انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء السادس/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


باب آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يختص بها في حياته

[عدل]

من ثياب وسلاح ومراكب

ذكر الخاتم الذي كان يلبسه عليه السلام:

وقد أفرد له أبو داود في كتابه السنن كتابا على حدة.

ولنذكر عيون ما ذكره في ذلك مع ما نضيفه إليه، والمعول في أصل ما نذكره عليه.

قال أبو داود: حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي، حدثنا عيسى عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: أراد رسول الله أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقرؤن كتابا إلا بخاتم، فاتخذ خاتما من فضة، ونقش فيه: محمد رسول الله.

وهكذا رواه البخاري عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به.

ثم قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بمعنى حديث عيسى بن يونس، زاد: فكان في يده حتى قبض، وفي يد أبي بكر حتى قبض، وفي يد عمر حتى قبض، وفي يد عثمان فبينما هو عند بئر إذ سقط في البئر فأمر بها فنزحت، فلم يقدر عليه.

تفرد به أبو داود من هذا الوجه.

ثم قال أبو داود رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن صالح قالا: أنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني أنس قال: كان خاتم النبي من ورق فصه حبشي.

وقد روى هذا الحديث البخاري من حديث الليث.

ومسلم من حديث ابن وهب، وطلحة عن يحيى الأنصاري، وسليمان بن بلال.

زاد النسائي وابن ماجه: وعثمان عن عمر خمستهم عن يونس بن يزيد الأيلي به.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

ثم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: كان خاتم النبي من فضة كله فصه منه.

وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث زهير بن معاوية الجعفي أبي خيثمة الكوفي به.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وقال البخاري: ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: اصطنع رسول الله خاتما فقال: « إنا اتخذنا خاتما ونقشنا فيه نقشا فلا ينقش عليه أحد ».

قال: فإني أرى بريقه في خنصره.

ثم قال أبو داود: حدثنا نصير بن الفرج، ثنا أبو أسامة عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر اتخذ رسول الله خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلي بطن كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس خواتم الذهب، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: « لا ألبسه أبدا » ثم اتخذ خاتما من فضة نقش فيه: محمد رسول الله، ثم لبس الخاتم بعده أبو بكر، ثم لبسه بعد أبي بكر عمر، ثم لبسه بعده عثمان حتى وقع في بئر أريس.

وقد رواه البخاري عن يوسف بن موسى، عن أبي أسامة حماد بن أسامة به.

ثم قال أبو داود: حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الخبر عن النبي فنقش فيه: محمد رسول الله وقال: « لا ينقش أحد على خاتمي هذا » وساق الحديث.

وقد رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث سفيان بن عيينة به نحوه.

ثم قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا أبو عاصم عن المغيرة بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الخبر عن النبي قال: فالتمسوه فلم يجدوه، فاتخذ عثمان خاتما ونقش فيه: محمد رسول الله قال: فكان يختم به، أو يتختم به.

ورواه النسائي عن محمد بن معمر عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل به.

ثم قال أبو داود:

باب في ترك الخاتم

[عدل]

حدثنا محمد بن سليمان لوين عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك أنه رأى في يد النبي خاتما من ورق يوما واحدا، فصنع الناس فلبسوا، وطرح النبي فطرح الناس.

ثم قال: رواه عن الزهري زياد بن سعد وشعيب وابن مسافر، كلهم قال: من ورق.

قلت: وقد رواه البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني أنس بن مالك أنه رأى في يد النبي خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم، ثم علقه البخاري عن إبراهيم بن سعد الزهري المدني، وشعيب ابن أبي حمزة، وزياد بن سعد الخراساني.

وأخرجه مسلم من حديثه.

وانفرد أبو داود بعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، كلهم عن الزهري كما قال أبو داود: خاتما من ورق.

والصحيح: أن الذي لبسه يوما واحدا ثم رمى به، إنما هو خاتم الذهب لا خاتم الورق، لما ثبت في الصحيحين عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كان رسول الله يلبس خاتما من ذهب فنبذه.

وقال: « لا ألبسه أبدا ».

فنبذ الناس خواتيمهم، وقد كان خاتم الفضة يلبسه كثيرا ولم يزل في يده حتى توفي - صلوات الله وسلامه عليه - وكان فصه منه - يعني: ليس فيه فص ينفصل عنه - ومن روى أنه كان فيه صورة شخص فقد أبعد وأخطأ، بل كان فضه كله وفصه منه، ونقشه محمد رسول الله ثلاثة أسطر: محمد سطر، رسول سطر، الله سطر، وكأنه والله أعلم كان منقوشا وكتابته مقلوبة ليطبع على الاستقامة كما جرت العادة بهذا.

وقد قيل: إن كتابته كانت مستقيمة، وتطبع كذلك، وفي صحة هذا نظر ولست أعرف لذلك إسنادا لا صحيحا ولا ضعيفا، وهذه الأحاديث التي أوردناها أنه عليه السلام كان له خاتم من فضة ترد الأحاديث التي قدمناها في سنن أبي داود والنسائي من طريق أبي عتاب سهل بن حماد الدلال عن أبي مكين نوح بن ربيعة، عن إياس بن الحارث بن معيقيب ابن أبي فاطمة، عن جده قال: كان خاتم النبي من حديد ملوي عليه فضة.

ومما يزيده ضعفا الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود، والترمذي والنسائي من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم السلمي المروزي عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أن رجلا جاء إلى رسول الله وعليه خاتم من شبه فقال: « مالي أجد منك ريح الأصنام؟ ».

فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: « مالي أرى عليك حلية أهل النار؟ ».

فطرحه ثم قال: يا رسول الله من أي شيء اتخذه؟

قال: « اتخذه من ورق، ولا تنمه مثقالا ».

وقد كان عليه السلام يلبسه في يده اليمنى، كما رواه أبو داود والترمذي في الشمائل.

والنسائي من حديث شريك، وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن القاضي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسن، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه عن رسول الله قال شريك: وأخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن أن رسول الله كان يتختم في يمينه، وروي في اليسرى.

رواه أبو داود من حديث عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله كان يتختم في يساره، وكان فصه في باطن كفه.

قال أبو داود: رواه أبو إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع في يمينه.

وحدثنا هناد عن عبدة، عن عبيد الله، عن نافع أن ابن عمر كان يلبس خاتمه في يده اليسرى.

ثم قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن سعيد، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتما في خنصره اليمنى فقلت: ما هذا؟

فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها.

قال: ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله كان يلبس خاتمه كذلك.

وهكذا رواه الترمذي من حديث محمد بن إسحاق به.

ثم قال محمد بن إسماعيل - يعني: البخاري -: حديث ابن إسحاق عن الصلت حديث حسن.

وقد روى الترمذي في الشمائل عن أنس، وعن جابر، وعن عبد الله بن جعفر أن رسول الله كان يتختم في اليمين.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي عن ثمامة، عن أنس بن مالك أن أبا بكر لما استخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.

قال أبو عبد الله، وزاد أبو أحمد: ثنا الأنصاري، حدثني أبي، ثنا ثمامة عن أنس قال: كان خاتم النبي في يده، وفي يد أبي بكر، وفي يد عمر بعد أبي بكر، قال: فلما كان عثمان جلس على بئر أريس فأخذ الخاتم فجعل يعبث به فسقط قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فنزح البئر فلم يجده.

فأما الحديث الذي رواه الترمذي في الشمائل: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة عن أبي يسر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله اتخذ خاتما من فضة، فكان يختم به ولا يلبسه.

فإنه حديث غريب جدا.

وفي السنن من حديث ابن جريج عن الزهري، عن أنس قال: كان رسول الله إذا دخل الخلاء نزع خاتمه.

ذكر سيفه عليه السلام

[عدل]

قال الإمام أحمد: ثنا شريح، ثنا ابن أبي الزناد عن أبيه، عن الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى الرؤيا يوم أحد.

قال: « رأيت في سيفي ذا الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقرا تذبح، فبقر والله خير فبقر والله خير ».

فكان الذي قال رسول الله .

وقد رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه به.

وقد ذكر أهل السنن أنه سمع قائل يقول: « لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي ».

وروى الترمذي من حديث هود بن عبد الله بن سعيد عن جده مزيدة بن جابر العبدي العصري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله مكة وعلى سيفه ذهب وفضة الحديث.

ثم قال: هذا حديث غريب.

وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا محمد بن بشار، ثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي عن قتادة، عن سعيد ابن أبي الحسن قال: كانت قبيعة سيف رسول الله من فضة.

وروي أيضا من حديث عثمان بن سعد عن ابن سيرين قال: صنعت سيفي على سيف سمرة، وزعم سمرة أنه صنع سيفه على سيف رسول الله وكان حنفيا، وقد صار إلى آل علي سيف من سيوف رسول الله ، فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء عند الطف كان معه، فأخذه علي بن الحسين بن زين العابدين فقدم معه دمشق حين دخل على يزيد بن معاوية، ثم رجع معه إلى المدينة.

فثبت في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أنه تلقاه إلى الطريق فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟

قال: فقال: لا.

فقال: هل أنت معطي سيف رسول الله فإني أخشى أن يغلبك عليه القوم، وأيم الله إن أعطيتنيه لا يخلص إليه أحد حتى يبلغ نفسي.

وقد ذكر للنبي غير ذلك من السلاح من ذلك الدروع.

كما روى غير واحد منهم السائب بن يزيد، وعبد الله بن الزبير أن رسول الله ظاهر يوم أحد بين درعين.

وفي الصحيحين من حديث مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله دخل يوم الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه قيل له: هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة.

فقال: « اقتلوه ».

وعند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء.

وقال وكيع عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال: خطب رسول الله الناس وعليه عمامة دسماء.

ذكرهما الترمذي في الشمائل وله من حديث الدراوردي عن عبد الله، عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله إذا اعتم سدلها بين كتفيه.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن محمد، ثنا مخول بن إبراهيم، ثنا إسرائيل عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك أنه كانت عنده عصية لرسول الله فمات فدفنت معه بين جنبه وبين قميصه.

ثم قال البزار: لا نعلم رواه إلا مخول بن راشد، وهو صدوق فيه شيعية.

واحتمل على ذلك.

وقال الحافظ البيهقي بعد روايته هذا الحديث من طريق مخول هذا قال: وهو من الشيعة يأتي بإفراد عن إسرائيل لا يأتي بها غيره، والضعف على رواياته بين ظاهر.

ذكر نعله التي كان يمشي فيها

[عدل]

ثبت في الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله كان يلبس النعال السبتية، وهي التي لا شعر عليها.

وقد قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد - هو ابن مقاتل -، حدثنا عبد الله - يعني: ابن المبارك - أنا عيسى بن طهمان قال: خرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان.

فقال ثابت البناني: هذه نعل النبي .

وقد رواه في كتاب الخمس عن عبد الله بن محمد، عن أبي أحمد الزبيري، عن عيسى بن طهمان، عن أنس قال: أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان.

فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي .

وقد رواه الترمذي في الشمائل عن أحمد بن منيع، عن أبي أحمد الزبيري به.

وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا أبو كريب، ثنا وكيع عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: كان لنعل رسول الله قبالان مثني شراكهما.

وقال أيضا: ثنا إسحاق بن منصور، أنا عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: كان لنعل رسول الله قبالان.

وقال الترمذي: ثنا محمد بن مرزوق أبو عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن قيس أبو معاوية، ثنا هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: كان لنعل رسول الله قبالان وأبي بكر، وعمر، وأول من عقد عقدا واحدا عثمان.

قال الجوهري: قبال النعل: بالكسر الزمام الذي يكون بين الإصبع الوسطى، والتي تليها.

قلت: واشتهر في حدود سنة ستمائة وما بعدها عند رجل من التجار يقال له: ابن أبي الحدرد، نعل مفردة ذكر أنها نعل النبي فسامها الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب منه بمال جزيل فأبى أن يبيعها، فاتفق موته بعد حين، فصارت إلى الملك الأشرف المذكور، فأخذها إليه وعظمها، ثم لما بنى دار الحديث الأشرفية إلى جانب القلعة، جعلها في خزانة منها، وجعل لها خادما، وقرر له من المعلوم كل شهر أربعون درهما، وهي موجودة إلى الآن في الدار المذكورة.

وقال الترمذي في الشمائل: ثنا محمد بن رافع وغير واحد قالوا: ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا شيبان عن عبد الله بن المختار، عن موسى بن أنس، عن أبيه قال: كانت لرسول الله - سلة - يتطيب منها.

صفة قدح النبي صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن عاصم قال: رأيت عند أنس قدح النبي فيه ضبة من فضة.

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله، أخبرني أحمد بن محمد النسوي، ثنا حماد بن شاكر، ثنا محمد بن إسماعيل - هو البخاري - ثنا الحسن بن مدرك، حدثني يحيى بن حماد، أنا أبو عوانة عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة.

قال: وهو قدح جيد عريض من نضار.

قال أنس: لقد سقيت رسول الله في هذا القدح أكثر من كذا وكذا.

قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة.

فقال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئا صنعه رسول الله ، فتركه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة، ثنا حجاج بن حسان قال: كنا عند أنس فدعا بإناء فيه ثلاث ضبات حديد وحلقة من حديد، فأخرج من غلاف أسود، وهو دون الربع وفوق نصف الربع، وأمر أنس بن مالك فجعل لنا فيه ماء، فأتينا به فشربنا، وصببنا على رؤسنا ووجوهنا، وصلينا على النبي .

انفرد به أحمد.

المكحلة التي كان عليه السلام يكتحل منها

[عدل]

قال الإمام أحمد: ثنا يزيد، أنا عبد الله بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله مكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثا في كل عين.

وقد رواه الترمذي وابن ماجه من حديث يزيد بن هارون.

قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لعباد بن منصور: سمعت هذا الحديث من عكرمة.

فقال: أخبرنيه ابن أبي يحيى عن داود بن الحصين عنه.

قلت: وقد بلغني أن بالديار المصرية مزارا فيه أشياء كثيرة من آثار النبي اعتنى بجمعها بعض الوزراء المتأخرين فمن ذلك:

مكحلة.

وقيل: ومشط، وغير ذلك، فالله أعلم.

البردة

[عدل]

قال الحافظ البيهقي: وأما البرد الذي عند الخلفاء، فقد روينا عن محمد بن إسحاق بن يسار في قصة تبوك أن رسول الله أعطى أهل إيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أمانا لهم، فاشتراه أبو العباس عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار - يعني: بذلك أول خلفاء بني العباس وهو السفاح رحمه الله - وقد توارث بنو العباس هذه البردة خلفا عن سلف، كان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه - صلوات الله وسلامه عليه - في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب، ويبهر به الأبصار، ويلبسون السواد في أيام الجمع والأعياد، وذلك اقتداء منهم بسيد أهل البدو والحضر، ممن يسكن الوبر والمدر.

لما أخرجه البخاري ومسلم إماما أهل الأثر من حديث عن مالك الزهري، عن أنس أن رسول الله دخل مكة وعلى رأسه المغفر.

وفي رواية: وعليه عمامة سوداء.

وفي رواية: قد أرخى طرفها بين كتفيه - صلوات الله وسلامه عليه -.

وقد قال البخاري: ثنا مسدد، ثنا إسماعيل، ثنا أيوب عن محمد، عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح النبي - في هذين -.

وللبخاري من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه.

فقال وهو كذلك: « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما صنعوا.

قلت: وهذه الأبواب الثلاثة لا يدري ما كان من أمرها بعد هذا، وقد تقدم أنه عليه السلام طرحت في تحته قبره الكريم قطيفة حمراء كان يصلي عليها، ولو تقصينا ما كان يلبسه في أيام حياته لطال الفصل، وموضعه كتاب اللباس من كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

أفراسه ومراكيبه عليه الصلاة والسلام

[عدل]

قال ابن إسحاق عن يزيد بن حبيب، عن مرثد بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رزين، عن علي قال: كان للنبي فرس يقال له: المرتجز، وحمار يقال له: عفير، وبغلة يقال لها: دلدل، وسيفه: ذو الفقار، ودرعه: ذو الفضول.

ورواه البيهقي من حديث الحكم عن يحيى بن الجزار، عن علي نحوه.

قال البيهقي: وروينا في كتاب السنن أسماء أفراسه التي كانت عند الساعد بين لزاز واللحيف، وقيل: اللخيف، والظرب، والذي ركبه لأبي طلحة يقال له: المندوب، وناقته: القصواء، والعضباء، والجدعاء، وبغلته: الشهباء والبيضاء.

قال البيهقي: وليس في شيء من الروايات أنه مات عنهن، إلا ما روينا في بغلته البيضاء وسلاحه، وأرض جعلها صدقة، ومن ثيابه، وبلغته، وخاتمه، ما روينا في هذا الباب.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا زمعة بن صالح عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: توفي رسول الله وله جبة صوف في الحياكة.

وهذا إسناد جيد.

وقد روى الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا مجاهد عن موسى، ثنا علي بن ثابت، ثنا غالب الجزري عن أنس قال: لقد قبض رسول الله وإنه لينسج له كساء من صوف.

وهذا شاهد لما تقدم.

وقال أبو سعيد بن الأعرابي: حدثنا سعدان بن نصير، ثنا سفيان بن عيينة عن الوليد بن كثير، عن حسين، عن فاطمة بنت الحسين أن رسول الله قبض وله بردان في الجف يعملان، وهذا مرسل.

وقال أبو القاسم الطبراني: ثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحرني، ثنا عثمان بن عبد الرحمن بن علي بن عروة عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء وعمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله سيف قائمته من فضة وقبيعته، وكان يسميه: ذا الفقار، وكان له قوس تسمى: السداد، وكانت له كنانة تسمى: الجمع، وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى: ذات الفضول، وكانت له حربة تسمى: السغاء، وكان له مجن يسمى: الذقن، وكان له ترس أبيض يسمى: الموجز، وكان له فرس أدهم يسمى: السكب، وكان له سرج يسمى: الداج، وكان له بغلة شهباء يقال لها: دلدل، وكانت له ناقة تسمى: القصواء، وكان له حمار يقال له: يعفور، وكان له بساط يسمى: الكره، وكان له نمرة تسمى: النمر، وكانت له ركوة تسمى: الصادر، وكانت له مرآة تسمى: المرآة، وكان له مقراض يسمى: الجاح، وكان له قضيب شوحط يسمى: الممشوق.

قلت: قد تقدم عن غير واحد من الصحابة أن رسول الله لم يترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، سوى بغلة وأرض جعلها صدقة.

وهذا يقتضي أنه عليه السلام نجز العتق في جميع ما ذكرناه من العبيد والإماء والصدقة في جميع ما ذكر من السلاح، والحيوانات، والأثاث، والمتاع مما أوردناه ومالم نورده.

وأما بغلته فهي: الشهباء، وهي: البيضاء أيضا: والله أعلم، وهي التي أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، واسمه: جريج بن ميناء فيما أهدي من التحف، وهي التي كان رسول الله راكبها يوم حنين وهو في نحور العدو ينوه باسمه الكريم شجاعة وتوكلا على الله - عز وجل -، فقد قيل: إنها عمرت بعده حتى كانت عند علي ابن أبي طالب في أيام خلافته، وتأخرت أيامها حتى كانت بعد علي عند عبد الله بن جعفر فكان يجش لها الشعير حتى تأكله من ضعفها بعد ذلك.

وأما حماره: يعفور، ويصغر فيقال له: عفير، فقد كان عليه السلام يركبه في بعض الأحايين.

وقد روى أحمد من حديث محمد بن إسحاق عن يزيد ابن أبي حبيب، عن يزيد بن عبد الله العوفي، عن عبد الله بن رزين، عن علي قال: كان رسول الله يركب حمارا يقال له: عفير.

ورواه أبو يعلى من حديث عون بن عبد الله عن ابن مسعود، وقد ورد في أحاديث عدة أنه عليه السلام ركب الحمار.

وفي الصحيحين: أنه عليه السلام مر وهو راكب حمارا بمجلس فيه عبد الله ابن أبي بن سلول، وأخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل - وذلك قبل وقعة بدر - وكان قد عزم على عيادة سعد بن عبادة.

فقال له عبد الله: لا أحسن مما تقول أيها المرء، فإن كان حقا فلا تغشنا به في مجالسنا، وذلك قبل أن يظهر الإسلام، ويقال: إنه خمر أنفه لما غشيتهم عجاجة الدابة.

وقال: لا تؤذنا بنتن حمارك.

فقال له عبد الله بن رواحة: والله لريح حمار رسول الله أطيب من ريحك.

وقال عبد الله: بل يا رسول الله أغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك.

فتثاور الحيان وهموا أن يقتتلوا، فسكنهم رسول الله، ثم ذهب إلى سعد بن عبادة، فشكى إليه عبد الله ابن أبي.

فقال: ارفق به يا رسول الله فوالذي أكرمك بالحق لقد بعثك الله بالحق، وإنا لننظم له الخدر لنملكه علينا، فلما جاء الله بالحق شرق بريقه.

وقد قدمنا أنه ركب الحمار في بعض أيام خيبر، وجاء أنه أردف معاذا على حمار، ولو أوردناها بألفاظها وأسانيدها لطال الفصل، والله أعلم.

فأما ما ذكره القاضي عياض بن موسى السبتي في كتابه الشفا وذكره قبل إمام الحرمين في كتابه الكبير في أصول الدين وغيرهما أنه كان لرسول الله حمار يسمى: زياد بن شهاب، وأن رسول الله كان يبعثه ليطلب له بعض أصحابه، فيجيء إلى باب أحدهم فيقعقعه، فيعلم أن رسول الله يطلبه، وأنه ذكر للنبي أنه سلالة سبعين حمارا كل منها ركبه نبي، وأنه لما توفي رسول الله ذهب فتردى في بئر فمات، فهو حديث لا يعرف له إسناد بالكلية، وقد أنكره غير واحد من الحفاظ منهم: عبد الرحمن ابن أبي حاتم، وأبوه - رحمهما الله -.

وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله ينكره غير مرة إنكارا شديدا.

وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة: ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى العنبري، ثنا أحمد بن محمد بن يوسف، ثنا إبراهيم بن سويد الجذوعي، حدثني عبد الله بن أذين الطائي عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل قال: أتى النبي وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه فقال: « من أنت؟ »

قال: أنا عمرو بن فلان كنا، سبعة إخوة كلنا ركبنا الأنبياء، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكني رجل من اليهود فكنت إذا ذكرتك كبوت به فيوجعني ضربا.

فقال رسول الله : « فأنت يعفور ».

هذا حديث غريب جدا.

فصل إيراد ما بقي من متعلقات السيرة الشريفة

[عدل]

وهذا أوان إيراد ما بقي علينا من متعلقات السيرة الشريفة، وذلك أربعة كتب:

الأول: في الشمائل.

الثاني: في الدلائل.

الثالث: في الفضائل.

الرابع: في الخصائص.

وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

كتاب شمائل رسول الله وصفاته الخلقية

[عدل]

قد صنف الناس في هذا قديما وحديثا كتبا كثيرة مفردة وغير مفردة، ومن أحسن من جمع في ذلك فأجاد وأفاد: الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله، أفرد في هذا المعنى كتابه المشهور بالشمائل ولنا به سماع متصل إليه، ونحن نورد عيون ما أورده فيه، ونزيد عليه أشياء مهمة لا يستغنى عنها المحدث والفقيه.

ولنذكر أولا: بيان حسنه الباهر الجميل، ثم نشرع بعد ذلك في إيراد الجمل والتفاصيل، فنقول - والله حسبنا ونعم الوكيل -:

باب ما ورد في حسنه الباهر

[عدل]

قال البخاري: ثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: كان النبي أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير.

وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب، عن إسحاق بن منصور.

وقال البخاري: حدثنا جعفر بن عمر، ثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان النبي مربوعا بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه.

قال يوسف ابن أبي إسحاق عن أبيه: إلى منكبيه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال: ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير.

وقد رواه مسلم وأبو دواد والترمذي والنسائي من حديث وكيع به.

وقال الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، أنا أبو إسحاق.

ح وحدثنا يحيى ابن أبي بكير، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: ما رأيت أحدا من خلق الله أحسن في حلة حمراء من رسول الله ، وإن جمته لتضرب إلى منكبيه.

قال ابن أبي بكير: لتضرب قريبا من منكبيه.

قال - يعني: ابن إسحاق -: وقد سمعته يحدث به مرارا ما حدث به قط إلا ضحك.

وقد رواه البخاري في اللباس.

والترمذي في الشمائل.

والنسائي في الزينة من حديث إسرائيل به.

وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، ثنا زهير عن أبي إسحاق قال: سئل البراء بن عازب، أكان وجه رسول الله مثل السيف؟

قال: لا، بل مثل القمر.

ورواه الترمذي من حديث زهير بن معاوية الجعفي الكوفي عن أبي إسحاق السبيعي، واسمه: عمرو بن عبد الله الكوفي عن البراء بن عازب به.

وقال: حسن صحيح.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: أخبرنا أبو الحسن ابن الفضل القطان ببغداد، أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، ثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان، ثنا أبو نعيم وعبد الله عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة قال له رجل: أكان رسول الله وجهه مثل السيف؟

قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا.

وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن عبيد الله بن موسى به.

وقد رواه الإمام أحمد مطولا فقال: ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله قد شمط مقدم رأسه ولحيته؛ فإذا ادهن ومشطهن لم ينبين؛ وإذا شعث رأسه تبين؛ وكان كثير الشعر واللحية.

فقال رجل: وجهه مثل السيف؟

قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا.

قال: ورأيت خاتمه عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده.

وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو حامد بن بلال، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا المحاربي عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله في ليلة أضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر.

هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن هناد بن اليسري، عن عيثر بن القاسم، عن أشعث بن سوار.

قال النسائي: وهو ضعيف؛ وقد أخطأ والصواب أبو إسحاق عن البراء.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث أشعث بن سوار، وسألت محمد بن إسماعيل - يعني: البخاري - قلت: حديث أبي إسحاق عن البراء أصح، أم حديثه عن جابر، فرأى كلا الحديثين صحيحا.

وثبت في صحيح البخاري عن كعب بن مالك في حديث التوبة قال: وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وقد تقدم الحديث بتمامه.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد، ثنا يونس ابن أبي يعفور العبدي عن ابن إسحاق الهمداني، عن امرأة من همدان سماها قالت: حججت مع رسول الله فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن عليه بردان أحمران يكاد يمس منكبه، إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن، ثم يرفعه إليه فيقبله.

قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبهته؟

قالت: كالقمر ليلة البدر لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد الله بن موسى التيمي، ثنا أسامة بن زيد عن أبي عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوذ: صفي لي رسول الله .

قالت: يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة.

ورواه البيهقي من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن عبد الله بن موسى التيمي بسنده فقالت: لو رأيته لقلت الشمس طالعة.

وثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله مسرورا تبرق أسارير وجهه. الحديث.

صفة لون رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن خالد - هو ابن يزيد - عن سعيد - يعني: ابن هلال -، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن قال: سمعت أنس بن مالك يصف النبي قال: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا بآدم، ليس بجعد قطط ولا سبط رجل، أنزل عليه وهو ابن أربعين فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

قال ربيعة: فرأيت شعرا من شعره فإذا هو أحمر، فسألت فقيل: أحمر من الطيب.

ثم قال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك بن أنس عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول: كان رسول الله ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

وكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

ورواه أيضا عن قتيبة، ويحيى بن أيوب وعلي بن حجر، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر، وعن القاسم بن زكريا عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، ثلاثتهم عن ربيعة به.

ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن مالك به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

قال الحافظ البيهقي: ورواه ثابت عن أنس فقال: كان أزهر اللون.

قال: ورواه حميد كما أخبرنا، ثم ساق بإسناده عن يعقوب بن سفيان، حدثني عمرو بن عون وسعيد بن منصور قالا: حدثنا خالد بن عبد الله عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله أسمر اللون.

وهكذا روى هذا الحديث الحافظ أبو بكر البزار عن علي، عن خالد بن عبد الله، عن حميد، عن أنس، وحدثناه محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال: حدثنا حميد عن أنس قال: لم يكن رسول الله بالطويل ولا بالقصير، وكان إذا مشى تكفأ، وكان أسمر اللون.

ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن حميد إلا خالد وعبد الوهاب.

ثم قال البيهقي رحمه الله: أخبرنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو جعفر البزار، ثنا يحيى بن جعفر، ثنا علي بن عاصم، ثنا حميد سمعت أنس بن مالك يقول، فذكر الحديث في صفة النبي قال: كان أبيض بياضه إلى السمرة.

قلت: وهذا السياق أحسن من الذي قبله؛ وهو يقتضي أن السمرة التي كانت تعلو وجهه عليه السلام من كثرة أسفاره، وبروزه للشمس، والله أعلم.

فقد قال يعقوب بن سفيان الفسوي أيضا: حدثني عمرو بن عون وسعيد بن منصور قالا: ثنا خالد بن عبد الله بن الجريري عن أبي الطفيل قال: رأيت النبي ولم يبق أحد رآه غيري.

فقلنا له: صف لنا رسول الله .

فقال: كان أبيض مليح الوجه.

ورواه مسلم عن سعيد بن منصور به.

ورواه أيضا أبو داود من حديث سعيد بن أياس الجريري عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي قال: كان رسول الله أبيض مليحا إذا مشى كأنما ينحط في صبوب.

لفظ أبي داود.

وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن هارون، حدثنا الجريري قال: كنت أطوف مع أبي الطفيل فقال: ما بقي أحد رأى رسول الله غيري.

قلت: ورأيته؟

قال: نعم.

قال: قلت: كيف كانت صفته؟

قال: كان أبيض مليحا مقصدا.

وقد رواه الترمذي عن سفيان بن وكيع ومحمد بن بشار، كلاهما عن يزيد بن هارون به.

وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد الله بن جعفر أو أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا واصل بن عبد الأعلى الأسدي، ثنا محمد بن فضيل عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه.

ثم قال رواه مسلم عن واصل بن عبد الأعلى، ورواه البخاري عن عمرو بن علي، عن محمد بن فضيل، وأصل الحديث كما ذكر في الصحيحين، ولكن بلفظ آخر كما سيأتي.

وقال محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه أن سراقة بن مالك قال: أتيت رسول الله فلما دنوت منه وهو على ناقته جعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة.

وفي رواية يونس عن ابن إسحاق: والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة.

قلت: - يعني: من شدة بياضها كأنها جمارة طلع النخل -.

وقال الإمام أحمد: ثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية، عن مولى لهم - مزاحم ابن أبي مزاحم -، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، عن رجل من خزاعة يقال له: محرش أو مخرش - لم يكن سفيان يقف على اسمه، وربما قال: محرش ولم أسمعه أنا -: أن النبي خرج من الجعرانة ليلا فاعتمر ثم رجع فأصبح بها كبائت، فنظرت إلى ظهره كأنها سبيكة فضة.

تفرد به أحمد.

وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء، حدثني عمرو بن الحارث، حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيري، أخبرني محمد بن مسلم عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله فقال: كان شديد البياض.

وهذا إسناد حسن ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: ثنا حسن، ثنا عبد الله بن لهيعة، ثنا أبو يونس سليم بن جبير - مولى أبي هريرة - أنه سمع أبا هريرة يقول: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله كان كأن الشمس تجري في جبهته، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث.

ورواه الترمذي عن قتيبة، عن ابن لهيعة به.

وقال: كأن الشمس تجري في وجهه.

وقال: غريب.

ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد المصري، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة وقال: كأنما الشمس تجري في وجهه.

وكذلك رواه ابن عساكر من حديث حرملة عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة فذكره وقال: كأنما الشمس تجري في وجهه.

وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا حجاج، ثنا حماد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي - يعني: ابن الحنفية - عن أبيه قال: كان رسول الله أزهر اللون.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، عن نافع بن جبير، عن علي ابن أبي طالب قال: كان رسول الله مشربا وجهه حمرة.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا ابن الأصبهاني، ثنا شريك عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن جبير قال: وصف لنا علي النبي فقال: كان أبيض مشرب الحمرة.

وقد رواه الترمذي بنحوه من حديث المسعودي عن عثمان بن مسلم، عن هرمز وقال: هذا حديث صحيح.

قال البيهقي: وقد روي هكذا عن علي من وجه آخر.

قلت: رواه ابن جريج عن صالح بن سعيد، عن نافع بن جبير، عن علي قال البيهقي: ويقال: إن المشرب فيه حمرة ماضحا للشمس والرياح، وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر.

صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه

[عدل]

فرقه وجبينه وحاجبيه وعينيه وأنفه

وقد تقدم قول أبي الطفيل: كان أبيض مليح الوجه.

وقول أنس: كان أزهر اللون.

وقول البراء وقد قيل له: أكان وجه رسول الله مثل السيف - يعني: في صقاله -؟

فقال: لا، بل مثل القمر.

وقول جابر بن سمرة وقد قيل له: مثل ذلك.

فقال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا.

وقول الربيع بنت معوذ: لو رأيته لقلت الشمس طالعة.

وفي رواية: لرأيت الشمس طالعة.

وقال أبو إسحاق السبيعي عن امرأة من همدان حجت مع رسول الله فسألها عنه.

فقالت: كان كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقال أبو هريرة: كأن الشمس تجري في وجهه.

وفي رواية: في جبهته.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان وحسن بن موسى قالا: ثنا حماد - وهو ابن سلمة - عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه قال: كان رسول الله ضخم الرأس، عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العينين بحمرة، كث اللحية، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعا.

تفرد به أحمد.

وقال أبو يعلى: حدثنا زكريا ويحيى الواسطي، ثنا عباد بن العوام، ثنا الحجاج عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، عن علي أنه سئل عن صفة النبي فقال: كان لا قصيرا ولا طويلا، حسن الشعر رجله مشربا وجهه حمرة، ضخم الكراديس، شثن الكعبين والقدمين، عظيم الرأس، طويل المسربة، لم أر قبله ولا بعده مثله، إذا مشى تكفأ كأنما ينزل من صبب.

وقال محمد بن سعد عن الواقدي: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب عن أبيه، عن جده، عن علي قال: بعثني رسول الله إلى اليمن فإني لأخطب يوما على الناس، وحبر من أحبار يهود واقف في يده سفر ينظر فيه، فلما رآني قال: صف لنا أبا القاسم.

فقال علي: رسول الله ليس بالقصير ولا بالطويل البائن، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، هو رجل الشعر أسوده، ضخم الرأس، مشربا لونه حمرة، عظيم الكراديس، شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة، وهو الشعر الذي يكون من النحر إلى السرة، أهدب الأشفار، مقرون الحاجبين، صلت الجبين، بعيد ما بين المنكبين إذا مشى تكفأ كأنما ينزل من صبب، لم أر قبله مثله ولا بعده مثله.

قال علي: ثم سكت.

فقال لي الحبر: وماذا؟

قال علي: هذا ما يحضرني.

قال الحبر: في عينيه حمرة، حسن اللحية، حسن الفم، تام الأذنين، يقبل جميعا ويدبر جميعا.

فقال علي: والله هذه صفته.

قال الحبر: وشيء آخر.

قال علي: وما هو؟

قال الحبر: وفيه جناء.

قال علي: هو الذي قلت لك كأنما ينزل من صبب.

قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر إياي ونجده يبعث في حرم الله وأمنه وموضع بيته، ثم يهاجر إلى حرم يحرمه هو ويكون له حرمة كحرمة الحرم الذي حرم الله، ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوما من ولد عمر بن عامر أهل نخل، وأهل الأرض قبلهم يهود.

قال علي: هو هو، وهو رسول الله .

قال الحبر: فإني أشهد أنه نبي، وأنه رسول الله إلى الناس كافة، فعلى ذلك أحيا وعليه أموت، وعليه أبعث إن شاء الله.

قال: فكان يأتي عليا فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام، ثم خرج علي والحبر من هنالك حتى مات في خلافة أبي بكر، وهو مؤمن برسول الله مصدق به.

وهذه الصفة قد وردت عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب من طرق متعددة سيأتي ذكرها.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده قال: سئل أو قيل لعلي: انعت لنا رسول الله.

فقال: كان أبيض مشربا بياضه حمرة، وكان أسود الحدقة أهدب الأشفار.

قال يعقوب: وحدثنا عبد الله بن سلمة وسعيد بن منصور قالا: ثنا عيسى بن يونس، ثنا عمر بن عبد الله - مولى عفرة - عن إبراهيم بن محمد عن ولد علي قال: كان علي إذا نعت رسول الله.

قال: كان في الوجه تدوير، أبيض، أدعج العينين، أهدب الأشفار.

قال الجوهري: الدعج شدة سواد العينين مع سعتها.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، أخبرني سماك سمعت جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله أشهل العينين، منهوس العقب، ضليع الفم.

هكذا وقع في رواية أبي داود عن شعبة: أشهل العينين.

قال أبو عبيد: والشهلة حمرة في سواد العين، والشكلة حمرة في بياض العين.

قلت: وقد روى هذا الحديث مسلم في صحيحه عن أبي موسى وبندار، كلاهما عن أحمد بن منيع، عن أبي قطن، عن شعبة به.

وقال: أشكل العينين.

وقال: حسن صحيح.

ووقع في صحيح مسلم تفسير الشكلة بطول أشفار العينين، وهو من بعض الرواة، وقول أبي عبيد حمرة في بياض العين أشهر وأصح، وذلك يدل على القوة والشجاعة، والله تعالى أعلم.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني عمرو بن الحرث، حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي، حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله فقال: كان مفاض الجبين أهدب الأشفار.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو غسان، ثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، حدثني رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي، عن خاله قال: كان رسول الله واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان.

وقال يعقوب: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد العزيز ابن أبي ثابت الزهري، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: كان رسول الله أفلج الثنيتين، وكان إذا تكلم رئي كالنور بين ثناياه.

ورواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن إبراهيم بن المنذر به.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عباد بن حجاج عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كنت إذا نظرت المنذر به رسول الله قلت: أكحل العينين وليس بأكحل، وكان في ساقي رسول الله حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسما.

وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، حدثني مجمع بن يحيى عن عبد الله بن عمران الأنصاري، عن علي والمسعودي، عن عثمان بن عبد الله، عن هرمز، عن نافع بن جبير، عن علي قال: كان رسول الله ليس بالقصير ولا بالطويل، ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، والكراديس مشربا وجهه حمرة، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ كأنما يقلع من صخر لم أر قبله ولا بعده مثله.

قال ابن عساكر: وقد رواه عبد الله بن داود الخريبي عن مجمع، فأدخل بين ابن عمران وبين علي رجلا غير مسمى، ثم أسند من طريق عمرو بن علي الفلاس عن عبد الله بن داود، ثنا مجمع بن يحيى الأنصاري عن عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار قال: سألت علي ابن أبي طالب، وهو محتب بحمالة سيفه في مسجد الكوفة عن نعت رسول الله؟

فقال: كان أبيض اللون مشربا حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، دقيق المسربة، سهل الخد، كث اللحية، ذا وفرة كأن عنقه إبريق فضة، له شعر من لبته إلى سرته كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعا، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالعاجز ولا اللأم، كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سعيد بن منصور، ثنا نوح بن قيس الحرني، ثنا خالد بن خالد التميمي عن يوسف بن مازن المازني أن رجلا قال لعلي: يا أمير المؤمنين إنعت لنا رسول الله.

قال: كان أبيض مشربا حمرة، ضخم الهامة، أغر، أبلج، أهدب الأشفار.

وقال الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا شريك عن ابن عمير قال شريك: قلت له: عمن يا أبا عمير، عمن حدثه؟.

قال: عن نافع بن جبير، عن أبيه، عن علي قال: كان رسول الله ضخم الهامة، مشربا حمرة، شثن الكفين والقدمين، ضخم اللحية، طويل، لم أر قبله مثله ولا بعده.

وقد روي لهذا شواهد كثيرة عن علي، وروي عن عمر نحوه.

وقال الواقدي: ثنا بكير بن مسمار عن زياد بن سعد قال: سألت سعد ابن أبي وقاص هل خضب رسول الله؟

قال: لا، ولا هم به، كان شيبه في عنفقته وناصيته لو أشاء أن أعدها لعددتها.

قلت: فما صفته؟

قال: كان رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالسبط ولا بالقطط، وكانت لحيته حسنة وجبينه صلتا مشربا بحمرة، شثن الأصابع، شديد سواد الرأس واللحية.

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: ثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا يحيى بن حاتم العسكري، ثنا بسر بن مهران، ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول شيء علمته من رسول الله قدمت مكة في عمومة لي فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه، وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة له وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف، براق الثنايا، أدعج العينين، كث اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان كأنه القمر ليلة البدر.

وذكر تمام الحديث وطوافه عليه السلام بالبيت وصلاته عنده هو وخديجة وعلي ابن أبي طالب، وأنهم سألوا العباس عنه.

فقال: هذا هو ابن أخي: محمد بن عبد الله، وهو يزعم أن الله أرسله إلى الناس.

وقال الإمام أحمد: ثنا جعفر، ثنا عوف ابن أبي جميلة عن يزيد الفارسي قال: رأيت رسول الله في النوم في زمن ابن عباس قال: وكان يزيد يكتب المصاحف.

قال: فقلت لابن عباس: إني رأيت رسول الله في النوم.

قال ابن عباس: فإن رسول الله كان يقول: « إن الشيطان لا يستطيع أمية يتشبه بي، فمن رآني فقد رآني » هل تستطيع أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟

قال: قلت: نعم رأيت رجلا بين الرجلين جسمه، ولحمه أسمر إلى البياض، حسن الضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحمتيه من هذه إلى هذه، حتى كادت تملأ نحره.

قال عوف: لا أدري ما كان مع هذا من النعت.

قال: فقال ابن عباس: لو رأيته في اليقظة، ما استطعت أن تنعته فوق هذا.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن الزهري قال: سئل أبو هريرة عن صفة رسول الله فقال: أحسن الصفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول، ما هو بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العين، أهدب الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس لها أخمص، إذا وضع رداءه على منكبيه فكأنه سبيكة فضة، وإذا ضحك كاد يتلألأ في الجدر، لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقد رواه محمد بن يحيى من وجه آخر متصل فقال: ثنا إسحاق بن إبراهيم - يعني: الزبيدي - حدثني عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة فذكر نحو ما تقدم.

ورواه الذهلي عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن صالح، عن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين، يطأ بقدمه جميعا، إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.

ورواه الواقدي: حدثني عبد الملك عن سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ششن القدمين والكفين، ضخم الساقين، عظيم الساعدين، ضخم العضدين والمنكبين بعيد ما بينهما، رحب الصدر، رجل الرأس، أهدب العينين، حسن الفم، حسن اللحية، تام الأذنين، ربعة من القوم، لا طويل ولا قصير، أحسن الناس لونا، يقبل معا ويدبر معا، لم أر مثله ولم أسمع بمثله.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، ثنا أبو الحسن المحمودي المروزي، ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عثمان بن عمر، ثنا حرب بن سريج - صاحب الحلواني -، حدثني رجل بلعدر به، حدثني جدي قال: انطلقت إلى المدينة أذكر الحديث في رؤية رسول الله قال: فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجمة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود، شعره ورأسه من طمرين، فدنا مني وقال: السلام عليك.

ذكر شعره عليه السلام

[عدل]

قد ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل رسول الله ثم فرق بعده.

وقال الإمام أحمد: ثنا حماد بن خالد، ثنا مالك، ثنا زياد بن سعد عن الزهري، عن أنس أن رسول الله سدل ناصيته ما شاء أن يسدل، ثم فرق بعد.

تفرد به من هذا الوجه.

وقال محمد بن إسحاق بن جعفر بن الزبير عن عروة، عن عائشة قالت: أنا فرقت لرسول الله رأسه، صدعت فرقه عن يافوخه وأرسلت ناصيته بين عينيه.

قال ابن إسحاق: وقد قال محمد بن جعفر بن الزبير - وكان فقيها مسلما -: ما هي إلا سيما من سيما النصارى تمسكت بها النصارى من الناس.

وثبت في الصحيحين عن البراء أن رسول الله كان يضرب شعره إلى منكبيه.

وجاء في الصحيح عنه وعن غيره: إلى أنصاف أذنيه.

ولا منافاة بين الحالين، فإن الشعر تارة يطول، وتارة يقصر منه، فكل حكى بحسب ما رأى.

وقال أبو داود: ثنا ابن نفيل، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان شعر رسول الله فوق الوفرة ودون الجمة.

وقد ثبت أنه عليه السلام حلق جميع رأسه في حجة الوداع، وقد مات بعد ذلك بأحد وثمانين يوما - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن مسلم ويحيى بن عبد الحميد قالا: ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم هانئ: قدم النبي مكة قدمة وله أربع غدائر - تعني: ضفائر -.

وروى الترمذي من حديث سفيان بن عيينة، وثبت في الصحيحين من حديث ربيعة عن أنس قال بعد ذكره شعر رسول الله أنه ليس بالسبط ولا بالقطط قال: وتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

وفي صحيح البخاري من حديث أيوب عن ابن سيرين أنه قال: قلت لأنس: أخضب رسول الله؟

قال: إنه لم ير من الشيب إلا قليلا.

وكذا روى هو ومسلم من طريق حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس.

وقال حماد بن سلمة عن ثابت: قيل لأنس: هل كان شاب رسول الله؟

فقال: ما شانه الله بالشيب ما كان في رأسه إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة شعرة.

وعند مسلم من طريق المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس أن رسول الله لم يختضب إنما كان شمط عند العنفقة يسيرا، وفي الصدغين يسيرا، وفي الرأس يسيرا.

وقال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا همام عن قتادة قال: سألت أنسا هل خضب رسول الله ؟

قال: لا، إنما كان شيء في صدغيه.

وروى البخاري عن عصام بن خالد، عن جرير بن عثمان قال: قلت لعبد الله بن بسر السلمي رأيت رسول الله أكان شيخا؟

قال: كان في عنفقته شعرات بيض.

وتقدم عن جابر بن سمرة مثله.

وفي الصحيحين من حديث أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله هذه منه بيضاء - يعني: عنفقته -.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة السكري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي قال: دخلنا على أم سلمة، فأخرجت إلينا من شعر رسول الله فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم.

رواه البخاري عن إسماعيل بن موسى، عن سلام ابن أبي مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أم سلمة به.

وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا يحيى بن بكير، ثنا إسرائيل عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم فيه من شعر رسول الله، فكان إذا أصاب إنسانا الحمى بعث إليها فحضحضته فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه.

قال: فبعثني أهلي إليها، فأخرجته فإذا هو هكذا - وأشار إسرائيل بثلاث أصابع - وكان فيه خمس شعرات حمر.

رواه البخاري عن مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن إياد، حدثني إياد عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله فلما رأيته قال: هل تدري من هذا؟

قلت: لا.

قال: إن هذا رسول الله، فاقشعررت حين قال ذلك، وكنت أظن أن رسول شيء لا يشبه الناس، فإذا هو بشر ذو وفرة بها ردع من حناء، وعليه بردان أخضران.

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه، عن أبي رمثة - واسمه: حبيب بن حيان - ويقال: رفاعة بن يثربي.

وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث إياد كذا قال.

وقد رواه النسائي أيضا من حديث سفيان الثوري وعبد الملك بن عمير، كلاهما عن إياد بن لقيط به ببعضه.

ورواه يعقوب بن سفيان أيضا عن محمد بن عبد الله المخرمي، عن أبي سفيان الحميري، عن الضحاك بن حمزة بن غيلان بن جامع، عن إياد بن لقيط بن أبي رمثة قال: كان رسول الله يخضب بالحناء والكتم، وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه.

وقال أبو داود: ثنا عبد الرحيم بن مطرف بن سفيان، ثنا عمرو بن محمد، أنا ابن أبي داود عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك.

ورواه النسائي عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي، عن عمرو بن محمد المنقري به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا الحسن بن محمد بن زياد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا يحيى بن آدم.

ح وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أنا عبد الله بن جعفر، أنا يعقوب بن سفيان، حدثني أبو جعفر محمد بن عمر بن الوليد الكندي الكوفي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان شيب رسول الله نحوا من عشرين شعرة.

وفي رواية إسحاق: رأيت شيب رسول الله نحوا من عشرين شعرة بيضاء في مقدمه.

قال البيهقي: وحدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أحمد بن سلمان الفقيه، ثنا هلال بن العلاء الرقي، ثنا حسين بن عياش الرقي، ثنا جعفر بن برقان، ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قدم أنس بن مالك المدينة، وعمر بن عبد العزيز وال عليها فبعث إليه عمر وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله فإني رأيت شعرا من شعره قد لون.

فقال أنس: إن رسول الله قد منع بالسواد، ولو عددت ما أقبل على من شيبه في رأسه ولحيته ما كنت أزيد على إحدى عشرة شيبة، وإنما هو الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله هو الذي غير لونه.

قلت: ونفي أنس للخضاب معارض بما تقدم عن غيره من إثباته، والقاعدة المقررة أن الإثبات مقدم على النفي، لأن المثبت معه زيادة علم ليست عند النافي، وهكذا إثبات غيره لزيادة ما ذكر من السبب مقدم، لا سيما عن ابن عمر الذي المظنون أنه تلقى ذلك عن أخته أم المؤمنين حفصة، فإن اطلاعها أتم من إطلاع أنس، لأنها ربما أنها فلت رأسه الكريم عليه الصلاة والسلام.

ما ورد في منكبيه وساعديه وإبطيه وقدميه وكعبيه صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قد تقدم ما أخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله مربوعا بعيدا ما بين المنكبين.

وروى البخاري عن أبي النعمان، عن جرير، عن قتادة، عن أنس قال: كان النبي ضخم الرأس والقدمين سبط الكفين.

وتقدم من غير وجه أنه عليه السلام كان شثن الكفين والقدمين.

وفي رواية: ضخم الكفين والقدمين.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا آدم وعاصم بن علي قالا: ثنا ابن أبي ذئب، ثنا صالح - مولى التوأمة - قال: كان أبو هريرة ينعت رسول الله قال: كان شبح الذراعين بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين.

وفي حديث نافع بن جبير عن علي قال: كان رسول الله شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، طويل المسربة.

وتقدم في حديث حجاج عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كان في ساقي رسول الله حموشة.

أي: لم يكونا ضخمين.

وقال سراقة بن مالك بن جعشم: فنظرت إلى ساقيه.

وفي رواية: قدميه في الغرز - يعني: الركاب - كأنهما جمارة - أي: جمارة النخل من بياضهما -.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة: كان ضليع الفم - وفسره: بأنه عظيم الفم -، أشكل العينين - وفسره: بأنه طويل شق العينين -، منهوس العقب - وفسره: بأنه قليل لحم العقب - وهذا أنسب وأحسن في حق الرجال.

وقال الحارث ابن أبي أسامة: ثنا عبد الله بن بكر، ثنا حميد عن أنس قال: أخذت أم سليم بيدي مقدم رسول الله المدينة فقالت: يا رسول الله هذا أنس غلام كاتب يخدمك.

قال: فخدمته تسع سنين، فما قال لشيء صنعت: « أسأت، ولا بئس ما صنعت » ولا مسست شيئا قط خزا ولا حريرا ألين من كف رسول الله، ولا شممت رائحة قط مسكا ولا عنبرا أطيب من رائحة رسول الله .

وهكذا رواه معتمر بن سليمان، وعلي بن عاصم، ومروان بن معاوية الفزاري، وإبراهيم بن طهمان، كلهم عن حميد، عن أنس في لين كفه عليه السلام وطيب رائحته - صلاة الله وسلامه عليه -.

وفي حديث الزبيدي عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة أن رسول الله كان يطأ بقدمه كلها ليس لها أخمص، وقد جاء خلاف هذا كما سيأتي.

وقال يزيد بن هارون: حدثني عبد الله بن يزيد بن مقسم قال: حدثتني عمتي سارة بنت مقسم عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله بمكة وهو على ناقة، وأنا مع أبي، وبيد رسول الله درة كدرة الكتاب، فدنا منه أبي فأخذ يقدمه، فأقر له رسول الله قالت: فما نسيت طول إصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.

ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون مطولا.

ورواه أبو داود من حديث يزيد بن هارون ببعضه، وعن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق، عن ابن جريح، عن إبراهيم بن ميسرة، عن خالته عنها.

ورواه ابن ماجه من وجه آخر عنها، والله أعلم.

وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبد الله بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا محمد بن إسحاق أبو بكر، ثنا سلمة بن حفص السعدي، ثنا يحيى بن اليمان، ثنا إسرائيل عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كانت إصبع لرسول الله خنصره من رجله متظاهرة.

وهذا حديث غريب.

قوامه عليه السلام وطيب رائحته

[عدل]

في صحيح البخاري من حديث ربيعة عن أنس قال: كان رسول الله ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير.

وقال أبو إسحاق: عن البراء كان رسول الله أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير.

أخرجاه في الصحيحين.

وقال نافع بن جبير عن علي: كان رسول الله ليس بالطويل ولا بالقصير، لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقال سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله، عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: كان رسول الله ليس بالطويل ولا بالقصير، وهو إلى الطول أقرب، وكان عرقه كاللؤلؤ، الحديث.

وقال سعيد عن روح بن قيس، عن خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي، عن علي قال: كان رسول الله ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، وكان عرقه في وجهه كاللؤلؤ، الحديث.

وقال الزبيدي عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ربعة وهو إلى الطول أقرب، وكان يقبل جميعا ويدبر جميعا، لم أر قبله ولا بعده مثله.

وثبت في البخاري من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس قال: ما مسست بيدي ديباجا، ولا حريرا، ولا شيئا ألين من كف رسول الله، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله .

ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة: عن ثابت، عن أنس به.

ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكا ولا عنبرا، أطيب من رائحة رسول الله .

وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي، ثنا حميد عن أنس قال: ما مسست شيئا قط خزا ولا حريرا ألين من كف رسول الله ، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله .

والإسناد ثلاثي على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.

وقال يعقوب بن سفيان: أنا عمرو بن حماد بن طلحة الفناد.

وأخرجه البيهقي من حديث أحمد بن حازم ابن أبي عروة عنه قال: ثنا أسباط بن نصر عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا، واحدا قال: وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جونة عطار.

ورواه مسلم عن عمرة بن حماد به نحوه.

وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة وحجاج، أخبرني شعبة عن الحكم سمعت أبا جحيفة قال: خرج رسول الله بالهاجرة السلمي البطحاء، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين، وبين يديه عنزة.

زاد فيه عون عن أبيه: يمر من ورائها الحمار والمرأة.

قال حجاج في الحديث: ثم قام الناس فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم.

قال: فأخذت يده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك.

وهكذا رواه البخاري عن الحسن بن منصور، عن حجاج بن محمد الأعورعن شعبة فذكر مثله سواء، وأصل الحديث في الصحيحين أيضا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنا هشام بن حسان وشعبة وشريك عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد، عن أبيه - يعني: يزيد بن الأسود - قال: صلى رسول الله بمنى فانحرف فرأى رجلين من وراء الناس، فدعا بهما فجيئا ترعد فرائصهما.

فقال: « ما منعكما أن تصليا مع الناس؟ ».

قالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في الرحال.

قال: « فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة ».

قال: فقال أحدهما: استغفر لي يا رسول الله فاستغفر له.

قال: ونهض الناس إلى رسول الله ونهضت معهم وأنا يومئذ أشب الرجال وأجلده.

قال: فما زلت أزحم الناس حتى وصلت إلى رسول الله فأخذت بيده فوضعتها إما على وجهي أو صدري.

قال: فما وجدت شيئا أطيب ولا أبرد من يد رسول الله .

قال: وهو يومئذ في مسجد الخيف.

ثم رواه أيضا عن أسود بن عامر وأبي النضر عن شعبة، عن يعلى بن عطاء سمعت جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع رسول الله الصبح، فذكر الحديث.

قال: ثم ثار الناس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم.

قال: فأخذت بيده فمسحت بها وجهي، فوجدتها أبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك.

وقد رواه أبو داود من حديث شعبة والترمذي، والنسائي، من حديث هشيم عن يعلى به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا مسعر عن عبد الجبار بن وائل بن حجر قال: حدثني أهلي عن أبي قال: أتى رسول الله بدلو من ماء فشرب منه، ثم مج في الدلو ثم صب في البئر، أو شرب من الدلو ثم مج في البئر، ففاح منها ريح المسك.

وهذا رواه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي النعيم - وهو الفضل بن دكين -.

وقال الإمام أحمد: ثنا هاشم، ثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيمس يده فيها.

ورواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى، ثنا عبد العزيز - يعني: ابن أبي سلمة الماجشون - عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس قال: كان رسول الله يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه.

قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا رسول الله نائم في بيتك على فراشك.

قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عبيرتها، فجعلت تنشف ذلك العرق فتصره في قواريرها، ففزع النبي فقال: « ما تصنعين يا أم سليم؟ ».

فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا.

قال: « أصبت ».

ورواه مسلم عن محمد بن رافع، عن حجين به.

وقال أحمد: ثنا هاشم بن القاسم، ثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال: دخل علينا رسول الله ، فقال عندنا فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ رسول الله فقال: « يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ ».

قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب.

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.

وقال أحمد: ثنا إسحاق بن منصور - يعني: السلولي - ثنا عمارة - يعني: ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله يقيل عند أم سليم، وكان من أكثر الناس عرقا، فاتخذت له نطعا وكان يقيل عليه، وحطت بين رجليه حطا وكانت تنشف العرق فتأخذه.

فقال: « ما هذا يا أم سليم؟ ».

قالت: عرقك يا رسول الله أجعله في طيبي.

قال: فدعا لها بدعاء حسن.

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال أحمد: ثنا محمد بن عبد الله، ثنا حميد عن أنس قال: كان رسول الله إذا نام ذا عرق، فتأخذ عرقه بقطنة في قارورة فتجعله في مسكها.

وهذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولا أحد منهما.

وقال البيهقي: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمرو المغربي، أنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة.

وقال مسلم: ثنا أبو بكر ابن شيبة، ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس، عن أم سليم أن رسول الله كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعا فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير.

فقال رسول الله : « يا أم سليم ما هذا؟ ».

فقالت: عرقك أدوف به طيبي.

لفظ مسلم.

وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: ثنا بسر، ثنا حليس بن غالب، ثنا سفيان الثوري عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني زوجت ابنتي وأنا أحب أن تعينني بشيء قال: « ما عندي شيء ولكن إذا كان غد فأتني بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة وآية بيني وبينك أن تدق ناحية الباب ».

قال: فأتاه بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة.

قال: فجعل يسلت العرق من ذراعيه حتى امتلأت القارورة.

قال: « فخذها ومر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة وتطيب به ».

قال: فكانت إذا تطيبت به شم أهل المدينة رائحة الطيب، فسموا بيوت المطيبين.

هذا حديث غريب جدا.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن هشام، ثنا موسى بن عبد الله، ثنا عمر بن سعيد عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كان رسول الله إذا مر في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب.

وقالوا: مر رسول الله في هذا الطريق.

ثم قال: وهذا الحديث رواه أيضا معاذ بن هشام عن أبيه، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله كان يعرف بريح الطيب، كان رسول الله طيبا وريحه طيب، وكان مع ذلك يحب الطيب أيضا.

قال الإمام أحمد: ثنا أبو عبيدة عن سلام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس أن النبي قال: « حبب إلى النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ».

ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا سلام أبو المنذر القاري عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله : « إنما حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ».

وهكذا رواه النسائي بهذا اللفظ عن الحسين بن عيسى القرشي، عن عفان بن مسلم، عن سلام بن سليمان أبي المنذر القاري البصري، عن ثابت، عن أنس فذكره.

وقد روى من وجه آخر بلفظ: « حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة ».

وليس بمحفوظ بهذا فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا، وإنما هي من أهم شؤون الآخرة، والله أعلم.

صفة خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال البخاري: ثنا محمد بن عبيد الله، ثنا حاتم عن الجعد قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة.

وهكذا رواه مسلم عن قتيبة ومحمد بن عباد، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.

ثم قال البخاري: الحجلة من حجلة الفرس الذي بين عينيه.

وقال إبراهيم بن حمزة: رز الحجلة.

قال أبو عبد الله: الرز الراء قبل الزاي.

وقال مسلم: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عبيد الله عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية.

فقال رجل: وجهه مثل السيف؟

قال: لا! بل كان المثل الشمس والقمر وكان مستديرا، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده.

حدثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن حزم، ثنا شعبة عن سماك سمعت جابر بن سمرة قال: رأيت خاتما في ظهر رسول الله كأنه بيضة حمام.

وحدثنا ابن نمير، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا حسن بن صالح عن سماك بهذا الإسناد مثله.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن السرجس قال: ترون هذا الشيخ - يعني: نفسه - كلمت نبي الله وأكلت معه، ورأيت العلامة التي بين كتفيه، وهي في طرف نغض كتفه اليسرى، كأنه جمع - بمعنى: الكف المجتمع وقال بيده: فقبضها - عليه خيلان كهيئة الثواليل.

وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم وأسود بن عامر قالا: ثنا شريك عن عاصم، عن عبد الله بن السرجس قال: رأيت رسول الله وسلمت عليه، وأكلت معه، وشربت من شرابه، ورأيت خاتم النبوة.

قال هاشم: في نغض كتفه اليسرى كأنه جمع فيه خيلان سود كأنها الثآليل.

ورواه عن غندر، عن شعبة، عن عاصم، عن عبد الله بن السرجس، فذكر الحديث.

وشك شعبة في أنه هل هو في نغض الكتف اليمنى أو اليسرى.

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن زيد وعلي بن مسهر وعبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن عاصم، عن عبد الله بن الرجس قال: أتيت رسول الله وأكلت معه خبزا ولحما - أو قال: ثريدا -.

فقلت: يا رسول الله غفر الله لك.

قال: « ولك ».

فقلت: أستغفر لك يا رسول الله؟

قال: « نعم! ولكم » ثم تلا هذه الآية { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } . 1.

قال: ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا قرة بن خالد، ثنا معاوية بن قرة عن أبيه قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله أرني خاتم الخاتم.

فقال: « أدخل يدك ».

فأدخلت يدي في جربانه، فجعلت ألمس أنظر إلى الخاتم الرجس، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي وإن يدي لفي جربانه.

ورواه النسائي عن أحمد بن سعيد، عن وهب بن جرير، عن قرة بن خالد به.

وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان عن إياد بن لقيط السدوسي، عن أبي رمثة التيمي قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله فرأيت برأسه ردع حناء، ورأيت على كتفه مثل التفاحة.

فقال أبي: إني طبيب أفلا أطبها لك.

قال: « طبيبها الذي خلقها ».

قال: وقال لأبي: « هذا ابنك؟ »

قال: نعم!

قال: « أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ».

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن زياد، حدثني أبي عن أبي ربيعة أو رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي فنظر إلى مثل السلعة بين كتفيه فقال: يا رسول الله إني كأطب الرجال أفأعالجها لك.

قال: « لا طبيبها الذي خلقها ».

قال البيهقي، وقال الثوري عن إياد بن لقيط: في هذا الحديث فإذا خلف كتفيه مثل التفاحة.

وقال عاصم بن بهدلة عن أبي رمثة: فإذا في نغض كتفه مثل بعرة البعير أو بيضة الحمامة.

ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب عن سلامة العجلي، عن سلمان الفارسي قال: أتيت رسول الله فألقى إلي رداءه وقال: « يا سلمان انظر إلى ما أمرت به ».

قال: فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة.

وروى يعقوب بن سفيان عن الحميدي، عن يحيى بن سليم، عن أبي خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، عن التنوخي الذي بعثه هرقل إلى رسول الله وهو بتبوك، فذكر الحديث كما قدمناه في غزوة تبوك إلى أن قال: فحل حبوته عن ظهره ثم قال: « ههنا امض لما أمرت به ».

قال: فجلت في ظهره الرجس أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف، مثل الحجمة الضخمة.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن ميسرة، ثنا عتاب سمعت أبا سعيد يقول: الخاتم الذي بين كتفي النبي لحمة نابتة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح، ثنا أبو ليلى عبد الله بن ميسرة الخراساني عن غياث البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة فسألته عن خاتم رسول الله الذي كان بين كتفيه.

فقال: بإصبعه السبابة هكذا لحم ناشز بين كتفيه .

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقد ذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية المصري في كتابه التنوير في مولد البشير النذير عن أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسين بن بشر - المعروف: بالحكيم الترمذي - أنه قال: كان الخاتم الذي بين كتفي رسول الله كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: الله وحده، وفي ظاهرها: توجه حيث شئت فإنك منصور.

ثم قال: وهذا غريب واستنكره.

قال: وقيل: كان من نور ذكره الإمام أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ في كتابه تنقل الأنوار وحكى أقوالا غريبة غير ذلك.

ومن أحسن ما ذكره ابن دحية رحمه الله وغيره من العلماء قبله في الحكمة في كون الخاتم كان بين كتفي رسول الله : إشارة إلى أنه لا نبي بعدك يأتي من ورائك.

قال: وقيل: كان على نغض كتفه لأنه يقال: هو الموضع الذي يدخل الشيطان منه إلى الإنسان، فكان هذا عصمة له عليه السلام من الشيطان.

قلت: وقد ذكرنا الأحاديث الدالة على أنه لا نبي بعده عليه السلام ولا رسول عند تفسير قوله تعالى: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما } 2.

باب أحاديث متفرقة وردت في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قد تقدم في رواية نافع بن جبير عن علي ابن أبي طالب أنه قال: لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عبد الله بن مسلم القعنبي وسعيد بن منصور، ثنا عمر بن يونس، ثنا عمر بن عبد الله مولى عفرة، حدثني إبراهيم بن محمد - من ولد علي - قال: كان علي إذا نعت رسول الله قال: لم يكن بالطويل الممغط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم، ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير أبيض مشربا، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا بين كتفيه خاتم النبوة، أجود الناس كفا، وأرحب الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وألزمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقد روى هذا الحديث الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الغريب، ثم روى عن الكسائي، والأصمعي، وأبي عمرو تفسير غريبه.

وحاصل ما ذكره مما فيه غرابة:

أن المطهم: هو الممتلئ الجسم.

والمكلثم: شديد تدوير الوجه - يعني: لم يكن بالسمين الناهض، ولم يكن ضعيفا - بل كان بين ذلك - ولم يكن وجهه في غاية التدوير بل فيه سهولة وهي أحل عند العرب ومن يعرف.

وكان أبيض مشربا حمرة: وهي أحسن اللون، ولهذا لم يكن أمهق اللون.

والأدعج هو شديد سواد الحدقة.

وجليل المشاش هو عظيم رءوس العظام مثل الركبتين، والمرفقين، والمنكبين، والكتد الكاهل وما يليه من الجسد.

وقوله: شثن الكفين، أي غليظهما.

وتقلع في مشيته أي شديد المشية.

وتقدم الكلام على الشكلة، والشهلة، والفرق بينهما.

والأهدب طويل أشفار العين.

وجاء في حديث أنه كان شبح الذراعين يعني غليظهما، والله تعالى أعلم.

حديث أم معبد في ذلك

[عدل]

قد تقدم الحديث بتمامه في الهجرة من مكة إلى المدينة حين ورد عليها رسول الله ومعه أبو بكر، ومولاه عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الديلي، فسألوها هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها؟

فلم يجدوا عندها شيئا، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى.

وكانوا ممحلين، فنظر إلى شاة في كسر خيمتها فقال: « ما هذه الشاة يا أم معبد؟ »

فقالت: خلفها الجهد.

فقال: « أتأذنين أن أحلبها؟ »

فقالت: إن كان بها حلب، فاحلبها، فدعا بالشاة فمسحها، وذكر اسم الله، فذكر الحديث في حلبه منها ما كفاهم أجمعين، ثم حلبها وترك عندها إناءها ملأى، وكان يربض الرهط، فلما جاء بعلها استنكر اللبن.

وقال: من أين لك هذا يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت، والشاء عازب؟

فقالت: لا والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.

فقال: صفيه لي، فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب.

فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزربه صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزج، أقرن، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.

فقال بعلها: هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.

قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد

فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجازى وسؤدد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكموا إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مزبد

فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد

وقد قدمنا جواب حسان بن ثابت لهذا الشعر المبارك بمثله في الحسن.

والمقصود: أن الحافظ البيهقي روى هذا الحديث من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي قال: ثنا الحسن بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي - فذكر الحديث بطوله كما قدمناه بألفاظه -.

وقد رواه الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي، والحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة قال عبد الملك: فبلغني أن أبا معبد أسلم بعد ذلك، وأن أم معبد هاجرت وأسلمت، ثم إن الحافظ البيهقي أتبع هذا الحديث بذكر غريبه، وقد ذكرناه في الحواشي فيما سبق ونحن نذكر ههنا نكتا من ذلك.

فقولها: ظاهر الوضاءة: أي ظاهر الجمال.

أبلج الوجه: أي مشرق الوجه مضيئه.

لم تعبه ثجلة: قال أبو عبيد: هو كبر البطن، وقال غيره: كبر الرأس، ورد أبو عبيدة رواية من روى: لم تعبه نحلة - يعني: من النحول - وهو الضعف.

قلت: وهذا هو الذي فسر به البيهقي الحديث.

والصحيح: قول أبي عبيدة، ولو قيل: إنه كبر الرأس لكان قويا.

وذلك لقولها بعده: لو تزر به صعلة، وهو صغر الرأس بلا خلاف، ومنه يقال لولد النعامة: صعل لصغر رأسه، ويقال له: الظليم.

وأما البيهقي فرواه: لم تعبه نحلة - يعني: من الضعف - كما فسره.

ولم تزر به صعلة: وهو الحاصرة يريد أنه ضرب من الرجال، ليس بمشفح ولا ناحل.

قال: ويروى: لم تعبه ثجلة، وهو كبر البطن.

ولم تزر به صعلة: وهو صغر الرأس.

وأما الوسيم: فهو حسن الخلق، وكذلك القسيم أيضا.

والدعج: شدة سواد الحدقة.

والوطف: طول أشفار العينين.

ورواه القتيبي في أشفاره عطف، وتبعه البيهقي في ذلك.

قال ابن قتيبة: ولا أعرف ما هذا لأنه وقع في روايته غلط فحار في تفسيره، والصواب ما ذكرناه والله أعلم.

وفي صوته صحل: وهو بحة يسيرة، وهي أحلى في الصوت من أن يكون حادا.

قال أبو عبيد: وبالصحل يوصف الظباء، قال: ومن روى: في صوته صهل، فقد غلط فإن ذلك لا يكون إلا في الخيل، ولا يكون في الإنسان.

قلت: وهو الذي أورده البيهقي.

قال: ويروى: صحل.

والصواب قول أبي عبيد، والله أعلم.

وأما قولها: أحور فمستغرب في صفة النبي وهو قبل في العين يزينها لا يشينها كالحول.

وقولها: أكحل قد تقدم له شاهد.

وقولها: أزج قال أبو عبيد: هو المتقوس الحاجبين.

قال: وأما قولها: أقرن: فهو التقاء الحاجبين بين العينين.

قال: ولا يعرف هذا في صفة النبي إلا في هذا الحديث قال: والمعروف في صفته عليه السلام أنه أبلج الحاجبين.

في عنقه سطع: قال أبو عبيد: أي طول، وقال غيره: نور.

قلت: والجمع ممكن، بل متعين.

وقولها: إذا صمت فعليه الوقار: أي الهيبة عليه في حال صمته وسكوته.

وإذا تكلم سما: أي علا على الناس.

وعلاه البهاء: أي في حال كلامه.

حلو المنطق فصل: أي فصيح بليغ، يفصل الكلام ويبينه.

لا نزر ولا هذر: أي لا قليل ولا كثير.

كأن منطقه خرزات نظم: يعني: الذي من حسنه، وبلاغته، وفصاحته، وبيانه، وحلاوة لسانه.

أبهى الناس وأجمله من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب: أي هو مليح من بعيد ومن قريب.

وذكرت أنه لا طويل ولا قصير، بل هو أحسن من هذا ومن هذا.

وذكرت أن أصحابه يعظمونه ويخدمونه، ويبادرون إلى طاعته، وما ذلك إلا لجلالته عندهم، وعظمته في نفوسهم، ومحبتهم له.

وأنه ليس بعابس: أي ليس يعبس.

ولا يفند أحدا: أي يهجنه ويستقل عقله، بل جميل المعاشرة، حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه، وهو حبيب إليه - صلى الله عليه -.

حديث هند ابن أبي هالة في ذلك

[عدل]

وهند هذا هو ربيب رسول الله أمه خديجة بنت خويلد، وأبوه أبو هالة، كما قدمنا بيانه.

قال يعقوب بن سفيان الفسوي الحافظ رحمه الله: حدثنا سعيد بن حماد الأنصاري المصري، وأبو غسان مالك بن إسماعيل الهندي قالا: ثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي قال: حدثني رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي قال: سألت خالي هند ابن أبي هالة - وكان وصافا - عن حلية رسول الله وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به -.

فقال: كان رسول الله فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إذا تفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، ذا وفرة، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، أدعج سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب مفلج الأسنان، دقيق المسربة كأنه عنقه جيد دمية في صفاء - يعني: الفضة -، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط الغضب، شثن الكفين والقدمين، سابل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا زال زال قلعا يخطو تكفيا ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره السماء، جل نظره الملاحظة يسوق أصحابه يبدأ من لقيه بالسلام.

قلت: صف لي منطقه.

قال: كان رسول الله متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا ولا يمدحه، ولا يقوم لغضبه إذا تعرض للحق شيء حتى ينتصر له.

وفي رواية: لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعرض للحق لم يعرفه أحد، ولم يقيم لغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث يصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.

قال الحسن: فكتمتها الحسين بن علي زمانا ثم حدثته، فوجدته قد سبقني إليه فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله، ومخرجه، ومجلسه، وشكله فلم يدع منه شيئا.

قال الحسن: سألت أبي عن دخول رسول الله فقال: كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك، وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزأه بين الناس فرد ذلك على العامة والخاصة لا يدخر عنهم شيئا، وكان من سيرته في جزء الأمة: إيثار أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي ويقول: « ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من بلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه، ثبت الله قدميه يوم القيامة ».

لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون عليه زوارا، ولا يفترقون إلا عن ذواق.

وفي رواية: ولا يتفرقون إلا عن ذوق، ويخرجون أدلة - يعني: فقهاء -.

قال: وسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟

فقال: كان رسول الله - - يخزن لسانه إلا بما يعينهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خاتمه، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.

قال: فسألته عن مجلسه، كيف كان؟

فقال: كان رسول الله - - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم منه عليه منه، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حكم، وحياء، وصبر، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنشى فلتاته متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.

قال: فسألته عن سيرته في جلسائه.

فقال: كان رسول الله دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح، يتغافل عما لا يشتهى، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إذا كان أصحابه ليستجلبونهم في المنطق ويقول: « إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه » ولا، يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.

قال: فسألته كيف كان سكوته.

قال: كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر، فأما تقديره: ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تذكره - أو قال: تفكره -: ففيما يبقى ويفنى، وجمع له لله الحلم، والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى، والقيام لهم فيما جمع لهم الدنيا والآخرة .

وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله في كتاب شمائل رسول الله عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، حدثني رجل من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله سماه غيره يزيد بن عمر، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي قال: سألت خالي فذكره، وفيه حديثه عن أخيه الحسين، عن أبيه علي ابن أبي طالب.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل عن أبي عبد الله الحاكم النيسابوري لفظا وقراءة عليه، أنا أبو محمد الحسن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب القعنبي، صاحب كتاب النسب ببغداد: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب أبو محمد بالمدينة سنة ست وستين ومائتين، حدثني علي بن جعفر بن محمد، عن أخيه موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن علي بن الحسين قال: قال الحسن: سألت خالي هند ابن أبي هالة فذكره.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي -رحمه الله - في كتابه الأطراف بعد ذكره ما تقدم من هاتين الطريقين: وروى إسماعيل بن مسلم بن قعنب القعنبي عن إسحاق بن صالح المخزومي، عن يعقوب التيمي، عن عبد الله بن عباس أنه قال لهند ابن أبي هالة - وكان وصافا لرسول الله -: صف لنا رسول الله ، فذكر بعض هذا الحديث.

وقد روى الحافظ البيهقي من طريق صبيح بن عبد الله الفرغاني - وهو ضعيف - عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة حديثا مطولا في صفة النبي قريبا من حديث هند بن أبي هالة.

وسرده البيهقي بتمامه، وفي أثنائه تفسير ما فيه من الغريب، وفيما ذكرناه غنية عنه، والله تعالى أعلم.

وروى البخاري عن أبي عاصم الضحاك، عن عمر بن سعيد بن أحمد بن حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث قال: صلى أبو بكر العصر بعد موت النبي بليال، فخرج هو وعلي يمشيان فإذا الحسن بن علي يلعب مع الغلمان قال: فاحتمله أبو بكر على كاهله وجعل يقول: بأبي شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي، وعلي يضحك منهما رضي الله عنهما.

وقال البخاري: ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا إسماعيل عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله وكان الحسن بن علي يشبهه.

وروى البيهقي عن أبي علي الروذباري، عن عبد الله بن جعفر بن شوذب الواسطي، عن شعيب بن أيوب الصريفيني، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانىء، عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله ما كان أسفل من ذلك.

باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قد قدمنا طيب أصله ومحتده، وطهارة نسبه ومولده، وقد قال الله تعالى: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } . 3.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « بعثت من خير قرون بني آدم قرنا بعد قرن، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه ».

وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله : « إن الله اصطفى قريشا من بني إسماعيل، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم ».

وقال الله تعالى: « ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم ». 4.

قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم }: يعني: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام.

وهكذا قال مجاهد، وابن مالك، والسدي، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال عطية: لعلى أدب عظيم.

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث قتادة عن زرارة ابن أبي أوفى، عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله .

فقالت: أما تقرأ القرآن؟

قلت: بلى!

فقالت: كان خلقه القرآن.

وقد روى الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري قال: وسئلت عائشة عن خلق رسول الله .

فقالت: كان خلقه القرآن.

وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن ابن مهدي، والنسائي من حديثه، وابن جرير من حديث ابن وهب، كلاهما عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فسألتها عن خلق رسول الله .

فقالت: كان خلقه القرآن.

ومعنى هذا: أنه عليه السلام مهما أمره به القرآن العظيم امتثله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الأخلاق الجبلية الأصلية العظيمة التي لم يكن أحد من البشر ولا يكون على أجمل منها، وشرع له الدين العظيم الذي لم يشرعه لأحد قبله، وهو مع ذلك خاتم النبيين فلا رسول بعده ولا نبي فكان فيه من الحياء، والكرم، والشجاعة، والحلم، والصفح، والرحمة، وسائر الأخلاق الكاملة ما لا يحد، ولا يمكن وصفه.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سليمان، ثنا عبد الرحمن، ثنا الحسن بن يحيى، ثنا زيد بن واقد عن بشر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله .

فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه.

وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، أنا قيس بن أنيف، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران، عن زيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: يا أم المؤمنين، كيف كان خلق رسول الله -

قالت: كان خلق رسول الله - - القرآن.

ثم قالت: أتقرأ سورة المؤمنون؟ إقرأ قد « أفلح المؤمنون » إلى العشر.

قالت: هكذا كان خلق رسول الله - -.

وهكذا رواه النسائي عن قتيبة.

وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } . 5.

قال: أمر رسول الله أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور، ثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق » تفرد به أحمد.

ورواه الحافظ أبو بكر الخرائطي في كتابه فقال: « وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ».

وتقدم ما رواه البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله أحسن الناس وجها، وأحسن الناس خلقا.

وقال مالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: ما خير رسول الله بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها.

ورواه البخاري ومسلم من حديث مالك.

وروى مسلم عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله بيده شيئا قط لا عبدا، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله - عز وجل -.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله بيده خادما له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه، حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله - عز وجل -.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: سمعت عائشة وسألتها عن خلق رسول الله .

فقالت: لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح - أو قال: يعفو ويغفر - شك أبو داود.

ورواه الترمذي من حديث شعبة وقال: حسن صحيح.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا آدم وعاصم بن علي قالا: ثنا ابن أبي ذئب، ثنا صالح مولى التوأمة قال: كان أبو هريرة ينعت رسول الله قال: كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا، بأبي وأمي لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق.

زاد آدم: ولم أر مثله قبله، ولم أر مثله بعده.

وقال البخاري: ثنا عبدان عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو قال: لم يكن النبي فاحشا، ولا متفحشا وكان يقول: « إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ».

ورواه مسلم من حديث الأعمش به.

وقد روى البخاري من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمر أنه قال: إن رسول الله موصوف في التوراة بما هو موصوف في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، ومبشرا، ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.

وقد روي عن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار.

وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا يحيى عن شعبة، عن قتادة، عن عبد الله ابن أبي عتبة، عن أبي سعيد قال: كان النبي أشد حياء من العذراء في خدرها.

حدثنا ابن بشار قال: ثنا يحيى، وعبد الرحمن قالا: ثنا شعبة مثله: وإذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.

هلي عن محمد بن عبيد عن.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو عامر، ثنا فليح عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك قال: لم يكن رسول الله - - سبابا، ولا لعانا ولا فاحشا، كان يقول لأحدنا عند المعاتبة: « ماله تربت جبينه ».

ورواه البخاري عن محمد بن سنان، عن فليح.

وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: « لم تراعوا، لم تراعوا ».

قال: وجدناه بحرا، أو إنه لبحر.

قال: وكان فرسا يبطأ.

ثم قال مسلم: ثنا بكر ابن أبي شيبة، ثنا وكيع عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كان فزع بالمدينة، فاستعار رسول الله فرسا لأبي طلحة يقال له: مندوب، فركبه.

فقال: « ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحرا ».

قال: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله .

وقال أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب، عن علي ابن أبي طالب قال: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله ، وكان أشد الناس بأسا.

رواه أحمد والبيهقي، وتقدم في غزوة هوازن أنه عليه السلام لما فر جمهور أصحابه يومئذ ثبت وهو راكب بغلته، وهو ينوه باسمه الشريف يقول: « أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب » وهو مع ذلك يركضها إلى نحور الأعداء، وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة العظيمة، والتوكل التام - صلوات الله عليه -.

وفي صحيح مسلم من حديث إسماعيل بن علية عن عبد العزيز، عن أنس قال: لما قدم رسول الله المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بنا إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك.

قال: فخدمته في السفر والحضر، والله ما قال لي لشيء صنعته: « لم صنعت هذا هكذا » ولا لشيء لم أصنعه: « لم لم تصنع هذا هكذا ».

وله من حديث سعيد ابن أبي بردة عن أنس قال: خدمت رسول الله تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: « لم فعلت كذا وكذا » ولا عاب علي شيئا قط.

وله من حديث عكرمة بن عمار عن إسحاق قال أنس: كان رسول الله من أحسن الناس خلقا فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: « يا أنيس ذهبت حيث أمرتك؟ »

فقلت: نعم! أنا أذهب يا رسول الله.

قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: « لم صنعت كذا وكذا »، أو لشيء تركته « هلا فعلت كذا وكذا ».

وقال الإمام أحمد: ثنا كثير، ثنا هشام، ثنا جعفر، ثنا عمران القصير عن أنس بن مالك قال: خدمت النبي عشر سنين، فما أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيعته فلامني، وإن لامني أحد من أهله إلا قال: « دعوه فلو قدر - أو قال: قضي - أن يكون كان ».

ثم رواه أحمد عن علي بن ثابت، عن جعفر هو ابن برقان، عن عمران البصري - وهو القصير - عن أنس فذكره، تفرد به الإمام أحمد.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أبو التياح، ثنا أنس قال: كان رسول الله أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير قال: أحسبه قال: فطيما، قال: فكان إذا جاء رسول الله فرآه قال: « أبا عمير ما فعل النغير؟ ».

قال: نغر كان يلعب به.

قال: فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يقوم رسول الله ونقوم خلفه يصلي بنا.

قال: وكان بساطهم من جريد النخل.

وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس بنحوه.

وثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، ثنا حماد بن زيد، ثنا سلم العلوي سمعت أنس بن مالك أن النبي رأى على رجل صفرة فكرهها قال: فلما قام قال: « لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة ».

قال: وكان لا يكاد يواجه أحدا بشيء يكرهه.

وقد رواه أبو داود والترمذي في الشمائل، والنسائي في اليوم والليلة من حديث حماد بن زيد عن سلم بن قيس العلوي البصري.

قال أبو داود: وليس من ولد علي ابن أبي طالب، وكان يبصر في النجوم، وقد شهد عند عدي بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته.

وقال أبو داود: ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا الأعمش عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: « ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا ».

وثبت في الصحيح أن رسول الله قال: « لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ».

وقال مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع النبي وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - - فإذا قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته.

ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك.

قال: فالتفت إليه رسول الله فضحك ثم أمر له بعطاء.

أخرجاه من حديث مالك.

وقال الإمام أحمد: ثنا زيد بن الحباب، أخبرني محمد بن هلال القرشي عن أبيه أنه سمع أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله في المسجد فلما قام قمنا معه، فجاء أعرابي فقال: أعطني يا محمد.

فقال: « لا! وأستغفر الله ».

فجذبه بحجزته فخدشه.

قال: فهموا به.

فقال: « دعوه ».

قال: ثم أعطاه قال: فكانت يمينه: « لا! وأستغفر الله ».

وقد روى أصل هذا الحديث أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق عن محمد بن هلال ابن أبي هلال مولى بني كعب، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن ثمامة بن عتبة، عن زيد بن أرقم قال: كان رجل من الأنصار يدخل على رسول الله ويأتمنه، وأنه عقد له عقدا وألقاه في بئر، فصرع ذلك رسول الله فأتاه ملكان يعودانه، فأخبراه أن فلانا عقد له عقدا وهي في بئر فلان ولقد اصفر الماء من شدة عقده، فأرسل النبي فاستخرج العقد فوجد الماء قد اصفر فحل العقد، ونام النبي فلقد رأيت الرجل بعد ذلك يدخل على النبي ، فما رأيته في وجه النبي حتى مات.

قلت: والمشهور في الصحيح: أن لبيد بن الأعصم اليهودي هو الذي سحر النبي في مشط، ومثاقة في جف طلعة ذكر تحت بئر ذروان، وأن الحال استمر نحو ستة أشهر حتى أنزل الله سورتي المعوذتين، ويقال: إن آياتهما إحدى عشرة آية، وأن عقد ذلك الذي سحر فيه كان إحدى عشرة عقدة، وقد بسطنا ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية، والله أعلم.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عمران بن زيد أبو يحيى الملائي، ثنا زيد العمي عن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله إذا صافح أو صافحه الرجل لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، وإن استقبله بوجه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه، ولا يرى مقدما ركبتيه بين يدي جليس له.

ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زيد الثعلبي أبي يحيى الطويل الكوفي عن زيد بن الحواري العمي، عن أنس به.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن منيع، ثنا أبو قطن، ثنا مبارك بن فضالة عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: ما رأيت رجلا قط التقم أذن النبي فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت رسول الله آخذا بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده.

تفرد به أبو داود.

وقال الإمام أحمد: وحدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: ثنا شعبة قال ابن جعفر في حديثه: قال: سمعت علي بن يزيد قال: قال أنس بن مالك: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.

ورواه ابن ماجه من حديث شعبة.

وقد رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه معلقا فقال: وقال محمد بن عيسى - هو ابن الطباع -: ثنا هشيم فذكره.

وقال الطبراني: ثنا أبو شعيب الحراني، ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، ثنا أيوب بن نهيك سمعت عطاء ابن أبي رباح، سمعت ابن عمر، سمعت رسول الله رأى صاحب بز فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إكسني قميصا، كساك الله من ثياب الجنة، فنزع القميصص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، وبقي معه درهمان، فإذا هو بجارية في الطريق تبكي.

فقال: « ما يبكيك؟ »

فقالت: يا رسول الله دفع إلي أهلي درهمين اشتري بهما دقيقا فهلكا، فدفع إليها رسول الله الدرهمين الباقيين، ثم انقلب وهي تبكي فدعاها.

فقال: « ما يبكيك وقد أخذت الدرهمين؟ »

فقالت: أخاف أن يضربوني، فمشى معها إلى أهلها فسلم فعرفوا صوته، ثم عاد فسلم، ثم عاد فسلم ثم عاد فثلث فردوا فقال: « أسمعتم أول السلام؟ »

قالوا: نعم! ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام، فما أشخصك بأبينا وأمنا.

فقال: « أشفقت هذه الجارية أن تضربوها ».

فقال صاحبها: هي حرة لوجه الله لممشاك معها، فبشرهم رسول الله بالخير والجنة.

ثم قال: « لقد بارك في العشرة، كسا الله نبيه قميصا، ورجلا من الأنصار قميصا، وأعتق الله منها رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته ».

هكذا رواه الطبراني، وفي إسناده: أيوب بن نهيك الحلبي، وقد ضعفه أبو حاتم.

وقال أبو زرعة: منكر الحديث.

وقال الأزدي: متروك.

وثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: ما عاب رسول الله طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه.

وقال الثوري عن الأسود بن قيس، عن شيخ العوفي، عن جابر قال: أتانا رسول الله في منزلنا فذبحنا له شاة.

فقال: « كأنهم علموا أنا نحب اللحم، الحديث ».

وقال محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن عمر بن عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه قال: كان رسول الله إذا جلس يتحدث كثيرا ما يرفع طرفه إلى السماء.

وهكذا رواه أبو داود: في كتاب الأدب من سننه من حديث محمد بن إسحاق به.

وقال أبو داود: حدثنا سلمة بن شعيب، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن محمد الأنصاري عن ربيح بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده أبي سعيد الخدري أن رسول الله كان إذا جلس احتبى بيده.

ورواه البزار في مسنده ولفظه: كان إذا جلس نصب ركبتيه، واحتبى بيديه.

ثم قال أبو داود: ثنا حفص بن عمر، وموسى بن إسماعيل قالا: ثنا عبد الرحمن بن حسان العنبري، حدثني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة قال: موسى ابنة حرملة، وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة، وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما أنها رأت رسول الله وهو قاعد القرفصاء، قالت: فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق.

ورواه الترمذي في الشمائل وفي الجامع عن عبد بن حميد، عن عفان بن مسلم بن عبد الله بن حسان به، وهو قطعة من حديث طويل قد ساقه الطبراني بتمامه في معجمه الكبير.

وقال البخاري: ثنا الحسن بن الصباح البزار، ثنا سفيان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه.

قال البخاري: وقال الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت: ألا أعجبك أبو فلان، جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله لم يكن يسرد الحديث كسردكم.

وقد رواه أحمد عن علي بن إسحاق، ومسلم عن حرملة، وأبو داود عن سليمان بن داود، كلهم عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد به، وفي روايتهم: ألا أعجبك من أبي هريرة فذكرت نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان، عن أسامة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان كلام النبي فصلا يفهمه كل أحد لم يكن يسرد سردا.

وقد رواه أبو داود عن ابن أبي شيبة، عن وكيع.

وقال أبو يعلى: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، ثنا عبد الله بن مسعر، حدثني شيخ أنه سمع جابر بن عبد الله - أو ابن عمر - يقول: كان في كلام النبي ترتيل، أو ترسيل.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس أن رسول الله كان إذا تكلم بكلمة رددها ثلاثا، وإذا أتى قوما يسلم عليهم سلم ثلاثا.

ورواه البخاري من حديث عبد الصمد.

وقال أحمد: ثنا أبو سعيد ابن أبي مريم، ثنا عبد الله بن المثنى سمعت ثمامة بن أنس يذكر أن أنسا كان إذا تكلم تكلم ثلاثا، ويذكر أن النبي كان إذا تكلم تكلم ثلاثا، وكان يستأذن ثلاثا.

وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي: عن عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس أن رسول الله كان إذا تكلم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه.

ثم قال الترمذي: حسن صحيح غريب.

وفي الصحيح أنه قال: « أوتيت جوامع الكلم، وأختصر الحكم اختصارا ».

قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: « بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ».

وهكذا رواه البخاري من حديث الليث.

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، ثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ».

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا يزيد، ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي ».

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم.

وثبت في الصحيحين من حديث ابن وهب عن عمرو بن الحرث، حدثني أبو النضر عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم.

وقال الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - -

ثم رواه من حديث الليث عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال: ما كان ضحك رسول الله إلا تبسما، ثم قال: صحيح.

وقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة عن سماك بن حرب قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله -

قال: نعم كثيرا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون، ويتبسم رسول الله .

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شريك وقيس بن سعد عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي -

قال: نعم، كان قليل الصمت، قليل الضحك، فكان أصحابه ربما يتناشدون الشعر عنده، وربما قال الشيء من أمورهم فيضحكون، وربما يتبسم.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق، أنا أبو عبد الرحمن المقري، ثنا الليث بن سعد عن الوليد ابن أبي الوليد أن سليمان بن خارجة أخبره عن خارجة بن زيد - يعني: ابن ثابت - أن نفرا دخلوا على أبيه فقالوا: حدثنا عن بعض أخلاق رسول الله .

فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل الوحي بعث إلي فآتيه فأكتب الوحي، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا نحدثكم عنه.

ورواه الترمذي في الشمائل عن عباس الدوري، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد المقري به نحوه.

كرمه عليه السلام

[عدل]

تقدم ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة.

وهذا التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة في تشبيهه الكرم بالريح المرسلة، في عمومها وتواترها وعدم انقطاعها.

وفي الصحيحين من حديث سفيان بن سعيد الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: ما سئل رسول الله شيئا قط فقال: « لا ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن موسى بن أنيس، عن أنس أن رسول الله لم يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه قال: فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة.

قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فان محمدا يعطي عطاء ما يخشى الفاقة.

ورواه مسلم عن عاصم بن النضر، عن خالد بن الحارث، عن حميد.

وقال أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت عن أنس أن رجلا سأل النبي فأعطاه غنما بين جبلين، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمد يعطي عطاء ما يخلف الفاقة.

فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها.

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.

وهذا العطاء ليؤلف به قلوب ضعيفي القلوب في الإسلام، ويتألف آخرين ليدخلوا في الإسلام كما فعل يوم حنين حين قسم تلك الأموال الجزيلة من الإبل، والشاء، والذهب، والفضة في المؤلفة، ومع هذا لم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئا، بل أنفق فيمن كان يحب أن يتألفه على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، وقال مسليا لمن سأل عن وجه الحكمة في هذه القسمة، لمن عتب من جماعة الأنصار: « أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء، والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم؟ »

قالوا: رضينا يا رسول الله.

وهكذا أعطى عمه العباس بعد ما أسلم حين جاءه ذلك المال من البحرين فوضع بين يديه في المسجد وجاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني فقد فاديت نفسي يوم بدر، وفاديت عقيلا.

فقال: « خذ » فنزع ثوبه عنه، وجعل يضع فيه من ذلك المال ثم قام ليقله فلم يقدر.

فقال لرسول الله: ارفعه علي.

قال: « لا أفعل ».

فقال: مر بعضهم ليرفعه علي.

فقال: « لا ».

فوضع منه شيئا، ثم عاد فلم يقدر، فسأله أن يرفعه، أو أن يأمر بعضهم برفعه، فلم يفعل، فوضع منه، ثم احتمل الباقي وخرج به من المسجد ورسول الله يتبعه بصره عجبا من حرصه.

قلت: وقد كان العباس رضي الله عنه رجلا شديدا، طويلا، نبيلا، فأقل ما احتمل شيء يقارب أربعين ألفا، والله أعلم.

وقد ذكره البخاري في صحيحه في مواضع معلقا بصيغة الجزم، وهذا يورد في مناقب العباس لقوله تعالى: { ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } . 6.

وقد تقدم عن أنس بن مالك خادمه عليه السلام أنه قال: كان رسول الله أجود الناس وأشجع الناس، الحديث.

وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله المجبول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله - عز وجل - الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز: { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } 7 الآية وقال تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } . 8.

وهو عليه السلام القائل لمؤذنه بلال وهو الصادق المصدوق في الوعد والمقال: « أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ».

وهو القائل عليه السلام: « ما من يوم تصبح العباد فيه إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ».

وفي الحديث الآخر أنه قال لعائشة: « لا توعي فيوعى الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك ».

وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: « يقول الله تعالى: ابن آدم أنفق أنفق عليك ».

فكيف لا يكون أكرم الناس وأشجع الناس وهو المتوكل الذي لا أعظم منه في توكله، الواثق برزق الله ونصره المستعين بربه في جميع أمره، ثم قد كان قبل بعثته وبعدها، وقبل هجرته ملجأ الفقراء، والأرامل، والأيتام، والضعفاء، والمساكين، كما قال عمه أبو طالب فيما قدمناه من القصيدة المشهورة:

وما ترك قوم لا أبالك سيدا * يحوط الذمار غير ذرب موكل

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل

ومن تواضعه ما روى الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، زاد النسائي وحميد عن أنس أن رجلا قال لرسول الله : يا سيدنا وابن سيدنا.

فقال رسول الله : « يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله ».

وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن شعبة، حدثني الحكم عن إبراهيم، عن الأسود قال: قلت لعائشة: ما كان رسول الله يصنع في أهله؟

قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

وحدثنا وكيع ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود قال: قلت لعائشة: ما كان النبي يصنع إذا دخل بيته؟

قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى.

ورواه البخاري عن آدم، عن شعبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدة، ثنا هشام بن عروة، عن رجل قال: سئلت عائشة: ما كان رسول الله يصنع في بيته؟

قالت: كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ونحو هذا، وهذا منقطع من هذا الوجه.

وقد قال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، عن عروة، وهشام بن عروة، عن أبيه قال: سأل رجل عائشة: هل كان رسول الله يعمل في بيته؟

قالت: نعم، كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه كما يعمل أحدكم في بيته، رواه البيهقي فاتصل الإسناد.

وقال البيهقي: أنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن البحتري إملاء، حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا ابن صالح، حدثني معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت: قلت لعائشة: ما كان يعمل رسول الله في بيته؟

قالت: كان رسول الله - - بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.

ورواه الترمذي في الشمائل عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت: قيل لعائشة: ما كان يعمل رسول الله في بيته، الحديث.

وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن حارثة بن محمد الأنصاري، عن عمرة قالت: قلت لعائشة: كيف كان رسول الله في أهله؟

قالت: كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان ضحاكا بساما.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، حدثني مسلم أبو عبد الله الأعور، سمع أنسا يقول: كان رسول الله يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويركب الحمار، ويلبس الصوف، ويجيب دعوة المملوك، ولو رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف.

وفي الترمذي، وابن ماجه من حديث مسلم بن كيسان الملائي، عن أنس بعض ذلك.

وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، ثنا أبو بكر محمد بن جعفر الآدمي القاري ببغداد، ثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدروري، ثنا أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه قال: سمعت يحيى بن عقيل يقول: سمعت عبد الله ابن أبي أوفى يقول: كان رسول الله يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد، ولا مع الأرملة حتى يفرغ لهم من حاجاتهم.

رواه النسائي عن محمد بن عبد العزيز، عن أبي زرعة، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن يحيى بن عقيل الخزاعي البصري، عن ابن أبي أوفى بنحوه.

وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالري، ثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان أبو معاوية عن أشعث ابن أبي الشعثاء، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: كان رسول الله يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعتقل الشاة، ويأتي مراعاة الضيف، وهذا غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه، وإسناده جيد.

وروى محمد بن سعد عن إسماعيل ابن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب الربعي، عن سهل مولى عتبة أنه كان نصرانيا من أهل مريس، وأنه كان في حجر عمه وأنه قال: قرأت يوما في مصحف لعمي فإذا فيه ورقة بغير الخط، وإذا فيها نعت محمد لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد.

قال: فلما جاء عمي ورآني قد قرأتها ضربني وقال: مالك وفتح هذه؟

فقلت: إن فيها نعت أحمد.

فقال: إنه لم يأت بعد.

وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، ثنا أيوب عن عمرو، عن سعيد، عن أنس قال: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله ، وذكر الحديث.

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية به.

وقال الترمذي في الشمائل: ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود عن شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عمها قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: « إرفع إزارك، فإنه أنقى وأبقى » فنظرت فإذا هو رسول الله.

فقلت: يا رسول الله، إنما هي بردة ملحاء.

قال: « أمالك في أسوة؟ » فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.

ثم قال: ثنا سويد بن نصر، ثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه قال: كان عثمان بن عفان متزرا إلى أنصاف ساقيه.

قال: هكذا كانت أزره صاحبي .

وقال أيضا: ثنا يوسف بن عيسى، ثنا وكيع، ثنا الربيع بن صبيح، ثنا يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله يكثر القناع، كأن ثوبه ثوب زيات، وهذا فيه غرابة ونكارة، والله أعلم.

وروى البخاري عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن سيار بن الحكم، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله مر على صبيان يلعبون، فسلم عليهم.

ورواه مسلم من وجه آخر عن شعبة.

مزاحه عليه السلام

[عدل]

وقال ابن لهيعة: حدثني عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس قال: كان رسول الله من أفكه الناس مع صبي، وقد تقدم حديثه في ملاعبته أخاه أبا عمير وقوله: « أبا عمير ما فعل النغير » يذكره بموت نغر كان يلعب به ليخرجه بذلك كما جرت به عادة الناس من المداعبة مع الأطفال الصغار.

وقال الإمام أحمد: ثنا خلف بن الوليد، ثنا خالد بن عبد الله عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي فاستحمله.

فقال رسول الله : « إنا حاملوك على ولد ناقة ».

فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة؟

فقال رسول الله - -: « وهل تلد الإبل إلا النوق؟ »

ورواه أبو داود عن وهب بن بقية، والترمذي عن قتيبه، كلاهما عن خالد بن عبد الله الواسطي الطحان به.

وقال الترمذي: صحيح غريب.

وقال أبو داود في هذا الباب: ثنا يحيى بن معين، ثنا حجاج بن محمد، ثنا يونس ابن أبي إسحاق عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حرب، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي ، فسمع صوت عائشة عاليا على رسول الله، فلما دخل تناولها ليلطمها.

وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله!.

فجعل النبي يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا.

فقال رسول الله حين خرج أبو بكر: « كيف رأيتني أنقذتك من الرجل »

فمكث أبو بكر أياما، ثم استأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا.

فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما.

فقال رسول الله : « قد فعلنا، قد فعلنا ».

وقال أبو داود: ثنا مؤمل بن الفضل، ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء، عن بشر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فسلمت فرد، وقال: « أدخل ».

فقلت: أكلي يا رسول الله؟

فقال: « كلك » فدخلت.

وحدثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد بن عثمان ابن أبي العاتكة إنما قال: أدخل كلي من صغر القبة.

ثم قال أبو داود: ثنا إبراهيم بن مهدي، ثنا شريك عن عاصم، عن أنس قال: قال لي رسول الله : « ياذا الأذنين ».

قلت: ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن ثابت، عن أنس أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، يهدي النبي الهدية من البادية، فيجهزه النبي إذا أراد أن يخرج.

فقال رسول الله: « إن زاهرا باديتنا، ونحن حاضروه ».

وكان رسول الله - - يحبه، وكان رجلا دميما، فأتاه رسول الله وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره.

فقال: أرسلني من هذا؟.

فالتفت فعرف النبي ، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه، وجعل رسول الله يقول: « من يشتري العبد ».

فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسدا.

فقال رسول الله : « لكن عند الله لست بكاسد ».

أو قال: « لكن عند الله أنت غال ».

وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات على شرط الصحيحين، ولم يروه إلا الترمذي في الشمائل عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق.

ومن هذا ما قال الإمام أحمد: ثنا حجاج، حدثني شعبة عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك أن النبي كان في مسير، وكان حاد يحدو بنسائه أو سائق قال: فكان نساؤه يتقدمن بين يديه.

فقال: « يا أنجشة ويحك إرفق بالقوارير ».

وهذا الحديث في الصحيحين عن أنس قال: وكان للنبي حاد يحدو بنسائه يقال له: أنجشة، فحدا فأعنقت الإبل.

فقال رسول الله : « ويحك يا أنجشة، إرفق بالقوارير ».

ومعنى القوارير: النساء، وهي كلمة دعابة - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين.

ومن مكارم أخلاقه ودعابته، وحسن خلقه، استماعه عليه السلام حديث أم زرع من عائشة بطوله، ووقع في بعض الروايات أنه عليه السلام هو الذي قصه على عائشة.

ومن هذا ما رواه الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا أبو عقيل - يعني: عبد الله بن عقيل الثقفي - به.

حدثنا مجالد بن سعيد عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: حدث رسول الله نساءه ذات ليلة حديثا.

فقالت امرأة منهن: « يا رسول الله كان الحديث حديث خرافة ».

فقال رسول الله : « أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلا من عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهرا طويلا، ثم ردوه إلى الأنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة ».

وقد رواه الترمذي في الشمائل عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.

قلت: وهو من غرائب الأحاديث وفيه نكارة، ومجالد بن سعيد يتكلمون فيه، فالله أعلم.

وقال الترمذي في باب خراج النبي من كتابه الشمائل ثنا عبد بن حميد، ثنا مصعب بن المقدام، ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز النبي فقالت: يا رسول الله أدع لي أن يدخلني الله الجنة.

قال: « يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز ».

فولت العجوز تبكي.

فقال: « أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز فإن الله تعالى يقول: { إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا } 9.

وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقال الترمذي: ثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا؟

قال: « إني لا أقول إلا حقا ».

تداعبنا - يعني تمازحنا -.

وهكذا رواه الترمذي في جامعه في باب البر بهذا الإسناد، ثم قال: وهذا حديث مرسل حسن.

باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدار

[عدل]

قال الله تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } 10.

وقال تعالى: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } 11.

وقال تعالى: { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم } . 12.

وقال: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين } 13.

والآيات في هذا كثيرة.

وأما الأحاديث: فقال يعقوب بن سفيان: حدثني أبو العباس حيوة بن شريح، أنا بقية عن الزبيدي، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن عباس قال: كان ابن عباس يحدث: أن الله أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل.

فقال الملك لرسوله: إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا، فالتفت رسول الله إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله أن تواضع.

فقال رسول الله : « بل أكون عبدا نبيا ».

قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي الله - عز وجل.

وهكذا رواه البخاري فيالتاريخ: عن حيوة بن شريح.

وأخرجه النسائي عن عمرو بن عثمان، كلاهما عن بقية بن الوليد به.

وأصل هذا الحديث في الصحيح بنحو من هذا اللفظ.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة، عن أبي زرعة - ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة - قال: جلس جبريل إلى رسول الله فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل.

فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة.

فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك أفملكا نبيا يجعلك، أو عبدا رسولا؟.

هكذا وجدته بالنسخة التي عندي بالمسند مقتصرا، وهو من أفراده من هذا الوجه.

وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب في حديث إيلاء رسول الله من أزواجه، أن لا يدخل عليهن شهرا، واعتزل عنهن في علية، فلما دخل عليه عمر في تلك العلية فإذا ليس فيها سوى صبرة من قرظ، وأهبة معلقة، وصبرة من شعير، وإذا هو مضطجع على رمال حصير، قد أثر في جنبه، فهملت عينا عمر فقال: « مالك؟ ».

فقلت: يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه.

فجلس محمرا وجهه فقال: « أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ »

ثم قال: « أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ».

وفي رواية لمسلم: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ».

فقلت: بلى يا رسول الله.

قال: « فأحمد الله عز وجل ».

ثم لما انقضى الشهر أمره الله - عز وجل - أن يخير أزواجه، وأنزل عليه قوله: { ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } . 14.

وقد ذكرنا هذا مبسوطا في كتابنا التفسير وأنه بدأ بعائشة فقال لها: « إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك » وتلا عليها هذه الآية.

قالت: فقلت: أفي هذا أستأمر أبواي؟ فإني أختار الله ورسوله، والدار الآخرة، وكذلك قال سائر أزواجه - عليه السلام -، ورضي عنهن.

وقال مبارك بن فضالة عن الحسن، عن أنس قال: دخلت على رسول الله وهو على سرير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من الصحابة فانحرف رسول الله إنحرافة فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى.

فقال له: « ما يبكيك يا عمر؟ »

قال: ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى؟

فقال: « يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ »

قال: بلى.

قال: « هو كذلك ».

هكذا رواه البيهقي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا مبارك عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله وهو على سرير مضطجع مزمل بشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه، ودخل عمر فانحرف رسول الله إنحرافة، فلم ير عمر بين جنبه وبين الشريط ثوبا وقد أثر الشريط بجنب رسول الله، فبكى عمر.

فقال له رسول الله : « ما يبكيك يا عمر؟ »

قال: والله ما أبكي ألا أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر، وهما يعيشان في الدنيا فيما يعيشان فيه؟ وأنت يا رسول الله في المكان الذي أرى.

فقال رسول الله: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟ »

قال: بلى.

قال: فإنه كذلك.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا المسعودي عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن علقمة بن مسعود قال: اضطجع رسول الله على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه وأقول: بأبي أنت وأمي، ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه.

فقال: « مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها ».

ورواه ابن ماجه عن يحيى بن حكيم، عن أبي داود الطيالسي به.

وأخرجه الترمذي عن موسى بن عبد الرحمن الكندي، عن زيد بن الحباب، كلاهما عن المسعودي به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقد رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس فقال: حدثنا عبد الصمد، وأبو سعيد وعفان قالوا: ثنا ثابت، ثنا هلال عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه.

فقال: يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟

فقال: « مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها ».

تفرد به أحمد.

وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « لو أن لي مثل أحد ذهبا ما سرني أن تأتي علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين ».

وفي الصحيحين من حديث عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ».

فأما الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث يزيد بن سنان عن ابن المبارك، عن عطاء، عن أبي سعيد أن رسول الله قال: « اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين ».

فإنه حديث ضعيف، لا يثبت من جهة إسناده، لأن فيه يزيد بن سنان أبا فروة الرهاوي وهو ضعيف جدا، والله أعلم.

وقد رواه الترمذي من وجه آخر فقال: حدثنا عبد الأعلى بن واصل الكوفي، ثنا ثابت بن محمد العابد الكوفي، حدثنا الحارث بن النعمان الليثي عن أنس أن رسول الله قال: « اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة ».

فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟

قال: « إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة حبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة ».

ثم قال: هذا حديث غريب.

قلت: وفي إسناده ضعف، وفي متنه نكارة، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن - يعني: عبد الله بن دينار - عن أبي حازم، عن سعيد بن سعد أنه قيل له: هل رأى النبي بعينه - يعني: الحوارى-؟

فقال له: ما رأى رسول الله النقى بعينه حتى لقي الله - عز وجل -.

فقيل له: هل لكم مناخل على عهد رسول الله؟

فقال: ما كانت لنا مناخل.

فقيل له: فكيف كنتم تصنعون بالشعير؟

قال: ننفخه فيطير منه ما طار.

وهكذا رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار به، وزاد: ثم نذريه ونعجنه، ثم قال: حسن صحيح.

وقد رواه مالك عن أبي حازم.

قلت: وقد رواه البخاري عن سعيد ابن أبي مريم، عن محمد بن مطرف بن غسان المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به.

ورواه البخاري أيضا والنسائي عن شيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبي حازم، عن سهل به.

وقال الترمذي: حدثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا يحيى ابن أبي بكير، ثنا جرير بن عثمان، عن سليم بن عامر سمعت أبا أمامة يقول: ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله خبز الشعير.

ثم قال: حسن صحيح غريب.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم قال: رأيت أبا هريرة يشير بإصبعه مرارا، والذي نفس أبي هريرة بيده ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا.

ورواه مسلم والترمذي، وابن ماجه من حديث يزيد بن كيسان.

وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الحميد عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد منذ قدموا المدينة ثلاثة أيام تباعا من خبز بر، حتى مضى لسبيله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا محمد بن طلحة عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد ثلاثا من خبز بر، حتى قبض وما رفع من مائدته كسرة قط حتى قبض.

وقال أحمد: ثنا محمد بن عبيد، ثنا مطيع الغزال عن كردوس، عن عائشة قالت: قد مضى رسول الله لسبيله وما شبع أهله ثلاثة أيام من طعام بر.

وقال الإمام أحمد: ثنا حسن، ثنا زويد عن أبي سهل، عن سليمان بن رومان مولى عروة عن عروة، عن عائشة أنها قالت: والذي بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله - عز وجل - إلى أن قبض.

قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير؟

قالت: كنا نقول: أف.

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وروى البخاري عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، عن أبيه، عن عائشة قالت: إن كنا لنخرج الكراع بعد خمسة عشر يوما فنأكله.

قلت: ولم تفعلون ذلك؟

فضحكت وقالت: ما شبع آل محمد - - من خبز مأدوم حتى لحق بالله - عز وجل -.

وقال أحمد: ثنا يحيى، ثنا هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت: كان يأتي على آل محمد الشهر ما يوقدون فيه نارا، ليس إلا التمر والماء، إلا أن يؤتى باللحم.

وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إن كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارا، إنما هو الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم فيشرب، ويسقينا من ذلك اللبن.

ورواه أحمد عن بريدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنها بنحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا حسين، ثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم، عن عروة بن الزبير أنه سمع عائشة تقول: كان يمر بنا هلال وهلال، ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله نارا.

قال: قلت: يا خالة على أي شيء كنتم تعيشون؟

قالت: على الأسودين التمر والماء.

تفرد به أحمد.

وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع رسول الله من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض.

وقد رواه مسلم من حديث شعبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا بهز، ثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: قالت عائشة: أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلا فأمسكت، وقطع رسول الله أو قالت: أمسك رسول الله وقطعت - قالت: تقول للذي تحدثه: - هذا على غير مصباح.

وفي رواية: لو كان عندنا مصباح لأتدمنا به.

قال: قالت عائشة: إنه ليأتي على آل محمد الشهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا.

وقد رواه أيضا عن بهز بن أسد، عن سليمان بن المغيرة.

وفي رواية: شهرين، تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد: ثنا خلف، ثنا أبو معشر عن سعيد - هو ابن أبي سعيد -، عن أبي هريرة قال: كان يمر بآل رسول الله هلال ثم هلال لا يوقدون في بيوتهم النار لا بخبز، ولا بطبخ.

قالوا: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟

قال: الأسودان التمر والماء، وكان لهم جيران من الأنصار جزاهم الله خيرا لهم منائح يرسلون إليهم شيئا من لبن.

تفرد به أحمد.

وفي صحيح مسلم من حديث منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه، عن عائشة قالت: توفي رسول الله وقد شبع الناس من الأسودين التمر والماء.

وقال ابن ماجه: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا علي بن مسهر عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله يوما بطعام سخن فأكل، فلما فرغ قال: « الحمد لله ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا ».

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا عمار أبو هاشم صاحب الزعفراني عن أنس بن مالك أن فاطمة ناولت رسول الله كسرة من خبز الشعير فقال: « هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام ».

وروى الإمام أحمد عن عفان، والترمذي، وابن ماجه، جميعا عن عبد الله بن معاوية، كلاهما عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب العبدي الكوفي، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير، وهذا لفظ أحمد.

وقال الترمذي في الشمائل: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن محمد ابن أبي يحيى الأسلمي، عن يزيد ابن أبي أمية الأعور، عن أبي يوسف ابن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله أخذ كسرة من خبز الشعير فوضع عليها تمرة وقال: « هذا إدام هذه، وأكل ».

وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله الحلو البارد.

وروى البخاري من حديث قتادة عن أنس قال: ما أعلم رسول الله رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا شاة سميطا بعينه قط.

وفي رواية له عنه أيضا: ما أكل رسول الله على خوان، ولا في سكرجة، ولا خبز له مرقق.

فقلت لأنس: فعلى ما كانوا يأكلون؟

قال: على هذه السفر.

وله من حديث قتادة أيضا عن أنس أنه مشى إلى رسول بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد رهن درعه من يهودي، فأخذ لأهله شعيرا، ولقد سمعته ذات يوم يقول: « ما أمسى عند آل محمد صاع تمر، ولا صاع حب ».

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا أبان بن يزيد، ثنا قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله لم يجتمع له غداء، ولا عشاء من خبز ولحم، إلا على ضفف.

ورواه الترمذي في الشمائل عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عفان، وهذا الإسناد على شرط الشيخين.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب، سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب يخطب، فذكر ما فتح الله على الناس، فقال: لقد رأيت رسول الله يلتوي من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.

وأخرجه مسلم من حديث شعبة.

وفي الصحيح أن أبا طلحة قال: يا أم سليم لقد سمعت صوت رسول الله أعرف فيه الجوع، وسيأتي الحديث في دلائل النبوة.

وفي قصة أبي الهيثم ابن التيهان أن أبا بكر وعمر خرجا من الجوع، فبينما هما كذلك إذ خرج رسول الله فقال: « ما أخرجكما؟ »

فقالا: الجوع.

فقال: « والذي نفسي بيده لقد أخرجني الذي أخرجكما » فذهبوا إلى حديقة الهيثم بن التيهان فأطعمهم رطبا، وذبح لهم شاة، فأكلوا وشربوا الماء البارد.

وقال رسول الله : « هذا من النعيم الذي تسألون عنه ».

وقال الترمذي: ثنا عبد الله ابن أبي زياد، ثنا سيار، ثنا يزيد بن أسلم عن يزيد ابن أبي منصور، عن أنس، عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله عن بطنه عن حجرين.

ثم قال: غريب.

وثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها سئلت عن فراش رسول الله .

فقالت: كان من أدم، حشوه ليف.

وقال الحسن بن عرفة: ثنا عباد بن عباد المهلبي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل علي رسول الله فقال: « ما هذا يا عائشة؟ »

قالت: قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك فذهبت، فبعثت إلي بهذا.

فقال: رديه.

قالت: فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات.

قالت: فقال: « رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة ».

وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى البصري، ثنا عبد الله بن مهدي، ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سئلت عائشة ما كان فراش رسول الله في بيتك؟

قالت: من أدم حشوه ليف.

وسئلت حفصة: ما كان فراش رسول الله قالت: مسحا نثنيه ثنيتين فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيته بأربع ثنيات كان أوطأ له فثنيناه له بأربع ثنيات، فلما أصبح قال: « ما فرشتم لي الليلة؟ »

قالت: قلنا: هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات قلنا هو أوطأ لك.

قال: « ردوه لحالته الأولى، فإنه منعتني وطأته صلاتي الليلة ».

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن أبان الأصبهاني، حدثنا محمد بن عبادة الواسطي، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، عن حكيم بن حزام قال: خرجت إلى اليمن، فابتعت حلة ذي يزن فأهديتها إلى النبي فردها، فبعتها فاشتراها فلبسها، ثم خرج على أصحابه وهي عليه، فما رأيت شيئا أحسن منه فيها، فما ملكت نفسي أن قلت:

ما ينظر الحكام بالفضل بعدما * بدا واضح من غرة وحجول

إذا قايسوه الجد أربى عليهم * بمستفرع ماض الذباب سجيل

فسمعها النبي فالتفت إلي يتبسم، ثم دخل فكساها أسامة بن زيد.

وقال الإمام أحمد: حدثني حسين بن علي عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير قال: حدثني ربعي بن خراش عن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله وهو ساهم الوجه قالت: فحسبت ذلك من وجع.

فقلت: يا رسول الله أراك ساهم الوجه أفمن وجع؟

فقال: « لا، ولكن الدنانير السبعة التي أتينا بها أمس أمسينا ولم ننفقها، نسيتها في خضم الفراش » تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة قال: أنا بكر بن مضر، ثنا موسى بن جبير عن أبي أمامة ابن سهل قال: دخلت أنا وعروة ابن الزبير يوما على عائشة فقالت: لو رأيتما نبي الله ذات يوم في مرض مرضه؟

قالت: وكان له عندي ستة دنانير - قال موسى: أو سبعة - قالت: فأمرني رسول الله - - أن أفرقها.

قالت: فشغلني وجع نبي الله حتى عافاه الله عز وجل.

قالت: ثم سألني عنها فقال: ما فعلت الستة - قال: أو السبعة -؟

قلت: لا والله لقد شغلني عنها وجعك.

قالت: فدعا بها ثم صفها في كفه.

فقال: « ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده » تفرد به أحمد.

وقال قتيبة: ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله لا يدخر شيئا لغد.

وهذا الحديث في الصحيحين، والمراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها، لما ثبت في الصحيحين عن عمر أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فكان يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله - عز وجل -.

ومما يؤيد ما ذكرناه: ما رواه الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية قال: أخبرني هلال بن سويد أبو معلى قال: سمعت أنس بن مالك وهو يقول: أهديت لرسول الله ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به.

فقال لها رسول الله : « ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن الله عز وجل يأتي برزق كل غد ».

حديث بلال في ذلك

[عدل]

قال البيهقي: ثنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو محمد بن جعفر بن نصير، ثنا إبراهيم بن عبد الله البصري، ثنا بكار بن محمد، أنا عبد الله بن عون عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله دخل على بلال فوجد عنده صبرا من تمر قال: « ما هذا يا بلال؟ »

قال: تمر أدخره.

قال: « ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن تكون له بحار في النار! أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ».

قال البيهقي بسنده عن أبي داود السجستاني، وأبي حاتم الرازي، كلاهما عن أبي ثوبة الربيع بن نافع، حدثني معاوية بن سلام عن زيد بن سلام، حدثني عبد الله الهوريني قال: لقيت بلالا مؤذن رسول الله بحلب.

فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله -

فقال: ما كان له شيء إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان المسلم فرآه عائلا يأمرني، فأنطلق فأستقرض فأشتري البردة والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي.

قال: قلت: يا لبيه، فتجهمني وقال قولا عظيما أو غليظا.

وقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟

قلت: قريب.

قال: إنما بينك وبينه أربع ليال فآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لي عبدا، فأذرك ترعى في الغنم كما كنت قبل ذلك.

قال: فأخذني في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت فناديت بالصلاة حتى إذا صليت العتمة، ورجع رسول الله إلى أهله فاستأذنت عليه، فأذن لي.

فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي ذكرت لك أني كنت أتدين منه قد قال: كذا وكذا، وليس عندك ما يقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آتي إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فجعلت سيفي وحرابي، ورمحي، ونعلي عند رأسي، فاستقبلت بوجهي الأفق فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت علي ليلا نمت، حتى انشق عمود الصبح الأول فأردت أن أنطلق فإذا إنسان يدعو يا بلال أجب رسول الله ، فانطلقت حتى آتيه فإذا أربع ركائب عليهم أحمالهن، فأتيت رسول الله فاستأذنت.

فقال لي رسول الله: « أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك ».

فحمدت الله.

وقال: « ألم تمر على الركائب المناخات الأربع؟ »

قال: قلت: بلى.

قال: « فإن لك رقابهن وما عليهن - فإذا عليهن كسوة، وطعام، أهداهن له عظيم فدك - فاقبضهن إليك، ثم إقض دينك ».

قال: ففعلت، فحططت عنهن أحمالهن، ثم علفتهن ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله خرجت إلى البقيع، فجعلت إصبعي في أذني فقلت: من كان يطلب من رسول الله دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي وأعرض حتى لم يبق على رسول الله دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار فإذا رسول الله قاعد في المسجد وحده فسلمت عليه.

فقال لي: « ما فعل ما قبلك؟ »

قلت: قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله - - فلم يبق شيء.

قال: « فضل شيء؟ »

قلت: نعم ديناران.

قال: « أنظر أن تريحني منهما، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما »

فلم يأتينا أحد، فبات في المسجد حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر النهار، جاء راكبان فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني.

فقال: « ما فعل الذي قبلك؟ »

قلت: قد أراحك الله منه، فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة، حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني عنه.

وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا هارون بن موسى ابن أبي علقمة المديني، حدثني أبي عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أن رجلا جاء إلى رسول الله فسأله أن يعطيه.

فقال: « ما عندي ما أعطيك ». ولكن ابتع علي شيئا فإذا جاءني شيء قضيته.

فقال عمر: يا رسول الله قد أعطيته فما كلفك الله ما لا تقدر عليه.

فكره النبي قول عمر.

فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا.

فتبسم رسول الله وعرف التبسم في وجهه لقول الأنصاري.

وقال: « بهذا أمرت ».

وفي الحديث: « ألا إنهم ليسألوني ويأبى الله على البخل ».

وقال يوم حنين حين سألوه قسم الغنائم: « والله لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمتها فيكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا ضانا، ولا كذابا » .

وقال الترمذي: ثنا علي بن حجر، ثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عمر قالت: أتيت رسول الله بقناع من رطب، وأجرز عنب، فأعطاني ملء كفيه حليا أو ذهبا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن مطرف، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي قال: « كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر ».

قال المسلمون: يا رسول الله فما نقول؟

قال: قولوا: { حسبنا الله ونعم الوكيل } 15، { على الله توكلنا } 16.

ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن مطرف ومن حديث خالد بن طهمان، كلاهما عن عطية، وأبي سعيد العوفي البجلي، وأبو الحسن الكوفي عن أبي سعيد الخدري.

وقال الترمذي: حسن.

قلت: وقد روي من وجه آخر عنه، ومن حديث ابن عباس كما سيأتي في موضعه.

ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام

[عدل]

قال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، ثنا عمرو بن محمد، ثنا أسباط بن نصر عن السدي، عن أبي سعد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود، عن خباب في قوله تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } إلى قوله: { فتكون من الظالمين } . 17.

قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله مع صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول رسول الله حقروهم فأتوا، فخلوا به.

فقالوا: نريد أن يجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت.

قال: « نعم ».

قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا.

قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } . 18.

ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال: { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين. 19.

ثم قال: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } . 20.

قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم } ولا تجالس الأشراف، ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا - يعني: عيينة والأقرع - { واتبع هواه وكان أمره فرطا } قال: هلاكا 21.

قال: أمر عيينة والأقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجلين، ومثل الحياة الدنيا.

قال خباب: فكنا نقعد مع رسول الله فإذا بلغنا الساعة التي يقوم قمنا، وتركناه حتى يقوم.

ثم قال ابن ماجه: حدثنا يحيى بن حكيم، ثنا أبو داود، ثنا قيس بن الربيع عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستة: في، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال.

قال: قالت قريش: يا رسول الله إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم، فاطردهم عنك.

قال: فدخل قلب رسول الله من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } 22

وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، أنا أبو سعيد ابن الأعرابي، ثنا أبو الحسن خلف بن محمد الواسطي الدوسي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي، ثنا المعلى بن زياد - يعني: عن العلاء بن بشير المازني -، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في عصابة من المهاجرين جالسا معهم، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله.

فقال رسول الله: « الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم نفسي ».

قال: ثم جلس رسول الله وسطنا ليعدل نفسه فينا، ثم قال بيده هكذا فاستدارت الحلقة وبرزت وجوههم، قال: فما عرف رسول الله أحدا منهم غيري.

فقال رسول الله: « أبشروا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمسمائة عام ».

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث حماد بن سلمة: عن حميد، عن أنس قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله .

قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك.

فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك

[عدل]

قالت عائشة: كان رسول الله يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائما إلا رأيته، ولا تشاء أن تراه نائما إلا رأيته.

قالت: وما زاد على رسول الله في رمضان، وفي غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.

قالت: وكان رسول الله يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.

قالت: ولقد كان يقوم حتى أرثي له من شدة قيامه.

وذكر ابن مسعود أنه صلى معه ليلة فقرأ في الركعة الأولى بالبقرة، والنساء، وآل عمران، ثم ركع قريبا من ذلك، ورفع نحوه، وسجد نحوه.

وعن أبي ذر أن رسول الله قام ليلة حتى أصبح، يقرأ هذه الآية: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » رواه أحمد.

وكل هذا في الصحيحين، وغيرهما من الصحاح، وموضع بسط هذه الأشياء في كتاب الأحكام الكبير.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله قام حتى تفطرت قدماه.

فقيل له: أليس قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟

قال: « أفلا أكون عبدا شكورا ».

وتقدم في حديث سلام بن سليمان عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: « حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة ».

رواه أحمد والنسائي.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أخبرني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن جبريل قال لرسول الله : قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت.

وثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله في شهر رمضان في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة.

وفي الصحيحين من حديث منصور عن إبراهيم، عن علقمة قال: سألت عائشة هل كان رسول الله يخص شيئا من الأيام؟

قالت: لا، كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله - - يستطيع.

وثبت في الصحيحين من حديث أنس، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وعائشة أن رسول الله كان يواصل، ونهى أصحابه عن الوصال وقال: « إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ».

والصحيح أن هذا الإطعام والسقيا معنويان، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن عاصم عنه أن رسول الله - - قال: « لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم ».

وما أحسن ما قال بعضهم:

لها أحاديث من ذكراك يشغلها * عن الشراب ويلهيها عن الزاد

وقال النضر بن شميل عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ».

وروى البخاري عن الفريابي، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله : « إقرأ علي ».

فقلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟.

فقال: « إني أحب أن أسمعه من غيري ».

قال: فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } . 23.

قال: « حسبك ».

فالتفت فإذا عيناه تذرفان.

وثبت في الصحيح أنه عليه السلام كان يجد التمرة على فراشه فيقول: « لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله وجد تحت جنبه تمرة من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة.

فقال بعض نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة؟

قال: « إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه »

تفرد به أحمد، وأسامة بن زيد - هو الليثي من رجال مسلم - والذي نعتقد أن هذه التمرة لم تكن من تمر الصدقة لعصمته عليه السلام، ولكن من كمال ورعه عليه السلام أرق تلك الليلة.

وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: « والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بما أتقي ».

وفي الحديث الآخر أنه قال: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ».

وقال حماد بن سلمة عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: أتيت رسول الله وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.

وفي رواية: وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء.

وروى البيهقي من طريق أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني: ثنا معاوية بن هشام عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أراك شبت؟

فقال: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ».

وفي رواية له عن أبي كريب، عن معاوية، عن هشام، عن شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أسرع إليك الشيب.

فقال: « شيبتني هود، وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ».

فصل في شجاعته صلى الله عليه وسلم

[عدل]

ذكرت في التفسير عن بعض من السلف أنه استنبط من قوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } 24: أن رسول الله كان مأمورا أن لا يفر من المشركين إذا واجهوه، ولو كان وحده من قوله: { لا تكلف إلا نفسك } .

وقد كان من أشجع الناس، وأصبر الناس، وأجلدهم، ما فر قط من مصاف، ولو تولى عنه أصحابه.

قال بعض أصحابه: كنا إذا اشتد الحرب، وحمى الناس نتقي برسول الله ، ففي يوم بدر رمى ألف مشرك بقبضة من حصا فنالتهم أجمعين حين قال: « شاهت الوجوه ».

وكذلك يوم حنين كما تقدم، وفر أكثر أصحابه في ثاني الحال يوم أحد وهو ثابت في مقامه لم يبرح منه، ولم يبق معه إلا اثنا عشر قتل منهم سبعة وبقي الخمسة، وفي هذا الوقت قتل أبي بن خلف - لعنه الله -، فعجله الله إلى النار.

ويوم حنين ولى الناس كلهم، وكانوا يومئذ اثنا عشر ألفا، وثبت هو في نحو من مائة من الصحابة وهو راكب يومئذ بغلته، وهو يركض بها إلى نحو العدو، وهو ينوه باسمه ويعلن بذلك قائلا: « أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب » حتى جعل العباس، وعلي، وأبو سفيان يتعلقون في تلك البغلة ليبطئوا سيرها خوفا عليه من أن يصل أحد من الأعداء إليه، وما زال كذلك حتى نصره الله وأيده في مقامه ذلك، وما تراجع الناس إلا والأشلاء مجندلة بين يديه .

وقال أبو زرعة: حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدثنا مروان - يعني: ابن محمد -، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : « فضلت على الناس بشدة البطش ».

فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في الكتب المأثورة عن الأنبياء الأقدمين

[عدل]

قد أسلفنا طرفا صالحا من ذلك في البشارات قبل مولده، ونحن نذكر هنا غررا من ذلك.

فقد روى البخاري والبيهقي واللفظ له من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة؟

فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في الفرقان: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، ومبشرا، ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.

قال عطاء بن يسار: ثم لقيت كعبا الحبر فسألته فما اختلف في حرف، إلا أن كعبا قال: أعينا عمويا، وآذانا صمومي، وقلوبا غلوفا.

ورواه البخاري أيضا عن عبد الله غير منسوب، قيل: هو ابن رجاء، وقيل: عبد الله بن صالح، وهو الأرجح، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، عن هلال بن علي به.

قال البخاري: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام: كذا علقه البخاري.

وقد روى البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح - هو عبد الله بن صالح كاتب الليث - حدثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال، عن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله : « إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا » أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر ويتجاوز، وليس أقبضه حتى يقيم الملة العوجاء، بأن تشهد « أن لا إله إلا الله » يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.

قال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.

وقد روي عن عبد الله بن سلام من وجه آخر: فقال الترمذي: حدثنا زيد بن أخرم الطائي البصري، ثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدني، ثنا عثمان الضحاك عن محمد بن يوسف، عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التوراة: محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه.

فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.

ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن، هكذا قال الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان المدني، وهكذا حكى شيخنا الحافظ المزي في كتابه الأطراف، عن ابن عساكر أنه قال مثل قول الترمذي ثم قال: وهو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان، فقد روى هذا عن عبد الله بن سلام - وهو من أئمة أهل الكتاب ممن آمن -، وعبد الله بن عمرو بن العاص وقد كان له اطلاع على ذلك من جهة زاملتين كان أصابهما يوم اليرموك، فكان يحدث منهما عن أهل الكتاب وعن كعب الأحبار، وكان بصيرا بأقوال المتقدمين على ما فيها من خلط وغلط وتحريف وتبديل، فكان يقولها بما فيها من غير نقد.

وربما أحسن بعض السلف بها الظن فنقلها عنه مسلمة، وفي ذلك من المخالفة لبعض ما بأيدينا من الحق جملة كثيرة، لكن لا يتفطن لها كثير من الناس.

ثم ليعلم أن كثيرا من السلف يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصا ويراد به غيره، كما في الصحيح خفف على داود القرآن فكان يأمر بداوبه فتسرح فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، والله أعلم.

وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله في التوراة؟

قال: نجده محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عميا، ويسمع به آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة، حتى تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.

وبه عن يونس بن بكير، عن يونس ابن عمرو، عن العيزار بن حريث، عن عائشة أن رسول الله مكتوب في الإنجيل: لا فظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفح.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا قيس البجلي، حدثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: « جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا ابن الطاهر البتول، إني خلقتك من غير فحل، وجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فبين لأهل سوران أني أنا الحق القائم الذي لا أزول، صدقوا بالنبي العربي، صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة، والنعلين، والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريحه المسك ينفخ منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا بطنه شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من الصخر، وينحدر في صبب، ذو النسل القليل.

وروى الحافظ البيهقي بسنده عن وهب بن منبه اليمامي قال: إن الله - عز وجل - لما قرب موسى نجيا.

قال: رب إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي؟

قال: « تلك أمة أحمد ».

قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم خير الأمم الآخرون من الأمم، السابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي.

قال: « تلك أمة أحمد ».

قال: يا رب إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتبهم نظرا ولا يحفظونها، فاجعلهم أمتي.

قال: « تلك أمة أحمد ».

قال: رب إني أجد في التوراة أمة يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقاتلون رؤوس الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي.

قال: « تلك أمة أحمد ».

قال: رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم، وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها نارا فأكلتها، فإن لم تقبل لا تقربها النار، فاجعلهم أمتي.

قال: « تلك أمة أحمد ».

قال: رب إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها بها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فاجعلهم أمتي.

قال: « تلك أمة أحمد ».

قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي.

قال: « تلك أمة أحمد ».

قال: وذكر وهب بن منبه في قصة داود عليه السلام وما أوحي إليه في الزبور: « يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، صادقا سيدا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أمته مرحومة أعطيهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا آخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إن استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعاف مضاعفة، ولهم في المدخر عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدخره لهم في الآخرة.

يا داود! من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا، أو كذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار ».

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا الشريف أبو الفتح العمري، ثنا عبد الرحمن ابن أبي شريح الهروي، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي، حدثني محمد بن عمر بن سعيد - يعني: ابن محمد بن جبير بن مطعم - قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيها، عن أبيه قال: سمعت أبي جبير ابن مطعم يقول: لما بعث الله نبيه وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام فلما كنت ببصرى أتتنى جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرام أنت؟

قلت: نعم!

قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟

قلت: نعم.

قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور.

فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم؟

فنظرت، فلم أر صورته.

قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدير.

فقالوا لي: انظر هل ترى صورته.

فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله .

فقالوا لي: هل ترى صفته؟

قلت: نعم!

قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله .

قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.

قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟

قلت: نعم!

قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده.

ورواه البخاري في التاريخ: عن محمد - غير منسوب -، عن محمد بن عمر هذا، بإسناده فذكره مختصرا، وعنده فقالوا: إنه لم يكن نبي إلا بعده نبي، إلا هذا النبي.

وقد ذكرنا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى في سورة الأعراف: « الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر » الآية.

ذكرنا ما أورده البيهقي وغيره من طريق أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر اجتماعهم به، وأن عرفته تنغصت حين ذكروا الله - عز وجل - فأنزلهم في دار ضيافته، ثم استدعاهم بعد ثلاث، فدعا بشيء نحو الربعة العظيمة فيها بيوت صغار عليها أبواب وإذا فيها صور الأنبياء ممثلة في قطع من حرير من آدم إلى محمد - صلوات الله عليهم أجمعين -، فجعل يخرج لهم واحدا واحدا، ويخبرهم عنه، وأخرج لهم صورة آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم تعجل إخراج صورة رسول الله .

قال: ثم فتح بابا آخر فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله .

قال: أتعرفون هذا؟

قلنا: نعم، محمد رسول الله.

قال: وبكينا.

قال: والله يعلم أنه قام قائما، ثم جلس وقال: والله إنه لهو؟

قلنا: نعم إنه لهو كما تنظر إليه.

فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم، ثم ذكر تمام الحديث في إخراجه بقية صور الأنبياء، وتعريفه إياهما بهم.

وقال في آخره: قلنا له: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها ما على صورت عليه الأنبياء - عليهم السلام -، لأنا رأينا صورة نبينا - عليه السلام - مثله.

فقال: إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.

ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبدا لأشركم ملكة حتى أموت.

قال: ثم أجازنا، فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثناه بما رأينا، وما قال لنا، وما أجازنا.

قال: فبكى أبو بكر فقال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال: أخبرنا رسول الله أنهم واليهود يجدون نعت محمد عندهم.

وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكيمي عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه، وأشهد برسالته، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.

قلت: هلم.

قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قوم منها ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من سأل من اليهود، والنصارى، والمجوس يقولون: هذا الدين وذاك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.

قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت النبي قول زيد بن عمرو بن نفيل، وإقرائه منه السلام، فرد عليه السلام، وترحم عليه وقال: « قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا ».

كتاب دلائل النبوة

[عدل]

وهو معنوية وحسية فمن المعنوية: إنزال القرآن عليه، وهو أعظم المعجزات وأبهر الآيات، وأبين الحجج الواضحات لما اشتمل عليه من التركيب المعجز الذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعي أعدائه على معارضته وفصاحتهم وبلاغتهم، ثم تحداهم بعشر سور منه فعجزوا، ثم تنازل إلى التحدي بسورة من مثله فعجزوا عنه وهم يعلمون عجزهم، وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبدا.

قال الله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } . 25 وهذه الآية مكية.

وقال في سورة الطور وهي مكية: { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } 26.

أي: إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده فهو بشر مثلكم، فأتوا بمثل ما جاء به فإنكم مثله.

وقال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية - معيدا للتحدي -: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } 27.

وقال تعالى: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم } 28.

وقال تعالى: { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } 29.

فبين تعالى أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن، بل عن عشر سور مثله، بل عن سورة منه وأنهم لا يستطيعون ذلك أبدا.

كما قال تعالى: { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } أي: فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل وهذا تحد ثان، وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا التحدي إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته ولا الإتيان بمثله، ولو كان متقول من عند نفسه لخاف أن يعارض فيفنضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة الناس له، ومعلوم لكل ذي لب أن محمدا من أعقل خلق الله، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في نفس الأمر، فما كان ليقدم هذا الأمر إلا وهو عالم بأنه لا يمكن معارضته، وهكذا وقع فإنه من لدن رسول الله - -.

وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره، ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدا فإنه كلام رب العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟

وقول كفار قريش الذي حكاه تعالى عنهم في قوله: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين. 30 كذب منهم ودعوى باطلة بلا دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولو كانوا صادقين لأتوا بما يعارضه، بل هم يعلمون كذب أنفسهم كما يعلمون كذب أنفسهم في قولهم: { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } 31.

قال الله تعالى: { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } 32.

أي: أنزله عالم الخفيات، رب الأرض والسموات، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فإنه تعالى أوحى إلى عبده ورسوله النبي الأمي الذي كان لا يحسن الكتابة، ولا يدريها بالكلية، ولا يعلم شيئا من علم الأوائل، وأخبار الماضين، فقص الله عليه خبر ما كان وما هو كائن على الوجه الواقع سواء بسواء، وهو في ذلك يفصل بين الحق والباطل الذي اختلفت في إيراده جملة الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } 33.

وقال تعالى: { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا } 34.

وقال تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } 35.

وقال تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون * وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون } 36.

فبين تعالى أن نفس إنزال هذا الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون وحكم ما هو كائن بين الناس على مثل هذا النبي الأمي وحده كان من الدلالة على صدقه.

وقال تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون } 37.

يقول لهم: إني لا أطيق تبديل هذا من تلقاء نفسي، وإنما الله - عز وجل - هو الذي يمحو ما يشاء ويثبت، وأنا مبلغ عنه، وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به، لأني نشأت بين أظهركم وأنتم تعلمون نسبي، وصدقي، وأمانتي، وأني لم أكذب على أحد منكم يوما من الدهر، فكيف يسعني أن أكذب على الله - عز وجل - مالك الضر والنفع الذي هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأي ذنب عنده أعظم من الكذب عليه، ونسبة ما ليس منه إليه كما قال تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين } 38.

أي: لو كذب علينا لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما استطاع أحد من أهل الأرض أن يحجزنا عنه ويمنعنا منه.

وقال تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } 39.

وقال تعالى: { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } . 40.

وهذا الكلام فيه الإخبار بأن الله شهيد على كل شيء، وأنه تعالى أعظم الشهداء، وهو مطلع علي وعليكم فيما جئتكم به عنه، وتتضمن قوة الكلام قسما به أنه قد أرسلني إلى الخلق لأنذرهم بهذا القرآن، فمن بلغه منهم فهو نذير له كما قال تعالى: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } 41.

ففي هذا القرآن من الأخبار الصادقة عن الله وملائكته، وعرشه، ومخلوقاته العلوية والسفلية كالسموات والأرضين وما بينهما، وما فيهن أمور عظيمة كثيرة مبرهنة بالأدلة القطعية المرشدة إلى العلم بذلك من جهة العقل الصحيح كما قال تعالى: { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا } 42.

وقال تعالى: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } 43.

وقال تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون } 44.

وفي القرآن العظيم الإخبار عما مضى على الوجه الحق، وبرهانه ما في كتب أهل الكتاب من ذلك شاهدا له مع كونه نزل على رجل أمي لا يعرف الكتابة، ولم يعان يوما من الدهر شيئا من علوم الأوائل ولا أخبار الماضين، فلم يفجأ الناس إلا بوحي إليه عما كان من الأخبار النافعة التي ينبغي أن تذكر للاعتبار بها من أخبار الأمم مع الأنبياء، وما كان منهم من أمورهم معهم، وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، بعبارة لا يستطيع بشر أن يأتي بمثلها أبد الآبدين، ودهر الداهرين، ففي مكان تقص القصة موجزة في غاية البيان والفصاحة، وتارة تبسط فلا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السياق، حتى كأن التالي أو السامع مشاهد لما كان حاضر له، معاين للخبر بنفسه كما قال تعالى: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون } 45.

وقال تعالى: { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } 46.

وقال تعالى في سورة يوسف: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون * وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين } إلى أن قال في آخرها: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } 47.

وقال تعالى: { وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } 48.

وقال تعالى: { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد * سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } 49.

وعد تعالى أنه سيظهر الآيات القرآن وصدقه، وصدق من جاء به بما يخلقه في الآفاق من الآيات الدالة على صدق هذا الكتاب، وفي نفس المنكرين له المكذبين ما فيه حجة عليهم وبرهان قاطع لشبههم حتى يستيقنوا أنه منزل من عند الله على لسان الصادق، ثم أرشد إلى دليل مستقل بقوله: { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } 50.

أي: في العلم بأن الله يطلع على هذا الأمر كفاية في صدق هذا المخبر عنه، إذ لو كان مفتريا عليه لعاجله بالعقوبة البليغة كما تقدم بيان ذلك.

وفي هذا القرآن إخبار عما وقع في المستقبل طبق ما وقع سواء بسواء، وكذلك في الأحاديث حسب ما قررناه في كتابنا التفسير، وما سنذكره من الملاحم والفتن كقوله تعالى: { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } 51 وهذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.

وكذلك قوله تعالى في سورة اقتربت وهي مكية بلا خلاف: { سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } 52.

وقع مصداق هذه الهزيمة يوم بدر بعد ذلك، إلى أمثال هذا من الأمور البينة الواضحة، وسيأتي فصل فيما أخبر به من الأمور التي وقعت بعده عليه السلام طبق ما أخبر به، وفي القرآن الأحكام العادلة أمرا ونهيا، المشتملة على الحكم البالغة التي إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيات، الرحيم بعباده الذي يعاملهم بلطفه ورحمته وإحسانه.

قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } 53.

أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي.

وقال تعالى: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } . 54.

أي: أحكمت ألفاظه، وفصلت معانيه.

وقال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } 55.

أي: العلم النافع، والعمل الصالح، وهكذا روي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لكميل بن زياد: هو كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، وحكم ما بينكم، ونبأ ما بعدكم.

وقد بسطنا هذا كله في كتابنا التفسير، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: من فصاحته، وبلاغته، ونظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية، والتحدي ببلاغة ألفاظه يخص فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصحيحة الكاملة - وهي أعظم في التحدي عند كثير من العلماء - يعم جميع أهل الأرض من الملتين، أهل الكتاب، وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط، وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار.

وأما من زعم من المتكلمين أن الإعجاز إنما هو من صرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلب قدرتهم على ذلك، فقول باطل، وهو مفرع على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلقه الله في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق، وقولهم هذا كفر وباطل، وليس مطابقا لما في نفس الأمر، بل القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلم به كما شاء تعالى، وتقدس وتنزه عما يقولون علوا كبيرا، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله، وتنزه عما يقولون علوا كبيرا، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرسل الذين هم أفصح الخلق، وأعظم الخلق وأكملهم أن يتكلموا بمثل كلام الله، وهذا القرآن الذي يبلغه الرسول عن الله، أسلوب كلامه لا يشبه أساليب كلام رسول الله ، وأساليب كلامه عليه السلام المحفوظة عنه بالسند الصحيح إليه لا يقدر أحد من الصحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته، فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشريفة، بل وأسلوب كلام الصحابة أعلى من أساليب كلام التابعين، وهلم جرا إلى زماننا، و علماء السلف أفصح وأعلم وأقل تكلفا فيما يرونه من المعاني بألفاظهم من علماء الخلف، وهذا يشهده من له ذوق بكلام الناس كما يدرك تفاوت ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية، وبين أشعار المولدين الذين كانوا بعد ذلك.

ولهذا جاء الحديث الثابت في هذا المعنى، وهو فيما رواه الإمام أحمد قائلا: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ».

وقد أخرجه البخاري، ومسلم من حديث الليث بن سعد به.

ومعنى هذا أن الأنبياء - عليهم السلام - كل منهم قد أوتي من الحجج والدلائل على صدقه، وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية، وحجة لقومه الذين بعث إليهم سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم، أو جحدوا فاستحقوا العقوبة.

وقوله: « وإنما كان الذي أوتيت » أي: جله، وأعظمه الوحي الذي أوحاه إليه وهو القرآن الحجة المستمرة الدائمة القائمة في زمانه وبعده، فإن البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجة قائمة كأنما يسمعه السامع من في رسول الله ، فحجة الله قائمة به في حياته عليه السلام وبعد وفاته ولهذا قال: « فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » أي: لاستمرار ما آتاني الله من الحجة البالغة، والبراهين الدامغة، فلهذا يكون يوم القيامة أكثر الأنبياء تبعا.

فصل وإنك لعلى خلق عظيم

[عدل]

ومن الدلائل المعنوية: أخلاقه عليه السلام الطاهرة، وخلقه الكامل، وشجاعته، وحلمه، وكرمه، وزهده، وقناعته، وإيثاره، وجميل صحبته، وصدقه، وأمانته، وتقواه، وعبادته، وكرم أصله، وطيب مولده، ومنشئه، ومرباه، كما قدمناه مبسوطا في مواضعه، وما أحسن ما ذكره شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه الذي رد فيه على فرق النصارى واليهود، وما أشبههم من أهل الكتاب وغيرهم، فإنه ذكر في آخره دلائل النبوة، وسلك فيها مسالك حسنة صحيحة، منتجة بكلام بليغ، يخضع له كل من تأمله وفهمه.

فصل دلائل نبوته من خلال سيرته وأخلاقه

[عدل]

وسيرة الرسول وأخلاقه، وأقواله، وأفعاله من آياته أي: من دلائل نبوته.

قال: وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته من آياته، ودينهم من آياته، وكرامات صالحي أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد إلى أن بعث، ومن حين بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من ذريته، وجعل الله له ابنين إسماعيل وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن من ولد إسماعيل من ظهر فيه ما بشرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم.

ثم الرسول من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم ودعا للناس إلى حجه، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف، وكان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفا بالصدق، والبر، ومكارم الأخلاق، والعدل، وترك الفواحش والظلم، وكل وصف مذموم، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة، ولا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وقد كان خلقه وصورته من أحسن الصور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئا من علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدع النبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبر بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله، ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعادوه وسعوا في هلاكه، وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم.

والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه، وقد آذوا أتباعه أنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان، والمعرفة، وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فيجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليها يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود وقد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي يخبرهم به اليهود، وكانوا سمعوا من أخباره أيضا ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغنى وفقر، وقدرة وعجز، وتمكن وضعف، وقلة وكثرة، وظهور على العدو تارة، وظهور العدو تارة، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم.

حتى أن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح أفضل من هؤلاء.

وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم تعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين، وهو مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلف درهما، ولا دينارا، ولا شاة، ولا بعيرا، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك، وهو في كل وقت يظهر من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء، حتى أكمل الله دينه الذي بعثه به، وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه، وأحل لهم الطيبات لم يحرم منها شيئا، كما حرم في شريعة غيره، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحل غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن الملائكة وعن اليوم الآخر، إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب، وليس في الكتب إيجاب لعدل، وقضاء بفضل وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه، وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها وعبادات غيره من الأمم ظهر له فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشرائع.

وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، وإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم.

وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله، وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا.

وإذا قيس سخاؤهم وبرهم وسماحة أنفسهم بغيرهم ظهر أنهم أسخى وأكرم من غيرهم.

وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلموها، وهو الذي أمرهم بها لم يكونوا قبل متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة، فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة، وبعضها من الزبور، وبعضها من النبوات، وبعضها من المسيح، وبعضها ممن بعده من الحواريين، ومن بعض الحواريين، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم، حتى أدخلوا - لما غيروا من دين المسيح - في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح.

وأما أمة محمد فلم يكونوا قبله يقرؤن كتابا، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود، والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، وهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم عن أن يفرقوا بين أحد من الرسل فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } 56.

وقال تعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } 57.

وأمته عليه السلام لا يستحلون أن يوجدوا شيئا من الدين غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله، لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به، وما حدثهم أهل الكتاب موافقا لما عندهم صدقوه، ومالم يعلم صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا بأنه باطل كذبوه، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند والفرس واليونان، أو غيرهم كان عندهم من أهل الإلحاد والابتداع، وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله ، والتابعون، وهو الذي عليه أئمة الدين الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم، ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة.

وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرين إلى قيام الساعة الذين قال فيهم رسول الله : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ».

وقد يتنازع بعض المسلمين مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما ودين محمد خصوصا، ومن خالف في هذا الأصل كان عندهم ملحدا مذموما، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا ما قام به أكابر علمائهم وعبادهم، وقاتل عليه ملوكهم ودان به جمهورهم، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح، ولا دين غيره من الأنبياء، والله سبحانه أرسل رسله بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن اتبع الرسل له سعادة الدنيا والآخرة، وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا، ولما بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون من أمته، فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد أخذوه عن نبيهم، كما ظهر لكل عاقل أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو في الأصل المعلم، وهذا يقتضي أنه عليه السلام كان أكمل الناس علما ودينا، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله: « إني رسول الله إليكم جميعا » لم يكن كاذبا مفتريا، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا، أو من هو من أشر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا، وما ذكر من كمال علمه ودينة يناقض الشر والخبث والجهل.

فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم، والدين، وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله: « إني رسول الله إليكم جمعيا » لأن الذي لم يكن صادقا إما أن يكون متعمدا للكذب، أو مخطئا.

والأول يوجب أنه كان ظالما غاويا.

والثاني يقتضي أنه كان جاهلا ضالا.

ومحمد كان علمه ينافي جهله، وكمال دينه ينافي تعمد الكذب، فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن يتعمد الكذب، ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك، تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق، ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى: { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } 58.

وقال تعالى عن الملك الذي جاء به: { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } 59.

ثم قال عنه: { وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم * فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين } 60.

وقال تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين }، إلى قوله: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } 61.

بين سبحانه أن الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه، فإن الشيطان يقصد الشر وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب إما عمدا وإما خطأ وفجورا أيضا، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا.

كما قال ابن مسعود لما سئل عن مسألة: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.

فإن رسول الله بريء من تنزل الشياطين عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرسول فإنه قد يخطئ ويكون خطؤه من الشيطان، وإن كان خطؤه مغفورا له، فإذا لم يعرف له خبرا أخبر به كان فيه مخطئا، ولا أمرا أمر به كان فيه فاجرا، علم أن الشيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه ملك كريم، ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي: { إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } 62.

انتهى ما ذكره، وهذا عين ما أورده بحروفه.

باب دلائل النبوة الحسية

[عدل]

ومن أعظم ذلك كله انشقاق القمر المنير فرقتين قال الله تعالى: { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر * وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر * ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر } 63.

وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد رسول الله - -، وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة.

رواية أنس بن مالك: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن قتادة، عن أنس قال: سأل أهل مكة النبي آية، فانشق القمر بمكة فرقتين فقال: « اقتربت الساعة وانشق القمر ».

ورواه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق.

وقال البخاري: حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا بشر بن المفضل، ثنا سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث شيبان عن قتادة.

ومسلم من حديث شعبة عن قتادة.

رواية جبير بن مطعم:

قال أحمد: حدثنا محمد بن كثير، ثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل.

فقالوا: سحرنا محمد.

فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس، تفرد به أحمد.

ورواية ابن جرير، والبيهقي من طرق عن حصين بن عبد الرحمن به.

رواية حذيفة بن اليمان:

قال أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن علية، أنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة فحضر أبي، وحضرت معه، فخطبنا حذيفة فقال: إن الله تعالى يقول: « اقتربت الساعة وانشق القمر » ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.

فقلت لأبي: أتستبق الناس غدا؟

فقال: يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال.

ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرها، فخطب حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: « اقتربت الساعة وانشق القمر » ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق.

ورواه أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة من غير وجه عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن حذيفة، فذكر نحوه وقال: ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة.

رواية عبد الله بن عباس:

قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير، ثنا بكر عن جعفر، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان النبي .

ورواه البخاري أيضا، ومسلم من حديث بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة به.

طريق أخرى عنه: قال ابن جرير: ثنا ابن مثنى، ثنا عبد الأعلى، ثنا داود ابن أبي هند، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: « اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر »

قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه.

وروى العوفي عن ابن عباس نحوا من هذا، وقد روى من وجه آخر عن ابن عباس فقال أبو القاسم الطبراني: ثنا أحمد بن عمرو البزار، ثنا محمد بن يحيى القطيعي، ثنا محمد بن بكير، ثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله .

فقالوا: سحر القمر فنزلت: « اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ».

وهذا سياق غريب، وقد يكون حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، فيدل على أن انشقاقه إنما كان في ليالي إبداره، والله أعلم.

رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب:

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا وهب بن جرير عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب في قوله: « اقتربت الساعة وانشق القمر » قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل.

فقال رسول الله : « اللهم اشهد ».

وهكذا رواه مسلم، والترمذي من طرق عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، قال مسلم: كرواية مجاهد عن أبي معمر، عن ابن مسعود.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

رواية عبد الله بن مسعود:

قال الإمام أحمد: ثنا سفيان عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله شقتين حتى نظروا إليه.

فقال رسول الله : « اشهدوا ».

ورواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة.

وأخرجاه من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة، عن ابن مسعود به.

قال البخاري: وقال أبو الضحى: عن مسروق، عن عبد الله بمكة.

وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده أبو داود الطيالسي في مسنده فقال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق بن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله .

فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة.

قال: فقالوا: انظروا ما يأتينا به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

قال: فجاء السفار فقالوا ذلك.

وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن ابن عباس الدوري، عن سعيد بن سليمان، عن هشيم، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين.

فقالت كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا المسافرين فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا ما رأيتم فهو سحر سحركم به.

قال: فسئل السفار - وقدموا من كل وجه -.

فقالوا: رأيناه.

ورواه ابن جرير من حديث المغيرة، وزاد فأنزل الله: « اقتربت الساعة وانشق القمر ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل عن إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله حتى رأيت الجبل بين فرقتي القمر.

وروى ابن جرير عن يعقوب الدوري، عن ابن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن ابن مسعود كان يقول: لقد انشق القمر.

ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه كان يقول: خمس قد مضين: الروم، واللزام، والبطشة، والدخان، والقمر، في حديث طويل عنه مذكور في تفسير سورة الدخان.

وقال أبو زرعة في الدلائل: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا الوليد عن الأوزاعي، عن ابن بكير قال: انشق القمر بمكة والنبي قبل الهجرة فخر شقتين.

فقال المشركون: سحره ابن أبي كبشة.

وهذا مرسل من هذا الوجه، فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده مع وروده في الكتاب العزيز، وما يذكره بعض القصاص من أن القمر دخل في جيب النبي وخرج من كمه، ونحو هذا الكلام فليس له أصل يعتمد عليه، والقمر في حال انشقاقه لم يزايل السماء، بل انفرق باثنتين وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء، والأخرى من الناحية الأخرى وصار الجبل بينهما، وكلتا الفرقتين في السماء، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك، وظن كثير من جهلتهم أن هذا شيء سحرت به أبصارهم، فسألوا من قدم عليهم من المسافرين، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صحة ذلك وتيقنوه.

فإن قيل: فلم لم يعرف هذا في جميع أقطار الأرض؟

فالجواب: ومن ينفي ذلك، ولكن تطاول العهد والكفرة يجحدون بآيات الله، ولعلهم لما أخبروا أن هذا كان آية لهذا النبي المبعوث تداعت آراؤهم الفاسدة على كتمانه وتناسيه على أنه قد ذكر غير واحد من المسافرين أنهم شاهدوا هيكلا بالهند مكتوبا عليه: أنه بني في الليلة التي انشق القمر فيها، ثم لما كان انشقاق القمر ليلا قد يخفى أمره على كثير من الناس لأمور مانعة من مشاهدته في تلك الساعة من غيوم متراكمة كانت تلك الليلة في بلدانهم، ولنوم كثير منهم، أو لعله كان في أثناء الليل حيث ينام كثير من الناس، وغير ذلك من الأمور، والله أعلم.

وقد حررنا هذا فيما تقدم في كتابنا التفسير.

فأما حديث رد الشمس بعد مغيبها، فقد أنبأني شيخنا المسند الرحلة بهاء الدين القاسم بن المظفر بن تاج الأمناء بن عساكر إذنا و قال: أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عساكر المشهور بالنسابة قال: أخبرنا أبو المظفر ابن القشيري، وأبو القاسم المستملي قالا: ثنا أبو عثمان المحبر، أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن الدبابعاني بها، أنا محمد بن أحمد بن محبوب.

