثرة وحشته له في الشام، ويحمد الله الذي منَّ عليه برجوعه إلى أمير المؤمنين ورؤيته وجهه.

وفيها: ولى الرشيد جعفرا خراسان وسجستان فاستعمل على ذلك محمد بن الحسن بن قحطبة، ثم عزل الرشيد جعفرا عن خراسان بعد عشرين ليلة.

وفيها: هدم الرشيد سور الموصل بسبب كثرة الخوارج، وجعل الرشيد جعفرا على الحرس، ونزل الرشيد الرقة واستوطنها واستناب على بغداد ابنه الأمين محمدا وولاه العراقين، وعزل هرثمة عن إفريقية واستدعاه إلى بغداد فاستنابه جعفر على الحرس.

وفيها: كانت بمصر زلزلة شديدة سقط منها رأس منارة الإسكندرية.

وفيها: خرج بالجزيرة خراشة الشيباني فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.

وفيها: ظهرت طائفة بجرجان يقال لها: المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلا، يقال له: عمرو بن محمد العمركي، وكان ينسب إلى الزندقة، فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت.

وفيها: غزا الصائفة زفر بن عاصم.

وحج بالناس موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

وفيها: كانت وفاة جماعة من الأعيان:

إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري

قارئ أهل المدينة، ومؤدب علي بن المهدي ببغداد.

وقد مات:

علي بن المهدي، في هذه السنة أيضا، وقد ولي إمارة الحج غير مرة، وكان أسن من الرشيد بشهور.

حسان بن أبي سنان

[عدل]

ابن أبي أوفى بن عوف التنوخي الأنباري، ولد سنة ستين، ورأى أنس بن مالك ودعا له فجاء من نسله قضاة ووزراء وصلحاء، وأدرك الدولتين الأموية والعباسية.

وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية، وكان يعرِّب الكتب بين يدي ربيعة لما ولاه السفاح الأنبار.

وفيها توفي:

عبد الوارث بن سعيد البيروتي

أحد الثقات.

وعافية بن يزيد

[عدل]

ابن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي، هو: ابن علاثة، وكانا يحكمان بجامع الرصافة.

وكان عافية عابدا زاهدا ورعا، دخل يوما على المهدي في وقت الظهيرة فقال: يا أمير المؤمنين اعفني.

فقال له المهدي: ولم أعفيك؟ هل اعترض عليك أحد من الأمراء ؟

فقال له: لا ! ولكن كان بين اثنين خصومة عندي فعمد أحدهما إلى رطب السكر - وكأنه سمع أني أحبه - فأهدى إلي منه طبقا لا يصلح إلا لأمير المؤمنين، فرددته عليه، فلما أصبحنا وجلسنا إلى الحكومة، لم يستويا عندي في قلبي ولا نظري، بل مال قلبي إلى المهدي منهما، هذا مع أني لم أقبل منه ما أهداه فكيف لو قبلت منه؟ فأعفني عفا الله عنك فأعفاه.

وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد يوما وعنده عافية وقد أحضره لأن قوما استعدوا عليه إلى الرشيد، فجعل الرشيد يوقفه على ما قيل عنه وهو يجيب عما يسأله.

وطال المجلس فعطس الخليفة فشمته الناس ولم يشمته عافية، فقال له الرشيد: لم لم تشمتني مع الناس ؟

فقال: لأنك لم تحمد الله، واحتج بالحديث في ذلك.

فقال له الرشيد: ارجع لعملك فوالله ما كنت لتفعل ما قيل عنك، وأنت لم تسامحني في عطسة لم أحمد الله فيها.

ثم رده ردا جميلا إلى ولايته.

وفيها توفي:

سيبويه

[عدل]

إمام النحاة، واسمه: عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المعروف: بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب.

وقيل: مولى آل الربيع بن زياد.

وإنما سمي سيبويه لأن أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه: رائحة التفاح، وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء، وكان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن يوما فرد عليه قوله فأنف من ذلك، فلزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو، ودخل بغداد وناظر الكسائي.

وكان سيبويه شابا حسنا جميلا نظيفا، وقد تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب بسهم مع حداثة سنه.

وقد صنف في النحو كتابا لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره، واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره.