وفي حديث ابن القشيري: ثنا أبو العباس المحبوبي، ثنا سعيد بن مسعود.

ح قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: وأنا أبو الفتح الماهاني، أنا شجاع بن علي، أنا أبو عبد الله ابن منده، أنا عثمان بن أحمد الننسي، أنا أبو أمية محمد بن إبراهيم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، ثنا فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن، زاد أبو أمية بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله يوحى إليه ورأسه في حجر علي، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس.

فقال رسول الله : صليت العصر؟

وقال أبو أمية: صليت يا علي؟

قال: لا.

قال رسول الله وقال أبو أمية: فقال النبي : « اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة نبيك ».

وقال أبو أمية: رسولك، فاردد عليه الشمس.

قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.

وقد رواه الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات، من طريق أبي عبد الله بن منده، كما تقدم.

ومن طريق أبي جعفر العقيلي: ثنا أحمد بن داود، ثنا عمار بن مطر، ثنا فضيل بن مرزوق فذكره ثم قال: وهذا حديث موضوع، وقد اضطرب الرواة فيه، فرواه سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن علي بن الحسن، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء، وهذا تخليط في الرواية.

قال: وأحمد بن داود ليس بشيء.

قال الدارقطني: متروك كذاب.

وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.

وعمار بن مطر قال فيه العقيلي: كان يحدث عن الثقات بالمناكير.

وقال ابن عدي: متروك الحديث.

قال: وفضيل بن مرزوق قد ضعفه يحيى.

قال ابن حبان: يروي الموضوعات، ويخطئ عن الثقات، وبه قال الحافظ ابن عساكر.

قال: وأخبرنا أبو محمد عن طاوس، أنا عاصم بن الحسن، أنا أبو عمرو ابن مهدي، أنا أبو العباس ابن عقدة، ثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا عبد الرحمن بن شريك، حدثني أبي عن عروة بن عبد الله بن قشير قال: دخلت على فاطمة بنت علي فرأيت في عنقها خرزة، ورأيت في يديها مسكيتن غليظتين، - وهي عجوز كبيرة -.

فقلت لها: ما هذا؟

فقالت: إنه يكره للمرأة أن تتشبه بالرجال، ثم حدثتني أن أسماء بنت عميس حدثتها أن علي ابن أبي طالب دفع إلى النبي وقد أوحي إليه، فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس - يقول: غابت، أو كادت أن تغيب - ثم إن نبي الله سري عنه فقال: أصليت يا علي؟

قال: لا.

فقال النبي : « اللهم رد على علي الشمس » فرجعت حتى بلغت نصف المسجد.

قال عبد الرحمن: وقال أبي: حدثني موسى الجهني نحوه.

ثم قال الحافظ ابن عساكر: هذا حديث منكر، وفيه غير واحد من المجاهيل.

وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: في الموضوعات.

وقد روى ابن شاهين هذا الحديث عن ابن عقدة فذكره ثم قال: وهذا باطل، والمتهم به ابن عقدة، فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة.

قال الخطيب: ثنا علي بن محمد بن نصر سمعت حمزة بن يوسف يقول: كان ابن عقدة بجامع براثا يملي مثالب الصحابة، أو قال: الشيخين فتركته.

وقال الدارقطني: كان ابن عقدة رجل سوء.

وقال ابن عدي: سمعت أبا بكر ابن أبي غالب يقول: ابن عقدة لا يتدين بالحديث لأنه كان يحمل شيوخا بالكوفة على الكذب، فيسوي لهم نسخا ويأمرهم أن يرووها، وقد بينا كذبه من عند شيخ بالكوفة.

وقال الحافظ أبو بشر الدولابي في كتابه الذرية الطاهرة: حدثنا إسحاق بن يونس، ثنا سويد بن سعيد، ثنا المطلب بن زياد عن إبراهيم بن حبان، عن عبد الله بن حسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن الحسين قال: كان رأس رسول الله في حجر علي وهو يوحى إليه، فذكر الحديث بنحو ما تقدم.

إبراهيم ابن حبان هذا تركه الدارقطني وغيره.

وقال محمد بن ناصر البغدادي الحافظ: هذا الحديث موضوع.

قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: وصدق ابن ناصر.

وقال ابن الجوزي: وقد رواه ابن مردويه من طريق حديث داود بن واهج عن أبي هريرة قال: نام رسول الله ورأسه في حجر علي ولم يكن صلى العصر حتى غربت الشمس، فلما قام رسول الله دعا له فردت عليه الشمس حتى صلى، ثم غابت ثانية.

ثم قال: وداود ضعفه شعبة.

ثم قال ابن الجوزي: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضله ولم يتلمح عدم الفائدة، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء، فرجوع الشمس لا يعيدها أداء.

وفي الصحيح عن رسول الله : « أن الشمس لم تحبس على أحد إلا ليوشع ».

قلت: هذا الحديث ضعيف ومنكر من جميع طرقه، فلا تخلو واحدة منها عن شيعي ومجهول الحال، وشيعي ومتروك، ومثل هذا الحديث لا يقبل فيه خبر واحد إذا اتصل سنده، لأنه من باب ما تتوفر الدواعي على نقله، فلا بد من نقله بالتواتر والاستفاضة لا أقل من ذلك، ونحن لا ننكر هذا في قدرة الله تعالى، وبالنسبة إلى جناب رسول الله فقد ثبت في الصحيح أنها ردت ليوشع بن نون، وذلك يوم حاصر بيت المقدس، واتفق ذلك في آخر يوم الجمعة، وكانوا لا يقاتلون يوم السبت فنظر إلى الشمس وقد تنصفت للغروب فقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي، فحبسها الله عليه، حتى فتحوها، ورسول الله أعظم جاها وأجل منصبا، وأعلى قدرا من يوشع بن نون، بل من سائر الأنبياء على الأجرام، ولكن لا نقول إلا ما صح عندنا عنه، ولا نسند إليه ما ليس بصحيح، ولو صح لكنا من أول القائلين به والمعتقدين له، وبالله المستعان.

وقال الحافظ أبو بكر محمد بن حاتم بن زنجويه البخاري في كتابه إثبات إمامة أبي بكر الصديق: فإن قال قائل من الروافض: إن أفضل فضيلة لأبي الحسن وأدل دليل على إمامته ما روي عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله يوحى إليه ورأسه في حجر علي ابن أبي طالب، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس.

فقال رسول الله لعلي: « صليت؟ »

قال: لا.

فقال رسول الله: « اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس ».

قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.

قيل له: كيف لنا لو صح هذا الحديث فنحتج على مخالفينا من اليهود والنصارى، ولكن الحديث ضعيف جدا لا أصل له، وهذا مما كسبت أيدي الروافض، ولو ردت الشمس بعد ما غربت لرآها المؤمن والكافر، ونقلوا إلينا أن في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا ردت الشمس بعد ما غربت.

ثم يقال للروافض: أيجوز أن ترد الشمس لأبي الحسن حين فاتته صلاة العصر، ولا ترد لرسول الله ولجميع المهاجرين والأنصار وعلي فيهم حين فاتتهم صلاة الظهر، والعصر، والمغرب يوم الخندق؟

قال: وأيضا مرة أخرى عرس رسول الله - - بالمهاجرين والأنصار حين قفل من غزوة خيبر فذكر نومهم عن صلاة الصبح، وصلاتهم لها بعد طلوع الشمس قال: فلم يرد الليل على رسول الله وعلى أصحابه قال: ولو كان هذا فضلا أعطيه رسول الله وما كان الله ليمنع رسوله شرفا وفضلا - يعني: أعطيه علي ابن أبي طالب -.

ثم قال: وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: قلت لمحمد بن عبيد الطنافسي: ما تقول فيمن يقول: رجعت الشمس على علي ابن أبي طالب حتى صلى العصر؟

فقال: من قال هذا فقد كذب.

وقال إبراهيم ابن يعقوب: سألت يعلى بن عبيد الطنافسي قلت: إن ناسا عندنا يقولون إن عليا وصي رسول الله ، ورجعت الشمس.

فقال: كذب هذا كله.

فصل إيراد هذا الحديث من طرق متفرقة

[عدل]

أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد الحسكاني يصنف فيه تصحيح رد الشمس وترغيم النواصب الشمس وقال: قد روي ذلك من طريق أسماء بنت عميس، وعلي ابن أبي طالب، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، ثم رواه من طريق أحمد بن صالح المصري، وأحمد بن الوليد الأنطاكي، والحسن بن داود، ثلاثتهم عن محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك، وهو ثقة، أخبرني محمد بن موسى الفطري المدني وهو ثقة أيضا عن عون بن محمد قال - وهو ابن محمد بن الحنفية - عن أمه أم جعفر بنت محمد بن جعفر ابن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس أن رسول الله صلى الظهر بالصهباء من أرض خيبر، ثم أرسل عليا في حاجة، فجاء وقد صلى رسول الله العصر، فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غابت غربت الشمس.

فقال رسول الله : « اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيه فرد عليه شرقها ».

قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى رفعت على الجبال، فقام علي فتوضأ، وصلى العصر، ثم غابت الشمس.

وهذا الإسناد فيه من يجهل حاله، فإن عونا هذا وأمه لا يعرف أمرهما بعدالة وضبط يقبل بسببهما خبرهما، فيما دون هذا المقام، فكيف يثبت بخبرهما هذا الأمر العظيم الذي لم يروه أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن ولا المسانيد المشهورة، فالله أعلم، ولا ندري أسمعت أم هذا من جدتها أسماء بنت عميس أو لا.

ثم أورده هذا النص من طريق الحسين بن الحسن الأشقر، وهو شيعي جلد وضعفه غير واحد عن الفضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين الشهيد، عن أسماء بنت عميس، فذكر الحديث.

قال: وقد رواه عن فضيل بن مرزوق جماعة منهم: عبيد الله بن موسى، ثم أورده من طريق أبي جعفر الطحاوي من طريق عبد الله، وقد قدمنا روايتنا له من حديث سعيد بن مسعود، وأبي أمية الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى العبسي وهو من الشيعة، ثم أورده هذا النص من طريق أبي جعفر العقيلي عن أحمد بن داود، عن عمار بن مطر، عن فضيل بن مرزوق والأغر الرقاشي.

ويقال: الرواسي أبو عبد الرحمن الكوفي مولى بني عنزة.

وثقه الثوري وابن عيينة.

وقال أحمد: لا أعلم إلا خيرا.

وقال ابن معين: ثقة.

وقال مرة: صالح، ولكنه شديد التشيع.

وقال مرة: لا بأس به.

وقال أبو حاتم: صدوق، صالح الحديث، يهم كثيرا، يكتب حديثه، ولا يحتج به.

وقال عثمان بن سعيد الدارمي: يقال: إنه ضعيف.

وقال النسائي: ضعيف.

وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به.

وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات، وقد روى له مسلم وأهل السنن الأربعة.

فمن هذه ترجمته لا يتهم بتعمد الكذب، ولكنه قد يتساهل، ولا سيما فيما يوافق مذهبه فيروي عمن لا يعرفه، أو يحسن به الظن فيدلس حديثه ويسقطه، ويذكر شيخه، ولهذا قال في هذا الحديث الذي يجب الاحتراز فيه، وتوقي الكذب فيه: عن بصيغة التدليس، ولم يأت بصيغة التحديث، فلعل بينهما من يجهل أمره على أن شيخه هذا - إبراهيم بن الحسن بن علي ابن أبي طالب - ليس بذلك المشهور في حاله، ولم يرو له أحد من أصحاب الكتب المعتمدة، ولا روى عنه غير الفضيل بن مرزوق هذا، ويحيى بن المتوكل، قاله أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، ولم يتعرضا لجرح ولا تعديل.

وأما فاطمة بنت الحسين ابن علي ابن أبي طالب - وهي أخت زين العابدين - فحديثها مشهور، روى لها أهل السنن الأربعة، وكانت فيمن قدم بها مع أهل البيت بعد مقتل أبيها إلى دمشق، وهي من الثقات، ولكن لا يدري أسمعت هذا الحديث من أسماء أم لا، فالله أعلم.

ثم رواه هذا المصنف من حديث أبي حفص الكناني: ثنا محمد بن عمر القاضي هو الجعابي، حدثني محمد بن القاسم بن جعفر العسكري من أصل كتابه، ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم، ثنا خلف بن سالم، ثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان الثوري عن أشعث أبي الشعثاء، عن أمه، عن فاطمة - يعني: بنت الحسين -، عن أسماء أن رسول الله دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس.

وهذا إسناد غريب جدا، وحديث عبد الرزاق وشيخه الثوري محفوظ عند الأئمة لا يكاد يترك منه شيء من المهمات، فكيف لم يرو عن عبد الرزاق مثل هذا الحديث العظيم، إلا خلف بن سالم بما قبله من الرجال الذين لا يعرف حالهم في الضبط والعدالة كغيرهم، ثم إن أم أشعث مجهولة، فالله أعلم.

ثم ساقه هذا النص من طريق محمد بن مرزوق، ثنا حسين الأشقر - وهو شيعي وضعيف كما تقدم - عن علي بن هاشم بن الثريد - وقد قال فيه ابن حبان: كان غاليا في التشيع يروي المناكير عن المشاهير - عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن علي بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس فذكره، وهذا إسناد لا يثبت.

ثم أسنده من طريق عبد الرحمن بن شريك عن أبيه، عن عروة بن عبد الله، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس فذكر الحديث كما قدمنا إيراده من طريق ابن عقدة عن أحمد بن يحيى الصوفي، عن عبد الرحمن بن شريك، عن عبد الله النخعي.

وقد روى عنه البخاري في كتاب الأدب وحدث عنه جماعة من الأئمة.

وقال فيه أبو حاتم الرازي: كان واهي الحديث.

وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: ربما أخطأ، وأرخ ابن عقدة وفاته سنة سبع وعشرين ومائتين.

وقد قدمنا أن الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي قال: إنما أتهم بوضعه أبا العباس ابن عقدة، ثم أورد كلام الأئمة فيه بالطعن والجرح، وأنه كان يسوي النسخ للمشايخ فيرويهم إياها، والله أعلم.

قلت: في سياق هذا الإسناد عن أسماء أن الشمس رجعت حتى بلغت نصف المسجد، وهذا يناقض ما تقدم من أن ذلك كان بالصهباء من أرض خيبر، ومثل هذا يوجب توهين الحديث وضعفه والقدح فيه، ثم سرده من حديث محمد بن عمر القاضي الجعابي، ثنا علي بن العباس بن الوليد، ثنا عبادة بن يعقوب الرواجي، ثنا علي بن هاشم عن صباح، عن عبد الله بن الحسن - أبي جعفر -، عن حسين المقتول، عن فاطمة، عن أسماء بنت عميس قالت: لما كان يوم شغل علي لمكانه من قسم المغنم حتى غربت الشمس، أو كادت.

فقال رسول الله : « أما صليت؟ »

قال: لا، فدعا الله فارتفعت الشمس حتى توسطت السماء، فصلى علي فلما غربت الشمس سمعت لها صريرا كصرير الميشار في الحديد.

وهذا أيضا سياق مخالف لما تقدم من وجوه كثيرة، مع أن إسناده مظلم جدا، فإن صباحا هذا لا يعرف، وكيف يروي الحسين بن علي المقتول شهيدا عن واحد عن واحد، عن أسماء بنت عميس؟ هذا تخبيط إسنادا ومتنا، ففي هذا أن عليا شغل بمجرد قسم الغنيمة، وهذا لم يقله أحد، ولا ذهب إلى جواز ترك الصلاة لذلك ذاهب، وإن كان قد جوز بعض العلماء تأخير الصلاة عن وقتها لعذر القتال كما حكاه البخاري عن مكحول، والأوزاعي، وأنس بن مالك في جماعة من أصحابه، واحتج لهم البخاري بقصة تأخير الصلاة يوم الخندق، وأمره - عليه السلام أن لا يصلي أحد منهم العصر إلا في بني قريظة، وذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا نسخ بصلاة الخوف.

والمقصود: أنه لم يقل أحد من العلماء إنه يجوز تأخير الصلاة بعذر قسم الغنيمة، حتى يسند هذا إلى صنيع علي رضي الله عنه وهو الراوي عن رسول الله أن الوسطى هي العصر، فإن كان هذا ثابتا على ما رواه هؤلاء الجماعة، وكان علي متعمدا لتأخير الصلاة لعذر قسم الغنيمة وأقره عليه الشارع صار هذا وحده دليلا على جواز ذلك، ويكون أقطع في الحجة مما ذكره البخاري، لأن هذا بعد مشروعية صلاة الخوف قطعا، لأنه كان بخيبر سنة سبع، وصلاة الخوف شرعت قبل ذلك، وإن كان علي ناسيا حتى ترك الصلاة إلى الغروب فهو معذور، فلا يحتاج إلى رد الشمس بل وقتها بعد الغروب، والحالة هذه إذن كما ورد به الحديث، والله أعلم.

وهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث، ثم إن جعلناه قضية أخرى وواقعة غير ما تقدم، فقد تعدد رد الشمس غير مرة، ومع هذا لم ينقله أحد من أئمة العلماء، ولا رواه أهل الكتب المشهورة، وتفرد بهذه الفائدة هؤلاء الرواة الذين لا يخلو إسناد منها عن مجهول ومتروك ومتهم، والله أعلم.

ثم أورد هذا النص من طريق أبي العباس بن عقدة، حدثنا يحيى بن زكريا، ثنا يعقوب بن سعيد، ثنا عمرو بن ثابت قال: سألت عبد الله بن حسن بن حسين بن علي ابن أبي طالب عن حديث رد الشمس على علي ابن أبي طالب هل يثبت عندكم؟

فقال لي: ما أنزل الله في كتابه أعظم من رد الشمس.

قلت: صدقت جعلني الله فداك، ولكني أحب أن أسمعه منك.

فقال: حدثني أبي الحسن، عن أسماء بنت عميس أنها قالت: أقبل علي ابن أبي طالب ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله ، فوافق رسول الله قد انصرف، ونزل عليه الوحي فأسنده إلى صدره، فلم يزل مسنده إلى صدره حتى أفاق رسول الله - - فقال: « أصليت العصر يا علي؟ »

قال: جئت والوحي ينزل عليك فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة.

فاستقبل رسول الله القبلة - وقد غربت الشمس - وقال: « اللهم إن عليا كان في طاعتك، فارددها عليه ».

قالت أسماء: فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الرحى حتى كانت في موضعها وقت العصر، فقام علي متمكنا فصلى، فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى، اختلط الظلام وبدت النجوم.

وهذا منكر أيضا إسنادا ومتنا، وهو مناقض لما قبله من السياقات، وعمرو بن ثابت هذا هو المتهم بوضع هذا الحديث أو سرقته من غيره، وهو عمرو بن ثابت بن هرمز البكري، الكوفي مولى بكر بن وائل، ويعرف بعمرو بن المقدام الحداد، روى عن غير واحد من التابعين، وحدث عنه جماعة منهم سعيد بن منصور، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان.

قال: تركه عبد الله بن المبارك وقال: لا تحدثوا عنه فإنه كان يسب السلف، ولما مرت به جنازته توارى عنها.

وكذلك تركه عبد الرحمن بن مهدي.

وقال أبو معين والنسائي: ليس بثقة، ولا مأمون، ولا يكتب حديثه.

وقال مرة أخرى هو، وأبو زرعة، وأبو حاتم: كان ضعيفا.

زاد أبو حاتم: وكان رديء الرأي، شديد التشيع، لا يكتب حديثه.

وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم.

وقال أبو داود: كان من شرار الناس، كان رافضيا - قال هنا: - ولما مات لم أصل عليه، لأنه قال لما مات رسول الله : كفر الناس إلا خمسة، وجعل أبو داود يذمه.

وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات.

وقال ابن عدي: والضعف على حديثه بين، وأرخوا وفاته في سنة سبع وعشرين ومائة.

ولهذا قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: وكان عبد الله بن حسن وأبوه أجل قدرا من أن يحدثا بهذا الحديث.

قال: هذا المصنف المنصف.

وأما حديث أبي هريرة فأخبرنا عقيل بن الحسن العسكري، أنا أبو محمد صالح بن الفتح النسائي، ثنا أحمد بن عمير بن حوصاء، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبيه، ثنا داود بن فراهيج، وعن عمارة بن برد، وعن أبي هريرة فذكره وقال: اختصرته من حديث طويل، وهذا إسناد مظلم، ويحيى ابن يزيد وأبوه وشيخه داود بن فراهيج كلهم مضعفون، وهذا هو الذي أشار ابن الجوزي إلى أن ابن مردويه رواه من طريق داود ابن فراهيج عن أبي هريرة، وضعف داود هذا شعبة والنسائي وغيرهما، والذي يظهر أن هذا مفتعل من بعض الرواة، أو قد دخل على أحدهم وهو لا يشعر، والله أعلم.

قال: وأما حديث أبي سعيد فأخبرنا محمد بن إسماعيل الجرجاني كتابة أن أبا طاهر محمد بن علي الواعظ أخبرهم، أنا محمد بن أحمد بن متيم، أنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، حدثني أبي عن أبيه محمد، عن أبيه عبد الله، عن أبيه عمر قال: قال الحسين بن علي: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: دخلت على رسول الله - - فإذا رأسه في حجر علي، وقد غابت الشمس فانتبه النبي وقال: « يا علي أصليت العصر؟ »

قال: لا يا رسول الله ما صليت، كرهت أن أضع رأسك من حجري وأنت وجع.

فقال رسول الله: « يا علي! ادع يا علي أن ترد عليك الشمس ».

فقال علي: يا رسول الله ادع أنت، وأنا أؤمن.

فقال: « يا رب إن عليا في طاعتك، وطاعة نبيك، فاردد عليه الشمس ».

قال أبو سعيد: فوالله لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتى رجعت بيضاء نقية، وهذا إسناد مظلم أيضا ومتنه منكر، ومخالف لما تقدمه من السياقات، وكل هذا يدل على أنه موضوع مصنوع مفتعل يسرقه هؤلاء الرافضة بعضهم من بعض، ولو كان له أصل من رواية أبي سعيد لتلقاه عنه كبار أصحابه، كما أخرجا في الصحيحين من طريقه حديث قتال الخوارج، وقصة المخدج، وغير ذلك من فضائل علي.

قال: وأما حديث أمير المؤمنين علي: فأخبرنا أبو العباس الفرغاني، أنا أبو الفضل الشيباني، ثنا رجاء بن يحيى الساماني، ثنا هارون بن سعدان بسامرا سنة أربعين ومائتين، ثنا عبد الله بن عمرو بن الأشعث عن داود بن الكميت، عن عمه المستهل بن زيد، عن أبيه زيد بن سلهب، عن جويرية بنت شهر قالت: خرجت مع علي ابن أبي طالب.

فقال: يا جويرية إن رسول الله كان يوحى إليه، ورأسه في حجري، فذكر الحديث.

وهذا الإسناد مظلم، وأكثر رجاله لا يعرفون، والذي يظهر والله أعلم أنه مركب مصنوع مما عملته أيدي الروافض، ولعن من كذب على رسول الله وعجل له ما توعده الشارع من العذاب والنكال حيث قال وهو الصادق في المقال: « من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ».

وكيف يدخل في عقل أحد من أهل العلم أن يكون هذا الحديث يرويه علي ابن أبي طالب وفيه منقبة عظيمة له دلالة معجزة باهرة لرسول الله ثم لا يروى عنه إلا بهذا الإسناد المظلم، المركب على رجال لا يعرفون، وهل لهم وجود في الخارج أم لا، الظاهر والله أعلم لا، ثم هو عن امرأة مجهولة العين والحال، فأين أصحاب علي الثقات، كعبيدة السلماني، وشريح القاضي، وعامر الشعبي، وأضرابهم، ثم في ترك الأئمة كمالك، وأصحاب الكتب الستة، وأصحاب المسانيد، والسنن، والصحاح، والحسان، رواية هذا الحديث وإيداعه في كتبهم أكبر دليل على أنه لا أصل له عندهم، وهو مفتعل مأفوك بعدهم.

وهذا أبو عبد الرحمن النسائي قد جمع كتابا في خصائص علي ابن أبي طالب ولم يذكره، وكذلك لم يروه الحاكم في مستدركه، وكلاهما ينسب إلى شيء من التشيع، ولا رواه من رواه من الناس المعتبرين إلا على سبيل الاستغراب والتعجب، وكيف يقع مثل هذا نهارا جهرة وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، ثم لا يروى إلا من طرق ضعيفة منكرة وأكثرها مركبة موضوعة، وأجود ما فيها ما قدمناه من طريق أحمد بن صالح المصري عن ابن أبي فديك، عن محمد بن موسى الفطري، عن عون بن محمد، عن أمه أم جعفر، عن أسماء على ما فيها من التعليل الذي أشرنا إليه فيما سلف، وقد اغتر بذلك أحمد بن صالح رحمه الله ومال إلى صحته، ورجح ثبوته.

قال الطحاوي في كتابه مشكل الحديث عن علي بن عبد الرحمن، عن أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول: لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء في رد الشمس لأنه من علامات النبوة.

وهكذا مال إليه أبو جعفر الطحاوي أيضا فيما قيل.

ونقل أبو القاسم الحسكاني هذا عن أبي عبد الله البصري المتكلم المعتزلي أنه قال: عود الشمس بعد مغيبها آكد حالا فيما يقتضي نقله، لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين فإنه من أعلام النبوة، وهو مقارن لغيره في فضائله في كثير من أعلام النبوة.

وحاصل هذا الكلام يقتضي أنه كان ينبغي أن ينقل هذا نقلا متواترا، وهذا حق لو كان الحديث صحيحا، ولكنه لم ينقل كذلك، فدل على أنه ليس بصحيح في نفس الأمر، والله أعلم.

قلت: والأئمة في كل عصر ينكرون صحة هذا الحديث ويردونه، ويبالغون في التشنيع على رواته، كما قدمنا عن غير واحد من الحفاظ: كمحمد، ويعلى بن عبيد الطنافسيين، وكإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه، وكالحافظ أبي القاسم بن عساكر، والشيخ أبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، وممن صرح بأنه موضوع شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي، والعلامة أبو العباس ابن تيمية.

وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، ثنا عبد الله بن الحسين بن موسى، ثنا عبد الله بن علي بن المديني قال: سمعت أبي يقول: خمسة أحاديث يروونها ولا أصل لها عن رسول الله : حديث لو صدق السائل ما أفلح من رده، وحديث لا وجع إلا وجع العين، ولا غم إلا غم الدين، وحديث أن الشمس ردت على علي ابن أبي طالب، وحديث أنا أكرم على الله من أن يدعني تحت الأرض مائتي عام، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم إنهما كانا يغتابان.

والطحاوي رحمه الله وإن كان قد اشتبه عليه أمره، فقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله إنكاره، والتهكم بمن رواه.

قال أبو العباس بن عقدة: ثنا جعفر بن محمد بن عمير، ثنا سليمان بن عباد سمعت بشار بن دراع قال: لقي أبو حنيفة محمد بن النعمان فقال: عمن رويت حديث رد الشمس؟

فقال: عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل.

فهذا أبو حنيفة رحمه الله وهو من الأئمة المعتبرين، وهو كوفي لا يتهم على حب علي ابن أبي طالب، وتفضيله بما فضله الله به ورسوله، وهو مع هذا منكر على راويه، وقول محمد بن النعمان له ليس بجواب بل مجرد معارضة بما لا يجدي، أي: أنا رويت في فضل علي هذا الحديث، وهو وإن كان مستغربا فهو في الغرابة نظير ما رويته أنت في فضل عمر بن الخطاب في قوله: يا سارية الجبل، وهذا ليس بصحيح، من محمد ابن النعمان فإن هذا ليس كهذا، إسنادا ولا متنا، وأين مكاشفة إمام قد شهد الشارع له بأنه محدث بأمر خبر من رد الشمس طالعة بعد مغيبها الذي هو أكثر علامات الساعة؟ والذي وقع ليوشع بن نون ليس ردا للشمس عليه، بل حبست ساعة قبل غروبها بمعنى تباطأت في سيرها حتى أمكنهم الفتح، والله تعالى أعلم.

وتقدم ما أورده هذا النص من طرق هذا الحديث عن علي، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأسماء بنت عميس، وقد وقع في كتاب أبي بشر الدولابي في الذرية الطاهرة من حديث الحسين بن علي، والظاهر أنه عنه عن أبي سعيد الخدري كما تقدم، والله أعلم.

وقد قال شيخ الرافضة جمال الدين يوسف بن الحسن الملقب بابن المطهر الحلي في كتابه في الإمامة الذي رد عليه فيه شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية.

قال ابن المطهر: التاسع من رجوع الشمس مرتين: إحداهما في زمن النبي ، والثانية بعده.

أما الأولى: فروى جابر، وأبو سعيد أن رسول الله نزل عليه جبريل يوما يناجيه من عنده الله، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المؤمنين، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، فصلى علي العصر بالإيماء، فلما استيقظ رسول الله قال له: سل الله أن يرد عليك الشمس فتصلي قائما، فدعا فردت الشمس، فصلى العصر قائما.

وأما الثانية: فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل، اشتغل كثير من الصحابة بدوابهم، وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفات كثير منهم فتكلموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت.

قال: وقد نظمه الحميري فقال:

ردت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب

حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هوي الكوكب

وعليه قد ردت ببابل مرة * أخرى وما ردت لخلق مقرب

قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: فضل علي وولايته وعلو منزلته عند الله معلوم، ولله الحمد بطرق ثابتة، أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى ما لا يعلم صدقه، أو يعلم أنه كذب، وحديث رد الشمس قد ذكره طائفة كأبي جعفر الطحاوي، والقاضي عياض وغيرهما، وعدوا ذلك من معجزات رسول الله ، لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع.

ثم أورد طرقه واحدة واحدة كما قدمنا، وناقش أبا القاسم الحسكاني فيما تقدم، وقد أوردنا كل ذلك وزدنا عليه ونقصنا منه، والله الموفق، واعتذر عن أحمد بن صالح المصري في تصحيحه هذا الحديث بأنه اغتر بسنده، وعن الطحاوي بأنه لم يكن عنده نقل جيد للأسانيد كجهابذة الحفاظ وقال في عيون كلامه: والذي يقطع به أنه كذب مفتعل.

قلت: وإيراد ابن المطهر لهذا الحديث من طريق جابر غريب، ولكن لم يسنده، وفي سياقه ما يقتضي أن عليا هو الذي دعا برد الشمس في الأولى، والثانية، وأما إيراده لقصة بابل فليس لها إسناد، وأظنه والله أعلم من وضع الشيعة ونحوهم، فإن رسول الله وأصحابه يوم الخندق قد غربت عليهم الشمس ولم يكونوا صلوا العصر، بل قاموا إلى بطحان وهو واد هناك فتوضئوا، وصلوا العصر بعد ما غربت الشمس، وكان علي أيضا فيهم ولم ترد لهم، وكذلك كثير من الصحابة الذين ساروا إلى بني قريظة فاتتهم العصر يومئذ حتى غربت الشمس ولم ترد لهم، وكذلك لما نام رسول الله وأصحابه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس صلوها بعد ارتفاع النهار ولم يرد لهم الليل، فما كان الله عز وجل ليعطي عليا وأصحابه شيئا من الفضائل لم يعطها رسول الله وأصحابه.

وأما نظم الحميري فليس فيه حجة، بل هو كهذيان ابن المطهر، هذا لا يعلم ما يقول من النثر، وهذا لا يدري صحة ما ينظم، بل كلاهما كما قال الشاعر:

إن كنت أدري فعلى بدنه * من كثرة التخليط أني من أنه

والمشهور عن علي في أرض بابل ما رواه أبو داود رحمه الله في سننه عن علي أنه مر بأرض بابل وقد حانت صلاة العصر، فلم يصل حتى جاوزها وقال: نهاني خليلي أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة.

وقد قال أبو محمد بن حزم في كتابه الملل والنحل - مبطلا لرد الشمس على علي، بعد كلام ذكره رادا على من ادعى باطلا من الأمر - فقال: ولا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل، وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي ابن أبي طالب مرتين، حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال:

فردت علينا الشمس والليل راغم * بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى * لبهجتها نور السماء المرجع

فوالله ما أدري علي بدا لنا فردت * له أم كان في القوم يوشع

هكذا أورده ابن حزم في كتابه، وهذا الشعر تظهر عليه الركة والتركيب، وأنه مصنوع، والله أعلم.

ومما يتعلق بالآيات السماوية في باب دلائل النبوة استسقاؤه - عليه السلام ربه - عز وجل - لأمته حين تأخر المطر، فأجابه إلى سؤاله سريعا بحيث لم ينزل عن منبره إلا والمطر يتحادر على لحيته -عليه السلام -، وكذلك استصحاؤه.

قال البخاري: ثنا عمرو بن علي، ثنا أبو قتيبة، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال البخاري: وقال أبو عقيل الثقفي عن عمرو بن حمزة، ثنا سالم عن أبيه: ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه رسول الله يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وهو قول أبي طالب تفرد به البخاري، وهذا الذي علقه قد أسنده ابن ماجه في سننه فرواه عن أحمد بن الأزهر، عن أبي النضر، عن أبي عقيل، عن عمر بن حمزة، عن سالم، عن أبيه.

وقال البخاري: ثنا محمد - هو ابن سلام - ثنا أبو ضمرة، ثنا شريك بن عبد الله ابن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يذكر أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله قائم يخطب، فاستقبل رسول الله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله لنا يغيثنا.

قال: فرفع رسول الله يديه فقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».

قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار.

قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت.

قال: والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله قائم يخطب، فاستقبله قائما وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، ادع الله يمسكها.

قال: فرفع رسول الله يديه ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال، والظراب، ومنابت الشجر ».

قال: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس.

قال شريك: فسألت أنسا أهو الرجل الذي سأل أولا؟

قال: لا أدري.

وهكذا رواه البخاري أيضا، ومسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن شريك به.

وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا أبو عوانة عن قتادة، عن أنس قال: بينما رسول الله يخطب يوم جمعة إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله قحط المطر، فادع الله أن يسقينا، فدعا، فمطرنا فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة.

قال: فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله ادع الله أن يصرفه عنا.

فقال رسول الله : « اللهم حوالينا ولا علينا ».

قال: فلقد رأيت السحاب ينقطع يمينا، وشمالا، يمطرون ولا يمطر أهل المدينة.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله ، فقال: هلكت المواشي، وتقطعت السبل فادع الله، فدعا فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة.

ثم جاء فقال: تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فادع الله أن يمسكها.

فقال: « اللهم على الآكام والظراب، والأودية ومنابت الشجر »

فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.

وقال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، ثنا عبد الله، ثنا الأوزاعي، ثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة الأنصاري، حدثني أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله فبينا رسول الله يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا.

قال: فرفع رسول الله يديه، وما في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته.

قال: فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره - فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا.

فرفع رسول الله يديه فقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».

قال: فما جعل رسول الله يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوية، وسال الوادي - قناة - شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.

ورواه البخاري: أيضا في الجمعة، ومسلم من حديث الوليد عن الأوزاعي.

وقال البخاري: وقال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال قال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس بن مالك قال: أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله يوم الجمعة فقال: يا رسول الله هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس.

فرفع رسول الله يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله يدعون.

قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى.

فأتى الرجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله بشق المسافر، ومنع الطريق.

قال البخاري: وقال الأويسي - يعني: عبد الله -: حدثني محمد بن جعفر - هو ابن كثير - عن يحيى بن سعيد وشريك سمعا أنسا عن النبي رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.

هكذا علق هذين الحديثين، ولم يسندهما أحد من أصحاب الكتب الستة بالكلية.

وقال البخاري: ثنا محمد ابن أبي بكر قال: حدثنا معتمر عن عبيد الله، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان النبي يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا: يا رسول الله قحط المطر، واحمرت الشجر، وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا.

فقال: « اللهم اسقنا » مرتين، وأيم الله ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة وأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها.

فلما قام النبي يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله يحبسها عنا.

قال: فتبسم رسول الله ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا » فتكشطت المدينة فجعلت تمطر حولها، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وأنها لفي مثل الإكليل.

وقد رواه مسلم من حديث معتمر بن سليمان عن عبيد الله - وهو ابن عمر العمري - به وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد قال: سئل أنس هل كان رسول الله يرفع يديه؟

فقال: قيل له يوم الجمعة: يا رسول الله قحط المطر، وأجدبت الأرض، وهلك المال.

قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه فاستسقى، ولقد رفع يديه فاستسقى، ولقد رفع يديه وما نرى في السماء سحابة، فما قضينا الصلاة حتى أن الشاب قريب الدار ليهمه الرجوع إلى أهله.

قال: فلما كانت الجمعة التي تليها قالوا: يا رسول الله تهدمت البيوت، واحتبست الركبان.

فتبسم رسول الله - - من سرعة ملالة ابن آدم وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».

قال: فتكشطت عن المدينة، وهذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجوه.

وقال البخاري، وأبو داود واللفظ له: ثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، وعن يونس بن عبيد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله ، فبينا هو يخطب يوم جمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلكت الكراع، هلكت الشاء، فادع الله يسقينا.

فمد يده ودعا قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت الريح أنشأت سحابا ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عزاليها، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل - أو غيره - فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت، فادع الله يحبسه، فتبسم رسول الله ثم قال: « حوالينا ولا علينا » فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة، كأنه إكليل.

فهذه طرق متواترة، عن أنس بن مالك، لأنها تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن.

وقال البيهقي بإسناده من غير وجه إلى أبي معمر سعيد ابن أبي خيثم الهلالي عن مسلم الملائي، عن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله والله لقد أتيناك وما لنا بعير يبسط ولا صبي يصطبح، وأنشد:

أتيناك والعذراء يدمي لبانها * وقد شغلت أم الصبي عن الطفل

وألقى بكفيه الفتى لاستكانة * من الجوع ضعفا قائما وهو لا يخلي

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلا إليك فرارنا * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

قال: فقام رسول الله وهو يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم رفع يديه نحو السماء وقال: « اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا سريعا، غدقا طبقا، عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون ».

قال: فوالله ما رد يده إلى نحره حتى ألقت السماء بأوراقها، وجاء أهل البطانة يصيحون: يا رسول الله الغرق الغرق، فرفع يديه إلى السماء وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».

فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال: « لله در أبي طالب لو كان حيا قرت عيناه، من ينشد قوله؟ »

فقام علي ابن أبي طالب فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله:

وأبيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله يبزى محمد * ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل

قال: وقام رجل من بني كنانة فقال:

لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر

دعا الله خالقه دعوة * إليه وأشخص منه البصر

فلم يك إلا كلف الرداء * وأسرع حتى رأينا الدرر

رقاق العوالي عم البقاع * أغاث به الله عينا مضر

وكان كما قاله عمه * أبو طالب أبيض ذو غرر

به الله يسقي بصوب الغمام * وهذا العيان كذاك الخبر

فمن يشكر الله يلقى المزيد * ومن يكفر الله يلقى الغير

قال: فقال رسول الله : « إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت ».

وهذا السياق فيه غرابة، ولا يشبه ما قدمنا من الروايات الصحيحة المتواترة عن أنس فإن كان هذا هكذا محفوظا فهو قصة أخرى غير ما تقدم، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو بكر ابن الحارث الأصبهاني، ثنا أبو محمد ابن حبان، ثنا عبد الله بن مصعب، ثنا عبد الجبار، ثنا مروان بن معاوية، ثنا محمد ابن أبي ذئب المدني عن عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب الجمحي، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السلمي قال: لما قفل رسول الله من غزوة تبوك، أتاه وفد بني فزارة فيهم بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن الحصين، والحر بن قيس - وهو أصغرهم - ابن أخي عيينة بن حصن، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل ضعاف عجاف وهم مسنتون، فأتوا رسول الله مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله عن بلادهم.

قالوا: يا رسول الله أسنتت بلادنا وأجدبت أحياؤنا، وعريت عيالنا، وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك.

فقال رسول الله : « سبحان الله، ويلك هذا ما شفعت إلى ربي فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا الله وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرجل الجديد ».

قال رسول الله « إن الله يضحك من شفقتكم وأزلكم وقرب غياثكم ».

فقال الأعرابي: ويضحك ربنا يا رسول الله؟

قال: نعم!

فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرا.

فضحك رسول الله من قوله، فقام رسول الله فصعد المنبر، وتكلم بكلام ورفع يديه - وكان رسول الله لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء - ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: « اللهم اسق بلدك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا مريعا، طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، ولا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء ».

فقام أبو لبابة ابن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد.

فقال رسول الله : « اللهم اسقنا ».

فقال أبو لبابة: التمر في المرابد ثلاث مرات.

فقال رسول الله : « اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا فيسد ثعلب مربده بإزاره ».

قال: فلا والله ما في السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت وهم ينظرون ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس ستا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.

فقال رجل: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل.

فصعد النبي المنبر فدعا ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر ».

فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب، وهذا السياق يشبه سياق مسلم الملائي عن أنس.

ولبعضه شاهد في سنن أبي داود، وفي حديث أبي رزين العقيلي شاهد لبعضه، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن علي بن المؤمل، أنا أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ، أنا عبد الرحمن ابن أبي حاتم، ثنا محمد بن حماد الظهراني، أنا سهل بن عبد الرحمن المعروف بالسدي بن عبدويه عن عبد الله بن عبد الله ابن أبي أويس المدني، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي لبابة، عن عبد المنذر الأنصاري قال: استسقى رسول الله يوم الجمعة وقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».

فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد وما في السماء من سحاب نراه.

فقال رسول الله : « اللهم اسقنا ».

فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد.

فقال رسول الله : « اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة يسد ثعلب مربدة بإزاره ».

فاستهلت السماء أمطرت، وصلى بنا رسول الله فأتى القوم أبا لبابة يقولون له: يا أبا لبابة إن السماء والله لن تقلع حتى تقوم عريانا فتسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله .

قال: فقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره فأقلعت السماء.

وهذا إسناد حسن، ولم يروه أحمد، ولا أهل الكتب، والله أعلم.

وقد وقع مثل هذا الاستسقاء في غزوة تبوك في أثناء الطريق، كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة.

فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يجده حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده.

فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا.

فقال: « أوتحب ذلك؟ ».

قال: نعم!

قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

وهذا إسناد جيد قوي، ولم يخرجوه.

وقد قال الواقدي: كان مع المسلمين في هذه الغزوة إثنا عشر ألف بعير، ومثلها من الخيل، وكانوا ثلاثين ألفا من المقاتلة قال: ونزل من المطر ماء أغدق الأرض حتى صارت الغدران تسكب بعضها في بعض، وذلك في حمأة القيظ - أي شدة الحر البليغ - فصلوات الله وسلامه عليه، وكم له عليه السلام من مثل هذا في غير ما حديث صحيح ولله الحمد، وقد تقدم أنه لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعا كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز، ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم.

وقد قال البخاري: ثنا الحسن بن محمد، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.

قال: فيسقون.

تفرد به البخاري.

فصل في المعجزات الأرضية

[عدل]

فمنها ما هو متعلق بالجمادات، ومنها ما هو متعلق بالحيوانات.

فمن المتعلق بالجمادات: تكثيره الماء في غير ما موطن على صفات متنوعة سنوردها بأسانيدها إن شاء الله، وبدأنا بذلك لأنه أنسب باتباع ما أسلفنا ذكره من استسقائه، وإجابة الله له.

قال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول الله بوضوء، فوضع رسول الله يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم.

وقد رواه مسلم والترمذي، والنسائي من طرق عن مالك به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، ثنا حزم سمعت الحسن يقول: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله خرج ذات يوم لبعض مخارجه معه ناس من أصحابه فانطلقوا يسيرون فحضرت الصلاة فلم يجد القوم ما يتوضؤون به.

فقالوا: يا رسول الله ما نجد ما نتوضأ به، ورأى في وجوه أصحابه كراهية ذلك، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير، فأخذ نبي الله فتوضأ منه، ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: « هلموا فتوضؤوا » فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء.

قال الحسن: سئل أنس كم بلغوا؟

قال: سبعين، أو ثمانين.

وهكذا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن المبارك العنسي، عن حزم بن مهران القطيعي به.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد ويزيد قال: أنا حميد المعني عن أنس بن مالك قال: نودي بالصلاة فقام كل قريب الدار من المسجد، وبقي من كان أهله نائي الدار، فأتى رسول الله بمخضب من حجارة فصغر أن يبسط كفه فيه قال: فضم أصابعه.

قال: فتوضأ بقيتهم.

قال حميد: وسئل أنس كم كانوا؟

قال: ثمانين أو زيادة.

وقد روى البخاري عن عبد الله بن منير، عن يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس بن مالك قال: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار من المسجد يتوضأ وبقي قوم، فأتى رسول الله بمخضب فيه ماء، فوضع كفه فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فضم أصابعه فوضعها في المخضب فتوضأ القوم كلهم جميعا.

قلت: كم كانوا؟

قال: كانوا ثمانين رجلا.

طريق أخرى عنه:

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد إملاء عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله كان بالزوراء فأتى بإناء فيه ماء لا يغمر أصابعه، فأمر أصحابه أن يتوضؤوا فوضع كفه في الماء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم.

قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟

قال: كنا ثلاثمائة.

وهكذا رواه البخاري عن بندار بن أبي عدي، ومسلم عن أبي موسى، عن غندر، كلاهما عن سعيد ابن أبي عروبة، وبعضهم يقول عن شعبة، والصحيح سعيد عن قتادة، عن أنس قال: أتي رسول الله بإناء وهو في الزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم.

قال قتادة: فقلت لأنس: كم كنتم؟

قال: ثلاثمائة، أو زهاء ثلاثمائة.

لفظ البخاري.

حديث البراء بن عازب في ذلك:

قال البخاري: ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس رسول الله على شفير البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر، فمكثنا غير بعيد، ثم استقينا حتى روينا وروت أو صدرت ركابنا.

تفرد به البخاري إسنادا ومتنا.

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان وهاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا يونس - هو ابن عبيدة مولى محمد بن القاسم - عن البراء قال: كنا مع رسول الله في سفر، فأتينا على ركى ذمة - يعني: قليلة الماء - قال: فنزل فيها ستة أناس أنا سادسهم ماحة فأدليت إلينا دلو.

قال: ورسول الله على شفتي الركي، فجعلنا فيها نصفها، أو قراب ثلثيها، فرفعت إلى رسول الله .

قال البراء: فكدت بإنائي هل أجد شيئا أجعله في حلقي؟ فما وجدت فرفعت الدلو إلى رسول الله - -، فغمس يده فيها فقال ما شاء الله أن يقول، وأعيدت إلينا الدلو بما فيها.

قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق.

قال: ثم ساحت - يعني: جرت نهرا -.

تفرد به الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي، والظاهر قصة أخرى غير يوم الحديبية، والله أعلم.

حديث آخر عن جابر في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا سنان بن حاتم، ثنا جعفر - يعني: ابن سليمان -، ثنا الجعد أبو عثمان، ثنا أنس بن مالك عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: اشتكى أصحاب رسول الله -، - إليه العطش.

قال: فدعا بعس فصب فيه شيء من الماء، ووضع رسول الله يده فيه وقال: « استقوا ».

فاستقى الناس قال: فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابع رسول الله .

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وفي أفراد مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن جابر بن عبد الله في حديث طويل قال فيه: سرنا مع رسول الله حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول الله يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله فلم ير شيئا يستتر به، وإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: « انقادي علي بإذن الله ».

فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: « انقادي علي بإذن الله »

فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنتصف مما بينهما لأم بينهما - يعني جمعهما - فقال: « التئما علي بإذن الله » فالتأمتا.

قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله بقربي فيبتعد، فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله وإذا بالشجرتين قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله وقف وقفة فقال برأسه هكذا يمينا وشمالا، ثم أقبل فلما انتهى إلي قال: « يا جابر هل رأيت مقامي؟ »

قلت: نعم يا رسول الله.

قال: « فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا، فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك، وغصنا عن شمالك ».

قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحددته فاندلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت حتى قمت مقام رسول الله أرسلت غصنا عن يميني، وغصنا عن يساري، ثم لحقت فقلت: قد فعلت يا رسول الله.

قال: فقلت: فلم ذاك؟

قال: « إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام الغصنان رطبين ».

قال: فأتينا العسكر فقال رسول الله « يا جابر ناد الوضوء ».

فقلت: ألا وضوء، ألا وضوء، ألا وضوء ».

قال: قلت: يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله في أشجاب له على حمارة من جريد.

قال: فقال لي: « انطلق إلى فلان الأنصاري فانظر هل ترى في أشجابه من شيء؟ »

قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغته لشربه يابسه.

قال: « إذهب فأتني » فأتيته فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو وغمزني بيده، ثم أعطانيه فقال: « يا جابر ناد بجفنة ».

فقلت: يا جفنة الركب، فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه.

فقال رسول الله بيده في الجفنة هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة وقال: « خذ يا جابر فصب علي وقل: بسم الله »

فصببت عليه وقلت: بسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله - ، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت.

فقال يا جابر: « ناد من كانت له حاجة بماء ».

قال: فأتى الناس فاستقوا حتى رووا.

فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟

فرفع رسول الله يده من الجفنة وهي ملأى.

قال: وشكى الناس إلى رسول الله الجوع.

فقال: « عسى الله أن يطعمكم ».

فأتينا سيف البحر فزجر زجرة فألقى دابة، فأورينا على شقها النار فطبخنا واشتوينا، وأكلنا وشبعنا.

قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان وفلان حتى عد خمسة في محاجر عينها ما يرانا أحد حتى خرجنا، وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوسناه، ثم دعونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم حمل في الركب، وأعظم كفل في الركب، فدخل تحتها ما يطأطئ رأسه.

وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن مسلم، ثنا حصين عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي بين يديه ركوة بيضاء، فجهش الناس نحوه.

قال: « مالكم »؟

قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ، ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا.

قلت: كم كنتم؟

قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.

وهكذا رواه مسلم من حديث حصين، وأخرجاه من حديث الأعمش، زاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن جابر بن سالم، عن جابر.

وفي رواية الأعمش: كنا أربع عشرة مائة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حماد، ثنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس، عن شقيق العبدي أن جابر بن عبد الله قال: غزونا أو سافرنا مع رسول الله ونحن يومئذ بضع عشر ومائتان، فحضرت الصلاة فقال رسول الله : « هل في القوم من ماء؟ »

فجاءه رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء.

قال: فصبه رسول الله في قدح.

قال: فتوضأ رسول الله فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، فركب الناس القدح تمسحوا وتمسحوا.

فقال رسول الله : « على رسلكم » حين سمعهم يقولون ذلك.

قال: فوضع رسول الله كفه في الماء، ثم قال رسول الله : « بسم الله » ثم قال: « أسبغوا الوضوء ».

قال جابر: فوالذي هو ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابع رسول الله ، فما رفعها حتى توضؤوا أجمعون.

وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد، وظاهره كأنه قصة أخرى غير ما تقدم.

وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله ونحن أربع عشرة مائة، أو أكثر من ذلك، وعليها خمسون رأسا لا يرويها، فقعد رسول الله على شفا الركية فإما دعا وإما بصق فيها.

قال: فجاشت فسقينا واستقينا.

وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة، عن المسور ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل: فعدل عنهم رسول الله حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.

وقد تقدم الحديث بتمامه في صلح الحديبية، فأغنى عن إعادته.

وروى ابن إسحاق عن بعضهم أن الذي نزل بالسهم ناجية بن جندب سائق البدن قال: وقيل: البراء بن عازب، ثم رجح ابن إسحاق الأول.

حديث آخر عن ابن عباس في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا حسين الأشقر، ثنا أبو كدينة عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن عباس أصبح رسول الله ذات يوم وليس في العسكر ماء، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ليس في العسكر ماء قال: « هل عندك شيء؟ »

قال: نعم.

قال: « فأتني ».

قال: فأتاه بإناء فيه شيء من ماء قليل.

قال: فجعل رسول الله أصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه.

قال: فانفجرت من بين أصابعه عيون، وأمر بلالا فقال: « ناد في الناس الوضوء المبارك ».

تفرد به أحمد.

ورواه الطبراني من حديث عامر الشعبي عن ابن عباس بنحوه.

حديث عن عبد الله بن مسعود في ذلك

قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا إسرائيل عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله في سفر فقل الماء.

فقال: « اطلبوا فضلة من ماء ».

فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: « حي على الطهور المبارك، والبركة من الله عز وجل ».

قال: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.

ورواه الترمذي عن بندار، عن ابن أحمد وقال: حسن صحيح.

حديث عن عمران بن حصين في ذلك:

قال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا مسلم بن زيد سمعت أبا رجاء قال: حدثنا عمران بن حصين أنهم كانوا مع رسول الله في مسير فأدلجوا ليلتهم، حتى إذا كان وجه الصبح عرسوا فغلبتهم أعينهم حتى ارتفعت الشمس، فكان أول من استيقظ من منامه أبو بكر، وكان لا يوقظ رسول الله من منامه حتى يستيقظ، فاستيقظ عمر، فقعد أبو بكر عند رأسه فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ النبي فنزل وصلى بنا الغداة، فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا، فلما انصرف قال: « يا فلان ما يمنعك أن تصلي معنا؟ ».

قال: أصابتني جنابة، فأمره أن يتيمم بالصعيد ثم صلى، وجعلني رسول الله في ركوب بين يديه، وقد عطشنا عطشا شديدا، فبينما نحن نسير مع رسول الله إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين.

فقلنا لها: أين الماء؟

قالت: إنه لا ماء.

فقلنا: كم بين أهلك وبين الماء؟

قالت: يوم وليلة.

فقلنا: انطلقي إلى رسول الله .

قالت: وما رسول الله؟

فلم نملكها من أمرها حتى استقبلنا بها النبي - - فحدثته بمثل الذي حدثتنا غير أنها حدثته أنها موتمة، فأمر بمزادتها فمسح في العزلاوين فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا، وملأنا كل قربة معنا وإداوة غير أنه لم نسق بعيرا، وهي تكاد تفضي من الملء.

ثم قال: « هاتوا ما عندكم » فجمع لها من الكسر والتمر حتى أتت أهلها.

قالت: أتيت أسحر الناس أو هو نبي كما زعموا.

فهدى الله ذاك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا.

وكذلك رواه مسلم من حديث سلم بن رزين، وأخرجاه من حديث عوف الأعرابي، كلاهما عن رجاء العطاردي - واسمه عمران بن تيم - عن عمران بن حصين به.

وفي رواية لهما قال لها: « اذهبي بهذا معك لعيالك، واعلمي أنا لم نرزأك من مائك شيئا غير أن الله سقانا ».

وفيه أنه لما فتح العزلاوين سمى الله - عز وجل -.

حديث عن أبي قتادة في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، ثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول الله في سفر فقال: « إنكم إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا ».

وانطلق سرعان الناس يريدون الماء، ولزمت رسول الله ، فمالت برسول الله راحلته فنعس رسول الله فدعمته فادعم، ثم مال فدعمته فادعم، ثم مال حتى كاد أن ينجفل عن راحلته فدعمته فانتبه فقال: « من الرجل؟ »

فقلت: أبو قتادة.

قال: « منذ كم كان مسيرك؟ »

قلت: منذ الليلة.

قال: « حفظك الله كما حفظت رسوله ».

ثم قال: « لو عرسنا » فمال إلى شجرة فنزل فقال: « أنظر هل ترى أحدا؟ ».

قلت: هذا راكب، هذان راكبان، حتى بلغ سبعة.

فقال: « احفظوا علينا صلاتنا ».

فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فانتبهنا، فركب رسول الله فسار وسرنا هنيهة، ثم نزل فقال: « أمعكم ماء؟ »

قال: قلت: نعم معي ميضأة فيها شيء من ماء.

قال: « إئت بها ».

قال: فأتيته بها.

فقال: « مسوا منها، مسوا منها ».

فتوضأ القوم وبقيت جرعة فقال: « ازدهر بها يا أبا قتادة فإنه سيكون لها نبأ ».

ثم أذن بلال وصلوا الركعتين قبل الفجر، ثم صلوا الفجر، ثم ركب وركبنا فقال: بعضهم لبعض فرطنا في صلاتنا.

فقال رسول الله : « ما تقولون إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإلي ».

قلنا: يا رسول الله فرطنا في صلاتنا.

فقال: « لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإن كان ذلك فصلوها ومن الغد وقتها ».

ثم قال: « ظنوا بالقوم ».

قالوا: إنك قلت بالأمس: « إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا » فالناس بالماء.

قال: فلما أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم.

فقال بعضهم لبعض: إن رسول الله بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر فقالا: أيها الناس إن رسول الله لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا قالها ثلاثا، فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول الله .

فقالوا: يا رسول الله هلكنا عطشا، تقطعت الأعناق.

فقال: « لا هلك عليكم ».

ثم قال: « يا أبا قتادة إئت بالميضأة »

فأتيته بها فقال: « إحلل لي غمري » - يعني: قدحه - فحللته، فأتيته به فجعل يصب فيه ويسقي الناس، فازدحم الناس عليه.

فقال رسول الله : « يا أيها الناس أحسنوا الملأ، فكلكم سيصدر عن ري »

فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله ، فصب لي فقال: « إشرب يا أبا قتادة ».

قال: قلت: إشرب أنت يا رسول الله.

قال: « إن ساقي القوم آخرهم ».

فشربت وشرب بعدي، وبقي في الميضأة نحو ما كان فيها، وهم يومئذ ثلاثمائة.

قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال: من الرجل؟

قلت: أنا عبد الله بن رباح الأنصاري.

قال: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدث فإني أحد السبعة تلك الليلة.

فلما فرغت قال: ما كنت أحسب أحدا يحفظ هذا الحديث غيري.

قال حماد بن سلمة: وحدثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الموصلي، عن النبي بمثله.

وزاد قال: كان رسول الله إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، وإذا عرس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى، وأقام ساعده.

وقد رواه مسلم عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الحرث بن ربعي الأنصاري بطوله، وأخرج من حديث حماد بن سلمة بسنده الأخير أيضا.

حديث آخر عن أنس يشبه هذا:

روى البيهقي من حديث الحافظ أبي يعلى الموصلي: ثنا شيبان، ثنا سعيد بن سليمان الضبعي، ثنا أنس بن مالك أن رسول الله جهز جيشا إلى المشركين فيهم أبو بكر فقال لهم: « جدوا السير فإن بينكم وبين المشركين ماء، إن يسبق المشركون إلى ذلك الماء شق على الناس وعطشتم عطشا شديدا أنتم ودوابكم ».

قال: وتخلف رسول الله في ثمانية أنا تاسعهم وقال لأصحابه: « هل لكم أن نعرس قليلا، ثم نلحق بالناس ».

قالوا: نعم يا رسول الله، فعرسوا فما أيقظهم إلا حر الشمس، فاستيقظ رسول الله واستيقظ أصحابه فقال لهم: « تقدموا واقضوا حاجاتكم » ففعلوا، ثم رجعوا إلى رسول الله .

فقال لهم: « هل مع أحد منكم ماء؟ »

قال رجل منهم: يا رسول الله معي ميضأة فيها شيء من ماء.

قال: « فجئ بها ».

فجاء بها، فأخذها نبي الله فمسحها بكفيه ودعا بالبركة فيها وقال لأصحابه: « تعالوا فتوضؤوا » فجاءوا وجعل يصب عليهم رسول الله حتى توضؤوا كلهم، فأذن رجل منهم وأقام، فصلى رسول الله لهم وقال لصاحب الميضأة: « ازدهر بميضأتك فسيكون لها شأن ».

وركب رسول الله قبل الناس وقال لأصحابه: « ما ترون الناس فعلوا؟ »

فقالوا: الله ورسوله أعلم.

فقال لهم: « فيهم أبو بكر، وعمر وسيرشد الناس ».

فقدم الناس وقد سبق المشركون إلى ذلك الماء، فشق ذلك على الناس وعطشوا عطشا شديدا ركابهم ودوابهم.

فقال رسول الله : « أين صاحب الميضأة؟ »

قالوا: هو هذا يا رسول الله.

قال: « جئني بميضأتك ».

فجاء بها وفيها شيء من ماء فقال لهم: « تعالوا فاشربوا » فجعل يصب لهم رسول الله ، حتى شرب الناس كلهم، وسقوا دوابهم وركابهم، وملأوا ما كان معهم من إداوة وقربة ومزادة، ثم نهض رسول الله وأصحابه إلى المشركين، فبعث الله ريحا فضرب وجوه المشركين، وأنزل الله نصره وأمكن من ديارهم، فقتلوا مقتلة عظيمة، وأسروا أسارى كثيرة، واستاقوا غنائم كثيرة، ورجع رسول الله والناس وافرين صالحين.

وقد تقدم قريبا عن جابر ما يشبه هذا، وهو في صحيح مسلم.

وقدمنا في غزوة تبوك ما رواه مسلم من طريق مالك عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل، فذكر حديث جمع الصلاة في غزوة تبوك إلى أن قال: وقال: - يعني رسول الله : « إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى ضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي ».

قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء، فسألهما رسول الله : « هل مسستما من مائها شيئا؟ »

قالا: نعم، فسبهما، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله - - وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال رسول الله - -: « يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا ».

وذكرنا في باب الوفود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن الحارث الصدائي في قصة وفادته، فذكر حديثا طويلا فيه.

ثم قلنا: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وقد أسلمنا وكل من حولنا عدو، فادع الله لنا في بئرنا فيسعنا ماؤها، فنجتمع عليه ولا نتفرق، فدعا بسبع حصيات ففركهن بيده ودعا فيهن ثم قال: « اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيتم البئر فألقوا واحدة، واحدة، واذكروا الله عز وجل ».

قال الصدائي: ففعلنا ما قال لنا فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها - يعني: البئر -.

وأصل هذا الحديث في المسند، وسنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه.

وأما الحديث بطوله ففي دلائل النبوة للبيهقي رحمه الله.

وقال البيهقي:

باب ما ظهر في البئر التي كانت بقباء من بركته صلى الله عليه وسلم

[عدل]

أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي، ثنا أبو حامد بن الشرقي، أنا أحمد بن حفص بن عبد الله، نا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك أتاهم بقباء فسأله عن بئر هناك.

قال: فدللته عليها.

فقال: لقد كانت هذه وإن الرجل لينضح على حماره فينزح، فجاء رسول الله وأمر بذنوب فسقي، فإذا أن يكون توضأ منه، وإما أن يكون تفل فيه ثم أمر به فأعيد في البئر.

قال: فما نزحت بعد.

قال: فرأيته بال، ثم جاء فتوضأ ومسح على جنبه ثم صلى.

وقال أبو بكر البزار: ثنا الوليد بن عمرو بن مسكين، ثنا محمد بن عبد الله بن مثنى عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس قال: أتى رسول الله فنزلنا فسقيناه من بئر لنا في دارنا كانت تسمى النزور في الجاهلية، فتفل فيها، فكانت لا تنزح بعد.

ثم قال: لا نعلم هذا يروى إلا من هذا الوجه.

باب تكثيره عليه السلام الأطعمة

[عدل]

تكثيره اللبن في مواطن أيضا:

قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا عمر بن ذر عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله - عز وجل - وما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر عمر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر أبو القاسم فعرف ما في وجهي، وما في نفسي فقال أبا هريرة: قلت له: لبيك يا رسول الله.

فقال: « إلحق » واستأذنت فأذن لي، فوجدت لبنا في قدح قال: « من أين لكم هذا اللبن؟ »

فقالوا: أهداه لنا فلان، أو آل فلان.

قال: « أبا هر ».

قلت: لبيك يا رسول الله.

قال: « انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي ».

قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، إذا جاءت رسول الله هدية، أصاب منها وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها.

قال: وأحزنني ذلك، وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها بقية يومي وليلتي.

وقلت: أنا الرسول، فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم.

وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فانطلقت فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت ثم قال: « أبا هر خذ فأعطهم ».

فأخذت القدح فجعلت أعطيهم، فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد القدح، حتى أتيت على آخرهم، ودفعت إلى رسول الله فأخذ القدح فوضعه في يده، وبقي فيه فضلة، ثم رفع رأسه ونظر إلي وتبسم وقال: « أبا هر ».

فقلت: لبيك رسول الله.

قال: « بقيت أنا وأنت ».

فقلت: صدقت يا رسول الله.

قال: « فاقعد فاشرب ».

قال: فقعدت فشربت.

ثم قال لي: « إشرب » فشربت.

فما زال يقول لي: « إشرب » فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له في مسلكا.

قال: « ناولني القدح » فرددت إليه القدح فشرب من الفضلة.

ورواه البخاري عن أبي نعيم، وعن محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، وأخرجه الترمذي عن عباد بن يونس بن بكير، ثلاثتهم عن عمر بن ذر.

وقال الترمذي: صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبوبكر ابن عياش، حدثني عن زر، عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنما لعقبة ابن أبي معيط فمر بي رسول الله وأبو بكر فقال: « يا غلام هل من لبن؟ »

قال: فقلت: نعم، ولكني مؤتمن.

قال: « فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ »

فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.

قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول.

قال: فمسح رأسي وقال: « يا غلام يرحمك الله، فإنك عليم معلم ».

ورواه البيهقي من حديث أبي عوانة عن عاصم، عن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود وقال فيه: فأتيته بعناق جذعة فاعتقلها، ثم جعل يمسح ضرعها ويدعو، وأتاه أبو بكر بجفنة فحلب فيها وسقى أبا بكر، ثم شرب ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.

فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، فمسح رأسي وقال: « إنك غلام معلم » فأخذت عنه سبعين سورة ما نازعنيها بشر.

وتقدم في الهجرة حديث أم معبد وحلبه عليه السلام شاتها وكانت عجفاء لا لبن لها، فشرب هو وأصحابه، وغادر عندها إناء كبيرا من لبن، حتى جاء زوجها.

وتقدم في ذكر من كان يخدمه من غير مواليه عليه السلام المقداد بن الأسود حين شرب اللبن الذي كان قد جاء لرسول الله ، ثم قام في الليل ليذبح له شاة، فوجد لبنا كثيرا، فحلب ما ملأ منه إناء كبيرا جدا، الحديث.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا زهير عن أبي إسحاق، عن ابنة حباب أنها أتت رسول الله بشاة فاعتقلها وحلبها فقال: « إئتني بأعظم إناء لكم » فأتيناه بجفنة العجين، فحلب فيها حتى ملأها ثم قال: « اشربوا أنتم وجيرانكم ».

وقال البيهقي: أنا أبو الحسين بن بشران ببغداد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا محمد بن الفرج الأزرق، ثنا عصمة بن سليمان الخزار، ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني، عن نافع - وكانت له صحبة - قال: كنا مع رسول الله في سفر وكنا زهاء أربعمائة، فنزلنا في موضع ليس فيه ماء فشق ذلك على أصحابه وقالوا: رسول الله أعلم.

قال: فجاءت شويهة لها قرنان فقامت بين يدي رسول الله - -، فحلبها فشرب حتى روي، وسقى أصحابه حتى رووا ثم قال: « يا نافع املكها الليلة وما أراك تملكها ».

قال: فأخذتها فوتدت لها وتدا، ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا، فجئت رسول الله فأخبرته من قبل أن يسألني وقال: « يا نافع ذهب بها الذي جاء بها ».

قال البيهقي: ورواه محمد بن سعد عن خلف بن الوليد أبي الوليد الأزدي، عن خلف بن خليفة، عن أبان وهذا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا.

ثم قال البيهقي: أنا أبو سعيد الماليني، أنا أبو أحمد بن عدي، أنا ابن العباس بن محمد بن العباس، ثنا أحمد بن سعيد ابن أبي مريم، ثنا أبو حفص الرياحي، ثنا عامر ابن أبي عامر الخزاز عن أبيه، عن الحسن، عن سعد - يعني: مولى أبي بكر - قال: قال رسول الله : « احلب لي العنز ».

قال: وعهدي بذلك الموضع لا عنز فيه.

قال: فأتيت فإذا العنز حافل.

قال: فاحتلبتها واحتفظت بالعنز، وأوصيت بها قال: فاشتغلنا بالرحلة ففقدت العنز.

فقلت: يا رسول الله قد فقدت العنز.

فقال: « إن لها ربا ».

وهذا أيضا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا، وفي إسناده من لا يعرف حاله، وسيأتي حديث الغزالة في قسم ما يتعلق من المعجزات بالحيوانات.

تكثيره عليه السلام السمن لأم سليم

[عدل]

قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا شيبان، ثنا محمد بن زيادة البرجمي عن أبي طلال، عن أنس، عن أمه قال: كانت لها شاة فجمعت من سمنها في عكة فملأت العكة ثم بعثت بها مع ربيبة فقالت: يا ربيبة أبلغي هذه العكة رسول الله يأتدم بها.

فانطلقت بها ربيبة حتى أتت رسول الله فقالت: يا رسول الله هذه عكة سمن بعثت بها إليك أم سليم، قال: « أفرغوا لها عكتها » ففرغت العكة فدفعت إليها، فانطلقت بها وجاءت وأم سليم ليست في البيت، فعلقت العكة على وتد، فجاءت أم سليم فرأت العكة ممتلئة تقطر فقالت أم سليم: يا ربيبة أليس أمرتك أن تنطلقي بها إلى رسول الله؟

فقالت: قد فعلت فإن لم تصدقيني فانطلقي فسلي رسول الله - -، فانطلقت ومعها ربيبة فقالت: يا رسول الله إني بعثت معها إليك بعكة فيها سمن.

قال: « قد فعلت، قد جاءت ».

قالت: والذي بعثك بالحق، ودين الحق، إنها لممتلئة تقطر سمنا.

قال: فقال لها رسول الله : « يا أم سليم أتعجبين إن كان الله أطعمك كما أطعمت نبيه؟ كلي وأطعمي ».

قالت: فجئت إلى البيت فقسمت في قعب لنا وكذا وكذا، تركت فيها ما ائتدمنا به شهرا أو شهرين.

حديث آخر في ذلك:

قال البيهقي: أنا الحاكم، أنا الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا علي بن بحر القطان، ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني، عن يوسف بن خالد، عن أوس بن خالد، عن أم أوس البهزية قالت: سليت سمنا لي فجعلته في عكة فأهديته لرسول الله فقبله، وترك في العكة قليلا ونفخ فيها، ودعا بالبركة ثم قال: « ردوا عليها عكتها » فردوها عليها وهي مملوءة سمنا.

قالت: فظننت أن رسول الله لم يقبلها، فجاءت ولها صراخ فقالت: يا رسول الله إنما سليته لك لتأكله، فعلم أنه قد استجيب له.

فقال: « إذهبوا فقولوا لها: فلتأكل سمنها، وتدعو بالبركة ».

فأكلت بقية عمر النبي وولاية أبي بكر وولاية عمر، وولاية عثمان حتى كان من أمر علي ومعاوية ما كان.

حديث آخر:

روى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الأعلى بن المسور القرشي، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة قال: كانت امرأة من دوس يقال لها: أم شريك أسلمت في رمضان، فذكر الحديث في هجرتها وصحبة ذلك اليهودي لها، وأنها عطشت فأبى أن يسقيها حتى تهود، فنامت فرأت في النوم من يسقيها فاستيقظت وهي ريانة، فلما جاءت رسول الله قصت عليه القصة، فخطبها إلى نفسها فرأت نفسها أقل من ذلك وقالت: بل زوجني من شئت.

فزوجها زيدا وأمر لها بثلاثين صاعا وقال: « كلوا ولا تكيلوا » وكانت معها عكة سمن هدية لرسول الله فأمرت جاريتها أن تحملها إلى رسول الله ففرغت، وأمرها رسول الله إذا ردتها أن تعلقها ولا توكئها، فدخلت أم شريك فوجدتها ملآى فقالت للجارية: ألم آمرك أن تذهبي بها إلى رسول الله؟

فقالت: قد فعلت، فذكروا ذلك لرسول الله فأمرهم أن لا يوكئوها، فلم تزل حتى أوكتها أم شريك، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعا لم ينقص منه شيء.

حديث آخر في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الزبير عن جابر أن أم مالك البهزية كانت تهدي في عكة لها سمنا للنبي ، فبينما بنوها يسألونها الإدام وليس عندها شيء، فعمدت إلى عكتها التي كانت تهدي فيها إلى النبي فقال: « أعصرتيه؟ »

فقلت: نعم.

قال: « لو تركتيه ما زال ذلك مقيما ».

ثم روى الإمام أحمد بهذا الإسناد عن جابر، عن النبي أنه أتاه رجل يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه هو وامرأته وضيف لهم حتى كالوه فقال رسول الله : « لو لم تكيلوه لأكلتم فيه، ولقام لكم ».

وقد روى هذين الحديثين مسلم من وجه آخر عن أبي الزبير، عن جابر.

ذكر ضيافة أبي طلحة الأنصاري رسول الله

قال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟

قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله .

قال: فذهبت به فوجدت رسول الله في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم.

فقال لي رسول الله : « أرسلك أبو طلحة؟ »

فقلت: نعم.

قال: « بطعام؟ »

قلت: نعم.

فقال رسول الله لمن معه: « قوموا » فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته.

فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله والناس، وليس عندنا ما نطعمهم.

فقلت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه فقال رسول الله: « هلم يا أم سليم ما عندك؟ » فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله - - ففت، وعصرت أم سليم عكة فآدمته، ثم قال رسول الله فيه ما شاء الله أن يقول ثم قال: « إئذن لعشرة » فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا.

ثم قال: « إئذن لعشرة » فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا.

ثم قال: « إئذن لعشرة » فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا.

ثم قال: « إئذن لعشرة » فأكل القوم كلهم، والقوم سبعون، أو ثمانون رجلا.

وقد رواه البخاري في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من غير وجه عن مالك.

طريق آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه:

قال أبو يعلى: ثنا هدبة بن خالد، ثنا مبارك بن فضالة، ثنا بكير وثابت البناني عن أنس أن أبا طلحة رأى رسول الله طاويا، فجاء إلى أم سليم فقال: إني رأيت رسول الله طاويا فهل عندك من شيء؟

قالت: ما عندنا إلا نحو من دقيق شعير.

قال: فاعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعو رسول الله فيأكل عندنا.

قال: فعجنته وخبزته فجاء قرصا فقال: يا أنس أدع رسول الله، فأتيت رسول الله ومعه أناس.

قال مبارك: أحسبه قال: بضعة وثمانون.

قال: فقلت: يا رسول الله أبو طلحة يدعوك.

فقال لأصحابه: « أجيبوا أبا طلحة ».

فجئت جزعا حتى أخبرته أنه قد جاء بأصحابه.

قال بكر: فعدى قدمه، وقال ثابت: قال أبو طلحة: رسول الله أعلم بما في بيتي مني.

وقالا جميعا عن أنس: فاستقبله أبو طلحة فقال: يا رسول الله ما عندنا شيء إلا قرص، رأيتك طاويا فأمرت أم سليم فجعلت لك قرصا.

قال: فدعا بالقرص، ودعا بجفنة فوضعه فيها وقال: « هل من سمن؟ »

قال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء.

قال: فجاء بها قال: فجعل رسول الله وأبو طلحة يعصرانها، حتى خرج شيء مسح رسول الله به سبابته، ثم مسح القرص فانتفخ وقال: « بسم الله » فانتفخ القرص، فلم يزل يصنع كذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يميع فقال: « أدع عشرة من أصحابي » فدعوت له عشرة.

قال: فوضع رسول الله يده وسط القرص وقال: « كلوا باسم الله » فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا.

ثم قال: « أدع لي عشرة أخرى » فدعوت له عشرة أخرى فقال: « كلوا بسم الله » فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا، فلم يزل يدعو عشرة عشرة يأكلون من ذلك القرص حتى أكل منه بضعة وثمانون من حوالي القرص حتى شبعوا، وإن وسط القرص حيث وضع رسول الله يده كم هو.

وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ولم يخرجوه، فالله أعلم.

طريق أخرى عن أنس بن مالك:

قال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نمير، ثنا سعد - يعني: ابن سعيد بن قيس -، أخبرني أنس ابن مالك قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله لأدعوه وقد جعل له طعاما، فأقبلت ورسول الله مع الناس.

قال: فنظر إلي فاستحييت فقلت: أجب أبا طلحة فقال للناس: « قوموا ».

فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما صنعت شيئا لك.

قال: فمسها رسول الله ودعا فيها بالبركة ثم قال: « أدخل نفرا من أصحابي عشرة ».

فقال: « كلوا » فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا وقال: « أدخل عشرة » فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة، حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل، فأكل حتى شبع، ثم هيأها فأخذه هي مثلها حين أكلوا منها.

وقد رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن عبد الله بن نمير، وعن سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، كلاهما عن سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري.

طريق أخرى:

رواه مسلم في الأطعمة عن عبد الله بن حميد، عن خالد بن مخلد، عن محمد بن موسى، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس فذكر نحو ما تقدم.

وقد رواه أبو يعلى الموصلي عن محمد بن عباد المكي، عن حاتم، عن معاوية ابن أبي مردد، عن عبد الله بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أبيه، عن أبي طلحة فذكره، والله أعلم.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: ثنا علي بن عاصم، ثنا حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن أنس بن مالك قال: أتى أبو طلحة بمدين من شعير فأمر به فصنع به طعاما ثم قال لي: يا أنس انطلق إئت رسول الله فادعه، وقد تعلم ما عندنا.

قال: فأتيت رسول الله وأصحابه عنده فقلت: إن أبا طلحة يدعوك إلى طعامه.

فقام وقال للناس: « قوموا » فقاموا فجئت أمشي بين يديه حتى دخلت على أبي طلحة فأخبرته.

قال: فضحتنا.

قلت: إني لم أستطع أن أرد على رسول الله أمره، فلما انتهى رسول الله قال لهم: « اقعدوا » ودخل عاشر عشرة، فلما دخل أتى بالطعام، تناول فأكل وأكل معه القوم حتى شبعوا.

ثم قال لهم: « قوموا وليدخل عشرة مكانكم » حتى دخل القوم كلهم وأكلوا.

قال: قلت: كم كانوا؟

قال: كانوا نيفا وثمانين.

قال: وفضل لأهل البيت ما أشبعهم.

وقد رواه مسلم في الأطعمة عن عمرو الناقد، عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن أنس قال: أمر أبو طلحة أم سليم قال: اصنعي للنبي لنفسه خاصة طعاما يأكل منه، فذكر نحو ما تقدم.

طريق أخرى عن أنس:

قال أبو يعلى: ثنا شجاع بن مخلد، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي سمعت جرير بن يزيد يحدث عن عمرو بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: رأى أبو طلحة رسول الله في المسجد مضطجعا يتقلب ظهرا لبطن، فأتى أم سليم فقال: رأيت رسول الله مضطجعا في المسجد يتقلب ظهرا لبطن فخبزت أم سليم قرصا ثم قال لي أبو طلحة: اذهب فادع رسول الله.

فأتيته وعنده أصحابه فقلت: يا رسول الله يدعوك أبو طلحة.

فقام وقال: « قوموا ».

قال: فجئت أسعى إلى أبي طلحة فأخبرته أن رسول الله قد تبعه أصحابه، فتلقاه أبو طلحة فقال: يا رسول الله إنما هو قرص.

فقال: « إن الله سيبارك فيه » فدخل رسول الله، وجيء بالقرص في قصعة، فقال: « هل من سمن؟ »

فجيء بشيء من سمن، فغور القرص بإصبعه هكذا ورفعها ثم صب وقال: « كلوا من بين أصابعي » فأكل القوم حتى شبعوا.

ثم قال: « أدخل علي عشرة » فأكلوا حتى شبعوا، حتى أكل القوم فشبعوا، وأكل رسول الله وأبو طلحة وأم سليم وأنا حتى شبعنا، وفضلت فضلة أهديت لجيران لنا.

ورواه مسلم في الأطعمة من صحيحه: عن حسن الحلواني، وعن وهب بن جرير بن حازم، عن عمه جرير بن يزيد، عن عمرو بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك فذكر نحو ما تقدم.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: ثنا يونس بن محمد، ثنا حماد - يعني ابن زيد - عن هشام، عن محمد - يعني ابن سيرين -، عن أنس قال حماد: والجعد قد ذكره قال: عمدت أم سليم إلى نصف مد شعير فطحنته، ثم عمدت إلى عكة كان فيها شيء من سمن فاتخذت منه خطيفة.

قال: ثم أرسلتني إلى رسول الله قال: فأتيته وهو في أصحابه فقلت: إن أم سليم أرسلتني إليك تدعوك.

فقال: أنا ومن معي؟

قال: فجاء هو ومن معه قال: فدخلت.

فقلت لأبي طلحة: قد جاء رسول الله ومن معه، فخرج أبو طلحة فمشى إلى جنب النبي قال: يا رسول الله إنما هي خطيفة اتخذتها أم سليم من نصف مد شعير.

قال: فدخل فأتي به قال: فوضع يده فيها ثم قال: « أدخل عشرة ».

قال: فدخل عشرة فأكلوا حتى شبعوا، ثم دخل عشرة فأكلوا، ثم عشرة فأكلوا، حتى أكل منها أربعون كلهم أكلوا حتى شبعوا.

قال: وبقيت كما هي قال: فأكلنا.

وقد رواه البخاري في الأطعمة عن الصلت بن محمد، عن حماد بن زيد، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس وعن هشام بن محمد، عن أنس، وعن سنان بن ربيعة، عن أبي ربيعة، عن أنس أن أم سليم عمدت إلى مد من شعير جشته وجعلت منه خطيفة، وعمدت إلى عكة فيها شيء من سمن فعصرته، ثم بعثتني إلى رسول الله وهو في أصحابه، الحديث بطوله.

ورواه أبو يعلى الموصلي: ثنا عمرو عن الضحاك، ثنا أبي سمعت أشعث الحراني قال: قال محمد بن سيرين: حدثني أنس بن مالك أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله طعام، فذهب فأجر نفسه بصاع من شعير، فعمل يومه ذلك فجاء به، وأمر أم سليم أن تعمله خطيفة، وذكر الحديث.

طريق آخر عن أنس:

قال الإمام أحمد: ثنا يونس بن محمد، ثنا حرب بن ميمون عن النصر بن أنس، عن أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: إذهب إلى نبي الله فقل: إن رأيت أن تغدي عندنا فافعل، فجئته فبلغته فقال: « ومن عندي؟ »

قلت: نعم.

قال: « انهضوا ».

قال: فجئته فدخلت على أم سليم وأنا لدهش لمن أقبل مع رسول الله .

قال: فقالت أم سليم: ما صنعت يا أنس؟

فدخل رسول الله على إثر ذلك فقال: « هل عندك سمن؟ »

قالت: نعم، قد كان منه عندي عكة فيها شيء من سمن.

قال: « فأت بها »

قالت: فجئت بها، ففتح رباطها ثم قال: « بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة ».

قال: فقال: « اقلبيها » فقلبتها فعصرها نبي الله وهو يسمي، فأخذت نقع قدر فأكل منها بضع وثمانون رجلا، وفضل فضلة فدفعها إلى أم سليم فقال: « كلي وأطعمي جيرانك ».

وقد رواه مسلم في الأطعمة عن حجاج بن الشاعر، عن يونس بن محمد المؤدب به.

طريق أخرى:

قال أبو القاسم البغوي: ثنا علي بن المديني، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى بن عمارة المازني، عن أبيه، عن أنس بن مالك أن أمه أم سليم صنعت خزيرا فقال أبو طلحة: إذهب يا بني فادع رسول الله .

قال: فجئته - وهو بين ظهراني الناس - فقلت: إن أبي يدعوك.

قال: فقام وقال للناس: « انطلقوا ».

قال: فلما رأيته قام بالناس تقدمت بين أيديهم، فجئت أبا طلحة فقلت: يا أبت قد جاءك رسول الله بالناس.

قال: فقام أبو طلحة على الباب وقال: يا رسول الله إنما كان شيئا يسيرا.

فقال: « هلمه فإن الله سيجعل فيه البركة » فجاء به فجعل رسول الله يده فيه، ودعا الله بما شاء أن يدعو ثم قال: « أدخل عشرة عشرة » فجاءه منهم ثمانون فأكلوا وشبعوا.

ورواه مسلم في الأطعمة عن عبد بن حميد، عن القعنبي، عن الدراوردي، عن يحيى بن عمارة ابن أبي حسن الأنصاري المازني، عن أبيه، عن أنس بن مالك بنحو ما تقدم.

طريق أخرى:

ورواه مسلم في الأطعمة أيضا عن حرملة، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس كنحو ما تقدم.

قال البيهقي: وفي بعض حديث هؤلاء ثم أكل رسول الله وأكل أهل البيت وأفضلوا ما بلغ جيرانهم.

فهذه طرق متواترة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه شاهد ذلك على ما فيه من اختلاف عنه في بعض حروفه، ولكن أصل القصة متواتر لا محالة كما ترى، ولله الحمد والمنة.

فقد رواه عن أنس بن مالك: إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، وبكر بن عبد الله المزني، وثابت بن أسلم البناني، والجعد بن عثمان، وسعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وسنان بن ربيعة، وعبد الله بن عبد الله ابن أبي طلحة، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وعمرو بن عبد الله ابن أبي طلحة، ومحمد بن سيرين، والنضر بن أنس، ويحيى بن عمارة ابن أبي حسن، ويعقوب بن عبد الله ابن أبي طلحة.

وقد تقدم في غزوة الخندق: حديث جابر في إضافته على صاع من شعير وعناق، فعزم عليه السلام على أهل الخندق بكمالهم فكانوا ألفا أو قريبا من ألف، فأكلوا كلهم من تلك العناق وذلك الصاع حتى شبعوا وتركوه كما كان، وقد أسلفناه بسنده ومتنه وطرقه، ولله الحمد والمنة.

ومن العجب الغريب ما ذكره الحافظ أبو عبد الرحمن بن محمد بن المنذر الهروي - المعروف بشكر - في كتاب العجائب الغريبة في هذا الحديث فإنه أسنده وساقه بطوله، وذكر في آخره شيئا غريبا فقال: ثنا محمد بن علي بن طرخان، ثنا محمد بن مسرور، أنا هاشم بن هاشم، ويكنى: بأبي برزة بمكة في المسجد الحرام، ثنا أبو كعب البداح بن سهل الأنصاري من أهل المدينة من الناقلة الذين نقلهم هارون إلى بغداد سمعت منه بالمصيصة عن أبيه سهل بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك قال: أتى جابر بن عبد الله إلى رسول الله فعرف في وجهه الجوع، فذكر أنه رجع إلى منزله فذبح داجنا كانت عندهم وطبخها، وثرد تحتها في جفنة وحملها إلى رسول الله ، فأمره أن يدعو له الأنصار فأدخلهم عليه أرسالا فأكلوا كلهم، وبقي مثل ما كان، وكان رسول الله يأمرهم أن يأكلوا ولا يكسروا عظما، ثم إنه جمع العظام في وسط الجفنة فوضع عليها يده، ثم تكلم بكلام لا أسمعه، إلا أني أرى شفتيه تتحرك، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها.

فقال: « خذ شاتك يا جابر، بارك الله لك فيها ».

قال: فأخذتها ومضيت وإنها لتنازعني أذنها، حتى أتيت بها البيت فقالت لي المرأة: ما هذا يا جابر؟

فقلت: هذه والله شاتنا التي ذبحناها لرسول الله، دعا الله فأحياها لنا.

فقالت: أنا أشهد أنه رسول الله، أشهد أنه رسول الله، أشهد أنه رسول الله.

حديث آخر عن أنس في معنى ما تقدم:

قال أبو يعلى الموصلي والباغندي: ثنا شيبان، ثنا محمد بن عيسى بصري - وهو صاحب الطعام -، ثنا ثابت البناني قلت لأنس بن مالك: يا أنس أخبرني بأعجب شيء رأيته؟

قال: نعم يا ثابت، خدمت رسول الله - - عشر سنين، فلم يعب علي شيئا أسأت فيه، وإن نبي الله - - لما تزوج زينب بنت جحش.

قالت لي أمي: يا أنس إن رسول الله - - أصبح عروسا، ولا أدري أصبح له غداء فهلم تلك العكة، فأتيتها بالعكة وبتمر فجعلت له حيسا فقالت: يا أنس إذهب بهذا إلى نبي الله وامرأته، فلما أتيت رسول الله - - بتور من حجارة فيه ذلك الحيس.

قال: « دعه ناحية البيت، وادع لي أبا بكر، وعمر، وعليا، وعثمان، ونفرا من أصحابه، ثم أدع لي أهل المسجد، ومن رأيت في الطريق ».

قال: فجعلت أتعجب من قلة الطعام، ومن كثرة ما يأمرني أن أدعو الناس، وكرهت أن أعصيه حتى امتلأ البيت والحجرة.

فقال: « يا أنس هل ترى من أحد؟ »

فقلت: لا يا رسول الله.

قال: « هات ذلك التور ».

فجئت بذلك التور فوضعته قدامه، فغمس ثلاث أصابع في التور، فجعل التمر يربو فجعلوا يتغدون ويخرجون، حتى إذا فرغوا أجمعون وبقي في التور نحو ما جئت به فقال: « ضعه قدام زينب » فخرجت، وأسقفت عليهم بابا من جريد.

قال ثابت: قلنا يا أبا حمزة: كم ترى كان الذين أكلوا من ذلك التور؟

فقال: أحسب واحدا وسبعين، أو اثنين وسبعين.

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه.

حديث آخر عن أبي هريرة في ذلك:

قال جعفر بن محمد الفرياني: ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا حاتم بن إسماعيل عن أنيس ابن أبي يحيى، عن إسحاق بن سالم، عن أبي هريرة قال: خرج علي رسول الله فقال: « أدع لي أصحابك من أصحاب الصفة » فجعلت أنبههم رجلا رجلا فجمعتهم، فجئنا باب رسول الله فاستأذنا فأذن لنا.

قال أبو هريرة: فوضعت بين أيدينا صحفة أظن أن فيها قدر مد من شعير، قال: فوضع رسول الله عليها يده وقال: « كلوا بسم الله ».

قال: فأكلنا ما شئنا، ثم رفعنا أيدينا فقال رسول الله حين وضعت الصحفة: « والذي نفسي بيده، ما أمسى في آل محمد طعام ليس ترونه ».

قيل لأبي هريرة: قدر كم كانت حين فرغتم منها؟

قال: مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع.

وهذه قصة غير قصة أهل الصفة المتقدمة في شربهم اللبن كما قدمنا.

حديث آخر عن أبي أيوب في ذلك:

قال جعفر الفريابي: ثنا أبو سلمة يحيى بن خلف، ثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري، عن أبي الورد، عن أبي محمد الحضرمي، عن أبي أيوب الأنصاري قال: صنعت لرسول الله ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به.

فقال رسول الله : « إذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار ».

قال: فشق ذلك علي ما عندي شيء أزيده.

قال: فكأني تثاقلت.

فقال: « إذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار » فدعوتهم فجاءوا فقال: « أطعموا » فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله ثم بايعوه قبل أن يخرجوا.

ثم قال: « إذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار ».

قال أبو أيوب: فوالله لأنا بالستين أجود مني بالثلاثين.

قال: فدعوتهم.

فقال رسول الله : « تربعوا » فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله، وبايعوه قبل أن يخرجوا.

قال: « فاذهب فادع لي تسعين من الأنصار ».

قال: فلأنا أجود بالتسعين والستين مني بالثلاثين.

قال: فدعوتهم، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله، وبايعوه قبل أن يخرجوا.

قال: فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار.

وهذا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا.

وقد رواه البيهقي من حديث محمد بن أبي بكر المقدمي عن عبد الأعلى به.

قصة أخرى في تكثير الطعام في بيت فاطمة

[عدل]

قال الحافظ أبو يعلى: ثنا سهل بن الحنظلية، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة عن محمد بن المنكدر، عن جابر أن رسول الله أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: « يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع ».

فقالت: لا والله بأبي أنت وأمي، فلما خرج من عندها رسول الله بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وغطت عليها وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله فرجع إليها.

فقالت له: بأبي أنت وأمي، قد أتى الله بشيء فخبأته لك.

قال: « هلمي يا بنية » فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلما نظرت إليها بهتت، وعرفت أنها بركة من الله فحمدت الله، وصلت على نبيه وقدمته إلى رسول الله.

فلما رآه حمد الله وقال: « من أين لك هذا يا بنية؟ »

قالت: يا أبت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

فحمد الله وقال: « الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا، فسئلت عنه قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب » فبعث رسول الله إلى علي، ثم أكل رسول الله وعلي وفاطمة، وحسن وحسين، وجميع أزواج رسول الله وأهل بيته جميعا حتى شبعوا.

قالت: وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت بقيتها على جميع جيرانها، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا.

وهذا حديث غريب أيضا إسنادا ومتنا.

وقد قدمنا في أول البعثة حين نزل قوله تعالى: « وأنذر عشيرتك والأقربين » حديث ربيعة بن ماجد عن علي في دعوته عليه السلام بني هاشم -وكانوا نحوا من أربعين - فقدم إليهم طعاما من مد فأكلوا حتى شبعوا وتركوه كما هو، وسقاهم من عس شرابا حتى رووا وتركوه كما هو ثلاثة أيام متتابعة، ثم دعاهم إلى الله كما تقدم.

قصة أخرى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال الإمام أحمد: ثنا علي بن عاصم، ثنا سليمان التيمي عن أبي العلاء بن الشخير، عن سمرة بن جندب قال: بينما نحن عند النبي إذ أتى بقصعة فيها ثريد.

قال: فأكل وأكل القوم، فلم يزالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر، يأكل قوم ثم يقومون، ويجيء قوم فيتعاقبونه.

قال: فقال له رجل: هل كانت تمد بطعام؟

قال: أما من الأرض فلا إلا أن تكون كانت تمد من السماء.

ثم رواه أحمد عن يزيد بن هارون، عن سليمان، عن أبي العلاء، عن سمرة أن رسول الله أتى بقصعة فيها ثريد، فتعاقبوها إلى الظهر من غدوة يقوم ناس ويقعد آخرون.

قال له رجل: هل كانت تمد؟

فقال: له فمن أين تعجب، ما كانت تمد إلا من ههنا، وأشار إلى السماء.

وقد رواه الترمذي والنسائي أيضا من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي العلاء - واسمه يزيد بن عبد الله بن الشخير -، عن سمرة بن جندب به.

قصة قصعة بيت الصديق

[عدل]

ولعلها هي القصة المذكورة في حديث سمرة، والله أعلم.

قال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا معتمر عن أبيه، ثنا عثمان أنه حدثه عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وأن النبي قال مرة: « من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس - أو كما قال - » وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي بعشرة وأبو بكر بثلاثة.

قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: امرأتي وخادمي من بيتنا وبيت أبي بكر، وإن أبا بكر تعشى عند النبي ، ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول الله ، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله.

قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك أو ضيفك؟

قال: أو ما عشيتهم؟

قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم.

فذهبت فاختبأت فقال: يا غنثر - فجدع وسب - وقال: كلوا.

وقال: لا أطعمه أبدا، والله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل، فنظر أبو بكر فأخذه هي شيء أو أكثر، فقال لامرأته: ما هذا يا أخت بني فراس؟

قالت: لا وقرة عيني هي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرار.

فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان الشيطان - يعني: يمينه -، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل فعرفنا اثني عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل غير أنه بعث معهم.

قال: فأكلوا منها أجمعون، أو كما قال: وغيرهم يقول: فتفرقنا.

هذا لفظه، وقد رواه في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من غير وجه عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر.

حديث آخر عن عبد الرحمن ابن أبي بكر في هذا المعنى:

قال الإمام أحمد: ثنا حازم، ثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر أنه قال: كنا مع رسول الله ثلاثين ومائة.

فقال النبي : « هل مع أحد منكم طعام؟ »

فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها.

فقال النبي : « أبيعا أم عطية؟ - أو قال: - أم هدية؟ »

قال: لا بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت.

وأمر النبي بسواد البطن أن يشوى.

قال: وأيم الله ما من الثلاثين والمائة، إلا قد حز له رسول الله حزة من سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاه إياه، وإن كان غائبا خبأ له.

قال: وجعل منها قصعتين قال: فأكلنا منهما أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين فجعلناه على البعير، أو كما قال.

وقد أخرجه البخاري، ومسلم من حديث معتمر بن سليمان.

حديث آخر في تكثير الطعام في السفر

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا فزارة بن عمر، أنا فليح عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله في غزوة غزاها، فأرمل فيها المسلمون واحتاجوا إلى الطعام، فاستأذنوا رسول الله في نحر الإبل فأذن لهم، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال: فجاء فقال: يا رسول الله إبلهم تحملهم وتبلغهم عدوهم ينحرونها؟ أدع يا رسول الله بغبرات الزاد، فادع الله عز وجل فيها بالبركة.

قال: « أجل » فدعا بغبرات الزاد، فجاء الناس بما بقي معهم فجمعه، ثم دعا الله عز وجل فيه بالبركة، ودعاهم بأوعيتهم فملأها وفضل فضل كثير.

فقال رسول الله عند ذلك: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أني عبد الله ورسوله، ومن لقي الله عز وجل بهما غير شاك دخل الجنة ».

وكذلك رواه جعفر الفريابي عن أبي مصعب الزهري، عن عبد العزيز ابن أبي حازم، عن أبيه سهيل به.

ورواه مسلم، والنسائي جميعا عن أبي بكر ابن أبي النضر، عن أبيه، عن عبيد الله الأشجعي، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا زهير، ثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح سعيد، أو عن أبي هريرة - شك الأعمش - قال: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا، وادهنا؟

فقال: « إفعلوا ».

فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر، ولكن أدعهم بفضل أزوادهم، ثم أدع لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة.

فأمر رسول الله بنطع فبسط، ودعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف التمر، والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع شيء من ذلك يسير، فدعا عليهم بالبركة ثم قال: « خذوا في أوعيتكم » فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأه، وأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة.

فقال رسول الله - : « أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فتحتجب عنه الجنة ».

وهكذا رواه مسلم أيضا عن سهل ابن عثمان وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، وأبي هريرة فذكر مثله.

حديث آخر في هذه القصة:

قال الإمام أحمد: ثنا علي بن إسحاق، ثنا عبد الله - هو ابن المبارك -، أنا الأوزاعي، أنا المطلب بن حنطب المخزومي، حدثني عبد الرحمن ابن أبي عمرة الأنصاري، حدثني أبي قال: كنا مع رسول الله في غزاة، فأصاب الناس مخمصة، فاستأذن الناس رسول الله في نحر بعض ظهورهم وقالوا: يبلغنا الله به.

فلما رأى عمر بن الخطاب أن رسول الله قد هم أن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم.

قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غدا جياعا رجالا؟ ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم وتجمعها، ثم تدعو الله فيها بالبركة فإن الله سيبلغنا بدعوتك، أو سيبارك لنا في دعوتك، فدعا النبي ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يجيئون بالحبة من الطعام وفوق ذلك، فكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله ثم قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم وأمرهم أن يحتثوا، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملأوه وبقي مثله، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه وقال: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أني رسول الله، لا يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجبت عنه النار يوم القيامة ».

وقد رواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك بإسناده نحو ما تقدم.

حديث آخر في هذه القصة:

قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا أحمد بن المعلى الآدمي، ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا سعيد بن سلمة، حدثني أبو بكر - أظنه من ولد عمر بن الخطاب -عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن أبي ربيعة أنه سمع أبا خنيس الغفاري أنه كان مع رسول الله في غزوة تهامة حتى إذا كنا بعسفان جاءه أصحابه فقالوا: يا رسول الله جهدنا الجوع، فأذن لنا في الظهر أن نأكله.

قال: « نعم ».

فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فجاء رسول الله فقال: يا نبي الله ما صنعت؟ أمرت الناس أن ينحروا الظهر فعلى ما يركبون؟

قال: « فما ترى يا ابن الخطاب؟ »

قال: أرى أن تأمرهم أن يأتوا بفضل أزوادهم فتجمعه في ثوب ثم تدعو لهم، فأمرهم، فجمعوا فضل أزوادهم في ثوب ثم دعا لهم ثم قال: « إئتوا بأوعيتكم » فملأ كل إنسان وعاءه، ثم أذن بالرحيل، فلما جاوز مطروا فنزل ونزلوا معه وشربوا من ماء السماء، فجاء ثلاثة نفر فجلس إثنان مع رسول الله، وذهب الآخر معرضا.

فقال رسول الله: « ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما واحد فاستحى من الله فاستحى الله منه، وأما الآخر فأقبل تائبا فتاب الله عليه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه »

ثم قال البزار: لا نعلم روى أبو خنيس إلا هذا الحديث بهذا الإسناد.

وقد رواه البيهقي عن الحسين بن بشران، عن أبي بكر الشافعي، ثنا إسحاق بن الحسن الخرزي، أنا أبو رجاء، ثنا سعيد بن سلمة، حدثني أبو بكر بن عمرو بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي ربيعة أنه سمع أبا خنيس الغفاري فذكره.

حديث آخر عن عمر بن الخطاب في هذه القصة:

قال الحافظ أبو يعلى: ثنا ابن هشام - محمد بن يزيد الرفاعي - ثنا ابن فضل، ثنا يزيد - وهو ابن أبي زياد - عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم، عن أبيه، عن جده عمر قال: كنا مع رسول الله في غزاة.

فقلنا: يا رسول الله إن العدو قد حضر وهم شباع، والناس جياع.

فقالت الأنصار: ألا ننحر نواضحنا فنطعمها الناس؟

فقال رسول الله - -: « من كان معه فضل طعام فليجيء به » فجعل الرجل يجيء بالمد والصاع وأقل وأكثر، فكان جميع ما في الجيش بضعا وعشرين صاعا، فجلس النبي إلى جنبه فدعا بالبركة.

فقال النبي : « خذوا ولا تنتهبوا » فجعل الرجل يأخذ في جرابه، وفي غرارته، وأخذوا في أوعيتهم حتى أن الرجل ليربط كم قميصه فيملؤه، ففرغوا والطعام كما هو.

ثم قال النبي : « أشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، لا يأتي بها عبد محق إلا وقاه الله حر النار »

ورواه أبو يعلى أيضا عن إسحاق بن إسمعيل الطالقاني، عن جرير، عن يزيد ابن أبي زياد فذكره، وما قبلة شاهد له بالصحة، كما أنه متابع لما قبله، والله أعلم.

حديث آخر عن سلمة بن الأكوع في ذلك:

قال الحافظ أبو يعلى: ثنا محمد بن بشار، ثنا يعقوب بن إسجاق الحضرمي القاري، ثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله في غزوة خيبر، فأمرنا أن نجمع ما في أزوادنا - يعني من التمر - فبسط نطعا نشرنا عليه أزوادنا.

قال: فتمطيت فتطاولت فنظرت فحزرته كربضة شاة، ونحن أربع عشرة مائة.

قال: فأكلنا، ثم تطاولت فنظرت فحزرته كربضة شاة.

وقال رسول الله : « هل من وضوء؟ »

قال: فجاء رجل بنقطة في إداوته.

قال: فقبضها فجعلها في قدح.

قال: فتوضأنا كلنا ندغفقها دغفقة، ونحن أربع عشرة مائة.

قال: فجاء أناس فقالوا: يا رسول الله ألا وضوء؟

فقال: « قد فرغ الوضوء ».

وقد رواه مسلم عن أحمد بن يوسف السلمي، عن النضر بن محمد، عن عكرمة بن عمار، عن إياس، عن أبيه سلمة وقال: فأكلنا حتى شبعنا، ثم حشونا جربنا.

وتقدم ما ذكره ابن إسحاق في حفر الخندق حيث قال: حدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد - أخت النعمان بن بشير - قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني جفنة من تمر في ثوبي ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بغدائهما.

قالت: فأخذتها فانطلقت بها فمررت برسول الله وأنا ألتمس أبي وخالي.

فقال: « تعالي يا بنية ما هذا معك؟ »

قالت: قلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه.

فقال: « هاتيه ».

قالت: فصببته في كفي رسول الله فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دعا بالتمر فنبذ فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: « إصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء » فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.

قصة جابر ودين أبيه وتكثيره عليه السلام التمر

[عدل]

قال البخاري في دلائل النبوة: حدثنا أبو نعيم، ثنا زكريا، حدثني عامر، حدثني جابر أن أباه توفي وعليه دين، فأتيت النبي فقلت: إن أبي ترك عليه دينا وليس عندي إلا ما يخرج نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكيلا يفحش علي الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر فدعا ثم آخر، ثم جلس عليه فقال: « إنزعوه » فأوفاهم الذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم.

هكذا رواه هنا مختصرا، وقد أسنده من طرق عن عامر بن شراحيل الشعبي عن جابر به.

وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة عن جابر بألفاظ كثيرة، وحاصلها أنه ببركة رسول الله ودعائه له، ومشيه في حائطه، وجلوسه على تمره، وفى الله دين أبيه وكان قد قتل بأحد، وجابر كان لا يرجوه وفاءه في ذلك العام ولا ما بعده، ومع هذا فضل له من التمر أكثر فوق ما كان يؤمله ويرجوه، ولله الحمد والمنة.

قصة سلمان في تكثيره صلى الله عليه وسلم تلك القطعة من الذهب

[عدل]

لوفاء دينه في مكاتبته:

قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس عن سلمان قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله؟

أخذها رسول الله فقلبها على لسانه ثم قال: « خذها فأوفهم منها ».

فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم أربعين أوقية.

ذكر مزود أبي هريرة وتمرة:

قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا حماد - يعني ابن زيد - عن المهاجر، عن أبي العالية، عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله يوما بتمرات.

فقال: قلت: أدع الله لي فيهن بالبركة.

قال: فصفهن بين يديه، ثم دعا فقال لي: « إجعلهن في مزود، وأدخل يدك ولا تنثره ».

قال: فحملت منه كذا كذا وسقا في سبيل الله ونأكل ونطعم، وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان رضي الله عنه انقطع عن حقوي فسقط.

ورواه الترمذي عن عمران بن موسى القزاز البصري، عن حماد بن زيد، عن المهاجر، عن أبي مخلد، عن رفيع أبي العالية عنه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.

طريق أخرى عنه:

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الحفار، أنا الحسين بن يحيى بن عباس القطان، ثنا حفص بن عمر، ثنا سهل بن زياد، ثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله في غزاة فأصابهم عوز من الطعام.

فقال: « يا أبا هريرة عندك شيء؟ »

قال: قلت: شيء من تمر في مزود لي.

قال: « جيء به ».

قال: فجئت بالمزود.

قال: « هات نطعا » فجئت بالنطع فبسطته، فأدخل يده فقبض على التمر فأخذه هو واحد وعشرون ثم قال: « بسم الله » فجعل يضع كل تمرة ويسمي حتى أتى على التمر فقال به هكذا فجمعه.

فقال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا.

ثم قال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا حتى شبعوا، وخرجوا.

ثم قال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا، وشبعوا، وخرجوا.

ثم قال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا وشبعوا وخرجوا وفضل.

ثم قال لي: « أقعد » فقعدت فأكل وأكلت.

قال: وفضل تمر فأدخلته في المزود.

وقال لي: « يا أبا هريرة إذا أردت شيئا فأدخل يدك وخذه، ولا تكفي فيكفى عليك ».

قال: فما كنت أريد تمرا إلا أدخلت يدي فأخذت منه، خمسين وسقا في سبيل الله.

قال: وكان معلقا خلف رحلي، فوقع في زمن عثمان فذهب.

طريق أخرى عن أبي هريرة في ذلك:

روى البيهقي من طريقين عن سهل بن أسلم العدوي، عن يزيد ابن أبي منصور، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أصبت بثلاث مصيبات في الإسلام لم أصب بمثلهن: موت رسول الله وكنت صويحبه، وقتل عثمان والمزود.

قالوا: وما المزود يا أبا هريرة؟

قال: كنا مع رسول الله في سفر فقال: « يا أبا هريرة أمعك شيء؟ »

قال: قلت: تمر في مزود.

قال: « جيء به »

فأخرجت تمرا فأتيته به قال: فمسه ودعا فيه.

قال: « أدع عشرة » فدعوت عشرة فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل الجيش كله، وبقي من التمر معي في المزود.

فقال: « يا أبا هريرة إذا أردت أن تأخذ منه شيئا فأدخل يدك فيه، ولا تكفه ».

قال: فأكلت منه حياة النبي ، وأكلت منه حياة أبي بكر كلها، وأكلت منه حياة عمر كلها، وأكلت منه حياة عثمان كلها، فلما قتل عثمان انتهب ما في يدي وانتهب المزود، ألا أخبركم كم أكلت منه؟ أكلت منه أكثر من مائتي وسق.

طريق أخرى:

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، ثنا إسمعيل - يعني ابن مسلم - عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة قال: أعطاني رسول الله شيئا من تمر، فجعلته في مكتل فعلقناه في سقف البيت، فلم نزل نأكل منه حتى كان آخره إصابة أهل الشام حيث أغاروا بالمدينة.

تفرد به أحمد.

حديث عن العرباض بن سارية في ذلك:

رواه الحافظ بن عساكر في ترجمته من طريق محمد بن عمر الوافدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعد، عن العرباض قال: كنت ألزم باب رسول الله في الحضر والسفر، فرأينا ليلة ونحن بتبوك أو ذهبنا لحاجة فرجعنا إلى رسول الله وقد تعشى ومن عنده فقال: « أين كنت منذ الليلة؟ »

فأخبرته، وطلع جعال بن سراقة، وعبد الله بن معقل المزني فكنا ثلاثة كلنا جائع فدخل رسول الله - - بيت أم سلمة فطلب شيئا نأكله فلم يجده، فنادى بلالا: « هل من شيء؟ »

فأخذ الجرب ينقفها، فاجتمع سبع تمرات فوضعها في صحفة ووضع عليهن يده وسمى الله وقال: « كلوا باسم الله ».

فأكلنا، فأحصيت أربعا وخمسين تمرة، كلها أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، فأكل كل منهما خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هن فقال: « يا بلال ارفعهن في جرابك ».

فلما كان الغد وضعهن في الصحفة وقال: « كلوا بسم الله » فأكلنا حتى شبعنا، وإنا لعشرة، ثم رفعنا أيدينا وإنهن كما هن سبع فقال: « لولا أني أستحي من ربي عز وجل لأكلت من هذه التمرات حتى نرد إلى المدينة عن آخرنا ».

فلما رجع إلى المدينة طلع غليم من أهل المدينة، فدفعهن إلى ذلك الغلام فانطلق يلوكهن.

حديث آخر:

روى البخاري ومسلم من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت له: لقد توفي رسول الله وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي فكلته، ففني.

حديث آخر:

روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن شبيب، عن الحسن بن أعين، عن معقل، عن أبي الزبير، عن جابر أن رجلا أتى النبي يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي فقال: « لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم ».

وبهذا الإسناد عن جابر أن أم مالك كانت تهدي إلى رسول الله في عكتها سمنا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندها شيء فتعمد إلى التي كانت تهدي فيه إلى رسول الله فتجد فيه سمنا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرتها، فأتت رسول الله فقال: « أعصرتيها؟ »

قالت: نعم.

فقال: « لو تركتيها ما زالت قائمة ».

وقد رواهما الإمام أحمد عن موسى، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر.

حديث آخر:

قال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو جعفر البغدادي، ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا حسان بن عبد الله، ثنا ابن لهيعة، ثنا يونس بن يزيد، ثنا أبو إسحاق عن سعيد بن الحرث بن عكرمة، عن جده نوفل بن الحرث بن عبد المطلب أنه استعان رسول الله في التزويج فأنكحه امرأة فالتمس شيئا فلم يجده، فبعث رسول الله أبا رافع وأبا أيوب بدرعه فرهناها عند رجل من اليهود بثلاثين صاعا من شعير، فدفعه رسول الله إليه.

قال: فطعمنا منه نصف سنة، ثم كلناه فوجدناه كما أدخلناه.

قال نوفل: فذكرت ذلك لرسول الله فقال: « لو لم تكله لأكلت منه ما عشت ».

حديث آخر:

قال الحافظ البيهقي فيالدلائل: أنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنا أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا عباس بن محمد الدوري، أنا أحمد بن عبد الله بن يونس، أنا أبو بكر ابن عياش عن هشام - يعني: ابن حسان -، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: أتى رجل أهله فرأى ما بهم من الحاجة فخرج إلى البرية.

فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعتجن ونختبز.

قال: فإذا الجفنة ملأى خميرا، والرحى تطحن، والتنور ملأى خبزا وشواء.

قال: فجاء زوجها فقال: عندكم شيء؟

قالت: نعم رزق الله، فرفع الرحى فكنس ما حوله، فذكر ذلك للنبي فقال: « لو تركها لدارت إلى يوم القيامة ».

وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان: أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا أبو إسمعيل الترمذي، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار كان ذا حاجة فخرج وليس عند أهله شيء فقالت امرأته: لو حركت رحاي وجعلت في تنوري سعفات، فسمع جيراني صوت الرحى ورأوا الدخان فظنوا أن عندنا طعاما وليس بنا خصاصة، فقامت إلى تنورها فأوقدته وقعدت تحرك الرحا.

قال: فأقبل زوجها وسمع الرحا، فقامت إليه لتفتح له الباب.

فقال: ماذا كنت تطحنين؟

فأخبرته فدخلا وإن رحاهما لتدور، وتصب دقيقا، فلم يبق في البيت وعاء إلا ملئ، ثم خرجت إلى تنورها فوجدته مملوءا خبزا، فأقبل زوجها فذكر ذلك للنبي قال: « فما فعلت الرحا؟ »

قال: رفعتها ونفضتها.

فقال رسول الله : « لو تركتموها ما زالت لكم حياتي - أو قال: - حياتكم ».

وهذا الحديث غريب سندا ومتنا.

حديث آخر:

وقال مالك عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ضافه ضيف كافر فأمر بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأتى رسول الله فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها.

فقال رسول الله : « إن المسلم يشرب في معا واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء ».

ورواه مسلم من حديث مالك.

حديث آخر:

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثني محمد بن الفضل بن حاتم، ثنا الحسين بن عبد الأول، ثنا حفص بن غياث، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: ضاف النبي أعرابي قال: فطلب له شيئا فلم يجد إلا كسرة في كوة قال: فجزأها رسول الله أجزاء ودعا عليها وقال: « كل ».

قال: فأكل فأفضل.

قال: فقال: يا محمد إنك لرجل صالح.

فقال له النبي : « أسلم ».

فقال: إنك لرجل صالح.

ثم رواه البيهقي من حديث سهل بن عثمان عن حفص بن غياث بإسناده نحوه.

حديث آخر:

قال الحافظ البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ قال: وفيما ذكر عبدان الأهوازي، ثنا محمد بن زياد البرجمي، ثنا عبيد الله بن موسى عن مسعر، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال: أضاف النبي ضيف، فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاما فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فقال: « اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت ».

قال: فأهديت له شاة مصلية.

فقال: « هذا من فضل الله، ونحن ننتظر الرحمة ».

قال أبو علي: حدثنيه محمد بن عبدان الأهوازي عنه قال: والصحيح عن زبيد مرسلا، حدثناه محمد بن عبدان، حدثنا أبي، ثنا الحسن بن الحرث الأهوازي، أنا عبيد الله بن موسى عن مسعر، عن زبيد فذكره مرسلا.

حديث آخر:

قال البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، ثنا أبو عمر بن حمدان، أنا الحسن بن سفيان، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا سليمان بن عبد الرحمن، ثنا عمرو بن بشر بن السرح، ثنا الوليد بن سليمان ابن أبي السائب، ثنا واثلة بن الخطاب عن أبيه، عن جده واثلة بن الأسقع قال: حضر رمضان ونحن في أهل الصفة فصمنا، فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجل من أهل البيعة فانطلق به فعشاه، فأتت علينا ليلة لم يأتنا أحد وأصبحنا صياما، وأتت علينا القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله - - فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها هل عندهاشيء؟ فما بقيت منهن امرأة إلا أرسلت تقسم ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد.

فقال لهم رسول الله : « فاجتمعوا » فدعا وقال: « اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنها بيدك لا يملكها أحد غيرك ».

فلم يكن إلا ومستأذن يستأذن فإذا بشاة مصلية ورغف، فأمر بها رسول الله فوضعت بين أيدينا، فأكلنا حتى شبعنا.

فقال لنا رسول الله : « إنا سألنا الله من فضله ورحمته فهذا فضله، وقد ادخر لنا عنده رحمته ».

حديث الذراع

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي إسحاق، حدثني رجل من بني غفار في مجلس سالم بن عبد الله قال: حدثني فلان أن رسول الله أتي بطعام من خبز ولحم.

فقال: « ناولني الذراع » فنوول ذراعا.

قال يحيى: لا أعلمه إلا هكذا ثم قال: « ناولني الذراع » فنوول ذراعا فأكلها.

ثم قال: « ناولني الذراع ».

فقال: يا رسول الله إنما هما ذراعان.

فقال: « وأبيك لو سكت ما زلت أناول منها ذراعا ما دعوت به »

فقال سالم: أما هذه فلا، سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله : « إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ».

هكذا وقع إسناد هذا الحديث، وهو عن مبهم عن مثله.

وقد روي من طرق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا أبو جعفر - يعني: الرازي - عن شرحبيل، عن أبي رافع مولى النبي قال: أهديت له شاة فجعلها في القدر، فدخل رسول الله فقال: « ما هذا يا أبا رافع؟ »

قال: شاة أهديت لنا يا رسول الله، فطبختها في القدر.

فقال: « ناولني الذراع يا أبا رافع ».

فناولته الذراع.

ثم قال: « ناولني الذراع الآخر »

فناولته الذراع الآخر.

ثم قال: « ناولني الذراع الآخر ».

فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان.

فقال رسول الله : « أما إنك لو سكت لناولتني ذراعا فذراعا ما سكت » ثم دعا بماء فمضمض فاه، وغسل أطراف أصابعه، ثم قام فصلى، ثم عاد إليهم فوجد عندهم لحما باردا فأكل، ثم دخل المسجد فصلى ولم يمس ماء.

طريق أخرى عن أبي رافع:

قال الإمام أحمد: ثنا مؤمل، ثنا حماد، حدثني عبد الرحمن ابن أبي رافع، عن عمته، عن أبي رافع قال: صنع لرسول الله شاة مصلية فأتى بها فقال لي: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فقلت: يا رسول الله وهل للشاة إلا ذراعان؟!

فقال: « لو سكت لناولتني منها ما دعوت به ».

قال: وكان رسول الله يعجبه الذراع.

قلت: ولهذا لما علمت اليهود - عليهم لعائن الله - بخيبر سموه في الذراع في تلك الشاة التي أحضرتها زينب اليهودية، فأخبره الذراع بما فيه السم لما نهس منه نهسة كما قدمنا ذلك في غزوة خيبر مبسوطا.

طريق أخرى:

قال الحافظ أبو يعلى: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، حدثني قائد مولى عبيد الله ابن أبي رافع قال: أتيت رسول الله يوم الخندق بشاة في مكتل فقال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فقلت: يا رسول الله أللشاة إلا ذراعان؟

فقال: « لو سكت ساعة ناولتنيه ما سألتك ».

فيه انقطاع من هذا الوجه.

وقال أبو يعلى أيضا: ثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا قايد مولى عبيد الله، حدثني عبيد الله أن جدته سلمى أخبرته أن النبي بعث إلى أبي رافع بشاة وذلك يوم الخندق فيما أعلم، فصلاها أبو رافع ليس معها خبز، ثم انطلق بها فلقيه النبي راجعا من الخندق فقال: « يا أبا رافع ضع الذي معك » فوضعه.

ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».

فقلت: يا رسول الله هل للشاة غير ذراعين؟

فقال: « لو سكت لناولتني ما سألتك ».

وقد روي من طريق أبي هريرة: قال الإمام أحمد: ثنا الضحاك، ثنا ابن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة أن شاة طبخت فقال رسول الله : « أعطني الذراع ».

فناولته إياه.

فقال: « أعطني الذراع ».

فناولته إياه.

ثم قال: « أعطني الذراع ».

فناولته إياه.

ثم قال: « أعطني الذراع ».

فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان؟

قال: « أما إنك لو التمستها لوجدتها ».

حديث آخر:

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله ونحن أربعون وأربعمائة نسأله الطعام، فقال النبي لعمر: « قم فأعطهم ».

فقال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصبية -.

قال وكيع: القيظ في كلام العرب أربعة أشهر -.

قال: « قم فأعطهم ».

قال: يا رسول الله سمعا وطاعة.

قال: فقام عمر وقمنا معه، فصعد بنا إلى غرفة له فأخرج المفتاح من حجزته ففتح الباب.

قال دكين فإذا في الغرفة من التمر شبيه بالفصيل الرابض.

قال: شأنكم.

قال: فأخذ كل رجل منا حاجته ما شاء، ثم التفت وإني لمن آخرهم فكأنا لم نرزأ منه تمرة.

ثم رواه أحمد عن محمد، ويعلى أبي عبيد عن إسماعيل - وهو ابن أبي خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم -، عن دكين به.

ورواه أبو داود عن عبد الرحيم بن مطرف الرواسي، عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل به.

حديث آخر:

قال علي بن عبد العزيز: ثنا أبو نعيم، ثنا حشرج بن نباتة، ثنا أبو نضرة، حدثني أبو رجاء قال: خرج رسول الله حتى دخل حائطا لبعض الأنصار فإذا هو برسول الله فقال رسول الله : « ما تجعل لي إن أرويت حائطك هذا؟ »

قال: إني أجهد أن أرويه فما أطيق ذلك.

فقال له رسول الله : « تجعل لي مائة تمرة أختارها من تمرك؟ »

قال: نعم.

فأخذ رسول الله الغرب فما لبث أن أرواه حتى قال الرجل: غرقت حائطي، فاختار رسول الله من تمره مائة تمره.

قال: فأكل هو وأصحابه حتى شبعوا، ثم رد عليه مائة تمرة كما أخذها.

هذا حديث غريب أورده الحافظ ابن عساكر في دلائل النبوة من أول تاريخه بسنده عن علي بن عبد العزيز البغوي كما أوردناه.

وقد تقدم في ذكر إسلام سلمان الفارسي ما كان من أمر النخيل التي غرسها رسول الله بيده الكريمة لسلمان، فلم يهلك منهن واحدة بل أنجب الجميع وكن ثلاثمائة، وما كان من تكثيره الذهب حين قلبه على لسانه الشريف حتى قضى منه سلمان ما كان عليه من نجوم كتابته وعتق - رضي الله عنه وأرضاه -.

باب انقياد الشجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قد تقدم الحديث الذي رواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن جابر بن عبد الله قال: سرنا مع النبي حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله يقضي حاجته، فأبتعته بإداوة من ماء فنظر فلم ير شيئا يستتر به، وإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها وقال: « انقادي علي بإذن الله » فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها وقال: « انقادي علي بإذن الله » فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما لأم بينهما - يعني: جمعهما - وقال: « التئما علي بإذن الله » فالتأمتا.

قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس بقربي فيبعد، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله مقبل، وإذا الشجرتان قد افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله وقف وقفة وقال برأسه: هكذا يمينا وشمالا، وذكر تمام الحديث في قصة الماء، وقصة الحوت الذي دسره البحر كما تقدم، ولله الحمد والمنة.

حديث آخر:

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي سفيان - وهو طلحة بن نافع - عن أنس قال: جاء جبريل إلى رسول الله ذات يوم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء من ضربة بعض أهل مكة قال: فقال له: مالك؟

فقال: « فعل بي هؤلاء وفعلوا ».

قال: فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟

قال: فقال: نعم.

قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: أدع تلك الشجرة فدعاها.

قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه.

فقال: مرها فلترجع، فأمرها فرجعت إلى مكانها.

فقال رسول الله : « حسبي ».

وهذا إسناد على شرط مسلم ولم يروه إلا ابن ماجه عن محمد بن طريف، عن أبي معاوية.

حديث آخر:

روى البيهقي من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله كان على الحجون كئيبا لما أذاه المشركون فقال: « اللهم أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها ».

قال: فأمر فنادى شجرة من قبل عقبة المدينة فأقبلت تخد الأرض حتى انتهت إليه.

قال: ثم أمرها فرجعت إلى موضعها.

قال: فقال: « ما أبالي من كذبني بعدها من قومي ».

ثم قال البيهقي: أنا الحاكم وأبو سعيد بن عمرو قالا: ثنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن مبارك ابن فضالة، عن الحسن قال: خرج رسول الله إلى بعض شعاب مكة وقد دخله من الغم ما شاء الله من تكذيب قومه إياه فقال: « يا رب أرني ما أطمئن إليه ويذهب عني هذا الغم » فأوحى الله إليه أدع إليك أي أغصان هذه الشجرة شئت.

قال: فدعا غصنا فانتزع من مكانه، ثم خد في الأرض حتى جاء رسول الله فقال له رسول الله: « ارجع إلى مكانك » فرجع، فحمد الله رسول الله وطابت نفسه.

وكان قد قال المشركون: أفضلت أباك وأجدادك يا محمد.

فأنزل الله: « أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون » الآيات.

وقال البيهقي: وهذا المرسل يشهد له ما قبله.

حديث آخر:

قال الإمام أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي ظبيان - وهو حصين بن جندب - عن ابن عباس قال: أتى النبي رجل من بني عامر فقال: يا رسول الله أرني الخاتم الذي بين كتفيك، فإني من أطب الناس.

فقال له رسول الله : « ألا أريك آية؟ »

قال: بلى.

قال: فنظر إلى نخلة فقال: « أدع ذلك العذق » فدعاه، فجاء ينقز بين يديه.

فقال له رسول الله : « ارجع » فرجع إلى مكانه.

فقال العامري: يا آل بني عامر ما رأيت كاليوم رجلا أسحر من هذا هكذا.

رواه الإمام أحمد.

وقد أسنده البيهقي من طريق محمد بن أبي عبيدة عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: جاء رجل من بني عامر إلى رسول الله فقال: إن عندي طبا وعلما فما تشتكي؟ هل يريبك من نفسك شيء إلى ما تدعو؟

قال: « أدعو إلى الله والإسلام ».

قال: فإنك لتقول قولا فهل لك من آية؟

قال: نعم إن شئت أريتك آية، وبين يديه شجرة فقال لغصن منها: « تعال يا غصن » فانقطع الغصن من الشجرة، ثم أقبل ينقز حتى قام بين يديه.

فقال: « ارجع إلى مكانك » فرجع.

فقال العامري: يا آل عامر بن صعصعة لا ألومك على شيء قلته أبدا.

وهذا يقتضي أنه سالم الأمر، ولم يجب من كل وجه.

وقد قال البيهقي: أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا ابن أبي قماش، ثنا ابن عائشة عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: ما هذا الذي يقول أصحابك؟

قال: وحول رسول الله أعذاق وشجر.

قال: فقال رسول الله: « هل لك أن أريك آية؟ »

قال: نعم.

قال: فدعا عذقا منها، فأقبل يخد الأرض حتى وقف بين يديه يخد الأرض ويسجد، ويرفع رأسه، حتى وقف بين يديه، ثم أمره فرجع.

قام العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة والله لا أكذبه بشيء يقوله أبدا.

طريق أخرى فيها أن العامري أسلم:

قال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو علي حامد بن محمد بن الوفا، أنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، أنا شريك عن سماك، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله قال: بما أعرف أنك رسول الله؟

قال: « أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟ »

قال: نعم.

قال: فدعا العذق، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض، فجعل ينقز حتى أتى رسول الله ثم قال له: « ارجع » فرجع حتى عاد إلى مكانه.

فقال: أشهد أنك رسول الله وآمن.

قال البيهقي: رواه البخاري في التاريخ عن محمد بن سعيد الأصبهاني.

قلت: ولعله قال أولا: إنه سحر، ثم تبصر لنفسه فأسلم وآمن لما هداه الله عز وجل، والله أعلم.

حديث آخر عن أبي عمر في ذلك:

قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الوراق، أنا الحسين بن سفيان، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، ثنا محمد بن فضيل عن أبي حيان، عن عطاء، عن ابن عمر قال: كنا مع رسول الله في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله: « أين تريد؟ »

قال: إلى أهلي.

قال: « هل لك إلى خير؟ »

قال: ما هو؟

قال: « تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله ».

قال: هل من شاهد على ما تقول؟

قال: « هذه الشجرة ».

فدعاها رسول الله وهي على شاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا فقامت بين يديه، فاستشهد ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك.

وهذا إسناد جيد، ولم يخرجوه، ولا رواه الإمام أحمد، والله أعلم.

باب حنين الجزع شوقا إلى رسول الله وشغفا من فراقه

[عدل]

وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان.

الحديث الأول عن أبي كعب:

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال: كان النبي يصلي إلى جذع نخلة إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع.

فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة فتسمع الناس خطبتك؟

قال: « نعم ».

فصنع له ثلاث درجات هن اللاتي على المنبر، فلما صنع المنبر ووضع موضعه الذي وضعه فيه رسول الله بدا للنبي أن يقوم على ذلك المنبر فيخطب عليه فمر إليه، فلما جاوز ذلك الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تصدع وانشق، فنزل النبي لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه - فكان عنده حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا.

وهكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل، عن أبي بن كعب فذكره، وعنده فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، وكان إذا صلى صلى إليه، والباقي مثله.

وقد رواه ابن ماجه عن إسمعيل بن عبد الله الرقي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي به.

الحديث الثاني عن أنس بن مالك:

قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو خيثمة، ثنا عمرو بن يونس الحنفي، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب الناس.

فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله على المنبر خار كخوار الثور، ارتج لخواره حزنا على رسول الله، فنزل إليه رسول الله من المنبر فالتزمه وهو يخور فلما التزمه سكت.

ثم قال: « والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى يوم القيامة حزنا على رسول الله ».

فأمر به رسول الله فدفن.

وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن عمر بن يونس به وقال: صحيح غريب من هذا الوجه.

طريق أخرى عن أنس:

قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: ثنا هدبة، ثنا حماد عن ثابت عن أنس، عن النبي أنه كان يخطب إلى جذع نخلة فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن، فجاء رسول الله حتى احتضنه فسكن وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».

وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن خلاد، عن بهز بن أسد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، وعن حماد، عن عمار ابن أبي عمار، عن ابن عباس به، وهذا إسناد على شرط مسلم.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا المبارك عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: « ابنوا لي منبرا » - أراد أن يسمعهم - فبنوا له عتبتين فتحول من الخشبة إلى المنبر.

قال: فأخبر أنس بن مالك أنه سمع الخشبة تحن حنين الواله.

قال: فما زالت تحن حتى نزل رسول الله عن المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكنت.

تفرد به أحمد.

وقد رواه أبو القاسم البغوي عن شيبان بن فروخ، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس فذكره.

وزاد: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إليه لمكانه من الله فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.

وقد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث الوليد بن مسلم عن سالم بن عبد الله الخياط، عن أنس بن مالك، فذكره.

طريق أخرى عن أنس:

قال أبو نعيم: ثنا أبو بكر ابن خلاد، ثنا الحارث بن محمد ابن أبي أسامة، ثنا يعلى بن عباد، ثنا الحكم عن أنس قال: كان رسول الله يخطب إلى جذع فحن الجذع فاحتضنه وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».

الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله:

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه، عن جابر قال: كان رسول الله يخطب إلى جذع نخلة.

قال: فقالت امرأة من الأنصار - وكان لها غلام نجار -: يا رسول الله إن لي غلاما نجارا أفآمره أن يتخذ لك منبرا تخطب عليه؟

قال: « بلى ».

قال: فاتخذ له منبرا.

قال: فلما كان يوم الجمعة خطب على المنبر.

قال: فأن الجذع الذي كان يقوم عليه كما يئن الصبي.

فقال النبي : « إن هذا بكى لما فقد من الذكر » هكذا رواه أحمد.

وقد قال البخاري: ثنا عبد الواحد بن أيمن قال: سمعت أبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة.

فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟

قال: « إن شئتم ».

فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن.

قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.

وقد ذكره البخاري في غير ما موضع من صحيحه من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه - وهو أيمن الحبشي المكي مولى ابن أبي عمرة المخزومي، عن جابر به.

طريق أخرى عن جابر:

قال البخاري: ثنا إسماعيل، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، حدثني حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي فوضع يده عليها فسكنت.

تفرد به البخاري.

طريق أخرى عنه:

قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو المساور، ثنا أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح - وهو ذكوان - عن جابر بن عبد الله، وعن إسحاق عن كريب، عن جابر قال: كانت خشبة في المسجد يخطب إليها النبي .

فقالوا: لو اتخذنا لك مثل الكرسي تقوم عليه؟

ففعل، فحنت الخشبة كما تحن الناقة الحلوج فأتاه فاحتضنها فوضع يده عليها فسكنت.

قال أبو بكر البزار: وأحسب أنا قد حدثناه عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر، وعن أبي إسحاق عن كريب، عن جابر بهذه القصة التي رواها أبو المساور عن أبي عوانة، وحدثناه محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد ابن أبي كريب، عن جابر، عن النبي بنحوه.

والصواب إنما هو سعيد ابن أبي كريب، وكريب خطأ، ولا يعلم يروي عن سعيد ابن أبي كريب إلا أبا إسحاق.

قلت: ولم يخرجوه من هذا الوجه، وهو جيد.

طريق أخرى عن جابر:

قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد ابن أبي كريب، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي يخطب إلى خشبة، فلما جعل له منبر حنت حنين الناقة فأتاها فوضع يده عليها فسكنت.

تفرد به أحمد.

طريق أخرى عن جابر:

قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن معمر، ثنا محمد بن كثير، ثنا سليمان بن كثير عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي يقوم إلى جذع قبل أن يجعل له المنبر فلما جعل المنبر حن الجذع حتى سمعنا حنينه فمسح رسول الله يده عليه فسكن.

قال البزار: لا نعلم رواه عن الزهري إلا سليمان بن كثير.

قلت: وهذا إسناد جيد رجاله على شرط الصحيح، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة.

وقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل: ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن رجل سماه، عن جابر.

ثم أورده من طريق أبي عاصم بن علي: عن سليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر مثله.

ثم قال: ثنا أبو بكر ابن خلاد، ثنا أحمد بن علي الخراز، حدثنا عيسى بن المساور، ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر أن رسول الله كان يخطب إلى جذع فلما بني المنبر حن الجذع فاحتضنه فسكن وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».

ثم رواه من حديث أبي عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر، وعن أبي إسحاق، عن كريب، عن جابر مثله.

طريق أخرى عن جابر:

قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج وروح قال: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كان النبي إذا خطب يستند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له منبره واستوى عليه فاضطربت تلك السارية كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل إليها رسول الله فاعتنقها، فسكنت.

وقال روح: فسكتت، وهذا إسناد على شرط مسلم ولم يخرجوه.

طريق أخرى عن جابر:

قال الإمام أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن سليمان، عن أبي نضرة، عن جابر قال: كان رسول الله يقوم في أصل شجرة - أو قال: إلى جذع - ثم اتخذ منبرا.

قال: فحن الجذع.

قال جابر: حتى سمعه أهل المسجد حتى أتاه رسول الله فمسحه فسكن.

فقال بعضهم: لو لم يأته لحن إلى يوم القيامة.

وهذا على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه عن بكير بن خلف، عن ابن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطفة العبدي النضري، عن جابر به.

الحديث الرابع عن سهل بن سعد:

قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا سفيان بن عيينة عن أبي حازم قال: أتوا سهل بن سعد فقالوا: من أي شيء منبر رسول الله -

فقال: كان رسول الله - - يستند إلى جذع في المسجد يصلي إليه إذا خطب، فلما اتخذ المنبر فصعد حن الجذع حتى أتاه رسول الله - - فوطنه حتى سكن.

وأصل هذا الحديث في الصحيحين وإسناده على شرطهما.

وقد رواه إسحاق بن راهويه وابن أبي فديك عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده.

ورواه عبد الله بن نافع وابن وهب عن عبد الله بن عمر، عن ابن عباس بن سهل، عن أبيه فذكره.

ورواه ابن لهيعة عن عمارة بن عرفة، عن ابن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه بنحوه.

الحديث الخامس عن عبد الله بن عباس:

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر وتحول إليه حن عليه فأتاه فاحتضنه فسكن قال: « ولو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».

وهذا الإسناد على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه من حديث حماد بن سلمة.

الحديث السادس عن عبد الله بن عمر:

قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن كثير أبو غسان، ثنا أبو حفص - واسمه عمر بن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء - قال: سمعت نافعا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه.

وقال عبد الحميد: أنا عثمان بن عمر، أنا معاذ بن العلاء عن نافع بهذا.

ورواه أبو عاصم عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي هكذا ذكره البخاري.

وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي الفلاس، عن عثمان بن عمرو ويحيى بن كثير، عن أبي غسان العنبري، كلاهما عن معاذ بن العلاء به وقال: حسن صحيح غريب.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في أطرافه: ورواه علي بن نصر بن علي الجهضمي، وأحمد بن خالد الخلال، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في آخرين عن عثمان بن عمر، عن معاذ بن العلاء قال: وعبد الحميد هذا - يعني: الذي ذكره البخاري - يقال: إنه عبد بن حميد، والله أعلم.

قال شيخنا: وقد قيل: إن قول البخاري عن أبي حفص - واسمه عمرو بن العلاء - وهم، والصواب معاذ ابن العلاء كما وقع في رواية الترمذي.

قلت: وليس هذا ثابتا في جميع النسخ، ولم أر في النسخ التي كتبت منها تسميته بالكلية، والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر، ومن حديث أبي عاصم عن ابن أبي رواد، كلاهما عن نافع عن ابن عمر قال: قال تميم الداري: ألا نتخذ لك منبرا فذكر الحديث.

طريق أخرى عن ابن عمر:

قال الإمام أحمد: ثنا حسين، ثنا خلف عن أبي خباب - وهو يحيى ابن أبي حية - عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال: كان جذع نخلة في المسجد يسند رسول الله ظهره إليه إذا كان يوم جمعة، أو حدث أمر يريد أن يكلم الناس.

فقالوا: ألا نجعل لك يا رسول الله شيئا كقدر قيامك؟

قال: « لا عليكم أن تفعلوا »

فصنعوا له منبرا ثلاث مراقي.

قال: فجلس عليه.

قال: فخار الجذع كما تخور البقرة جزعا على رسول الله فالتزمه ومسحه حتى سكن.

تفرد به أحمد.

الحديث السابع عن أبي سعيد الخدري:

قال عبد بن حميد الليثي: ثنا علي بن عاصم عن الجريري، عن أبي نضرة العبدي، حدثني أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله يخطب يوم الجمعة إلى جذع نخلة.

فقال له الناس: يا رسول الله إنه قد كثر الناس - يعني: المسلمين - وإنهم ليحبون أن يروك فلو اتخذت منبرا تقوم عليه ليراك الناس.

قال: « نعم من يجعل لنا هذا المنبر؟ ».

فقام إليه رجل فقال: أنا.

قال: « تجعله »

قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.

قال: « ما اسمك؟ »

قال: فلان.

قال: « أقعد »

فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »

فقام إليه رجل فقال: أنا.

فقال: « تجعله »

قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.

قال: « ما اسمك؟ »

قال: فلان.

قال: « أقعد ».

فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »

فقام إليه رجل فقال: أنا.

قال: « تجعله؟ »

قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.

قال: « ما اسمك؟ »

قال: فلان.

قال: « أقعد »

فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »

فقام إليه رجل فقال: أنا.

قال: « تجعله؟ »

قال: نعم إن شاء الله.

قال: « ما اسمك؟ »

قال: إبراهيم.

قال: « اجعله »

فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس للنبي في آخر المسجد فلما صعد رسول الله المنبر فاستوى عليه فاستقبل الناس وحنت النخلة حتى أسمعتني وأنا في آخر المسجد.

قال: فنزل رسول الله عن المنبر فاعتنقها فلم يزل حتى سكنت، ثم عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « إن هذه النخلة إنما حنت شوقا إلى رسول الله لما فارقها، فوالله لو لم أنزل إليها فأعتنقها لما سكنت إلى يوم القيامة ».

وهذا إسناد على شرط مسلم، ولكن في السياق غرابة، والله تعالى أعلم.

طريق أخرى عن أبي سعيد:

قال الحافظ أبو يعلى: ثنا مسروق بن المرزبان، ثنا زكريا عن مجالد عن أبي الوداك - وهو جبر بن نوف - عن أبي سعيد قال: كان النبي يقوم إلى خشبة يتوكأ عليها يخطب كل جمعة، حتى أتاه رجل من الروم فقال: إن شئت جعلت لك شيئا إذا قعدت عليه كنت كأنك قائم؟

قال: « نعم »

قال: فجعل له المنبر فلما جلس عليه حنت الخشبة حنين الناقة على ولدها حتى نزل النبي فوضع يده عليها، فلما كان الغد رأيتها قد حولت.

فقلنا: ما هذا؟

قالوا: جاء رسول الله - - وأبو بكر وعمر البارحة فحولوها.

وهذا غريب أيضا.

الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها:

رواه الحافظ من حديث علي بن أحمد الحوار عن قبيصة، عن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة، فذكر الحديث بطوله، وفيه أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة وغار حتى ذهب فلم يعرف، هذا حديث غريب إسنادا ومتنا.

الحديث التاسع عن أم سلمة -رضي الله عنها -:

روى أبو نعيم من طريق شريك القاضي وعمرو ابن أبي قيس ومعلى بن هلال ثلاثتهم عن عمار الذهبي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة قالت: كان لرسول الله خشبة يستند إليها إذا خطب، فصنع له كرسي أو منبر فلما فقدته خارت كما يخور الثور حتى سمع أهل المسجد، فأتاها رسول الله فسكنت، هذا لفظ شريك.

وفي رواية معلى بن هلال: أنها كانت من دوم، وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.

وقد روى الإمام أحمد والنسائي من حديث عمار الذهبي عن أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله : « قوائم منبري في زاوية في الجنة ».

وروى النسائي أيضا بهذا الإسناد: « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ».

فهذه الطرق من هذه الوجوه تفيد القطع بوقوع ذلك عند أئمة هذا الفن، وكذا من تأملها وأنعم فيها النظر والتأمل مع معرفته بأحوال الرجال وبالله المستعان.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد ابن أبي الحسن، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي قال: قال أبي - يعني أبا حاتم الرازي -: قال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا .

فقلت له: أعطى عيسى إحياء الموتى.

فقال: أعطى محمدا الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيء له المنبر، فلما هيء له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك.

باب تسبيح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام

[عدل]

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا الكديمي، ثنا قريش بن أنس، ثنا صالح ابن أبي الأخضر عن الزهري، عن رجل يقال له: سويد بن يزيد السلمي قال: سمعت أبا ذر يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته كنت رجلا أتبع خلوات رسول الله ، فرأيته يوما جالسا وحده فاغتنمت خلوته فجئت حتى جلست إليه فجاء أبو بكر فسلم عليه، ثم جلس عن يمين رسول الله ، ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فسلم ثم جلس عن يمين عمر وبين يدي رسول الله سبع حصيات - أو قال: تسع حصيات - فأخذهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في كف أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن فقال النبي : « هذه خلافة النبوة ».

قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يسار عن قريش بن أنس، عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظا، والمحفوظ عن أبي حمزة، عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد هذا الحديث عن أبي ذر هكذا.

قال البيهقي: وقد قال محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات التي جمع فيها أحاديث الزهري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر أنه بينما هو قاعد يوما في ذلك المجلس وأبو ذر في المجلس إذ ذكر عثمان بن عفان، يقول السلمي: فأنا أظن أن في نفس أبي ذر على عثمان معتبة لإنزاله إياه بالربذة، فلما ذكر له عثمان عرض له أهل العلم بذلك وهو يظن أن في نفسه عليه معتبة، فلما ذكره قال: لا تقل في عثمان إلا خيرا، فإني أشهد لقد رأيت منه منظرا وشهدت منه مشهدا لا أنساه حتى أموت، كنت رجلا ألتمس خلوات النبي لأسمع منه أو لآخذ عنه، فهجرت يوما من الأيام فإذا النبي قد خرج من بيته، فسألت عنه الخادم فأخبرني أنه في بيت فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكأني حينئذ أرى أنه في وحي، فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: « ما جاء بك؟ »

فقلت: جاء بي الله ورسوله، فأمرني أن أجلس، فجلست إلى جنبه لا أسأله عن شيء ولا يذكره لي، فمكثت غير كثير فجاء أبو بكر يمشي مسرعا فسلم عليه، فرد السلام ثم قال: « ما جاء بك؟ »

قال: جاء بي الله ورسوله، فأشار بيده أن اجلس، فجلس إلى ربوة مقابل النبي بينه وبينها الطريق، حتى إذا استوى أبو بكر جالسا فأشار بيده، فجلس إلى جنبي عن يميني، ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، وقال له رسول الله مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر على تلك الربوة، ثم جاء عثمان فسلم، فرد السلام وقال: « ما جاء بك؟ »

قال: جاء بي الله ورسوله، فأشار إليه بيده فقعد إلى الربوة، ثم أشار بيده فقعد إلى جنب عمر، فتكلم النبي بكلمة لم أفقه أولها غير أنه قال: « قليل ما يبقين » ثم قبض على حصيات سبع أو تسع أو قريب من ذلك، فسبحن في يده حتى سمع لهن حنينا كحنين النخل في كف النبي ، ثم ناولهن أبا بكر وجاوزني فسبحن في كف أبي بكر كما سبحن في كف النبي ، ثم أخذهن منه فوضعهن في الأرض فخرسن فصرن حصا، ثم ناولهن عمر فسبحن في كفه كما سبحن في كف أبي بكر، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبحن في كفه نحو ما سبحن في كف أبي بكر وعمر، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن.

قال الحافظ ابن عساكر: رواه صالح ابن أبي الأخضر عن الزهري فقال عن رجل يقال له: سويد بن يزيد السلمي، وقول شعيب أصح.

وقال أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة: وقد روى داود ابن أبي هند عن الوليد بن عبد الرحمن الحرشي، عن جبير بن نفير، عن أبي ذر مثله.

ورواه شهر بن حوشب وسعيد بن المسيب عن أبي سعيد قال: وفيه عن أبي هريرة، وقد تقدم ما رواه البخاري: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.

حديث آخر في ذلك:

روى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد ابن أبي وقاص قال: حدثني أبو أمي مالك بن حمزة ابن أبي أسيد الساعدي عن أبيه، عن جده أبي أسيد الساعدي قال: قال رسول الله للعباس بن عبد المطلب: « يا أبا الفضل لا ترم منزلك غدا أنت وبنوك حتى آتيكم فإنل لي فيكم حاجة ».

فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى فدخل عليهم فقال: « السلام عليكم »

فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

قال: « كيف أصبحتم؟ »

قالوا: أصبحنا بخير نحمد الله فكيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله؟

قال: « أصبحت بخير أحمد الله » فقال لهم: « تقاربوا تقاربوا، يزحف بعضكم إلى بعض ».

حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته وقال: « يا رب هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كسترتي إياهم بملاءتي هذه ».

وقال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين.

وقد رواه أبو عبد الله بن ماجه في سننه مختصرا عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حاتم الهروي، عن عبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد ابن أبي وقاص الوقاصي الزهري، روى عنه جماعة وقد قال ابن معين: لا أعرفه.

وقال أبو حاتم: يروي أحاديث مشبهة.

حديث آخر:

قال الإمام أحمد: ثنا يحيى ابن أبي بكير، ثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : « إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن ».

رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن يحيى ابن أبي بكير به.

ورواه أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ، عن سماك به.

حديث آخر:

قال الترمذي: ثنا عباد بن يعقوب الكوفي، ثنا الوليد ابن أبي ثور عن السدي، عن عباد ابن أبي يزيد، عن علي ابن أبي طالب قال: كنت مع النبي بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.

ثم قال: وهذا حديث حسن غريب، وقد رواه غير واحد عن الوليد ابن أبي ثور، وقالوا عن عباد ابن أبي يزيد منهم: فروة ابن أبي الفرا.

ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث زياد بن خيثمة عن السدي، عن أبي عمارة الحيواني، عن علي قال: خرجت مع رسول الله فجعل لا يمر على شجر ولا حجر إلا سلم عليه.

وقدمنا في المبعث أنه عليه السلام لما رجع وقد أوحي إليه جعل لا يمر بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا قال له: السلام عليك يا رسول الله.

وذكرنا في وقعة بدر، ووقعة حنين رميه عليه السلام بتلك القبضة من التراب وأمره أصحابه أن يتبعوها بالحملة الصادقة فيكون النصر والظفر، والتأييد عقب ذلك سريعا، أما في وقعة بدر فقد قال الله تعالى في سياقها في سورة الأنفال: « وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى » الآية.

وأما في غزوة حنين فقد ذكرناه في الأحاديث بأسانيده وألفاظه بما أغني عن إعادته ههنا، ولله الحمد والمنة.

حديث آخر:

ذكرنا في غزوة الفتح أن رسول الله لما دخل المسجد الحرام فوجد الأصنام حول الكعبة فجعل يطعنها بشيء في يده ويقول: « جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، قل: جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ».

وفي رواية أنه جعل لا يشير إلى صنم منها إلا خر لقفاه، وفي رواية: إلا سقط.

وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر وأحمد بن عيسى اللخمي قالا: ثنا بشر بن بكير، أنا الأوزاعي عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله وأنا مستترة بقرام فهتكه، ثم قال: « إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله ».

قال الأوزاعي: وقالت عائشة: أتى رسول الله بترس فيه تمثال عقاب فوضع عليه يده فأذهبه الله عز وجل.

باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة

[عدل]

قصة البعير الناد وسجوده له، وشكواه إليه.

قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، ثنا خلف بن خليفة عن حفص - هو ابن عمر - عن عمه أنس بن مالك قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل.

فقال رسول الله لأصحابه: « قوموا » فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته، فمشى النبي نحوه.

فقالت الأنصار: يا رسول الله إنه قد صار مثل الكلب الكلب وإنا نخاف عليك صولته.

فقال: « ليس علي منه بأس ».

فلما نظر الجمل إلى رسول الله أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله بناصيته أذل ما كانت قط حتى أدخله في العمل.

فقال له أصحابه: يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن أحق أن نسجد لك.

فقال: « لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تتفجر بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه ».

وهذا إسناد جيد، وقد روى النسائي بعضه من حديث خلف بن خليفة به.

رواية جابر في ذلك:

قال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام سمعته من أبي مرتين، ثنا الأجلح عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال: أقبلنا مع رسول الله من سفر حتى إذا دفعنا إلى حائط من حيطان بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، قال: فذكروا ذلك لرسول الله ، فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير فجاء واضعا مشفره إلى الأرض حتى برك بين يديه.

قال: فقال رسول الله : « هاتوا خطاما » فخطمه ودفعه إلى صاحبه.

قال: ثم التفت إلى الناس فقال: « إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس ».

تفرد به الإمام أحمد، وسيأتي عن جابر من وجه أخر، بسياق آخر إن شاء الله، وبه الثقة.

رواية ابن عباس:

قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا بشر بن موسى، ثنا يزيد بن مهران أخو خالد الجيار، ثنا أبو بكر ابن عياش عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن ابن عباس قال: جاء قوم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إن لنا بعيرا قد ند في حائط.

فجاء إليه رسول الله فقال: « تعال » فجاء مطأطئا رأسه حتى خطمه، وأعطاه أصحابه.

فقال له أبو بكر الصديق: يا رسول الله كأنه علم أنك نبي.

فقال رسول الله : « ما بين لابتيها أحد إلا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس ».

وهذا من هذا الوجه عن ابن عباس غريب جدا، والأشبه رواية الإمام أحمد عن جابر، اللهم إلا أن يكون الأجلح قد رواه عن الذيال عن جابر عن ابن عباس، والله أعلم.

طريق أخرى عن ابن عباس:

قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا أبو عون الزيادي، ثنا أبو عزة الدباغ عن أبي يزيد المديني، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار كان له فحلان فاغتلما فأدخلهما حائطا فسد عليهما الباب، ثم جاء إلى رسول الله فأراد أن يدعو له، والنبي قاعد معه نفر من الأنصار.

فقال: يا نبي الله إني جئت في حاجة فإن فحلين لي اغتلما، وإني أدخلتهما حائطا وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما الله لي.

فقال لأصحابه: « قوموا معنا » فذهب حتى أتى الباب فقال: « افتح » فأشفق الرجل على النبي .

فقال: إفتح ففتح الباب فإذا أحد الفحلين قريبا من الباب فلما رأى رسول الله سجد له.

فقال رسول الله: « إئت بشيء أشد رأسه وأمكنك منه » فجاء بخطام فشد رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر فلما رآه وقع له ساجدا.

فقال للرجل: « إئتني بشيء أشد رأسه » فشد رأسه وأمكنه منه.

فقال: « إذهب فإنهما لا يعصيانك ».

فلما رأى أصحاب رسول الله ذلك قالوا: يا رسول الله هذان فحلان سجدا لك أفلا نسجد لك؟

قال: « لا آمر أحدا أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».

وهذا إسناد غريب، ومتن غريب.

ورواه الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه دلائل النبوة عن أحمد بن حمدان السحري، عن عمر بن محمد بن بجير البحتري، عن بشر بن آدم، عن محمد بن عون أبي عون الزيادي به.

وقد رواه أيضا من طريق مكي بن إبراهيم عن قائد أبي الورقاء، عن عبد الله ابن أبي أوفى، عن النبي بنحو ما تقدم، عن ابن عباس.

رواية أبي هريرة:

قال أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه: أخبرنا أحمد بن حمدان، أنا عمر بن محمد بن بجير، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: انطلقنا مع رسول الله إلى ناحية، فأشرفنا إلى حائط فإذا نحن بناضح فلما أقبل الناضح رفع رأسه فبصر برسول الله فوضع جرانه على الأرض.

فقال أصحاب رسول الله : فنحن أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة.

فقال: « سبحان الله أدون الله؟ ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله، ولو أمرت أحد أن يسجد لشيء من دون الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».

رواية عبد الله بن جعفر في ذلك:

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا مهدي بن ميمون عن محمد ابن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر.

ح، وثنا بهز وعفان قالا: ثنا مهدي، ثنا محمد ابن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا لا أخبر به أحدا أبدا، وكان رسول الله أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، فدخل يوما حائطا من حيطان الأنصار فأتى جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه.

وقال بهز وعفان: فلما رأى رسول الله حن وذرفت عيناه فمسح رسول الله سراته وذفراه فسكن فقال: « من صاحب الجمل؟ »

فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله.

فقال: « أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله لك إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه ».

وقد رواه مسلم من حديث مهدي بن ميمون به.

رواية عائشة أم المؤمنين في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد وعفان قالا: ثنا حماد - هو ابن سلمة - عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة أن رسول الله كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له.

فقال أصحابه: يا رسول الله تسجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك.

فقال: « اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبل أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أبيض كان ينبغي لها أن تفعله ».

وهذا الإسناد على شرط السنن.

وإنما روى ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد به: « لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » إلى آخره.

رواية يعلى بن مرة الثقفي أو هي قصة أخرى:

قال الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة الخزاعي، ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن حبيب ابن أبي جبيرة، عن يعلى بن سيابة قال: كنت مع النبي في مسير له فأراد أن يقضي حاجته فأمر وديتين فانضمت إحداهما إلى الأخرى، ثم أمرهما فرجعتا إلى منابتهما، وجاء بعير فضرب بجرانه إلى الأرض ثم جرجر حتى ابتل ما حوله.

فقال رسول الله - -: « أتدرون ما يقول البعير؟ إنه يزعم أن صاحبه يريد نحره ».

فبعث إليه رسول الله فقال: « أواهبه أنت لي؟ »

فقال: يا رسول الله مالي مال أحب إلي منه.

فقال: « استوص به معروفا ».

فقال: لا جرم لا أكرم مالا لي كرامته يا رسول الله.

قال: وأتى على قبر يعذب صاحبه.

فقال: « إنه يعذب في غير كبير » فأمر بجريدة فوضعت على قبره وقال: « عسى أن يخفف عنه ما دامت رطبة ».

طريق أخرى عنه:

قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن جعفر، عن يعلى بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله : بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه، فوقف عليه النبي فقال: « أين صاحب هذا البعير؟ »

فجاء فقال: « بعنيه »

فقال: لا بل أهبه لك.

فقال: « لا بل بعنيه ».

قال: لا بل نهبه لك إنه لأهل بيت مالهم معيشة غيره.

قال: « أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكى لكثرة العمل، وقلة العلف فأحسنوا إليه ».

قال: ثم سرنا فنزلنا منزلا فنام رسول الله فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له فقال: « هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم على رسول الله فأذن لها ».

قال: فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة فأخذ النبي بمنخره فقال: « أخرج إني محمد رسول الله ».

قال: ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته امرأة بجزر ولبن، فأمرها أن ترد الجزر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبي.

فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك.

طريق أخرى عنه:

قال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نمير، ثنا عثمان بن حكيم، أخبرني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن يعلى بن مرة قال: لقد رأيت رسول الله ثلاثا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي: لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة.

قال: « ناولينيه » فرفعته إليه فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا وقال: « بسم الله أنا عبد الله إخسأ عدو الله » ثم ناولها إياه.

فقال: « إلقينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل ».

قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث.

فقال: « ما فعل صبيك؟ »

فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة فاجترر هذه الغنم.

قال: « إنزل فخذ منها واحدة ورد البقية ».

قال: وخرجت ذات يوم إلى الجبانة حتى إذا برزنا قال: « ويحك انظر هل ترى من شيء يواريني؟ »

قلت: ما أرى شيئا يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك.

قال: « فما بقربها؟ »

قلت: شجرة مثلها، أو قريب منها.

قال: « فاذهب إليهما فقل: إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا بإذن الله ».

قال: فاجتمعتا فبرز لحاجته، ثم رجع فقال: « اذهب إليهما فقل لهما: إن رسول الله يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها » فرجعت.

قال: وكنت معه جالسا ذات يوم إذ جاء جمل نجيب حتى صوى بجرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه فقال: « ويحك أنظر لمن هذا الجمل، إن له لشأنا؟ »

قال: فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إليه.

فقال: « ما شأن الجمل هذا؟ »

فقال: وما شأنه؟

قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه.

قال: « فلا تفعل هبه لي أو بعنيه »

قال: بل هو لك يا رسول الله، فوسمه بسمة الصدقة، ثم بعث به.

طريق أخرى عنه:

قال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا الأعمش بن المنهال عن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن النبي أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم.

فقال رسول الله : « أخرج عدو الله، أنا رسول الله ».

قال: فبرأ، فأهدت إليه كبشين وشيئا من أقط، وشيئا من سمن.

قال: فقال رسول الله: « خذ الأقط والسمن وأحد الكبشين، ورد عليها الآخر ».

ثم ذكر قصة الشجرتين كما تقدم.

وقال أحمد: ثنا أسود، ثنا أبو بكر ابن عياش عن حبيب ابن أبي عمرة، عن المنهال بن عمرو، عن يعلى قال: ما أظن أن أحدا من الناس رأى رسول الله إلا دون ما رأيت، فذكر أمر الصبي، والنخلتين، وأمر البعير إلا أنه قال: « ما لبعيرك يشكوك؟ زعم أنك سانيه حتى إذا كبر تريد نحره »

قال: صدقت والذي بعثك بالحق، قد أردت ذلك والذي بعثك بالحق لا أفعل.

طريق أخرى عنه:

روى البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، ثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا حمدان بن الأصبهاني، ثنا يزيد عن عمرو بن عبد الله بن يعلى بن مرة، عن أبيه، عن جده قال: رأيت من رسول الله ثلاثة أشياء ما رآها أحد قبلي: كنت معه في طريق مكة فمر بامرأة معها ابن لها به لمم ما رأيت لمما أشد منه.

فقالت: يا رسول الله ابني هذا كما ترى.

فقال: « إن شئت دعوت له » فدعا له.

ثم مضى فمر على بعير ناد جرانه يرغو فقال: « علي بصاحب هذا البعير » فجيء به فقال: « هذا يقول: نتجت عندهم فاستعملوني حتى إذا كبرت عندهم أرادوا أن ينحروني ».

قال: ثم مضى ورأى شجرتين متفرقتين فقال لي: « إذهب فمرهما فليجتمعا لي ».

قال: فاجتمعتا فقضى حاجته.

قال: ثم مضى، فلما انصرف مر على الصبي وهو يلعب مع الغلمان وقد ذهب ما به وهيأت أمه أكبشا فأهدت له كبشين وقالت: ما عاد إليه شيء من اللمم.

فقال النبي : « ما من شيء إلا ويعلم أني رسول الله إلا كفرة أو فسقة الجن والإنس ».

فهذه طرق جيدة متعددة تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين، أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة، وقد تفرد بهذا كله الإمام أحمد دون أصحاب الكتب الستة، ولم يرو أحد منهم شيئا سوى ابن ماجه فإنه روى عن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن يحيى بن سليم، عن خيثم، عن يونس بن خباب، عن يعلى بن مرة أن رسول الله كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد.

وقد اعتنى الحافظ أبو نعيم بحديث البعير في كتابه: دلائل النبوة وطرقه من وجوه كثيرة، ثم أورد حديث عبد الله بن قرط اليماني قال: جيء رسول الله بست زود فجعلن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ.

وقد قدمت الحديث في حجة الوداع.

قلت: قد أسلفنا عن جابر بن عبد الله نحو قصة الشجرتين، وذكرنا آنفا عن غير واحد من الصحابة نحوا من حديث الجمل لكن بسياق يشبه أن يكون غير هذا، فالله أعلم.

وسيأتي حديث الصبي الذي كان يصرع ودعاؤه عليه السلام له وبرؤه في الحال من طرق أخرى.

وقد روى الحافظ البيهقي عن أبي عبد الله الحاكم وغيره، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: خرجت مع رسول الله في سفر، وكان رسول الله إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه أحد فنزلنا منزلا بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر.

فقال لي: يا جابر خذ الأداوة وانطلق بنا، فملأت الأداوة ماء وانطلقنا فمشينا حتى لا نكاد نرى فأتى شجرتان بينهما أذرع فقال رسول الله : « يا جابر انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله: الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما » ففعلت فرجعت فلحقت بصاحبتها فجلس خلفها حتى قضى حاجته، ثم رجعنا فركبنا رواحلنا فسرنا كأنما على رؤسنا الطير تظلنا، وإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول الله فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات لا يدعه، فوقف رسول الله فتناوله فجعله بينه وبين مقدمة الرحل فقال: « إخسأ عدو الله، أنا رسول الله » وأعاد ذلك ثلاث مرات ثم ناولها إياه، فلما رجعنا وكنا بذلك الماء عرضت لنا تلك المرأة ومعها كبشان تقودهما والصبي تحمله.

فقالت: يا رسول الله إقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق إن عاد إليه بعد.

فقال رسول الله : « خذوا أحدهما وردوا الآخر ».

قال: ثم سرنا ورسول الله بيننا فجاء جمل ناد فلما كان بين السماطين خر ساجدا.

فقال رسول الله : « يا أيها الناس من صاحب هذا الجمل؟ »

فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله.

قال: « فما شأنه؟ »

قالوا: سنونا عليه منذ عشرين سنة، فلما كبرت سنه وكانت عليه شحيمة أردنا نحره لنقسمه بين غلمتنا.

فقال رسول الله : « تبيعونيه؟ »

قالوا: يا رسول الله هو لك.

قال: « فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله ».

قالوا: يا رسول الله نحن أحق أن نسجد لك من البهائم.

فقال رسول الله : « لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن ».

وهذا إسناد جيد رجاله ثقات.

وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث إسماعيل بن عبد الملك ابن أبي الصفراء عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله كان إذا ذهب المذهب أبعد.

ثم قال البيهقي: وحدثنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا الحسين بن علي بن زياد، ثنا أبو حمنة، ثنا أبو قرة عن زياد - هو ابن سعد - عن أبي الزبير أنه سمع يونس بن خباب الكوفي يحدث أنه سمع أبا عبيدة يحدث: عن عبد الله بن مسعود، عن النبي أنه كان في سفر إلى مكة فذهب إلى الغائط وكان يبعد حتى لا يراه أحد.

قال: فلم يجد شيئا يتوارى به، فبصر بشجرتين، فذكر قصة الشجرتين، وقصة الجمل بنحو من حديث جابر.

قال البيهقي: وحديث جابر أصح.

قال: وهذه الرواية ينفرد بها زمعة بن صالح، عن زياد - أظنه ابن سعد - عن أبي الزبير.

قلت: وقد يكون هذا أيضا محفوظا ولا ينافي حديث جابر ويعلى بن مرة بل يشهد لهما، ويكون هذا الحديث عند أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر، وعن يونس بن خباب، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، والله أعلم.

وروى البيهقي من حديث معاوية بن يحيى الصيرفي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أسامة بن زيد حديثا طويلا نحو سياق حديث يعلى بن مرة، وجابر بن عبد الله، وفيه قصة الصبي الذي كان يصرع ومجيء أمه بشاة مشوية فقال: « ناوليني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « ناوليني الذراع ».

فناولته.

ثم قال: « ناوليني الذراع ».

فقلت: كم للشاة من ذراع؟

فقال: « والذي نفسي بيده لو سكت لناولتيني ما دعوت ».

ثم ذكر قصة النخلات واجتماعهما وانتقال الحجارة معهما حتى صارت الحجارة رجما خلف النخلات، وليس في سياقه قصة البعير فلهذا لم يورده بلفظه وإسناده، وبالله المستعان.

وقد روى الحافظ ابن عساكر ترجمة غيلان بن سلمة الثقفي بسنده إلى يعلى بن منصور الرازي عن شبيب بن شيبة، عن بشر بن عاصم، عن غيلان بن سلمة قال: خرجنا مع رسول الله فرأينا عجبا، فذكر قصة الشجرتين واستتاره بهما عند الخلاء، وقصة الصبي الذي كان يصرع وقوله: « بسم الله أنا رسول الله أخرج عدو الله » فعوفي، ثم ذكر قصة البعيرين النادين وأنهما سجدا له بنحو ما تقدم في البعير الواحد فلعل هذه قصة أخرى، والله أعلم.

وقد ذكرنا فيما سلف حديث جابر وقصة جمله الذي كان قد أعيي وذلك مرجعهم من تبوك، وتأخره في أخريات القوم فلحقه النبي فدعا له وضربه فسار سيرا لم يسر مثله حتى جعل يتقدم أمام الناس.

وذكرنا شراءه عليه السلام منه، وفي ثمنه اختلاف كثير وقع من الرواة لا يضر أصل القصة كما بيناه.

وتقدم حديث أنس في ركوبه عليه السلام على فرس أبي طلحة حين سمع صوتا بالمدينة فركب ذلك الفرس وكان يبطئ، وركب الفرسان نحو ذلك الصوت فوجدوا رسول الله قد رجع بعد ما كان كشف ذلك الأمر فلم يجد له حقيقة، وكان قد ركبه عريا لا شيء عليه وهو متقلد سيفا فرجع وهو يقول: « لن تراعوا، لن تراعوا، ما وجدنا من شيء، وإن وجدناه لبحرا ».

أي: لسابقا وكان ذلك الفرس يبطأ قبل تلك الليلة فكان بعد ذلك لا يجارى ولا يكشف له غبار، وذلك كله ببركته عليه الصلاة والسلام.

حديث آخر غريب في قصة البعير:

قال الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه دلائل النبوة - وهو مجلد كبير حافل كثير الفوائد -: أخبرني أبو علي الفوارسي، حدثنا أبو سعيد عن عبد العزيز بن شهلان القواس، حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن خالد الراسبي، حدثنا عبد الرحمن بن علي البصري، حدثنا سلامة بن سعيد بن زياد ابن أبي هند الرازي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، حدثنا غنيم بن أوس - يعني: الرازي - قال: كنا جلوسا مع رسول الله إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على رسول الله فزعا.

فقال رسول الله : « أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، مع أن الله تعالى قد أمن عائذنا، ولا يخاف لائذنا ».

قلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟

قال: « هذا بعير هم أهله بنحره فهرب منهم، فاستغاث بنبيكم ».

فبينا نحن كذلك إذ أقبل أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله .

فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منا منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك.

فقال رسول الله : « يشكو مر الشكاية ».

فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟

قال: « يقول: إنه ربي في إبلكم جوارا وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء رحلتم إلى موضع الدفء ».

فقالوا: قد كان ذلك يا رسول الله.

فقال: ما جزاء العبد الصالح من مواليه؟

قالوا: يا رسول الله فإنا لا نبيعه ولا ننحره.

قال: « فقد استغاث فلم تغيثوه وأنا أولى بالرحمة منكم لأن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين وأسكنها في قلوب المؤمنين ».

فاشتراه النبي بمائة درهم ثم قال: « أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه الله ».

فرغا على هامة رسول الله .

فقال رسول الله: « آمين ».

ثم رغا الثانية.

فقال: « آمين ».

ثم رغا الثالثة.

فقال: « آمين ».

ثم رغا الرابعة، فبكى رسول الله .

فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟

قال: يقول: جزاك الله أيها النبي عن الإسلام والقرآن خيرا.

قلت: « آمين ».

قال: سكن الله رعب أمتك يوم القيامة كما سكنت رعبي.

قلت: « آمين ».

قال: حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي.

قلت: « آمين ».

قال: لا جعل الله بأسها بينها.

فبكيت وقلت: « هذه خصال سألت ربي فأعطانيها ومنعني واحدة، وأخبرني جبريل عن الله أن فناء أمتك بالسيف فجرى القلم بما هو كائن ».

قلت: هذا الحديث غريب جدا لم أر أحدا من هؤلاء المصنفين في الدلائل أورده سوى هذا المصنف، وفيه غرابة ونكارة في إسناده ومتنه أيضا، والله أعلم.

حديث في سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال أبو محمد عبد الله بن حامد أيضا: قال يحيى بن صاعد: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا عباد بن يوسف الكندي أبو عثمان، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال: دخل النبي حائطا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار وفي الحائط غنم فسجدت له.

فقال أبو بكر: يا رسول الله كنا نحن أحق بالسجود لك من هذه الغنم.

فقال: « إنه لا ينبغي أن يسجد أحد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».

غريب وفي إسناده من لا يعرف.

قصة الذئب وشهادته بالرسالة

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا القاسم بن الفضل الحداني عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه.

فقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟

فقال: يا عجبي ذئب يكلمني كلام الأنس!

فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق.

قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله فأخبره، فأمر رسول الله فنودي: الصلاة جامعة ثم خرج فقال للراعي: « أخبرهم » فأخبرهم.

فقال رسول الله : « صدق والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الأنس، ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده ».

وهذا إسناد على شرط الصحيح، وقد صححه البيهقي.

ولم يروه إلا الترمذي من قوله: « والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الأنس » إلى آخره عن سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن القاسم بن الفضل.

ثم قال: وهذا حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث القاسم وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث، وثقه يحيى وابن مهدي.

طريق أخرى عن أبي سعيد الخدري:

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب، حدثني عبد الله ابن أبي حسين، حدثني شهر أن أبا سعيد الخدري حدثه عن النبي قال: « بينا أعرابي في بعض نواحي المدينة في غنم له عدا عليه ذئب فأخذ شاة من غنمه، فأدركه الأعرابي فاستنقذها منه وهجهجه فعانده الذئب يمشي، ثم أقعى مشتذفرا بذنبه يخاطبه فقال: أخذت رزقا رزقنيه الله.

قال: واعجبا من ذئب مستذفر بذنبه يخاطبني!

فقال: والله إن لتترك أعجب من ذلك.

قال: وما أعجب من ذلك؟

قال: رسول الله في النخلتين بين الحرتين يحدث الناس عن أنباء ما قد سبق، وما يكون بعد ذلك.

قال: فنعق الأعرابي بغنمه حتى ألجأها إلى بعض المدينة، ثم مشى إلى النبي حتى ضرب عليه بابه، فلما صلى النبي قال: « أين الأعرابي صاحب الغنم؟ »

فقام الأعرابي فقال له النبي : « حدث الناس بما سمعت، وبما رأيت ».

فحدث الأعرابي الناس بما رأى من الذئب وما سمع منه.

فقال النبي عند ذلك: « صدق آيات تكون قبل الساعة، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده ».

وهذا على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.

وقد رواه البيهقي من حديث النفيلي قال: قرأت على معقل بن عبد الله بن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد فذكره.

ثم رواه الحاكم وأبو سعيد بن عمرو عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الجيد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد فذكره.

ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن تميم عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد فذكره.

حديث أبي هريرة في ذلك:

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن أشعث بن عبد الملك، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى انتزعها منه.

قال: فصعد الذئب على تل فأقعى فاستذفر وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل انتزعته مني.

فقال الرجل: لله إذا رأيت كاليوم ذئبا يتكلم.

فقال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى، وما هو كائن بعدكم.

وكان الرجل يهوديا، فجاء إلى النبي - - فأسلم، وخبره فصدقه النبي ثم قال رسول الله: « إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه بما أحدثه أهله بعده ».

تفرد به أحمد، وهو على شرط السنن ولم يخرجوه، ولعل شهر بن حوشب قد سمعه من أبي سعيد وأبي هريرة أيضا، والله أعلم.

حديث أنس في ذلك:

قال أبو نعيم في دلائل النبوة: ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا علي بن الحسن بن سالم، ثنا الحسين الرفا عن عبد الملك بن عمير، عن أنس.

ح، وحدثنا سليمان - هو الطبراني -، ثنا عبد الله بن محمد بن ناجية، ثنا هشام بن يونس اللؤلؤي، ثنا حسين بن سليمان الرفا عن عبد الملك بن عمير، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي في غزوة تبوك فشردت علي غنمي فجاء الذئب فأخذ منها شاة فاشتد الرعاء خلفه.

فقال: طعمة أطعمنيها الله تنزعونها مني؟

قال: فبهت القوم.

فقال: ما تعجبون من كلام الذئب، وقد نزل الوحي على محمد فمن مصدق ومكذب.

ثم قال أبو نعيم: تفرد به حسين بن سليمان عن عبد الملك.

قلت: الحسين بن سليمان الرفا هذا يقال له: الطلخي كوفي، أورد له ابن عدي عن عبد الملك بن عمير أحاديث ثم قال: لا يتابع عليها.

حديث ابن عمر في ذلك:

قال البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنا أبو أحمد بن عدي، ثنا عبد الله ابن أبي داود السجستاني، ثنا يعقوب بن يوسف ابن أبي عيسى، ثنا جعفر بن حسن، أخبرني أبو حسن، ثنا عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن عمر: كان راع على عهد رسول الله إذ جاء الذئب فأخذ شاة ووثب الراعي حتى انتزعها من فيه.

فقال له الذئب: أما تتقي الله أن تمنعني طعمة أطعمنيها الله تنزعها مني؟

فقال له الراعي: العجب من ذئب يتكلم.

فقال الذئب: أفلا أدلك على ما هو أعجب من كلامي ذلك الرجل في النخل يخبر الناس بحديث الأولين والآخرين أعجب من كلامي.

فانطلق الراعي حتى جاء رسول الله فأخبره، وأسلم.

فقال له رسول الله : « حدث به الناس ».

قال الحافظ ابن عدي: قال لنا أبو بكر ابن أبي داود: ولد هذا الراعي يقال لهم: بنو مكلم الذئب، ولهم أموال ونعم وهم من خزاعة، واسم مكلم الذئب: أهبان قال: ومحمد بن أشعث الخزاعي من ولده.

قال البيهقي: فدل على اشتهار ذلك، وهذا مما يقوي الحديث.

وقد روى من حديث محمد بن إسماعيل البخاري في التاريخ: حدثني أبو طلحة، حدثني سفيان بن حمزة الأسلمي سمع عبد الله بن عامر الأسلمي عن ربيعة بن أوس، عن أنس بن عمرو، عن أهبان بن أوس قال: كنت في غنم لي فكلمه الذئب وأسلم.

قال البخاري: إسناده ليس بالقوي.

ثم روى البيهقي عن أبي عبد الرحمن السلمي سمعت الحسين بن أحمد الرازي سمعت أبا سليمان المقري يقول: خرجت في بعض البلدان على حمار فجعل الحمار يحيد بي عن الطريق فضربت رأسه ضربات، فرفع رأسه إلي وقال: لي اضرب يا أبا سليمان فإنما على دماغك هو ذا يضرب.

قال: قلت له: كلمك كلاما يفهم!

قال: كما تكلمني وأكلمك.

حديث آخر عن أبي هريرة في الذئب:

وقد قال سعيد بن مسعود: ثنا حبان بن علي، ثنا عبد الملك بن عمير عن أبي الأوس الحارثي، عن أبي هريرة قال: جاء الذئب فأقعى بين يدي النبي وجعل يبصبص بذنبه.

فقال رسول الله : « هذا وافد الذئاب، جاء ليسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئا ».

قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرا فرماه، فأدبر الذئب وله عواء.

فقال رسول الله : « الذئب وما الذئب ».

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن أبي عبد الله الأصبهاني، عن محمد بن مسلمة، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل به.

ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل، عن مكحول، عن أبي هريرة فذكره.

وعن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأوبر، عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله يوما صلاة الغداة ثم قال: « هذا الذئب وما الذئب جاءكم يسألكم أن تعطوه أو تشركوه في أموالكم ».

فرماه رجل بحجر فمر، أو ولى وله عواء.

وقال محمد بن إسحاق عن الزهري، عن حمزة ابن أبي أسيد قال: خرج رسول الله في جنازة رجل من الأنصار بالبقيع فإذا الذئب مفترشا ذراعيه على الطريق فقال رسول الله : « هذا جاء يستفرض فافرضوا له ».

قالوا: ترى رأيك يا رسول الله؟

قال: « من كل سائمة شاة في كل عام ».

قالوا: كثير.

قال: فأشار إلى الذئب أن خالسهم، فانطلق الذئب، رواه البيهقي.

وروى الواقدي عن رجل سماه، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: بينا رسول الله في المدينة إذ أقبل ذئب فوقف بين يديه.

فقال: « هذا وافد السباع إليكم فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه واحترزتم منه فما أخذ فهو رزقه ».

فقالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا له بشيء.

فأومأ إليه بأصابعه الثلاث أن خالسهم قال: فولى وله عواء.

وقال أبو نعيم: ثنا سليمان بن أحمد، ثنا معاذ بن المثنى، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، ثنا الأعمش عن شمر بن عطية، عن رجل من مزينة أن جهينة قال: أتت وفود الذئاب قريب من مائة ذئب حين صلى رسول الله فأقعين.

فقال رسول الله : « هذه وفود الذئاب جئنكم يسألنكم لتفرضوا لهن من قوت طعامكم، وتأمنوا على ما سواه » فشكوا إليه الحاجة.

قال: « فأدبروهم ».

قال: فخرجن ولهن عواء.

وقد تكلم القاضي عياض على حديث الذئب، فذكر عن أبي هريرة وأبي سعيد، وعن أهبان ابن أوس، وأنه كان يقال له: مكلم الذئب قال: وقد روى ابن وهب أنه جرى مثل هذا لأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية مع ذئب وجداه أخذ صبيا فدخل الصبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك.

فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة، وتدعونه إلى النار.

فقال أبو سفيان: واللات والعزى لأن ذكرت هذا بمكة ليتركنها أهلوها.

قصة الوحش الذي كان في بيت النبي وكان يحترمه عليه السلام ويوقره ويجله

[عدل]

قال الأعرابي أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا يونس عن مجاهد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان لآل رسول الله وحش فإذا خرج رسول الله لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله قد دخل ربض فلم يترمرم ما دام رسول الله في البيت كراهية أن يؤذيه.

ورواه أحمد أيضا عن وكيع وعن قطن كلاهما عن يونس - وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - وهذا الإسناد على شرط الصحيح ولم يخرجوه، وهو حديث مشهور، والله أعلم.

قصة الأسد

[عدل]

وقد ذكرنا في ترجمة سفينة مولى رسول الله حديثه حين انكسرت بهم السفينة فركب لوحا منها حتى دخل جزيرة في البحر فوجد فيها الأسد فقال له: يا أبا الحارث إني سفينة مولى رسول الله .

قال: فضرب منكبي وجعل يحاذيني حتى أقامني على الطريق، ثم همهم ساعة، فرأيت أنه يودعني.

وقال عبد الرزاق: ثنا معمر عن الحجبي، عن محمد بن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله أخطأ الجيش بأرض الروم، أو أسر في أرض الروم فانطلق هاربا يلتمس الجيش فإذا هو بالأسد.

فقال: يا أبا الحارث إني مولى رسول الله كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد يبصبصه حتى قام إلى جنبه كلما سمع صوته أهوى إليه، ثم أقبل يمشي إلى جنبه فلم يزل كذلك حتى أبلغه الجيش، ثم رجع الأسد عنه.

رواه البيهقي.

حديث الغزالة

[عدل]

قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه دلائل النبوة: حدثنا سليمان بن أحمد إملاء، ثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، ثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، ثنا عبد الكريم بن هلال الجعفي عن صالح المري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: مر رسول الله على قوم قد اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فسطاط.

فقالت: يا رسول الله إني أخذت ولي خشفان فاستأذن لي أرضعهما وأعود إليهم.

فقال: « أين صاحب هذه؟ »

فقال القوم: نحن يا رسول الله.

قال: خلوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وترجع إليكم.

فقالوا: من لنا بذلك؟

قال: « أنا ».

فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمر بهم رسول الله - - فقال: « أين أصحاب هذه؟ »

فقالوا: هو ذا نحن يا رسول الله.

فقال: « تبيعونيها؟ »

فقالوا: هي لك يا رسول الله.

فقال: « خلوا عنها ».

فأطلقوها فذهبت.

وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي - من أصله - ثنا أحمد بن موسى بن أنس بن نصر بن عبيد الله بن محمد بن سيرين بالبصرة، ثنا زكريا بن يحيى بن خلاد، ثنا حبان بن أغلب بن تميم، ثنا أبي عن هشام بن حبان، عن الحسن، عن ضبة بن محصن، عن أم سلمة زوج النبي قالت: بينا رسول الله في حجر من الأرض إذا هاتف يهتف: يا رسول الله، يا رسول الله.

قال: « فالتفت فلم أر أحدا »

قال: « فمشيت غير بعيد، فإذا الهاتف يا رسول الله، يا رسول الله، قال: « التفت فلم أر أحدا » وإذا الهاتف يهتف بي، فاتبعت الصوت وهجمت على ظبية مشدودة الوثاق، وإذا أعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس.

فقالت الظبية: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني قبل ولي خشفان في هذا الجبل فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ثم أعود إلى وثاقي.

قال: « وتفعلين؟ »

قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل.

فأطلقها رسول الله - -، فمضت فأرضعت الخشفين وجاءت.

قال: فبينا رسول الله يوثقها إذا انتبه الأعرابي.

فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني أصبتها قبيلا فلك فيها من حاجة؟

قال: قلت: « نعم ».

قال: هي لك، فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء فرحا وهي تضرب برجليها في الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.

قال أبو نعيم: وقد رواه آدم ابن أبي إياس فقال: حدثني حبي الصدوق نوح بن الهيثم عن حبان بن أغلب، عن أبيه، عن هشام بن حبان ولم يجاوزه به.

وقد رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه دلائل النبوة من حديث إبراهيم بن مهدي عن ابن أغلب بن تميم، عن أبيه، عن هشام بن حبان، عن الحسن بن ضبة ابن أبي سلمة به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة، أنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ثنا أحمد بن حازم ابن أبي عروة الغفاري، ثنا علي بن قادم، ثنا أبو العلاء خالد بن طهمان عن عطية، عن أبي سعيد قال: مر النبي بظبية مربوطة إلى خباء فقالت: يا رسول الله خلني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني.

فقال رسول الله : « صيد قوم، وربيطة قوم ».

قال: فأخذ عليها فحلفت له.

قال: فحلها فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها فربطها رسول الله ، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم، فوهبوها له فحلها.

ثم قال رسول الله : « لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا ».

قال البيهقي: وروى من وجه آخر ضعيف أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، أنا أبو علي حامد بن محمد الهروي، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو حفص عمر بن علي، ثنا يعلى بن إبراهيم الغزالي، ثنا الهيثم بن حماد عن أبي كثير، عن يزيد بن أرقم قال: كنت مع النبي في بعض سكك المدينة.

قال: فمررنا بخباء أعرابي فإذا بظبية مشدودة إلى الخباء.

فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي اصطادني، وإن لي خشفين في البرية وقد تعقد اللبن في أخلافي فلا هو يذبحني فأستريح، ولا هو يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية.

فقال لها رسول الله : « إن تركتك ترجعين؟ »

قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار.

قال: فأطلقها رسول الله فلم تلبث أن جاءت تلمض فشدها رسول الله إلى الخباء، وأقبل الأعرابي ومعه قربة.

فقال له رسول الله : « أتبيعنيها؟ »

قال: هي لك يا رسول الله.

فأطلقها رسول الله .

قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ورواه أبو نعيم: ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن بن مطر، ثنا بشر بن موسى فذكره.

قلت: وفي بعضه نكارة والله أعلم.

وقد ذكرنا في باب تكثيره عليه السلام اللبن: حديث تلك الشاة التي جاءت وهي في البرية فأمر رسول الله الحسن بن سعيد مولى أبي بكر أن يحلبها فحلبها، وأمره أن يحفظها فذهبت وهو لا يشعر.

فقال رسول الله : « ذهب بها الذي جاء بها ».

وهو مروي من طريقين عن صحابيين كما تقدم، والله أعلم.

حديث الضـب على ما فيه من النكارة والغرابة

[عدل]

قال البيهقي: أنا أبو منصور أحمد بن علي الدامغاني من ساكني قرية نامين من ناحية بيهق - قراءة عليه من أصل كتابه - ثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ - في شعبان سنة اثنتين وثلثمائة - ثنا محمد بن الوليد السلمي، ثنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا معمر بن سليمان، ثنا كهمس عن داود ابن أبي هند، عن عامر بن عمر، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبا وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله، فلما رأى الجماعة قال: ما هذا؟

قالوا: هذا الذي يذكر أنه نبي فجاء فشق الناس.

فقال: واللات والعزى ما شملت السماء على ذي لهجة أبغض إلي منك، ولا أمقت منك، ولولا أن يسميني قومي عجولا لعجلت عليك فقتلتك فسررت بقتلك الأسود والأحمر والأبيض وغيرهم.

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فأقوم فأقتله.

قال: « يا عمر أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا ».

ثم أقبل على الأعرابي وقال: « ما حملك على أن قلت ما قلت غير الحق، ولم تكرمني في مجلسي؟ »

فقال: وتكلمني أيضا؟ استخفافا برسول الله واللات والعزى لا آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضـب - وأخرج الضـب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله .

فقال رسول الله : « يا ضب ».

فأجابه الضـب بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة.

قال: « من تعبد يا ضب؟ »

قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه.

قال: « فمن أنا يا ضب؟ »

فقال: رسول رب العالمين وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك.

فقال الأعرابي: والله لا أتبع أثرا بعد عين، والله لقد جئتك وما على ظهر الأرض أبغض إلي منك، وإنك اليوم أحب إلي من والدي، ومن عيني ومني، وإني لأحبك بداخلي وخارجي، وسري وعلانيتي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال رسول الله: « الحمد لله الذي هداك بي، إن هذا الدين يعلو ولا يعلى، ولا يقبل إلا بصلاة ولا تقبل الصلاة إلا بقرآن.

قال: فعلمني.

فعلمه « قل هو الله أحد ».

قال: زدني فما سمعت في البسيط ولا في الوجيز أحسن من هذا.

قال: « يا أعرابي إن هذا كلام الله ليس بشعر، إنك إن قرأت « قل هو الله أحد » مرة كان لك كأجر من قرأ ثلث القرآن، وإن قرأتها مرتين كان لك كأجر من قرأ ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاث مرات كان لك كأجر من قرأ القرآن كله ».

قال الأعرابي: نعم الإله إلهنا يقبل اليسير ويعطي الجزيل.

فقال رسول الله : « ألك مال؟ »

فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل هو أفقر مني.

فقال رسول الله لأصحابه: « أعطوه فأعطوه حتى أبطروه ».

قال: فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله إن له عندي ناقة عشراء دون البختية وفوق الأعرى، تلحق ولا تلحق أهديت إلي يوم تبوك، أتقرب بها إلى الله عز وجل فأدفعها إلى الأعرابي؟

فقال رسول الله : « وصفت ناقتك فأصف مالك عند الله يوم القيامة؟ »

قال: نعم.

قال: « لك ناقة من درة جوفاء قوائمها من زبرجد أخضر، وعنقها من زبرجد أصفر، عليها هودج وعلى الهودج السندس والاستبرق، وتمر بك على الصراط كالبرق الخاطف، يغبطك بها كل من رآك يوم القيامة ».

فقال عبد الرحمن: قد رضيت، فخرج الأعرابي فلقيه ألف أعرابي من بني سليم على ألف دابة معهم ألف سيف وألف رمح.

فقال لهم: أين تريدون؟

قالوا: نذهب إلى هذا الذي سفه آلهتنا فنقتله.

قال: لا تفعلوا أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وحدثهم الحديث.

فقالوا بأجمعهم: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم دخلوا فقيل لرسول الله فتلقاهم بلا رداء، ونزلوا عن ركبهم يقبلون حيث ولوا عنه وهم يقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ثم قالوا: يا رسول الله مرنا بأمرك.

قال: كونوا تحت راية خالد بن الوليد.

فلم يؤمن من العرب ولا غيرهم ألف غيرهم.

قال البيهقي: قد أخرجه شيخنا أبو عبد الله الحافظ في المعجزات بالإجازة عن أبي أحمد ابن عدي الحافظ.

قلت: ورواه الحافظ أبو نعيم في الدلائل عن أبي القاسم بن أحمد الطبراني - إملاء وقراءة -، حدثنا محمد بن علي بن الوليد السلمي البصري أبو بكر بن كنانة فذكر مثله.

ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن محمد بن علي بن الوليد السلمي.

قال البيهقي: روي في ذلك عن عائشة وأبي هريرة، وما ذكرناه هو أمثل الأسانيد فيه وهو أيضا ضعيف، والحمل فيه على هذا السلمي، والله أعلم.

حديث الحمار

[عدل]

وقد أنكره غير واحد من الحفاظ الكبار فقال أبو محمد بن عبد الله بن حامد: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن حمدان السحركي، حدثنا عمر بن محمد بن بجير، حدثنا أبو جعفر محمد بن يزيد إملاء، أنا أبو عبد الله محمد بن عقبة بن أبو الصهباء، حدثنا أبو حذيفة عن عبد الله بن حبيب الهذلي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أبي منظور قال: لما فتح الله على نبيه خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال، وأربعة أزواج خفاف، وعشر أواق ذهب وفضة، وحمار أسود ومكتل.

قال: فكلم النبي الحمار، فكلمه الحمار فقال له: « ما اسمك؟ »

قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارا كلهم لم يركبهم إلا نبي لم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك وقد كنت أتوقعك أن تركبني، قد كنت قبلك لرجل يهودي وكنت أعثر به عمدا، وكان يجيع بطني، ويضرب ظهري.

فقال النبي : « سميتك يعفور، يا يعفور ».

قال: لبيك.

قال: « تشتهي الإناث؟ »

قال: لا، فكان النبي يركبه لحاجته فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله .

فلما قبض النبي جاء إلى بئر كان لأبي الهيثم بن النبهان فتردى فيها فصارت قبره جزعا منه على رسول الله .

حديث الحمرة وهو طائر مشهور

[عدل]

قال أبو داود الطيالسي: ثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله في سفر، فدخل رجل غيطة فأخرج بيضة حمرة فجاءت الحمرة ترف على رسول الله وأصحابه فقال: « أيكم فجع هذه؟ »

فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضتها.

فقال: « رده رده رحمة بها ».

وروى البيهقي عن الحاكم وغيرهم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو معاوية عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله في سفر فمررنا بشجرة فيها فرخا حمرة فأخذناهما.

قال: فجاءت الحمرة إلى رسول الله وهي تفرش.

فقال: « من فجع هذه بفرخيها؟ »

قال: فقلنا: نحن.

قال: « ردوهما ».

فرددناهما إلى موضعهما فلم ترجع.

حديث آخر في ذلك وفيه غرابة:

قال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن الحسين بن داود العلوي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأموي، ثنا محمد بن عبيد بن عتبة الكندي، ثنا محمد بن الصلت، ثنا حبان، ثنا أبو سعيد البقال عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله إذا أراد الحاجة أبعد.

قال: فذهب يوما فقعد تحت سمرة ونزع خفيه.

قال: ولبس أحدهما فجاء طير فأخذ الخف الآخر فحلق به في السماء فانسلت منه أسود سالح.

فقال رسول الله : « هذه كرامة أكرمني الله بها، اللهم إني أعوذ بك من شر ما مشى على رجليه، ومن شر ما يمشي على بطنه ».

حديث آخر:

قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن رجلين من أصحاب النبي خرجا من عند النبي ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله.

وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن ثابت، عن أنس أن أسيد بن حضير الأنصاري ورجلا آخر من الأنصار تحدثا عند النبي في حاجة لهما حتى ذهب من الليل ساعة وهي ليلة شديدة الظلمة حتى خرجا من عند رسول الله ينقلبان وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصى أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه حتى مشى في ضوئها حتى أتى كل واحد منهما ضوء عصاه حتى بلغ أهله.

وقد علقه البخاري فقال: وقال معمر: فذكره.

وعلقه البخاري أيضا عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أن عباد بن بشر، وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي فذكر مثله.

وقد رواه النسائي عن أبي بكر ابن نافع، عن بشر بن أسيد.

وأسنده البيهقي من طريق يزيد بن هارون كلاهما عن حماد بن سلمة به.

حديث آخر:

قال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني، ثنا أحمد بن مهران، ثنا عبيد الله بن موسى، أنا كامل بن العلاء عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: كنا نصلي مع رسول الله العشاء وكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا فإذا عاد عادا، فلما صلى جعل واحدا ههنا وواحدا ههنا، فجئته فقلت: يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما؟

قال: « لا » فبرقت برقة.

فقال: « إلحقا بأمكما » فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا.

حديث آخر:

قال البخاري في التاريخ: حدثني أحمد بن الحجاج، ثنا سفيان بن حمزة عن كثير بن يزيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله فتفرقنا في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي لتنير.

ورواه البيهقي من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي عن سفيان بن حمزة.

ورواه الطبراني من حديث إبراهيم ابن حمزة الزهري، عن سفيان بن حمزة به.

حديث آخر:

قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو محمد بن أحمد بن عبد الله المدني، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو كريب، ثنا يزيد بن الحباب، ثنا عبد الحميد ابن أبي عبس الأنصاري من بني حارثة، أخبرني ميمون بن زيد ابن أبي عبس، أخبرني أبي أن أبا عبس كان يصلي مع رسول الله الصلوات ثم يرجع إلى بني حارثة، فخرج في ليلة مظلمة مطيرة فنور له في عصاه حتى دخل دار بني حارثة.

قال البيهقي: أبو عبس ممن شهد بدرا.

قلت: وروينا عن يزيد بن الأسود - وهو من التابعين -: أنه كان يشهد الصلاة بجامع دمشق من جسرين فربما أضاءت له إبهام قدمه في الليلة المظلمة.

وقد قدمنا في قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي بمكة قبل الهجرة، وأنه سأل رسول الله آية يدعو قومه بها، فلما ذهب إليهم وانهبط من الثنية أضاء له نور بين عينيه.

فقال: اللهم لا يقولوا هو مثلة فحوله الله إلى طرف سوطه حتى جعلوا يرونه مثل القنديل.

حديث آخر فيه كرامة لتميم الداري:

روى الحافظ البيهقي من حديث عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن معاوية بن حرمل قال: خرجت نار بالحرة فجاء عمر إلى تميم الداري فقال: قم إلى هذه النار.

قال: يا أمير المؤمنين ومن أنا؟ وما أنا؟

قال: فلم يزل به حتى قام معه.

قال: وتبعتهما، فانطلقا إلى النار فجعل تميم يحوشها بيديه حتى دخلت الشعب، ودخل تميم خلفها.

قال: فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير، قالها ثلاثا.

حديث فيه كرامة لولي من هذه الأمة:

وهي معدودة من المعجزات لأن كل ما يثبت لولي فهو معجزة لنبيه.

قال الحسن بن عروة: ثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي سبرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن فلما كان ببعض الطريق نفق حماره، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللهم إني جئت من الدفينة مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة أطلب إليك اليوم أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه.

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة.

قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلي وغيره عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي وكأنه عند إسماعيل عنهما، والله أعلم.

طريق أخرى:

قال أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت: حدثنا إسحاق بن إسماعيل وأحمد بن بجير وغيرهما قالوا: ثنا محمد بن عبيد عن إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي أن قوما أقبلوا من اليمن متطوعين في سبيل الله، فنفق حمار رجل منهم فأرادوه أن ينطلق معهم فأبى، فقام فتوضأ وصلى ثم قال: اللهم إني جئت من الدفينة مجاهدا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وإني أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي منة فإذا أطلب إليك أن تبعث لي حماري، ثم قام إلى الحمار فضربه فقام الحمار ينفض أذنيه، فأسرجه وألجمه، ثم ركبه وأجراه فلحق بأصحابه.

فقالوا له: ما شأنك؟

قال: شأني أن الله بعث حماري.

قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع في الكناسة - يعني: بالكوفة -.

قال ابن أبي الدنيا: وأخبرني العباس بن هشام عن أبيه، عن جده، عن مسلم بن عبد الله بن شريك النخعي أن صاحب الحمار رجل من النخع يقال له: نباتة بن يزيد، خرج في زمن عمر غازيا حتى إذا كان يلقى عميرة نفق حماره فذكر القصة غير أنه قال: فباعه بعد الكناسة.

فقيل له: تبيع حمارك وقد أحياه الله لك؟

قال: فكيف أصنع؟

وقد قال رجل من رهطه ثلاثة أبيات فحفظت هذا البيت:

ومنا الذي أحيا الإله حماره * وقد مات منه كل عضو ومفصل

وقد ذكرنا في باب رضاعه عليه السلام ما كان من حمارة حليمة السعدية وكيف كانت تسبق الركب في رجوعها لما ركب معها عليها رسول الله وهو رضيع وقد كانت أدمت بالركب في مسيرهم إلى مكة، وكذلك ظهرت بركته عليهم في شارفهم - وهي الناقة التي كانوا يحلبونها - وشياههم وسمنهم، وكثرة ألبانها - صلوات الله وسلامه عليه -.

قصة أخرى مع قصة العلاء بن الحضرمي:

قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني خالد بن خداش بن عجلان المهلبي وإسماعيل بن بشار قالا: ثنا صالح المزي عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: عدنا شابا من الأنصار فما كان بأسرع من أن مات فأغمضناه ومددنا عليه الثوب.

وقال بعضنا لأمه: احتسبيه.

قالت: وقد مات؟

قلنا: نعم، فمدت يديها إلى السماء وقالت: اللهم إني آمنت بك وهاجرت إلى رسولك فإذا نزلت بي شدة دعوتك ففرجتها، فأسألك اللهم لا تحمل علي هذه المصيبة.

قال: فكشف الثوب عن وجهه فما برحنا حتى أكلنا وأكل معنا.

وقد رواه البيهقي عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن محمد بن طاهر بن أبي الدميك، عن عبد الله بن عائشة، عن صالح بن بشير المزني - أحد زهاد البصرة وعبادها مع لين في حديثه - عن أنس فذكر القصة.

وفيه أن أم السائب كانت عجوزا عمياء.

قال البيهقي: وقد روي من وجه آخر مرسل - يعني: فيه انقطاع - عن ابن عدي وأنس بن مالك، ثم ساقه من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس قال: أدركت في هذه الأمة ثلاثا لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم.

قلنا: ما هي يا أبا حمزة؟

قال: كنا في الصفة عند رسول الله - - فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياما ثم قبض، فغمضه النبي - - وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله.

قال: « يا أنس إئت أمه فأعلمها » فأعلمتها.

قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا، وخالفت الأوثان زهدا، وهاجرت لك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها.

قال: فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه وألقى أثوب عن وجهه وعاش حتى قبض الله رسوله ، وحتى هلكت أمه.

قال: ثم جهز عمر بن الخطاب جيشا واستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي.

قال أنس: وكنت في غزاته فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحر شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة، فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين، ثم مد يده إلى السماء، وما نرى في السماء شيئا.

قال: فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحا وأنشأ سحابا وأفرغت حتى ملأت الغدر، والشعاب فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا، ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجا في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا علي يا عظيم، يا حليم يا كريم.

ثم قال: أجيزوا بسم الله.

قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيرا فأصبنا العدو عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا، ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا.

قال: فلم نلبث إلا يسيرا حتى رمي في جنازته.

قال: فحفرنا له وغسلناه ودفناه، فأتى رجل بعد فراغنا من دفنه فقال: من هذا؟

فقلنا: هذا خير البشر، هذا ابن الحضرمي.

فقال: إن هذه الأرض تلفظ الموتى، فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى.

فقلنا: ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسباع تأكله؟

قال: فاجتمعنا على نبشه فلما وصلنا إلى اللحد إذا صاحبنا ليس فيه، وإذا اللحد مد البصر نور يتلألأ.

قال: فأعدنا التراب إلى اللحد ثم ارتحلنا.

قال البيهقي رحمه الله: وقد روي عن أبي هريرة في قصة العلاء بن الحضرمي في استسقائه، ومشيهم على الماء دون قصة الموت بنحو من هذا.

وذكر البخاري في التاريخ لهذه القصة إسنادا آخر، وقد أسنده ابن أبي الدنيا عن أبي كريب، عن محمد بن فضيل، عن الصلت بن مطر العجلي، عن عبد الملك بن سهم، عن سهم بن منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي فذكره وقال في الدعاء: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، إسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ، فإذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا.

وقال في البحر: اجعل لنا سبيلا إلى عدوك.

وقال في الموت: أخف جثتي، ولا تطلع على عورتي أحدا، فلم يقدر عليه، والله أعلم.

قصة أخرى:

قال البيهقي: أنا الحسين بن بشران، أنا إسماعيل الصفار، ثنا الحسن بن علي بن عثمان، ثنا ابن نمير عن الأعمش، عن بعض أصحابه قال: انتهينا إلى دجلة وهي مادة والأعاجم خلفها.

فقال رجل من المسلمين: بسم الله ثم اقتحم بفرسه فارتفع على الماء.

فقال الناس: بسم الله، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء.

فنظر إليهم الأعاجم وقالوا: ديوان ديوان، ثم ذهبوا على وجوههم.

قال: فما فقد الناس إلا قدحا كان معلقا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء ببيضاء.

قصة أخرى:

قال البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنا أبو عبد الله بن محمد السمري، ثنا أبو العباس السراج، ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا: ثنا أبو النضر، ثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعو الله عز وجل؟

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.

قلت: وستأتي قصة مسلم الخولاني، واسمه عبد الله بن ثوب مع الأسود العنسي حين ألقاه في النار فكانت عليه بردا وسلاما كما كانت على الخليل إبراهيم عليه السلام.

قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت:

وشهادته بالرسالة لمحمد ، وبالخلافة لأبي بكر الصديق، ثم لعمر، ثم لعثمان - رضي الله عنهم -

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو صالح ابن أبي طاهر العنبري، أنا جدي يحيى بن منصور القاضي، ثنا أبو علي بن محمد بن عمرو بن كشمرد، أنا القعنبي، أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن زيد بن خارجة الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج توفي زمن عثمان بن عفان فسجي بثوبه، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره ثم تكلم ثم قال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوي في أمر الله في الكتاب الأول، صدق صدق عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجهم مضت أربع وبقيت ثنتان، أتت بالفتن وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس، وما بئر أريس؟

قال يحيى: قال سعيد: ثم هلك رجل من بني خطمة فسجي بثوبه فسمع جلجلة في صدره ثم تكلم فقال: إن أخا بني الحارث بنت الخزرج صدق صدق.

ثم رواه البيهقي عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن موسى بن الحسن، عن القعنبي فذكره وقال: هذا إسناد صحيح وله شواهد.

ثم ساقه من طريق أبي بكر عبد الله ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت: حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، ثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد قال: جاء يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن بكتاب أبيه النعمان ابن بشير - يعني: إلى أمه - بسم الله الرحمن الرحيم؛ من النعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو فإنك كتبت إلي لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة، وأنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصح الناس أو أهل المدينة، فتوفي بين صلاة الأولى وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره وغشيناه ببردين وكساء، فأتاني آت في مقامي وأنا أسبح بعد المغرب فقال: إن زيدا قد تكلم بعد وفاته فانصرفت إليه مسرعا، وقد حضره قوم من الأنصار وهو يقول أو يقال على لسانه: الأوسط أجلد الثلاثة الذي كان لا يبالي في الله لومة لائم، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم عبد الله أمير المؤمنين صدق صدق كان ذلك في الكتاب الأول.

ثم قال: عثمان أمير المؤمنين وهو يعافي الناس من ذنوب كثيرة خلت اثنتان وبقي أربع، ثم اختلف الناس وأكل بعضهم بعضا، فلا نظام وأبيحت الأحماء، ثم ارعوى المؤمنين.

وقال: كتاب الله وقدره أيها الناس أقبلوا على أميركم واسمعوا، وأطيعوا فمن تولى فلا يعهدن دما وكان أمر الله قدرا مقدورا، الله أكبر هذه الجنة وهذه النار، ويقول النبيون والصديقون: سلام عليكم يا عبد الله بن رواحة هل أحسست لي خارجة لأبيه وسعدا اللذين قتلا يوم أحد؟

« كلا إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى » ثم خفت صوته فسألت الرهط عما سبقني من كلامه.

فقالوا: سمعناه يقول: أنصتوا أنصتوا، فنظر بعضنا إلى بعض فإذا الصوت من تحت الثياب.

قال: فكشفنا عن وجهه فقال: هذا أحمد رسول الله سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

ثم قال: أبو بكر الصديق الأمين خليفة رسول الله كان ضعيفا في جسمه، قويا في أمر الله صدق صدق، وكان في الكتاب الأول.

ثم رواه الحافظ البيهقي عن أبي نصر ابن قتادة، عن أبي عمرو ابن بجير، عن علي بن الحسين بن الجنيد، عن المعافى بن سليمان، عن زهير بن معاوية، عن إسماعيل ابن أبي خالد فذكره.

وقال: هذا إسناد صحيح.

وقد روى هشام بن عمار في كتاب البعث عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني عمير بن هانئ، حدثني النعمان بن بشير قال: توفي رجل منا يقال له: خارجة بن زيد، فسجينا عليه ثوبا فذكر نحو ما تقدم.

قال البيهقي: وروي ذلك عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير وذكر بئر أريس كما ذكرنا في رواية ابن المسيب.

قال البيهقي: والأمر فيها أن النبي اتخذ خاتما فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر من بعده، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس بعد ما مضى من خلافته ست سنين، فعند ذلك تغيرت عماله وظهرت أسباب الفتن كما قيل على لسان زيد بن خارجة.

قلت: وهي المرادة من قوله: مضت اثنتان وبقي أربع، أو مضت أربع وبقي اثنتان على اختلاف الرواية، والله أعلم.

وقد قال البخاري في التاريخ: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري شهد بدرا، توفي زمن عثمان وهو الذي تكلم بعد الموت.

قال البيهقي: وقد روى في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة، والله أعلم.

قال ابن أبي الدنيا: ثنا خلف بن هشام البزار، ثنا خالد الطحان عن حصين، عن عبد الله بن عبيد الأنصاري أن رجلا من بني سلمة تكلم فقال: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عثمان اللين الرحيم.

قال: ولا أدري أيش قال في عمر، كذا رواه ابن أبي الدنيا في كتابه.

وقد قال الحافظ البيهقي: أنا أبو سعيد ابن أبي عمرو، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى ابن أبي طالب، أنا علي بن عاصم، أنا حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عبيد الأنصاري قال: بينما هم يثورون القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، إذ تكلم رجل من الأنصار من القتلى فقال: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الشهيد، عثمان الرحيم، ثم سكت.

وقال هشام بن عمار في كتاب البعث.

باب في كلام الأموات وعجائبهم

[عدل]

حدثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدثنا عبد الحكم بن عمير عن ربعي بن خراش العبسي قال: مرض أخي الربيع بن خراش فمرضته ثم مات فذهبنا نجهزه فلما جئنا رفع الثوب عن وجهه ثم قال: السلام عليكم.

قلنا: وعليك السلام قد مت.

قال: بلى، ولكن لقيت بعدكم ربي ولقيني بروح وريحان ورب غير غضبان، ثم كساني ثيابا من سندس أخضر، وإني سألته أن يأذن لي أن أبشركم فأذن لي، وإن الأمر كما ترون فسددوا وقاربوا، وبشروا ولا تنفروا، فلما قالها كانت كحصاة وقعت في ماء.

ثم أورد بأسانيد كثيرة في هذا الباب، وهي آخر كتابه.

حديث غريب جدا:

قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليماني وانصرفنا من عدن بقرية يقال لها: الحردة، حدثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليماني عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله ووجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجبا، جاءه رجل بغلام يوم ولد.

فقال له رسول الله : « من أنا؟ »

قال: أنت رسول الله.

قال: « صدقت، بارك الله فيك ».

ثم قال: إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب.

قال أبي: فكنا نسميه مبارك اليمامة.

قال شاصونة: وقد كنت أمر على معمر فلا أسمع منه.

قلت: هذا الحديث مما تكلم الناس في محمد ابن يونس الكديمي بسببه، وأنكروه عليه واستغربوا شيخه هذا، وليس هذا مما ينكر عقلا ولا شرعا.

فقد ثبت في الصحيح في قصة جريج العابد أنه استنطق ابن تلك البغي فقال له: يا أبا يونس ابن من أنت؟

قال: ابن الراعي، فعلم بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه.

وقد تقدم ذلك على أنه قد روي هذا الحديث من غير طريق الكديمي إلا أنه بإسناد غريب أيضا.

قال البيهقي: أنا أبو سعد عبد الملك ابن أبي عثمان الزاهد، أنا أبو الحسين محمد بن أحمد ابن جميع الغساني - بثغر صيدا -، ثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، ثنا أبي، ثنا جدي شانوصة بن عبيد، حدثني معرض بن عبد الله بن معيقيب عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله وجهه كدارة القمر فسمعت منه عجبا، أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفه في خرقة.

فقال له رسول الله : « يا غلام من أنا؟ »

قال: أنت رسول الله.

فقال له: « بارك الله فيك ».

ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها.

قال البيهقي: وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ عن أبي الحسن علي بن العباس الوراق، عن أبي الفضل أحمد بن خلف بن محمد المقري القزويني، عن أبي الفضل العباس بن محمد بن شاصونة به.

قال الحاكم: وقد أخبرني الثقة من أصحابنا عن أبي عمر الزاهد قال: لما دخلت اليمن دخلت حردة فسألت عن هذا الحديث، فوجدت فيها لشاصونة عقبا وحملت إلى قبره فزرته.

قال البيهقي: ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل يخالفه في وقت الكلام.

ثم أورد من حديث وكيع عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه أن النبي أتي بصبي قد شب لم يتكلم قط.

قال: « من أنا؟ »

قال: أنت رسول الله.

ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه قال: جاءت امرأة بابن لها قد تحرك فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد.

فقال رسول الله : « أدنيه مني » فأدنته منه.

فقال: « من أنا؟ »

فقال: أنت رسول الله.

قصة الصبي الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ

[عدل]

قد تقدم ذلك من رواية أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة الثقفي، مع قصة الجمل الحديث بطوله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة عن فرقد السنجي، عن سعيد بن جبير بن عباس أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا.

قال: فمسح رسول الله صدره ودعا له، فثع ثعة فخرج منه مثل الجرو الأسود يسعى.

تفرد به أحمد، وفرقد السنجي رجل صالح ولكنه سيء الحفظ، وقد روى عنه شعبة وغير واحد، واحتمل حديثه، ولما رواه ههنا شاهد مما تقدم، والله أعلم.

وقد تكون هذه القصة هي كما سبق إيرادها، ويحتمل أن تكون أخرى غيرها، والله أعلم.

حديث آخر في ذلك:

قال أبو بكر البزار: ثنا محمد بن مرزوق، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا صدقة - يعني: ابن موسى - ثنا فرقد - يعني: السنجي - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان النبي بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت: يا رسول الله إن هذا الخبيث قد غلبني.

فقال لها: « إن تصبري على ما أنت عليه تجيئين يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب ».

قالت: والذي بعثك بالحق لأصبرن حتى ألقى الله.

قالت: إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتعلق بها وتقول له: إخسأ، فيذهب عنها.

قال البزار: لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وصدقة ليس به بأس، وفرقد حدث عنه جماعة من أهل العلم منهم شعبة وغيره، واحتمل حديثه على سوء حفظه فيه.

طريق أخرى عن ابن عباس:

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن عمران أبي بكر، ثنا عطاء ابن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟

قلت: بلى.

قال: هذه السوداء أتت رسول الله فقالت: إني أصرع وأنكشف، فادع الله لي.

قال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك ».

قالت: لا بل أصبر فادع الله ألا أنكشف ولا ينكشف عني.

قال: فدعا لها.

وهكذا رواه البخاري عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان -.

وأخرجه مسلم عن القواريري، عن يحيى القطان وبشر بن الفضل، كلاهما عن عمران بن مسلم أبي بكر الفقيه البصري، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس فذكر مثله.

ثم قال البخاري: حدثنا محمد، ثنا مخلد عن ابن جريح قال: أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.

وقد ذكر الحافظ ابن الأثير في الغابة: أن أم زفر هذه كانت مشاطة خديجة بنت خويلد قديما، وأنها عمرت حتى أدركها عطاء ابن أبي رباح، فالله أعلم.

حديث آخر:

قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد، ثنا محمد بن يونس، ثنا قرة بن حبيب الغوي، ثنا إياس ابن أبي تميمة عن عطاء، عن أبي هريرة قال: جاءت الحمى إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله إبعثني إلى أحب قومك إليك، أو أحب أصحابك إليك - شك قرة -.

فقال: « إذهبي إلى الأنصار ».

فذهبت إليهم فصرعتهم، فجاؤا إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله قد أتت الحمى علينا فادع الله لنا بالشفاء، فدعا لهم فكشفت عنهم.

قال: فاتبعته امرأة فقالت: يا رسول الله أدع الله لي فإن لمن الأنصار فادع الله لي كما دعوت لهم.

فقال: « أيهما أحب إليك أن أدعو لك فيكشف عنك، أو تصبرين وتجب لك الجنة ».

فقالت: لا والله يا رسول الله بل أصبر ثلاثا ولا أجعل والله لجنته خطرا.

محمد بن يونس الكديمي ضعيف.

وقد قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا هشام ابن لاحق - سنة خمس وثمانين ومائة -، ثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: استأذنت الحمى على رسول الله فقال: « من أنت؟ »

قالت: أنا الحمى أبري اللحم وأمص الدم.

قال: « إذهبي إلى أهل قباء ».

فأتتهم فجاءوا إلى رسول الله وقد اصفرت وجوههم فشكوا إليه الحمى.

فقال لهم: « ما شئتم؟ إن شئتم دعوت الله فيكشف عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم ».

قالوا: بل ندعها يا رسول الله.

وهذا الحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد ذكرنا في أول الهجرة دعاءه عليه السلام لأهل المدينة أن يذهب حماها إلى الجحفة فاستجاب الله له ذلك، فإن المدينة كانت من أوبأ أرض الله فصححها الله ببركة حلوله بها، ودعائه لأهلها - صلوات الله وسلامه عليه -.

حديث آخر في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا شعبة عن أبي جعفر المديني سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي فقال: يا رسول الله أدع الله أن يعافيني.

فقال: « إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت له ».

قال: لا بل أدع الله لي.

قال: فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: « اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك في حاجتي هذه فتقضي وتشفعني فيه وتشفعه في ».

قال: فكان يقول هذا مرارا ثم قال بعد: أحسب أن فيها أن تشفعني فيه.

قال: ففعل الرجل فبرأ.

وقد رواه أحمد أيضا عن عثمان بن عمرو، عن شعبة به.

وقال: اللهم شفعه في، ولم يقل الأخرى وكأنها غلط من الراوي، والله أعلم.

وهكذا رواه الترمذي والنسائي عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن أحمد بن منصور بن سيار، كلاهما عن عثمان بن عمرو.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن جعفر الخطمي.

ثم رواه أحمد أيضا عن مؤمل بن حماد بن سلمة ابن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف فذكر الحديث.

وهكذا رواه النسائي عن محمد بن معمر، عن حبان، عن حماد بن سلمة به.

رواه النسائي عن زكريا بن يحيى، عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، وهذه الرواية تخالف ما تقدم، ولعله عند أبي جعفر الخطمي من الوجهين، والله أعلم.

وقد روى البيهقي والحاكم من حديث يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب، عن سعيد الحنطبي، عن أبيه، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي.

فقال رسول الله : « إئت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فينجلي بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي ».

قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.

قال البيهقي: ورواه أيضا هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف.

حديث آخر:

قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا محمد بن بشر، ثنا عبد العزيز بن عمر، حدثني رجل من بني سلامان وبني سعد عن أبيه، عن خاله، أو أن خاله، أو خالها حبيب بن مريط، حدثها أن أباه خرج إلى رسول الله وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا أصلا.

فسأله: « ما أصابك؟ »

فقال: كنت أرعى جملا لي فوقعت رجلي على بطن حية فأصبت ببصري.

قال: فنفث رسول الله في عينيه فأبصر، فرأيته وإنه ليدخل الخيط في الإبرة، وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان.

قال البيهقي: كذا في كتابه، وغيره يقول: حبيب بن مدرك.

قال: وقد مضى في هذا المعنى حديث قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه فسالت حدقته فردها رسول الله إلى موضعها، فكان لا يدري أيهما أصيبت.

قلت: وقد تقدم ذلك في غزوة أحد، وقد ذكرنا في مقتل أبي رافع مسحه بيده الكريمة على رجل جابر بن عتيك - وقد انكسر ساقه - فبرأ من ساعته.

وذكر البيهقي بإسناده: أنه مسح يد محمد بن حاطب - وقد احترقت يده بالنار - فبرأ من ساعته.

وأنه عليه السلام نفث في كف شرحبيل الجعفي فذهبت من كفه سلعة كانت به.

قلت: وتقدم في غزوة خيبر تفله في عيني علي وهو أمرد فبرأ.

وروى الترمذي عن علي حديثه في تعليمه عليه السلام ذلك الدعاء لحفظ القرآن فحفظه.

وفي الصحيح أنه قال لأبي هريرة وجماعة: « من يبسط رداءه اليوم فإنه لا ينسى شيئا من مقالتي ».

قال: فبسطته، فلم أنس شيئا من مقالته تلك.

فقيل: كان ذلك حفظا من أبي هريرة لكل ما سمعه منه في ذلك اليوم.

وقيل: وفي غيره، فالله أعلم.

ودعا لسعد ابن أبي وقاص فبرأ.

وروى البيهقي: أنه دعا لعمه أبي طالب في مرضة مرضها وطلب من رسول الله أن يدعو له ربه فبرأ من ساعته.

والأحاديث في هذا كثيرة جدا يطول استقصاؤها.

وقد أورد البيهقي من هذا النوع كثيرا طيبا أشرنا إلى أطراف منه، وتركنا أحاديث ضعيفة الإسناد واكتفينا بما أوردنا عما تركنا، وبالله المستعان.

حديث آخر:

ثبت في الصحيحين من حديث زكريا ابن أبي زائدة زاد مسلم والمغيرة، كلاهما عن شراحيل الشعبي، عن جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل قد أعيا فأراد أن يسيبه.

قال: فلحقني رسول الله فضربه ودعا لي، فسار سيرا لم يسر مثله.

وفي رواية: فما زال بين يدي الإبل قدامها حتى كنت أحبس خطامه فلا أقدر عليه.

فقال: « كيف ترى جملك؟ »

فقلت: قد أصابته بركتك يا رسول الله.

ثم ذكر أن رسول الله اشتراه منه، واختلف الرواة في مقدار ثمنه على روايات كثيرة، وأنه استثنى حملانه إلى المدينة، ثم لما قدم المدينة جاءه بالجمل فنقده ثمنه وزاده، ثم أطلق له الجمل أيضا، الحديث بطوله.

حديث آخر:

روى البيهقي واللفظ له وهو في صحيح البخاري من حديث حسن بن محمد المروزي عن جرير ابن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: فزع الناس فركب رسول الله فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلف رسول الله فقال: « لن تراعوا إنه لبحر » فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم.

حديث آخر:

قال البيهقي: أنا أبو بكر القاضي، أنا حامد بن محمد الهروي، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، ثنا رافع بن سلمة بن زياد، حدثني عبد الله ابن أبي الجعد عن جعيل الأشجعي قال: غزوت مع رسول الله في بعض غزواته وأنا على فرس لي عجفاء ضعيفة.

قال: فكنت في أخريات الناس فلحقني رسول الله وقال: « سر يا صاحب الفرس ».

فقلت: يا رسول الله عجفاء ضعيفة.

قال: فرفع رسول الله مخفقة معه فضربها بها وقال: « اللهم بارك له ».

قال: فلقد رأيتني أمسك برأسها أن تقدم الناس، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا.

ورواه النسائي عن محمد بن رافع، عن محمد بن عبد الله الرقاشي فذكره.

وهكذا رواه أبو بكر ابن أبي خيثمة عن عبيد بن يعيش، عن زيد بن الخباب، عن رافع بن سلمة الأشجعي فذكره.

وقال البخاري في التاريخ: وقال رافع بن زياد بن الجعد ابن أبي الجعد: حدثني أبي عبد الله ابن أبي الجعد أخي سالم، عن جعيل فذكره.

حديث آخر:

قال البيهقي: أنا أبو الحسين ابن الفضل القطان ببغداد، أنا أبو سهل بن زياد القطان، ثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا زكريا بن عدي، ثنا مروان بن معاوية عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني تزوجت امرأة.

فقال: « هلا نظرت إليها؟ فإن في أعين الأنصار شيئا »

قال: قد نظرت إليها.

قال: « على كم تزوجتها؟ » فذكر شيئا.

قال: « كأنهم ينحتون الذهب والفضة من عرض هذه الجبال، ما عندنا اليوم شيء نعطيكه ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثا إلى بني عبس وبعث الرجل فيهم ».

فأتاه فقال: يا رسول الله أعيتني ناقتي أن تنبعث.

قال: فناوله رسول الله يده كالمعتمد عليه للقيام فأتاها فضربها برجله.

قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق به القائد.

رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن معين، عن مروان.

حديث آخر:

قال البيهقي: أنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزني، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنا أبو جعفر بن عون، أنا الأعمش عن مجاهد أن رجلا اشترى بعيرا فأتى رسول الله فقال: إني اشتريت بعيرا فادع الله أن يبارك لي فيه.

فقال: « اللهم بارك له فيه ».

فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا آخر فأتى به رسول الله فقال: إني اشتريت بعيرا فادع الله أن يبارك لي فيه.

فقال: « اللهم بارك له فيه ».

فلم يلبث حتى نفق، ثم اشترى بعيرا آخر فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله قد اشتريت بعيرين فدعوت الله أن يبارك لي فيهما فادع الله أن يحملني عليه.

فقال: « اللهم احمله عليه » فمكث عنده عشرين سنة.

قال البيهقي: وهذا مرسل ودعاؤه عليه السلام صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين.

حديث آخر:

قال الحافظ البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنا إسماعيل بن عبد الله الميكالي، ثنا علي بن سعد العسكري، أنا أبو أمية عبد الله بن محمد بن خلاد الواسطي، ثنا يزيد بن هارون، أنا المستلم بن سعيد، ثنا خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن أساف عن أبيه، عن جده حبيب بن أساف قال: أتيت رسول الله أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه فقلنا: إنا نشتهي أن نشهد معك مشهدا.

قال: « أسلمتم؟ »

قلنا: لا.

قال: « فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين ».

قال: فأسلمنا، وشهدت مع رسول الله فأصابتني ضربة على عاتقي فجافتني فتعلقت يدي، فأتيت رسول الله فتفل فيها وألزقها فالتأمت وبرأت، وقتلت الذي ضربني، ثم تزوجت ابنة الذي قتلته وضربني فكانت تقول: لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح.

فأقول: لا عدمت رجلا أعجل أباك إلى النار.

وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن يزيد بن هارون بإسناده مثله، ولم يذكر: فتفل فيها فبرأت.

حديث آخر:

ثبت في الصحيحين من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء بن عمر السكري، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله الخلاء فوضعت له وضوءا فلما خرج قال: « من صنع هذا؟ »

قالوا: ابن عباس.

قال: « اللهم فقهه في الدين ».

وروى البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن عباس الدورقي، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن زهير، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله وضع يده على كتفي - أو قال: منكبي شك سعيد - ثم قال: « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ».

وقد استجاب الله لرسوله هذه الدعوة في ابن عمه، فكان إماما يهتدى بهداه ويقتدى بسناه في علوم الشريعة، ولا سيما في علم التأويل وهو التفسير فإنه انتهت إليه علوم الصحابة قبله، وما كان عقله من كلام ابن عمه رسول الله .

وقد قال الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره أحد منا.

وكان يقول لهم: « نعم ترجمان القرآن ابن عباس ».

هذا وقد تأخرت وفاة ابن عباس عن وفاة عبد الله بن مسعود ببضع وثلاثين سنة فما ظنك بما حصله بعده في هذه المدة؟

وقد روينا عن بعض أصحابه أنه قال: خطب الناس ابن عباس في عشية عرفة ففسر لهم سورة البقرة - أو قال: سورة - ففسرها تفسيرا لو سمعه الروم والترك والديلم لأسلموا - رضي الله عنه وأرضاه -.

حديث آخر:

ثبت في الصحيح أنه عليه السلام دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد.

فكان كذلك حتى روى الترمذي عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي خلدة قال: قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي -

فقال: خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك.

وقد روينا في الصحيح: أنه ولد له لصلبه قريب من مائة أو ما ينيف عليها.

وفي رواية: أنه قال: « اللهم أطل عمره » فعمر مائة.

وقد دعا لأم سليم، ولأبي طلحة في غابر ليلتهما فولدت له غلاما سماه رسول الله عبد الله، فجاء من صلبه تسعة كلهم قد حفظ القرآن، ثبت ذلك في الصحيح.

وثبت في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي كثير الغبري، عن أبي هريرة أنه سأل من رسول الله أن يدعو لأمه فيهديها الله، فدعا لها، فذهب أبو هريرة فوجد أمه تغتسل خلف الباب فلما فرغت قالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فجعل أبو هريرة يبكي من الفرح، ثم ذهب فأعلم بذلك رسول الله وسأل منه أن يدعو لهما أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، فدعا لهما فحصل ذلك.

قال أبو هريرة: فليس مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا، وقد صدق أبو هريرة في ذلك - رضي الله عنه وأرضاه -.

ومن تمام هذه الدعوة أن الله شهر ذكره في أيام الجمع حيث يذكره الناس بين يدي خطبة الجمعة، وهذا من التقييض القدري والتقدير المعنوي.

وثبت في الصحيح أنه عليه السلام دعا لسعد ابن أبي وقاص وهو مريض فعوفي، ودعا له أن يكون مجاب الدعوة فقال: « اللهم أجب دعوته، وسدد رميته » فكان كذلك، فنعم أمير السرايا والجيوش كان.

وقد دعا على أبي سعدة أسامة بن قتادة حين شهد فيه بالزور بطول العمر، وكثرة الفقر، والتعرض للفتن، فكان ذلك، فكان إذا سئل ذلك الرجل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد.

وثبت في صحيح البخاري وغيره: أنه دعا للسائب بن يزيد، ومسح بيده على رأسه فطال عمره حتى بلغ أربعا وتسعين سنة، وهو تام القامة معتدل، ولم يشب منه موضع أصابت يد رسول الله ومتع بحواسه وقواه.

وقال أحمد: ثنا جرير بن عمير، ثنا عروة بن ثابت، ثنا علي بن أحمد، حدثني أبو زيد الأنصاري قال: قال لي رسول الله : « أدن مني » فمسح بيده على رأسي ثم قال: « اللهم جمله وأدم جماله ».

قال: فبلغ بضعا ومائة - يعني: سنة - وما في لحيته بياض إلا نبذة يسيرة، ولقد كان منبسط الوجه لم ينقبض وجهه حتى مات، قال السهيلي: إسناد صحيح موصول.

ولقد أورد البيهقي لهذا نظائر كثيرة في هذا المعنى تشفي القلوب، وتحصل المطلوب.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، ثنا معتمر، وقال: يحيى بن معين، ثنا عبد الأعلى، ثنا معتمر - هو ابن سليمان - قال: سمعت أبي يحدث عن أبي العلاء قال: كنت عند قتادة بن ملحان في موضعه الذي مات فيه.

قال: فمر رجل في مؤخر الدار.

قال: فرأيته في وجه قتادة.

وقال: كان رسول الله قد مسح وجهه.

قال: وكنت قبل ما رأيته إلا ورأيت كأن على وجهه الدهان.

وثبت في الصحيحين أنه عليه السلام دعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة حين رأى عليه ذلك الدرع من الزعفران لأجل العرس، فاستجاب الله لرسوله ففتح له في المتجر والمغانم حتى حصل له مال جزيل بحيث أنه لما مات صولحت امرأة من نسائه الأربع عن ربع الثمن على ثمانين ألفا.

وثبت في الحديث من طريق شبيب بن غرقد أنه سمع الحي يخبرون عن عروة ابن أبي الجعد المازني أن رسول الله أعطاه دينارا ليشتري له به شاة، فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار فقال له: « بارك الله لك في صفقة يمينك ».

وفي رواية: فدعا له بالبركة في البيع فكان لو اشترى التراب لربح فيه.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنا ابن وهب، ثنا سعيد ابن أبي أيوب عن أبي عقيل أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن الزبير وابن عمر فيقولان: أشركنا في بيعك فإن رسول الله قد دعا لك بالبركة، فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل.

وقال البيهقي: أنا أبو سعد الماليني، أنا ابن عدي، ثنا علي بن محمد بن سليمان الحليمي، ثنا محمد بن يزيد المستملي، ثنا سبابة بن عبد الله، ثنا أيوب بن سيار عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال قال: أذنت في غداة باردة فخرج النبي فلم ير في المسجد واحدا فقال: « أين الناس؟ »

فقلت: منعهم البرد.

فقال: « اللهم أذهب عنهم البرد ».

فرأيتهم يتروحون.

ثم قال البيهقي: تفرد به أيوب بن سيار، ونظيره قد مضى في الحديث المشهور عن حذيفة في قصة الخندق.

حديث آخر:

قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد العزيز بن عبد الله عن محمد بن عبد الله الأصبهاني إملاء، أنا أبو إسماعيل الترمذي محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا علي ابن أبي علي اللهبي عن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله خرج وعمر بن الخطاب معه، فعرضت له امرأة فقالت: يا رسول الله إني امرأة مسلمة محرمة ومعي زوج لي في بيتي مثل المرأة.

فقال لها رسول الله: « إدعي لي زوجك ».

فدعته، وكان خرازا فقال له: « ما تقول في امرأتك يا عبد الله؟ »

فقال الرجل: والذي أكرمك ما جف رأسي منها.

فقالت امرأته: جاء مرة واحدة في الشهر.

فقال لها رسول الله : « أتبغضينه؟ »

قالت: نعم.

فقال رسول الله : « أدنيا رءوسكما » فوضع جبهتها على جبهة زوجها ثم قال: « اللهم ألف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحبه » ثم مر رسول الله بسوق النمط ومعه عمر بن الخطاب فطلعت المرأة تحمل أدما على رأسها، فلما رأت رسول الله طرحته وأقبلت فقبلت رجليه.

فقال: « كيف أنت وزوجك؟ »

فقالت: والذي أكرمك ما طارف ولا تالد أحب إلي منه.

فقال رسول الله : « أشهد أني رسول الله »

فقال عمر: وأنا أشهد أنك رسول الله.

قال أبو عبد الله: تفرد به علي بن علي اللهبي، وهو كثير الرواية للمناكير.

قال البيهقي: وقد روى يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - يعني: هذه القصة - إلا أنه لم يذكر عمر بن الخطاب.

حديث آخر:

قال أبو القاسم البغوي: ثنا كامل بن طلحة، ثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن زيد بن جدعان عن أبي الطفيل أن رجلا ولد له غلام فأتى به رسول الله فدعا له بالبركة، وأخذ بجبهته فنبتت شعرة في جبهته كأنها هلبة فرس، فشب الغلام فلما كان زمن الخوارج أجابهم، فسقطت الشعرة عن جبهته، فأخذه أبوه فحبسه وقيده مخافة أن يلحق بهم.

قال: فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له: ألم تر إلى بركة رسول الله وقعت، فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم.

قال: فرد الله تلك الشعرة إلى جبهته إذ تاب.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أبي أسامة الكلبي، عن سريج بن مسلم، عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي، حدثني سيف بن وهب عن أبي الطفيل أن رجلا من بني ليث يقال له: فراس بن عمرو أصابه صداع شديد فذهب به أبوه إلى رسول الله فأجلسه بين يديه وأخذ بجلدة بين عينيه فجذبها حتى تبعصت فنبتت في موضع أصابع رسول الله شعرة وذهب عنه الصداع فلم يصدع، وذكر بقية القصة في الشعرة كنحو ما تقدم.

حديث آخر:

قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا هاشم بن القاسم الحراني، ثنا يعلى بن الأشدق سمعت عبد الله بن حراد العقيلي، حدثني النابغة - يعني: الجعدي - قال: أتيت رسول الله فأنشدته من قولي:

بلغنا السماء عفة وتكرما * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال: « أين المظهر يا أبا ليلى؟ »

قال: قلت: أي الجنة.

قال: « أجل إن شاء الله ».

قال: « أنشدني ».

فأنشدته من قولي:

ولا خير في حلم إذا لم يكن له * بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

قال: « أحسنت لا يفضض الله فاك ».

هكذا رواه البزار إسنادا ومتنا.

وقد رواه الحافظ البيهقي من طريق أخرى فقال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن عبدان، أنا أبو بكر بن محمد بن المؤمل، ثنا جعفر بن محمد بن سوار، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد السكري الرقي، حدثني يعلى بن الأشدق قال: سمعت النابغة نابغة - بني جعدة - يقول: أنشدت رسول الله هذا الشعر فأعجبه:

بلغنا السما مجدنا وتراثنا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فقال لي: « أين المظهر يا أبا ليلى؟ »

قلت: إلى الجنة.

قال: « كذلك إن شاء الله ».

ولا خير في حلم إذا لم يكن له * بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فقال النبي : « أجدت لا يفضض الله فاك ».

قال يعلى: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن.

قال البيهقي وروي عن مجاهد بن سليم، عن عبد الله بن حراد سمعت نابغة يقول: سمعني رسول الله وأنا أنشد من قولي:

بلغنا السماء عفة وتكرما * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

ثم ذكر الباقي بمعناه.

قال: فلقد رأيت سنه كأنها البرد المنهل، ما سقط له سن ولا انفلت.

حديث آخر:

قال الحافظ البيهقي: أنا أبو بكر القاضي وأبو سعيد بن يوسف أبي عمرو قالا: ثنا الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا علي بن بحر القطان، ثنا هاشم بن يوسف، ثنا معمر، ثنا ثابت وسليمان التيمي عن أنس أن رسول الله نظر قبل العراق والشام واليمن - لا أدري بأيتهن بدأ - ثم قال: « اللهم أقبل بقلوبهم إلى طاعتك، وحط من أوزارهم ».

ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصغاني، عن علي بن بحر بن سري فذكر بمعناه.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا عمران القطان عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت قال: نظر رسول الله قبل اليمن فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم ».

ثم نظر قبل الشام فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم ».

ثم نظر قبل العراق فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا ».

وهكذا وقع الأمر: أسلم أهل اليمن قبل أهل الشام، ثم كان الخير والبركة قبل العراق، ووعد أهل الشام بالدوام على الهداية والقيام بنصرة الدين إلى آخر الأمر.

وروى أحمد في مسنده: « لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق ».

فصل آداب الطعام

[عدل]

وروى مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن عكرمة بن عمار، حدثني إياس ابن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه أن رجلا أكل عند رسول الله بشماله.

فقال له: « كل بيمينك ».

قال: لا أستطيع.

قال: « لا استطعت ما يمنعه إلا الكبر ».

قال: فما رفعها إلى فيه.

وقد رواه أبو داود الطيالسي عن عكرمة، عن إياس، عن أبيه قال: أبصر رسول الله بشر بن راعي العير وهو يأكل بشماله فقال: « كل بيمينك ».

قال: لا أستطيع.

قال: « لااستطعت ».

فما وصلت يده إلى فيه بعد.

وثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي حمزة، عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الغلمان فجاء رسول الله فاختبأت منه، فجاءني فحطاني حطوة أو حطوتين وأرسلني إلى معاوية في حاجة فأتيته وهو يأكل.

فقلت: أتيته وهو يأكل.

فأرسلني الثانية، فأتيته وهو يأكل.

فقلت: أتيته وهو يأكل.

فقال: « لا أشبع الله بطنه ».

وقد روى البيهقي عن الحاكم، عن علي بن حماد، عن هشام بن علي، عن موسى بن إسماعيل، حدثني أبو عوانة عن أبي حمزة سمعت ابن عباس قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء.

فقلت: ما جاء إلا إلي فذهبت فاختبأت على باب فجاء فخطاني خطوة وقال: « إذهب فادع لي معاوية » - وكان يكتب الوحي -.

قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل.

فأتيت رسول الله فقلت: إنه يأكل.

فقال: « إذهب فادعه لي ».

فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل.

فأتيت رسول الله فأخبرته.

فقال في الثانية: « لا أشبع الله بطنه ».

قال: فما شبع بعدها.

قلت: وقد كان معاوية رضي الله عنه لا يشبع بعدها، ووافقته هذه الدعوة في أيام إمارته فيقال: إنه كان يأكل في اليوم سبع مرات طعاما بلحم وكان يقول: والله لا أشبع وإنما أعيى.

وقال مالك عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله في غزوة بني أنمار فذكر الحديث في الرجل الذي عليه ثوبان قد خلقا، وله ثوبان في القنية فأمره رسول الله فلبسهما ثم ولى.

فقال رسول الله: « ماله ضرب الله عنقه؟ »

فقال الرجل: في سبيل الله.

فقال رسول الله : « في سبيل الله ».

فقتل الرجل في سبيل الله.

وقد ورد من هذا النوع كثير، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة بطرق متعددة عن جماعة من الصحابة تفيد القطع كما سنوردها قريبا في باب فضائله أنه قال: « اللهم من سببته أو جلدته أو لعنته وليس لذلك أهلا، فاجعل ذلك قربة له تقربه بها عندك يوم القيامة ».

وقد قدمنا في أول البعثة حديث ابن مسعود في دعائه على أولئك النفر السبعة الذين أحدهم أبو جهل ابن هشام وأصحابه حين طرحوا على ظهره عليه السلام الجزور وألقته عنه ابنته فاطمة، فلما انصرف قال: « اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة » ثم سمى بقية السبعة.

قال ابن مسعود: فوالذي بعثه بالحق لقد رأيتهم صرعى في القليب قليب بدر، الحديث وهو متفق عليه.

حديث آخر:

قال الإمام أحمد: حدثني هشام، ثنا سليمان - يعني: ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب.

قال: فرفعوه وقالوا: هذا كان يكتب لمحمد وأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له وواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا.

ورواه مسلم عن محمد بن راضي، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب للنبي وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران عز فينا - يعني: عظم - فكان رسول الله يملي عليه: « غفورا رحيما » فيكتب عليما حكيما، فيقول له النبي : « إكتب كذا وكذا ».

فيقول: أكتب كيف شئت.

ويملي عليه: « عليما حكيما ».

فيكتب: سميعا بصيرا.

فيقول: « أكتب كيف شئت ».

قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمد، وإني كنت لا أكتب إلا ما شئت، فمات ذلك الرجل.

فقال النبي : « إن الأرض لا تقبله ».

قال أنس: فحدثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا.

فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟

قالوا: قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض.

وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجوه.

طريق أخرى عن أنس:

وقال البخاري: ثنا أبو معمر، ثنا عبد الرزاق، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي فعاد نصرانيا.

وكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض.

فقالوا: هذا فعل محمد - وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه - فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه.

باب المسائل التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب عنها بما يطابق الحق الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء

[عدل]

قد ذكرنا في أول البعثة ما تعنتت به قريش وبعثت إلى يهود المدينة يسألونهم عن أشياء يسألون عنها رسول الله .

فقالوا: سلوه عن الروح، وعن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدرى ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض بلغ المشارق والمغارب.

فلما رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } 64.

وأنزل سورة الكهف يشرح فيها خبر الفتية الذين فارقوا دين قومهم وآمنوا بالله العزيز الحميد، وأفردوه بالعبادة واعتزلوا قومهم، ونزلوا غارا وهو الكهف فناموا فيه ثم أيقظهم الله بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وكان من أمرهم ما قص الله علينا في كتابه العزيز، ثم قص خبر الرجلين المؤمن والكافر وما كان من أمرهما، ثم ذكر خبر موسى والخضر وما جرى لهما من الحكم والمواعظ ثم قال: { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } 65.

ثم شرح ثم ذكر خبره وما وصل إليه من المشارق والمغارب وما عمل من المصالح في العالم، وهذا الإخبار هو الواقع في الواقع، وإنما يوافقه من الكتب التي بأيدي أهل الكتاب ما كان منها حقا وأما ما كان محرفا مبدلا فذاك مردود، فإن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما اختلفوا فيه من الأخبار والأحكام.

قال الله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } 66.

وذكرنا في أول الهجرة قصة إسلام عبد الله بن سلام وأنه قال: لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه قلت: إن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما سمعته يقول: « أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ».

وثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث إسماعيل بن عطية وغيره عن حميد، عن أنس قصة سؤاله رسول الله ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟

فقال رسول الله : « أخبرني بهن جبريل آنفا ».

ثم قال: « أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه ».

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري فذكر مسألة عبد الله بن سلام إلا أنه قال: فسأله عن السواد الذي في القمر بدل أشراط الساعة فذكر الحديث إلى أن قال: « وأما السواد الذي في القمر فإنهما كانا شمسين، فقال الله عز وجل: « وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل » فالسواد الذي رأيت هو المحو ».

فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

حديث آخر في معناه:

قال الحافظ البيهقي: أنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي، أنا أبو الحسن - أحمد بن محمد بن عيدروس -، ثنا عثمان بن سعيد، أنا الربيع بن نافع أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: أخبرني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان حدثه قال: كنت قائما عند رسول الله فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها.

قال: لم تدفعني؟

قال: قلت: ألا تقول: يا رسول الله؟

قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله.

فقال رسول الله : « إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد ».

فقال اليهودي: جئت أسألك.

فقال رسول الله : « ينفعك شيء إن حدثتك؟ »

قال: أسمع بأذني، فنكت بعود معه.

فقال له: « سل ».

فقال له اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟

فقال رسول الله - -: « في الظلمة دون الجسر ».

قال: فمن أول الناس إجازة؟

فقال: « فقراء المهاجرين ».

قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟

قال: « زيادة كبد الحوت ».

قال: وما غذاؤهم على إثره؟

قال: « ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ».

قال: فما شرابهم عليه؟

قال: « من عين فيها تسمى سلسبيلا ».

قال: صدقت.

قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان.

قال: « ينفعك إن حدثتك؟ »

قال: أسمع بأذني.

قال: « جئت أسألك عن الولد؟

قال: « ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله ».

فقال اليهودي: صدقت، وإنك لنبي ثم انصرف.

فقال النبي : « إنه سألني عنه وما أعلم شيئا منه حتى أتاني الله به ».

وهكذا رواه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني، عن أبي توبة الربيع بن نافع به.

وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو عبد الله بن سلام، ويحتمل أن يكون غيره، والله أعلم.

حديث آخر:

قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، حدثني ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود يوما عند رسول الله فقالوا: يا رسول الله حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي؟

قال: « سلوني ما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على نبيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعني على الإسلام ».

قالوا: لك ذلك.

قال: « سلوا عما شئتم ».

قالوا: أخبرنا عن أربع خلال ثم نسألك: أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا؟ وكيف تكون الأنثى حتى تكون الأنثى؟ وأخبرنا عن هذا النبي في النوم ومن وليك من الملائكة؟

قال: « فعليكم عهد الله لئن أنا حدثتكم لتتابعني ».

فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق.

قال: « أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل وأحب الطعام إليه لحمان الإبل؟ ».

قالوا: اللهم نعم.

فقال رسول الله: « اللهم اشهد عليهم ».

قال: « فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، وإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله؟ »

قالوا: اللهم نعم.

قال رسول الله: « اللهم اشهد عليهم ».

قال: « وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ »

قالوا: اللهم نعم.

قال: « اللهم اشهد عليهم ».

قالوا: أنت الآن حدثنا عن وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك.

قال: « وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه » فقالوا: فعندها نفارقك لو كان وليك غيره من الملائكة لبايعناك وصدقناك.

قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟

قالوا: إنه عدونا من الملائكة.

فأنزل الله عز وجل: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } 67.

ونزلت: { فباءوا بغضب على غضب } 68 الآية.

حديث آخر:

قال الإمام أحمد: ثنا يزيد، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } . 69.

فقال: لا تقل له شيئا، فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين فسألاه.

فقال النبي : « لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة - أو قال: - لا تفروا من الزحف - شعبة الشاك - وأنتم يا معشر يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت ».

قال: فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي.

قال: فما يمنعكما أن تتبعاني؟

قالا: إن داود - عليه السلام - دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود.

وقد رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه وابن جرير، والحاكم والبيهقي من طرق عن شعبة به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

قلت: وفي رجاله من تكلم فيه وكأنه اشتبه على الراوي التسع الآيات بالعشر الكلمات، وذلك أن الوصايا التي أوصاها الله إلى موسى وكلمه بها ليلة القدر بعد ما خرجوا من ديار مصر وشعب بني إسرائيل حول الطور حضور، وهارون ومن معه وقوف على الطور أيضا، وحينئذ كلم الله موسى تكليما آمرا له بهذه العشر كلمات، وقد فسرت في هذا الحديث، وأما التسع الآيات فتلك دلائل وخوارق عادات أيد بها موسى عليه السلام وأظهرها الله على يديه بديار مصر وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والجدب، ونقص الثمرات، وقد بسطت القول على ذلك في التفسير بما فيه الكفاية، والله أعلم.

فصل المباهلة

[عدل]

وقد ذكرنا في التفسير عند قوله تعالى في سورة البقرة: { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } 70.

ومثلها في سورة الجمعة وهي قوله: { قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } 71.

وذكرنا أقوال المفسرين في ذلك، وأن الصواب أنه دعاهم إلى المباهلة، وأن يدعو بالموت على المبطل منهم أو المسلمين، فنكلوا عن ذلك لعلمهم بظلم أنفسهم وأن الدعوة تنقلب عليهم ويعود وبالها إليهم.

وهكذا دعا النصارى من أهل نجران حين حاجوه في عيسى بن مريم، فأمره الله أن يدعوهم إلى المباهلة في قوله: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } 72.

وهكذا دعا على المشركين على وجه المباهلة في قوله: { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } 73.

وقد بسطنا القول في ذلك عند هذه الآيات في كتابنا التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنه رسول الله

[عدل]

ويتضمن تحاكمهم ولكن بقصد منهم مذموم، وذلك أنهم ائتمروا بينهم أنه إن حكم بما يوافق هواهم اتبعوه وإلا فاحذروا ذلك، وقد ذمهم الله في كتابه العزيز على هذا القصد قال عبد الله بن المبارك: ثنا معمر عن الزهري قال: كنت جالسا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجل وهو يوقره وإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شهد الحديبية وكان من أصحاب أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت جالسا عند رسول الله إذ جاء نفر من اليهود وقد زنا رجل منهم وامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا حدا دون الرجم فعلناه واحتججنا عند الله حين نلقاه بتصديق نبي من أنبيائه.

قال مرة عن الزهري: وإن أمرنا بالرجم عصينا فقد عصينا الله فيما كتب علينا من الرجم في التوراة.

فأتوا رسول الله وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل منا زنا بعد ما أحصن؟

فقام رسول الله - - ولم يرجع إليهم شيئا، وقام معه رجال من المسلمين حتى أتوا بيت مدراس اليهود فوجدوهم يتدارسون التوراة.

فقال لهم رسول الله : « يا معشر اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنا إذا أحصن؟ »

قالوا: نجبيه، - والتجبية أن يحملوا اثنين على حمار فيولوا ظهر أحدهما ظهر الآخر - قال: وسكت حبرهم - وهو فتى شاب - فلما رآه رسول الله صامتا ألظ به النشدة.

فقال حبرهم: أما إذ نشدتهم فإنا نجد في التوراة الرجم على من أحصن.

قال النبي : « فما أول ما ترخصتم أمر الله عز وجل؟ »

فقال: زنا رجل منا ذو قرابة بملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، فزنا بعده آخر في أسرة من الناس فأراد ذلك الملك أن يرجمه فقام قومه دونه فقالوا: لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلانا ابن عمه، فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة.

فقال رسول الله : « فإني أحكم بما حكم في التوراة ».

فأمر رسول الله بهما فرجما.

قال الزهري: وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } 74.

وله شاهد في الصحيح عن ابن عمر.

قلت: وقد ذكرنا ما ورد في هذا السياق من الأحاديث عند قوله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم عن مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } 75.

يعني: الجلد والتحميم الذي اصطلحوا عليه وابتدعوه من عند أنفسهم، يعني: إن حكم لكم محمد بهذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا، يعني: وإن لم يحكم لكم بذلك فاحذروا قبوله.

قال الله تعالى: { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } 76.

إلى أن قال: { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } 77.

فذمهم الله تعالى على سوء ظنهم وقصدهم بالنسبة إلى اعتقادهم في كتابهم، وإن فيه حكم الله بالرجم وهم مع ذلك يعلمون صحته ثم يعدلون عنه إلى ما ابتدعوه من التحميم والتجبية.

وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثهم فذكره وعنده.

فقال رسول الله لابن صوريا: « أنشدك بالله وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله حكم فيمن زنا بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ »

فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم يعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك.

فخرج رسول الله فأمر بهما فرجما عند باب مسجده في بني تميم عند مالك بن النجار.

قال: ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا فأنزل الله: « يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » الآيات.

وقد ذكر عبد الله بن صوريا الأعور في حديث ابن عمير وغيره بروايات صحيحة قد بيناها في التفسير.

حديث آخر:

قال حماد بن سلمة: ثنا ثابت عن أنس أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي فمرض فأتاه رسول الله يعوده فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة فقال له رسول الله : « يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون في التوراة نعتي وصفتي ومخرجي؟

فقال: لا.

فقال الفتى: بلى والله يا رسول الله إنا نجد في التوراة نعتك وصفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال النبي لأصحابه: « أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم »

ورواه البيهقي من هذا الوجه بهذا اللفظ.

حديث آخر:

قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة ابن عبد الله، عن أبيه قال: إن الله ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة، فدخل النبي كنيسة وإذا يهودي يقرأ التوراة، فلما أتى على صفته أمسك.

قال: وفي ناحيتها رجل مريض.

فقال النبي : « ما لكم أمسكتم؟ »

فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة.

وقال: إرفع يدك، فقرأ حتى أتى على صفته.

فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله ثم مات.

فقال النبي : « لوا أخاكم ».

حديث آخر:

أن النبي وقف على مدراس اليهود فقال: « يا معشر يهود أسلموا، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله إليكم ».

فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم.

فقال: « ذلك أريد ».

فصل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

فالذي يقطع به من كتاب الله وسنة رسوله ومن حيث المعنى أن رسول الله قد بشرت به الأنبياء قبله، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك ولكن أكثرهم يكتمون ذلك ويخفونه.

قال الله تعالى: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } 78.

وقال تعالى: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } 79.

وقال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } 80.

وقال تعالى: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } 81.

وقال تعالى: { هذا بلاغ للناس ولينذروا به } 82.

وقال تعالى: { لأنذركم به ومن بلغ } 83.

وقال تعالى: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } 84.

وقال تعالى: { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } 85.

فذكر تعالى: بعثته إلى الأميين، وأهل الكتاب، وسائر الخلق من عربهم وعجمهم، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له.

قال : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بي إلا دخل النار ».

رواه مسلم وفي الصحيحين: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت السماحة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ».

وفيهما « بعثت إلى الأسود والأحمر ».

قيل: إلى العرب والعجم، وقيل: إلى الإنس والجن.

والصحيح أعم من ذلك.

والمقصود أن البشارات به موجودة في الكتب الموروثة عن الأنبياء قبله حتى تناهت النبوة إلى آخر أنبياء بني إسرائيل - هو عيسى بن مريم - وقد قام بهذه البشارة في بني إسرائيل وقص الله خبره في ذلك.

فقال تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } 86.

فأخبار محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بأن ذكره موجود في الكتب المتقدمة فيما جاء به من القرآن، وفيما ورد عنه من الأحاديث الصحيحة كما تقدم، وهو مع ذلك من أعقل الخلق باتفاق الموافق والمفارق، يدل على صدقه في ذلك قطعا لأنه لو لم يكن واثقا بما أخبر به من ذلك لكان ذلك من أشد المنفرات عنه، ولا يقدم على ذلك عاقل، والغرض أنه من أعقل الخلق حتى عند من يخالفه بل هو أعقلهم في نفس الأمر، ثم إنه قد انتشرت دعوته في المشارق والمغارب، وعمت دولة أمته في أقطار الآفاق عموما لم يحصل لأمة من الأمم قبلها، فلو لم يكن محمد نبيا لكان ضرره أعظم من كل أحد، ولو كان كذلك لحذر عنه الأنبياء أشد التحذير، ولنفروا أممهم منه أشد التنفير فإنهم جميعهم قد حذروا من دعاة الضلالة في كتبهم، ونهوا أممهم عن اتباعهم والإقتداء بهم، ونصوا على المسيح الدجال الأعور الكذاب، حتى قد أنذر نوح - وهو أول الرسل قومه - ومعلوم أنه لم ينص نبي من الأنبياء على التحذير من محمد ولا التنفير عنه ولا الإخبار عنه بشيء خلاف مدحه والثناء عليه، والبشارة بوجوده، والأمر باتباعه، والنهي عن مخالفته والخروج من طاعته قال الله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } 87.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه.

رواه البخاري.

وقد وجدت البشارات به في الكتب المتقدمة وهي أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وقد قدمنا قبل مولده عليه السلام طرفا صالحا من ذلك، وقررنا في كتاب التفسير عند الآيات المقتضية لذلك آثارا كثيرة، ونحن نورد ههنا شيئا مما وجد في كتبهم التي يعترفون بصحتها، ويتدينون بتلاوتها مما جمعه العلماء قديما وحديثا ممن آمن منهم واطلع على ذلك من كتبهم التي بأيديهم:

ففي السفر الأول من التوراة التي بأيديهم في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام ما مضمونه وتعريبه: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام بعد ما سلمه من نار النمرود أن قم فاسلك الأرض مشارقها ومغاربها لولدك، فلما قص ذلك على سارة طمعت أن يكون ذلك لولدها منه، وحرصت على إبعاد هاجر وولدها حتى ذهب بهما الخليل إلى برية الحجاز وجبال فاران، وظن إبراهيم عليه السلام أن هذه البشارة تكون لولده إسحاق، حتى أوحى الله إليه ما مضمونه: أما ولدك إسحاق فإنه يرزق ذرية عظيمة، وأما ولدك إسماعيل فإني باركته وعظمته وكثرت ذريته، وجعلت من ذريته ماذ ماذ - يعني: محمدا وجعلت في ذريته اثنا عشر إماما، وتكون له أمة عظيمة.

وكذلك بشرت هاجر حين وضعها الخليل عند البيت فعطشت وحزنت على ولدها، وجاء الملك فأنبع زمزم وأمرها بالاحتفاظ بهذا الولد فإنه سيولد له منه عظيم له ذرية عدد نجوم السماء، ومعلوم أنه لم يولد من ذرية إسماعيل بل من ذرية آدم أعظم قدرا ولا أوسع جاها، ولا أعلى منزلة ولا أجل منصبا من محمد وهو الذي استولت دولة أمته على المشارق والمغارب، وحكموا على سائر الأمم.

وهكذا في قصة إسماعيل من السفر الأول: أن ولد إسماعيل تكون يده على كل الأمم وكل الأمم تحت يده، وبجميع مساكن إخوته يسكن، وهذا لم يكن لأحد يصدق على الطائفة إلا لمحمد .

وأيضا في السفر الرابع في قصة موسى أن: الله أوحى إلى موسى عليه السلام أن قل لبني إسرائيل سأقيم لهم نبيا من أقاربهم مثلك يا موسى، وأجعل وحيي بفيه وإياه تسمعون.

وفي السفر الخامس - وهو سفر الميعاد -: أن موسى عليه السلام خطب بني إسرائيل في آخر عمره - وذلك في السنة التاسعة والثلاثين من سني التيه - وذكرهم بأيام الله وأياديه عليهم وإحسانه إليهم وقال لهم فيما قال: واعلموا أن الله سيبعث لكم نبيا من أقاربكم مثل ما أرسلني إليكم يأمركم بالمعروف، وينهاكم عن المنكر، ويحل لكم الطيبات، ويحرم عليكم الخبائث، فمن عصاه فله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وأيضا في آخر السفر الخامس - وهو آخر التوراة التي بأيديهم -: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، وظهر من ربوات قدسه عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشعوب أي: جاء أمر الله وشرعه من طور سيناء - وهو الجبل الذي كلم الله موسى عليه السلام عنده - وأشرق من ساعير وهي جبال بيت المقدس - المحلة التي كان بها عيسى بن مريم عليه السلام - واستعلن أي ظهر وعلا أمره من جبال فاران - وهي جبال الحجاز بلا خلاف - ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة على الترتيب الوقوعي، ذكر محلة موسى، ثم عيسى، ثم بلد محمد ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضل أولا ثم الأفضل منه، ثم الأفضل منه على قاعدة القسم.

فقال تعالى: { والتين والزيتون } 88.

والمراد بها محلة بيت المقدس حيث كان عيسى عليه السلام.

{ وطور سينين } 89. وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى.

{ وهذا البلد الأمين } 90. وهو البلد الذي ابتعث منه محمدا قاله غير واحد من المفسرين في تفسير هذه الآيات الكريمات.

وفي زبور داود عليه السلام صفة هذه الأمة بالجهاد والعبادة، وفيه مثل ضربه لمحمد بأنه ختام القبة المبنية.

كما ورد به الحديث في الصحيحين: « مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يطيفون بها ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ »

ومصداق ذلك أيضا في قوله تعالى: { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } 91.

وفي الزبور صفة محمد بأنه ستنبسط نبوته ودعوته وتنفذ كلمته من البحر إلى البحر، وتأتيه الملوك من سائر الأقطار طائعين بالقرابين والهدايا، وأنه يخلص المضطر ويكشف الضر عن الأمم، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويصلى عليه في كل وقت، ويبارك الله عليه في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد، وهذا إنما ينطبق على محمد .

وفي صحف شعيا في كلام طويل فيه معاتبة لبني إسرائيل وفيه: فإني أبعث إليكم وإلى الأمم نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ القلب، ولا سخاب في الأسواق، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى في ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحقع شريعته، والهدى ملته، والإسلام دينه، والقرآن كتابه، أحمد اسمه، أهدي به من الضلالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين القلوب المختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، قرابينهم دماؤهم، أناجليهم في صدورهم، رهبانا بالليل، ليوثا بالنهار { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } 92.

وفي الفصل الخامس من كلام شعيا: يدوس الأمم كدوس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب وينهزمون قدامه.

وفي الفصل السادس والعشرين منه: ليفرح أرض البادية العطشى، ويعطي أحمد محاسن لبنان، ويرون جلال الله بمهجته.

وفي صحف إلياس عليه السلام أنه خرج مع جماعة من أصحابه سائحا فلما رأى العرب بأرض الحجاز قال: لمن معه انظروا إلى هؤلاء فإنهم هم الذين يملكون حصونكم العظيمة.

فقالوا: يا نبي الله فما الذي يكون معبودهم؟

فقال: يعظمون رب العزة فوق كل رابية عالية.

ومن صحف حزقيل: إن عبدي خيرتي أنزل عليه وحيي، يظهر في الأمم عدلي، اخترته واصطفيته لنفسي، وأرسلته إلى الأمم بأحكام صادقة.

ومن كتاب النبوات: أن نبيا من الأنبياء مر بالمدينة فأضافه بنو قريظة والنضير، فلما رآهم بكى.

فقالوا له: ما الذي يبكيك يا نبي الله؟

فقال: نبي يبعثه الله من الحرة يخرب دياركم، ويسبي حريمكم.

قال: فأراد اليهود قتله فهرب منهم.

ومن كلام حزقيل عليه السلام يقول الله: من قبل أن صورتك في الأحشاء قدستك، وجعلتك نبيا، وأرسلتك إلى سائر الأمم.

في صحف شعيا أيضا مثل مضروب لمكة - شرفها الله -: إفرحي يا عاقر بهذا الولد الذي يهبه لك ربك، فإن ببركته تتسع لك الأماكن، وتثبت أوتادك في الأرض، وتعلو أبواب مساكنك، ويأتيك ملوك الأرض عن يمينك وشمالك بالهدايا والتقادم، وولدك هذا يرث جميع الأمم، ويملك سائر المدن والأقاليم، ولا تخافي ولا تحرني فما بقي يلحقك ضيم من عدو أبدا، وجميع أيام ترملك تنسيها.

وهذا كله إنما حصل على يدي محمد وإنما المراد بهذه العاقر مكة، ثم صارت كما ذكر في هذا الكلام لا محالة.

ومن أراد من أهل الكتاب أن يصرف هذا ويتأوله على بيت المقدس وهذا لا يناسبه من كل وجه، والله أعلم.

وفي صحف أرميا: كوكب ظهر من الجنوب أشعته صواعق، سهامه خوارق، دكت له الجبال، وهذا المراد به محمد .

وفي الإنجيل يقول عيسى عليه السلام: إني مرتق إلى جنات العلى، ومرسل إليكم الفارقليط روح الحق يعلمكم كل شيء، ولم يقل شيئا من تلقاء نفسه، والمراد بالفارقليط: محمد - صلوات الله وسلامه عليه -.

وهذا كما تقدم عن عيسى أنه قال: { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } 93.

وهذا باب متسع، ولو تقصينا جميع ما ذكره الناس لطال هذا الفصل جدا، وقد أشرنا إلى نبذ من ذلك يهتدي بها من نور الله بصيرته وهداه إلى صراطه المستقيم، وأكثر هذه النصوص يعلمها كثير من علمائهم وأحبارهم، وهم مع ذلك يتكاتمونها ويخفونها.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى بن الفضل ومحمد بن أحمد الصيدلاني قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبيد الله ابن أبي داود المنادي، ثنا يونس بن محمد المؤدب، ثنا صالح بن عمر، ثنا عاصم بن كليب عن أبيه، عن الغليان بن عاصم قال: كنا جلوسا عند النبي إذ شخص ببصره إلى رجل فدعاه، فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان فجعل يقول: يا رسول الله.

فجعل رسول الله يقول: « أتشهد إني رسول الله؟ ».

فجعل لا يقول شيئا إلا قال: يا رسول الله.

فيقول: « أتشهد أني رسول الله؟ »

فيأبى.

فقال رسول الله : « أتقرأ التوراة؟ »

قال: نعم.

قال: « والإنجيل؟ »

قال: نعم، والفرقان ورب محمد لو شئت لقرأته.

قال: « فأنشدك بالذي أنزل التوراة والإنجيل، وأنشأ خلقه بها تجدني فيهما؟ »

قال: نجد مثل نعتك يخرج من مخرجك، كنا نرجو أن يكون فينا، فلما خرجت رأينا أنك هو، فلما نظرنا إذا أنت لست به.

قال: « من أين؟ »

قال: نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وإنما أنتم قليل.

قال: فهلل رسول الله وكبر وهلل وكبر ثم قال: « والذي نفس محمد بيده إنني لأنا هو، وإن من أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين ».

جوابه صلى الله عليه وسلم لمن ساءل عما سأل قبل أن يسأله عن شيء منه

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا الزبير بن عبد السلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز - ولم يسمعه منه - قال: حدثني جلساؤه وقد رأيته عن وابصة الأسدي وقال عفان: ثنا غير مرة ولم يقل: حدثني جلساؤه قال: أتيت رسول الله وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم.

فقالوا: إليك وابصة عن رسول الله.

فقلت: دعوني فأدنو منه فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه.

قال: « دعوا وابصة، أدن يا وابصة » مرتين أو ثلاثا.

قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه.

فقال: « يا وابصة أخبرك أم تسألني؟ »

فقلت: لا بل أخبرني.

فقال: « جئت تسأل عن البر والإثم ».

فقلت: نعم.

فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول: « يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك » ثلاث مرات « البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ».

باب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده

[عدل]

وهذا باب عظيم لا يمكن استقصاء جميع ما فيه لكثرتها، ولكن نحن نشير إلى طرف منها، وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، وذلك منتزع من القرآن ومن الأحاديث.

أما القرآن

[عدل]

فقال تعالى في سورة المزمل - وهي من أوائل ما نزل بمكة -: { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } 94.

ومعلوم أن الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة بعد الهجرة.

وقال تعالى في سورة اقترب - وهي مكية -: { أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر } 95.

ووقع هذا يوم بدر وقد تلاها رسول الله وهو خارج من العريش، ورماهم بقبضة من الحصباء فكان النصر والظفر، وهذا مصداق ذاك.

وقال تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد } 96.

فأخبر أن عمه عبد العزى بن عبد المطلب الملقب بأبي لهب سيدخل النار هو وامرأته، فقدر الله عز وجل أنهما ماتا على شركهما لم يسلما حتى ولا ظاهرا، وهذا من دلائل النبوة الباهرة.

وقال تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } 97.

وقال تعالى في سورة البقرة: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } 98.

فأخبر أن جميع الخليقة لو اجتمعوا، وتعاضدوا وتناصروا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته، وحلاوته وإحكام أحكامه، وبيان حلاله وحرامه، وغير ذلك من وجوه إعجازه لما استطاعوا ذلك، ولما قدروا عليه ولا على عشر سور منه بل ولا سورة، وأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا.

و لن لنفي التأبيد في المستقبل، ومثل هذا التحدي وهذا القطع، وهذا الإخبار الجازم لا يصدر إلا عن واثق بما يخبر به، عالم بما يقوله، قاطع أن أحدا لا يمكنه أن يعارضه، ولا يأتي بمثل ما جاء به عن ربه عز وجل.

وقال تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم } 99.

وهكذا وقع سواء بسواء، مكن الله هذا الدين وأظهره وأعلاه ونشره في سائر الآفاق، وأنفذه وأمضاه.

وقد فسر كثير من السلف هذه الآية بخلافة الصديق، ولا شك في دخوله فيها ولكن لا تختص به بل تعمه كما تعم غيره.

كما ثبت في الصحيح: « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لننفقن كنوزهما في سبيل الله ».

وقد كان ذلك في زمن الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم وأرضاهم -.

وقال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } 100.

وهكذا وقع وعم هذا الدين وغلب وعلا على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمته في زمن الصحابة ومن بعدهم، وذلت لهم سائر البلاد ودان لهم جميع أهلها على اختلاف أصنافهم، وصار الناس إما مؤمن داخل في الدين، وإما مهادن باذل الطاعة والمال، وإما محارب خائف وجل من سطوة الإسلام وأهله.

وقد ثبت في الحديث: « إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ».

وقال تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } 101.

وسواء كان هؤلاء هوازن أو أصحاب مسيلمة أو الروم فقد وق