وقد زعم ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه، بل ساعده جماعة في تصنيفه نحوا من أربعين نفسا هو أحدهم، وهو أصول الخليل، فادعاه سيبويه إلى نفسه.

وقد استبعد ذلك السيرافي في كتاب طبقات النحاة.

قال: وقد أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب، والأخفش، وغيرهما.

وكان سيبويه يقول: سعيد بن أبي العروبة، والعروبة يوم الجمعة.

وكان يقول: من قال عروبة فقد أخطأ.

فذكر ذلك ليونس فقال: أصاب لله دره.

وقد ارتحل إلى خراسان ليحظى عند طلحة بن طاهر فإنه كان يحب النحو فمرض هناك مرضه الذي توفي فيه فتمثل عند الموت:

يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الأمل

يربي فسيلا ليبقى له * فعاش الفسيل ومات الرجل

ويقال: إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال:

وكنا جميعا فرَّق الدهر بيننا * إلى الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا

قال الخطيب البغدادي: يقال: إنه توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة.

وفيها توفيت:

عفيرة العابدة

[عدل]

كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء.

قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكي، فقيل لها في ذلك فقالت: لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله، فمسرور ومثبور.

وفيها مات:

مسلم بن خالد الزنجي

[عدل]

شيخ الشافعي، كان من أهل مكة، ولقد تكلموا فيه لسوء حفظه.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

[عدل]

فيها: غزا الرشيد بلاد الروم فافتتح حصنا يقال له: الصفصاف، فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة:

إن أمير المؤمنين المنصفا * قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا

وفيها: غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.

وفيها: تغلبت المحمرة على جرجان.

وفيها: أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله بعد الثناء على الله عز وجل.

وفيها: حج بالناس الرشيد وتعجل بالنفر، وسأله يحيى بن خالد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحيى بمكة.

وفيها توفي:

الحسن بن قحطبة

أحد أكابر الأمراء.

وحمزة بن مالك، ولي إمرة خراسان في أيام الرشيد.

وخلف بن خليفة، شيخ الحسن بن عرفة، عن مائة سنة.

وعبد الله بن المبارك

[عدل]

أبو عبد الرحمن المروزي، كان أبوه تركيا مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، وكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية.

ولد لثمان عشرة ومائة.

وسمع: إسماعيل بن خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وغيرهم من أئمة التابعين.

وحدث عنه خلائق من الناس.

وكان موصوفا بالحفظ والفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمن حكما جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله.

قال سفيان بن عيينة: نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله .

وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثله، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم.

وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت: ما للناس ؟

فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له: عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه.

فقالت المرأة: هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة.

وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.

فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة ؟

قال: ألف دينار.

فقال: عدَّ منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع.

وكان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه: من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمها في صندوق.

ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم فيقول لهم: هل أوصاكم أهلوكم بهدية ؟

فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فاذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية.

فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل.

وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد.

وسأله مرة سائل فأعطاه درهما، فقال له بعض أصحابه: إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالودج، وقد كان يكفيه قطعة.

فقال: والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء فإنه لا يكفيه درهم.

ثم أمر بعض غلمانه فقال: رده وادفع إليه عشرة دراهم.

وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.

قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله.

توفي عبد الله بن المبارك بهيت في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة.

ومفضل بن فضالة

[عدل]

ولي قضاء مصر مرتين، وكان ديِّنا ثقةً، فسأل الله أن يذهب عنه الأمل فأذهبه، فكان بعد ذلك لا يهنئه العيش ولا شيء من الدنيا، فسأل الله أن يرده عليه فرده فرجع إلى حاله.

ويعقوب التائب

[عدل]

العابد الكوفي.

قال علي بن الموفق: عن منصور بن عمار: خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت، فإذا عليِّ ليل، فجلست إلى باب صغير وإذا شاب يبكي وهو يقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخي عليَّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من اتصل إن أنت قطعت حبلك عني ؟

واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحي من ربي عز وجل.

قال منصور: فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6] .

قال: فسمعت صوتا واضطرابا شديدا فذهبت لحاجتي، فلما رجعت مررت بذلك الباب فإذا جنازة موضوعة، فسألت عنه فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية.

ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة

[عدل]

فيها: أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الأمين بن زبيدة، وذلك بالرقة بعد مرجعه من الحج، وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له، وولاه خراسان وما يتصل بها، وسماه: المأمون.

وفيها: رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد.

وفيها: غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف.

وفيها: سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن اليون وملكوا عليهم أمه ريني وتقلب أغسطه.

وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس.

وفيها توفي من الأعيان:

إسماعيل بن عياش الحمصي، أحد المشاهير من أئمة الشاميين، وفيه كلام.

ومروان بن أبي حفصة، الشاعر المشهور المشكور، كان يمدح الخلفاء والبرامكة.

ومعن بن زائدة

[عدل]

حصل من الأموال شيئا كثيرا جدا، وكان مع ذلك من أبخل الناس، لا يكاد يأكل اللحم من بخله، ولا يشعل في بيته سراجا، ولا يلبس من الثياب إلا الكرباسي والفرو الغليظ، وكان رفيقه سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على بردون وعليه حلَّة تساوي ألف دينار، والطيب ينفح من ثيابه، ويأتي هو في شر حالة وأسوئها.

وخرج يوما إلى المهدي فقالت امرأة من أهله: إن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لي منه شيئا.

فقال: إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم.

فأعطاه ستين ألفا فأعطاها أربعة دوانيق.

توفي ببغداد في هذه السنة، ودفن في مقبرة نصر بن مالك.

القاضي أبو يوسف

[عدل]

واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حسنة، وهي أمه، وأبوه بجير بن معاوية، استصغر يوم أحد، وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة.

روى الحديث عن: الأعمش، وهمام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وغيرهم.

وعنه: محمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين.

قال علي بن الجعد: سمعته يقول: توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار، فكنت أمرُّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة: إن هذا صبي يتيم ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي.

فقال لها: اسكتي يا رعناء، هاهوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج.

فقالت له: إنك شيخ قد خرفت.

قال أبو يوسف: فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي، وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة -.

قال أبو يوسف: فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت.

وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين ؟

فقال: هذا الفالوذج.

قال: فتبسمت، فقال: مالك تتبسم ؟

فقلت: لاشيء أبقى الله أمير المؤمنين.

فقال: لتخبرني.

فقصصت عليه القصة فقال: إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة.

ثم قال: رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه.

وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف: إنه أعلم أصحابه.

وقال المزني: كان أبو يوسف أتبعهم للحديث.

وقال ابن المديني: كان صدوقا.

وقال ابن معين: كان ثقة.

وقال أبو زرعة: كان سليما من التجهم.

وقال بشار الخفاف: سمعت أبا يوسف، يقول: من قال: القرآن مخلوق، فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه.

ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله: من طلب المال بالكيما، أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق.

ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضروات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم، وبأنه لم يكن الخضروات يخرج فيها شيء في زمن الخلفاء الراشدين.

فقال أبو يوسف: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وهذا إنصاف منه.

وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا.

وقال: وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد، إلا يوما واحدا جاءني رجل فذكر أن له بستانا وأنه في يد أمير المؤمنين، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: البستان لي اشتراه لي المهدي.

فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه.

فأحضره فادعى بالبستان فقلت: ما تقول يا أمير المؤمنين ؟

فقال: هو بستاني.

فقلت للرجل: قد سمعت ما أجاب.

فقال الرجل: يحلف.

فقلت: أتحلف يا أمير المؤمنين ؟

فقال: لا.

فقلت: سأعرض عليك اليمين ثلاثا فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين.

فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي.

قال: فكنت في أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة.

وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل.

وروى المعافى بن زكريا الجريري، عن محمد بن أبي الأزهر، عن حماد بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال: بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش، إذا رسول الخليفة يطرق الباب، فخرجت منزعجا فقال: أمير المؤمنين يدعوك.

فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر، فقال لي الرشيد: إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل، أو يبعنيها، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته.

فقلت لعيسى: لم لم تفعل ؟

فقال: إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها.

فقال لي الرشيد: فهل له من مخلص ؟

فقلت: نعم، يبيعك نصفها ويهبك نصفها.

فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار.

فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية، فلما رآها الرشيد قال: هل لي من سبيل عليها الليلة ؟

قلت: إنها مملوكة ولا بد من استبرائها، إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ.

قال: فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب، وأرسلت إلى الجارية بعشرة آلاف دينار.

قال يحيى بن معين: كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ندٍّ وغير ذلك، فذاكرني رجل في إسناد حديث: «من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه».

فقال أبو يوسف: إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئا.

وقال بشر بن غياث المريسي: سمعت أبا يوسف، يقول: صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت على الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب.

فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات.

وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء بعده ولده يوسف.

وقد كان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد.

ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين، وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه، ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبره له في هذا الشأن، والله أعلم.

وفيها توفي:

يعقوب بن داوود بن طهمان

[عدل]

أبو عبد الله، مولى عبد الله بن حازم السلمي، استوزره المهدي وحظي عنده جدا، وسلم إليه أزمة الأمور، ثم لما أمر بقتل ذلك العلوي كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدي في بئر وبنيت عليه قبة، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام، وعمي، ويقال: بل غشي بصره، ومكث نحوا من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء، فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد.

قال يعقوب: فأتاني آت في منامي فقال:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف ويفك عانٍ * ويأتي أهله النائي الغريب

فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة، ودلي إلي حبل وقيل لي: اربط هذا الحبل في وسطك، فأخرجوني، فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئا، وأوقفت بين يدي الخليفة فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فظننته المهدي فسلمت عليه باسمه.

فقال: لست به.

فقلت: الهادي ؟

فقال: لست به.

فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد.

فقال: نعم.

ثم قال: والله إنه لم يشفع فيك عندي أحد، ولكني البارحة حملت جارية لي صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك.

ثم أنعم عليه وأحسن إليه.

فغار منه يحيى بن خالد بن برمك، وخشي أن يعيده إلى منزلته التي كان عليها أيام المهدي، وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له، فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله.

وقال: يخشى يحيى أن أرجع إلى الولايات، لا والله ما كنت لأفعل أبدا، ولو رددت إلى مكاني.

وفيها توفي:

يزيد بن زريع

[عدل]

أبو معاوية، شيخ الإمام أحمد بن حنبل في الحديث، كان ثقةً عالما عابدا ورعا، توفي أبوه وكان والي البصرة وترك من المال خمسمائة درهم، فلم يأخذ منها يزيد درهما واحدا، وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله.

توفي بالبصرة في هذه السنة.

وقيل: قبل ذلك، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة

[عدل]

فيها: خرجت الخزر على الناس من ثلمة أرمينية فعاثوا في تلك البلاد فسادا، وسبوا من المسلمين وأهل الذمة نحوا من مائة ألف وقتلوا بشرا كثيرا، وانهزم نائب أرمينية سعيد بن مسلم، فأرسل الرشيد إليهم خازم بن خزيمة ويزيد بن مزيد في جيوش كثيرة كثيفة، فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد.

وحج بالناس العباس بن موسى الهادي.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن الفضيل بن عياض

في حياة أبيه، كان كثير العبادة والورع والخوف والخشية.

ومحمد بن صبيح

أبو العباس، مولى بني عجل المذكر

[عدل]

ويعرف: بابن السماك.

روى عن: إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، والثوري، وهشام بن عروة، وغيرهم.

ودخل يوما على الرشيد فقال: إن لك بين يدي الله موقفا فانظر أين منصرفك، إلى الجنة أم النار ؟

فبكى الرشيد حتى كاد يموت.

وموسى بن جعفر

[عدل]

ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي، ويقال له: الكاظم، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة.

وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتحف.

ولد له من الذكور والإناث أربعون نسمة.

وأهدى له مرة عبدٌ عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقه، ووهب المزرعة له.

وقد استدعاه المهدي إلى بغداد فحبسه، فلما كان في بعض الليالي رأى المهدي علي بن أبي طالب وهو يقول له: يا محمد، { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22] .

فاستيقظ مذعورا وأمر به فأخرج من السجن ليلا، فأجلسه معه وعانقه وأقبل عليه، وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا